جستجو

و من خطبة له ع يحمد

متن ترجمه آیتی ترجمه شهیدی ترجمه معادیخواه تفسیر منهاج البرائه خویی تفسیر ابن ابی الحدید تفسیر ابن میثم

[ 218 ] و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و التسعون من المختار فى باب الخطب الحمد للّه الفاشي « في الخلق خ ل » حمده ، و الغالب جنده ، و المتعالي جدّه ، أحمده على نعمه التّوام ، و آلائه العظام ، الّذي عظم حلمه فعفى ، و عدل في كلّ ما قضى ، و علم ما « بما خ » يمضى و ما مضى ، مبتدع الخلايق بعلمه ، و منشئهم بحكمه ، بلا اقتداء و لا تعليم ، و لا احتذاء لمثال صانع حكيم ، و لا إصابة خطاء ، و لا حضرة ملاء ، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله ، ابتعثه و النّاس يضربون في غمرة ، و يموجون في حيرة ، قد قادتهم أزمّة الحين ، و استغلقت على أفئدتهم أقفال الرّين . أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه ، فإنّها حقّ اللّه عليكم ، و الموجبة على اللّه حقّكم ، و أنّ تستعينوا عليها باللّه ، و تستعينوا بها على اللّه ، فإنّ التّقوى في اليوم الحرز و الجنّة ، و في غد الطّريق إلى الجنّة ، مسلكها واضح ، و سالكها رابح ، و مستودعها حافظ ، لم تبرح عارضة نفسها على الامم الماضين و الغابرين لحاجتهم إليها غدا إذا أعاد اللّه ما أبدا ، [ 219 ] و أخذ ما أعطى ، و سئل ما أسدى ، فما أقلّ من قبلها ، و حملها حقّ حملها أولئك الأقلّون عددا ، و هم أهل صفة اللّه سبحانه إذ يقول و قليل من عبادي الشّكور فأهطعوا بأسماعكم إليها ، و أكظّوا بجدّكم عليها ، و اعتاضوها من كلّ سلف خلفا ، و من كلّ مخالف موافقا ، أيقظوا بها نومكم ، و اقطعوا بها يومكم ، و أشعروا بها قلوبكم ، و أرحضوا بها ذنوبكم ، و داووا بها الأسقام ، و بادروا بها الحمام ، و اعتبروا بمن أضاعها ، و لا يعتبرنّ بكم من أطاعها ، ألا و صونوها و تصوّنوا بها . و كونوا عن الدّنيا نزّاها ، و إلى الآخرة ولاّها ، و لا تضعوا من رفعته التّقوى ، و لا ترفعوا من رفعته الدّنيا ، و لا تشيموا بارقها ، و لا تسمعوا ناطقها ، و لا تجيبوا ناعقها ، و لا تستضيؤا بإشراقها ، و لا تفتنوا بأعلاقها ، فإنّ برقها خالب ، و نطقها كاذب ، و أموالها محروبة ، و أعلاقها مسلوبة ، ألا و هي المتصدّية العنون ، و الجامحة الحرون ، و المائنة الخئون ، و الجحود الكنود ، و العنود الصّدود ، و الحيود الميود حالها انتقال ، و وطأتها زلزال ، و عزّها ذلّ ، و جدّها هزل ، و علوها سفل ، دار حرب و سلب و نهب و عطب ، أهلها على ساق و سياق ، [ 220 ] و لحاق و فراق ، قد تحيّرت مذاهبها ، و أعجزت مهاربها ، و خابت مطالبها ، فأسلمتهم المعاقل ، و لفظتهم المنازل ، و أعيتهم المحاول ، فمن ناج معقور ، و لحم مجزور ، و شلو مذبوح ، و دم مسفوح ، و عاضّ على يديه ، و صافق بكفّيه « لكفّيه خ » ، و مرتفق بخدّيه ، و زار على رأيه ، و راجع عن عزمه ، و قد أدبرت الحيلة ، و أقبلت الغيلة ، ولات حين مناص ، و هيهات هيهات قد فات ما فات ، و ذهب ما ذهب ، و مضت الدّنيا لحال بالها فما بكت عليهم السّماء و الأرض و ما كانوا منظرين . اللغة ( فشا ) الخبر يفشو فشوا أى ظهر و شاع و انتشر ، و أفشيته و فشت امور النّاس افترقت و فشت الماشية مرحت و ( الجدّ ) العظمة و هو مصدر يقال منه جدّ في عيون النّاس من باب ضرب أى عظم و الجدّ أيضا الحظّ يقال وجدت بالشي‏ء من باب تعب أى حظظت به ، و قيل الجد أصله القطع ، و منه الجدّ العظمة لانقطاع كلّ عظمة عنها لعلوّها عليه و منه الجدّ أبوأب الأب لانقطاعه بعلوّ أبوّته و كلّ من فوقه لهذا الولد أجداد و الجدّ الحظ لانقطاعه بعلوّ شأنه ، و الجدّ خلاف الهزل لانقطاعه عن السخف و منه الجديد لأنه حديث عهد بالقطع . و ( التوام ) جمع توأم و زان فوعل و هو أبو المقارن أخاه في بطن واحد و كلّ واحد من الولدين توأم و هذا توأم هذا و هذه توأمته ، و الجمع توائم مثل جندل و جنادل ، و يجمع أيضا على توام و زان فعال كما في هذه الخطبة . [ 221 ] و ( استغلقنى ) بيعته و استغلق علىّ بيعته أى لم يجعل لى خيارا في ردّه و ( الرّين ) الدنس يقال : ران على قلبه ذنبه أى دنسه و وسخه و ( اهطع ) في عدوه أى أسرع و أهطع البعير إذا مدّ عنقه و صوّب رأسه ، و في بعض النسخ بدل فاهطعوا فانقطعوا بأسماعكم ، فلا بدّ من التضمين أى انقطعوا مستمعين بأسماعكم . و ( اكظوا ) أمر من الكظّ و هو الجهد يقال كظّه الأمر جهده و الكظاظ طول الملازمة و شدّة الممارسة ، و في بعض النسخ : و ألظوّا من ألظّ في الأمر أى ألحّ فيه و ألظّ المطر أى دام و في بعض النسخ : و واكظوا من المواكظة و هى المداومة على الأمر و ( الجدّ ) في الشي‏ء بالكسر المبالغة و الاجتهاد فيه و ( رحضت ) الثوب رحضا من باب منع غسلته و ( شام ) البرق يشمه إذا نظر إليه انتظارا للمطر و ( تصدّى ) له تعرّض و ( عنّ ) الشي‏ء يعنّ من باب ضرب عنا و عننا و عنونا إذا ظهر أمامك و اعترض و ( جمح ) الفرس براكبه يجمح من باب منع جماحا و جموحا استعصى حتّى غلبه فهو جموح و زان رسول و جامح ، و جمحت المرأة خرجت من بيتها غضبى بغير إذن بعلها . و ( حرن ) الدابة حرونا من باب قعد فهى حرون و هي التّي إذا استدرّ جريها وقفت و ( مان ) يمين مينا كذب فهو مائن و ( حادت ) الناقة عن كذا أى مالت عنه فهى حيود و ( مادت ) أى مالت فهى ميود فان كانت عادتها ذلك سمّيت الحيود الميود و ( الجدّ ) في الكلام بالكسر ضدّ الهزل و ( الحرب ) بسكون الراء معروف و جمعه حروب و بفتحها مصدر يقال حربه حربا مثل طلبه طلبا أى سلب ماله ( و سلبه ) سلبا و سلبا اختلسه و ( و النّهب ) بسكون الهاء الغنيمة . و ( الساق ) ما بين الكعب و الركبة قال سبحانه و التفّت السّاق بالسّاق و السّاق أيضا الشدّة ، و منه قامت الحرب على ساق إذا اشتدّ أمرها و صعب الخلاص منها ، و ربما فسّرت الآية بهذا المعنى أى التفّت آخر شدّة الدّنيا بأوّل شدّة الآخرة . [ 222 ] ( و السّياق ) مصدر من ساق الماشية سوقا و سياقة و ساق المريض سوقا و سياقا شرع في نزع الروح و ( جزرت ) الجزور نحرتها و ( الشلو ) بالكسر العضو و الجسد من كلّ شي‏ء و كلّ مسلوخ أكل منه شي‏ء و بقيت منه بقيّة و الجمع أشلاء كحبر و أحبارو ( ارتفق ) اتكاء على مرفق يده أو على المخدّة و ( الغيلة ) الشّر أو بمعنى الاغتيال و هو الخديعة و ( المناص ) المهرب من ناص عن قرنه ينوص نوصا إذا هرب و المناص أيضا الملجأ . و قوله ( لحال بالها ) قال الشارح المعتزلي كلمة يقال فيما انقضى و فرط أمره و قيل : البال القلب و رخاء النفس أى مضت الدّنيا لما يهواه قلبها . الاعراب جملة و قد أدبرت الحيلة في محلّ النصب حال من فاعل راجع و قوله : و لات حين مناص ، لا مشبّهة بليس و التاء زايدة و حين بالنصب خبر لا و اسمها محذوف ، قال نجم الأئمة : و قد يلحق لا التاء نحو لات فيختصّ بلفظ الحين مضافا إلى نكرة ، نحو لات حين مناص ، و قد يدخل على لفظة أوان و لفظة هنا أيضا و قال الفراء يكون مع الأوقات كلّها و أنشد : و لات ساعة مندم . و التاء في لات للتأنيث كما في ربّة و ثمّة قالوا : إما لتأنيث الكلمة أى لا ، أو لمبالغة النفى كما في علاّمة فاذا وليها حين فنصبه أكثر من رفعه و يكون اسمها محذوفا و حين خبرها أى لات الحين حين مناص و تعمل يعنى لات عمل ليس لمشابهتها له بكسع 1 التاء إذ يصير على عدد حروفه ساكنة الوسط و لا يجوز أن يقال باضمار اسمها كما في نحو عبد اللّه ليس منطلقا ، لأنّ الحرف لا يضمر فيه و إن شابه الفعل ، و اذا رفعت حين على قلّته فهو اسم لا و الخبر محذوف أى لات حين مناص حاصلا ، و لا يستعمل إلاّ محذوفة أحد الجزئين . هذا قول سيبويه و عند الأخفش أنّ لات غير عاملة و المنصوب بعدها بتقدير ----------- ( 1 ) الكسع ان تضرب دبر الانسان بيدك او بصدر قدمك . [ 223 ] فعل ، فمعنى لات حين مناص لا أرى حين مناص ، و المرفوع بعدها مبتدء محذوف الخبر ، و فيه ضعف لأنّ وجوب حذف الفعل الناصب و خبر المبتداء له مواضع متعينة قال نجم الأئمّة : و لا يمتنع دعوى كون لات هي لاء التبرية ، و يقوّيه لزوم تنكير ما اضيف حين إليه ، فاذا انتصب حين بعدها فالخبر محذوف كما في لا حول و إذا ارتفع فالاسم محذوف أى لات حين حين مناص كما في لا عليك ، و نقل عن أبى عبيد أنّ التاء من تمام حين كما جاء : العاطفون تحين ما من عاطف و المطعمون زمان ما من مطعم و قد ضعف لعدم شهرة تحين في اللّغات و اشتهار لات حين ، و أيضا فانّهم يقولون لات أوان و لات هنا و لا يقال تاوان و تهنا . و كيف كان فجملة و لات حين مناص في موضع النصب حال من فاعل اقبلت ، و قوله : هيهات هيهات اسم فعل فيه معنى البعد ، و فيه ضمير مرتفع عايد إلى مناص و المعنى بعد المناص جدّا حتى امتنع . قال نجم الأئمة و كلّ ما هو من اسماء الأفعال بمعنى الخبر 1 ففيه معنى التعجّب فمعنى هيهات أى ما أبعده ، و شتّان أى ما أشدّ الافتراق ، و سرعان و وشكان أى ما أسرعه ، و بطان أى ما أبطاه . و قال الزمخشرى في الكشاف في قوله تعالى ا يعدكم انكم إذا كنتم ترابا و عظاما انكم مخرجون . هيهات هيهات لما توعدون قرأ هيهات بالفتح و الكسر و الضمّ كلّها بتنوين و بلا تنوين و بالسّكون على لفظ الوقف . و قال أبو عليّ و انّما كرّر هيهات في الآية و في قول جرير : فهيهات هيهات العقيق و من به و هيهات وصل بالعقيق فواصله للتأكيد أمّا اللتان في الاية ففي كلّ واحد ضمير مرتفع يعود إلى الاخراج إذ لا يجوز خلوّه من الفاعل و التقدير : هيهات إخراجكم ، لأنّ قوله : انّكم مخرجون ----------- ( 1 ) احتراز عما هو بمعنى الانشاء مثل هلم بمعنى اقبل و رويد بمعنى امهل و بله بمعنى اترك و نحوها . [ 224 ] بمعنى الاخراج أى بعد اخراجكم للوعد إذ كان الوعد إخراجكم بعد موتكم استبعد أعداء اللّه إخراجهم لما كانت العدة به بعد الموت ، ففاعل هيهات هو الضّمير العايد إلى انكم مخرجون الّذي هو بمعنى الاخراج . و امّا في البيت ففى هيهات الأوّل ضمير العقيق و فسّر ذلك ظهوره مع الثّاني ، هذا . و ذكر في القاموس في هيهات إحدى و خمسين لغة لا مهمّ بنا إلى ذكرها . المعنى اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة المشتملة على كثير من محاسن البلاغة و البديع من الانسجام و حسن السّبك و أنواع من الجناس و حسن الاسجاع و القوا في و الاشتقاق و نسبة الاشتقاق و غيرها مما يعرفها الناقد البصير مسوقة للترغيب إلى التقوى و الترهيب من الدّنيا ، و قبل الشروع في المقصود ابتدأ بحمد اللّه سبحانه و ذكر جملة من نعوت جماله و صفات جلاله كما هو دأبه و ديدنه في مقام الخطابة فقال : ( الحمد للّه الفاشى حمده ) أى الشايع المنتشر ثناؤه في جميع مخلوقاته بعضها كالكفار بلسان الحال فقط و بعضها به و بلسان المقال أيضا . قال تعالى في سورة الرّعد و يسبّح الرّعد بحمده و الملائكة من خيفته و في سورة النمل أ و لم يروا إلى ما خلق اللّه من شي‏ء يتفيّؤ ظلاله عن اليمين و الشمائل سجّدا للّه و هم داخرون . و للّه يسجد ما فى السّموات و ما في الأرض من دابّة و الملائكة و هم لا يستكبرون و في سورة بني إسرائيل تسبّح له السّموات السبع و الأرض