جستجو

و من كتاب له ع إلى عثمان بن حنيف الأنصاري و كان عامله على البصرة و قد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها قوله

متن ترجمه آیتی ترجمه شهیدی ترجمه معادیخواه تفسیر منهاج البرائه خویی تفسیر ابن ابی الحدید تفسیر ابن میثم

المختار الرابع و الاربعون و من كتاب له عليه السلام الى عثمان بن حنيف الانصارى ، و هو عامله على البصرة ، و قد بلغه أنه دعى الى وليمة قوم من أهلها فمضى اليها . أمّا بعد ، يا ابن حنيف فقد بلغني أنّ رجلا من فتية أهل البصرة [ 89 ] دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها ، تستطاب لك الألوان ، و تنقل إليك الجفان ، و ما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ ، و غنيّهم مدعوّ ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، و ما أيقنت بطيب وجوهه [ وجهه ] فنل منه . ألا و إنّ لكلّ مأموم إماما يقتدي به ، و يستضيى‏ء بنور علمه ألا و إنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، و من طعمه بقرصيه ، ألا و إنّكم لا تقدرون على ذلك ، و لكن أعينوني بورع و اجتهاد و عفّة و سداد ، فواللّه ما كنزت من دنياكم تبرا ، و لا ادّخرت من غنائمها وفرا ، و لا أعددت لبالي ثوبي طمرا . اللغة ( الفتية ) : ج فتى كفتيان و فتوّ الشابّ و الجواد ، ( المأدبة ) بضمّ الدال : طعام يدعى إليه الجماعة و أدب القوم يأدبهم بالكسر أى دعاهم إلى طعامه ، ( الألوان ) : أنواع من الطعام اللذيذ ، ( الجفان ) : جمع جفن ، و هو القصعة الكبيرة ، ( العائل ) : الفقير ، ( مجفوّ ) : مفعول من جفاه أي معرض عنه يقال : جفوت الرجل أجفوه إذا أعرضت عنه ، ( المقضم ) : معلف الدابّة ، يأكل منه الشعير بأطراف أسنانه ، و الفضم : الأكل بأطراف الأسنان إذا أكل يابسا يقال : قضمت الدابّة شعيرها من باب تعب و من باب ضرب لغة : كسّرته بأطراف أسنانها مجمع البحرين ، و ( لفظت ) الشى‏ء من فمي ألفظه لفظا من باب ضرب : [ 90 ] رميت به ، ( الطمر ) بالكسر هو الثوب الخلق العتيق أو الكساء البالي من غير الصوف مجمع . الاعراب تستطاب لك الألوان : جملة حاليّة عن المخاطب و ما بعدها عطف إليها ، تجيب إلى طعام قوم ، مفعول ثان لقوله ظننت ، و جملة : عائلهم مجفوّ ، مبتدأ و خبر حال عن القوم و ما بعدها عطف إليها . المعنى عثمان بن حنيف ، بضمّ الحاء ، ابن واهب بن الحكم بن ثعلبة بن الحارث الأنصاري الأوسي أخو سهل بن حنيف أحد الأمجاد من الأنصار ، أخذ من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله العلم و التربية و بلغ الدرجة العالية فنال مناصب كبرى ، قال في الشرح المعتزلي : « عمل لعمر ثمّ لعليّ و ولاّه عمر مساحة الأرض و جبايتها بالعراق ، و ضرب الخراج و الجزية على أهلها ، و ولاّه عليّ عليه السّلام على البصرة ، فأخرجه طلحة و الزبير منها حين قدماها » . و يظهر من ذلك أنّه كان رجلا بارعا في علم الاقتصاد و السياسة معا فاستفاد منه عمر من الناحية الاقتصاديّة و فوّض إليه أمر الخراج و الجزية و هو من أهمّ الامور في هذا العصر و خصوصا في أرض العراق العامرة ، و كان من خواصّ عليّ عليه السلام و من السابقين الّذين رجعوا إليه و أخلصوا له ، قال في الرجال الكبير بعد ترجمته : « هو من السابقين الّذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام ، قاله الفضل ابن شاذان » و كلمة السابقين في وصفه مأخوذ من قوله تعالى في سورة البرائة الاية 100 « و السابقون الأوّلون من المهاجرين و الأنصار و الّذين اتّبعوهم بإحسان رضى اللّه عنهم و رضوا عنه و أعدّ لهم جنّات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم » و كفى له بذلك مدحا و إخلاصا له عليه السّلام فإنّ الاية تخصّص السابقين الأوّلين من الأنصار و المهاجرين بهذه الفضيلة الّتي لا فضيلة فوقها ، و السبق و التقدّم إنّما هو بقبول ولاية أمير المؤمنين فإنّها ميزان الايمان [ 91 ] و الإخلاص للّه و رسوله و دليل البرائة من النفاق و المطامع الدنيويّة . و مؤاخذته عليه السّلام بمجرّد إجابة دعوة من بعض فتيان البصرة و تشديده في توبيخه بهذه الجمل البالغة في الطعن و المذمّة دليل آخر على علوّ رتبته و سموّ درجة ايمانه و أنّه لا ينبغي من مثله إجابة مثل تلك الدعوة و الاشتراك في حفلة ضيافة تعقد لكسب الشهرة ، أو جلب المنفعة ، أو الانهماك في اللّذة و الغفلة ، أو الاستمتاع بالأغذية اللذيذة ، فظاهر الكتاب الموجّه على عثمان بن حنيف بالعتاب توبيخ عنيف على ارتكابه خلافا عظيما يستحقّ به هذا التوبيخ الشديد الّذي آلم من الضرب بالسوط ، أو الحبس إلى حين الموت ، فلا بدّ من التدبّر في امور : الاول : ما هو جوهر هذا الخلاف الّذي ارتكبه هذا الوالي الّذي فوّض إليه إدارة امور ثغر هامّ من الثغور الاسلاميّة في هذا الزمان ، فالبصرة أحد الثغور الهامّة الاسلاميّة في تينك العصور تضاهي مركزيّة الكوفة و مصر و الشام ، و قد انتخبه عليه السّلام واليا له و فوّض إليه إدارة شئونه و سياسة نظامه في هذا الموقف الرهيب ، فكيف يؤبّخه و يؤنبّه بهذه الجمل القاسية ملؤها الوهن و الاستضعاف فهذا الخلاف يحتمل وجوها : 1 أنّه مجرّد إجابة دعوة الاشتراك في وليمة لذيذة هيئت للتفريح و الانس مع الأحباب و الأقران . 2 اعدّت هذه الوليمة على حساب استمالة الوالي و النفوذ فيه للاستفادة منه في شتّى المقاصد المرجوعة إليه و للاعتماد عليه في تنفيذ الحوائج كما هو عادة ذوي النفوذ و الجاه في كلّ بلد ، فإنّ شأنهم تسخير عمّال الدولة بالتطميع و الإحسان للاستمداد منه في مقاصدهم . 3 إنّ هذه الوليمة اعدّت من عصابة مخالفة لعليّ عليه السّلام و موالية لمعاوية و أعوانه فهي حفلة مؤامرة ضدّ عليّ عليه السّلام و الهدف منها جلب الوالي إلى الموافقة مع مقاصد سياسة هامّة و صرف عثمان بن حنيف عن موالاته عليه السّلام إلى معاداته كما فعل معاوية مع زياد بن أبيه بعد ذلك ، فانّه أحد أعوان عليّ عليه السّلام و أحد ولاته [ 92 ] المسيسن ، و له يد في تقوية حكومته فاستجلبه معاوية بالمكائد و المواعيد و أثبته أخا لجلبه من موالاة عليّ عليه السّلام إلى معاداته ، و استفاد منه أكثر استفادة في حكومته . و ما ذكره عليه السّلام في كتابه هذا يناسب الوجه الثالث ، فانّه موقف خطر يحتاج إلى الحذر منه أشدّ الحذر فشرع عليه السّلام يوبّخ عثمان في قبول هذه الدعوة و الإسراع إليها و تقبّل ما أعدوّه له من النذل من إعداد الأطعمة الطيّبة المختلفة الألوان و تقديم الأقداح الكبيرة في الخوان ، و أشار عليه السّلام إلى أنّ هذه الوليمة ممّا لم يقصد به رضاء اللّه و إكرام والي وليّ اللّه ، و إلاّ فيشترك فيه ذووا الحاجة و الفقراء من الجيران و سائر المسلمين و لم يخصّصوا الدّعوة بالأغنياء و ذوي النفوذ و الثروة . ثمّ أشار عليه السّلام إلى أنّ الحاضرين حول هذه الخوان من الغافلين المنهمكين في اللذّات المادّيّة ، فعبّر عن الخوان بالمقضم و هو ما يعدّ فيه علف الدابّة من التبن و الشعير ، و تعبيره عليه السّلام يعمّ كلّ خوان و مطعم مهيّا لأمثال هؤلاء المفتونين بأمر الدنيا . و قوله عليه السّلام ( فما اشتبه عليك علمه فالفظه ) يحتمل وجهين : 1 أن يكون المقصود منه بيان الأصل في الأموال و أنّ الأصل فيها التحريم و لزوم الاحتياط و التحرّز إلاّ ما ثبت حلّه بوجه شرعيّ كما ورد في الحديث أنّه : لا يحلّ مال إلاّ من حيث ما أحلّه اللّه ، فالأصل في المال المشتبه الحلّ و الحرمة التحريم و إن قلنا في غيره بالحلّيّة و هو الظاهر من قوله عليه السّلام « فما اشتبه عليك علمه فالفظه » و لكن يشكل عليه بأنّه لا ينطبق على المورد لأنّ مورد الكتاب الأكل من مأدبة الضيافة و دليل حلّها هو ظاهر يد المسلم و إصالة اليد دليل عامّ يتّكى عليه في اكثر المعاملات و المبادلات . 2 أن يكون المقصود تحقيق الحلال الواقعي و عدم الاكتفاء بالأمارات و الأدلّة المحتملة للخلاف تحصيلا للورع عن الحرام الواقعي ، كما يستفاد من [ 93 ] قوله عليه السّلام ( و ما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه ) فيستفاد منه أنّه قرّر على عمّاله احتياطا في الدين فوق حدّ العدالة الّتي كانت شرطا في تصدّي هذه المناصب الجليلة . قال ابن ميثم في شرح المقام : « و يفهم منه بحسب التأديب الأوّل أنّ التنزّه عن هذا المباح أفضل له من تناوله » فحمل كلامه عليه السّلام على الوجه الثاني و هو أوضح ، لأنّ مقام هذا الصحابي الكبير أجلّ من أن ينال ما لا يحلّ له من الطعام جهلا بالمسئلة أو تسامحا في أمر دينه فكان هذا التشدّد منه عليه السّلام عليه لعلوّ رتبته ، فنبّه عليه السّلام على أنّه لا يليق هذا العمل بمثله و إن كان لا بأس عليه لغيره ممّن لم ينل مقامه في العلم و الورع . ثمّ توجّه عليه السّلام إلى بيان منظّمة لعمّاله أو مطلق شيعته ، و لخصّها في كلمتين : 1 الاقتداء بالامام في العمل و السيرة . 2 الاستضائة من نور علمه و الأخذ بدستوره في كلّ الامور ، و الاقتداء بالامام عملا و أخذ دستور العمل منه ، كلاهما سلوك طريق النجاة و لكنّ الثاني أعمّ ، فانّه يشمل الغايب عن محضر الامام و يشمل التكاليف الخاصّة بالمأموم دون الامام ، و هى كثيرة جدّا . ثمّ لخصّ عليه السّلام سيرته في كلمتين لتكون مدار العمل لعمّاله و للاقتداء به عليه السلام : 1 الاكتفاء من رياش الدنيا و لباسها و زينتها بطمرين أى ثوبين باليين إزار و رداء من غير صوف يلبسه أحوج الناس . 