جستجو

متن ترجمه آیتی ترجمه شهیدی ترجمه معادیخواه تفسیر منهاج البرائه خویی تفسیر ابن ابی الحدید تفسیر ابن میثم

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الواحدة و الثمانون من المختار في باب الخطب و شرحها في فصول : الفصل الاول روى عن نوف البكالي قال : خطبنا بهذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السّلام و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي و عليه مدرعة من صوف و حمايل سيفه من ليف و في رجليه نعلان من ليف و كأنّ جبينه ثفنة بعير فقال عليه السّلام : [ 299 ] ألحمد للّه الّذي إليه مصآئر الخلق ، و عواقب الأمر ، نحمده على عظيم إحسانه ، و نيّر برهانه ، و نوامي فضله و امتنانه ، حمدا يكون لحقّه قضآء ، و لشكره أدآء ، و إلى ثوابه مقرّبا ، و لحسن مزيده موجبا ، و نستعين به استعانة راج لفضله ، مؤمّل لنفعه ، واثق بدفعه ، معترف له بالطّول ، مذعن له بالعمل و القول ، و نؤمن به إيمان من رجاه موقنا ، و أناب إليه مؤمنا ، و خنع له مذعنا ، و أخلص له موّحدا ، و عظّمه ممجّدا ، و لاذ به راغبا مجتهدا ، لم يولد سبحانه فيكون في العزّ مشاركا ، و لم يلد فيكون موروثا هالكا ، و لم يتقدّمه وقت و لا زمان ، و لم يتعاوره زيادة و لا نقصان ، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التّدبير المتقن ، و القضآء المبرم . فمن شواهد خلقه خلق السّموات موطّدات بلا عمد ، قائمات بلا سند ، دعاهنّ فأجبن طآئعات مذعنات ، غير متلكّئات و لا مبطئات ، و لولا إقرارهنّ له بالرّبوبيّة ، و إذعانهنّ بالطّواعية ، لما جعلهنّ موضعا لعرشه ، و لا مسكنا لملائكته ، و لا مصعدا للكلم الطّيّب و العمل الصّالح من خلقه ، جعل نجومها أعلاما يستدلّ بها الحيران في مختلف فجاج الأقطار ، لم يمنع ضوء نورها ادلهمام سجف اللّيل [ 300 ] المظلم ، و لا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن تردّ ما شاع في السّموات من تلالؤ نور القمر . فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داج ، و لا ليل ساج في بقاع الأرضين المتطأطئات ، و لا في يفاع السّفع المتجاورات ، و ما يتجلجل به الرّعد في أفق السّماء ، و ما تلاشت عنه بروق الغمام ، و ما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء و انهطال السّماء ، و يعلم مسقط القطرة و مقرّها ، و مسحب الذّرّة و مجرّها ، و ما يكفى البعوضة من قوتها ، و ما تحمل الانثى في بطنها . و الحمد للّه الكائن قبل أن يكون كرسيّ ، أو عرش ، أو سماء ، أو أرض ، أو جآنّ ، أو إنس ، لا يدرك بوهم ، و لا يقدّر بفهم ، و لا يشغله سآئل ، و لا ينقصه نائل ، و لا ينظر بعين ، و لا يحدّ بأين ، و لا يوصف بالأزواج ، و لا يخلق بعلاج ، و لا يدرك بالحواسّ ، و لا يقاس بالنّاس ، الّذي كلّم موسى تكليما ، و أراه من آياته عظيما ، بلا جوارح و لا أدوات ، و لا نطق و لا لهوات . بل إن كنت صادقا أيّها المتكلّف لوصف ربّك ، فصف جبرئيل و ميكائيل و جنود الملائكة المقرّبين في حجرات القدس مرجحنّين ، [ 301 ] متولّهة عقولهم أن يحدّوا أحسن الخالقين ، و إنّما يدرك بالصّفات ذووا الهيئات و الأدوات ، و من ينقضي إذا بلغ أمد حدّه بالفناء ، فلا إله إلاّ هو ، أضاء بنوره كلّ ظلام ، و أظلم بظلمته كلّ نور . اللغة ( البكالي ) بكسر الباء قال في القاموس : و بنو بكال ككتاب بطن من حمير منهم نوف بن فضالة التابعي و كأمير حىّ من همدان ، و عن الجوهرى أنّه بفتح الباء ، و عن قطب الراوندي في شرح النهج أنّ بكال و بكيل شي‏ء واحد و هو اسم حىّ من همدان و بكيل أكثر ، و الصواب كما قاله الشارح المعتزلي ما في القاموس . و ( ثفنة ) البعير بالكسر ركبته و ما مسّ الأرض من كركرته و سعداناته و اصول أفخاذه ، و ثفنت يده من باب فرح غلظت و ( العمد ) جمع عماد على خلاف القياس قال سبحانه : في عمد ممدّدة و ( تلكأ ) عليه اعتلّ و عنه أبطأ و ( الطواعية ) وزان ثمانية الطاعة و ( المختلف ) الاختلاف و التردّد أو موضعه أو من المخالفة و ( الفجّ ) الطريق الواسع بين الجبلين و ( القطر ) الجانب و الناحية و ( السجف ) بالفتح و الكسر الستر و الجمع سجوف و أسجاف و ( الحنادس ) جمع الحندس وزان زبرج اللّيل شديد الظلمة و ( اليفاع ) و اليفع محرّكة التلّ و ( السفع ) بالضمّ جمع سفعة و هو من الألوان ما اشرب حمرة و ( المسقط ) اسم مكان كمقعد و مجلس . و ( الأنواء ) جمع نوء و هو سقوط النجم من منازل القمر الثمانية و العشرين في المغرب من الفجر و طلوع رقيبه من المشرق مقابلا له من ساعته و ستعرف زيادة تحقيق له في بيان المعنى و ( اللّهوات ) و اللّهيات جمع اللّهاة و هي اللّحمة المشرفة على الحلق أو بين منقطع اصل اللّسان و منقطع القلب من أعلى الفم و ( ارجحنّ ) يرجحنّ كاقشعرّ مال و اهتزّ و عن الجزرى أرجحنّ الشي‏ء إذا مال من ثقله و تحرّك . [ 302 ] الاعراب من في قوله : و العمل الصّالح من خلقه ، ابتدائيّة نشويّة ، و قوله : فى مختلف فجاج آه ، متعلّق بالحيران أو بقوله : يستدلّ ، قوله : لم يمنع ضوء نورها ادلهمام ، في أكثر النسخ برفع ادلهمام على أنّه فاعل يمنع و نصب ضوء على أنّه مفعوله ، و في بعض النسخ بالعكس قال الشارح المعتزلي : و هذا أحسن و ستعرف وجه الحسن في بيان المعنى . و أو في قوله : أو عرش و ما بعدها بمعنى الواو ، و قوله : لا يحدّ بأين قال الشارح المعتزلي : لفظة أين في الأصل مبنيّة على الفتح فاذا نكرتها صارت اسما متمكّنا من الاعراب ، و إن شئت قلت بأنّه عليه السّلام تكلّم بالاصطلاح الحكمى و الأين عندهم حصول الجسم في المكان و هو أحد المقولات العشر و قوله : في حجرات القدس ، إمّا متعلّق بالمقرّبين أو بمرجحنين ، و الأوّل أقرب لفظا و الثاني معني ، و الاضافة في قوله : أمد حدّه ، بيانيّة و قوله : بالفناء متعلّق بقوله : ينقضى المعنى قال السيّد ره ( روى عن نوف ) بن فضالة ( البكالى ) الحميرى انّه ( قال خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين عليه السّلام بالكوفة ) الظاهر أنّ المراد بجامع الكوفة ( و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومى ) و هو ابن اخت أمير المؤمنين عليه السّلام و امّه امّ هاني بنت أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم و أبوه كما قاله السيّد ره : هبيرة و هو ابن أبي وهب بن عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم ، و كان فارسا شجاعا فقيها والى خراسان من جانب أمير المؤمنين عليه السّلام ، و من شعره الّذى يباهى فيه بنسبه قوله : أبى من بنى مخزوم إن كنت سائلا و من هاشم أمّى لخير قبيل فمن ذا الّذى باهي علىّ بخاله كخالى علىّ ذى الندى و عقيل ( و عليه عليه السّلام مدرعة ) أى جبّة تدرّع بها ( من صوف و حمائل سيفه من ليف ) النخل [ 303 ] ( و في رجليه نعلان من ليف ) أيضا و كفي بذلك زهدا ( و كأنّ جبينه ) من طول السجود ( ثفنة بعير ) و كفى به عناء و عبادة و قد ورثه منه عليه السّلام ابن ابنه علىّ بن الحسين زين العابدين و سيّد الساجدين صلوات اللّه عليه و على آبائه و أبنائه أجمعين حتّى اشتهر و لقّب بالسجّاد ذى الثفنات قال دعبل الخزاعى في قصيدته المعروفة : ديار علىّ و الحسين و جعفر و حمزة و السجّاد ذى الثفنات ( فقال الحمد للّه الذى إليه مصائر الخلق و عواقب الأمر ) أى إليه مرجع الخلايق في المبدء و المآب و عواقب امرهم يوم الحساب كما قال تعالى : إنَّ إلينا إيابهم ثمّ إنّ علينا حسابهم ، و قال : و إلى اللّه المصير إنما أتى عليه السّلام بلفظ الجمع مع أنّ المصدر يصحّ إطلاقه على القليل و الكثير باعتبار كونه أى الجمع المضاف نصّا في العموم مفيدا لكون جميع رجوعات المخلوقات إليه سبحانه في جميع حالاتهم لافتقار الممكن الى الواجب و حاجته اليه في الوجود و البقاء و الفناء فهو أوّل الأوّلين و آخر الآخرين و إليه المصير و المنقلب . ( نحمده على عظيم احسانه ) الذى أحسن إلينا به و هو معرفته و توحيده إذ لا إحسان أعظم من ذلك ، و قول الشارح المعتزلي : إنه اصول نعمه كالحياة و القدرة و الشهوة و نحوها ، و كذا قول الشارح البحراني إنه الخلق و الايجاد على وفق الحكمة و المنفعة فليسا بشي‏ء و يؤيّد ما قلناه تعقيبه بقوله ( و نيّر برهانه ) فانّ المراد به الأدلّة الواضحة الّتى أقامها في الآفاق و الأنفس و من طريق العقل و النقل للدّلالة على ذاته و صفات جماله و جلاله ( و نوامى فضله و امتنانه ) أراد بها نعمه النامية الزاكية الّتي أفضل بها على عباده و امتنّ بها عليهم باقتضاء ربوبيّته و حفظا لبقاء النوع . و قوله ( حمدا يكون لحقه قضاء و لشكره أداء ) من باب المبالغة في كمال ثنائه سبحانه كما في قولهم حمدا ملاء السماوات و الأرض ، و إلاّ فالحمد الّذي يقضي حقّه [ 304 ] و يؤدّى شكره على ما هو أهل له و مستحقّه فهو خارج عن وسع البشر كما عرفت تحقيق ذلك في شرح الفصل الأوّل من المختار الأوّل و شرح المختار السابع و السبعين أيضا ( و إلى ثوابه مقرّبا ) لأنّه سبحانه وعد الثواب للشاكر و قال : فاشكروني أشكركم ، من باب المشاكلة أى اثيبكم على شكركم 1 و معلوم أنه سبحانه منجز لوعده و من أوفي بعهده من اللّه ( و لحسن مزيده موجبا ) لأنه أخبر عن ايجاب الشكر لزيادة النعمة و وعد به و قال : لئن شكرتم لأزيدنّكم ، و معلوم أنه صادق في وعده لا يخلف الميعاد . ( و نستعين به استعانة ) صادرة عن صميم القلب و كمال الرجا و الوثوق باعانته و لذلك وصفها بكونها مثل استعانة ( راج لفضله مؤمّل لنفعه واثق بدفعه ) فان المستعين المتّصف بهذه الأوصاف لا تكون استعانته إلاّ على وجه الكمال إذ رجاه للفضل و أمله لايصال المنافع و وثوقه بدفع المضارّ إنما هو فرع المعرفة بفضله و إحسانه و بقدرته و قهره على كلّ شي‏ء ، و بأنه لا رادّ لحكمه و لا دافع لقضائه و أنّ بيده خزائن الملك و الملكوت ، و معلوم أنّ من عرف اللّه تعالى بذلك يكون طلبه للاعانة آكد و أشد ، و هذه الأوصاف الثلاثة في الحقيقة مظنّة للاعانة باعتبار صفات العظمة و الكمال في المستعان . ثمّ وصفها بوصفين آخرين هما مظنّة للاعانة باعتبار وصف الذّل و الاستكانة في المستعين و هو قوله ( معترف له بالطوّل مذعن له بالعمل و القول ) فانّ من اعترف لطوله و إفضاله و أذعن أى خضع و ذلّ و انقاد على ربوبيّته و أسرع إلى طاعته قولا و عملا فحقيق على الاعانة و جدير بالافضال . ثمّ أردف ذلك بالاعتراف بالايمان الكامل فقال ( و نؤمن به ) ايمانا كاملا مستجمعا لصفات الكمال و انما يكون كذلك إذا كان مثل ( ايمان من رجاه ) للمطالب العالية ( موقنا ) بأنه أهله لقدرته على إنجاح المأمول و قضاء المسئول ( و أناب إليه مؤمنا ) ----------- ( 1 ) في هذه الجملات من الاشتباه ما لا يخفى « المصحح » [ 305 ] علما منه بأنّ مرجع العبد إلى سيّده و معوّله إلى مولاه ( و خنع ) أى خضع ( له مذعنا ) بأنّ نفسه ذليل أسير في ربق الافتقار و الامكان و أنّ ربّه جليل متّصف بالعزّة و العظمة و السلطان ( و أخلص له موحدا ) اى أخلص له العبوديّة حال كونه معتقدا بوحدانيّته علما منه بأنّ من كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربّه أحدا ( و عظّمه ممجّدا ) أى عظّمه بصفات العزّ و الكبرياء و الجلال حال التمجيد له بأوصاف القدرة و العظمة و الكمال ( و لاذ به ) أى لجأ إليه ( راغبا مجتهدا ) أى راغبا في الالجاء مجدّا في الرغبة و الالتجاء علما منه بأنّه الملاذ و الملجاء ، هذا و لما حمد اللّه سبحانه و استعان منه و امن به أخذ في تنزيهه و تقديسه باعتبارات سلبيّة و إضافية هي غاية وصف الواصفين و منتهى درك الموحّدين فقال ( لم يولد سبحانه فيكون في العزّ مشاركا ) أى ليس له والد حتّى يكون له شريك في العزّ و الملك لجريان العادة بكون والد العزيز عزيزا غالبا ( و لم يلد فيكون موروثا هالكا ) أى ليس له ولد حتّى يهلك و يرثه ولده كما هو الغالب عادة من موت الوالد قبل الولد و وارثة الولد عنه و برهان تنزّهه سبحانه عنهما أنهما من لواحق الحيوانية المستلزمة للجسميّة فهو يفيد لنفي تولّده سبحانه عن شي‏ء و نفى تولّد شي‏ء عنه بالمعنى المعروف في الحيوان . و يدلّ على تنزّهه سبحانه عن ذلك مطلقا ما رواه في البحار و الصافى من كتاب التوحيد للصّدوق بسنده عن وهب بن وهب القرشي قال : حدّثنى الصادق جعفر بن محمّد عن أبيه الباقر عن أبيه عليهم السّلام أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علىّ عليه السّلام يسألونه عن الصّمد ، فكتب إليهم : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم أمّا بعد فلا تخوضوا فى القرآن و لا تجادلوا فيه و لا تتكلّموا فيه بغير علم ، فقد سمعت جدّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول : من قال في القرآن بغير علم فليتبوء مقعده في النار ، و أنه سبحانه قد فسّر الصمد فقال اللّه أحد اللّه الصمد ثمّ فسّره فقال لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفواً احد ، لم يلد لم يخرج منه شي‏ء كثيف كالولد و ساير الأشياء الكثيفة الّتى تخرج من المخلوقين و لا شي‏ء لطيف كالنفس [ 306 ] و لا ينشعب منه البدوات كالسنّة و النوم و الخطرة و الهمّ و الحزن و البهجة و الضحك و البكاء و الخوف و الرجاء و الرغبة و السّامة و الجوع و الشبع تعالى أن يخرج منه شي‏ء و أن يتولّد منه شي‏ء كثيف ، أو لطيف ، و لم يولد لم يتولّد من شي‏ء و لم يخرج من شى‏ء كما يخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها كالشي‏ء من الشى‏ء و الدابّة من الدابّة ، و النبات من الأرض ، و الماء من الينابيع ، و الثمار من الأشجار ، و لا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها كالبصر من العين ، و السّمع من الاذن ، و الشمّ من الانف ، و الذوق من الفم ، و الكلام من اللسان ، و المعرفة و التميز من القلب ، و كالنار من الحجر ، لا بل هو اللّه الصّمد الّذى لا من شى‏ء و لا في شى‏ءو لا على شي‏ء ، مبدع الأشياء و خالقها و منشي‏ء الأشياء بقدرته يتلاشى ما خلق للفناء بمشيّته و يبقي ما خلق للبقاء