و من فيهنّ و ان من شي‏ء إلاّ يسبّح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم انه كان حليما غفورا و في سورة النور أ لم تر انّ اللّه يسبّح له من في السموات و الارض و الطير صافّات كلّ قد علم صلوته و تسبيحه و اللّه عليم بما يفعلون إلى غير هذه من الايات الدالة على تسبيح كلّ شي‏ء و تقديسه و حمده للّه سبحانه . [ 225 ] و المراد بالتسبيح حسبما اشرنا إليه معنى منتظم لما ينطق به لسان الحال و لسان المقال بطريق عموم المجاز . و ذهب بعض أهل العرفان إلى أنّ المراد به التسبيح بلسان المقال حيث قال : خلق اللّه الخلق ليسبّحوه فأنطقهم بالتسبيح له و الثناء عليه و السّجود له فقال ألم تر انّ اللّه يسبّح له من في السّموات و الأرض و الطير الاية و قال أيضا أ لم تر أنّ اللّه يسجد له من في السّموات و من في الأرض و الشمس و القمر الآية و خاطب بهاتين الآيتين نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي أشهده ذلك و أراه فقال : ألم تر ، و لم يقل : ألم تروا فانا ما رأيناه فهو لنا ايمان و لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عيان ، فأشهده سجود كلّ شي‏ء و تواضعه للّه ، و كلّ من أشهده اللّه ذلك و أراه دخل تحت هذا الخطاب ، و هذا تسبيح فطرى و سجود ذاتي نشأ عن تجل تجلّى لهم فأحبوه فانبعثوا إلى الثناء عليه من غير تكليف بل اقتضاء ذاتيّ ، و هذه هى العبادة الذاتيّة الّتي أقامهم اللّه فيها بحكم الاستحقاق الذي يستحقّه . قال : و ليس هذا التسبيح بلسان الحال كما يقوله أهل النظر ممّن لا كشف له قال : و نحن زدنا مع الايمان بالاخبار الكشف ، فقد سمعنا الأحجار تذكر اللّه رؤية عين بلسان تسمعه آذاننا منها ، و تخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال اللّه ممّا ليس يدركه كلّ انسان ، انتهى . و فيه ما ذكره من الدّليل لا يفى باثبات مدّعاه إذ التسبيح الذاتي و السجود الفطرى الذي ذكره ليس أمرا وراء التسبيح بلسان الحال فما معنى قوله و ليس هذا التسبيح بلسان الحال كما يقوله أهل النظر . و بعبارة اخرى التسبيح ، إما قالىّ و هو التسبيح بالنطق و اللّسان مثل قول سبحان اللّه و نحوه ، و إما حاليّ و هو دلالة المخلوق على ما لا يليق بذاته تعالى من لواحق الامكان و لواحق الحدوث و النقصان ، إذ ما من موجود إلاّ و هو بامكانه و حدوثه يدلّ دلالة واضحة على أنّ له صانعا قادرا عليما حكيما واجب الوجود قطعا للتسلسل . [ 226 ] فأن أراد بالسجود الذاتي هذا المعنى فينا فيه قوله و ليس هذا التسبيح بلسان الحال . و إن أراد المعنى الأوّل فدليله لا ينهض به إذ محصّل ما ذكره من الدليل أنّ الخطاب في الآيتين متوجّه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بخصوصه ، و لذلك قال : ألم تر و لم يقل : ألم تروا ، و لو كان المراد التسبيح بلسان الحال لقال ألم تروا ، لأنّ التسبيح الحالي يعرفه كلّ أحد بخلاف التسبيح القولي فانّه مختصّ رؤيته بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم . و يتوجّه عليه أنّا نمنع اختصاص الخطاب به صلّى اللّه عليه و آله بل متوجّه إلى كلّ من يتأتّي منه الرؤية و النظر لو قلنا بالقول الآخر ، و يشهد بذلك قوله في سورة النحل أ لم يروا إلى ما خلق اللّه من شي‏ء حيث أتى بصيغة الجمع فلا فرق بين هذه الاية و الآيتين المتقدّمتين ، غاية الأمر أنّ الاستفهام في الاوليين للتقرير و إن كان الخطاب مختصّا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، و في هذه للتوبيخ و التقريع ، و من المعلوم أنّ التوبيخ إنّما توجّه عليهم بسبب تمكّنهم من الرؤية ، و الرؤية العيانية كما ذكره هذا القائل غير ممكنة ، فلا بدّ من حمل السجود على السجود بلسان الحال ، و الرؤية بالرّؤية بمعنى التفكر . ثمّ ما ادّعاه أخيرا من الكشف و أنّه سمع باذنه ذكر الأحجار بعد الغضّ عن أنّه دعوى بلا برهان يناقض ما قرّره أولا من اختصاص الرؤية العيانية بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّه على زعمه يكون شريك النبوّة في الرؤية العيانية مع ساير أرباب المكاشفة ، و هذا يقتضى أن يؤتى الخطاب في الآيتين بصيغة الجمع و يقال : ألم تروا . اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له قوّة الرؤية لسجود جميع الأشياء ، و هذا القائل ادّعى تسبيح البعض كالأحجار ، و لما ذكر سبحانه في الآيتين سجود الجميع و تسبيحهم لا جرم خصّ رؤيته بالنبيّ لكونه فقط متمكّنا من رؤية الكلّ ، هذا و ربما استدلّ على ما قاله هذا القائل من أنّ الجماد و النبات و الحيوان كلّها ناطقة بالحمد و الثناء و التسبيح و التقديس قولا لقوله « و لكن لا تفقهون تسبيحهم » [ 227 ] فانّ التسبيح الّذي لا نفقهه هو التسبيح المقالي ، و أمّا التسبيح الحالي فيفقهه كلّ من له عقل و نظر . و فيه أوّلا النقض بقوله أ و لم يروا إلى ما خلق اللّه من شي‏ء يتفيّوء ظلاله عن اليمين و الشمائل سجّدا للّه و هم داخرون فانّه سبحانه وبّخهم على ترك رؤية سجود ما خلق اللّه ، و لازم ذلك أن تكون الرّؤية ممكنة و إلاّ لم يحسن التوبيخ ، و السجود المقالي غير ممكنة الرؤية إذ لا نفقهه فلا بدّ أن يكون سجودهم بالحال حتّى يمكن رؤيته و يحسن التوبيخ على تركها . و ثانيا بالحلّ و أنّه لا يثبت المدّعى ، لأنّ قوله لا تفقهون تسبيحهم كما يجوز أن يراد به التسبيح القولي و يكون عدم فهم المخاطبين له من أجل اختلاف اللغات و عدم معرفتهم بأصوات الحيوانات و الجمادات و ساير المخلوقات ، كذلك يجوز أن يراد به التسبيح الحالي و يكون عدم فهم المخاطبين له لأجل التشاغل و الأغراض ، أى لا تعلمون تسبيح هذه الأشياء حيث لم تنظروا فيها و لم تعرفوا كيفيّة دلالتها على صانعها . و لذلك قال المفسّرون إنّ الخطاب فيها للمشركين أى لا تفقهون أيّها المشركون لاخلالكم بالنظر الصحيح الّذي به يفقه ذلك ، و إلى هذا أشير في قوله سبحانه و كأيّن من آية في السموات و الأرض يمرّون عليها و هم عنها معرضون . و على ما قلنا فيكون مفاد هذه الآية موافقا لمفاد الآية السابقة أعني قوله أ و لم يروا الى ما خلق اللّه و لمفاد ساير الآيات المتقدّمة ، فيكون المراد بالتسبيح و السجود و الحمد في جميعها المعني الأعمّ مما كان بلسان المقال ، و يكون المراد بالرؤية فيها هو الرّؤية بمعني التأمّل و التدبّر في ملكوت السماوات و الأرض و معرفته دلّهم للّه سبحانه قولا و حالا ، هذا . و لما كان هذا المقام من مطارح الأنظار و مسارح الأفكار أحببت أن اشبع فيه الكلام بتوفيق الملك العلاّم و إعانة الأئمة الكرام عليهم السّلام . [ 228 ] فأقول : إنّ التسبيح و الثناء للّه سبحانه على قسمين . أحدهما حاليّ ، و هو دلالة أحوال المخلوق على وجود خالقه و توحيده ، و التسبيح ، و الثناء بهذا المعني لا ريب في اتّصاف جميع المخلوقات به « و ان من شي‏ء الاّ يسبّح بحمده » إذ كلّ موجود سوى القديم حادث يدعو إلى تعظيمه لافتقاره إلى صانع غير مصنوع صنعه ، أو صنع من صنعه فهو يدعو الى تثبيت قديم غنيّ بنفسه عن كلّ شي‏ء سواه ، و لا يجوز عليه ما يجوز على المحدثات . و بعبارة اخرى نقصانات الخلايق دلائل كمالات الخالق ، و كثراتها و اختلافاتها شواهد وحدانيّته ، و انتفاء الشريك و الضّد و النّد عنه كما قال عليه السّلام في المختار المأة و الخمس و الثمانين : بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، و بمضادّته بين الأمور عرف أن لا ضدّ له ، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له . و الثاني قاليّ ، و هو في الانسان و الملك و الجنّ قول سبحان اللّه و الحمد للّه و نحو ذلك من الألفاظ المتضمّنة للتنزيه و التقديس الخارجة من اللّسان و المسموعة بالأسماع و الآذان . و أما في أصناف الحيوان فكلّ صنف بما اختصّ به من النطق و امتاز به عن ساير أبناء جنسه كالفرس فى صهيله ، و البعير في هديره ، و الحمار في نهيقه ، و الغراب في نعيقه و هكذا . و أمّا في الجماد و النبات و الماء و الشجر و الأرض و الهواء فنحو آخر مثل الصرير في الأبواب ، و الجرى في المياه ، و الانقضاض في الجدران و الأخشاب ، و نحو ذلك مما يعلمه اللّه سبحانه و تعالى . إذا عرفت ذلك فأقول : أما ذوو العقول فلا كلام في تسبيحهم للّه سبحانه حالا و قالا ، كما لا كلام في اتّصاف غير ذوى العقول حيوانا أو جمادا بالتسبيح الحالي ، و إنما الكلام في اتّصافها بالتسبيح القالي ، و الحقّ فيه أيضا الامكان بل الوقوع خلافا لعلم الهدى السيّد المرتضى في كتاب الغرر و الدّرر ، و للفخر الرازي في التفسير الكبير . [ 229 ] لنا على جوازه و وقوعه في الحيوان أنّ الأدلة من الكتاب و السّنّة قد دلّت على أنّ الأنواع على اختلافها منطقا مفهوما و ألفاظا تفيد أغراضها بمنزلة الأعجمي و العربي اللّذين لا يفهم أحدهما كلام صاحبه و إنما يفهمه المشارك له في هذه اللهجة فاذا جاز لها النطق في ساير أغراضها جاز لها النّطق في تسبيح خالقها أيضا . و الشاهد على أنها ذوات نطق و ادراك و شعور ، و أنها تنطق بتوحيده و تسبيحه تعالى قوله سبحانه حكاية عن نملة سليمان قالت نملة يا ايّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان و جنوده و هم لا يشعرون . فتبسّم ضاحكا من قولها و قوله تعالى حكاية عن سليمان يا أيّها الناس علّمنا منطق الطير و قوله عزّ و جلّ حكاية عن الهدهد و تكلّمه مع سليمان فقال ما لى لا أرى الهدهد ام كان من الغائبين . لأعذّبنّه عذابا . شديدا او لأذبحنّه او ليأتينّي بسلطان مبين . فمكث غير بعيد . فقال احطت بما لم . تحط به و جئتك من سباء بنباء يقين . انّى وجدت امرأة تملكهم و اوتيت من . كلّ شي‏ء و لها عرش عظيم . وجدتها و قومها يسجدون للشمس من دون اللّه و زيّن . لهم الشيطان اعمالهم فصدّهم عن السبيل فهم لا يهتدون . ألاّ يسجدوا اللّه الذّى يخرج . الخبأ في السموات و الارض و يعلم ما تخفون و ما تعلنون . اللّه لا اله الاّ هو ربّ العرش . العظيم . قال سننظر أصدقت ام كنت من الكاذبين . و في هذه الآية وجوه من الدّلالة على المدّعى . احدها دلالة هذه الآيات بمجموعها على أنّ سليمان كان مع الهدهد في مقام الخطاب و السؤال و الجواب حتّى نزله في آخر مقاله منزلة العاقلين و جعل خبره محتملا للصدق و الكذب و قال سننظر أ صدقت ام كنت من الكاذبين و ذلك كلّه يدلّ على أنّه كان عالما فهما شاعرا لما يقول و يجيب به . الثاني قوله لاعذّبنّه عذابا فانّ التعذيب لا يجوز من النّبى المعصوم إلاّ مع التقصير في التكليف ، و الهدهد لما كان مأمورا بطاعته كساير الوحوش و الطيور استحقّ العقاب لغيبته بدون اذنه ، و اعترف الرازى أيضا بذلك حيث قال قوله « لاعذّبنّه عذابا » اه فهذا لا يجوز أن يقوله إلاّ فيمن هو مكلّف أو فيمن قارب العقل فيصلح لأن يؤدّب . [ 230 ] الثالث قوله « احطت بما لم تحط به » فقد قال الرازي : فيه تنبيه لسليمان على أنّ في أدنى خلق اللّه من أحاط علما بما لم يحط به ، فيكون ذلك لطفا له في ترك الاعجاب و الاحاطة بالشي‏ء أن يعلم من جميع جهاته . الرابع ما دلّ عليه قوله « وجدتها و قومها يسجدون » إلى قوله « لا يهتدون » من أنّ الهدهد