2 الاكتفاء من طعامها و غذائها و لذائذها بقرصين من خبز الشعير اليابس الفارغ عن الادام . و قد مثّل عليه السّلام في هذه الكلمتين الزهد بأدقّ معانيه و أشقّ ما فيه بحيث جعله من كراماته و أنّه ممّا لا يقدر على العمل به غيره فقال عليه السّلام : ( ألا و إنّكم لا تقدرون على ذلك ) . [ 94 ] ثمّ نظم برنامجا تربويّا لعمّاله و من يتصدّي إدارة امور حكومته في أربع موادّ : 1 الورع و هو تحصن النفس عن الرذائل و الاجتناب عن المحارم و المحرّمات . 2 الاجتهاد في تحرّي الحقيقة و العمل على مقتضي الوظيفة و تحمّل الكدّ و الاذى في سبيل الحقّ . 3 العفّة و هى ضبط النفس عمّا لا يحلّ و لا ينبغي من المشتهيات و ما فيه الرغبات . 4 السداد و هو تحكيم المعرفة بالامور و الأخذ باليقين و تحكيم العمل و الدّقة في تقرير شرايطه و كيفيّاته و عدم التسامح فيه . و قد بقي في المقام نكتة و هى أنّه ربما يزهد بعض الناس في معاشهم حبّا بجمع المال و ادّخاره ، فيعيشون عيش الفقراء و يكنزون الذهب و الفضّة و يقتنون العقار و الدار فقال عليه السّلام ( فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبرا و لا ادّخرت من غنائمها وفرا و لا أعددت لبالي ثوبي طمرا ) ، و زاد في متن الكتاب في شرح ابن أبي الحديد « ج 16 ط مصر » : « و لا حزت من أرضها شبرا ، و لا أخذت منه إلاّ كقوت اتان دبرة » و هى الّتي عقر ظهرها فقلّ أكلها . ثمّ بيّن إحساسه من الدنيا الّتي يطلبها أهلها و يجهدون في طلبها و أنّه من النفرة و الانزجار إلى أقصى حدّ ، فقال « دنياكم في عيني أهون من عفصة مقرة » و العفصة حبّة كالبندقة تستعمل في دبغ الجلود و يتّخذ منها الحبر كما في مجمع البحرين أى من طعم هذه الحبّة المرّة و هى في نهاية النفور . بقية من المختار الرابع و الاربعين من كتبه عليه السلام بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السّماء ، فشحّت عليها نفوس قوم ، و سخت عنها نفوس [ قوم ] آخرين ، و نعم الحكم اللّه [ 95 ] و ما أصنع بفدك و غير فدك ، و النّفس مظانها في غد جدث ، تنقطع في ظلمته آثارها ، و تغيب أخبارها ، و حفرة لو زيد في فسحتها ، و أوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر و المدر ، و سدّ فرجها التّراب المتراكم ، و إنّما هى نفسي أروضها بالتّقوى لتأتى آمنة يوم الخوف الأكبر ، و تثبت على جوانب المزلق . اللغة ( فدك ) : قرية من قرى اليهود بينها و بين مدينة النبي صلّى اللّه عليه و آله يومان ، و بينها و بين خيبر دون مرحلة مجمع البحرين ، ( الشحّ ) : البخل مع حرص فهو أشدّ من البخل ، ( سخوت ) نفسي عن الشى‏ء : تركته ، ( الجدث ) : القبر ، ( أضغطها الحجر ) : جعلها ضاغطة ، ( المظانّ ) جمع مظنّة : موضع الشى‏ء و مألفه الّذي يكون فيه . الاعراب في أيدينا : ظرف مستقرّ خبر كانت و قوله : فدك ، اسم لها ، من كلّ : جار و مجرور و ما موصولية و جملة أظلّته السماء صلتها و جملة الظرف في محلّ الحال من فدك ، و النفس مظانّها في غد جدث : جملة حالية ، و قوله : حفرة ، عطف على جدث . المعنى لمّا قال عليه السّلام « و لا حزت من أرضها شبرا » توجّه إلى ماض بعيد و هو بعيد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال : ( كانت في أيدينا فدك ) فبخلت بها قوم ، سلبوها و أخذوها من أيدينا غصبا و هم المتصدّون لغصب خلافته خوفا منهم أن يجمع الناس حول أهل البيت برجاء هذا المال فأيّدوهم و استردّوا حقّهم ( و سخت عنها نفوس [ 96 ] آخرين ) يظهر من بعض الشرّاح أنّ المراد من نفوس آخرين هم أهل البيت أى تركوها في أيدي الغاصبين و انصرفوا عنها قال الشارح المعتزلي : و سخت عنها نفوس آخرين أى سامحت و أغضت و ليس يعني بالسخاء ها هنا إلاّ هذا لا السخاء الحقيقي لأنّه عليه السّلام و أهله لم يسمحوا بفدك إلاّ غصبا و قسرا . أقول : يمكن أن يكون المراد من الاخرين هم الأنصار حيث سكتوا عن مطالبة حقّهم و قعدوا عن نصرتهم لاسترداده و إن لم يبخلوا بكونها في أيديهم و هذا هو الظاهر لأنّه عليه السّلام في مقام الشكوى إلى اللّه عمّن ظلمه و أهله في غصب فدك و قد سامح الأنصار في نصرته لردّها بعد مطالبتها من جانب فاطمة عليها السّلام . قال في الشرح المعتزلي : قال أبو بكر : حدّثني أبو زيد عمر بن شبّة قال : حدّثنا حيّان بن بشر ، قال : حدّثنا يحيى بن آدم ، قال : أخبرنا ابن أبي زائدة عن محمّد بن إسحاق ، عن الزهري ، قال : بقيت بقيّة من أهل خيبر تحصّنوا ، فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يحقن دمائهم و يسيرهم ففعل ، فسمع ذلك أهل فدك ، فنزلوا على مثل ذلك ، و كانت للنبي صلّى اللّه عليه و آله خاصّة ، لأنّه لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب . و قال ابن ميثم : ثمّ المشهور بين الشيعة و المتّفق عليه عندهم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعطاها فاطمة عليها السّلام و رووا ذلك من طرق مختلفة . منها : عن أبي سعيد الخدري قال لمّا انزلت « و آت ذا القربى حقّه 31 الروم : » أعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاطمة فدك ، فلمّا تولّى أبو بكر الخلافة عزم على أخذها منها فأرسلت إليها يطالبها بميراثها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تقول : إنّه أعطاني فدكا في حياته و استشهدت على ذلك عليّا عليه السّلام و امّ أيمن فشهدا لها بها فأجابها عن الميراث بخبر رواه هو : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث فما تركناه فهو صدقة ، و عن دعوى فدك : أنّها لم تكن للنبيّ و إنما كانت للمسلمين في يده يحمل بها الرجال و ينفقه في سبيل اللّه و أنا أليه كما كان يليه . [ 97 ] و في شرح المعتزلي قال : أبو بكر و حدّثني محمّد بن أحمد بن يزيد ، عن عبد اللّه بن محمّد بن سليمان ، عن أبيه ، عن عبد اللّه بن الحسن بن حسن قالوا جميعا : لمّا بلغ فاطمة عليها السّلام إجماع أبي بكر على منعها فدك ، لاثت خمارها ، و أقبلت في لمّة من حفدتها و نساء قومها تطأ في ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى دخلت على أبي بكر و قد حشد الناس من المهاجرين و الأنصار ، فضرب بينها و بينهم ريطة بيضاء و قال بعضهم : قبطيّة و قالوا قبطيّة ، بالكسر و الضمّ ، ثمّ أنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء ، ثمّ أمهلت طويلا حتّى سكنوا من فورتهم ، ثمّ قالت : أبتدء بحمد من هو أولى بالحمد و الطّول و المجد ، الحمد للّه على ما أنعم و له الشكر بما ألهم ، و ذكر خطبة جيّدة قالت في آخرها : فاتّقوا اللّه حقّ تقاته ، و أطيعوه فيما أمركم به ، فانّما يخشى اللّه من عباده العلماء ، و احمدوا اللّه الّذي بعظمته و نوره يبتغي من في السماوات و الأرض إليه الوسيلة ، و نحن وسيلته في خلقه ، و نحن خاصّته ، و محلّ قدسه ، و نحن حجّته في غيبه ، و نحن ورثة أنبيائه ، ثمّ قالت : أنا فاطمة بنت محمّد ، أقول عودا على بدء و ما أقول ذلك سرفا و لا شططا فاسمعوا بأسماع واعية ، و قلوب داعية ، ثمّ قالت : « لقد جائكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم : 128 التوبة » فان تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم ، و أخا ابن عمّي دون رجالكم . ثمّ ذكرت كلاما طويلا ، سنذكره فيما بعد في الفضل الثاني ، ثمّ أنتم الان تزعمون أن لا إرث لي « أفحكم الجاهليّة يبغون و من أحسن من اللّه حكما لقوم يوقنون : 50 المائدة » ايها معاشر المسلمين ، ابتزّ إرث أبي ، أبى اللّه أن ترث يا ابن أبي قحافة أباك و لا أرث أبي ، لقد جئت شيئا فريا ، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم اللّه ، و الزعيم محمّد ، و الموعد القيامة ، و عند الساعة يخسر المبطلون ، و لكلّ نبأ مستقرّ و سوف تعلمون ، من يأتيه عذاب يخزيه و يحلّ [ 98 ] عليه عذاب مقيم ، ثمّ التفت إلى قبر أبيها فتمثّلت بقول هند بنت أثاثه : قد كان بعدك أنباء و هيمنة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب أبدت رجال لنا نجوى صدورهم لمّا قضيت و حالت دونك الكتب تجهّمتنا رجال و استخفّ بنا إذ غبت عنّا فنحن اليوم نغتصب قال : و لم ير الناس أكثر باك و لا باكية منهم يومئذ : ثمّ عدلت إلى مسجد الأنصار فقالت : يا معشر البقيّة ، و أعضاد الملّة ، و حضنة الاسلام ، ما هذه الفترة عن نصرتي ، و الونية عن معونتي ، و الغمزة في حقّي ، و السّنة عن ظلامتي ، أما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول : « المرء يحفظ في ولده » سرعان ما أحدثتم ، و عجلان ما أتيتم ، الان مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمتّم دينه ، ها إنّ موته لعمري خطب جليل استوسع و هنه ، و استبهم فتقه ، و فقد راتقه ، و اظلمت الأرض له ، و خشعت الجبال و أكدت الامال ، اضيع بعده الحريم ، و هتكت الحرمة ، و اذيلت المصونة ، و تلك نازلة أعلن بها كتاب اللّه قبل موته ، و أنبأكم بها قبل وفاته ، فقال « و ما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم و من ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئا ، و سيجزي اللّه الشاكرين : 144 آل عمران » . ايها بنى قيلة أأهتضم تراث أبي ، و أنتم بمرأى