بعلمه ، فذلكم اللّه الصمد الّذى لم يلد و لم يولد عالم الغيب و الشهادة الكبير المتعال ، و لم يكن له كفوا أحد ( و لم يتقدّمه وقت و لا زمان ) قال الشارح المعتزلي : الوقت هو الزمان و إنما خالف بين اللفظين و أتى بحرف العطف تفنّنا ، و قال الشارح البحراني : الوقت جزء الزمان ، و قال العلاّمة المجلسي ره : و يمكن حمل أحدهما على الموجود و الآخر على الموهوم ، و على أىّ تقدير فهو خالقهما و مبدعهما و مقدّم عليهما فكيف يتصوّر تقدّمهما عليه تعالى . ( و لم يتعاوره ) أى لم يختلف و لم يتناوب عليه ( زيادة و لا نقصان ) لاستلزامهما التغير المستلزم للامكان المنزّه قدسه عزّ و جلّ عنه . فان قلت : كان اللاّزم أن يقال زيادة و نقصان لأنّ التعاور يقتضي الضدّين معا كما أنّ الاختلاف كذلك تقول : لم يختلف زيد و عمرو و لا تقول لم يختلف زيد و لا عمرو . قلت : أجاب عنه الشارح المعتزلي بأنّ مراتب الزيادة لما كانت مختلفة جاز أن يقال : لا يعتوره الزيادة ، و كذلك القول في جانب النقصان و جرى كلّ واحد من النوعين مجرى أشياء متنافية يختلف على الموضع الموصوف بها . [ 307 ] ( بل ظهر للعقول ) و تجلّى للبصائر ( بما أرانا من علامات التدبير المتقن ) المحكم ( و ) آيات ( القضاء المبرم ) في الأنفس و الآفاق في أصناف الموجودات و أنواع المصنوعات المبدعة على أحسن نظام و أتقن انتظام على ما عرفت تفصيلا و تحقيقا في شرح المختار التاسع و الأربعين . و نزيد عليه ايضاحا و تاكيدا ما قاله الصادق عليه السّلام للمفضل بن عمر في حديثه المعروف : يا مفضّل أوّل العبر و الأدلّة على البارى جلّ قدسه تهيئة هذا العالم و تأليف أجزائه و نظمها على ما هى عليه ، فانّك إذا تأمّلت العالم بفكرك و ميّزته بعقلك وجدته كالبيت المبنىّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده ، فالسّماء مرفوعة كالسّقف و الأرض ممدودة كالبساط ، و النجوم منضودة كالمصابيح ، و الجواهر مخزونة كالذخاير ، و كلّ شى‏ء فيها لشأنه معدّ ، و الانسان كالمملك ذلك البيت و المخوّل جميع ما فيه ، و ضروب النبات مهيّأة لمآربه ، و صنوف الحيوان مصروفة فى مصالحه و منافعه ، ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير و حكمة و نظام و ملايمة و أنّ الخالق له واحد ، و هو الّذى ألفه و نظمه بعضا إلى بعض جلّ قدسه و تعالى جدّه و كرم وجهه و لا إله غيره ، تعالى عمّا يقول الجاحدون و جلّ و عظم عما ينتحله الملحدون ، هذا . و لما ذكر اجمالا أنّه تعالى تجلّي للعقول بما أظهر من آيات القدرة و علامات التدّبر أراد أن يشير إلى بعض تلك الآيات تفصيلا و هو خلق السماوات . فقال ( فمن شواهد خلقه ) أى آيات الابداع و علامات التدبّر المحكم أو ما يشهد من الخلق بوجوده سبحانه و تدبيره و علمه أو ما حضر من خلقه أى ظهر وجوده بحيث لا يمكن لاحد إنكاره من آيات تدبيره تعالى ( خلق السماوات ) و تخصيصها من بين ساير الشواهد بالبيان لكونها من أعظم شواهد القدرة ، و أظهر دلايل الرّبوبيّة ، و أوضح علائم التدبير حيث خلقت ( موطدات ) أى محكمات الخلقة مثبتات في محالها على وفق النظام و الحكمة ( بلا عمد ) ترونها و لا دسار ينتظمها ( قائمات ) في الجوّ ( بلا سند ) يكون عليه استنادها و به اعتمادها ( دعاهنّ ) سبحانه فقال لها و للأرض ائتيا [ 308 ] طوعاً أو كرهاً ( فأجبن طائعات ) كما قال حكاية عنها و عن الأرض : قالتا أتينا طائعين و لفظ الدّعا و الاجابة في كلام الامام عليه السّلام إمّا محمولان على حقايقهما نظرا إلى أنّ للسّماوات أرواحا مدبّرة عاقلة كما هو قول بعض الحكماء و المتكلّمين أو نظرا إلى أنّه تعالى خاطبها و أقدرها على الجواب . و إمّا محمولان على المجاز و الاستعارة تشبيها لتأثير قدرته تعالى فيها و تأثّرها عنها بأمر المطاع و إجابة المطيع الطائع كقوله : كن فيكون ، و هذا هو الأظهر و يؤيّده ما حكي عن ابن عباس في تفسير الآية المتقدّمة أعني قوله : أتينا طائعين ، أنه قال أتت السماء بما فيها من الشمس و القمر و النجوم ، و أتت الأرض بما فيها من الأنهار و الأشجار و الثمار ، و ليس هناك أمر ما بقول حقيقة و لا جواب لذلك القول بل أخبر سبحانه عن اختراعه للسماوات و الأرض و إنشائه لهما من غير تعذّر و لا كلفة و لا مشقّة بمنزلة ما يقال افعل فيفعل من غير تلبّث و لا توقّف و لا تأنّ و هو كقوله : إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون . و من ذلك علم أنّ قوله : ( مذعنات غير متلكّئات و لا مبطئات ) أراد به انقيادهنّ من غير توقّف و لا إبطاء في الاصابة و خضوعهنّ في رقّ الامكان و الحاجة و اعترافهنّ بلسان الذّل و الافتقار بوجوب وجود مبدعها و عظمة سلطان مبدئها . ( و لولا ) اعترافهنّ و ( اقرارهنّ له بالربوبيّة ) و القدرة و العظمة و لأنفسهنّ بالامكان و الذلّ و الحاجة ( و اذعانهنّ بالطواعية ) و الامتثال لبارئهنّ ( لما جعلهنّ موضعا لعرشه ) قال الشارح البحراني إقرارهنّ بالرّبوبيّة راجع إلى شهادة لسان الحال الممكن بالحاجة إلى الرّب و الانقياد لحكم قدرته ، و ظاهر أنه لو لا امكانها و انفعالها عن قدرته و تدبيره لم يكن فيها عرش و لم يكن أهلا لسكنى الملائكة و صعود الكلم الطيّب المشار اليه بقوله ( و لا مسكنا لملائكته ) و لعلّ المراد بهم المقرّبون أو الأكثر لأنّ منهم من يسكن الهواء و الأرض و الماء ( و لا مصعدا للكلم الطيّب ) و هو شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ( و العمل الصالح ) الصادر ( من خلقه ) و هو [ 309 ] الخيرات و الحسنات من الفرايض و المندوبات . و المراد لصعودهما صعود الكتبة بصحايف الأعمال إليها و إليه الاشارة بقوله سبحانه و تعالى : إليه يصعد الكلم الطيّب و العمل الصّالح يرفعه ، هذا و قد تقدّم في تذييلات الفصل الثامن من الخطبة الأولى و في شرح الفصل الرابع من الخطبة التسعين فصل واف في عجائب خلقة السماء و ما أبدعه اللّه سبحانه فيها من دلائل القدرة و آيات التدبير و الحكمة فانظر ماذا ترى ، و لشرافتها و كون مادّتها أقبل خصّ عليه السّلام هنا طاعتها بالذكر و إن كانت الأرض مشاركة لها في الطاعة مذكورة معها في الآية . و لما ذكر خلق السماوات و كونها من شواهد الرّبوبيّة و أدلّة التوحيد استطرد إلى ذكر النجوم و الكواكب لما فيها من بدايع التدبير و عجايب التقدير ، و قد مرّ في الفصل الثامن من فصول المختار الأوّل و الفصل الرابع من المختار التسعين و شرحيهما منه عليه السّلام و منّا جملة وافية من الكلام عليها و أشار هنا إلى بعض منافعها فقال : ( جعل نجومها أعلاما يستدلّ بها الحيران ) أى جعلها علامات يهتدى بها المتحيّرون كما قال عزّ من قائل : و علامات و بالنّجم هُم يهتدون ( في مختلف فجاج الأقطار ) أى يستدلّ بها الحيارى في اختلاف فجاج الأقطار و تردّدها ، أو في محلّ اختلافها أو في حال مخالفة الفجاج الموجودة في أقطار الأرض و نواحيها و ذهاب كلّ منها إلى جهة غير ما يذهب إليه الآخر . ( لم يمنع ضوء نورها ادلهمام سجف الليل المظلم ) أى شدّة ظلمة ستر اللّيل ذى الظلمة لم تكن مانعة من إضائة النجوم ، و على رواية ادلهمام بالنصب فالمعنى أنّ ضوء نورها لم يمنع من ظلمة الليل . ( و لا استطاعت جلابيب سواد الحنادس ) أى أثواب سواد الليال المظلمة شديدة الظلمة لم تكن مستطيعة من ( أن تردّ ما شاع ) و ظهر ( في السماوات من تلألؤ نور [ 310 ] القمر ) و لمعانه . قال الشارح المعتزلي بعد روايته عن البعض نصب لفظ الادلهمام : و هذه الرواية أحسن في صناعة الكتابة لمكان الازدواج أى لا القمر و الكواكب تمنع الليلة من الظلمة ، و لا الليل يمنع الكواكب و القمر من الاضاءة أقول : و محصّل مقصود الامام عليه السّلام إنّ اللّه سبحانه لما قدّر بلطيف حكمته أن يجعل الليل سباتا و راحة للخلق جعلها مظلمة لأنّ كثيرا من الناس لو لا ظلمتها لم يكن لهم هدء و لا قرار حرصا على الكسب و الجمع و الادخار مع عظم حاجتهم إلى الهدؤ و الراحة لسكون أبدانهم و جموم حواسّهم و انبعاث القوّة الهاضمة لهضم الطعام و تنفيذ الغذاء إلى الأعضاء و لما كان شدّة ظلمتها و كونها داحية مدلهمة مانعة عن جميع الأعمال و ربما كان الناس محتاجين إلى العمل فيها لضيق الوقت عليهم في تقضى الأعمال بالنهار أو شدّة الحرّ و إفراطه المانع من الزرع و الحرث و قطع الفيافي و الأسفار جعل ببديع صنعه فيها كواكب مضيئة و قمرا منيرا و ليهتدى بها في ظلمات البرّ و البحر و الطرق المجهولة ، و يقام بالأعمال من الزرع و الغرس و الحرث و غيرها عند مسيس الحاجة ، و جعل نورها ناقصا من نور الشمس كيلا يمنع من الهدؤ و الراحة . ( فسبحان من ) جعل النور و الظلام على تضادّهما منقادين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم و قوامه و سبحان من هو بكلّ شى‏ء محيط حتّى لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض و لا في السماء و ( لا يخفى عليه سواد غسق داج ) أى ظلمة مظلمة و العطف للمبالغة من قبيل شعر شاعر ( و لا ليل ساج ) أى ساكن و فى الاسناد توسّع باعتبار سكون الناس و هدؤهم فيها ( في بقاع الأرضين المتطاطئات ) المنخفضات ( و لا في يفاع السفع المتجاورات ) أى في مرتفع الجبال المتجاورة و انما عبر عن الجبال بالسفع لأنّ لونها غالبا مشرب حمرة ، و لا يخفى ما فيما بين لفظ البقاع و اليفاع من جناس الخط و هو من محاسن البديع حسبما عرفته في ديباجة الشرح . [ 311 ] ( و ) لا يخفي عليه عزّ و جلّ أيضا ( ما يتجلجل ) و يصوت ( به الرّعد في افق السماء ) و أراد بتجلجله تسبيحه المشار إليه في قوله تعالى : و يسبّح الرّعد بحمده قال الطبرسى : تسبيح الرّعد دلالته على تنزيه اللّه تعالى و وجوب حمده فكأنه هو المسبّح ، و قيل : إنّ الرّعد هو الملك الّذى يسوق السحاب و يزجره بصوته فهو يسبّح اللّه و يحمده . و قال الرازى : في قوله تعالى و يسبّح الرعد بحمده أقوال : الاول أنّ الرّعد اسم ملك من الملائكة و الصّوت المسموع هو صوت ذلك الملك بالتسبيح و التهليل عن ابن عباس ، أنّ اليهود سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن الرّعد ما هو فقال : ملك من الملائكة موكّل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء اللّه قالوا : فما الصّوت الّذى نسمع ؟ قال : زجره السحاب ، و عن الحسن أنّه خلق من خلق اللّه ليس بملك فعلى هذا القول الرّعد هو الملك الموكّل بالسحاب و صوته تسبيح اللّه تعالى و ذلك الصّوت أيضا يسمى بالرّعد و يؤكّد هذا ما روى عن ابن عباس كان اذا سمع الرّعد قال : سبحان الّذى سبّحت له ، و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال : إنّ اللّه ينشى‏ء السحاب الثقال فينطق أحسن المنطق و يضحك أحسن الضحك ، فنطقه الرّعد و ضحكه البرق و اعلم أنّ هذا القول غير مستبعد ، و ذلك لأنّ عند أهل السنّة البنية ليست شرطا لحصول الحياة ، فلا يبعد من اللّه تعالى أن يخلق الحياة و العلم و القدرة و النطق في أجزاء السحاب ، فيكون هذا الصوت المسموع فعلا له . و كيف يستبعد ذلك ؟ و نحن نرى أنّ السمندر يتولّد في النار ، و الضفادع تتولّد في الماء البارد ، و الدودة العظيمة ربما تتولّد في الثلوج العظيمة . و أيضا فاذا لم يبعد تسبيح الجبال في زمن داود عليه السّلام و لا تسبيح الحصى في زمان محمّد صلّى اللّه عليه و آله فكيف يستبعد تسبيح السحاب . و على هذا القول فهذا الشي‏ء المسمّى بالرّعد ملك أو ليس بملك فيه قولان : [ 312 ] أحدهما أنّه ليس بملك لأنّه عطف عليه الملائكة فقال : و الملائكة من خيفته . و الثاني أنّه لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة و إنما حسن إفراده بالذكر على سبيل التشريف كما في قوله : و ملائكته و رسله و جبرئيل و ميكائيل ، و في قوله : و إذ أخذنا من النّبيين ميثاقهم و منك و من نوح . القول الثانى أنّ الرّعد اسم لهذا الصوت المخصوص و مع ذلك فانّ الرّعد يسبّح اللّه سبحانه ، لأنّ التسبيح و التقديس و ما يجرى مجراها ليس إلاّ وجود لفظ يدلّ على حصول التنزيه و التقديس للّه سبحانه و تعالى ، فلما كان هذا الصّوت دليلا على وجود موجود متعال عن النقص و الامكان كان ذلك في الحقيقة تسبيحا و هو معنى قوله : و إن من شي‏ء إلاّ يسبّح بحمده . و القول الثالث أنّ المراد من كون الرّعد مسبّحا أنّ من يسمع الرّعد فانّه يسبّح اللّه تعالى ، فلهذا المعنى اضيف هذا التسبيح إليه . ( و ) لا يعزب عنه ( ما تلاشت ) و اضمحلّت عنه ( بروق الغمام ) يعني أنّه سبحانه عالم بالأقطار التي يضمحلّ عنها البرق بعد ما كانت مضيئة به ، و تخصيص ما تلاشت عنه بالذكر مع اشتراك غير المتلاشية عنه معه في إحاطة علمه سبحانه به كالأوّل ، لأنّ علمه بما ليس بمضيّ بالبرق أعجب و أغرب ، و أمّا ما هو مضىّ به و لم يضمحل عنه فيمكن إدراك غيره سبحانه له من اولى الأبصار الصحيحة ، هذا . و أعجب من ذلك ما في نفس البرق من عظيم القدرة و دلالته على عظمة بارئه . قال الفخر الرازي : و اعلم أنّ أمر الصاعقة عجيب جدّا ، و ذلك لأنّها نار تتولّد من السحاب و إذا نزلت من السحاب فربما غاصت في البحر و أحرقت الحيتان في قعر البحر و الحكماء بالغوا في وصف قوّتها ، و وجه الاستدلال أنّ النار حارّة يابسة و طبيعتها ضدّ طبيعة السحاب ، فوجب أن تكون طبيعتها في الحرارة و اليبوسة أضعف من طبيعة النيران الحادثة عندنا ، لكنه ليس الأمر كذلك ، فانها أقوى نيران هذا العالم ، فثبت أنّ اختصاصها بمزيد تلك القوّة لا بدّ و أن يكون بسبب تخصيص الفاعل [ 313 ] المختار ( و ) لا يغيب عنه ( ما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء و انهطال السماء ) أى الرياح الشديدة المنسوبة إلى الأنواء و انصباب الأمطار . و النّوء سقوط نجم من منازل القمر الثمانية و العشرين الّتي عرفتها تفصيلا في شرح الفصل الرابع من فصول المختار التسعين في المغرب 1 مع الفجر و طلوع رقيبه من المشرق من ساعته مقابلا له في كلّ ليلة إلى ثلاثة عشر يوما ، و هكذا كلّ نجم منها إلى انقضاء السنة إلاّ الجبهة فانّ لها أربعة عشر يوما . و فى البحار من معاني الأخبار مسندا