كان له معرفة باللّه و بوجوب السجود له و أنه أنكر سجودهم للشمس و أضافه إلى الشيطان و تزيينه . و ما قاله الجبائى من أنّ الهدهد لم يكن عارفا باللّه و إنما أخبر بذلك كما يخبر مرهقو صبياننا لأنه لا تكليف إلاّ على الملائكة و الانس و الجنّ ، فيرانا الصّبى على عبادة اللّه فيتصوّر أن ما خالفها باطل ، فكذلك الهدهد تصوّر أنّ ما خالف فعل سليمان باطل . فهو خلاف ظاهر القرآن لأنه لا يجوز أن يفرق بين الحقّ الذى هو سجود للّه و بين الباطل الذى هو السجود للشمس ، و أنّ أحدهما حسن و الآخر قبيح إلاّ العارف باللّه و بما يجوز عليه و بما لا يجوز عليه خصوصا مع نسبة تزيين أعمالهم و صدّهم عن طريق الحقّ إلى الشيطان ، و هذا مقالة من يعرف العدل و أنّ القبيح غير جايز على اللّه سبحانه . الخامس استنكاره عليهم في ترك السجود للّه بقوله « ألاّ يسجدوا للّه » على القول بأنّ هذا الكلام إلى قوله « العظيم » من تمام الحكاية لمقال هدهد كما عليه اكثر المفسرين لا جملة معترضة و من كلامه سبحانه كما ذهب إليه بعضهم . السادس قوله « الّذى يخرج الخبأ » إلى قوله « و ما يعلنون » نصّ في معرفة الهدهد بقدرة اللّه و بعلمه . السابع قوله « لا اله الاّ هو ربّ العرش العظيم » فانّه نصّ صريح في معرفته باللّه و توحيده و تنطّقه بكلمة التوحيد و تسبيحه له و تقديسه من الشريك و وصفه بالربوبيّة ، هذا . و من الأدلّة أيضا قوله سبحانه فى سورة النور الم تر انّ اللّه يسبّح له من فى [ 231 ] السموات و الارض و الطير صافات كلّ قد علم صلوته و تسبيحه على أنّ الضمير في علم راجع إلى الطير كما عليه جملة من المفسّرين . و من السنة الأخبار الكثيرة العامية و الخاصيّة الدالّة على أنّ لها تسبيحا و ذكرا ، و أنها تعرف خالقهم و مصالحهم و مفاسدهم ، و أنه لا يصاد صيد فى برّ أو بحر من طير أو وحش إلاّ بتضييعه التسبيح . فمنها ما رواه في البحار من قصص الأنبياء عن ابن عبّاس عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث طويل أجاب فيه عن مسائل قوم من أحبار اليهود قال : قالوا : فأخبرنا ما تقول هذه الحيوانات ؟ قال عليه السّلام : درّاج يقول : الرّحمن على العرش استوى ، و الدّيك يقول : اذكروا اللّه يا غافلين ، و الفرس يقول إذا مشى المؤمنون إلى الكافرين : اللّهم انصر عبادك المؤمنين على عبادك الكافرين ، و الحمار يلعن العشّار و ينهق فى عين الشيطان ، و الضّفدع يقول : سبحان ربّى المعبود و المسبّح في لجج البحار ، و القنبر يقول : اللّهم العن مبغضى محمّد و آل محمّد . و عن حيوة الحيوان : ذكر السرحان سبحان ربّى ، و ذكر الدّراج : الرّحمن على العرش استوى ، و العقاب : البعد عن الناس راحة ، و الخطاف : الفاتحة إلى آخرها و تمدّ صوته بقوله و لا الضّالين ، و البازى : سبحان ربّى و بحمده ، و القمرى : سبحان ربّى الأعلى ، و الغراب : يلعن العشار ، و الحدئة : كلّ شى‏ء هالك إلاّ اللّه ، و القطاة : من سكت سلم ، و العنقا : ويل لمن كانت الدّنيا همّه ، و الزرزور : اللّهم أسألك رزق يوم بيوم يا رزّاق ، و القبرة : اللّهم العن مبغضي محمّد و آل محمّد ، و الدّيك : اذكروا اللّه يا غافلين ، و النسر : يا ابن آدم عش ما شئت فانّ آخره الموت ، و الفرس عند ملتقى الجمعين : سبّوح قدّوس ربّ الملائكة و الرّوح ، و الحمار يلعن المكارى و كسبه ، و الضّفدع : سبحان ربّى القدّوس . و منها ما ورد في أخبار كثيرة في حديث المعراج و غيره من أنّ للّه ملكا في صورة الدّيك براثينه في الأرضين السابعة و عرفه تحت العرش و له جناحان يصفق بهما فاذا كان وقت السحر يسبّح اللّه سبحانه و يقول في تسبيحه : سبّوح قدّوس ربّ [ 232 ] الملائكة و الرّوح ، و في رواية سبحان الملك القدوس سبحان اللّه الكبير المتعال لا إله إلاّ الحىّ القيّوم ، فلا يبقى فى الأرض ديك إلاّ أجابه و رفع صوته بالتسبيح ، قال أمير المؤمنين عليه السّلام و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ و الطّير صافات كلّ قد علم صلاته و تسبيحه . و مثلها الأخبار الواردة في مدح أجناس الطير و البهايم كالحمام و البلبل و القنبر و الحجل و الدّراج و ما شاكل ذلك من فصيحات الطّير معلّلا بأنّها تنطق بالثناء على اللّه و على أوليائه و دعا لهم و دعا على أعدائهم ، و ذم أجناس اخر كالفواخت و الرخم و العنقا و البوم و الجرّى و المار ماهى و الوزغ و نحوها لتنطقهم بذمّ أولياء اللّه و انكارهم للولاية . و هذه الأخبار فوق حدّ الاحصاء فلا يبقى مجال لانكار تسبيحها القولى بمحض استبعاد الأوهام أو تقليدا للفلاسفة الّذين استبدّوا بالعقول و لم يؤمنوا بما جائت به الأنبياء الكرام عليهم السّلام ، و أىّ دليل على عدم شعورها و إدراكها للكلّيات و عدم تكلّمها و نطقها ، فانا كثيرا ما نسمع بعض كلام النّاس مع غيرهم ممن لا نفهم لغاتهم بوجه ، فنظنّ أنّ كلامهم كأصوت الحيوانات لا نميّز بين كلماتهم و نتعجب من فهم البعض كلام بعض و لا استبعاد في كونها مكلّفة ببعض التكاليف و تعذّب في الدّنيا بتركها بأن يصاد أو يذبح ، أو في الآخرة أيضا كما روى في تأويل قوله تعالى و إذا الوحوش حشرت و إن لم يكن تكليفها عاما و عقابها أبديّا لضعف إدراكها . قال السيّد المحدّث الجزايرى في كتاب زهر الرّبيع : تحقيق المقام أنّ النفس الناطقة إن كانت عبارة عن قوّة النطق و ابراز الكلام فالحيوانات لها كلام يفهمه بعضها عن بعض كما هو المشاهد منها خصوصا مع أولادها ، و فسّر كلام بعضها الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام . و إن كان المراد منها إدراك الكليات و العلوم كما هو الشايع في إطلاق النفس الناطقة ، ففى الحيوانات من يدرك من جزئيات العلوم ما لا يدركه أعقل النّاس كادراك القرد من لطايف الحيل و دقايق الامور ما لا يخفى ، و كذلك النحل . [ 233 ] و إن كان المراد من النفس الناطقة فهم كتابى الشفاء و الاشارات و نحوهما ، فانّ بعد كثير من النّاس عن هذا أبعد من الثرى إلى الثريّا . قال و إلى هذا ذهب الشيخ شهاب الدّين ، و قد صرّح ابن سينا في جواب أسؤلة بهمنيار إنّ الفرق بين الانسان و الحيوانات في هذا الحكم مشكل . و قال القيصرى في شرح فصوص الحكم ما قاله المتأخرّون من أنّ المراد بالنطق إدراك الكليات لا التكلّم مع كونه مخالفا بوضع اللغة لا يفيدهم لأنه موقوف على أنّ النفس الناطقة المجرّدة خاصّة بالانسان ، و لا دليل لهم على ذلك و لا شعور لهم بأنّ الحيوانات ليس لها إدراك الكليّات ، و الجهل بالشي‏ء لا ينافي وجوده و إمعان النّظر فيما يصدر عنها من العجايب يوجب أن يكون لها إدراك الكليّات انتهى . و قال المحقق الدوانى في شرح هياكل النور : اعتقادنا أنّ جميع الحيوانات لها نفوس مجرّدة كما فى الانسان ، و بعض القدماء على ذلك بل صرّح بعضهم بأنّ النبات لها نفوس ناطقة أيضا . اذا عرفت ذلك فلنذكر ما ذكره الفخر الرازى في هذا المقام . قال في تفسير قوله تعالى يسبّح له السموات السبع و الأرض و من فيهنّ : اعلم أنّ الحىّ المكلف يسبّح للّه بوجهين : الأوّل بالقول كقوله باللسان سبحان اللّه ، و الثانى بدلالة أحواله على توحيد اللّه و تقديسه و عزّته ، فأمّا الّذى لا يكون مكلّفا مثل البهايم و من لا يكون حيّا كالجمادات فهى إنّما تسبّح اللّه بالطريق الثانى ، لأنّ التسبيح لا يحصل إلاّ مع الفهم و العلم و الادراك و النطق و كلّ ذلك في الجماد محال فلم يبق حصول التسبيح في حقه إلاّ بالطريق الثاني . و انت بعد الخبرة بما ذكرنا تعرف فساد ما ادّعاه بما لا مزيد عليه ، و العجب أنّه عمّم دعواه للبهايم و الجماد و خصّ دليله بالجماد فقط ، فان كان مقصوده أنّ البهايم مثل الجماد في عدم العلم و الادراك و كان اكتفاؤه بالجماد من باب الاختصار فهو ممنوع لما ذكرناه من الآيات الصّريحة في أنّ لها إدراكا و فهما و شعورا ، و إلاّ فدليله أخصّ من مدّعاه و ستعرف بطلان دليله في الجماد أيضا [ 234 ] انشاء اللّه تعالى . و اما علم الهدى فقد بالغ في إنكار تسبيح الحيوان ، و شدّد النكير على من ادّعاه و أطال الكلام في تأويل الآيات و الأخبار بما يشمئزّ منه الطباع و يأبي عنه الذّوق السليم و الطبع المستقيم ، و صرفها عن ظواهرها بغير دليل . و عمدة جهة مصيره إلى الخلاف هو عدم عمله بأخبار الآحاد ، و قد أقام علماؤنا الاصوليّون أدلّة معتبرة من الكتاب و السنّة و الاجماع و العقل على حجيّتها ، و بعد ثبوت الحجيّة فالأخبار الّتي يثبت المدعى و تبطل قول المرتضى فوق حدّ الاحصاء هذا تمام الكلام في التسبيح القالي للحيوان . و اما في الجماد و النّبات و السّماء و الأرض و غيرها مما ليس لها حركات إرادية فالظاهر من أخبار الأئمة الأطهار عليهم السّلام ثبوته أيضا . فقد روى في الصّافي من الكافي عن الصادق عليه السّلام تنقض الجدر تسبيحها . و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل أ تسبّح الشجر اليابسة ؟ فقال : نعم أما سمعت خشب البيت كيف ينقض فذلك تسبيحه فسبحان اللّه على كلّ حال . و في البحار من العيون عن الرضا عن آبائه عن الحسين بن علىّ و محمّد بن الحنفيّة عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهم أجمعين قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول : تختّموا بالعقيق فانّه أوّل جبل أقرّ للّه بالوحدانيّة ولي بالنّبوة و لك يا على بالوصيّة . و الأخبار في هذا المعني كثيرة لا حاجة إلى الاطالة بروايتها . و قد خالفنا فيه الرازى أيضا فانّه قال من لا يكون حيّا مثل الجمادات فهي إنّما تسبّح اللّه بالطريق الثانى ، لأنّ التسبيح بالطريق الأوّل لا يحصل الاّ مع الفهم و العلم و الادراك و كلّ ذلك في حقّ الجماد محال فلم يبق حصول التسبيح في حقّه إلاّ بالطريق الثاني ثمّ قال : و اعلم أنا لو جوّزنا في الجماد أن يكون عالما متكلّما لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى عالما قادرا على كونه حيّا و حينئذ ينسدّ علينا باب العلم بكونه حيّا و ذلك كفر ، فانّه يقال إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات اللّه تعالى و صفاته [ 235 ] و تسبيحه مع أنّها ليست باحياء فحينئذ لا يلزم من كون الشي‏ء عالما قادرا متكلما كونه حيّا و ذلك جهل و كفر لأنّ من المعلوم بالضرورة أنّ من ليس بحىّ لم يكن عالما قادرا ، انتهى و محصل دليله أمران احدهما أنّ التسبيح القالى مستلزم للعلم و الفهم و الادراك و هو في حقّ الجماد محال و ثانيهما أنه لو كان متكلّما لانسدّ باب الاستدلال على حياة اللّه سبحانه بالتقريب الّذى ذكره . و يتوجه على دليله الاول أنه إن أراد الاستحالة العقلية فممنوعة و إن أراد الاستحالة العادية فلا تثبت المدّعى و لا تفيد الامتناع ، و الشاهد على ذلك قوله سبحانه في سورة سبا و لقد آتينا داود منّا فضلا يا جبال أوّبي معه أى رجعي معه التسبيح قال عليّ بن إبراهيم القميّ أي سبّحي للّه و قال : كان داود إذا مرّ بالبراري يقرء الزبور و تسبّح الطير معه و الوحوش ، و قال الرازي قوله « يا جبال أوّ بى معه » قال الزمخشرى يا جبال بدل من قوله فضلا معناه و آتيناه فضلا قولنا يا جبال أو من آتينا و معناه قلنا يا جبال