و مسمع ، تبلغكم الدعوة و يشملكم الصوت ، و فيكم العدّة و العدد ، و لكم الدار و الجنن ، و أنتم نخبة اللّه الّتي انتخب ، و خيرته الّتي اختار ، باديتم العرب ، و بادهتم الامور ، و كافحتم البهم ، حتّى دارت بكم رحى الاسلام ، و درّ حلبه ، و خبت نيران الحرب ، و سكنت فورة الشرك ، و هدأت دعوة الهرج ، و استوثق نظام الدين ، أفتأخّرتم بعد الإقدام ، و نكصتم بعد الشدّة ، و جبنتم بعد الشجاعة عن قوم « نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمّة الكفر إنّهم لا أيمان لهم لعلّهم ينتهون » ألا و قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، و ركنتم إلى الدعة ، فجحدتم الّذي وعيتم ، و سغتم الّذي سوّغتم ، و إن تكفروا أنتم و من في الأرض جميعا فانّ اللّه لغنيّ حميد . [ 99 ] ألا و قد قلت لكم ما قلت على معرفة منّي بالخذلة الّتي خامرتكم ، و خور القناة ، و ضعف اليقين ، فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر ، ناقبة الخفّ ، باقية العار ، موسومة الشعار ، موصولة بنار اللّه الموقدة الّتي تطّلع على الأفئدة ، فبعين اللّه ما تعملون ، و سيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون . و حدّث بسنده عن عوّانة بن الحكم قال : لمّا كلّمت فاطمة عليها السّلام أبا بكر بما كلّمته به حمد أبو بكر اللّه و أثنى عليه و صلّى على رسوله ، ثمّ قال : يا خيرة النساء و ابنة خير الاباء : و اللّه ما عدوت رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ، و ما عملت إلاّ بأمره ، و إنّ الرائد لا يكذب أهله ، و قد قلت فأبلغت و أغلظت فأهجرت ، فغفر اللّه لنا و لك ، أمّا بعد ، فقد دفعت آلة رسول اللّه و دابّته و حذاءه إلى على عليه السّلام ، و أمّا ما سوى ذلك فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول « إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث ذهبا و لا فضّة و لا أرضا و لا عقارا و لا دارا و لكنّا نورث الايمان و الحكمة و العلم و السنّة » فقد عملت بما أمرني و نصحت له ، و ما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكّلت و إليه انيب . قال أبو بكر : و روى هشام بن محمّد ، عن أبيه قال : قالت فاطمة لأبي بكر : إنّ أمّ أيمن تشهد لي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعطاني فدك ، فقال لها : يا ابنة رسول اللّه ، و اللّه ما خلق اللّه خلقا أحبّ إلىّ من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبيك و لوددت أنّ السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك ، و اللّه لأن تفتقر عائشة أحبّ إليّ من أن تفتقري ، أتراني اعطى الأحمر و الأبيض حقّه و أظلمك حقّك ، و انت بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ، إنّ هذا المال لم يكن للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم ، و إنّما كان مالا من أموال المسلمين يحمل به النبيّ الرجال ، و ينفقه في سبيل اللّه ، فلمّا توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم وليته كما كان يليه ، قالت : و اللّه لا كلّمتك أبدا ، قال : و اللّه لا هجرتك أبدا ، قالت : و اللّه لأدعونّ اللّه عليك قال : و اللّه لأدعونّ اللّه لك ، فلمّا حضرتها الوفاة أوصت ألا يصلّى عليها ، فدفنت ليلا ، و صلّى عليها عبّاس بن عبد المطلب ، و كان بين وفاتها و وفاة أبيها اثنتان [ 100 ] و سبعون ليلة . قال أبو بكر : و حدّثني محمّد بن زكريّا ، قال : حدّثنا جعفر بن محمّد بن عمارة بالإسناد الأوّل قال : فلمّا سمع أبو بكر خطبتها شقّ عليه مقالتها ، فصعد المنبر و قال : أيّها الناس ما هذه الرّعة إلى كلّ قالة ، أين كانت هذه الأمانيّ في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ، ألا من سمع فليقل ، و من شهد فليتكلّم ، إنّما هو ثعالة شهيده ذنبه ، مربّ لكلّ فتنة ، هو الّذي يقول كرّوها جذعة بعد ما هرمت ، يستعينون بالضعفة ، و يستنصرون بالنساء ، كامّ طحال أحبّ أهلها إليها البغيّ ألا إنّي لو أشاء أن أقول لقلت ، و لو قلت لبحت ، إنّي ساكت ما تركت . ثمّ التفت إلى الأنصار فقال : قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم ، و أحقّ من لزم عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنتم ، فقد جاءكم فآويتم و نصرتم ، ألا إنّي لست باسطا يدا و لا لسانا على من لم يستحقّ ذلك منّا ، ثمّ نزل ، فانصرفت فاطمة إلى منزلها . أقول : هذا شطر ممّا ورد في أمر فدك عن طرق أهل السنّة ، ذكرناه بنصّه عن الشرح المعتزلي ، و قد بحث الفريقان في هذه المسئلة بحثا وافيا لا مزيد عليه ، و أوّلوا ما ورد فيه و ما صدر من النصوص بكلّ وجه ممكن لتأييد كلّ فريق مذهبه و كفى في ذلك ما نقله الشارح المعتزلي عن قاضى القضاة و ما نقله من النقد و الردّ عليه من السيّد المرتضى رحمه اللّه و ما علّق على نقوض السيّد المرتضى انتصارا لقاضى القضاة ، من أراد الاطّلاع فليرجع إليه ، و نحن نلخّص البحث في أمر فدك بما يلي : الاول : لا خلاف و لا شكّ في أنّ فدك كانت ملكا صافيا خالصا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، لأنّ أهلها ملّكوها إيّاها صلحا على أن يزرعوها بنصف عوائدها ، و ما روي من أنّه صلّى اللّه عليه و آله صالحهم على النصف محمول على العوائد لا على صلب الملك و لا ينافي مع ما دلّ على أنّ أهلها صالحوه على جميعها ، و الدليل على ذلك من وجوه : [ 101 ] 1 قوله تعالى : « و ما أفاء اللّه على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل و لا ركاب و لكنّ اللّه يسلّط رسله على من يشاء ، و اللّه على كلّ شي‏ء قدير : 6 الحشر » . ظاهر هذه الاية أنّ ما أعطاه اللّه رسوله من أهل القرى من غير ايجاف الخيل و الركاب و زحف المجاهد و المحارب فهو خاصّة للرسول لا يشترك فيه سائر المسلمين كأرض صالح أهلها مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّموها إليه أو باد أهلها أو تركوها و هاجروا منها ، و فدك ممّا سلّمها أهلها إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله من دون حرب و زحف ، فهي له خاصّة ، و الاية التالية تنظر إلى الفى‏ء الّذي اخذ عنوة ، فهو للنبي صلّى اللّه عليه و آله و ذوى القربى و غيرهم . 2 اعتراف أبي بكر بأنّه للنبي صلّى اللّه عليه و آله حيث تمسّك بمنعها عن فاطمة عليها السّلام بحديث رواه عن النبيّ و هو قوله « لا نورث ، ما تركناه صدقة » مع أنّه لو لم يعترف بكونها ملك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا يحتاج إلى التمسك بهذا الحديث ، بل يمنعها باعتبار عدم ارتباطها بها . 3 أنّه بعد ما ادّعت فاطمة عليها السّلام أنّها نحلة أبي و قد وهبها لي ، طلب أبوبكر منها الشهود ، و طلب الشهود على النحلة ، يدلّ على اعترافه بأنّها ملك مخصوص بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ، لأنّه لا هبة إلاّ في ملك ، نعم قال في الشرح المعتزليّ : قال أبو بكر : و روى هشام بن محمّد ، عن أبيه قال : قالت فاطمة لأبي بكر : إنّ امّ أيمن تشهد لي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعطاني فدك ، فقال لها : يا ابنة رسول اللّه و اللّه ما خلق اللّه خلقا أحبّ إلىّ من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبيك إلى أن قال إنّ هذا المال لم يكن للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم و إنّما كان مالا من أموال المسلمين يحمل النبيّ به الرجال و ينفقه في سبيل اللّه ، فلمّا توفّى رسول اللّه وليته كما كان يليه ، قالت : و اللّه لا كلّمتك أبدا الخ . و يرد الإشكال على هذا الحديث بوجوه : 1 معارضته صريحا مع ما رواه في الشرح أيضا : [ 102 ] قال أبو بكر : حدّثني أبو زيد عمر بن شبّة قال : حدّثنا يحيى بن بشر ، قال : حدّثنا يحيى بن آدم ، قال : أخبرنا ابن أبي زائدة عن محمّد بن إسحاق ، عن الزهري ، قال : بقيت بقيّة من أهل خيبر تحصّنوا ، فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يحقن دمائهم و يسيرهم ففعل ، فسمع ذلك أهل فدك ، فنزلوا على مثل ذلك ، و كانت للنبي صلّى اللّه عليه و آله خاصّة ، لأنّه لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب . و هذا الحديث صريح و معلّل و موافق للقرآن و له وجوه من الترجيح سندا . 2 قال الشارح المعتزلى : و أمّا الخبر الثاني و هو الّذي رواه هشام بن محمّد الكلبي عن أبيه ففيه إشكال أيضا ، لأنّه قال : إنّها طلبت فدك و قالت : إنّ أبي أعطانيها ، و إنّ امّ أيمن تشهد لي بذلك ، فقال لها أبو بكر في الجواب : إنّ هذا المال لم يكن لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و إنما كان مالا من أموال المسلمين يحمل به الرجال و ينفقه في سبيل اللّه ، فلقائل أن يقول له : أيجوز للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله أن يملّك ابنته أو غير ابنته من أفناء الناس ضيعة مخصوصة ، أو عقارا مخصوصا من مال المسلمين ، لوحي أوحى اللّه إليه إلى أن قال : و هذا ليس بجواب صحيح . 