عن الباقر عليه السّلام قال : ثلاثة من عمل الجاهلية : الفخر بالانساب ، و الطعن في الأحساب ، و الاستسقاء بالأنواء . قال الصّدوق ( ره ) أخبرني محمّد بن هارون الزنجاني عن عليّ بن عبد العزيز عن أبي عبيد أنّه قال : سمعت عدّة من أهل العلم يقولون : إنّ الأنواء ثمانية و عشرون نجما معروفة المطالع في أزمنة السنة كلّها من الصّيف و الشتاء و الرّبيع و الخريف ، يسقط منها في كلّ ثلاث عشرة ليلة نجم في المغرب مع طلوع الفجر و يطلع آخر يقابله في المشرق من ساعته ، و كلاهما معلوم مسمّى و انقضاء هذه الثمانية و العشرين كلّها مع انقضاء السنة ، ثمّ يرجع الأمر إلى النجم الأوّل مع استيناف السنة المقبلة و كانت في الجاهلية إذا سقط منها نجم و طلع آخر قالوا : لا بدّ أن يكون عند ذلك رياح و مطر ، فينسبون كلّ غيث يكون عند ذلك إلى ذلك النجم الذي يسقط حينئذ فيقولون مطرنا بنوء الثريّا و الدّبران و السماك ، و ما كان من هذه النجوم فعلى هذا فهذه هي الأنواء واحدها نوء و إنما سمّى نوء لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق بالطلوع و هو ينوء نوء ، و ذلك النهوض هو النوء فسمّى النجم به و كذلك كلّ ناهض ينتقل بابطاء فانّه ينوء عند نهوضه ، قال اللّه تبارك و تعالى : لتنوء بالعصبة اُولي القوّة . و فيه عن الجزرى في النهاية قال : قد تكرّر ذكر النوء و الأنواء في الحديث و منه الحديث : مطرنا بنوء كذا قال : و إنما غلّظ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أمر الأنواء ، لأنّ ----------- ( 1 ) متعلق بسقوط ( منه ) . [ 314 ] العرب كانت تنسب المطر إليها ، فأما من جعل المطر من فعل اللّه و أراد بقوله مطرنا بنوء كذا أى في وقت كذا و هو هذا النوء الفلانى فانّ ذلك جايز ، أى إنّ اللّه تعالى قد أجرى العادة أن يأتى المطر في هذه الأوقات ، انتهى . و قال ابن العربى من انتظر المطر منها على أنها فاعلة من دون اللّه أو يجعل اللّه شريكا فيها فهو كافر . و من انتظر منها على اجراء العادة فلا شي‏ء عليه هذا و من ذلك كلّه علم أنّ إضافته عليه السّلام العواصف إلى الأنواء من جهة أنّ العرب تضيف الآثار العلويّة من الرّياح و الأمطار و كذلك الحرّ و البرد إليها ( و يعلم مسقط القطرة و مقرّها ) أى محلّ سقوطها و موضع قرارها ( و مسحب الذّرة و مجرّها ) أى محلّ سحب صغار النمل و جرّها ( و ما يكفى البعوضة من قوتها ) قال الدّميرى في حياة الحيوان : البعوضة واحدة البعوض و البعوض على خلقة الفيل إلاّ أنّه أكثر أعضاء من الفيل ، فانّ للفيل أربع أرجل و خرطوما و ذنبا ، و له مع هذه الأعضاء رجلان زايدتان و أربعة أجنحة ، و خرطوم الفيل مصمت و خرطومه مجوّف نافذ للجوف فأذا طعن به جسد الانسان استقى الدّم و قذف به جوفه فهو له كالبلعوم و الحلقوم و لذلك اشتدّ عضّها و قويت على خرق الجلود الغلاظ ، و مما ألهمه اللّه أنّه اذا جلس على عضو من أعضاء الانسان لا يزال يتوخّى بخرطومه المسام الّتى يخرج منها العرق لأنّها أرقّ بشرة من جلد الانسان فاذا وجدها وضع خرطومه فيها ، و فيه من الشره أن يمصّ الدّم إلى أن ينشقّ و يموت أو إلى أن يعجز عن الطيران و ذلك سبب هلاكه . قال : و البعوضة على صغر جرمها قد أودع اللّه في مقدم دماغها قوّة الحفظ و في وسطه قوّة الفكر ، و في مؤخّره قوّة الذكر ، و خلق لها حاسّة البصر ، و حاسّة اللّمس ، و حاسّة الشم ، و خلق لها منفذا للغذاء ، و مخرجا للفضلة ، و خلق لها جوفا و أمعاء و عظاما ، فسبحان من قدّر فهدى ، و لم يخلق شيئا من المخلوقات سدى . ( و ) يعلم ( ما تحمل الانثى ) من البعوضة و من غيرها ( في بطنها ) كما قال [ 315 ] عزّ من قائل : و يعلم ما في الأرحام . ثمّ عاد إلى حمد اللّه سبحانه باعتبار تقدّم وجوده على ساير مخلوقاته فقال ( و الحمد للّه الكائن ) أى الموجود ( قبل أن يكون كرسيّ أو عرش أو سماء أو أرض أو جانّ أو انس ) لا يخفى ما في هذه العبارة من حسن التأدية . و المراد بالجانّ إما إبليس أو أبو الجنّ ، و بهما فسّر قوله تعالى : و الجآنّ خلقناه من قبل من نار السّموم ، قال الرازى في تفسير هذه الآية : اختلفوا في أنّ الجانّ من هو قال عطا عن ابن عباس : يريد إبليس و هو قول الحسن و مقاتل و قتادة و قال ابن عباس في رواية اخرى : الجانّ هو أبو الجنّ و هو قول الأكثرين و سمّى جانا لتواريه عن الأعين كما سمّى الجنّ جنّا لهذا السّبب و الجنين متوار في بطن أمّه و معنى الجانّ في اللّغة الساتر من جنّ الشي‏ء إذا ستر فالجانّ المذكور هنا يحتمل أن يكون جانا لانه يستر نفسه عن بني آدم ، أو يكون الفاعل يراد به المفعول كما في ماء دافق و عيشة راضية . و في البحار من العلل و العيون عن الرضا عن آبائه عليهم السّلام قال : سأل الشاميّ أمير المؤمنين عليه السّلام عن اسم أبى الجنّ فقال شومان و هو الّذى خلق من مارج . قال الطبرسي : من مارج من نار أى نار مختلط أحمر و أسود و أبيض عن مجاهد و قيل المارج الصافي من لهب النار الّذي لا دخان فيه . و قال البيضاوي في تفسير قوله : من نار السموم ، من نار شديد الحرّ النافذ في المسام و لا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيط كما لا يمتنع خلقها في الجواهر المجرّدة فضلا عن الاجساد المؤلّفة الّتي الغالب فيها الجزء النارى فانها أقبل لها من الّتي الغالب فيها الجزء الارضي ، و قوله : من نار ، باعتبار الغالب كقوله : خلقكم من تراب . ثمّ نزهه تعالى باعتبارات سلبيّة أحدها أنّه ( لا يدرك بوهم ) كما نقل عن الباقر عليه السّلام من قوله : كلّما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مثلكم مردود إليكم . [ 316 ] ( و ) الثانى أنه ( لا يقدّر بفهم ) أى لا يحدّ بفهم العقول ، و المراد به و بسابقه تنزيهه سبحانه عن إدراك العقول و الأوهام لذاته و قصورها عن الوصول إلى حقيقته ، و قد مرّ برهان ذلك في شرح الفصل الثاني من الخطبة الأولى و غيره أيضا . و أقول هنا إنّ الجملة الثّانية يحتمل أن تكون تأكيدا للجملة الأولى ، و يحتمل أن تكون تأسيسا . أما التأسيس فعلى أن يراد بالجملة الاولى عدم إمكان إدراك القوّة الوهميّة له و هى قوّة جسمانيّة للانسان محلّها آخر التجويف الأوسط من الدّماغ من شأنها إدراك المعاني الجزئية المتعلّقة بالمحسوسات كشجاعة زيد و سخاوته ، و هذه القوّة هي الّتي تحكم في الشاة بأنّ الذئب مهروب عنه و أنّ الولد معطوف عليه ، و هى حاكمة على القوى الجسمانية كلّها مستخدمة إياها استخدام العقل للقوى العقليّة ، و يراد بالجملة الثانية عدم امكان تقديره و تحديده بالقوّة العقلية . أمّا عدم إمكان إدراك الأوهام له فلأنّ مدركاتها منحصرة على عالم المحسوسات و الأجسام و الجسمانيات ، و اللّه سبحانه متعال عن ذلك . و أمّا عدم إمكان تحديد العقول فلأنّه 1 لا جزء له و ما لا جزء له لا حدّ له حتّى يمكن تحديده . و أيضا فهو سبحانه غاية الغايات فليس لذاته حدّ و نهاية حتّى يكون له حدّ معيّن و قدر معلوم يمكن تقديره و تحديده كما لساير الممكنات ، قال عزّ من قائل : و ما قدروا اللَّه حقَّ قدره . و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة له مروية عن التوحيد لما شبهه العادلون بالخلق المبعض المحدود في صفاته ذي الأقطار و النواحى المختلفة في طبقاته و كان عزّ و جل الموجود بنفسه لا بأداته انتفى أن يكون قدّروه حقّ قدره فقال تنزيها لنفسه عن مشاركة الانداد و ارتفاعها عن قياس المقدّرين له بالحدود من كفرة العباد : و ما قدروا اللّه حقَّ قدره . ----------- ( 1 ) و الا لزم التركيب المستلزم للافتقار و هو من صفات الممكن « منه ره » [ 317 ] فقد علم بذلك أنّه لا يقدّر بالحدود و النهايات الجسمانيّة كما أنه لا يقدّر و لا يحدّ بالحدّ العقلى المركّب من الجنس و الفصل و أما التأكيد فعلى أن يراد بالوهم في الجملة الأولى المعنى الأعمّ من القوّة الوهميّة المتعلّقة بالمحسوسات جميعا و القوّة العقليّة المتعلّقة بالمعقولات و اطلاق الوهم على ذلك المعنى شايع في الاستعمال وارد فى كثير من الأخبار . قال بعض المحققين : اعلم أنّ جوهر الوهم بعينه هو جوهر العقل و مدركاته بعينه هو مدركات العقل ، و الفرق بينهما بالقصور و الكمال ، فما دامت القوّة العقليّة ناقصة كانت ذات علاقة بالموادّ الحسيّة منتكسة النظر إليها لا تدرك المعانى إلاّ متعلّقة بالموادّ مضافة إليها ، و ربما تذعن لأحكام الحسّ لضعفها و غلبة الحواسّ و المحسوسات عليها ، فتحكم على غير المحسوس حكمها على المحسوس ، فما دامت في هذا المقام اطلق عليها اسم الوهم ، فاذا استقام و قوى صار الوهم عقلا و خلص عن الزيغ و الضلال و الآفة و الوبال ، انتهى . و على ذلك فيكون المقصود بالفهم في الجملة الثانية المعنى الأعمّ أيضا ، و يكون حاصل المراد بالجملتين عجز الأوهام أى القوّة الوهميّة و العقليّة جميعا عن إدراك ذاته و تعقّل حقيقته ، لأنّ تعقّله إمّا بحصول صورة مساوية لذاته تعالى ، أو بحضور ذاته المقدّسة و شهود حقيقته ، و الأوّل محال إذ لا مثل لذاته و كلّ ما له مثل أو صورة مساوية له فهو ذو ماهيّة كلّية و هو تعالى لا ماهيّة له ، و الثاني محال أيضا إذ كلّ ما سواه من العقول و النفوس و الذّوات و الهويّات فوجوده منقهر تحت جلاله و عظمته و سلطانه القهار عين الخفاش في مشهد نور الشمس ، فلا يمكن للعقول لقصورها عن درجة الكمال الواجبى إدراك ذاته على وجه الاكتناه و الاحاطة بنعوت جلاله و صفات جماله . فاتّضح من ذلك كلّه أنّه سبحانه لا يدرك بالأوهام ، و لا يقدّر بالأفهام جلّ شأنه و عظم سلطانه . ( و ) الثالث أنّه ( لا يشغله سائل ) عن سائل آخر كما يشغل السائل من المخلوق [ 318 ] عن توجّهه إلى سائل آخر ، و ذلك لقصور ذواتنا و قدرتنا و علمنا ، و أمّا اللّه الحيّ القيّوم فلكمال ذاته و عموم قدرته و إحاطته فلا يمنعه سؤال عن سؤال و لا يشغله شأن عن شأن . ألا ترى أنّه يرزق الخلايق جميعا على قدر استحقاقهم في ساعة واحدة ، و كذا يحاسبهم يوم القيامة دفعة كما قال عزّ من قائل في سورة النحل : و ما أمر الساعة إلاّ كلمح البصر أو هو أقرب إنَّ اللّه على كلّ شي‏ء قدير ، أي كرجع الطرف على الحدقة إلى أسفلها أو هو أقرب لأنه يقع دفعة و قال في سورة القمر : و ما أمرنا إلاّ واحدة كلمح بالبصر ، قال القمّى : يعنى يقول كن فيكون . ( و ) الرابع أنه ( لا ينقصه نائل ) و عطاء كملوك الدّنيا إذ مقدوراته تعالى غير متناهية فكرمه لا يضيق عن سؤال أحد ، و يده بالعطاء أعلى من كلّ يد ، و هو نظير قوله في الفصل الأوّل من المختار التسعين : لا يعزّه المنع و الجمود و لا يكديه الإعطاء و الجود ، و قد مرّ في شرحه رواية الحديث القدسى و هو قوله سبحانه : يا عبادى لو أنّ أوّلكم و آخركم و انسكم و جنّكم قاموا في صعيد واحد فسألونى فأعطيت كلّ إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندى شيئا إلاّ كما ينقص المخيط إذا دخل البحر أى لا تنقصه شيئا فانّ المخيط و إن كان يرجع بشى‏ء محسوس قليل ، لكنّه لقلّته لا يعدّ شيئا فكأنّه لم ينقص منه شى‏ء ( و ) الخامس أنّه ( لا ينظر بعين ) أى ليس إدراكه بحاسّة البصر و إن كان بصيرا لتنزّهه عن المشاعر و الحواسّ . ( و ) السادس أنه ( لا يحدّ بأين ) لأنّ الأين عبارة عن نسبة الجسم إلى المكان و هو سبحانه منزّه عن ذلك لبرائته عن التحيّز روى في البحار من التوحيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يهودى يقال له شجت فقال : يا محمّد جئت أسألك عن ربّك فان أجبتنى عما أسألك عنه و إلاّ رجعت ، فقال له : سل عما شئت ، فقال : أين ربّك ؟ فقال : هو في كلّ مكان و ليس هو في شى‏ء من المكان بمحدود ، قال : فكيف هو ؟ فقال : و كيف أصف ربّى بالكيف [ 319 ] و الكيف مخلوق و اللّه لا يوصف بخلقه . و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أيضا من زعم أنّ اللّه من شى‏ء فقد جعله محدثا ، و من زعم أنّه في شى‏ء فقد جعله محصورا ، و من زعم أنه على شى‏ء فقد جعله محمولا قوله عليه السّلام : محصورا أى عاجزا ممنوعا عن الخروج عن المكان ، أو محصورا بذلك الشي‏ء و محوّيا به فيكون له انقطاع و انتهاء فيكون ذا حدود و أجزاء و قوله : محمولا أى محتاجا إلى ما يحمله . قال الصدوق ره : الدليل على أنّ اللّه عزّ و جلّ لا في مكان إنّ الأماكن كلّها حادثة و قد قام الدّليل على أنّ اللّه عزّ و جلّ قديم سابق للأماكن ، و ليس يجوز أن يحتاج الغنى القديم إلى ما كان غنيّا عنه ، و لا أن يتغيّر عما لم يزل موجودا عليه فصحّ اليوم أنه لا في مكان كما أنّه لم يزل كذلك و تصديق ذلك ما حدّثنا به القطان عن ابن زكريا القطان عن ابن حبيب عن ابن بهلول عن أبيه عن سليمان المروزى عن سليمان بن مهران قال : قلت لجعفر ابن محمّد عليه السّلام : هل يجوز أن نقول إنّ اللّه عزّ و جلّ في مكان ؟ فقال : سبحان اللّه و تعالى عن ذلك إنه لو كان في مكان لكان محدثا ، لأنّ الكائن في مكان محتاج إلى المكان و الاحتياج من صفات الحدث لا القديم . ( و ) السابع أنّه ( لا يوصف بالأزواج ) و هي نفى الكميّة المنفصلة عنه أى ليس فيه اثنينية و تعدّد . و قال العلاّمة المجلسى ره : أى لا يوصف بالأمثال أو الأضداد أو بصفات الأزواج أو ليس فيه تركب و ازدواج أمرين أو بأنّ له صاحبة . ( و ) الثامن أنه ( لا يخلق بعلاج ) أى لا يحتاج في خلقه للمخلوقات إلى مزاولة و معالجة و آلة و حيلة كساير أرباب الصنايع ، و إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون . [ 320 ] ( و ) التاسع أنه ( لا يدرك بالحواسّ ) لاختصاص إدراكها بالأجسام و الجسمانيّات و اللّه سبحانه منزّه عن الجسميّة و لواحقها . روى في البحار من التوحيد عن عبد اللّه بن جوين العبدى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه كان يقول : الحمد للّه الذي لا يحسّ و لا يجسّ و لا يمسّ و لا يدرك بالحواسّ الخمس و لا يقع عليه الوهم و لا تصفه الألسن و كلّ شي‏ء حسسته الحواسّ أو لمسته الأيدى فهو مخلوق . ( و ) العاشر أنه ( لا يقاس بالنّاس ) أى لا يشبه شيئا من خلقه في جهة من الجهات كما يزعمه المشبّهة و المجسّمة . روى في البحار من التوحيد بسنده عن المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : من شبّه اللّه بخلقه فهو مشرك إنّ اللّه تبارك و تعالى لا يشبه شيئا و لا يشبهه شي‏ء و كلّما وقع في الوهم فهو بخلافه . قال الصّدوق ( ره ) الدّليل على أنّ اللّه سبحانه لا يشبه شيئا من خلقه من جهة من الجهات أنه لا جهة لشي‏ء من أفعاله إلاّ محدثة ، و لا جهة محدثة إلاّ و هى تدلّ على حدوث من هى له ، فلو كان اللّه جلّ ثناؤه يشبه شيئا منها لدلّت على حدوثه من حيث دلّت على حدوث من هى له ، إذ المتماثلين في العقول يقتضيان حكما واحدا من حيث تماثلا منها و قد قام الدّليل على أنّ اللّه عزّ و جلّ قديم ، و محال أن يكون قديما من جهة حادثا من اخرى . و من الدّليل على أنّ اللّه تبارك و تعالى قديم أنّه لو كان حادثا لوجب أن يكون له محدث ، لأنّ الفعل لا يكون إلاّ بفاعل و لكان القول في محدثه كالقول فيه و في هذا وجود حادث قبل حادث لا الى أوّل و هو محال ، فيصح أنّه لابدّ من صانع قديم و إذا كان ذلك كذلك فالّذي يوجب قدم ذلك الصانع و يدلّ عليه يوجب قدم صانعنا و يدلّ عليه . و الحاديعشر أنّه متكلّم لا كتكلّم المخلوقين و إليه أشار بقوله ( الّذي كلّم « ج 20 » [ 321 ] موسى ) عليه السّلام في شاطى‏ء الوادي الأيمن في البقعة المباركة ( تكليما ) أتى به تأكيدا و دفعا لتوهم السامع التجوّز في كلامه سبحانه ، و قد عرفت تحقيق معنى كلامه و كونه متكلّما في شرح المختار المأة و الثّامن و السبعين . و قوله ( و أراه من آياته عظيما ) يحتمل أن يراد بها الآيات التسع المشار إليها في قوله تعالى : و لقد آتينا موسى تسع آيات بيّنات ، قال الصادق عليه السّلام : هى الجراد و القمّل و الضفادع و الدّم و الطوفان و البحر و الحجر و العصا و يده ، رواه في الصّافي من الخصال عنه عليه السّلام و من العياشي عن الباقر عليه السّلام مثله . و فيه من قرب الاسناد عن الكاظم عليه السّلام و قد سأله نفر من اليهود عنها فقال : العصا و إخراجه يده من جيبه بيضاء و الجراد و القمّل و الضفادع و الدّم و رفع الطور و المنّ و السلوى آية واحدة و فلق البحر قالوا : صدقت و أن يراد بها الآيات الّتي ظهرت عند التكليم من سماع الصوت من الجهات السّت و من رؤيته نارا بيضاء تتقد من شجرة خضراء لا خضروية الشجر تطفى النار و لا النار توقد الشجرة . قال الباقر عليه السّلام فأقبل نحو النّار يقتبس فاذا شجرة و نار تلتهب عليها فلما ذهب نحو النّار يقتبس منها أهوت إليه ففزع و عدا و رجعت النار إلى الشجرة فالتفت إليها و قد رجعت إلى الشجرة ، فرجع الثانية ليقتبس فأهوت إليه فعدا و تركها ثمّ التفت و قد رجعت إلى الشجرة ، فرجع إليها الثالثة فأهوت إليه فعدا و لم يعقّب أى لم يرجع فناداه اللّه عزّ و جلّ أن يا موسى إنّي أنا اللّه ربّ العالمين قال موسى : فما الدّليل على ذلك ؟ قال عزّ و جلّ : ما في يمينك يا موسى قال : هى عصاى قال : ألقها يا موسى فألقيها فاذا هى حيّة تسعى ، ففزع منها و عدا فناداه اللّه عزّ و جلّ خذها و لا تخف انّك من الآمنين ، هذا . و يؤيّد الاحتمال الثاني أى كون المراد من الآيات الآيات الظاهرة عند التكلّم قوله عليه السّلام ( بلا جوارح و لا أدوات و لا نطق و لا لهوات ) إذ الظاهر تعلّقه بالتكليم و على [ 322 ] الاحتمال الاوّل يلزم الفصل بين المتعلّق و المتعلّق بالأجنبيّ . و المراد به أنّ كلامه مع موسى ليس ككلام البشر صادرا عن الحنجرة و اللسان و اللهوات أى اللحمات في سقف أقصى الفم و عن مخارج الحروف و غيرها بل كلّم معه بأن أوجد الكلام في الشجرة كما هو صريح قوله سبحانه : فلما أتيها نودى من شاطى‏ء الوادى الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى هذا . و في كلامه دلالة على عدم جواز وصفه بالنطق و لعلّه لصراحة النطق في إخراج الحروف من المخارج ، بخلاف الكلام . و يستفاد من خطبة له عليه السّلام آتية في الكتاب و مرويّة في الاحتجاج أيضا عدم جواز وصفه باللّفظ أيضا بخلاف القول حيث قال فيها : يخبر لا بلسان و لهوات و يسمع لا بخروق و أدوات يقول و لا يلفظ و يحفظ و لا يتحفّظ . و لعلّ السّر فيه أيضا صراحة التلفظ في اعتماد اللفظ على مقطع الفم و استلزامه للأدوات دون القول . ثمّ نبّه على عجز القوى البشريّة عن وصف كماله تعالى بقوله ( بل إن كنت صادقا أيّها المتكلّف ) أى المتحمّل للكلفة و المشقّة ( لوصف ربّك ) في وصفه ( فصف ) بعض خلقه و هو ( جبرئيل و ميكائيل و جنود الملائكة المقرّبين ) و الأمر للتعجيز كما في قوله تعالى : فأتوا بسورة من مثله . قال الشّارح البحراني : هى صورة قياس استثنائى متّصل نبّه به على عجز من يدّعى وصف ربّه كما هو ، و تقديره إن كنت صادقا في وصفه فصف بعض خلقه و ينتج باستثناء نقيض تاليه أى لكنّك لا يمكنك وصف هؤلاء بالحقيقة فلا يمكنك وصفه تعالى ، بيان الملازمة أنّ وصفه تعالى إذا كان ممكنا لك فوصف بعض آثاره أسهل عليك ، و أما بطلان التالي فانّ حقيقة جبرئيل و ميكائيل و سائر الملائكة المقرّبين غير معلومة لأحد من البشر ، و من عجز عن وصف بعض آثاره فهو عن وصفه أعجز . أقول : و يشهد بما ذكره هنا من عدم امكان وصف الملائكة على ما هى عليه ما تقدّم منه عليه السّلام و منّا في الفصل الخامس من فصول المختار التسعين و شرحه ، فقد [ 323 ] مضى هناك انموزج من وصف الملائكة يتحيّر فيه العقول و يدهش الافهام و يقشعرّ الجلود فكيف إذا أريد البلوغ إلى غاية أوصافهم . و قوله ( في حجرات القدس ) أى منازل الطهارة عن العلاقات العنصريّة و مقارّ التنزّه عن تعلّقات النفس الأمّارة . و قوله ( مرجحنّين ) أى خاضعين تحت سلطانه و عظمته و قال العلاّمة المجلسي ( ره ) أى ما يلين إلى جهة التحت خضوعا لجلال البارى عزّ سلطانه ، و يحتمل أن يكون كناية عن عظمة شأنهم و ازانة قدرهم أو عن نزولهم وقتا بعد وقت بأمره تعالى . حالكونهم ( متولّهة عقولهم ) أى متحيّرة متشتّتة ( أن يحدّوا أحسن الخالقين ) أى يدركوا حقيقته بحدّ و يعرفوا كنه ذاته سبحانه و هو نظير قوله عليه السّلام في الفصل التاسع من المختار الأوّل : لا يتوهّمون ربّهم بالتصوير ، و لا يجرون عليه صفات المصنوعين ، و لا يحدّونه بالأماكن ، و لا يشيرون إليه بالنظاير . و لما نبّه على عجز العقول عن وصف كماله أردفه بالتنبيه على ما يدرك من جهة الوصف فقال ( و انما يدرك بالصفات ) و يعرف بالكنه ( ذوو الهيئات و الأدوات ) و الجوارح و الآلات الّتي يحيط بها الأفهام ، فيدركون و يعرفون من جهتها . ( و ) كذا يدرك ( من ينقضي إذا بلغ أمد حدّه بالفنا ) أى من ينقضي و يفنى إذا بلغ غايته ، فانه تقف الأفهام عليه و تحلّله إلى أجزائه فتطلع على كنهه ، فأمّا اللّه سبحانه فلتنزّهه عن الهيئات و الصّفات الزايدة و وجوب وجوده و عدم امكان تطرّق الفناء و العدم عليه ، فيستحيل الاطلاع على كنه ذاته و حقيقة صفاته . ثمّ عقّب ذلك التنزيه بالتوحيد و قال : ( فلا إله إلاّ هو أضاء بنوره كلّ ظلام و أظلم بظلمته كلّ نور ) لا يخفى حسن المقابلة و التطبيق بين القرينتين . و النور و الظلام في القرينة الاولى يحتملان المحسوس و غيره ، فان اريد به الظلام المحسوس فالمراد إضائته بأنوار الكواكب و النيرين ، و إن اريد به الظلام المعقول أعنى ظلمة الجهل فالمراد إضائته بأنوار العلم و الشرايع . [ 324 ] و أمّا القرينة الثانية و المقصود بها أنّ جميع الأنوار المحسوسة أو المعقولة مضمحلّة في نور علمه و ظلام بالنسبة إلى نور براهينه في جميع مخلوقاته الكاشفة عن وجوده و كمال جوده هكذا قال الشارح البحراني . و فيه إنه عليه السّلام لم يقل أظلم بنوره كلّ نور بل قال : أظلم بظلمته ، و هو ينافي هذا المعنى فالأنسب أن يراد بالنور و الظلمة الوجود و العدم ، و يصحّ ذلك التأويل في القرينة الاولى أيضا فيكون الاضاءة و الاظلام فيهما كنايتين عن الايجاد و الاعدام قيل : و يحتمل على بعد أن يكون الضمير في قوله : بظلمته ، راجعا إلى كلّ نور لتقدّمه رتبة فيرجع حاصل الفقرتين حينئذ إلى أنّ النور هو ما ينسب إليه تعالى فتلك الجهة نور و أما الجهات الراجعة إلى الممكنات فكلّها ظلمة . الترجمة از جمله خطب شريفه آنحضرت است روايت شده از نوف بكالى كه گفته خطبه فرمود ما را باين خطبه أمير مؤمنان سلام اللّه عليه و آله در كوفه در حالتيكه ايستاده بود آن حضرت بر سنگي كه نصب كرده بود آن سنگ را از براى او جعدة بن هبيره مخزومى پسر خواهر آنحضرت در حالتيكه در تن مبارك او درّاعه از پشم و دوالهاى شمشير او از ليف خرما بود ، و بر دو پاى آن حضرت بود نعليني از ليف و گويا پيشاني مبارك او از كثرت سجود مانند زانوى شتر بود پس فرمود آن بزرگوار : حمد و ثناء معبود بحقّى را سزاست كه بسوى او است بازگشتهاى مخلوقات و عواقب امورات ، حمد ميكنيم ما او را بر بزرگى احسان او و برهان نورانى او و بر افزونيهاى فضل و منت او چنان حمدى كه بشود از براى حقّ او قضا ، و از براى شكر او أداء ، و بسوى ثواب او نزديك كننده ، و زيادتى نيكوئى او را واجب سازنده و طلب إعانت ميكنيم از او مثل طلب اعانت كسيكه اميد دارنده فضل او باشد ، آرزو كننده منفعت او ، اعتماد كننده بدفع او ، اعتراف كننده بافضال و كرم او ، گردن [ 325 ] نهنده بر او با كردار و گفتار . و ايمان ميآوريم او را مثل ايمان آوردن كسيكه اميدوار باشد باو در حالتيكه يقين كننده باشد ، و باز گردد بسوى او در حالتيكه ايمان آورنده باشد ، و خضوع خشوع كند او را در حالتيكه گردن نهنده باشد ، و اخلاص ورزد از براى او در حالتى كه موحّد باشد ، و تعظيم كند او را در حالتيكه تمجيد كننده شود ، و پناه ببرد باو در حالتيكه رغبت كننده و سعى نماينده باشد . متولد نشد حق سبحانه و تعالى تا اينكه در عزّت شريك داشته باشد ، و پسر ندارد تا اينكه ميراث برده شده و هالك گردد ، و مقدّم نشده بر او هيچ وقت و زماني و نوبه نوبه فراهم نيامده او را هيچ زيادتي و نقصاني ، بلكه آشكار شد بعقلها با آنچه نمايان كرد ما را از علامات تدبير محكم و قضاء متقن . پس از جمله شواهد خلق او است خلقت آسمانها در حالتيكه ثابت و محكم‏اند بى‏ستونى ، و ايستاده‏اند بدون تكيه‏گاهى دعوت فرمود آنها را پس اجابت كردند در حالتيكه اطاعت كننده بودند و انقياد نماينده بدون اينكه توقّف داشته باشند يا تأخير كننده باشند ، و اگر نبود اقرار آنها بربوبيّت او و انقياد آنها بطاعت او نميگردانيد آنها را محلّ عرش خود ، و نه مسكن از براى فرشتگان ، و نه محلّ صعود كلمات طيّبات و أعمال صالحه از خلق . گردانيد ستارهاى آسمانها را علامتها تا راه بيابد با آنها شخص متحيّر سرگردان در محل اختلاف راههاى أطراف زمين ، مانع نشد از روشنى نور آن ستارها شدّت تاريكى شب تيره ، و متمكّن نشد لباسهاى سياه ظلمتهاى با شدّت از اينكه بر گرداند آنچه كه شايع و ظاهر شده در آسمانها از درخشيدن نور ماه . پس تنزيه ميكنم آنكسى را كه پوشيده نميشود بر او سياهى ظلمت با شدّت و نه سياهى شب آرميده در بقعهاى زمينها كه منخفض و پست‏اند ، و نه در كوههاى بلند سياه رنگ مايل بسرخى كه قريب بيكديگرند ، و مخفى نميشود بر او آنچه [ 326 ] كه آواز كند بر او رعد در افق آسمان ، و آنچه كه متلاشى و نابود ميشود از او برقهاى أبر و بر آنچه كه ميافتد از برگ درختان كه زايل ميگرداند آن برگ را از محلّ افتادن تند بادها كه حاصل ميشود بسبب سقوط نجوم ساقط از منازل قمر و بسبب ريخته شدن باران از آسمان و ميداند جاى افتادن قطرهاى باران و قرارگاه آن را و محلّ كشيدن مورچهاى كوچك و مكان جرّ آنرا و چيزى را كه كفايت كند پشه را از خوراك آن و چيزى كه حمل نموده است آن را ماده در شكم خود . ستايش مر خدايراست كه موجود بود پيش از اين كه بوده باشد كرسى يا عرش يا آسمان يا زمين يا جان يا انسان درك نميشود آن پروردگار با وهم و گمان و أندازه كرده نميشود با فهم عقلها ، و مشغول نميگرداند او را سائلى از سائل ديگر ، و كم نميگرداند بحر كرم او را هيچ عطائى ، و نگاه نميكند با چشم ، و محدود نميگردد بامكان ، و موصوف نميشود با جفتها ، و نميآفريند بمعالجه و مباشرت ، و ادراك نميشود با حواس ظاهره و باطنه ، و قياس كرده نميشود بخلق آنچنان پروردگارى كه سخن گفت با جناب موسى عليه السّلام سخن گفتني ، و نمايانيد او را أز علامتهاى قدرت خود چيز بزرگى بى أعضا و جوارحى و بدون نطق و گوشت پارهائى كه در آخر دهن است و با آن نطق حاصل ميشود . بلكه أگر راست گوينده باشي تو اى مشقت كشنده در وصف پروردگار خود پس وصف كن جبرئيل و ميكائيل و لشكرهاى فرشتگان را كه مقرّب درگاه اويند در منزلهاى قدس و طهارت خاضع و مايلند بزير أز خضوع در حالتيكه متحيّر است عقلهاى ايشان در اينكه حدى قرار بدهند بهترين آفريننده‏گان را ، و جز اين نيست كه ادراك ميشود با صفتها صاحبان صورتها و آلتها و آنكسى كه منقضى ميشود بفنا و نيستى زمانى كه برسد بغايت حد خود ، پس نيست هيچ معبود بحقّى غير او كه روشن فرمود با نور خود هر تاريكى ، و تاريك گردانيد با تاريكى خود هر روشنى را . [ 327 ] الفصل الثانى أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذي ألبسكم الرّياش ، و أسبغ عليكم المعاش ، و لو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلّما ، أو لدفع الموت سبيلا ، لكان ذلك سليمان بن داود عليه السّلام الّذي سخّر له ملك الجنّ و الإنس مع النّبوّة و عظيم الزّلفة ، فلمّا استوفى طعمته ، و استكمل مدّته ، رمته قسيّ الفنآء بنبال الموت ، و أصبحت الدّيار منه خالية ، و المساكن معطّلة ، و ورثها قوم آخرون ، و إنّ لكم في القرون السّالفة لعبرة ، أين العمالقة و ابنآء العمالقة ؟ أين الفراعنة و أبناء الفراعنة ؟ أين أصحاب مداين الرّسّ ؟ الّذين قتلوا النّبيّين ، و أطفؤا سنن المرسلين ، و أحيوا سنن الجبّارين ، و أين الّذين ساروا بالجيوش ، و هزموا الالوف ، و عسكروا العساكر ، و مدّنوا المداين . اللغة ( الرياش ) و الريش ما ظهر من اللباس ، و قيل : الرياش جمع الريش و هو اللباس الفاخر و ( المعاش ) و المعيشة مكتسب الانسان الّذى يعيش به و ( السلّم ) كسكّر ما يرتقى عليه و ( القسىّ ) جمع القوس 1 و ( النبل ) السّهام العربيّة لا واحد لها من لفظها ----------- ( 1 ) و اصلها قووس على فعول كضرب و ضروب الاّ انهم قدموا اللاّم فقالوا قسو على قلوع قلبت الواو ياء و كسروا القاف كما كسروا عين عسى فصارت قسى ، ابن أبي الحديد . [ 328 ] و ( العمالقة ) و العماليق أولاد عمليق وزان قنديل أو عملاق كقرطاس و هو من ولد نوح عليه السّلام حسبما تعرف و ( الفراعنة ) جمع فرعون و ( الرّسّ ) بتشديد السّين نهر عظيم بين آذربيجان و ارمينية و هو المعروف الآن بالأرس مبدؤه من مدينة طراز و ينتهى إلى شهر الكرّ فيختلطان و يصبّان في البحر ، و قال في القاموس : بئر كانت لبقيّة من ثمود كذّبوا نبيّهم و رسّوه في بئر و ( مدّن ) المداين تمدينا مصّرها . الاعراب الباء في قوله بنبال الموت زايدة في المفعول ، و المداين مفعول لقوله مدّنوا لا فيه كما هو واضح . المعنى اعلم أنه لما افتتح الخطبة بتحميد اللّه سبحانه و تمجيده و ذكر جملة من صفات جلاله و نعوت جماله و أشار إلى عجائب قدرته و بدايع حكمته في ملكه و ملكوته في الفصل السابق منها ، أتبعه بهذا الفصل تذكرة و موعظة للمخاطبين ، فأوصى بما لا يزال يوصى به و قال : ( أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه ) الّتي هي الزاد و بها المعاد زاد مبلّغ و معاد منجح و هى أن لا يراك حيث نهاك و لا يفقدك حيث أمرك . و انما عقّب بالموصول أعني قوله ( الّذي ألبسكم الرياش و أسبغ عليكم المعاش ) تأكيدا للغرض المسوق له الكلام ، و تنبيها على أنّه سبحانه مع عظيم احسانه و مزيد فضله و انعامه حيث أنعم عليكم باللباس و الرياش و أكمل عليكم المعاش الّذين هما سببا حياتكم و بهما بقاء نوعكم ، كيف يسوغ كفران نعمته بالعصيان ، و مقابلة عطوفته بالخطيئة ، بل اللاّزم مكافاة نعمائه بالتقوى ، و عطاياه بالحسنى . ثمّ لما كان رأس كلّ خطيئة هو حبّ الدّنيا و كان عمدة أسباب الغفلة و الضّلالة الركون اليها و طول الأمل فيها نبّه على فنائها و زوالها بقوله ( و لو أنّ أحدا يجد [ 329 ] إلى البقاء سلّما ) و وسيلة ( أو لدفع الموت سبيلا ) و سببا ( لكان ذلك سليمان بن داود عليه السّلام ) لأنّه ( الّذي ) اختصّ من ساير الخلق لكمال السّلطنة و الملك العظيم حيث ( سخّر له ملك الجنّ و الانس ) و الوحش و الطير فهم يوزعون حسبما تعرفه تفصيلا عن قريب ( مع النبوّة و عظيم الزلفة ) و القربى إلى الحقّ سبحانه . و معلوم أنّ النّبوة و التقرّب و المنزلة من الوسائل إلى البقاء لاستجابة الدّعاء معهما فهما مظنّتان للتوصّل إليه في الباطن كما أنّ الملك و السلطنة مظنّة لأن تكون وسيلة إليه في الظاهر لكنّه مع نبوّته و عظم سلطانه و قدرته على ما لم يقدر عليه غيره لم يجد وسيلة إلى البقاء ، فليس لأحد بعده أن يطمع في وجدانه أما انه عليه السّلام لم يجد وسيلة إلى ذلك ( ف ) لأنه ( لما استوفى طعمته ) أى رزقه المقدّر ( و استكمل مدّته ) المقرّرة ( رمته قسيّ الفناء بنبال الموت ) إسناد الرّمى إلى القسيّ من المجاز العقلي و النسبة إلى الآلة ، قال الشارح البحراني : و لفظ القسىّ و النبال استعارة لمرامى الأمراض و أسبابها الّتي هي نبال الموت ( و أصبحت الدّيار منه خالية و المساكن معطّلة و ورثها قوم آخرون ) . روى في البحار من العلل و العيون عن أحمد بن زياد الهمداني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن عليّ بن معبد عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرّضا عليهما السّلام عن أبيه موسى بن جعفر « عن أبيه جعفر خ » بن محمّد عليهم السّلام قال إنّ سليمان بن داود عليه السّلام قال ذات يوم لأصحابه : إنّ اللّه تبارك و تعالى قد وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدى سخّر لي الرّيح و الانس و الجنّ و الطير و الوحوش و علّمني منطق الطير و آتاني كلّ شي‏ء و مع جميع ما اوتيت من الملك ما تمّ لي سرور يوم إلى اللّيل ، و قد أحببت أن أدخل قصرى في غد فأصعد أعلاه و أنظر إلى ممالكي فلا تأذنوا لأحد عليّ لئلاّ يرد على ما ينقص على يومى ، قالوا : نعم . فلما كان من الغد أخذ عصاه بيده و صعد إلى أعلى موضع من قصره و وقف متكئا على عصاه ينظر إلى ممالكه مسرورا بما أوتى فرحا بما أعطى ، إذ نظر إلى [ 330 ] شابّ حسن الوجه و اللّباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره ، فلما بصر به سليمان عليه السّلام قال : من أدخلك إلى هذا القصر ؟ و قد أردت أن أخلو فيه اليوم فباذن من دخلت ؟ فقال الشاب : أدخلنى هذا القصر ربّه و باذنه دخلت ، فقال عليه السّلام : ربّه أحقّ به منّى فمن أنت ؟ قال : أنا ملك الموت ، قال : و فيما جئت ؟ قال : جئت لأقبض روحك قال : امض لما امرت به فهذا يوم سرورى و أبي اللّه عزّ و جلّ أن يكون لي سرورى دون لقائه ، فقبض ملك الموت روحه و هو متكى‏ء على عصاه . فبقى سليمان متكئا على عصاه و هو ميّت ما شآء اللّه و النّاس ينظرون إليه و هم يقدّرون أنّه حىّ ، فافتتنوا فيه و اختلفوا فمنهم من قال : إنّ سليمان قد بقى متكئا على عصاه هذه الأيام الكثيرة و لم يتعب و لم ينم و لم ياكل و لم يشرب إنّه لربّنا الذي يجب علينا أن نعبده ، و قال قوم : إنّ سليمان ساحر إنّه يرينا أنه واقف و متكى‏ء على عصاه يسحر أعيننا و ليس كذلك ، فقال المؤمنون : إنّ سليمان هو عبد اللّه و نبيّه يدبّر اللّه بما شآء . فلما اختلفوا بعث اللّه عزّ و جلّ الارضة فدبت في عصاه ، فلما أكلت جوفها انكسرت العصا و خرّ سليمان من قصره على وجهه فشكر الجنّ للارضة صنيعها فلأجل ذلك لا توجد الارضة في مكان إلاّ و عندها مآء و طين ، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ : فلما قضينا عليه الموت ما دلّهم على موته إلاّ دابّة الأرض تأكل منسأته ، يعني عصاه فلمّا خرّ تبيّنت الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين . ثمّ نبّه عليه السّلام على الاعتبار بأحوال القرون الخالية و الامم الماضية فقال : ( و انّ لكم في القرون السالفة لعبرة ) و أشار إلى وجه العبرة على سبيل الاستفهام التقريرى قصدا للتذكير و التذكّر بقوله ( أين العمالقة و أبناء العمالقة ) . قال الشّارح المعتزلي : العمالقة أولاد لاوز بن ارم بن سالم بن نوح عليه السّلام كان الملك باليمن و الحجاز و ما تاخم ذلك من الأقاليم فمنهم عملاق بن لاوز ، و منهم طسم بن لاوز أخوه ، و منهم جديس بن لاوز أخوهما ، و كان العزّ و الملك بعد عملاق بن لاور في طسم ، فلما ملكهم عملاق بن طسم بغى و أكثر الفساد في الأرض حتّى كان [ 331 ] يطأ العروس ليلة إهدائها إلى بعلها و إن كانت بكرا افتضّها قبل وصولها إلى البعل ، ففعل ذلك بامرأة من جديس يقال لها غفيرة بنت غفار ، فخرجت إلى قومها و هي تقول : لا أحد أذلّ من جديس أهكذا يفعل بالعروس فغضب لها أخوها الأسود بن غفار و تابعه قومه على الفتك بعملاق بن طسم و أهل بيته فصنع الاسود طعاما و دعى العملاق إليه ثمّ وثب به و بطسم فأتى على رؤسائهم و نجا منهم رباح بن مز فصار إلى ذى جيشان بن تبع الحميرى ملك اليمن ، فاستغاث به على جديس فصار ذو جيشان في حمير فأتى بلاد جوّ و هي قصبة اليمامة و استأصل جديس كلّها و أخرب اليمامة فلم يبق لجديس باقية و لا لطسم إلاّ اليسير منهم ثمّ ملك بعد طسم و جديس و باز بن ايم « بن ظ » لاوز بن ارم فسار بولده و أهله و نزل برمل عالج فبغوا في الأرض حينا حتّى أفناهم اللّه ، ثمّ ملك الأرض بعد وباز عبد صحم بن اثيف بن لاوز فنزلوا بالطايف حينا ثمّ بادوا . قال الشارح : و ممن يعدّ من العمالقة عاد و ثمود . فأمّا عاد فهو ابن عويص بن ارم بن سام بن نوح كان يعبد القمر يقال إنّه كان رأى من صلبه أولادا و أولاد أولاد أربعة آلاف ، و أنّه نكح ألف جارية و كان بلاده الأحقاف المذكورة في القرآن 1 ، و هي من شجر عمّان إلى حضرموت ، و من أولاده شدّاد ابن عاد صاحب المدينة المذكورة في سورة الفجر . و أمّا ثمود فهو ابن عابر بن ارم بن سام بن نوح عليه السّلام ، و كانت دياره بين الشام و الحجاز إلى ساحل بحر الحبشة . ( أين الفراعنة و ابناء الفراعنة ) و هم ملوك مصر فمنهم الوليد بن الريان فرعون يوسف عليه السّلام ، و منهم الوليد بن مصعب فرعون موسى ، و منهم فرعون بن الأعرج الّذي غزا بني إسرائيل و أخرب بيت المقدّس . ----------- ( 1 ) قال تعالى : و اذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف ، قال في مجمع البحرين : هى جمع حقف و هو الرمل المعوج و قيل رمال مستطيلة بناحية شجر و كانت عاد بين جبال مشرفة على البحر بالشجر من بلاد اليمن ( منه ره ) . [ 332 ] ( أين أصحاب مداين الرّس ) و ستعرف انبائهم في التذييل الآتي ، و هم ( الّذين ) جحدوا ربّ العالمين و ( قتلوا النبيّين ) مظلومين ( و أطفؤا سنن المرسلين ) و شرايع الدّين ( و أحيوا سنن الجبّارين ) و بدع الشياطين ( و أين ) الملوك ( الّذين ساروا بالجيوش و هزموا الالوف ) و فتحوا الأمصار ( و عسكروا العساكر ) و جمعوهم ( و مدّنوا المداين ) و بنوها . و ينبغى تذييل هذا الفصل من الخطبة بامرين الاول في نوادر أخبار ملك سليمان بن داود عليه السّلام المشار إليه في هذا الفصل قال تعالى في سورة النمل : و لقد آتينا داود و سليمان فضلا و قالا الحمد للَّه الّذي فضّلنا على كثير من عباده المؤمنين ، و ورث سليمان داود و قال يا أيّها النّاس علّمنا منطق الطير و أُوتينا من كلّ شي‏ء إنّ هذا لهو الفضل المبين . و في سورة سبأ : و لسليمان الريح غدوّها شهر و رواحها شهر و أسلنا له عين القطر و من الجنّ من يعمل بين يديه باذن ربّه و من يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السّعير ، يعملون له ما يشاء من محاريب و تماثيل و جفان كالجواب و قدرو راسيات اعملوا آل داود شكراً و قليل من عبادى الشكور . قوله سبحانه : و ورث سليمان داود قال الصّادق عليه السّلام في رواية اكمال الدين إنّ داود عليه السّلام أراد أن يستخلف سليمان لأنّ اللّه عزّ و جلّ أوحى إليه يأمره بذلك فلما أخبر بني إسرائيل ضجّوا من ذلك و قالوا : يستخلف علينا حدثا و فينا من هو أكبر منه ، فدعى أسباط بني إسرائيل فقال لهم : قد بلغنى مقالتكم فأرونى عصيّكم فأىّ عصا أثمرت فصاحبها وليّ الأمر بعدي ، فقالوا : رضينا ، و قال : ليكتب كلّ واحد منكم اسمه على عصاه ، فكتبوا ثمّ جاء سليمان بعصاه فكتب عليها اسمه ثمّ ادخلت بيتا و اغلق الباب و حرسه رؤوس أسباط بني إسرائيل : فلما أصبح صلّى بهم الغداة ثمّ [ 333 ] أقبل ففتح لهم الباب فأخرج عصيّهم و قد ورقت عصا سليمان و قد أثمرت ، فسلّموا ذلك لداود عليه السّلام . و في البحار من محاسن البرقي عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام قال : استخلف داود سليمان و هو ابن ثلاثة عشر سنة ، و مكث في ملكه أربعين سنة . و قوله : « علّمنا منطق الطير » قيل : إنّ النّطق عبارة و هو مختصّ بالانسان إلاّ أنّ سليمان لما فهم معنى صوت الطير سمّاه منطقا مجازا ، و قال عليّ بن عيسى إن الطّير كانت تكلّم سليمان عليه السّلام معجزة له كما أخبر عن الهدهد ، و منطق الطير صوت يتفاهم به معانيها على صيغة واحدة بخلاف منطق الناس الّذي يتفاهمون به المعاني على صيغ مختلفة ، و لذلك لم نفهم عنها مع طول مصاحبتها و لم يفهم هي عنا ، لأنّ أفهامها مقصورة على تلك الامور المخصوصة ، و لمّا جعل سليمان يفهم عنها كان قد علم منطقها . قوله : و أُوتينا من كلّ شي‏ء أى من كلّ شي‏ء تؤتى الأنبياء و الملوك ، و قيل : من كلّ شي‏ء يطلبه طالب لحاجته اليه و انتفاعه به . و قوله : و لسليمان الرّيح غدوّها شهر و رواحها شهر قال الطبرسي أى و سخّرنا لسليمان الريح مسير غدوّ تلك الريح المسخّرة مسير شهر و مسير رواحها مسير شهر ، و المعنى أنها كانت تسير في اليوم مسيرة شهرين للرّاكب قال قتادة : كانت تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار و يروح مسيرة شهر إلى آخر النهار ، و قال الحسن : كانت تغدو من دمشق فيقبل باصطخر من أرض اصفهان و بينهما مسيرة شهر للمستريح ، و تروح من اصطخر فتبيت بكابل و بينهما مسيرة شهر تحمله الرّيح مع جنوده أعطاه اللّه الرّيح بدلا من الصافنات الجياد . « و أسلنا له عين القطر » أى أذبنا له عين النحاس و أظهرناها له . « و من الجنّ من يعمل بين يديه باذن ربّه » المعنى و سخّرنا له من الجنّ من بحضرته و امام عينه ما يأمرهم به من الأعمال كما يعمل الآدمى بين يدى الآدمى بأمر ربّه تعالى ، و كان يكلّفهم الأعمال الشاقّة ، و فيه دلالة على أنّه قد كان من الجنّ [ 334 ] من هو غير مسخّر له . « و من يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير » أى من يعدل من هؤلاء الجنّ الّذين سخّرناهم لسليمان عما أمرناهم به من طاعة سليمان نذقه من عذاب النار في الآخرة عن أكثر المفسرين ، و قيل : نذقه العذاب في الدّنيا و أنّ اللّه سبحانه وكّل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منهم من طاعة سليمان ضربه ضربة أحرقته . « يعملون له ما يشاء من محاريب » و هى البيوت الشريفة الشريعة قيل : و هى القصور و المساجد يتعبّد فيها عن قتادة و الجبائي ، قال : و كان مما عملوا بيت المقدّس و قد كان اللّه عزّ و جلّ سلّط على بني اسرائيل الطاعون فهلك خلق كثير في يوم واحد فأمرهم داود أن يغتسلوا و يبرزوا الى الصّعيد بالذّرارى و الأهلين و يتضرّعوا إلى اللّه تعالى لعلّه يرحمهم ، و ذلك صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد ، و ارتفع داود عليه السّلام فوق الصّخرة فخرّ ساجدا يبتهل إلى اللّه سبحانه و سجدوا معه ، فلم يرفعوا رؤوسهم حتى كشف اللّه عنهم الطاعون . فلما أن شفع اللّه داود في بني اسرائيل جمعهم داود بعد ثلاث و قال لهم : إنّ اللّه تعالى قد منّ عليكم و رحمكم فجدّدوا شكرا بأن تتّخذوا من هذا الصعيد الذي رحمكم فيه مسجدا ففعلوا ، و أخذوا في بناء بيت المقدس فكان داود عليه السّلام ينقل الحجارة