أوّبى ، انتهى . فنقول إذا جاز تعلّق خطابه سبحانه على الجبال بالتأويب تفضّلا منه على داود فيجوز تعلّق خطابه عليها في غير هذا المقام أيضا ، و بعبارة اخرى إذا كان الجبال قابلة للخطاب هناك كانت قابلة له مطلقا غاية الأمر أنّ تأويبها مع داود عليه السّلام كان ظاهرا يسمعه كلّ من حضر لإعجاز داود عليه السّلام نظير تسبيح الحصى في يد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، و فى ساير المقامات كان خفيّا لا يسمعه الناس كما قال تعالى و لكن لا تفقهون تسبيحهم . و أوضح من ذلك دلالة قوله تعالى في سورة ص و اذكر عبدنا داود ذا الأيد إنّه اوّاب . إنّا سخّرنا الجبال معه يسبّحن بالعشيّ و الاشراق . و الطير محشورة كلّ له أوّاب فانّ الآية السّابقة أفادت تعلّق خطابه سبحانه على الجبال بالتسبيح ، و هذه الآية دلّت على قبولها لذلك الخطاب و نصّت بأنّها يسبّحن بالرواح و الصباح و أنّ الطير شاركتها في التسبيح و أنّ كلاّ منها أوّاب له أى رجّاع إلى ما يريد [ 236 ] مطيع له بالتسبيح . و العجب أنّ الجبائي مع إنكاره لعرفان الهدهد باللّه حسبما حكينا عنه فى تفسير آية النّمل قال في تفسير هذه الآية : و لا يمتنع أن يكون اللّه خلق فى الطيور من المعارف ما يفهم به أمر داود و نهيه فتطيعه فيما يريده منها و إن لم تكن كاملة العقل مكلّفة . و قال الفخر الرازى : قوله و « سخّرنا الجبال معه » الآية إنّ اللّه سبحانه خلق فى جسم الجبال حياة و عقلا و قدرة و منطقا و حينئذ صار الجبل مسبّحا للّه و قوله « يسبّحن » يدلّ على حدوث التسبيح من الجبال شيئا فشيئا و حالا بعد حال ، و كان السامع محاضر تلك الجبال يسمعها تسبّح و قوله « و الطير محشورة » معطوفة على الجبال ، و التقدير و سخّرنا الطير محشورة قال ابن عبّاس : كان داود إذا سبّح جاوبته الجبال و اجتمعت إليه الطير فسبّحت معه ، و اجتماعها إليه هو حشرها فيكون حاشرها هو اللّه سبحانه . ثم قال الرازي : فان قيل كيف يصدر تسبيح اللّه عن الطير مع أنّه لا عقل لها قلنا لا يبعد أن يقال : إنّ اللّه كان يخلق لها عقلا حتّى يعرف اللّه فيسبّحه حينئذ و كلّ ذلك كان معجزة لداود عليه السّلام و قوله « كلّ له أوّاب » معناه كلّ واحد من الجبال و الطير أوّاب أى رجّاع ، أى كلّما رجع داود إلى التسبيح فهذه الأشياء أيضا كانت ترجع إلى تسبيحاتها ، و الفرق بين هذه الصّفة و بين ما قبلها أن فيما سبق علمنا أن الجبال و الطير سبّحت مع تسبيح داود ، و بهذا اللّفظ فهمنا دوام تلك الموافقة ، انتهى كلامه هبط مقامه . فقد ظهر بذلك أنّه معترف بتسبيح الجبال و الطيور مقرّ بأنه لا يبعد إفاضة اللّه إليها عقلا فتعرف اللّه و تسبّح غاية الأمر أنّه يقول إنّ ذلك كلّه كان معجزة لداود عليه السّلام . و يتوجّه عليه أنّه إذا لم يستبعد أن يفيض اللّه إليها عقلا فيأمرها بالتسبيح لغرض الاعجاز فأىّ بعد في إفاضة العقل إليها و أمرها بالتسبيح لا لذلك الغرض بل لمصالح اخر اقتضت ذلك ، و هذا يهدم مادّة الاستحالة الّتي ادّعاها ، فافهم جيّدا و اغتنم [ 237 ] و تدبّر ، هذا . و يتوجه على دليله الثانى أنّ إثبات الحياة للّه سبحانه لا ينحصر دليله في العقل بل الاجماع و الأدلّة النقليّة على اتّصافه بالحياة قائمة ، و قد دللنا على جملة من صفاته بالسمع ككونه متكلّما سميعا بصيرا فليكن صفة الحياة مثلها . قال صدر المتألهين في المبدء و المعاد : الحياة في حقنا يتمّ بادراك هو الاحساس و فعل هو التحريك منبعثين عن قوّتين مختلفتين ، و لما ورد الشريعة باطلاقها عليه تعالى فالحىّ فى حقه تعالى هو الدراك الفعال ، فاذا كان علمه مبدء للوجود كله فهو حىّ اذ لم يزد علمه على ذاته و لا افتقار له في الفعل إلى قوّة محرّكة دالّة كمالنا بل ذاته يعلم و يفعل فذاته حياته ، انتهى . فقد انقدح مما ذكرنا أن انتقاض دليل العقل للحياة بتسبيح الجماد لا يستلزم انتفاء الدليل مطلقا حتّى من السمع ، فلا يكون انتقاضه موجبا لانسداد باب الاستدلال رأسا و لا للكفر أصلا ، فلا إله إلاّ اللّه الحىّ القيّوم تعالى شأنه و عظم سلطانه . هذا كلّه على أن نقول بأن تسبيح السّماء و الأرض و الجماد و النبات مثل تسبيح ذوى العقول و أنه بالذكر و البيان و النطق و اللسان . و أما على القول بأنّ تسبيحها مغاير لتسبيحهم و أنّ تسبيح السماء بدورانها ، و الماء بجريانها ، و تسبيح ساير الأشياء على حسبما طلبه منها ربّها و بارؤها كما قال به أهل العرفان و المعقول ، و نطق به أخبار آل الرسول فيرتفع الاشكال رأسا . قال القميّ في تفسير قوله تعالى « يتفيّؤ ظلاله عن اليمين و الشمائل سجدا للّه » الآية تحويل كلّ ظلّ خلقه اللّه هو سجود للّه ، و قال بعض أهل المعرفة في تفسير هذه الآية إنّ أمثال هذه الآيات تدلّ على أنّ العالم كلّه في مقام الشهود و العبادة إلاّ مخلوق له قوّة التفكر و ليس إلاّ النفوس الناطقة الانسانيّة و الحيوانية خاصة من حيث أعيان أنفسهم لا من حيث هياكلهم ، فانّ هياكلهم كساير العالم في التسبيح له و السجود ، فأعضاء البدن كلّها مسبّحة ناطقة ألا تراها تشهد على النفوس المسخرة لها يوم القيامة من الجلود و الأيدى و الأرجل و الألسنة و السمع و البصر و جميع [ 238 ] القوى ، فالحكم للّه العلى الكبير . و قال صدر المتألّهين في كتاب المبدء و المعاد : و مما يجب عليك أن تعتقد أنّ الواجب تعالى كما أنّه غاية الأشياء بالمعنى المذكور ، فهو غاية بمعني أنّ جميع الأشياء طالبة لكمالاتها و متشبّهة به تعالى فى تحصيل ذلك بحسب ما يتصوّر في حقّها ، و لكلّ منها شوق و عشق إليه إراديّا كان أو طبيعيّا ، و الحكماء الالهيّون حكموا بسريان العشق و الشوق في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتهم ، فلكلّ وجهة هو مولّيها يحسن اليها و يقتبس بنار الشوق نور الوصول لديها ، و إليه اشير في قوله « و ان من شي‏ء إلاّ يسبّح بحمده » . و قد صرّح الشيخ الرّئيس في عدّة مواضع من التعليقات بأنّ القوى الأرضية كالعقول الفلكية في أنّ الغاية في أفاعيلها ما فوقها إذ هى لا تحرّك المادّة لتحصيل ما تحتها من المزاج و غيره ، و ان كانت هذه من التوابع اللاّزمة ، بل الغاية في تحريكاتها كونها على أفضل ما يمكن لها ليحصل لها التشبه بما فوقها كما في تحريكات نفوس الأفلاك أجرامها بلا تفاوت ، فقد ثبت أنّ غاية جميع المحرّكات من القوى العالية و السّافلة في تحريكها لما دونها استكمالها بما فوقها و تشبهها به إلى أن ينتهى سلسلة التشبهات و الاستكمالات إلى الغاية الأخيرة و الخير الأقصى الّذي يسكن عنده السلك و تطمئنّ به القلوب ، و هو الواجب جلّ مجده ، فيكون غاية بهذا المعنى أيضا ، و بهذا نعلم حقيقة كلامهم : لو لا عشق العالي لا نطمس السّافل ، ثم لا يخفى عليك إنّ فاعل التسكين كفاعل التحريك في أنّ مطلوبه ليس ما تحته كالأين مثلا ، بل كونه على أفضل ما يمكن له كما قال المعلم الثّاني : صلت السّماء بدورانها و الأرض برجحانها و قيل في الشعر : و ذلك من عميم اللّطف شكر و هذا من رحيق الشوق شكر هذا و قد ظهر بما ذكرنا كلّه أنّ حمده سبحانه و ثنائه و تسبيحه و تقديسه فاش في مخلوقاته حالا أو مقالا و علم أنّه لا حاجة إلى تكلّف حذف المضاف في قوله الفاشي حمده بأن يقال : المراد الفاشي سبب حمده و هو النعم التي لا يقدر قدرها كما [ 239 ] تكلّفه الشارح المعتزلي . ( و الغالب جنده ) كما قال سبحانه و إنّ جندنا لهم الغالبون و قوله فانّ حزب اللّه هم الغالبون أى جنده ، و المراد بجنده في السماء هو الملائكة قال تعالى و أنزل جنودا لم تروها و عذّب الذين كفروا و ذلك جزاء الكافرين و قال أيضا فأنزل اللّه سكينته عليه و أيّده بجنود لم تروها و جعل كلمة الّذين كفروا السفلي و كلمة اللّه هى العليا و اللّه عزيز حكيم . و المراد بجنده في الأرض الناصرون لدينه . روى في الصافي من التوحيد عن الصادق عليه السّلام يجي‏ء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم القيامة آخذا بحجزة 1 ربه و نحن آخذون بحجزة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و شيعتنا آخذون بحجزتنا فنحن و شيعتنا حزب اللّه و حزب اللّه هم الغالبون ، و اللّه ما يزعم أنها حجزة الازار ، و لكنها أعظم من ذلك يجي‏ء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آخذا بدين اللّه و نحن نجى‏ء آخذين بدين نبيّنا و يجي‏ء شيعتنا آخذين بديننا . فان قيل : غلبة جنده السماوى فى كلّ وقت لا غبار عليه و لا اشكال فيه ، و أما جند الأرض فربما يكون مغلوبا و كفى به شاهدا وقعة الطف و شهادة سيد الشهداء عليه السّلام مع أولاده و اخوانه و أتباعه و أنصاره مع كونهم حزب اللّه و أنصار دين اللّه فما معني قوله عليه السّلام : الغالب جنده ؟ و قوله تعالى : فانّ حزب اللّه هم الغالبون ؟ . قلت : يحتمل أن يكون غلبة جنده و حزبه محمولا على الغلبة بالحجّة أو على الأغلب لأنّه سبحانه أعزّ جنده و نصر أنصار دينه في أغلب الأوقات و أيّدهم بالجنود السماوية كما قال عزّ من قائل لقد نصر كم اللّه في مواطن كثيرة و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا و ضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثمّ وليّتم مدبرين . ثمّ أنزل اللّه سكينته على رسوله و على المؤمنين و أنزل جنودا لم تروها و عذّب الّذين كفروا و ذلك جزاء الكافرين . و يجوز أن يقال : إنّ جنده و إن كان مغلوبا احيانا في أوّل الأمر و لكن الغلبة لهم في آخره كما قال تعالى يريدون ان يطفؤا نور اللّه بأفواههم و يأبي اللّه إلاّ ان يتمّ ----------- ( 1 ) الحجزة مقعد الازار ، منه . [ 240 ] نوره و لو كره الكافرون . هو الذى أرسل رسوله بالهدى و دين الحقّ ليظهره على الدّين كله و لو كره المشركون . روى في الصافي من الاكمال عن الصادق عليه السّلام و قد ذكر شق فرعون بطون الحوامل في طلب موسى كذلك بني اميّة و بنو العبّاس لما أن وقفوا على أنّ زوال ملك الأمراء و الجبابرة منهم على يد القائم عليه السّلام ناصبونا العداوة و وضعوا سيوفهم في قتل أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إبادة نسله طمعا في الوصول إلى قتل القائم عليه السّلام فأبي اللّه أن يكشف أمره لواحد من الظلمة إلاّ أن يتمّ نوره و لو كره المشركون . و فيه من الاكمال عن الصادق عليه السّلام في قوله « ليظهره على الدّين كلّه » و اللّه ما نزل تأويلها بعد و لا نزل تأويلها حتى يخرج القائم فاذا خرج القائم عليه السّلام لم يبق كافر باللّه العظيم و لا مشرك بالامام إلا كره خروجه حتّى لو كان كافر أو مشرك في بطن صخرة لقالت يا مؤمن في بطني كافر فاكسرني و اقتله . و عن الباقر عليه السّلام القائم منّا منصور بالرّعب مؤيّد بالنّصر ، تطوى له الأرض و تظهر له الكنوز يبلغ سلطانه المشرق و المغرب و يظهر اللّه دينه على الدّين كلّه فلا يبقى في الأرض خراب إلاّ عمر . ( و المتعالى جدّه ) قال الطبرسيّ في قوله سبحانه تعالى جدّ ربّنا ما اتّخذ صاحبة و لا ولدا معناه تعالى جلال ربّنا و عظمته عن اتّخاذ الصّاحبة و الولد عن الحسن و مجاهد ، و قيل : معناه تعالت صفات اللّه الّتي هي له خصوصا و هي