3 مخالفته مع الاية السابقة السادسة من سورة الحشر كما بيّنّاه ، فالقول بأنّ فدك لم يكن للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله مردود و مخالف لما عليه الفريقان ، فاذا ثبت أنّ فدك كانت خاصّة لرسول اللّه يثبت أنّ انتقالها إلى فاطمة عليها السّلام كان بهبة رسول اللّه إيّاها لا بالارث فانه لو كان بالارث لا يختص بفاطمة سلام اللّه عليها ، فانّها لم تك وارثة منحصرة له صلّى اللّه عليه و آله بل تشترك معيا أزواج النبيّ التسع و عصبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ، على مذهب العامّة فلا يصحّ لها دعوى كلّ فدك . و لم يرد في رواية اشتراك غيرها معها في دعوى فدك إلاّ ما رواه في الشرح عن أبي بكر بسنده عن عروة عن عائشة أنّ فاطمة و العبّاس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هما حينئذ يطلبان أرضه بفدك و سهمه بخيبر ، فقال لهما أبو بكر : إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول : « لا نورث ، ما تركناه صدقة » إنّما يأكل آل محمّد صلّى اللّه عليه من هذا المال ، و إنّي و اللّه لا [ 103 ] احيز أمرا رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يصنعه إلاّ صنعته ، قال : فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتّى ماتت . و هذه رواية شاذّة تتضمّن إرث العصبة مع الأولاد ، و هو مخالف لمذهب الاماميّة ، مع احتمال أن يكون ارضه بفدك غير ضيعة فدك ، بل قطعة ارض مخصوصة فيها . الثانى لا بدّ و أن يكون في بحث فاطمة عليها السّلام مع أبي بكر دعويان : 1 دعوى فدك بعنوان النحلة لا بعنوان الميراث . 2 دعوى ميراث النبيّ ممّا تركه من غير فدك ، و هو امور ، منها سهمه صلّى اللّه عليه و آله بخيبر ، و منها سهم الخمس الّذي كان له في حياته من سهم اللّه و سهم الرسول ، و منها سائر ما يملكه من الدار و المتاع و غيرهما و قد حازها كلّها أبو بكر بحجّة ما تفرّد بروايته من قوله « لا نورث ما تركناه صدقة » فدعوى الهبة و الارث لم تتعلّق بموضوع واحد و هو فدك ، بل الهبة متعلّقة بفدك و دعوى الارث بغيرها ، كما يستفاد ممّا رواه في الشرح المعتزلي عن أبي بكر بسنده إلى امّ هاني ، أنّ فاطمة قالت لأبي بكر : من يرثك إذا متّ ؟ قال : ولدي و أهلي ، قالت : فمالك ترث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دوننا ؟ قال : يا ابنة رسول اللّه ، ما ورّث أبوك دارا و لا مالا و لا ذهبا و لا فضّة ، قالت : بلى سهم اللّه الّذي جعله لنا ، و صار فيئنا الّذي بيدك ، فقال لها : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول : إنّما هي طعمة أطعمنا اللّه ، فاذا متّ كانت بين المسلمين . و لا بدّ من القول بأنّ الدعويين مختلفتان و لم تتواردا على مورد واحد ، فانّهما متكاذبان ، لأنّ دعوى الهبة تقتضي الاعتقاد بخروج المورد عن ملك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حياته ، و دعوى الارث تقتضي بقائه في ملكه إلى حين الموت اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ دعوى الهبة مقدّمة على دعوى الارث فلمّا ردّت طرحت دعوى الارث على وجه التنزّل عنها و على وجه الجدال مع الخصم ، و فيه بعد . و قد اختلف كلامهم في أنّ أيّ الدعويين مقدّمة ، قال في الشرح المعتزلي [ 104 ] في الفصل الثالث من مباحثه الّتي طرحها في أمر فدك « ص 269 ج 16 ط مصر » : و قد أنكر أبو علي ما قاله السائل من أنّها لمّا ردّت في دعوى النحلة ادّعته إرثا و قال : بل كانت طلبت الارث قبل ذلك ، فلمّا سمعت منه الخبر كفّت و ادّعت النحلة . و العجب كلّ العجب من أبي علي ، كيف خفى عليه أنّه لو كانت دعوى الارث مقدّمة فقد اعترفت فاطمة عليها السّلام ببقاء المورد في ملك أبيه إلى حين الوفات ، فكيف يصحّ منها أن تدّعي النحلة بعد ذلك . و العجب من السّيد المرتضى رحمه اللّه حيث لم يتوجّه في جوابه عن كلامه هذا في الشافي إلى خبطه فقال : و أمّا إنكار أبي علي أن يكون النحل قبل ادّعاء الميراث و عكسه الأمر فيه ، فأوّل ما فيه أن لا نعرف له غرضا صحيحا في إنكار ذلك لأنّ كون أحد الأمرين قبل الاخر لا يصحّح له مذهبا فلا يعتدّ على مخالفه مذهبا ، ثمّ قال رحمه اللّه : ثمّ إنّ الأمر في أنّ الكلام في النحل كان المتقدّم ظاهرا ، و الروايات كلّها به واردة ، و كيف أن تبتدأ بطلب الميراث فيما تدّعيه بعينه نحلا أو ليس هذا يوجب أن تكون قد طالبت بحقّها من وجه لا تستحقّه منه مع الاختيار و كيف يجوز ذلك و الميراث يشتركها فيه غيرها ، و النحل تنفرد به » . أقول : قد ترى أنّ السيّد رحمه اللّه لم يشر إلى التكاذب و التناقض الّذي يلزم على المدّعي للميراث قبل ادّعاء النحل ، فانّه لو ادّعى الميراث أوّلا فقد اعترف ببقاء الملك على ملك المورث إلى حين الموت ، فلو ادّعى النحل بعد ذلك فقد ناقض دعواه الاولى و كذّب نفسه ، و لا يصحّ صدوره من فاطمة عليها السّلام مع عصمته و طهارته ، فلا بدّ من القطع بتقدّم دعوى النحل على دعوى الارث ، و لا يصحّ جعله ظاهر الحال أو ظاهر الأخبار ، كما يستفاد من كلام السيّد رحمه اللّه . و قد انتصر الشارح المعتزلي لأبي على بما يلي « ص 285 ج 16 ط مصر » : فأمّا تعجّب المرتضى من قول أبي علي أنّ دعوى الارث كانت متقدّمة على [ 105 ] دعوى النحل و قوله : إنّا لا نعرف له غرضا في ذلك ، فانّه لا يصحّ له بذلك مذهب و لا يبطل على مخالفيه مذهب ، فانّ المرتضى لم يقف على مراد الشيخ أبي علي في ذلك ، و هذا شى‏ء يرجع إلى اصول الفقه ، فانّ أصحابنا استدلّوا على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد باجماع الصحابة ، لأنّهم أجمعوا على تخصيص قوله تعالى : « يوصيكم اللّه في أولادكم » برواية أبي بكر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله « لا نورث ما تركناه صدقة » ، قالوا : و الصحيح في الخبر أنّ فاطمة عليها السّلام طالبت بعد ذلك بالنحل لا بالميراث ، فلهذا قال الشيخ أبو علي : إنّ دعوى الميراث تقدّمت على دعوى النحل ، و ذلك لأنّه ثبت أنّ فاطمة انصرفت عن ذلك المجلس غير راضية و لا موافقة لأبي بكر ، فلو كانت دعوى الارث متأخّرة ، و انصرفت عن سخط لم يثبت الاجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، أمّا إذا كانت دعوى الارث متقدّمه فلمّا روى لها الخبر أمسكت و انتقلت إلى النزاع من جهة اخرى ، فانه يصح حينئذ الاستدلال بالاجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، فأمّا أنا فالأخبار عندي متعارضة ، يدلّ بعضها على أنّ دعوى الارث متأخّرة ، و بعضها على أنّها متقدّمة و أنا في هذا الموضع متوقّف ، و ما ذكره المرتضى من أنّ الحال تقتضي أن تكون البداية بدعوى النحل فصحيح ، انتهى . أقول : لا يخفى ما في كلام الشارح المعتزلي من الاضطراب و التناقض ، فتارة ينتصر لأبي علي جزما ليصحّح الاجماع ، و اخرى يحكم بتعارض الأخبار و يتوقّف و ثالثة يصحّح كلام المرتضى في تقدّم دعوى النحل . و الأصحّ أنّ مورد دعوى النحل خصوص فدك و لم يرد عليها دعوى الارث أصلا لا قبلها و لا بعدها ، و مورد دعوى الارث سائر ما تركه رسول اللّه من سهمه بخيبر و سهمه في الخمس و غير ذلك من متاعه ، و قد تصرّف أبو بكر في جميع ذلك و قام مقامه كلاّ و لم يمسك عن أموال رسول اللّه يدا إلاّ من آلة رسول اللّه و دابّته و حذائه حيث دفعها إلى عليّ عليه السّلام ، كما في رواية عوانة بن الحكم . و العجب من الشارح المعتزلي حيث انتصر لأبي علي بما يوجب تكاذب فاطمة [ 106 ] عليها السّلام لنفسها و سقوط كلامها عن الاعتبار بالتناقض الظاهر ، و كيف يصحّ لها عليها السّلام دعوى النحل في فدك بعد الاعتراف بأنّها ميراث لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ، و قد أصرّ في غير موضع من كلامه على اعتراف فاطمة بصحّة ما رواه أبو بكر من قوله « لا نورث ، ما تركناه صدقة » و موافقتها معه في ذلك ، و من يتدبّر في كلام فاطمة تجاه أبي بكر و من وافقه يفهم أنّ فاطمة عليها السّلام أنكر حديثه و نسبت المعترف به إلى الكفر و الالحاد و الخروج عن الاسلام و متابعة القرآن ، فانظر إلى قولها فيما ذكره الشارح المعتزلي بأسناد عدّة : « ثمّ أنتم الان تزعمون أن لا إرث لي « أفحكم الجاهليّة يبغون و من أحسن من اللّه حكما لقوم يوقنون » ايها معاشر المسلمين ابتزّ إرث أبي ، أبى اللّه أن ترث يا ابن أبي قحافة أباك و لا أرث أبي ، لقد جئت شيئا فريّا ، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم اللّه ، و الزعيم محمّد ، و الموعد القيامة ، و عند الساعة يخسر المبطلون ، و لكلّ نبأ مستقرّ و سوف تعلمون ، من يأتيه عذاب يخزيه و يحلّ عليه عذاب مقيم » ، و قالت فيما خاطبت و عاتبت به الأنصار : « ما هذه الفترة عن نصرتي ، و الونية عن معونتي ، و الغمزة في حقّي ، و السّنة عن ظلامتي إلى أن قالت عليها السّلام : ايها بني قيلة ، أ أهتضم تراث أبي ، و أنتم بمرأى و مسمع ، تبلغكم الدعوة ، و يشملكم الصوت ، و فيكم العدّة و العدد ، و لكم الدار و الجنن ، و أنتم نخبة اللّه الّتي انتخب ، و خيرته الّتي اختار ، باديتم العرب ، و بادهتم الامور ، و كافحتم البهم ، حتّى دارت بكم رحى الاسلام ، و درّ حلبه ، و خبت نيران الفتنة ، و سكنت فورة الشرك ، و هدأت دعوة الهرج و استوثق نظام الدين ، أفتأخّرتم بعد الإقدام ، و نكصتم بعد الشدّة ، و جبنتم بعد الشجاعة ، عن قوم « نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمّة الكفر إنّهم لا أيمان لهم لعلّهم ينتهون » . أقول : من تدبّر هذه الكلمات الّتي خرجت من قلب ملتهب و أسف عميق [ 107 ] يفهم بوضوح عدم طريق للموافقة بين بنت الرسول المظلومة الممنوعة عن حقّها مع مخالفيها بوجه من الوجوه ، و قد صرّحت فيها بنكث العهد و مخالفة الرسول عن اولئك المخالفين . الثالث ممّا يهمّ في المقام ، بيان أنّ فدك كانت في تصرّف فاطمة عليها السّلام فانتزعها منها أبو بكر ؟ أو كانت في ضمن ما تركه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فمنعها أبو بكر من التصرّف فيها ؟ حكى في الشرح المعتزلي عن قاضى القضاة ما يلي « ص 269 ج 16 ط مصر » : و لسنا ننكر صحّة ما روي من ادّعائها فدك ، فأمّا أنّها كانت في يدها فغير مسلّم ، بل إن كانت في يدها لكان الظاهر أنّها لها ، فاذا كانت في جملة التركة فالظاهر أنّها ميراث . و نقل عن السيّد المرتضى في ردّ كلامه « ص 275 ج 16 ط مصر » : فأمّا إنكار صاحب الكتاب لكون فدك في يدها فما رأيناه اعتمد في إنكار ذلك على حجّة ، بل قال : لو كان ذلك في يدها لكان الظاهر أنّها لها ، و الأمر على ما قال ، فمن أين أنّه لم يخرج عن يدها على وجه يقتضى الظاهر خلافه ، و قد روى من طرق مختلفة غير طريق أبي سعيد الّذي ذكره صاحب الكتاب أنّه لمّا نزل قوله تعالى « و آت ذا القربى حقّه : 38 الروم » دعا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فاطمة عليها السّلام فأعطاها فدك ، و إذا كان ذلك مرويّا فلا معنى لدفعه بغير حجّة . أقول : لا إشكال في أنّ ظاهر « فأعطاها فدك » الواردة في غير واحد من الأخبار هو إقباض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إيّاها ، لا مجرّد إنشاء صيغة الهبة ، فانّ العطاء حقيقة في العمل الخارجي ، و من هذه الجهة عنون الفقهاء المعاطاة في مقابل العقد و المعاملة الانشائيّة ، فالمعاطاة معاملة بالعمل و بالأخذ و الردّ ، و أدلّ دليل على كونها في تصرّف فاطمة عليها السّلام عليها السّلام حين موت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كلام أمير المؤمنين عليه السّلام في هذا الكتاب الموجّه إلى عثمان بن حنيف من كبار الصحابة حيث يقول صلوات اللّه عليه : « بلى كانت في أيدينا فدك » فانّه كاد أن يكون صريحا في كونها تحت [ 108 ] تصرّف أهل البيت . الرابع : لقضيّة فدك جهتان هامّتان : الاولى النظر إليها عن الوجهة الحقوقيّة و القضائيّة و البحث من حيث إنّ فدك كانت حقّا لفاطمة سلام اللّه عليها بهبة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كما هو الظاهر ، أو بالارث كما ذكره غير واحد من الأصحاب و جمّ من المخالفين فاخذت منها غصبا و تعمّدا ، أو على وجه الشبهة باعتماد الحديث الّذي رواه أبو بكر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله « لا نورث ، ما تركناه صدقة » و البحث في هذا الحديث يقع من وجهين : الأوّل : من جهة السند ، و يضعّف من وجوه شتّى ، كتفرّد أبي بكر بنقله مع وفور الصحابة و توفّر الداعي ببيانه للناس لإزالة الشبهة ، و كعدم اطّلاع أهل البيت عليهم السّلام و أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنه مع مسيس الحاجة إلى إبلاغهم هذا الحكم من النبيّ ليعرفوا تكليفهم في تركته من حين موته ، و يكاد يقطع باستحالة إخفاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هذا الحكم عنهم مع ولعه بتقوى ذويه و أهل بيته . الثانى : من جهة دلالته حيث إنّ للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله جهتان متمايزتان : الاولى جهة شخصيّة و أنّه كسائر أفراد البشر و المسلمين يملك و يتزوّج و يصير أبا و يكون ابنا لأبيه ، و له حقوق متساوية مع غيره فيملك و يملّك و يرث و يورّث ، الثانية جهة نبوّته و ما يتعلّق به بعنوان أنّه نبيّ فيكون والد الامّة و مالك الوجوه العامّة من الغنائم و السبايا ، و بيده مفتاح بيت المال يتصرّف فيه على ما يراه صلاحا ، فيمكن أن يكون مقصوده من قوله صلّى اللّه عليه و آله « لا نورث » الجهة الثانية و معناه أنّ ما يملكه النبيّ بعنوان أنّه نبيّ غير مورث و تترك صدقة عامّة للامّة و لا يشمل ما يملكه باعتبار شخصه من أمواله الخاصّة فانّها متروكة لوارثه كسائر الأفراد . و حيث كانت فدك مطرحا لدعوى فاطمة عليها السّلام من جهة النحلة و طلب أبو بكر منها البيّنة فشهد لها عليّ عليه السّلام و امّ أيمن فردّت شهادتهما أو لم يكتف بهما لنقصانهما عن حدّ البيّنة الشرعيّة فانّها تتحقّق بشهادة رجلين أو رجل و امرأتين عرضت القضيّة لبحث قضائي من وجوه شتّى . [ 109 ] منها ، هل يصحّ أو يجب الاكتفاء بمجرّد الدعوى من فاطمة عليها السّلام للحكم لها ؟ أم حالها حال سائر الناس و لا بدّ من عرض دعويها على الموازين القضائيّة العامّة ؟ و تحقيق البحث فيه يرجع إلى النظر في أمرين : الأول في أنّ البيّنة حجة لاثبات دعوى المدّعي باعتبار صرف الحكاية عن الواقع و من جهة الكاشفيّة فقط ، فكلّ كاشف عن الواقع يساويها في البيان أو يقوى عليها يقوم مقامها ، أم هي حجّة قضائيّة بخصوصها و لها موضوعيّة لفصل الدعوى و إثبات المدّعى ؟ و الظاهر هو الأوّل لأنّ البيّنة كاشفة عن الواقع و حجّة بهذا الاعتبار و لذا يقوم مقامها الشياع ، و حينئذ فعصمة فاطمة عليها السّلام و طهارتها عن الكذب بحكم آية التطهير الشامل لها ممّا يوجب العلم بصدق دعويها فيحكم لها لهذا العلم الناشي عن خصوصية المدّعي و إن منعنا عن جواز حكم القاضي في موضوع النزاع بمجرّد علمه الغير المستند إلى طرح الدعوى كالوحى أو الاستظهار بالغيب من الرياضة أو مثل علوم الجفر و الرمل و نحوهما لمن هو أهله . ففي الشرح المعتزلي : قال المرتضى : نحن نبتدء فندلّ على أنّ فاطمة عليها السّلام ما ادّعت من نحل فدك إلاّ ما كانت مصيبة فيه ، و أنّ مانعها و مطالبها بالبيّنة متعنّت ، عادل عن الصواب ، لأنّها لا تحتاج إلى شهادة و بيّنة إلى أن قال أمّا الّذي يدلّ على ما ذكرناه فهو أنّها معصومة من الغلط ، مأمون منها فعل القبيح و من هذا صفته لا يحتاج فيما يدّعيه إلى شهادة و بيّنة . ثمّ استشهد لاثبات عصمتها ، بآية التطهير و حديث « فاطمة بضعة منّي ، من آذاها فقد آذاني و من آذاني فقد آذى اللّه عزّ و جلّ » و هذا يدلّ على عصمتها ، لأنّها لو كانت ممّن يقترف الذنوب لم يكن من يؤذيها مؤذيا له على كلّ حال ، بل متى فعل المستحقّ من ذمّها ، أو إقامة الحدّ عليها ، إن كان الفعل يقتضيه سارا له و مطيعا ، على أنّنا لا نحتاج في هذا الموضع على الدلالة على عصمتها ، بل يكفي في هذا الموضع العلم بصدقها فيما ادّعته ، و هذا لا خلاف فيه بين المسلمين لأنّ [ 110 ] أحدا لا يشكّ أنّها لم تدّع ما ادّعته كاذبة ، و ليس بعد أن لا تكون كاذبة إلاّ أن تكون صادقة ، و إنّما اختلفوا في أنّه هل يجب بعد العلم بصدقها تسليم ما ادّعته بغير بيّنة أم لا يجب ذلك ؟ ثمّ استدلّ على أنّ البيّنة من جهة الكاشفيّة لا من جهة الموضوعيّة بوجوه : 1 اشتراط العدالة في البيّنة للاعتماد بصدقها . 2 جواز حكم الحاكم بعلمه من غير شهادة . 3 كون الإقرار أقوى من البيّنة من حيث إنّه أكشف للواقع إلى أن قال : « و الّذي يدلّ على صحّة ما ذكرناه أيضا أنّه لا خلاف بين أهل النقل في أنّ أعرابيا نازع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في ناقة ، فقال عليه السّلام « هذا لي و قد خرجت إليك من ثمنها » فقال الأعرابي : من يشهد لك بذلك ؟ فقال خزيمة بن ثابت : أنا أشهد بذلك ، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : « من أين علمت ، و ما حضرت ذلك ؟ » قال : لا و لكن علمت ذلك من حيث علمت أنّك رسول اللّه ، فقال : « قد أجزت شهادتك و جعلتها شهادتين » فسمّي ذا الشهادتين ، و هذه القضيّة شبيهة لقصّة فاطمة عليها السّلام . و منها أنّه حيث كانت فاطمة عليها السّلام مدّعية لفدك باتّفاق أهل الحديث يستفاد أنّها كانت متصرّفة فيها و صاحبة يد عليها ، فلا يصحّ مطالبتها بالبيّنة إلاّ أن يقال بأنّ دعويها مقرونة بالاستناد إلى ادّعاء الهبة و بهذا الاعتبار تحتاج إلى البيّنة ، و قد شهد لها عليّ عليه السّلام و امّ أيمن ، و يظهر مما نسب إلى أبي بكر التوقّف في الحكم لها باعتبار نقصان البيّنة ، فانّها تتحقّق برجلين أو رجل و امرأتين ، فيبحث عن خطأ أبي بكر في ذلك باعتبار أنّ عليّا مشمول لاية التطهير و معصوم ، فيقوم شهادته مقام رجلين و امّ أيمن ممّن ثبت كونها من أهل الجنّة فيقطع بصدقها و يقوم شهادتها مقام امرأتين و أكثر ، و نسب إلى عمر ردّ شهادتهما باتّهام عليّ عليه السّلام بأنّه يجرّ النار إلى قرصه ، و القدح في امّ أيمن بأنّها عجميّة مردودة الشهادة فيالهما من خطأ و جور . الثانية النظر إليها من الوجهة السياسية ، و هي أنّ أخذ فدك من فاطمة عليها السّلام [ 111 ] و أخذ سائر مواريث النبيّ منها و من سائر الورّاث تابع للاستيلاء على الخلافة و الحكم ، فلا يستقرّ بيعة سقيفة على أبي بكر إلاّ بهذين الأمرين ، لأنّ الرياسة على الامّة من أهمّ مواريث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و من أوفر ما تركه بعده فتتعلّق بذويه الأقربين من اهل بيته ، و لا يكفي مجرّد بيعة الناس مع ابي بكر لسلب هذا الحق عن اهل البيت إلاّ بمنع التوريث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ، و منع الارث يحتاج إلى قضيّة عامّة و هي جملة « لا نورّث ، ما تركناه صدقة » الّتى ابتكرها أبو بكر و تفرّد بنقلها و لم يكن لمن بايع معه من المهاجرين و الأنصار إلاّ التسليم لها و ترك النكير عليها ، فانّهم لو أنكروها و قاموا في وجه أبي بكر لردّها يضطرّون إلى نقض بيعتهم معه بالرئاسة و الخلافة فلا يستقيم قبول وراثة فاطمة و سائر أهل البيت عمّا تركه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع بيعتهم لأبي بكر بالخلافة . و يدلّ على ذلك ما حكي أنّ هارون العبّاسي قال لموسى بن جعفر عليه السّلام : حدّ لي فدك حتّى أردّه ، فقال عليه السّلام : حدّها من سيف البحر إلى دومة الجندل إلى عريش مصر ، فقال هارون : حتّى أنظر فيها ، فالظاهر أنّ مقصوده عليه السّلام أنّ فدك نموذج ما تركه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأهل بيته و هو ما استقرّ حكومته عليه في حياته . و قال الشارح المعتزلى « ص 284 ج 16 ط مصر » : « و سألت عليّ بن الفارقي مدرّس المدرسة الغربيّة ببغداد ، فقلت له : أكانت فاطمة صادقة ؟ قال : نعم ، قلت : فلم لم يدفع إليها ابو بكر فدك و هي عنده صادقة ؟ فتبسّم ، ثمّ قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه و حرمته و قلّة دعابته ، قال : لو أعطاها اليوم فدك بمجرّد دعواها لجائت إليه غدا و ادّعت لزوجها الخلافة ، و زحزحته عن مقامه ، و لم يكن يمكنه الاعتذار و الموافقة بشى‏ء لأنّه يكون قد أسجل على نفسه أنّها صادقة فيما تدّعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بيّنة و لا شهود ، و هذا كلام صحيح ، و إن كان قد أخرجه مخرج الدّعابة و الهزل » . ثمّ إنّ عمق سياسة قضيّة فدك يظهر من التدبّر في خطب ابي بكر و مكالمته [ 112 ] مع فاطمة عليها السّلام حيث يستفاد منها أنّ أبا بكر كان داهية دهياء و لا يكون في المسلمين يومئذ أدهى منه و أمكر ، و صوّر خطّة سياسته في هذه القضيّة من ثلاث : الاولى رقّته و لينه تجاه فاطمة عليها السّلام بما لا مزيد عليه و تمسّكه بالإطاعة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ولعه على العمل بسنّته و سيرته حرفا بحرف و قدما على قدم ، و تحريش الناس على فاطمة عليها السّلام بأنّها يريد خلاف قول أبيها طلبا لحطام الدنيا فانظر فيما يلي : في الشرح المعتزلي « ص 214 ج 16 ط مصر » : و روى هشام بن محمّد عن أبيه قال : قالت فاطمة لأبي بكر : إنّ أمّ أيمن تشهد لي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعطاني فدك ، فقال لها : يا ابنة رسول اللّه ، و اللّه ما خلق اللّه خلقا أحبّ إلىّ من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبيك ، و لوددت أنّ السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك ، و اللّه لأن تفتقر عايشة أحبّ إليّ من أن تفتقري ، أتراني اعطي الأحمر و الأبيض حقّه و أظلمك حقّك ، و أنت بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ، إنّ هذا المال لم يكن للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ، و إنّما كان مالا من أموال المسلمين ، يحمل النبيّ به الرجال ، و ينفقه في سبيل اللّه ، فلمّا توفّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم وليته كما كان يليه ، قالت : و اللّه لا كلّمتك أبدا ، قال : و اللّه لا هجرتك أبدا ، قالت : و اللّه لأدعونّ اللّه عليك ، قال : و اللّه لأدعونّ اللّه لك ، فلمّا حضرتها الوفاة أوصت ألاّ يصلّي عليها . فدفنت ليلا . . . و في الشرح أيضا « ص 213 ج 16 ط مصر » : عن عوّانة بن الحكم ، قال : لمّا كلّمت فاطمة عليها السّلام أبا بكر بما كلّمته به ، حمد أبو بكر اللّه و أثنى عليه و صلّى على رسوله ثمّ قال : يا خيرة النساء و ابنة خير الاباء ، و اللّه ما عدوت رأي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ، و ما عملت إلاّ بأمره ، و إنّ الرائد لا يكذب أهله ، و قد قلت فأبلغت و أغلظت فأهجرت ، فغفر اللّه لنا و لك ، أمّا بعد ، فقد دفعت آلة رسول اللّه ، و دابّته و حذاءه إلى عليّ عليه السّلام ، فأمّا ما سوى ذلك فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول : إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضّة و لا أرضا و لا عقارا و لا دارا ، [ 113 ] و لكنّا نورث الايمان و الحكمة و العلم و السنّة ، فقد عملت بما أمرني ، و نصحت له ، و ما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكّلت و إليه انيب . فقد ترى أبا بكر في هذه المكالمة و هذه الخطبة القصيرة الّتي أجاب بها عن خطبة فاطمة الطويلة القاصعة يظهر الخضوع و التذلّل لفاطمة عليها السّلام و الطوع و الانقياد لأمر أبيها حتّى يصوّر فاطمة عليها السّلام في نظر الناس عاقّة لأبيها و طالبة لحطام الدنيا . الثانية استصغار عليّ و أهل بيته و إهانتهم في نظر الناس ليسقط عندهم هيبة أهل البيت و ينتهك حرمتهم الّتي اكتسبوها في ضوء توصيات النبي صلّى اللّه عليه و آله و حرمة مهبط الوحي و الرسالة ، و يجترؤا على الصّول عليهم ، بما يقتضيه السياسة في مواقفها الاتية . فانظر إلى قوله في تلك الخطبة « أمّا بعد ، فقد دفعت آلة رسول اللّه و دابّته و حذاءه إلى عليّ » فإنّ فيه من الإهانة بمقام عليّ عليه السّلام ما لا يخفى ، فيغصب أبو بكر منبر رسول اللّه و سيفه و يدفع إلى عليّ عليه السّلام حذاءه . ثمّ انظر إلى ما أفاده في خطبته الثانية كما في الشرح المعتزلي « ص 214 ج 16 ط مصر » : قال أبو بكر : و حدّثني محمّد بن زكريّا قال : حدّثنا جعفر بن محمّد بن عمارة بالإسناد الأوّل قال : فلمّا سمع أبو بكر خطبتها شقّ عليه مقالتها ، فصعد المنبر و قال : أيّها الناس ، ما هذه الرعة إلى كلّ قالة ، أين كانت هذه الأماني في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ، ألا من سمع فليقل و من شهد فليتكلم ، إنّما هو ثعالة شهيده ذنبه ، مربّ لكلّ فتنة هو الّذي يقول : كرّوها جذعة بعد ما هرمت ، يستعينون بالضعفة و يستنصرون بالنساء كامّ طحال أحبّ أهلها إليها البغيّ ألا أنّي لو أشاء أن أقول لقلت ، و لو قلت لبحت ، إنّي ساكت ما تركت . . . قال الشارح المعتزلي : قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري و قلت له : بمن يعرّض ؟ فقال : بل يصرّح ، قلت : لو صرّح لم أسألك ، فضحك و قال : بعليّ بن أبيطالب عليه السّلام ، قلت : هذا الكلام كلّه لعليّ يقوله ؟ قال : نعم ، إنّه الملك يا بنيّ ، و يظهر نهاية استخفافه بعليّ [ 114 ] و فاطمة عليها السّلام و استصغاره لشأنهما بما فسّره من غريب ألفاظ الخطبة ، قال : فسألته عن غريبه ، فقال : أمّا الرعة بالتخفيف ، أى الاستماع و الاصغاء ، و القالة : القول ، و ثعالة : اسم الثعلب علم غير مصروف مثل ذؤالة للذئب ، و شهيده ذنبه : أي لا شاهد له على ما يدّعى إلاّ بعضه و جزء منه ، و أصله مثل ، قالوا : إنّ الثعلب أراد أن يغري الأسد بالذئب فقال : إنّه قد أكل الشاة الّتي قد أعددتها لنفسك ، و كنت حاضرا ، قال : فمن يشهد لك بذلك ؟ فرفع ذنبه و عليه دم ، و كان الأسد قد افتقد الشاة فقبل شهادته ، و قتل الذئب ، و مربّ : ملازم ، أرّب بالمكان ، و كرّوها جذعة : أعيدوها إلى الحال الاولى ، يعني الفتنة و الهرج ، و امّ طحال امرأة بغيّ في الجاهليّة ، فيضرب بها المثل فيقال : أزنى من امّ طحال ، انتهى . فقد اتّهم علياّ عليه السّلام في كلامه هذا بأنّه يجرّ النار إلى قرصه و يشهد لجرّ النفع و جلب المنفعة و أنّه يريد إلقاء الفتنة بين المسلمين و ايقاد نيران الحرب و ردّ الاسلام قهقرى ، فيستعين بالضعفة و النساء ، و كفى و هنا به و بفاطمة قوله : كامّ طحال أحبّ أهلها إليها البغيّ ، و هل قصد تشبيه عليّ عليه السّلام بامّ طحال أو فاطمة عليها السّلام أو هما معأ ، و كفى به توهينا لهما و إظهارا للكفر و الزندقة . و يقصد في ضمن ذلك سلب الفوائد عن عليّ عليه السّلام بحيث لا يملك درهما و لا دينارا ، فيكون قد اشتغل بتحصيل القوت و يكون آكلا سهمه من بيت المال بنظارته كأحد اجرائه و امرائه لئلا يتوجّه إليه النّاس فيعتزّ بهم و يطلب حقّه من الخلافة . قال في الشرح المعتزلي ( ص 236 ج 16 ط مصر ) : و قال لي علويّ من الحلّة ، يعرف بعليّ بن مهنّا ، ذكيّ ذو فضائل : ما تظنّ قصد أبى بكر و عمر بمنع فاطمة فدك ؟ قلت : ما قصدا ؟ قال : أرادا أن لا يظهرا لعليّ و قد اغتصباه الخلافة رقّة ولينا ، و لا يرى عندهما خورا ، فاتبعا القرح بالقرح . و قلت لمتكلّم من متكلّمى الإماميّة يعرف بعليّ بن تقيّ من بلدة النّيل و هل كانت فدك إلاّ نخلا يسيرا و عقارا ليس بذلك الخطير ؟ فقال لي : ليس الأمر [ 115 ] كذلك ، بل كانت جليلة جدّا ، و كان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الان من النخل ، و ما قصد أبو بكر و عمر بمنع فاطمة عنها إلاّ يتقوّى عليّ بحاصلها و غلّتها على المنازعة في الخلافة ، و لهذا اتبعا ذلك بمنع فاطمة و عليّ و سائر بني هاشم و بني المطّلب حقّهم في الخمس ، فانّ الفقير الّذي لا مال له تضعف همّته و يتصاغر عند نفسه و يكون مشغولا بالاحتراف و الاكتساب عن طلب الملك و الرآسة ، فانظر إلى ما قد وقر في صدور هؤلاء . . . الثالثة إرعاب الناس و تخويفهم إلى حيث ينقادون لحكمهم و يتهيّأون لكلّ ما يقرّرونه بعد ذلك من مؤامراتهم ، فتشديدهم الأمر على أهل بيت النبيّ إلى حيث هدّدوهم بإحراق بيتهم أو أشعلوا النار في باب فاطمة عليها السّلام و في روايات عدّة أنّهم ضربوها بالسياط تقرير لهذه السياسة الحديديّة الناريّة الّتي يرتكبها الطامعون في استقرار حكومتهم و كبح مخالفيهم . قال في الشرح المعتزلي « ص 283 ج 16 ط مصر » : فيما نقله عن السيّد المرتضى في جواب قاضى القضاة : فأمّا قوله إنّ حديث الإحراق لم يصحّ ، و لو صحّ لساغ لعمر مثل ذلك فقد بيّنّا أنّ خبر الاحراق قد رواه غير الشيعة و قوله أنّه يسوغ مثل ذلك ، فكيف يسوغ إحراق بيت عليّ و فاطمة عليها السّلام و هل في ذلك عذر يصغى إليه أو يسمع ، و إنّما يكون عليّ و أصحابه خارقين للاجماع و مخالفين للمسلمين لو كان الاجماع قد تقرّر و ثبت ، و ليس بمتقرّر و لا ثابت مع خلاف عليّ وحده فضلا عن أن يوافقه على ذلك غيره . . . و تهديد أبي بكر للناس و خصوص الأنصار الّذين هم العدّة و العدد و صاحبوا الدار و الجنن يظهر من ذيل خطبته السابقة « ص 215 ج 16 ط مصر » : ثمّ التفت إلى الأنصار فقال : قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم ، و أحقّ من لزم عهد رسول اللّه أنتم ، قد جائكم فآويتم و نصرتم ، ألا أنّى لست باسطا يدا و لا لسانا على من لم يستحقّ ذلك منّا ، ثمّ نزل ، فانصرفت فاطمة عليها السّلام إلى منزلها . [ 116 ] قال الشارح المعتزلي في ضمن ما سأله عن النقيب أبي يحيى « قلت : فما مقالة الأنصار ؟ قال : هتفوا بذكر عليّ فخاف من اضطراب الأمر عليهم ، فنهاهم » . و بهذه السياسة الحديديّة المقرونة بأشدّ الارعاب أخمدوا نار الثورة الفاطميّة الّتي أشعلتها عليهم بخطبتها الرنّانة الفائقة و تمسّكوا بالملك و الخلافة بكلّ قوّة و شدّة ، و سيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون . الترجمة از نامه آنحضرت عليه السّلام است كه بعثمان بن حنيف انصارى نگاشته عثمان ابن حنيف كار گزار آنحضرت بود بر استان بصره ، و از وى بآنحضرت گزارش رسيده بود كه براى صرف وليمه جشن جمعى از مردم بصره دعوت شده و اين دعوت را پذيرفته و در آن وليمه شركت كرده ، و در ضمن نامه بدو نوشته است : أمّا بعد أى زاده حنيف ، بمن خبر رسيده كه مردى از جوانان اهل بصره از تو بر سر خوان مهمانى دعوت كرده و توهم بدان شتافتى ، خوراكهاى رنگارنگ برايت آورده‏اند و قدحهاى چند در برابرت چيده‏اند ( تو حريصانه از آنها خوردى و استخوانهاى گوشت را بدندان پاك كردى ) . من گمان نمى‏بردم تو پذيراى دعوت مردمى شوى بر سر خوان خوراكشان كه بينوايان آنها گرسنه‏اند و توانگرانشان دعوت شده‏اند ، بنگر از اين آخر دنيا چه مى‏جوى ، آنچه را يقين ندارى كه حلال است بدور انداز و از آنچه بيقين ميدانى حلال است استفاده كن . هلا براستيكه هر مأمومى را امامى است كه از او پيروى كند و از پرتو دانشش روشنى گيرد ، هلا براستى امام و پيشواى شما از دنياى خود بدو پاره كرباس و دو قرصه نان جوين قناعت كرده ، معلومست كه شما نتوانيد چنين زندگى كنيد و تا اين اندازه قناعت ورزيد ، ولى بورع و كوشش خود در كار دين بمن كمك كنيد ، و با پارسائى و درستكارى مرا مدد كنيد ، بخدا سوگند ، من از دنياى شما گنجينه زرى نيندوختم و از دست آوردهاى آن برى برنگرفتم ، و ذخيره و پس اندازى نيندوختم ، و براى [ 117 ] كهن جامه تن خود پارچه كرباسينى آماده نساختم ، و از زمين اين دنيا يك وجب بچنگ نياوردم ، و از اين دنيا جز قوتى اندك باندازه خوراك ماده الاغى پشت ريش بر نگرفتم ، و هر آينه اين دنيا در چشم من سست‏تر و پست‏تر است از دانه بلوطى گرف و نامطبوع . آرى در زير دست ما تنها يك فدك بود از هر آنچه آسمان بر آن سايه دارد و دلهاى مردمى بر آن دريغ آورد و دلهاى ديگران بر آن بخششگر شد و از دست ما ربوده گرديد ، و چه خوب دادگرى است خداوند ، مرا چه كار است با فدك يا جز فدك با اينكه منزل فرداى هر كس گور است ، گورى كه در تاريكيش آثار و كردار هر كس منقطع ميگردد و اخبارش نهان مى‏شود گودالى كه اگر در ميدانش بيفزايند و دست حفّارش پهناور سازد سنگ و كلوخش تنگ سازد و خاكهاى انباشته سوراخ و روزنش را مسدود سازد ، همانا منم و اين نفس سركشم كه بوسيله تقوى و پرهيزكارى آنرا سوقان مى‏دهم تا بلكه در روز هراس بزرگتر در آسايش باشد و بر اطراف پرتگاه دوزخ پابرجا و استوار گذر كند . بقية من المختار الرابع و الاربعين من كتبه عليه السّلام و لو شئت لاهتديت الطّريق إلى مصفّى هذا العسل ، و لباب هذا القمح ، و نسائج هذا القزّ ، و لكن هيهات أن يغلبني هواى ، و يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة و لعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، و لا عهد له بالشّبع أو أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى ، و أكباد حرّى ، أو أكون كما قال القائل : و حسبك داء [ عارا ] أن تبيت ببطنة و حولك أكباد تحنّ إلى القدّ . [ 118 ] أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين و لا أشاركهم في مكاره الدّهر ؟ أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش ، فما خلقت ليشغلني أكل الطّيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها تكترش من أعلافها ، و تلهو عمّا يراد بها ، أو أترك سدى ، أو أهمل عابثا ، أو أجرّ حبل الضّلالة ، أو أعتسف طريق المتاهة . اللغة ( القمح ) : الحنطة : ( الجشع ) : أشدّ الحرص ، ( المبطان ) ، الّذي لا يزال عظيم البطن من كثرة الأكل ، فأمّا المبطن : فالضامر البطن ، و أمّا البطين فالعظيم البطن بالخلقة ، و أمّا البطن : فهو الّذي لا يهمّه إلاّ بطنه ، و أمّا المبطون فالعليل البطن ، ( و البطون الغرثى ) : الجائعة ، ( البطنة ) : الكظّة ، و ذلك أن يمتلى الانسان من الطّعام امتلاء شديدا ، ( القدّ ) : إناء من جلد يدّخر فيها الغذاء أو بمعنى القديد : اللحم المشوى المقدّد الّذي يجفّ بالشّمس و يدّخره أهل البادية يتغذّون به ( التقمّم ) : أكل الشاة ما بين يديها بمقمتّها أي بشفتها ( تكترش من أعلافها ) : أي تملأ كرشها من العلف ، و الكرش للشاة بمنزلة المعدة للإنسان ، و يقال ( أجررته ) رسنه : أى أهملته ، ( الاعتساف ) : السلوك في غير طريق ( المتاهة ) : أرض يتاه فيها لعدم وجود الطريق . الاعراب هيهات اسم فعل بمعنى بعد ، بالحجاز جار و مجرور متعلّق بفعل مقدّر و الجملة خبر مقدم لقول لعلّ ، و من لا طمع له اسم لها ، أو أبيت ، عطف على قوله يغلبنى و منصوب مثله ، حولي ، ظرف مستقر خبر لقوله بطون غرثى و الجملة حالية عن الضمير في قوله أبيت ، همّها علفها ، جملة حالية عن البهيمة ، شغلها تقمّمها [ 119 ] مبتدأ و خبر و الجملة حال عن المرسلة ، أو اترك سدى عطف على قوله يشغلنى و كذلك قوله اهمل و اجرّ و اعتسف . المعنى بيّن عليه السّلام في هذا الفصل من كتابه إلى عثمان بن حنيف أنّ تجنّبه عن الأكل الطيّب الهنى‏ء و القناعة بقرصين جافين من شعير ليس من الضرورة لعدم القدرة على ما زاد من المآكل الهنيئة ، و أشار إلى اقتداره على أطيب الأكل و أهنى العيش من وجوه : 1 من فوائد ما استنبطه من العيون و ما غرسه من النّخيل في ينبع أيام اعتزاله في المدينة و اشتغاله بالحرث و الزراعة في نواحيها ، فمن ضياعه العين المعروفة بعين نيزر أحد مواليه المشتغلين بالزراعة من قبله عليه السّلام في ينبع ، فقد ورد في الحديث أنه حضر يوما يحفر فيه بئرا فأصاب حجرا فألقى عليه السّلام ردائه و أخذ المعول و ضرب الحجر حتّى كسره فطلع من تحته عين ماء كأنها عنق البعير . و في حديث آخر : أنّ مغيرة بن شعبة مرّ عليه عليه السّلام يوما و قد ركب بعيرا و تحته حمل فقال له عليه السّلام : ما تحتك يا عليّ ؟ فأجابه : مائة ألف نخلة إن شاء اللّه فكان يحمل نوايا التمر ليغرسه . و على الجملة كان له عليه السّلام ضياع و نخيل أنشأها و جعلها صدقة و صرفها على الفقراء . 2 أنّه عليه السّلام يقدر على الاحتراف و الكسب بوجوه شتّى و يهتدى إلى تهية أطيب العيش من كدّ يده مضافا إلى ما يستحقه من العطايا و الحقوق من بيت المال و هو رئيس المسلمين و أمير المؤمنين ، فيقدر على ما يريد من العيش الرّغيد ، و لكنّه ترك ذلك و لازم الزّهد و الرياضة ليكون اسوة للزاهدين . بقية من المختار الرابع و الاربعين من كتبه عليه السّلام و كأنّي بقائلكم يقول : إذا كان هذا قوت ابن أبيطالب فقد قعد [ 120 ] به الضّعف عن قتال الأقران ، و منازلة الشّجعان ؟ ألا و إنّ الشّجرة البرّيّة أصلب عودا ، و الرّوائع الخضرة أرقّ جلودا ، و النّابتات العذية [ و النّباتات البدويّة ] أقوى وقودا و أبطأ خمودا و أنا من رسول اللّه كالصّنو من الصّنو و الذّراع من العضد ، و اللّه لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها ، و لو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها ، و سأجهد في أن أطهّر الأرض من هذا الشّخص المعكوس ، و الجسم المركوس حتّى تخرج المدرة من بين حبّ الحصيد . اللغة ( الأقران ) : جمع قرن و هو الكفو في المبارزة و القتال ، ( الشجرة البرّيّة ) : الّتي تنبت في البرّ الّذي لا ماء فيه ، ( الروائع ) : جمع رائعة و هي الشجرة النابتة على الماء ، ( النابتات العذية ) بسكون الذال : الزرع لا يسقيه إلاّ ماء المطر ، ( الصنو ) : إذا خرجت نخلتان أو أكثر من أصل واحد فكلّ واحدة منها هي صنو أو صنو ، ( ركس ) ركسا الشى‏ء : قلب أوّله على آخره . المعنى كان المخالفون لعليّ عليه السّلام يعترضون عليه حتّى في زهده و رياضته و يذمّون قلّة أكله باعتبار أنّه مخلّ بما يجب عليه من وظيفة الجهاد و الدفاع عن العدوّ ، لأنّه موجب لضعفه و قلّة مقاومته تجاه العدوّ الشجاع اللدود ، و كأنّه ارتفع صدى هذا الاعتراض من الكوفة إلى البصرة فتذكّر عليه السّلام في هذا الكتاب وجه الدفاع عنه بقوله : ( ألا و إنّ الشجرة البرّية أصلب عودا و الروائع الخضرة أرقّ جلودا ) . و يمكن أن يكون هذا الكلام جوابا عن اعتراض ربما يرد على تحريص [ 121 ] أصحابه بالزهد و قلّة الأكل و المواظبة على جشوبة العيش ، فدفعه عليه السّلام بأنّ القوّة و الشجاعة ذاتيّة للمؤمن و لا تتوقّف على تقوية الجسم بالأغذية اللذيذة . ثمّ أيّد سيرته هذه بمتابعته للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال : ( أنا من رسول اللّه ) كغصنان من أصل واحد فأصلهما عبد المطلب عليه السّلام تفرّع منه عبد اللّه أبو النبيّ و أبو طالب أبو عليّ عليه السّلام أو أنّهما مشتقّان من أصل نوريّ واحد في تسلسل الوجود و انبعاثه عن المصدر الأزلي كما في غير واحد من الأخبار ، و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال : أنا و عليّ من شجرة واحدة و سائر النّاس من شجر شتّى . و هذه الرواية تؤيّد النسخة الّتي روت قوله ( كالصّنو من الصّنو ) بالصّاد المهملة بعدها نون معجمة . و نسخة شرح ابن أبى الحديد « 289 ج 16 ط مصر » : « كالضوء من الضوء » بالضّاد المعجمة ، و بهذا الاملاء فسّره في شرحه فقال : ( ص 290 ) و ذلك لأنّ الضّوء الأوّل يكون علّة في الضّوء الثاني ، ألا ترى أنّ الهواء المقابل للشّمس يصير مضيئا من الشّمس ، فهذا الضوء هو الضوء الأوّل . ثمّ إنّه يقابل وجه الأرض فيضى‏ء وجه الأرض منه ، فالضوء الّذي على وجه الأرض هو الضوء الثاني ، و مادام الضّوء الأوّل ضعيفا فالضّوء الثاني صغيف ، فإذا ازداد الجوّ إضائة ازداد وجه الأرض إضائة لأن المعلول يتبع العلّة ، فشبّه عليه السّلام نفسه بالضوء الثاني ، و شبّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالضوء الأوّل ، و شبّه منبع الأضواء و الأنوار سبحانه و جلّت أسماؤه بالشّمس الّتي توجب الضوء الأوّل ، ثمّ الضوء الأوّل يوجب الضّوء الثاني ، و ها هنا نكتة و هي أن الضوء الثاني يكون أيضا علّة لضوء ثالث ، و ذلك أنّ الضوء الحاصل على وجه الأرض و هو الضوء الثاني إذا أشرق على جدار مقابل ذلك الجدار قريبا منه مكان مظلم ، فانّ ذلك المكان يصير مضيئا بعد أن كان مظلما . أقول : قد اعتبر الشارح المذكور لفظة من في كلامه نشويّة فيصير المعنى و أنا من رسول اللّه كالضوء الناشي من الضّوء ، و استفاد منه تسلسل أنواع العلوم و الافاضات إلى سائر النّاس بوساطته جيلا بعد جيل إلى أن يضعف و يضمحلّ و يعود [ 122 ] الإسلام غريبا ، و يمكن استفادة تسلسل الإمامة منه نسلا بعد نسل كما هو معتقد الاماميّة و لا يلزم أن يكون الضوء الثاني أضعف من الضوء الأوّل إذا تساوت القابليّات و الانعكاسات المثالية كما لا يخفى . ثمّ التفت عليه السّلام إلى شجاعته في ذات اللّه و أنّه لا يخاف تظاهر العرب تجاهه و بيّن أنّهم ارتدّوا عن الإسلام و صاروا كالمشركين يجب قتالهم و تطهير الأرض من وجودهم و أنّ من يجاهد الكفّار يجب عليه أن يغلظ عليهم و يستأصل شافتهم ، و أشار إلى معاوية رأس النفاق و الشقاق و وصفه بأنّه شخص معكوس انقلب على وجهه و ارتدّ عن حقيقة إنسانيته ، و سقط في مهوى شهواته حتّى أثر باطنه في ظاهره فصار جسمه مركوسا إلى ظلمات الطبيعة و دركات الهوى و البهيميّة ، فوجوده بين المسلمين كالمدرة بين حبّ الحصيد يوجب الفساد و يضلّ العباد قالوا : و إلى ذلك وقعت الاشارة بقوله تعالى : « أ فمن يمشي مكبّا على وجهه أهدى أم من يمشى سويّا على صراط مستقيم : 22 الملك » . بقية من المختار الرابع و الاربعين من كتبه عليه السّلام إليك عنّي يا دنيا فحبلك على غاربك ، قد انسللت من مخالبك ، و أفلتّ من حبائلك ، و اجتنبت الذّهاب في مداحضك أين القرون الّذين غررتهم بمداعبك ؟ أين الأمم الّذين فتنتهم بزخارفك ؟ ها هم رهائن القبور ، و مضامين اللّحود ، و اللّه لو كنت شخصا مرئيّا ، و قالبا حسّيّا ، لأقمت عليك حدود اللّه في عباد غررتهم بالأمانيّ ، و أمم ألقيتهم في المهاوي ، و ملوك أسلمتهم إلى التّلف ، و أوردتهم موارد البلاء ، إذ لا ورد و لا صدر . [ 123 ] هيهات من وطي‏ء دحضك زلق ، و من ركب لججك غرق ، و من ازورّ عن حبائلك وفّق ، و السّالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه ، و الدّنيا عنده كيوم حان انسلاخه . أعز بي عنّي فو اللّه لا أذلّ لك فتستذلّيني ، و لا أسلس لك فتقوديني ، و أيم اللّه يمينا أستثني فيها بمشيئة اللّه لأروضنّ نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما ، و تقنع بالملح مأدوما ، و لأدعنّ مقلتي كعين ماء نصب معينها مستفرغة دموعها ، أتمتلى‏ء السّائمة من رعيها فتبرك ؟ و تشبع الرّبيضة من عشبها فتربض ؟ و يأكل عليّ من زاده فيهجع ؟ قرّت إذا عينه إذ اقتدى بعد السّنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة ، و السّائمة المرعيّة طوبى لنفس أدّت إلى ربّها فرضها ، و عركت بجنبها بؤسها ، و هجرت في اللّيل غمضها ، حتّى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها و توسّدت كفّها ، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم ، و تجافت عن مضاجعهم جنوبهم ، و همهمت بذكر ربّهم شفاههم ، و تقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم « أولئك حزب اللّه ، ألا إنّ حزب اللّه [ 124 ] هم المفلحون 22 المجادلة » . فاتّق اللّه يا ابن حنيف ، و لتكفك أقراصك ، ليكون من النّار خلاصك . اللغة ( الغارب ) جمع غوارب : الكاهل ، أو بين الظهر او السنام و العنق ، حبلك على غاربك : كناية من كنايات الطلاق ، أى اذهبي حيث شئت ، لأنّ الناقة إذا القي حبلها على غاربها فقد فسح لها أن ترعى حيث شاءت و تذهب حيث شاءت . ( المخالب ) جمع مخلب و هى للطيور الجوارح ، ( المداحض ) : المزالق ، ( المداعب ) جمع مدعبة : الدعابات ، ( زخارف ) جمع زخرف : ما يتزيّن به ، ( رهائن ) جمع رهينة و هى الوثيقة ، ( مضامين ) : أى الّذي تضمّنتهم القبور فاستعارها للموتى لشبههم في اللحود بالأجنّة في بطون الامّهات ، ( المهاوي ) جمع مهواة : المهلكة ، ( الدحض ) : المكان الزلق ، ( ازورّ ) : تنحّى ، ( مناخ البعير ) : مبركه ، ( اعزبي ) : ابعدي ، ( اسلس ) : انقاد ، ( ايم اللّه ) : من صيغ الحلف ، ( تهشّ ) : تفرح ( نضب ) : غار في الأرض ، ( ماء معين ) : جار على وجه الأرض ، ( فتبرك ) : أى تنام ، ( الربيضة ) : جمع الغنم ( فيهجع ) : فينام ، ( البهيمة الهاملة ) : المسترسلة المهملة من الزمام ، ( السائمة المرعيّة ) : جمع الغنم مع الراعي ، ( عركت بجنبها ) : أى تحمل الشدّة في العبادة ناقلا من جنب إلى جنب . المعنى كتب علىّ عليه السّلام هذا الكتاب إلى أحد عمّاله في ناحية كبيرة من دار حكومته الواسعة و هو في ابان قدرته و على عرش حكومته الاسلاميّة الّتي حازها بحقّ ، فينبغي أن يتوجّه إليها و يطمئنّ بها ، و لكن يتوجّه إلى أنّها مظهر من مظاهر الدنيا الغرّارة الفتّانة يكاد يغلب عليه ببهرجها و زينتها و عواملها الخلاّعة الخلاّبة [ 125 ] من توجّه عموم الناس إلى بابه ، و من انقياد الامراء و الحكّام و الضابطين إلى جنابه ، و من ورود سيل الخراج و الأموال و الغنائم من شتّى نواحى البلاد الاسلاميّة تحت يده ، فمن هو الرجل الّذي لا يغرّ بهذه المظاهر الفتّانة الدنيويّة و يقدر على ضبط نفسه عن التأثّر بها و الافتتان منها ، فكان عليه السّلام يلقّن بهذه الجمل النافذة كره الدنيا و كيدها و غرورها و عواقبها على نفسه و على قلوب أعوانه و حكّامه و يطرد الدنيا عن حوله و عن فنائه بقوله عليه السّلام : ( إليك عنّي يا دنيا ) فأنت مطلّقة عنّي لا سبيل لك إليّ ، و يهدّدها أشدّ التهديد بأنّها لو كانت جسما محسوسا كالواحد من البشر يقيم عليها الحدّ و يعرضها للمجازات بما ارتكبته من الخلاف في حقّ ذويها : 1 بجرم التغرير و إرائة ما لا واقع له لطلاّبها فكانت مدلّسة يتوجّه إليها مجازات التدليس . 2 التسبيب إلى الهلاك و التلف لأبنائها و جرّهم إلى موارد البلاء و الدّمار . ثمّ بيّن أنّه لا نجاة لمن غرّبها و صار في طلبها فليس لها إلاّ مزالق هائلة و لجج مهلكة ، فمن سلم عنها فهو على طريق النجاة ، و إن ضاق عليه أمر الدنيا ، فانّ الدنيا لمحة يسيرة تنصرم عاجلا و يفوز المؤمن السالم فيها عن مكائدها إلى الفوز الأبد و الراحة الطويلة . ثمّ يبيّن عليه السّلام سيرته في معيشة الدنيا مقرونا بالحلف باللّه تعالى في التمسّك بالرياضة و تقليل الطعام إلى حيث يفرح نفسه بأكل قرصة من الشعير لسدّ جوعتها و تقنع بالملح للأدام ، و مع ذلك يبكى من خشية اللّه و موقف الحساب إلى حيث ينضب عينه من الدموع ، و أشار إلى أنّ النفس الانسانيّة أشرف من الاقتداء بالبهائم من الابال و البقر و الغنم في الأكل و طلب الراحة ، فلا بدّ من حفظ الامتياز ، و هو ملازمة الجوع و الخوف من اللّه و العبادة في جوف الليل ، و الهمهمة بذكر اللّه بالشفاه ، و غسل الذنوب بالاستغفار في باب اللّه .