لهم على عاتقة ، و كذلك خيار بني اسرائيل حتّى رفعوه قامة و لداود عليه السّلام يومئذ سبع و عشرون و مأة سنة ، فأوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السّلام أنّ تمام بنائه يكون على يد ابنه سليمان . فلما صار داود ابن أربعين و مأة سنة توفّاه اللّه تعالى و استخلف سليمان فأحبّ إتمام بيت المقدس فجمع الجنّ و الشياطين فقسم عليهم الأعمال يخصّ كلّ طائفة منهم بعمل ، فأرسل الجنّ و الشياطين في تحصيل الرخام و المها الأبيض الصافي من معادنه و أمر ببناء المدينة من الرخام و الصفاح و جعلها اثنا عشر ربضا و أنزل كلّ ربض منها سبطا من الأسباط . [ 335 ] فلما فرغ من بناء المدينة ابتدء في بناء المسجد فوجّه الشياطين فرقا فرقة يستخرجون الذهب و اليواقيت من معادنها ، و فرقة يقلعون الجواهر و الأحجار من أماكنها ، و فرقة يأتونه بالمسك و العنبر و ساير الطيب ، و فرقة يأتونه بالدرّ من البحار فاوتى من ذلك بشي‏ء لا يحصيه إلاّ اللّه تعالى ثمّ احضر الصناع و أمرهم بنحت تلك الأحجار حتّى يصيروها ألواحا و معالجة تلك الجواهر و اللآلي . و بنى سليمان المسجد بالرخام الأبيض و الأصفر و الأخضر و عمده بأساطين المها الصافي و سقفه بألواح الجواهر و فضض سقوفه و حيطانه باللآلي و اليواقيت و الجواهر و بسط أرضه بألواح الفيروزج ، فلم يكن في الأرض بيت أبهى منه و لا أنور من ذلك المسجد كان يضى‏ء في الظلمة كالقمر ليلة البدر . فلما فرغ منه جمع إليه خيار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه اللّه تعالى و اتّخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا . فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتّى غزا بخت نصر بني اسرائيل فخرب المدينة و هدمها و نقض المسجد و أخذ ما في سقوفه و حيطانه من الذّهب و الدّر و اليواقيت و الجواهر ، فحملها إلى دار مملكته من أرض العراق . قال سعيد بن المسيّب لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلقت أبوابه فعالجها سليمان فلم تنفتح حتّى قال في دعائه بصلوات أبي داود عليه السّلام إلاّ فتحت الأبواب ففرغ له عشرة آلاف من قرآء بني اسرائيل خمسة آلاف بالليل و خمسة آلاف بالنهار و لا يأتي ساعة من ليل و نهار إلاّ و يعبد اللّه فيها . « و تماثيل » يعني صورا من نحاس و شبه و زجاج كانت الجنّ تعملها ، ثمّ اختلفوا فقال بعضهم كانت صورا للحيوانات ، و قال آخرون كانوا يعملون صور السّباع و البهايم على كرسيّه ليكون أهيب له . فذكروا أنّهم صوّروا أسدين أسفل كرسيّه و نسرين فوق عمودى كرسيّه فكان إذا أراد أن يصعد الكرسي بسط الأسدان ذراعيهما ، و إذا علا على الكرسي نشر النسران أجنحتهما فظلّلاه من الشّمس ، و يقال : إنّ ذلك كان مما لا يعرفه أحد [ 336 ] من النّاس . فلما حاول بخت نصر صعود الكرسي بعد سليمان حين غلب على بني إسرائيل لم يعرف كيف كان يصعد سليمان ، فرفع الأسد ذراعيه فضرب ساقه فقدّها فوقع مغشيّا عليه فما جسر أحد بعده أن يصعد ذلك الكرسي . قال الحسن و لم يكن يومئذ التصاوير محرمة و هى محظورة في شريعة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، فانه قال : لعن اللّه المصوّرين ، و يجوز أن يكره ذلك في زمن دون زمن ، و قد بيّن اللّه سبحانه أنّ المسيح عليه السّلام كان يصوّر بأمر اللّه من الطين كهيئة الطّير و قال ابن عبّاس كانوا يعملون صور الأنبياء و العبّاد في المساجد ليقتدى بهم . و روى عن الصّادق عليه السّلام انه قال : و اللّه ما هى تماثيل النساء و الرجال و لكنها الشجر و ما أشبهه . « و جفان كالجواب » أى صحاف كالحياض الّتي يجبى فيها الماء أى يجمع و كان سليمان عليه السّلام يصلح طعام جيشه في مثل هذه الجفان ، فانه لم يمكنه أن يطعمهم في مثل قصاع الناس لكثرتهم ، و قيل : انه كان يجمع على كلّ جفنة ألف رجل يأكلون من بين يديه . « و قدور راسيات » أى ثابتات لا يزلن عن أمكنتهنّ لعظمهنّ ، عن قتادة و كانت باليمن و قيل كانت عظيمة كالجبال يحملونها مع أنفسهم و كان سليمان عليه السّلام يطعم جنده . و فى البحار عن صاحب الكامل قال : لما توفّى داود ملك بعده ابنه سليمان عليه السّلام على بني إسرائيل و كان عمره ثلاث عشر سنة ، و أتاه مع الملك النبوّة و سخّر له الجنّ و الانس و الشياطين و الطير و الريح ، فكان إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير و قام الانس و الجنّ متى يجلس فيه ، قيل : أنه سخر له الريح و الجنّ و الشياطين و الطير و غير ذلك بعد أن زال ملكه و أعاده اللّه إليه و كان أبيض جسيما كثير الشعر يلبس البياض ، و كان يأكل من كسبه ، و كان كثير الغزو ، و كان إذا أراد الغزو أمر فعمل بساط من خشب يسع عسكره فيركبون عليه هم و دوابهم « ج 21 » [ 337 ] و ما يحتاجون إليه ، ثمّ أمر الريح فسار في غدوته مسيرة شهر و في روحته كذلك ، و كان له ثلاثمأة زوجة و سبعمأة سرية و أعطاه اللّه أخيرا أنه لا يتكلّم أحد بشي‏ء إلاّ حملته الريح فيعلم ما يقول . و فيه من كتاب قصص الأنبياء بالاسناد عن أبي حمزة عن الأصبغ بن نباته قال : خرج سليمان بن داود من بيت المقدّس مع ثلاثمائة ألف كرسى عن يمينه عليها الانس و ثلاثمأة ألف كرسى عن يساره عليها الجنّ ، و أمر الطير فأظلّتهم و أمّا الريح فحملتهم حتّى وردت بهم المداين ، ثمّ رجع و بات في اصطخر ، ثمّ غدا فانتهى إلى جزيرة بركاوان ، ثمّ أمر الريح فخفضتهم حتّى كادت أقدامهم يصيبها الماء ، فقال بعضهم لبعض : هل رأيتم ملكا أعظم من هذا ؟ فنادى ملك : لثواب تسبيحة واحدة أعظم مما رأيتم . و فيه منه عن الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال : كان ملك سليمان ما بين الشامات إلى بلاد اصطخر . و فيه عن الطبرسي قال : قال محمّد بن كعب بلغنا أنّ سليمان بن داود عليه السّلام كان عسكره مأة فرسخ خمسة و عشرون للانس و خمسة و عشرون للجنّ و خمسة و عشرون للوحش و خمسة و عشرون للطير و كان له ألف بيت من القوارير على الخشب فيها ثلاثمأة مهيرة و سبعمأة سرية فيأمر الريح العاصف فترفعه و يأمر الرّخاء فتسير به ، فأوحى اللّه إليه و هو يسير بين السماء و الأرض أنى قد زدت في ملكك انّه لا يتكلّم أحد من الخلايق بشي‏ء إلاّ جآئت الريح فأخبرتك . و قال مقاتل : نسجت الشياطين لسليمان بساطا فرسخ في فرسخ ذهبا في ابريسم و كان يوضع فيه منبر من ذهب في وسط البساط فيقعد عليه و حوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب و فضة ، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب ، و العلماء على كراسيّ الفضّة و حولهم الناس و حول الناس الجنّ و الشياطين و تظلّها الطّير بأجنحتها حتّى لا تقع عليهم الشمس ، و ترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ، و من الرواح إلى الصباح . [ 338 ] و فيه من تفسير الثعلبي قال : و روى أنّ سليمان عليه السّلام لما ملك بعد أبيه أمر باتخاذ كرسىّ ليجلس عليه للقضاء و أمر بأن يعمل بديعا مهولا بحيث أن لو رآه مبطل أو شاهد زور ارتدع و تهيب . قال : فعمل له كرسي من أنياب الفيلة و فصّصوه بالياقوت و اللّؤلؤ و الزّبرجد و أنواع الجواهر و حفظوه بأربع نخلات من ذهب شماريخها الياقوت الأحمر و الزّمرّد الأخضر على رأس نخلتين منها طاووسان من ذهب و على رأس الآخرين نسران من ذهب بعضها مقابلا لبعض ، و جعلوا من جنبي الكرسي أسدين من الذهب على رأس كلّ واحد منهما عمود من الزّمرّد الأخضر و قد عقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر و اتّخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر بحيث يظلّ عريش الكروم النخل و الكرسي . قال : و كان سليمان عليه السّلام إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى فيستدير الكرسي كلّه بما فيه دوران الرحى المسرعة و تنشر تلك النسور و الطواويس أجنحتهما و تبسط الأسدان أيديهما فتضربان الأرض بأذنابهما ، فكذلك كلّ درجة يصعدها سليمان عليه السّلام . فاذا استوى بأعلاه أخذ النسران اللّذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأس سليمان ثمّ يستدير الكرسي بما فيه و يدور معه النسران و الطاووسان و الأسدان مايلات برؤوسها إلى سليمان ينضحن عليه من أجوافها المسك و العنبر . ثمّ تناولت حمامة من ذهب قائمة على عمود من جوهر من أعمدة الكرسي التوراة فيفتحها سليمان و يقرئها على الناس و يدعوهم إلى فصل القضاء ، و يجلس عظماء بني إسرائيل على كراسيّ من الذهب المفصّصة بالجوهر و هي ألف كرسيّ عن يمينه ، و تجي‏ء عظماء و تجلس على كراسيّ الفضّة على يساره و هي ألف كرسىّ حافّين جميعا به ثمّ يحفّ بهم الطير فتظلّهم و تتقدّم إليه الناس للقضاء . فاذا دعى البيّنات و الشهود لإقامة الشهادات درا الكرسيّ بما فيه مع جميع ما [ 339 ] حوله دوران الرحا المسرعة و يبسط الأسدان أيديهما و يضربان الأرض بأذنابهما و ينشر النسران و الطاووسان أجنحتهما فيفزع منه الشهود و يدخلهم من ذلك رعب و لا يشهدون إلاّ بالحقّ . و فى البحار من كتاب تنبيه الخاطر روى أنّ سليمان بن داود عليه السّلام مرّ في موكبه و الطير تظلّه و الجنّ و الانس عن يمينه و عن شماله بعابد من عبّاد بني إسرائيل فقال : و اللّه يا ابن داود لقد أتاك اللّه ملكا عظيما ، فسمعه سليمان فقال : للتسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما اعطى ابن داود و إنّ ما أعطى ابن داود تذهب و أنّ التسبيحة تبقى . و كان سليمان إذا أصبح تصفح وجوه الأغنياء و الأشراف حتّى يجي‏ء إلى المساكين و يقعد معهم و يقول مسكين مع المساكين . و من ارشاد القلوب كان سليمان مع ما هو فيه من الملك يلبس الشعر و اذا جنّه اللّيل شدّ يديه إلى عنقه فلا يزال قائما حتّى يصبح باكيا و كان قوته من سفايف الخوص يعملها بيده و إنما سأل الملك ليقهر ملوك الكفر . الثانى فى بيان مداين الرس و قصة اصحابها قال تعالى في سورة الفرقان « و عاداً و ثمود و أصحاب الرّس » و في سورة ق « كذّبت قبلهم قوم نوح و أصحاب الرّس » 1 قال الطبرسيّ : أي و أهلكنا عادا و ثمود و أصحاب الرّس ، و هو بئر رسّوا فيها نبيّهم أى ألقوه فيها عن عكرمة و قيل انهم كانوا أصحاب مواش و لهم بئر يقعدون عليها و كانوا يعبدون الأصنام فبعث اللّه إليهم شعيبا عليه السّلام فكذّبوه فانهار البئر و انخسف بهم الأرض فهلكوا عن وهب . ----------- ( 1 ) الرّس البئر التى لم تطو بالحجارة و لا غيرها ( مجمع البيان ) . [ 340 ] و قيل الرّس قرية باليمامة يقال لها فلج قتلوا نبيّهم فأهلكهم اللّه عن قتادة . و قيل كان لهم نبيّ يسمّى حنظلة فقتلوه فاهلكوا عن سعيد بن جبير و الكلبي . و قيل هم أصحاب رسّ و الرّس بئر بانطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار فنسبوا إليها عن كعب و مقاتل . و قيل أصحاب الرّس كان نساؤهم سحّاقات عن أبي عبد اللّه عليه السّلام . و في البحار من تفسير عليّ بن ابراهيم أصحاب الرسّ هم الّذين هلكوا لأنّهم استغنوا الرّجال بالرّجال و النّساء بالنّساء . و من معاني الأخبار معنى أصحاب الرّس أنّهم نسبوا إلى نهر يقال له : الرّس من بلاد المشرق . و قد قيل : إنّ الرّس هو البئر و إنّ أصحابه رسّوا نبيّهم بعد سليمان بن داود عليه السّلام و كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبرة يقال لها شاه درخت كان غرسها يافث ابن نوح فانبتت لنوح عليه السّلام بعد الطوفان و كان نساؤهم يشتغلن بالنساء عن الرّجال فعذّبهم اللّه عزّ و جلّ بريح عاصف شديد الحمرة و جعل الأرض من تحتهم حجر كبريت يتوقد و أظلّتهم سحابة سوداء مظلمة فانكفت عليهم كالقبّة جمرة تلتهب فذابت أبدانهم كما يذوب الرّصاص في النار . و من العرايس للثعلبي قال : قال اللّه عزّ و جلّ « و عاداً و ثمود و أصحاب الرّس » و قال « كذّبت قبلهم قوم نوح و أصحاب الرّس » اختلف أهل التفسير و أصحاب الأقاصيص فيهم . فقال سعيد بن جبير و الكلبي و الخليل بن أحمد دخل كلام بعضهم في بعض و كلّ أخبر بطائفة من حديث : أصحاب الرّسّ بقيّة ثمود و قوم صالح و هم أصحاب البئر الّتي ذكرها اللّه تعالى في قوله « و بئر معطّلة و قصر مشيد » و كانوا بفليج اليمامة نزولا على تلك البئر و كلّ ركيّة لم تطو بالحجارة و الآجر فهو بئر و كان لهم نبيّ يقال له حنظلة بن صفوان ، و كان بأرضهم جبل يقال له فتح مصعدا في السماء ميلا ، و كانت العنقاء تنتابه و هى كأعظم ما يكون من الطير و فيها من كلّ [ 341 ] لون و سمّوها العنقآء لطول عنقها و كانت تكون في ذلك الجبل تنقض على الطير تأكلها ، فجاعت ذات يوم فاعوزها الطّير فانقضت على صبيّ فذهبت به ، ثمّ إنها انقضت على جارية حين ترعرعت فأخذتها فضمّتها إلى جناحين لها صغيرين سوى الجناحين الكبيرين ، فشكوا إلى نبيّهم فقال : اللّهمّ خذها و اقطع نسلها و سلّط عليها آية يذهب بها ، فأصابتها صاعقة فاحترقت فلم ير لها أثر فضربتها العرب مثلا في أشعارها و حكمها و أمثالها ثمّ إنّ أصحاب الرّس قتلوا نبيّهم فأهلكهم اللّه تعالى و قال بعض العلماء : بلغني أنه كان رسّان . أما أحدهما فكان أهله بدد و أصحاب غنم و مواش فبعث اللّه إليهم نبيّا فقتلوه ثمّ بعث إليهم رسولا آخر و عضده بوليّ فقتلوا الرّسول و جاهدهم الوليّ حتّى أفحمهم و كانوا يقولون إلهنا في البحر و كانوا على شفيرة و كان يخرج إليهم شيطان في كلّ شهر خرجة فيذبحون و يتّخذونه عيدا فقال لهم الوليّ أرأيتم إن خرج إلهكم الّذي تدعونه إلىّ و أطاعني أتجيبونني إلى ما دعوتكم إليه ؟ فقالوا : بلى ، و أعطوه على ذلك العهود و المواثيق . فانتظر حتّى خرج ذلك الشيطان على صورة حوت راكبا أربعة أحوات و له عنق مستعلية و على رأسه مثل التاج ، فلمّا نظروا إليه خرّوا له سجّدا و خرج الوليّ إليه فقال ائتني طوعا أو كرها بسم اللّه الكريم ، فنزل عند ذلك عن أحواته فقال له الوليّ ائتني عليهنّ لئلاّ يكون من القوم في أمري شكّ فاتى الحوت و اتين به حتّى افضين به الى البرّ يجرّونه . فكذّبوه بعد ما رأوا ذلك و نقضوا العهد فأرسل اللّه تعالى إليهم ريحا فقذفهم في البحر و مواشيهم جميعا و ما كانوا يملكون من ذهب و فضّة ، فأتى الوليّ الصالح إلى البحر حتّى أخذ التبر و الفضّة و الأوانى فقسّم على أصحابه بالسويّة على الصّغير منهم و الكبير و انقطع هذا النسل . و أما الاخر فهم قوم كان لهم نهر يدعى الرسّ ينسبون إليه و كان فيهم أنبياء كثيرة قلّ يوم يقوم نبيّ إلاّ قتل و ذلك النهر بمنقطع آذربيجان بينها و بين أرمنيّة [ 342 ] فاذا قطعته مدبرا دخلت في حدّ ارمنيّة و إذا قطعته مقبلا دخلت في حدّ آذربيجان يعبدون النيران و كانوا يعبدون الجوارى « الفذاري » فاذا تمّت لإحديهنّ ثلاثون سنة قتلوها و استبدلوا غيرها و كان عرض نهرهم ثلاثة فراسخ ، و كان يرتفع في كلّ يوم و ليلة حتّى يبلغ أنصاف الجبال الّتي حوله ، و كان لا ينصب في برّ و لا بحر إذا خرج من حدّهم يقف و يدور ثمّ يرجع إليهم . فبعث اللّه تعالى ثلاثين نبيّا في شهر واحد فقتلوهم جميعا ، فبعث اللّه عزّ و جلّ نبيّا و أيّده بنصره و بعث معه وليّا فجاهدهم في اللّه حقّ جهاده . فبعث اللّه تعالى إليه ميكائيل حين نابذوه و كان ذلك في أوان وقوع الحبّ في الزرع ، و كانوا إذ ذاك أحوج ما كانوا من الماء ، ففجر نهرهم في البحر فانصبّت ما في أسفله و أتى عيونه من فوق فسدّها و بعث إليه خمسمأة ألف من الملائكة أعوانا له ففرّقوا ما بقى فى وسط النهر . ثمّ أمر اللّه جبرئيل فنزل فلم يدع في أرضهم عينا و لا نهرا إلاّ أيبسه بإذن اللّه عزّ و جلّ و أمر ملك الموت فانطلق إلى المواشي فأماتهم ربضة واحدة ، و أمر الرياح الأربع الجنوب و الشمال و الدّبور و الصّبا فضمت ما كان لهم من متاع و ألقى اللّه عزّ و جلّ عليهم السّبات ، ثمّ حفت الرياح الأربع المتاع أجمع فنهبته في رؤوس الجبال و بطون الأودية . فأمّا ما كان من علي أو تبرأ أو آنية فانّ اللّه تعالى أمر الأرض فابتلعته فأصبحوا و لا شاء عندهم و لا بقرة و لا مال يعودون و لا ماء يشربونه و لا طعام يأكلونه ، فآمن باللّه عند ذلك قليل منهم و هداهم إلى غار في جبل له طريق الى خلفه فنجوا و كانوا أحدا و عشرين رجلا و أربع نسوة و صبيّين و كان عدّة الباقين من الرّجال و النساء و الذراري ستّمأة ألف فماتوا عطشا و جوعا و لم يبق منهم باقية . ثمّ عاد القوم إلى منازلهم فوجدوها قد صار أعلاها أسفلها فدعا القوم عند ذلك مخلصين أن يجيهم « ينجيهم » بزرع و ماء و ماشية و يجعله قليلا لئلاّ يطغوا ، فأجابهم اللّه تعالى إلى ذلك لما علم من صدق نيّاتهم و علم منهم الصّدق و آلوا أن لا يبعث رسولا ممن قاربهم إلاّ أعانوه و عضدوه ، و علم اللّه منهم الصّدق فأطلق اللّه لهم نهرهم [ 343 ] و زادهم على ما سألوا ، فأقام اولئك في طاعة اللّه عزّ و جلّ ظاهرا و باطنا حتّى مضوا و انقرضوا . و حدث بعدهم من نسلهم قوم أطاعوا اللّه في الظاهر و نافقوه في الباطن فأملى اللّه تعالى لهم و كان عليهم قادرا ، ثمّ كثرت معاصيهم و خالفوا أولياء اللّه تعالى فبعث اللّه عزّ و جلّ عدوّهم ممن فارقهم و خالفهم فأسرع فيهم القتل و بقيت منهم شرذمة فسلّط اللّه عليهم الطاعون فلم يبق منهم أحدا و بقى نهرهم و منازلهم مأتي عام لا يسكنها أحد ثمّ أتى اللّه بقرن بعد ذلك فنزلوها و كانوا صالحين سنين ثمّ أحدثوا فاحشة جعل الرجل بنته و اخته و زوجته فينيلها جاره و أخاه و صديقه يلتمس بذلك البرّ و الصّلة . ثمّ ارتفعوا من ذلك إلى نوع آخر ترك الرّجال النساء حتّى شبقن و استغنوا بالرّجال فجائت النساء شيطانهنّ في صورة و هى الدّلهاث بنت ابليس و هى اخت الشيصاء و كانت في بيضة واحدة فشهت إلى النساء ركوب بعضهنّ بعضا و علمهنّ كيف يصنعن فأصل ركوب النساء بعضهنّ بعضا من الدّلهاث ، فسلّط اللّه على ذلك القرن صاعقة في أوّل اللّيل و خسفا في آخر اللّيل ، و صيحة مع الشمس فلم يبق منهم باقية و بادت مساكنهم و لا احسب منازلهم اليوم تسكن . و فى البحار من كتابي العيون و العلل عن الهمداني عن عليّ عن أبيه عن الهروي عن الرضا عليه السّلام عن آبائه عن الحسين بن عليّ عليهم السّلام قال : أتى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قبل مقتله بثلاثة أيام رجل من أشراف تميم يقال له عمرو فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن أصحاب الرّس في أىّ عصر كانوا و أين كانت منازلهم و من كان ملكهم ؟ و هل بعث اللّه عزّ و جلّ إليهم رسولا أم لا ؟ و بما ذا اهلكوا ؟ فانّى أجد في كتاب اللّه تعالى ذكرهم و لا أجد خبرهم . فقال له عليّ عليه السّلام لقد سألت عن حديث ما سألني عنه أحد قبلك و لا يحدثك به أحد بعدي إلاّ عنّي ، و ما في كتاب اللّه عزّ و جلّ آية إلاّ و أنا أعرف تفسيرها و في أىّ مكان نزلت من سهل أو جبل و في أىّ وقت من ليل أو نهار و إنّ ههنا لعلما جمّا [ 344 ] و أشار إلى صدره و لكن طلاّبه يسير و عن قليل يندمون لو فقدوني . كان من قصّتهم يا أخا تميم أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين يقال لها روشاب « دوشاب » كانت انبعت لنوح عليه السّلام بعد الطوفان ، و إنما سمّوا أصحاب الرّس لأنهم رسّوا نبيّهم في الأرض و ذلك بعد سليمان بن داود عليه السّلام . و كانت لهم اثنتا عشرة قرية على شاطى‏ء نهر يقال له الرّس من بلاد المشرق و بهم سمّى ذلك النهر و لم يكن يومئذ في الأرض نهر أغزر منه و لا أعذب منه و لا قرى أكثر و لا أعمر منها تسمّى إحديهنّ أبان ، و الثانية ، آذر ، و الثّالثة دى ، و الرّابعة بهمن ، و الخامسة اسفندار ، و السادسة فروردين ، و السابعة اردى بهشت ، و الثامنة خرداد ، و التاسعة مرداد ، و العاشرة تير ، و الحاديعشرة مهر ، و الثاني عشرة شهريور . و كانت أعظم مداينهم اسفندار و هي الّتي ينزلها ملكهم ، و كان تركوز بن غابور بن يارش بن شازن بن نمرود بن كنعان فرعون إبراهيم و بها العين و الصنوبرة و قد غرسوا في كلّ قرية منها حبّة من طلع تلك الصّنوبرة ، و أجروا إليها نهرا من العين التي عند الصنوبرة . فنبتت الحبّة و صارت شجرة عظيمة و حرّموا ماء العين و الأنهار فلا يشربون منها و لا أنعامهم ، و من فعل ذلك قتلوه و يقولون هو حياة آلهتنا فلا ينبغي لأحد أن ينقص من حياتها و يشربون هم و أنعامهم من نهر الرّس الّذي عليه قراهم . و قد جعلوا في كلّ شهر من السنة في كلّ قرية عيدا يجتمع إليه أهلها ، فيضربون علي الشجرة التى بها كلّة 1 من حرير فيها من أنواع الصّور ثمّ يأتون بشاة و بقر فيذبحونهما قربانا للشجرة و يشعلون فيها النيران بالحطب فاذا سطع دخان تلك الذبايح و قتارها في الهواء و حال بينهم و بين النظر إلى السّماء خرّوا سجّدا يبكون و يتضرّعون إليها أن ترضى عنهم . ----------- ( 1 ) الكلّة بالكسر الستر الرقيق يخاط كالبيت يتوقّى فيه من البقّ ( بحار ) . [ 345 ] فكان الشيطان يجى‏ء فيحرّك أغصانها و يصيح من ساقها صياح الصّبي أن قد رضيت عنكم فطيبوا نفسا و قرّوا عينا فيرفعون رؤوسهم عند ذلك و يشربون الخمر و يضربون بالمعازف و يأخذون الدستبند فيكون على ذلك يومهم و ليلتهم ثمّ ينصرفون . و انما سمّت العجم شهورها بأبان ماه و آذرماه و غيرهما اشتقاقا من أسماء تلك القرى لقول أهلها بعضهم لبعض هذا عيد شهر كذا و عيد شهر كذا . حتّى اذا كان عيد قريتهم العظمى اجتمع إليها صغيرهم و كبيرهم فضربوا عند الصنوبرة و العين سرادقا من ديباج عليه من أنواع الصور و جعلوا له اثنى عشر بابا كلّ باب لأهل قرية منهم و يسجدون للصنوبرة خارجا من السرادق و يقرّبون لها الذّبايح أضعاف ما قرّبوا للشجرة الّتي في قراهم . فيجي‏ء ابليس عند ذلك فيحرّك الصنوبرة تحريكا شديدا و يتكلّم من جوفها كلاما جهوريّا و يعدهم و يمنّيهم بأكثر ما وعدتهم و منتهم الشياطين كلّها فيرفعون رؤوسهم من السجود و بهم من الفرح و النشاط ما لا يفيقون و لا يتكلّمون من الشرب و العزف . فيكونون على ذلك اثنى عشر يوما و لياليها بعدد أعيادهم ساير السّنة ثمّ ينصرفون . فلما طال كفرهم باللّه عزّ و جلّ و عبادتهم غيره بعث اللّه عزّ و جلّ إليهم نبيّا من بني إسرائيل من ولد يهودا بن يعقوب ، فلبث فيهم زمانا طويلا يدعوهم إلى عبادة اللّه عزّ و جلّ و معرفة ربوبيّته فلا يتّبعونه ، فلما رأى شدّة تماديهم في الغىّ و الضلال و تركهم قبول ما دعاهم إليه من الرّشد و النجاح و حضر عيد قريتهم العظمى قال : يا ربّ إنّ عبادك أبوا إلا تكذيبى و الكفر بك و غدوا يعبدون شجرة لا تنفع و لا تضرّ فأيبس شجرهم أجمع و أرهم قدرتك و سلطانك . فأصبح القوم و قد يبس شجرهم كلّها فهالهم ذلك و فظع بهم و صاروا فرقتين فرقة قالت : سحر آلهتكم هذا الرجل الّذي زعم أنه رسول ربّ السماء و الأرض إليكم ليصرف وجوهكم عن آلهتكم إلى اللّه ، و فرقة قالت : لا بل غضبت آلهتكم حين [ 346 ] رأت هذا الرّجل يعيبها و يقع فيها و يدعوكم إلى عبادة غيرها فحجبت حسنها و بهائها لكى تغضبوا لها فتنصروا منه . فأجمع رأيهم على قتله فاتّخذوا أنابيب طوالا من رصاص واسعة الأفواه ثمّ أرسلوها في قرار العين إلى أعلا الماء واحدة فوق الأخرى مثل البرانج « اليراع خ » و نزحوا ما فيها من الماء ثمّ حفروا في قرارها بئرا ضيّقة المدخل عميقة و أرسلوا فيها نبيّهم و ألقموا فاها صخرة عظيمة ثمّ أخرجوا الأنابيب من الماء و قالوا نرجو الآن أن ترضى عنّا آلهتنا إذا رأت أنا قد قتلنا من كان يقع فيها و يصدّ عن عبادتها و دفنّاه تحت كبيرها يتشفى منه فيعود لنا نورها و نضرتها كما كان . فبقوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيّهم عليه السّلام و هو يقول سيدي قد ترى ضيق مكاني و شدّة كربي فارحم ضعف ركنى و قلّة حيلتى و عجّل بقبض روحى و لا تؤخّر إجابة دعوتي حتّى مات عليه السّلام . فقال اللّه جلّ جلاله لجبرئيل : يا جبرئيل أيظنّ عبادى هؤلاء الّذين غرّهم حلمى و امنوا مكرى و عبدوا غيرى و قتلوا رسولي أن يقوموا بغضبي و يخرجوا من سلطاني كيف و أنا المنتقم ممّن عصاني و لم يخش عقابي و اني حلفت بعزّتي لأجعلنّهم عبرة و نكالا للعالمين . فلم يرعهم في يوم عيدهم ذلك إلاّ ريح عاصفة شديدة الحمرة فتحيّروا فيها و ذعروا منها و تضام بعضهم إلى بعض ، ثمّ صارت الأرض تحتهم حجر كبريت يتوقّد و أظلّتهم سحابة سوداء فألقت عليهم كالقبّة جمرا يتلهّب « يلتهب خ » فذابت أبدانهم كما يذوب الرّصاص في النّار ، فنعوذ باللّه تعالى ذكره من غضبه و نزول نقمته و لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم . الترجمة فصل دويم از اين خطبه در وصيّت بتقوى و پرهيزكاريست مى‏فرمايد : وصيّت مى‏كنم شما را أى بندگان خدا بپرهيزكارى خداوندى كه پوشانيده [ 347 ] بشما لباس فاخر ، و واسع گردانيده بر شما أسباب معيشت را ، پس اگر احدى مى‏يافت بسوى بقا نردباني يا از براى دفع مرگ وسيله و راهى هر آينه بودى آن شخص سليمان بن داود عليه السّلام كه مسخّر شد از براى او پادشاهى جنّ و انسان با منصب پيغمبرى و بزرگي قرب و منزلت ، پس زمانى كه استيفا نمود طعمه خود را و استكمال كرد مدّت عمر خود را انداخت او را كمانهاى فنا بتيرهاى مرگ . و گرديد شهرها از وجود او خالى و مسكنها از او معطل و وارث گرديد آنها را قوم ديگر ، و بدرستى كه مر شما را در روزگارهاى سابقه هر آينه عبرتى است . كجايند طايفه عمالقه و پسران عمالقه كجايند فراعنه و پسران فراعنه كجايند أصحاب مدينهاى رسّ كه كشتند پيغمبران را و خاموش كردند روشنائى طريقهاى مرسلين را و زنده كردند طريقهاى گردن كشان را و كجايند آنكسانى كه سير كردند با لشگرها و غلبه كردند با هزاران قشون و جمع آوردند لشگرها و بنا كردند شهرها را . الفصل الثالث منها قد لبس للحكمة جنّتها ، و أخذها بجميع أدبها ، من الإقبال عليها ، و المعرفة بها ، و التّفرّغ لها ، و هي عند نفسه ضالّته الّتي يطلبها ، و حاجته الّتي يسئل عنها ، فهو مغترب إذا اغترب الإسلام ، و ضرب بعسيب ذنبه و ألصق الأرض بجرانه ، بقيّة من بقايا حجّته ، خليفة من خلائف أنبيائه . ثمّ قال عليه السّلام : [ 348 ] أيّها النّاس إنّي قد بثثت لكم المواعظ الّتي وعظ بها الأنبياء أممهم ، و أدّيت إليكم ما أدّت الأوصياء إلى من بعدهم ، و أدّبتكم بسوطي فلم تستقيموا ، و حدوتكم بالزّواجر فلم تستوسقوا ، للّه أنتم أتتوّقعون إماما غيري يطأ بكم الطّريق ، و يرشدكم السّبيل ، ألا إنّه قد أدبر من الدّنيا ما كان مقبلا ، و أقبل منها ما كان مدبرا ، و أزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار ، و باعوا قليلا من الدّنيا لا يبقى ، بكثير من الآخرة لا يفنى . ما ضرّ إخواننا الّذين سفكت دمائهم و هم بصفّين ألاّ يكونوا اليوم أحياء ، يسيغون الغصص ، و يشربون الرّنق ، قدو اللّه لقوا اللّه فوفّاهم أجورهم ، و أحلّهم دار الأمن بعد خوفهم ، أين إخواني الّذين ركبوا الطّريق و مضوا على الحقّ ؟ أين عمّار ؟ و أين ابن التّيّهان ؟ و أين ذوا الشّهادتين ؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الّذين تعاقدوا على المنيّة ، و أبرد برؤوسهم إلى الفجرة . قال : ثمّ ضرب يده على لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء ثمّ قال عليه السّلام : أوه على إخواني الّذين تلوا القرآن فأحكموه ، و تدبّروا الفرض فأقاموه ، أحيوا السّنّة ، و أماتوا البدعة ، دعوا للجهاد فأجابوا ، و وثقوا بالقائد فاتّبعوه ، ثمّ نادى بأعلى صوته : الجهاد الجهاد عباد [ 349 ] اللّه ألا و إنّي معسكر في يومي هذا فمن أراد الرّواح إلى اللّه فليخرج . قال نوف و عقد للحسين عليه السّلام في عشرة آلاف ، و لقيس بن سعد ( ره ) في عشرة آلاف ، و لأبي أيّوب الأنصاري في عشرة آلاف ، و لغيرهم على أعداد اخر و هو يريد الرّجعة إلى صفّين ، فما دارت الجمعة حتّى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه اللّه فتراجعت العساكر فكنّا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كلّ مكان . اللغة ( الجنّة ) بالضم نوع من السلاح ( عسيب الذّنب ) قال الشارح المعتزلي أصله و قال الفيروزآبادي : العسيب عظم الذنب أو منبت الشعر منه و ( جران ) البعير صدره أو مقدم عنقه و ( الحدا ) سوق الابل و الغنا لها و ( الترحال ) مبالغة في الرحلة و ( الغصص ) جمع الغصّة و هى ما يعترض في الحلق و ( الرنق ) بالفتح و التحريك الكدر من الماء ، و في بعض النسخ بالكسر و لا بأس به قال في القاموس : رنق الماء كفرح و نصر رنقا و رنقا و رنوقا كدر فهو رنق كعدل و كتف و جبل . و ( ابن التيهان ) قال الشارح باليآء المنقوطة باثنتين تحتها المشدّدة المكسورة و قبلها تآء منقوطة باثنتين فوقها ، و قال العلاّمة المجلسي ( ره ) : و المضبوط في أكثر النسخ بالياء الساكنة و فتح التاء و كسرها معا ، و فى القاموس و تيّهان مشدّدة الياء و يكسر و تيهان بالسكون . و ( اوه ) على إخوانى بسكون الواو و كسر الهاء كلمة توجّع و فيها لغات اخر قال في القاموس : اوه كجير و حيث و أين واه و إوه بكسر الهاء و الواو المشدّدة واو بحذف الهاء و اوّه بفتح الواو المشدّدة و اووه بضمّ الواو واه بكسر الهاء منوّنة [ 350 ] واو بكسر الواو منوّنة و غير منوّنة و أوتاه بفتح الهمزة و الواو و المثنّاة الفوقيّة و اوياه بتشديد المثناة التحتية كلمة يقال عند الشكاية أو التوجّع اه اوها واه تاوها و تاوّه قالها . 