الصفات العالية الّتي ليست للمخلوقين ، و قيل : معناه تعالى جدّ ربّنا في صفاته فلا تجوز عليه صفات الأجسام و الأعراض ، و قيل : تعالى قدرة ربّنا عن ابن عبّاس و قيل : تعالى ذكره ، و قيل : فعله و أمره ، و قيل : علا ملك ربّنا ، و قيل : تعالى آلاؤه و نعمه على الخلق ، قال الطبرسي : و الجميع يرجع إلى معنى واحد و هو العظمة و الجلال ، انتهى . [ 241 ] و فى تفسير عليّ بن إبراهيم عن الصادق عليه السّلام في تفسير هذه الآية قال : هي شي‏ء قالته الجنّ بجهالته فلم يرضه اللّه منهم ، و معنى جدّ ربّنا بخت ربّنا . و في المجمع و عن التهذيب و الخصال عن الباقر عليه السّلام إنما هو شي‏ء قالته الجنّ جهالة فحكي اللّه عنهم ، يعني ليس للّه جدّ و إنما قالته الجنّ جهالة . فان قلت : لفظ الجدّ قد استعمله أمير المؤمنين عليه السّلام أيضا في كلامه و وصف اللّه سبحانه به فكيف التوفيق بينه و بين روايتي الباقر و الصادق عليهما السّلام . قلت : الجدّ حسبما عرفت قد يطلق بمعني العظمة و الجلال ، و قد يطلق بمعني البخت و الطالع ، و لا بأس باستعماله فيه تعالى بالمعني الأوّل كما في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام و أما استعماله فيه سبحانه بالمعني الثاني فغير جايز ، و لما عرف الأئمة عليهم السّلام انّ الجنّ يصفونه سبحانه به مريدين به المعني الثاني لا جرم نسبوهم إلى الجهالة . و لما حمد اللّه سبحانه باعتبارات لا يليق إلاّ له عقّبه بالاشارة إلى سبب الحمد فقال : ( أحمده على نعمه التوام و آلائه العظام ) أى على نعمه المترادفة المتواترة الّتي لا فترة بينها كالتوامين من الأولاد يجي‏ء أحدهما على الآخر ، و على آلائه العظيمة الّتي يعجز عن معرفتها العقول و يحصر عن إحصائها اللسان و يقصر عن وصفها المنطق و البيان ، و ان شئت أن تعرف انموزجا من نعم اللّه سبحانه عليك ، فلنقتصر على نعمة الأكل الّتي بها قوام بدن الانسان و نشر إلى جملة من الأسباب الّتي بها تتم نعمة الأكل . فنقول : إنّ الأكل فعل من الأفعال و كلّ فعل فهو حركة و الحركة لا بدّ لها من جسم متحرّك هو آلتها ، و لا بدّ لها من قدرة على الحركة ، و إرادة محرّكة له فلنذكر الأعضاء الّتي لها مدخلية في الأكل ليقاس عليها غيرها . فنقول : إذا رأيت الطعام من بعد و اشتهيت أكله فلا بدّ لك من الحركة اليه ، و حركتك لا تنفع ما لم تتمكن من أخذه فافتقرت إلى آلة باطشة فأنعم اللّه عليك بخلق اليدين و هما طويلتان مشتملتان على مفاصل كثيرة لتتحرّك في الجهات فتمتدّ و تثني اليك ، فلا تكون كخشبة منصوبة ثمّ جعل رأس اليد عريضا يخلق الكفّ ثمّ قسّم رأس الكفّ بخمسة أقسام هي الأصابع ، و جعلها في صفّين ليكون الابهام . [ 242 ] في جانب و يدور على الأربعة الباقية ، و لو كانت جميعها في صفّ واحد لم يحصل بها تمام الغرض ، فوضعها بحيث إن بسطتها كانت لك مجرفة ، و إن ضممتها كانت مغرفة ، و إن جمعتها كانت آلة للضرب ، و إن نشرتها ثمّ قبضتها كانت لك آلة في القبض . ثمّ خلق لها أظفارا لتصون رؤوس الأصابع من التفتّت ، و لتلتقط بها الأشياء الدقيقة الّتي لا تحويها الأصابع فتأخذها برؤوس أظفارك . فاذا أخذت بها الطعام فلا ينفعك الأخذ إلاّ إذا أمكنك ايصاله إلى المعدة ، و هي في الباطن فلا بدّ و أن يكون في الظاهر دهليز إليها حتّى يدخل الطعام منه ، فلا ينفعك منه . فجعل الفم منفذا إلى المعدة مع ما فيه من الحكم الكثيرة وراء كونه منفذا للطعام إلى المعدة . ثمّ إذا وضعت الطعام في الفم و هو قطعة فلا يتيسّر لك ابتلاعه حتّى تطحن فخلق لك اللّحيين من عظمين و ركّب فيهما الأسنان و طبق الأضراس من العليا على السفلي لتطحن بهما الطعام طحنا . ثمّ الطعام تارة يحتاج إلى الكسر و تارة إلى القطع ، ثمّ إلى الطحن بعد ذلك ، فقسّم الأسنان إلى عريضة طواحن كالأضراس ، و إلى حادّة قواطع كالرباعيات ، و إلى ما يصلح للكسر كالأنياب . ثمّ جعل مفصل اللّحيين متخلخلا بحيث يتقدّم و يتأخر حتىّ يدور على الفكّ الأعلى دوران الرّحى ، و لو لا ذلك لما تيسّر إلاّ ضرب أحدهما على الآخر مثل تصفيق اليدين و لا يتحصّل به الطحن ، فجعل اللّحي الأسفل متحرّكا حركة دوريّة و اللّحى الأعلى ثابتا لا يتحرّك عكس الرّحى الذى يصنعه المخلوق ، فانّ الحجر الأسفل منه يسكن و الأعلى يتحرّك . ثمّ إنّك إذا وضعت الطعام في فضاء الفم فهو يحتاج إلى التصريف و التقليب و الحركة من جانب إلى جانب ، و لا يمكن أن يكون حركته باليد و هو في داخل الفم ، فأنعم اللّه سبحانه بخلق اللسان ، فانّه يطوف في جوانب الفم و يردّ الطعام [ 243 ] من الوسط إلى الاسنان بحسب الحاجة كالمجرفة التى تردّ الطعام إلى الرحى ، هذا . مضافا الى ما فيه من فائدة الذّوق و قوّة النطق و الحكم الّتي لا نطيل بذكرها . ثمّ لما كان الطعام ربما يكون يابسا فلا يمكن ابتلاعه إلاّ بأن ينزلق إلى الحلق بنوع رطوبة ، خلق اللّه سبحانه تحت اللسان عينا يفيض منها اللعاب ، و ينصبّ بقدر الحاجة حتّى يتعجن به الطعام . و لما لم يمكن ايصاله إلى المعدة بدفعه باليد و لم تكن المعدة ممتدّة حتّى تجذبه من الفم إلى نفسها ، هيّأ اللّه سبحانه المرى و الحنجرة و جعل على رأسها طبقات تنفتح لأخذ الطعام ثمّ تنطبق و تنضغط حتّى ينقلب الطعام بضغطه فيهوى إلى المعدة في دهليز المرى . فاذا ورد الطعام على المعدة و هو خبز و فاكهة مقطعة فلا يصلح أن يصير لحما و عظما و دما على هذه الهيئة بل لا بدّ و أن يطبخ طبخا تامّا حتّى تتشابه أجزاؤه ، فخلق اللّه تعالى المعدة على هيئة قدر فيقع فيها الطعام و تحتوى عليه و تغلق عليه الأبواب ، فلا يزال يلبث فيها إلى أن يتمّ الهضم و ينضج بالحرارة الّتي تحيط بالمعدة من الأعضاء الباطنة ، إذ من جانبها الأيمن الكبد ، و من الأيسر الطحال ، و من قدّام الترائب ، و من خلف لحم الصّلب ، فتتعدّى الحرارة إليها من تسخين هذه الأعضاء الّتي بها ينطبخ الطعام و يصير مائعا متشابها يصلح للنفوذ في تجاويف العروق ، و عند ذلك يشبه ماء الشعير في تشابه أجزائه و رقّته ، و هو بعد لا يصلح للتغذية ، فخلق اللّه تعالى بينها و بين الكبد مجارى من العروق و جعل لها فوهات كثيرة حتّى ينصب الطعام فيها فينتهى إلى الكبد . و الكبد معجون من طينة الدّم حتّى كأنّه دم ، و فيه عروق كثيرة شعرية منتشرة في أجزاء الكبد ، فيصبّ الطعام الرقيق النافذ فيها و ينتشر في أجزائها حتّى تستولي عليه قوّة الكبد ، فتصبغه بلون الدّم فيستقرّ فيها ريثما يحصل له نضج آخر و يحصل له هيئة الدّم الصافي الصّالح لغذاء الأعضاء إلاّ أنّ حرارة الكبد هي التي تنضج هذا الدّم . [ 244 ] فيتولّد من هذا الدّم فضلتان كما يتولد في جميع ما يطبخ أحدهما شبيهة بالدّردى و العكر و هو الخلط السّوداوى ، و الآخرى شبيهة بالرغوة و هي الصّفراء ، و لو لم تفصل عنه فضلتان فسد مزاج الأعضاء . فخلق اللّه المرارة و الطحال و جعل لكلّ منهما عنقا ممدودا إلى الكبد داخلا في تجويفه فتجذب المرارة الفضلة الصّفراوية ، و يجذب الطحال العكر السّوداوي فيبقي الدّم صافيا ليس فيه إلاّ زيادة رطوبة ورقة . فخلق اللّه سبحانه الكليتين و أخرج من كلّ منهما عنقا طويلا إلى الكبد و من عجائب حكمة اللّه تعالى أنّ عنقها ليس داخلا في تجويف الكبد بل متصل بالعروق الطالعة من حدبة الكبد حتّى يجذب ما يليها بعد الطلوع من العروق الدّقيقة التي في الكبد ، إذ لو اجتذب قبل ذلك لغلظ و لم يخرج من العروق ، فاذا انفصلت منه المائية فقد صار الدّم صافيا من الفضلات الثلاث نقيّا من كلّ ما يفسد الغذاء . ثمّ إنّ اللّه اطلع من الكبد عروقا ، ثمّ قسّمها بعد الطلوع أقساما ، و شعّب كلّ قسم بشعب ، و انتشر ذلك في البدن كلّه من الفرق إلى القدم ظاهرا و باطنا فيجري الدّم الصافي فيها و يصل إلى أجزاء البدن تماما . و لو حلّت بالمرارة آفة فلم تجذب الفضلة الصّفراويّة فسد الدّم و حصل منه الأمراض الصفراويّة كاليرقان و البثور و الحمرة . و إن حلّت بالطحال آفة فلم يجذب الخلط السّوداوي حدثت الأمراض السّوداوية كالبهق و الجذام و الماليخوليا و غيرها . و ان لم تندفع المائية نحو الكلى حدث منه الاستسقاء و غيره . ثمّ انظر إلى بديع حكمته سبحانه كيف رتّب المنافع على هذه الفضلات الثلاث الخسيسة . أمّا المرارة فانّها تجذب بأحد عنقيها و تقذف بالعنق الآخر إلى الأمعاء ليحصل له في ثفل الطعام رطوبة زلقة و يحصل في الأمعاء لذع يحرّكها للدّفع فتنضغط حتّى يندفع الثفل و ينزلق و يكون صفرته لذلك . [ 245 ] و أمّا الطحال فانّه يحيل تلك الفضلة إحالة يحصل بها فيه حموضة و قبض ثمّ يرسل منها في كلّ يوم شيئا إلى فم المعدة فيحرّك الشهوة بحموضته و ينبّهها و يثيرها و يخرج الباقي مع الثفل . و أمّا الكلية فانّها تغتذي ممّا في تلك المائية من دم و ترسل الباقي إلى المثانة . و لنقتصر على هذا القدر من بيان نعم اللّه تعالى في الأسباب التي اعدّت للأكل ، و قد مرّ في شرح الفصل الخامس من فصول الخطبة الثانية و الثمانين بعض الكلام في تشريح جملة من أعضاء الانسان و قد علم مما أوردناه هناك و ههنا أنّ اللّه سبحانه أسبغ علينا نعمه ظاهرة و باطنة ، و هذا الّذي أوردناه قطرة من بحار نعم اللّه بل جملة ما عرفناه و عرفه الخلق من نعمه سبحانه بالاضافة إلى ما لم نعرفه و لم يعرفوه أقلّ من قطرة من بحر إلاّ أنّ من علم شيئا من ذلك عرف شمة من معاني قوله تعالى « و ان تعدّوا نعمة اللّه لا تحصوها » و نسأل اللّه سبحانه التوفيق لشكر نعمه ، و الثّناء عليها . و لما حمده سبحانه على نعمه المترادفة و آلائه العظيمة أردفه بالاشارة إلى أعظم نعمه سبحانه و هو نعمة العفو فقال : ( الذي عظم حلمه فعفى ) و الحلم في الانسان فضيلة يعسر معها انفعال النفس عن المكروهات المنافية للطبع ، و أما في اللّه سبحانه فيعود إلى عدم تعجيله بالعقوبة و الحليم من أسمائه الحسنى . قال أحمد بن فهد : الحليم هو ذو الصّفح و الاناة الذي لا يغيّره جهل جاهل و لا غضب مغضب و لا عصيان عاص . و لما وصف حلمه تعالى بالعظمة فرّع عليه وصفه بالعفو ، لأنّ عظم الحلم مستلزم للعفو و العفو من الأسماء الحسنى أيضا . قال ابن فهد : هو المحّاء للذّنوب الموبقات و مبدلها بأضعافها من الحسنات ، و العفو فعول من العفو و هو الصّفح عن الذّنب و ترك مجازاة المسى‏ء [ 246 ] و قيل : مأخوذ من عفت الريح إذا درسته و محته . و قوله ( و عدل في كلّ ما قضى ) يعني أنّ جميع مقتضياته و مقدّراته على حدّ الاعتدال و وجه الكمال مصون من التفريط و الافراط ، لجريانها جميعا على مقتضى الحكمة و النظام الأصلح ، و يحتمل أن يكون المراد بما قضاه ما حكم به ، فالمعنى أنه سبحانه عادل في تكاليفه و أحكامه الشرعيّة و ما يترتّب عليها من المثوبات و العقوبات ، لأنّ الظلم قبيح محال في حقه سبحانه و ما ربّك بظلاّم للعبيد . ( و علم ما يمضى و ما مضى ) لا يخفى ما في هذه القرينة من حسن الاشتقاق و تقديم يمضي على مضى لاقتضاء السجع و القافية مضافا إلى ما فيه من نكتة لطيفة ، و هو الاشارة إلى أنّ علمه بالمستقبل كعلمه بالماضي . و بعبارة اخرى علمه بالمستقبل و الماضي واحد بخلاف غيره فانّ علمهم بالماضى أسبق و أكمل من علمهم بالمضارع ، فاذا اريد وصف غيره بالعلم يقال : فلان علم ما كان و ما يكون أو يقال : علم ما مضى و ما يأتي ، فقدّم في وصفه سبحانه ما يأتي على ما سبق تنبيها على أنّ علمه ليس كعلم المخلوقين ، و المقصود به الاشارة إلى إحاطته سبحانه بجميع الامور مستقبلها و ماضيها كلّيها و جزئيها ، و قد مضى تحقيق ذلك في شرح الفصل السابع من المختار الأوّل و غيره أيضا فليتذكر . ( مبتدع الخلايق بعلمه ) أى مبدعهم و مخترعهم بارادته التي هي العلم بالاصلح و النظام الخير فيكون علمه سببا و علة لما ابتدع من مخلوقاته مقدّما عليه ، و على هذا فالباء في بعلمه سببيّة . و المستفاد من الشارح المعتزلي أنها باء المصاحبة حيث قال : قوله : مبتدع الخلايق بعلمه ، ليس يريد أنّ العلم علّة في الابداع كما يقال : هوى الحجر بثقله ، بل المراد أبدع الخلق و هو عالم كما تقول خرج زيد بسلاحه أى خرج متسلّحا . و الظّاهر أنّه وافق في ذلك المتكلمين حيث قالوا : إنّ العلم تابع للمعلوم و التابع يمتنع أن يكون سببا ، فالباء على رأيهم أيضا للاستصحاب ، و الحقّ ما ذكرناه لما مرّ من أمير المؤمنين عليه السّلام في المختار الأوّل من قوله : عالما بها قبل ابتدائها ، فانه [ 247 ] صريح في أنّ علمه سبحانه بالأشياء مقدّم على الأشياء و ليس تابعا لها ، و شرحناه هنا بما لا مزيد عليه و قد تقدّم الكلام مستوفي فى أنّ إبداع الأشياء إنما هو بالارادة و العلم فى شرح الفصل الثالث من المختار التسعين ، و لا حاجة هنا إلى الاطالة . ( و منشئهم بحكمه ) أى موجدهم بحكمه الالزامى التكوينى الذي لا يمتنع منه شي‏ء هو و حكم قدرته النافذ في الأشياء كلّها بالوجود و إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون . و يحتمل أن يكون المراد بالحكم الحكمة يعنى أنّه أوجد المخلوقات على وفق الحكمة و المصلحة و وضع كلاّ منها موقعه اللاّيق به ، و لا أحكام و لا نظام فوق أن يكون الموجودات على كثرتها و تفصيلها متفاوته متعاضدة منتفعة بعضها ببعض مؤدّية بعضها إلى بعض ، و يكون كثرتها ككثرة أعضاء شخص واحد و حركاتها المختلفة المتضادة كحركات صاحب الرقص المنتظم حيث يكون مع اختلاف هياتها سرعة و بطؤا و تعويجا و تقويما كهيئة واحدة ، فأجزاؤها جميعا مشدودة في رباط واحد مع أنّ كلاّ منها متوجّه نحو غاية مخصوصة تترتّب عليه ، و الكلّ من حيث هو كلّ له غاية واحدة و هو التوجّه إلى مبدعه و منشئه . و لما ذكر ايجاده سبحانه للأشياء على نحو الابداع و الانشاء و الاختراع لا بعنوان الاستفادة من الغير أكدّ ذلك أيضاحا بقوله . ( بلا اقتداء و لا تعليم و لا احتذاء لمثال صانع حكيم ) يعنى صنعه و ابداعه ليس باقتداء صانع صنع قبله فاتبعه و لا بتعليم ذلك الصانع له فيتعلمه لأنه سبحانه قبل القبل ليس شي‏ء قبله حتّى يستفيد منه و يتبعه و يحتذى حذوه ، و قد مضى نظير هذه الفقرة فى الفصل الثانى من فصول المختار التسعين و ذكرنا هنا ما ينفعك فى هذا المقام . ( و لا اصابة خطاء ) قال الشارح البحرانى أى لم يكن إنشاؤه للخلق أوّلا اتفاقا على سبيل الاضرار و الخطاء من غير علم منه ثمّ علمه بعد ذلك فاستدرك فعله و أحكمه فأصاب وجه المصلحة فيه ، و الاضافة بمعنى اللاّم لأنّ الاصابة من لواحق ذلك الخطاء ، انتهى . [ 248 ] أقول : محصله أنّه سبحانه لم يخطى‏ء في شى‏ء من خلقه فيصيبه و يصلحه أى يجبر خطائه بالصواب و فساده بالصّلاح ، و يحتمل أن يكون الاصابة بمعنى المصادفة و الوصول إلى الشي‏ء . ( و لا حضرة ملاء ) أى لم يكن خلقه للأشياء بحضور جماعة من العقلاء و أصحاب الرأى بحيث يشير كلّ منهم عليه برأيه و يعينه بقوله في كيفية خلقه كما هو المعروف في الصّناع البشريّة إذا أرادوا صنعة شي‏ء معظم يجتمعون مع أبناء نوعهم و يشاورونهم و يستمدّون منهم فيشيرون عليهم و يعينونهم ، لأنّ ذلك مستلزم للنقص و الافتقار و الحاجة و هو سبحانه منزّه عنه . و أيضا فانّ الملاء من جملة مخلوقاته فكيف يتصوّر حضورهم في خلق أنفسهم قال سبحانه « ما أشهدتم خلق السّموات و الأرض و لا خلق أنفسهم و ما كنت متّخذ المضلّين عضدا » أى أعوانا و هذا كلّه تنزيه لفعله من أن يكون مثل أفعال العباد محتاجا إلى معاونة الغير . و لما حمد اللّه سبحانه و أثنا عليه بما هو أهله اتبعه بالشهادة على رسالة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال : ( و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله ابتعثه ) أى بعثه ( و ) الحال أنّ ( النّاس ) يوم بعثه ( يضربون في غمرة ) أى يسيرون في الانهماك في الضّلال و الباطل لأنّهم يومئذ كما قال عليه السّلام في الفصل السادس عشر من المختار الأوّل : ملل متفرّقة و أهواء منتشرة و طرائق متشتّتة بين مشبه للّه بخلقه أو ملحد في اسمه أو مشير به إلى غيره . أو أنهم يسيرون في الشدّة و الزّحمة كما قال عليه السّلام في الفصل الأوّل من المختار السّادس و العشرين : إنّ اللّه بعث محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنتم معشر العرب على شرّ دين و في شرّ دار منيخون بين حجارة خشن و حيات صمّ تشربون الكدر و تأكلون الجشب و تسفكون دماءكم و تقطعون أرحامكم . ( و يموجون في حيرة ) أى يضطربون و يختلفون في حيرة و جهالة لكثرة الفتن في أيام الفترة و زمان البعثة كما قال عليه السّلام في الفصل الثالث من المختار : و الناس [ 249 ] في فتن تنجذم فيها حبل الدّين و تزعزعت سوارى اليقين و اختلف النجر و تشتّت الأمر و ضاق المصدر و عمى المخرج « إلى قوله » فهم فيها تائهون حايرون جاهلون مفتونون . ( و قد قادتهم أزمّة الحين ) أى أزمّة الهلاك كانت تجرّهم و تقودهم إلى الهلاك الدّائم و الخزى العظيم ، فالمراد بالحين الهلاك الاخروى لا الهلاك الدّنيوي و الموت كما زعمه البحراني ، و استعار لفظ الأزمة للمعاصي و الآثام و شبههم بالحيوان الذي يتبع قائده و يسير خلفه ، يعني أنّهم يتبعون الشّهوات و يسيرون خلف السّيئات فتقودهم إلى هلاك الأبد . ( و استغلقت على أفئدتهم أقفال الرّين ) شبّه رين الذنوب و هو وسخها و دنسها بالأقفال المغلقة و هو من تشبيه المعقول بالمحسوس و وجه الشبه أنّ الأقفال إذا اغلقت على الأبواب تمنع من الدّخول في البيت فكذلك رين الذّنوب إذا طبع على القلوب يمنع من دخول أنوار الحقّ فيها كما قال سبحانه « بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون » و ذكر الاستغلاق ترشيح للتشبيه أى استحكمت في قلوبهم أو ساخ الذّنوب بحيث صارت مانعة من إفاضة أنوار الحقّ إليها كالبيوت المغلقة بالأقفال المانعة من الدخول عليها . ثمّ شرع فيما هو الغرض الأصلي من الخطبة و هو النّصح و الموعظة فقال : ( اوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه فانّها حقّ اللّه عليكم ) لما كان التقوى عبارة عن إتيان الواجبات و اجتناب المنهيات جعلها حقّا للّه سبحانه ، إذ حقّه على عباده أن يعبدوه و يوحّدوه كما قال عزّ من قائل « و ما خلقت الجنّ و الانس الاّ ليعبدون » . ( و الموجبة على اللّه حقّكم ) أى جزاءكم ، و أتى بلفظ الحق للمشاكلة و مثله ما صدر عن صدر النّبوة في رواية معاذ المتقدّمة في شرح الفصل الرابع من المختار الأوّل قال : كنت رفقت النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال يا معاذ هل تدرى ما حقّ اللّه على العباد ؟ يقولها ثلاثا قلت : اللّه و رسوله أعلم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : حقّ اللّه عزّ و جلّ على العباد أن لا يشركوا به شيئا ، ثمّ قال : هل تدري ما حقّ العباد على اللّه إذا فعلوا ذلك ؟ [ 250 ] قلت : اللّه و رسوله أعلم ، قال : ألاّ يعذّبهم أو قال ألاّ يدخلهم النار . ( و أن تستعينوا عليها باللّه و تستعينوا بها على اللّه ) لا يخفي ما في هذه القرينة من حسن المقابلة ، و المراد بالاستعانة عليها باللّه أن يطلب منه سبحانه التوفيق و الاعانة على تحمل مشاقّ التكاليف الشرعيّة ، و بالاستعانة بها على اللّه الاستعداد بها على الوصول الى قرب الحق و جواره و ساحل عزّته و جلاله . ( فانّ التقوى في اليوم الحرز و الجنّة ) لم يقل فانها بل وضع المظهر موضع المضمر لزيادة التمكين في ذهن السامع كما في قوله : « قل هو اللّه احد اللّه الصمد » أو ايهام الاستلذاذ بذكره كما في قوله : ليلاى منكنّ أم ليلا من البشر يعني أنها في دار الدّنيا حرز حريز و حصن حصين يمنع المتحرّز بها و المتحصّن فيها من شرّ الأعداء كما قال تعالى « ان تصبروا و تتّقوا لا يضرّكم كيدهم شيئا » و هي جنّة و ترس يبقي المستتر بها من شدائد الدّنيا كما قال سبحانه « و من يتّق اللّه يجعل له مخرجا » . ( و في غد الطريق إلى الجنّة ) أى في يوم القيامة طريق إلى الجنّة و الخلود فيها كما قال عزّ و جلّ « و جنّة عرضها السموات و الارض اعدّت للمتّقين » . ( مسلكها واضح ) جلي و هي جادّة الشريعة و أيّ مسلك أوضح منها ( و سالكها رابح ) ملّى لأنّه يسلك بها الجنّة و أىّ سفر أربح منها ( و مستودعها حافظ ) لما كان التقوى زادا للآخرة شبّهها بالوديعة المودعة عند اللّه سبحانه و جعله تعالى بمنزلة المستودع ، أى قابل الوديعة ، و المراد أنّ مستودع التقوى و هو اللّه سبحانه حافظ لهذه الوديعة الّتي هو زاد الآخرة من التلف و الضّياع كما قال تعالى « إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا » . و يجوز أن يراد بالمستودع الملائكة الحفظة الّتي هي وسايط بين الخلق و بين اللّه ، فانهم لما كانوا مأمورين بكتابة أعمال العباد و حفظها و ضبطها كما قال تعالى و انّ عليكم لحافظين . كراما كاتبين . يعلمون ما تفعلون شبّههم بالمستودع أى المستحفظ الّذي يطلب منه حفظ الوديعة . [ 251 ] ثمّ أشار إلى عموم منفعتها و عدم اختصاص مطلوبيّتها بالمخاطبين فقال : ( لم تبرح عارضة نفسها على الامم الماضين منكم و الغابرين ) أى لم تزل تعرض نفسها على اللّف و الخلف كالمرأة الصالحة الحسناء العارضة نفسها على الرجال للتزويج و الاستمتاع و الانتفاع منها في محن الدّهر و نوائب الزّمان و كذلك هذه عرضت نفسها على الامم لينتفعون بها في الدّنيا . ( و لحاجتهم إليها غدا ) أى في العقبى ( إذا أعاد اللّه ما أبدا و أخذ ما أعطى و سأل عمّا أسدى ) يعني أنهم محتاجون إليها إذا أنشر اللّه الموتى و إذا أخذ من الناس ما خوّلهم من متاع الدّنيا ، و إذا سأل العباد عما أسدى و أحسن إليهم من النعم و الآلاء ، أو إذا سأل عما أسداه و أهمله من الجوارح و الأعضاء . و إنما كانوا محتاجين إليها في تلك الأحوال لوقايتها لهم من أهوال ذلك اليوم و داهي هذه الأحوال ، فالمتقون بما لهم من التقوى من فزع النشر و المعاد آمنون ، و إلى زادهم حين أخذ ما أعطى مطمئنّون ، و بصرف ما أسدى إليهم من الأموال في مصارفه و ما أسداه من الأعضاء في مواقعها من مناقشة السؤال سالمون كما قال عزّ من قائل « فمن اتقى و أصلح فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون » و قال « و من يتّق اللّه يجعل له مخرجا » « و من يتّق اللّه يجعل له من أمره يسرا » « و من يتّق اللّه يكفّر عنه سيّآته و يعظم له أجرا » . و أما غير المتّقين فعند نشرهم يمسّهم العذاب بما كانوا يفسقون ، و حين اخذ ما اعطى فانهم إذا لخاسرون ، و إذا سئل عما أسدى فيخاطبون بخطاب قفوهم انهم مسئولون ، فاليوم نختم على أفواههم و تكلّم أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون . ثمّ تعجب من قلّة الآخذين بالتقوى مع كونها محتاجا فقال : ( فما أقلّ من قبلها و حملها حقّ حملها ) أى شرايطها و وظايفها المقرّرة الموظفة ( اولئك الأقلّون و هم أهل صفة اللّه سبحانه ) أى القابلون الحاملون لها الّذين وصفهم اللّه تعالى في كتابه ( إذ يقول ) في حقّهم ( و قليل من عبادى الشكور ) ربما فسّر الشكور [ 252 ] بمن تكرّر منه الشكر و قيل : الشكور المتوفر على أداء الشكر بقلبه و لسانه و جوارحه أكثر أوقاته و قيل : الشكور من يرى عجزه عن الشكر و قال ابن عباس أراد به المؤمن الموحّد و في هذا دلالة على أنّ المؤمن الشاكر يقلّ في كلّ عصر و زمان . أقول : و يحتمل أن يراد بالشكور كثير الطاعة للّه و يشهد به ما رواه في الكافي عن الباقر عليه السّلام قال : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند عايشة ليلتها فقالت يا رسول اللّه لم تتعب نفسك قد غفر لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخّر ، فقال : يا عايشة أما أكون عبدا شكورا . و لما ذكر ثمرات التقوى و نبّه على الاحتياج إليها غدا أمر المخاطبين بالمواظبة عليها فقال : ( فاهطعوا باسماعكم إليها ) أى أسرعوا بأسماعكم إلى سماع وصفها و نعتها لتعرفوها حقّ المعرفة و تعملوا على بصيرة ( و أكظوا بجدّكم عليها ) أى اجهدوا و داوموا بالجدّ و المبالغة ( و اعتاضوها من كلّ سلف خلفا ) أى اجعلوها عوضا من جميع ما سلف بكم و خذوها خلفا منه لأنّه خير خلف محصّل للسعادة الأبديّة و العناية السرمدية ( و من كلّ مخالف موافقا ) الظاهر أنّ المراد بالمخالف و الموافق المخالف لطريق الحقّ و الموافق له ، فيكون المعني اجعلوا التقوى حالكونها موافقا لطريق الحقّ عوضا و بدلا من كلّ ما يخالف طريقه و ( ايقظوا بها نومكم و اقطعوا بها يومكم ) الظاهر أنّه أراد بهما قيام اللّيل و صيام النهار و اللذين هما من مراسم التقوى ، و يحتمل أن يكون المراد بالأوّل الأمر بالانتباه بها من نوم الغفلة ، و بالثاني الأمر بختم النهار بالعبادة . ( و أشعروا بها قلوبكم ) قال الشارح المعتزلي يجوز أن يريد اجعلوها شعارا لقلوبكم ، و هو ما دون الدثار و ألصق بالجسد منه ، و يجوز أن يريد اجعلوها علامة يعرف بها القلب التقي من القلب المذنب كالشعار في الحرب يعرف به قوم من قوم ، و يجوز أن يريد الاشعار بمعني الاعلام من أشعرت زيدا بكذا أى عرفته اياه أى اجعلوها عالمة بجلالة موقعها و شرف محلها . ( و ارحضوا بها ذنوبكم ) أى اغسلوها بها لأنّها كفّارة لها كما قال تعالى « و من [ 253 ] يتّق اللّه يكفّر عنه سيّئاته و يعظم له أجرا » ( و داووا بها الأسقام ) أى أسقام الذّنوب و أمراض القلوب ( و بادروا بها الحمام ) أى الموت . ( و اعتبروا بمن أضاعها و لا يعتبرن بكم من أطاعها ) أمرهم بالاعتبار بالامم الماضية قبلهم ممّن أضاع التقوى و اتّبع الهوى فأخذه اللّه نكال الآخرة و الاولى إنّ في ذلك لعبرة لمن يخشى قال تعالى « و أخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون . فلمّا عتوا عمانهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين » و نهيهم عن كونهم عبرة للمطيعين و هو في الحقيقة نهي عن دخولهم في زمرة المضيّعين ، أى ادخلوا في حزب المطيعين لتعتبروا بغيركم و لا تدخلوا في حزب المضيّعين حتّى يعتبر بكم غيركم . ( ألا و صونوها و تصوّنوا بها ) أى صونوها حق الصّيانة و احفظوها من شوب العجب و الرياء و السمعة و تحفظوا أنفسكم بها لأنها الحرز و الجنّة . ثمّ أمر بالزّهد في الدّنيا و الوله إلى الآخرة لاستلزامهما للتقوى و هو قوله : ( و كونوا عن الدّنيا نزاها ) متباعدين ( و إلى الآخرة ولاّها ) أى و الهين مشتاقين ، فانّ الوله إلى الآخرة يوجب تحصيل ما يوصل إليها و هو التباعد عن الدّنيا و الملازمة للتقوى ( و لا تضعوا من رفعته التقوى ) و هو نهي عن إهانة المتقين لكونه خلاف التقوى ( و لا ترفعوا من رفعته الدّنيا ) و هو نهي عن تعظيم الأغنياء الذين ارتفاع شأنهم عند الناس و وجاهتهم من جهة ثروتهم ، فانّ تعظيمهم من هذه الجهة مناف للتقوى . ( و لا تشيموا بارقها ) أى لا تنظروا إلى سحابها صاحب البرق انتظارا للمطر قال الشارح البحراني : استعار لفظ البارق لما يلوح للناس في الدّنيا من مطامعها و مطالبها ، و وصف الشيم لتوقع تلك المطالب و انتظارها و التطلع إليها على سبيل الكناية عن كونها كالسحابة الّتي يلوح بارقها فيتوقّع منها المطر . ( و لا تسمعوا ناطقها و لا تجيبوا ناعقها ) و هو نهي عن مخالطة أهل الدّنيا و معاشرتهم أى لا تسمعوا إلى مادحها و من يزيّنها و يصفها بلسانه و بيانه و لا تصدّقوا قوله ، و لا تجيبوا صائحها أى لا تتّبعوا و لا توافقوا المنادى إليها لأنّ سماع الناطق و إجابة [ 254 ] الناعق يوجب الميل اليها ، و يحتمل أن يكون الناطق و الناعق استعارة لمتاع الدّنيا و مالها ، فانّه لما كان يرغب فيها بلسان حاله و يدعو إليها شبه بالنّاطق و الناعق . ( و لا تستضيئوا باشراقها و لا تفتنوا باعلاقها ) استعار لفظ الاشراق لزينة الدّنيا و زخارفها و زبرجها و أموالها و لفظ الاستضاءة للالتذاذ و الابتهاج بتلك الزخارف أى لا تبتهجوا بزخارف الدّنيا و لا تفتنوا بنفايسها . و لما نهي عن شيم البارق و سماع الناطق و اجابة الناعق و عن الاستضاءة بالاشراق و الافتتان بالاعلاق ، أردفه بالاشارة إلى علل تلك المناهي فعلل النهي عن شيم البارق بقوله : ( فانّ برقها خالب ) أى خال من المطر فيكون الشيم و النظر خاليا من الثمر قال الشارح البحراني : استعار لفظ الخالب لما لاح من مطامعها ، و وجه المشابهة كون مطامعها و آمالها غير مدركة و إن ادرك بعضها ففي معرض الزوال كان لم يحصل فاشبهت البرق الذي لا ماء فيه و ان حصل معه ضعيف غير منتفع به فلذلك لا ينبغي أن يشام بارقها . و علل النهى عن سماع الناطق و اجابة الناعق بقوله ( و نطقها كاذب ) أى ناطقها كاذب لأنّ قوله مخالف لنفس الأمر و ما يزيّنه و يرغب فيه و يدعو إليه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتّى إذا جائه لم يجده شيئا . و علّل النّهى عن الاستضاءة بالاشراق بقوله ( و أموالها محروبة ) أى مأخوذة بتمامها ، و ما شأنها ذلك فلا يجوز الابتهاج و الشعف بها . و علّل النهى عن الفتون بالاعلاق بقوله ( و اعلاقها مسلوبة ) أى منهوبة مختلسة و ما حالها ذلك فكيف يفتن بها و يمال إليها ، ثمّ وصف الدّنيا بأوصاف اخرى منفرة عنها فقال : ( ألا و هي المتصدّية العنون ) أى مثل المرأة الفاجرة المتصدّية المتعرّضة للرجال المولعة في التعرّض لهم ، و هو من التشبيه البليغ و من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس ، و وجه الشبه أنّ المرأة الموصوفة كما تزين نفسها و تعرضها على الرجال لتخدعهم عن أنفسهم فكذلك الدّنيا تتعرّض بقيناتها لأهلها فتخدعهم . [ 255 ] ( و الجامحة الحرون ) أى مثل الدّابة السيّئة الخلق التي لا تنقاد لراكبها البالغة في عدم الانقياد غايته ، و التشبيه هنا مثل التشبيه في الفقرة السابقة ، و وجه الشبه أنّ الدابة الموصوفة كما لا تنقاد لصاحبها و لا يتمكّن من حملها و ركوبها مهما اريد ، فكذلك الدّنيا لا يتمكّن أهلها من تصريفها و تقليبها و الانتفاع بها في مقام الضرورة و الحاجة . ( و المائنة الخئون ) أى الكاذبة كثيرة الخيانة حيث إنها تخدع الناس بزينتها و تغرّهم بحليّها و توقع في وهمهم و خيالهم لقيائها لهم ، فعما قليل ينكشف كذبها و تتبيّن خيانتها إذا زالت عنهم . ( و الجحود الكنود ) أى كثيرة الانكار و الكفران كالمرأة التي تكفر نعمة زوجها و تنكر معروفه و احسانه ، و يكون من شأنها الغدر و المكر ، و كذلك الدّنيا تنفر عمن رغب فيها و سمى إليها و اجتهد في عمارتها و تكون سبب هلاكه ثمّ تنتقل عنه إلى غيره . ( و العنود الصدود ) لما كان من شأن الدّنيا الانحراف و الميل عن القصد و العدول عن سنن قصود الطالبين الراغبين منها ، شبّهها بالعنود الصدود ، و هى الناقة العادلة عن مرعى الابل و الراعية في جانب منه و وصفها بالصدود لكثرة اعراضها . ( و الحيود الميود ) أى كثيرة الميل و التغيّر و الاضطراب ( حالها انتقال ) أى شأنها و شيمتها انتقال من حال إلى حال و انقلاب من شخص إلى شخص ( و وطأتها زلزال ) أى موضع قدمها متحرّك غير ثابت ( و عزّها ذلّ ) أى العزّ الحاصل لأهل الدّنيا بسبب الثروة و الغنى فهو ذلّ في الحقيقة ، لأنّ ما تعزّز به من المال إن كان من حلال ففيه حساب و إن كان من حرام ففيه عقاب ، فعزّتها موجب لانحطاط الدرجة عند اللّه سبحانه ، و لذلك قال سيّد الساجدين عليه السّلام في بعض أدعية الصحيفة : فانّ الشريف من شرّفته طاعتك ، و العزيز من أعزّته عبادتك . ( و جدّها هزل ) قال الشارح البحراني : استعار لفظ الجدّ و هو القيام في الأمر [ 256 ] بعناية و اجتهاد لاقبالها على بعض أهلها بخيراتها كالصديق المعتنى بحال صديقه و لادبارها عن بعضهم و اصابتها له بمكروهها كالعدوّ القاصد لهلاك عدوّه ، و استعار لجدّها لفظ الهزل الذي هو ضدّه ، و وجه الاستعارة كونها عند اقبالها على الانسان كالمعتنية بحاله ، و عند إعراضها عنه و رميه بالمصائب كالقاصدة لذلك ، ثمّ تسرع انتقالها عن تلك الحال إلى ضدّها فهي في ذلك كالهازل اللاّعب . ( و علوها سفل ) و هو فى معنى قوله : و عزّها ذلّ ، أى العلوّ الحاصل بسببها موجب لانحطاط الرتبة في الآخرة . ( دار حرب و سلب و نهب و عطب ) أى دار محاربة أو دار سلب و اختلاس و غارة و هلاكة لأنّ أهلها و مالها غرض للآفات و هدف للقتل و الغارات ، أو أنّ مالها يسلب عن أهلها و يحرب و ينهب بموت صاحب المال و هلاكه ( أهلها على ساق و سياق ) إن فسر الساق بساق القدم فالمراد بالجملة الاشارة إلى زوالها و انقضائها ، يعني أنّ أهلها قائمون على سوقهم و أقدامهم مستعدون للسياق و المسير إلى الآخرة ، و إن فسّر بالشّدة فالمراد أنّ أهلها في شدّة و محنة و عرضة للموت ، و معلوم أنها إذا كانت دار حرب و نهب و سلب و عطب يكون أهلها في شدّة لا محالة . ( و لحاق و فراق ) أى أهلها يلحق بعضهم بعضا أى يلحق احياءهم بالأموات و يفارقون من الأموال و الأولاد . ( قد تحيّرت مذاهبها ) من المجاز العقلي أى تحيّر أهلها في مذاهبها و مسالكها لا يهتدون إلى طريق جلب خيرها و دفع شرّها ، و ذلك لاشتباه امورها و عدم وضوح سبلها الموصلة إلى المقصود . ( و أعجزت مهاربها و خابت مطالبها ) إسناد الاعجاز إلى المهارب و الخيبة إلى المطالب أيضا من باب المجاز ، و المراد أنّ من أراد الهرب و الفرار من شرورها فهو عاجز في مواضع الهرب ، و من أراد النيل إلى عيشها و مآربها فهو خائب في محال [ 257 ] الطلب ، و أشار إلى بعض ملازمات الخيبة بقوله : ( فأسلمتهم المعاقل ) أى لم تحفظهم من الرزايا و لم تحصنهم « تحرزهم خ ل » من المنايا ( و لفظتهم المنازل ) أى ألقتهم و رمت بهم نحو سهام المنيّة ( و أعيتهم المحاول ) أى تصاريف الدّنيا و تغيّرات الزمان أو الحيل لاصلاح امورها . ثمّ قسّم أهلها باعتبار ما يصيبهم من حوادثها و مزورها إلى أصناف بعضها أحياء و بعضها أموات و هو قوله : ( فمن ناج معقور ) أى مجروح كالهارب من الحرب بعد مقاساة الأحزان و الشدايد ، و قد جرح بدنه ، و هذا صفة الباقين في الدّنيا قد نجوا من الموت و لكن صاروا غرضا للآفات . ( و لحم مجزور ) أى قتيل صار لحما مقطوعا ( و شلو مذبوح ) قال الشّارح البحراني : أراد ذى شلو أى عضو مذبوح أي قد صار بعد الذبح أشلاء 1 متفرّقة ، و يحتمل أن يكون مذبوح صفة للشلو ، و أراد بالذبح مطلق الشق كما هو في أصل اللغة ( و دم مسفوح ) أى ذى دم مسفوك ( و عاض على يديه ) بعد الموت ندما على التفريط في أمر اللّه و هو وصف للظالمين قال تعالى و يوم يعضّ الظالم على يديه يقول يا ليتني اتّخذت مع الرسول سبيلا . يا ويلتني ليتني لم اتّخذ فلانا خليلا ( و صافق بكفيه ) أى ضارب إحداهما على الاخرى تأسّفا و تحسّرا ( و مرتفق بخدّيه ) أى جاعل راحة كفّيه تحت خدّيه متكا على مرفقيه همّا و حزنا ( و زار على رأيه ) أى عائب على اعتقاده فانه لما كان عقيدته طول المكث و البقاء في الدّنيا و امتداد زمان الحياة و كان ذلك موجبا للالتفات بكليته إليها و انقطاعه عن الآخرة و انهما كه في الشهوات ، ثمّ انكشف بالموت فساد تلك العقيدة و بطلان ذلك الاعتقاد لا جرم أزرى على رأيه و عابه ( و راجع عن عزمه ) أى عن قصده ، و ذلك لأنّ قصده لما كان السّعى في تحصيل الدّنيا و عمارتها و الاكثار من قيناتها و كان منشأ ذلك أيضا زعم تمادى مدّة الحياة و اللّبث فيها فانكشف خلافه ، كان ذلك موجبا لرجوعه عن عزمه و ندمه ----------- ( 1 ) اى أعضاء ، م [ 258 ] عليه ، هذا . و لما كانت الجملات 1 المتعاطفات الأخيرة كلّها مشتركة المعنى في إفادة ندم الأموات 2 على ما فرّطوا في جنب اللّه عقّبها بالجملة الحالية أعنى قوله : ( و قد أدبرت الحيلة و أقبلت الغيلة ) تنبيها بها على أنه لا ثمر للندم و لا منفعة في العضّ على اليدين و الصفق بالكفين و الارتفاق بالخدّين و لا فائدة في الازراء على الرأى و الرّجوع عن العزم ، و الحال أنّه قد ولي الاحتيال و أقبل الهلاك و الاغتيال لأنّ الحيلة للخلاص من العقاب و التدبر و للفوز بالثواب إنّما هو قبل أن يغتال مخالب المنية كما قال سبحانه إنّما التوبة على اللّه للذين يعملون السوء بجهالة ثمّ يتوبون من قريب . و أما بعد ما أنشبت أظفارها فلا كما قال سبحانه و ليست التوبة للذين يعملون السّيئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال انّى تبت الان و لو قال بعد الموت ربّ ارجعون لعلّى اعمل صالحا فيما تركت يقال له كلا انّها كلمة هو قائلها فانقطع العلاج و امتنع الخلاص . ( و لات حين مناص هيهات هيهات ) أى بعد المناص و الخلاص جدّا و الحال أنه ( قد فات ما فات و ذهب ما ذهب ) الاتيان بالموصول فى المقامين تفخيما بشأن الفايت الذاهب أى فات زمان تدارك السيئآت ، و ذهبت أيام جبران الخطيئآت ، و انقضى وقت تحصيل النجاة من العقوبات ، و الخلاص من ورطات الهلكات . ( و مضت الدّنيا لحال بالها ) أى بما فيها خيرا كان و شرّا ، و قيل : أى مضت الدّنيا لما يهواه قلبها و للسّبيل الّذي أرادت و لم تكترث لحال القوم و لم تهتم لأمرهم بل نسيتهم ، و هذا مثل قولهم : مضى فلان لسبيله ، و مضى لشأنه . ( فما بكت عليهم السّماء و الأرض و ما كانوا منظرين ) اقتباس من الآية الشريفة ----------- ( 1 ) من قوله وعاض على يديه الى قوله و راجع عن عزمه ( منه ) . ----------- ( 2 ) فيه ما لا يخفى ، لان الظاهر أن الجملات كلها مشتركة المعنى في افادة ندم الاحياء على ما فرطوا لا الاموات ، إذ لا يعقل لهم العضّ على اليدين و الصفق بالكفين و الارتفاق بالخدّين كما هو واضح ، و عضّ الظالم على يديه انما هو في القيامة فليتأمل . « المصحح » . [ 259 ] في سورة الدّخان . و اختلف في معناها على وجوه : أحدها أنّه لم تبك عليهم أهل السّماء و أهل الأرض ، لأنهم لا يستحقون أن يتأسّف عليهم أحد و يحزن لفقدهم ، و كأنهم توقعوا ذلك لعزّتهم و رفعة درجتهم في نظرهم . الثّاني أنّه ما بكى عليهم المؤمنون من أهل الأرض و لم يبك عليهم أهل السّمآء كما يبكون على فقد الصالحين ، لأنّ هؤلاء مسخوط عليهم ، و هو قريب من الوجه الأوّل . الثّالث أنّه سبحانه أراد المبالغة في وصف القوم بصغر القدر ، فانّ العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك قالت : بكاه السّماء و الأرض ، و أظلم لفقده الشمس و القمر ، قال جرير يرثى عمر بن عبد العزيز : فالشّمس طالعة ليست بكاسفة تبكى عليك نجوم اللّيل و القمر أى ليست مع طلوعها كاسفة نجوم اللّيل و القمر لأنّ عظم المصيبة قد سلبها ضوءها ، و قال النابغة : تبدو كواكبه و الشّمس طالعة لا النور نور و لا الاظلام اظلام الرابع أن يكون ذلك كناية عن أنّه لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يرفع منها إلى السّماء ، و قد روى عن ابن عبّاس أنّه سئل عن هذه الآية فقيل : و هل يبكيان على أحد ؟ قال : نعم مصلاّه في الأرض ، و مصعد عمله في السّماء ، و روى عن أنس عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما من مؤمن إلاّ و له باب يصعد منه عمله و باب ينزل منه رزقه ، فاذا مات بكيا عليه . قال الطبرسي : على هذا يكون معنى البكاء الاخبار عن الاختلال بعده ، قال مزاحم العقيلي : بكت دارهم من أجلهم فتهلّلت دموعى فأىّ الجازعين ألوم أ مستعبرا يبكى من الهون و البلى أم آخر يبكى شجوه و يهيم و قوله : و ما كانوا منظرين ، أى عوجلوا بالعقوبة و لم يمهلوا ، نسأل اللّه سبحانه أن يوفقنا التوبة قبل حلول الفوت ، و للانابة قبل نزول الموت ، و أن لا يجعلنا في زمرة [ 260 ] من غضب عليه اللّه ، و من نادى واحسرتا على ما فرّطت في جنب اللّه ، بمحمّد و آله الكرام عليهم الصّلاة و السّلام . الترجمة از جمله خطب بليغه آن بزرگوار است در تحريض مردمان بتقوى و پرهيزكارى ميفرمايد : حق و سپاس معبود بحقى را سزا است كه آشكار است حمد او ، و غالب است شكر او ، و بلند است عظمت و جلال او ، حمد ميكنم بر نعمتهاى متواتر او ، و بر عطاهاى بزرگ و متكاثر او ، چنان خداونديكه بزرگ شد حلم او پس عفو فرمود ، و عدالت بجا آورد در هر چه كه حكم نمود ، و عالم شد بآنچه ميگذرد و بآنچه گذشت ، آفريننده مخلوقاتست با علم شامل خود ، ايجاد كننده ايشان است با أمر كامل خود بدون اقتدا نمودن بكسى در ايجاد آنها ، و بدون تعليم دادن ديگرى او را ، و بي اندازه گرفتن مر نمونه صنعت كار حكيم را ، و بى رسيدن خطا و بدون حضور جماعتى از عقلا كه مشاورت كند با ايشان در امر ايجاد . و شهادت مى‏دهم باينكه محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنده و رسول او است ، مبعوث فرمود او را در حالتيكه مردمان سير ميكردند در شدّت و ضلالت ، و موج ميزدند در حيرت و جهالت ، در حالتيكه كشيده بود ايشان را مهارهاى هلاكت ، و بسته بود بر دلهاى ايشان قفلهاى وسخ ذنوب . وصيّت ميكنم شما را أى بندگان خدا بپرهيزكارى پروردگار ، پس بدرستيكه تقوى حق خدا است بر ذمه شما ، و واجب كننده است حق شما را بر خدا ، و وصيت ميكنم باينكه استعانت نمائيد بر تقوى از خدا ، و استعانت نمائيد از تقوى بر خدا ، پس بتحقيق كه تقوى در اين روز دنيا پناه است و سپر ، و در فرداى آخرت راه است ببهشت ، راه آن تقوى واضح است و آشكار ، و راه رونده آن صاحب ربح است و با منفعت ، و أمانت گيرنده آن حافظ است آنرا از تلف . [ 261 ] هميشه تقوى اظهار كننده است نفس خود را بر امّتهاى كه گذشته‏اند و باقى مانده بجهت حاجت ايشان بآن در فردا زمانى كه باز گرداند خدا آنچه را كه ايجاد فرموده بود ، و بگيرد آنچه را كه عطا نموده بود ، و سؤال نمايد از چيزى كه احسان كرده بود ، پس چه قدر كم است اشخاصى كه قبول تقوا كردند و برداشتند آنرا حق برداشتن آنجماعت متقيان كم‏اند از حيثيّت عدد ، و ايشان كسانى هستند كه وصف فرموده خدا ايشان را در كتاب مجيد خود وقتيكه ميفرمايد و قليل من عبادى الشكور يعنى اندك است از بندگان من شكر كننده . پس بشتابيد بسمعهاى خود بسوى شنيدن منافع تقوى ، و مداومت نمائيد با جد و جهد خودتان بر تقوى ، و عوض نمائيد آن را از هر گذشته از جهت خلف صالح بودن ، و عوض نمائيد آنرا از هر چيزى كه مخالف طريق حق است در حالتيكه آن موافق حق است ، و بيدار نمائيد با آن تقوى خواب خود را ، و ببريد با آن روز خود را ، و شعار قلبهاى خود نمائيد آن را ، و بشوئيد با آن گناهان خود را ، و دوا نمائيد با آن ناخوشيهاى خود را ، و مبادرت كنيد با آن بسوى مرگ ، و عبرت بگيريد با كسيكه ضايع ساخت تقوى را . و البته نبايد عبرت گيرد با شما كسيكه اطاعت نمايد بآن ، آگاه باشيد پس نگاه داريد تقوى را و نگاه دارى كنيد با آن نفس خود را . و باشيد از دنيا دور شوندگان و بسوى آخرت شيفته‏گان ، و پست مسازيد كسى را كه بلند نموده است او را تقوى ، و بلند مسازيد كسيراكه بلند نموده است او را دنيا ، و چشم ندوزيد بزخارف برق زننده دنيا ، و گوش ندهيد بمدح كننده آن ، و قبول نكنيد خواننده بدنيا را ، و روشنى مخواهيد با روشنى آن ، و مفتون نشويد بنفايس آن از جهت اينكه برق آن خالى است از باران ، و گفتار آن دروغ است ، و مالهاى او گرفته شده است بتمامى ، و نفايس آن ربوده شده بناكامى . آگاه باشيد كه دنيا مثل زن فاجره است كه متعرّض شونده مردها است ، كثير التعرض است بايشان مثل حيوان سركشى است نافرمان ، و كاذبست بغايت خاين ، و منكرات زياده ناسپاس ، و منحرفست بسيار عدول كننده و برگردانده است [ 262 ] زياده متغيّر و مضطرب ، شأن آن زوال و فنا است و موضع قدم آن اضطرابست و حركت ، و عزّت آن خواريست و همت آن سخريّه است و استهزا ، و بلندى آن پستى است ، خانه ستاندن و ربودن و غارت و هلاكت است ، أهل آن بر شدّت‏اند و رحلت و بر لا حق شدن روندگان‏اند و مفارقت از باقى ماندگان . بتحقيق متحيّر بوده است راههاى آن ، و عاجز نموده محلهاى گريز از آن ، و خايب و نا اميد شده مكانهاى طلب او ، پس فرو گذاشت و ترك نمود ايشان را پناكاهها ، و انداخت ايشان را منزلها ، و عاجز ساخت آنها را انقلابات روزگار . پس بعضى از ايشان نجات يابنده است صاحب جراحت ، و بعضى گوشتى است پاره پاره ، و عضوى است بريده شده ، و خونيست ريخته شده ، و گزنده است با دندان دستهاى خود را از روى ندامت ، و زننده است كف دستهايش را بهم از روى حسرت ، و نهنده است مرفقين خود را زير خدّين خود از جهت پريشانى و اندوه ، و عيب كننده است بر عقيده فاسد خود ، و رجوع كننده است از عزم و قصد خود . و حال آنكه بتحقيق كه ادبار نموده حيله و تدبير ، و اقبال كرده مرگ ناگهان ، و نيست اين وقت وقت چاره چه دور است بغايت دور چاره و علاج ، و حال آنكه فوت شد آنچه كه فوت شد ، و رفت آنچه كه رفت ، و گذشت دنيا بحال دل خود نه بخواهش اهل روزگار ، پس نه گريست بأهل روزگار آسمان و زمين ، و مهلت داده نشدند و زود گرفتار عذاب گشتند .