1 و ( تختطفها ) من الاختطاف و هو أخذ الشي‏ء بسرعة و في بعض النسخ تتخطفها الاعراب قوله : بقيّة خبر لمبتدء محذوف ، و قوله : للّه أنتم ، قد مضى تحقيق الكلام فيه في شرح المختار المأة و التاسع و السبعين ، و ما في قوله ما ضرّ إخواننا ، نافية و يحتمل الاستفهام على سبيل الانكار ، و اخواننا بالنصب مفعول ضرّ و فاعله ألاّ يكونوا و جملة يسيغون في محلّ النّصب صفة للاحياء ، و الجهاد الجهاد بالنصب على الاغراء المعنى اعلم أنّ السيّد ( ره ) قد سلك في هذا الفصل من الخطبة مسلك الالتقاط و أسقط صدر الكلام فالتبس الأمر في قوله : ( قد لبس للحكمة جنّتها ) حيث اشتبه المرجع لفاعل لبس و لم يدر أنّ الموصوف بتلك الجملة و ما يتلوها من هو ، فمن ذلك فسّره كلّ على زعمه و اعتقاده . قال العلاّمة المجلسيّ ( ره ) إنّه إشارة إلى القائم عليه السّلام و نقله الشارح المعتزلي عن الشيعة الاماميّة . و قال الصّوفيّة إنه عليه السّلام يعني به وليّ اللّه في الأرض و عندهم لا يخلو الدّنيا من الأبدال و الأولياء . و قالت الفلاسفة : إنّ مراده عليه السّلام به العارف . و قالت المعتزلة : انه يريد به العالم بالعدل و التوحيد و زعموا أنّ اللّه لا يخلى الامة من جماعة من المؤمنين العلماء بالتوحيد و العدل و انّ الاجماع إنما يكون ----------- ( 1 ) أى قال آوه ( منه ) . [ 351 ] حجّة باعتبار قول أولئك ، لكنه لما تعذّرت معرفتهم بأعيانهم اعتبر اجماع الجميع و انما الأصل قول أولئك . قال الشّارح المعتزلي بعد نقل هذه الأقوال : و ليس يبعد أن يريد عليه السّلام به القائم من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في آخر الوقت إذا خلقه اللّه تعالى و إن لم يكن الآن موجودا ، فليس في الكلام ما يدلّ على وجوده الآن ، و قد وقع اتّفاق الفرق من المسلمين أجمعين على أنّ الدّنيا و التكليف لا ينقضي إلاّ عليه ، انتهى . أقول : أما ما ذكره من كون المراد به القائم عليه السّلام فهو كما ذكره غير بعيد لظهور اتّصافه عليه السّلام بهذه الأوصاف و كونه مظهرا لها ، و أما ما زعمه كساير المعتزلة من أنّه عليه السّلام غير موجود الآن و انما يخلقه اللّه في آخر الزمان فهو زعم فاسد و وهم باطل ، لقيام البراهين العقلية و النقلية على أنّ الأرض لو تبقى بغير حجّة لانخسفت و ساخت ، و على أنّه لا بد من وجوده في كلّ عصر و زمان ، و أنه إما ظاهر مشهور أو غايب مستور ، و أنّ القائم من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله مخلوق من غابر الزمان و موجود الآن و هو غايب مستور لمصالح مقتضية لغيبته و الانتفاع بوجوده الشريف حال الغيبة كالانتفاع بالشمس المجلّلة للعالم المحجوبة بالسحاب . و بعد قيام الأدلّة المحكمة على ذلك كلّه فلا يعبأ بالاستبعادات الوهمية للمنكرين ، و الاستدلالات السخيفة الهيّنة للمبطلين على ما اشير اليها في كتب أصحابنا الاماميّة المؤلّفة في الغيبة مع أجوبتها المتقنة ، و قد مضى طرف من الكلام على هذا المرام في شرح الفصل الأوّل من المختار المأة و الثّامن و الثّلاثين فليراجع ثمة ، هذا . و الحكمة اسم لمجامع الخير كلّه قال أبو البقاهى في عرف العلماء استعمال النفس الانسانية باقتباس العلوم النظريّة و اكتساب الملكة التامّة على الأفعال الفاضلة قدر طاقتها . و قال بعضهم : هي معرفة الحقايق على ما هى عليه بقدر الاستطاعة و هي العلم النافع المعبّر عنها بمعرفة ما لها و معرفة ما عليها . [ 352 ] و قال ابن دريد : كلّ ما يؤدّى إلى ما يلزمه أو يمنع من قبيح ، و قيل : ما يتضمّن صلاح النّشأتين . و قال في البحار : العلوم الحقّة النافعة مع العمل بمقتضاها ، قال : و قد يطلق على العلوم الفايضة من جنابه تعالى على العبد بعد العمل بما علم . أقول : و المعاني متقاربة و اليها يرجع تفاسيره المختلفة ، فقد يفسّر بأنه معرفة اللّه و طاعته ، و قد يفسّر بأنه العلم الذي يرفع الانسان عن فعل القبيح ، و فسّر في قوله تعالى بالحكمة و الموعظة الحسنة بالنبوّة و في قوله : و يعلّمه الكتاب و الحكمة بالفقه و المعرفة ، و في قوله : و يعلّمهم الكتاب و الحكمة بالقرآن و الشريعة ، و في قوله : يؤتى الحكمة من يشاء من عباده و من يؤتي الحكمة فقد أُوتى خيراً كثيراً و ما يذكّر إلاّ أُولوا الألباب بتحقيق العلم و إتقان العمل و في الصافي من الكافي و تفسير العياشي عن الصّادق عليه السّلام في تفسير هذه الآية قال : طاعة اللّه و معرفة الامام . و عنه عليه السّلام معرفة الامام و اجتناب الكبائر التي أوجب اللّه عليها النار . و عن العياشي عنه عليه السّلام : الحكمة المعرفة و الفقه في الدّين و من فقه منكم فهو حكيم . و عن مصباح الشريعة عنه عليه السّلام الحكمة ضياء المعرفة و ميراث التقوى و ثمرة الصدق و لو قلت ما أنعم اللّه على عباده بنعمة أنعم و أعظم و أرفع و أجزل و أبهى من الحكمة لقلت ، قال اللّه يؤتى الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد أُوتى خيراً كثيراً و ما يذكّر إلاّ أُولوا الألباب أى لا يعلم ما أودعت و هيأت في الحكمة إلاّ من استخلصته لنفسي و خصصته بها و الحكمة هي الكتاب و صفة الحكيم الثبات عند أوائل الأمور و الوقوف عند عواقبها و هو هادى خلق اللّه إلى اللّه . و عن الخصال عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رأس الحكمة مخافة اللّه . و عنه و عن الكافي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنه كان ذات يوم في بعض أسفاره اذ لقاه ركب فقالوا : السّلام عليك يا رسول اللّه ، فالتفت إليهم و قال : ما أنتم ؟ فقالوا : مؤمنون ، [ 353 ] قال : فما حقيقة ايمانكم ؟ قالوا : الرّضا بقضاء اللّه و التسليم لأمر اللّه و التفويض إلى اللّه ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء فان كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون ، و لا تجمعوا ما لا تأكلون ، و اتّقوا اللّه الّذي إليه ترجعون . إذا عرفت ذلك فأقول : قوله : قد لبس للحكمة جنّتها الظاهر أنه أراد بجنّة الحكمة مخافة اللّه كما أنّ النبيّ جعلها رأسها في رواية الخصال المتقدّمة ، فاستعار لفظ الجنّة لها باعتبار أنّ مخافته سبحانه و وجود وصف التّقوى الموجب لقمع النفس عن الشهوات و قلعها عن العلايق و الامنيات مانع عن كون الحكمة غرضا عن الهام الهوى و عن وقوع الحكيم في الهلاكة و الرّدى ، كما أنّ الجنّة و هو ما يستتر به السّلاح كالدّرع و نحوه مانعة للابسها عن اصابة سهام الأعداء . فيكون محصّل المعنى أنّ ذلك الحكيم قد اتّصف بمخافة اللّه سبحانه و خشيته التي هي بمنزلة الجنّة للحكمة لأجل حفظ حكمته و كونها وقاية لها عما يصادمها كما أنّ الجنّة تحفظ الانسان عن صدمات الأعداء . و بما ذكرنا يظهر ما في كلام الشارح البحراني ، فانّه قال : لفظ الجنّة مستعار في الاستعداد للحكمة بالزهد و العبادة الحقيقين و المواظبة على العمل بأوامر اللّه ، و وجه الاستعارة أنّ بذلك الاستعداد يأمن إصابة سهام الهوى و ثوران دواعى الشهوات القائدة إلى النار كما يأمن لابس الجنّة من أذى الضرب و الجرح ، انتهى فانّ مفاده كما ترى هو أنّ لفظ الجنّة مستعار للاستعداد الحاصل من الزهد و العبادة و المواظبة على التكاليف الشرعيّة . فيتوجّه عليه حينئذ أوّلا أنّ الاستعداد المذكور لا يكون جنّة للحكمة على ما ذكره ، إنّما يكون جنّة للانسان من الوقوع في النار ، و ظاهر كلام الامام يفيد تلبسه بجنّة الحكمة لأجل الحكمة لا لأجل نفسه . و ثانيا أنّ الاستعداد و التهيّوء للشي‏ء قبل وجود الشي‏ء ، فلو جعل الجنّة استعارة للاستعداد للحكمة لكان مفاد كلامه عليه السّلام عدم اتّصاف الرّجل الموصوف [ 354 ] بالحكمة فعلا . و بعبارة اخرى يدلّ على تلبسه و اتّصافه بالاستعداد فقط لا بالحكمة نفسها مع أنّ الغرض من الكلام الوارد في مقام المدح إفادة اتّصافه بها و كونها حاصلا له بالفعل لا بالقوّة ، إذ كمال المدح إنما هو في ذلك . و يدلّ على ذلك أيضا أى على الاتّصاف بالفعل صريح قوله ( و أخذها بجميع أدبها ) أى أخذ الحكمة على وجه الكمال و قام بآدابها ( من الاقبال عليها و المعرفة بها و التفرّغ لها ) يعني أنّه لما علم أنه لا خصلة أعظم و أشرف و أرفع و أبهى من الحكمة و عرف أنه من يؤتها فقد أوتى خيرا كثيرا أقبل الكلّية عليها و قصر همّته و نهمته فيها و عرف شرفها و قدرها و نفاستها و تفرّغ لها و تخلّى عن جميع العلايق الدنيوية التي تضادّها و تنحّى عن كلّ ما سواها . ( فهى عند نفسه ضالّته الّتي يطلبها و حاجته الّتي يسأل عنها ) ذلك مثل قوله عليه السّلام في أواخر الكتاب : الحكمة ضالّة المؤمن . فان قلت : قوله يطلبها و يسأل عنها صريحان في عدم حصولها له فعلا فينافي ما استظهرت آنفا من كلامه عليه السّلام السابق . قلت : لا منافاة بينهما لأنه عليه السّلام استعار لها لفظ الضالّة و جملة يطلبها وصف للمستعار منه لا للمستعار له ، إذ من شأن الضلالة أن تطلب فهى استعارة مرشّحة لا استعارة مجرّدة ، و الجامع شدّة الشوق و فرط الرغبة و المحبّة لا الطلب كما زعمه الشارح البحراني حيث قال استعار لها لفظ الضالّة لمكان انشاده لها و طلبه كما تطلب الضالّة من الابل ، نعم قوله عليه السّلام : يسأل عنها ظهوره فيما أفاده الشارح ، لكن تأويله على وجه يوافق ما ذكرناه سهل فتأمل ، هذا . و لا يخفى عليك أنّ جعل الكلام من باب الاستعارة إنّما هو جريا على مذاق الشارح البحراني ، و إلاّ فقد علمت في ديباجة الشرح أنه من باب التشبيه البليغ حيث ذكر المشبّه و المشبّه به و حذف الأداة فيكون الوصف بالطلب ترشيحا للتشبيه لا للاستعارة . [ 355 ] ( فهو مغترب ) يعني هذا الشخص يخفى نفسه و يختار العزلة ، و هو إشارة إلى غيبة القائم عليه السّلام ( إذا اغترب الاسلام ) أى إذا ظهر الجور و الفساد و صار الاسلام غريبا ضعيفا بسبب اغتراب الصلاح و السداد كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : بدء الاسلام غريبا و سيعود غريبا كما بدء . ثمّ شبّه الاسلام بالبعير البارك في قلّة النفع و الضعف على سبيل الاستعارة بالكناية فأثبت له لوازم المشبّه به و قال : ( و ضرب بعسيب ذنبه ) لأنّ البعير إذا أعيى و تأذّى ضرب بذنبه ( و ألصق الأرض بجرانه ) أى مقدّم عنقه فلا يكون له تصرّف و لا نهوض ، و قلّ أن يكون له نفع حال بروكه ، هذا . و لما وصفه عليه السّلام بلبسه لجنّة الحكمة و ايثاره العزلة و الغيبة عرّفه بأنه ( بقيّة من بقايا حجّته ) على عباده و ( خليفة من خلائف أنبيائه ) في بلاده ، و هذان الوصفان يقويان الظنّ بكون نظره عليه السّلام بما أورده في هذا الفصل إلى القائم المنتظر عليه السّلام و آبائه الطاهرين عليهم السّلام . قال الشارح المعتزلي : فان قلت : أليس لفظ الحجّة و الخليفة مشعرا بما يقوله الاماميّة أى كون المراد بها الامام القائم عليه السّلام . قلت : لا لأنّ أهل التصوّف يسمّون صاحبهم حجّة و خليفة و كذلك الفلاسفة و أصحابنا لا يمتنعون من إطلاق هذه الألفاظ على العلماء المؤمنين في كلّ عصر لأنّهم حجج اللّه أى إجماعهم حجّة و قد استخلفهم اللّه في أرضه ليحكموا بحكمه . أقول : فيه أوّلا منع صحّة اطلاق حجّة اللّه و خليفته على غير الأنبياء و الأوصياء إذ العصمة منحصرة فيهم فيختصّ الحجيّة و الخلافة بهم لمكان العصمة الّتي فيهم ، و أما غيرهم فليس بمعصوم بالاتّفاق فلا يكون قوله و فعله حجّة ، و حجّية إجماع العلماء أيضا باعتبار دخول قول المعصوم في جملة أقوالهم لا من حيث إنّ كلاّ من العلماء من حيث إنّه عالم قوله حجّة . [ 356 ] و ثانيا على فرض التنزّل و التسليم لصحّة اطلاقه على غيرهم انّ أمير المؤمنين عليه السّلام ليس بمعتزلي المذهب و لا صوفي المذاق و لا فلسفى المسلك ، فلا يحمل لفظ الحجّة و الخليفة في كلامه عليه السّلام على اصطلاحاتهم و إنما يحمل على المعنى الغالب إرادته من هذه اللفظة في كلماتهم عليهم السّلام ، و غير خفىّ على المتتبّع بأحاديثهم و كثير الانس بأخبارهم أنّهم كثيرا ما يطلقون لفظ الحجج و يريدون به الأئمة الاثنى عشر ، و قد يطلقونه و يريدن به ساير المعصومين من الأنبياء و الأوصياء و يطلقون لفظ الحجّة أيضا احيانا بالقراين على العقل و القرآن ، و لم نر إلى الآن أن يطلق هذا اللفظ في كلامهم على العارف أو العالم غير المعصوم أو أحد الأبدال المصطلح في لسان الفلاسفة و المعتزلة و المتصوّفة . و على ذلك فحيث ما اطلق لفظ حجّة اللّه في كلامهم خاليا عن القراين فلا بدّ من حمله على المعنى الكثير الدوران في ألسنتهم و هو الامام ، لأنّ الظنّ يلحق الشي‏ء بالأعمّ الأغلب . و من هذا كلّه ظهر ما في كلام الشارح البحراني أيضا فانّه بعد ما جعل قوله عليه السّلام قد لبس للحكمة جنّتها إشارة إلى العارف مطلقا و نفى ظهور كونه إشارة إلى الامام المنتظر عليه السّلام قال في شرح هذا المقام : قوله : بقيّة من بقايا حججه ، أى على خلقه إذ العلماء و العارفون حجج اللّه في الأرض على عباده ، و ظاهر كونه خليفة من خلفاء أنبيائه لقوله صلّى اللّه عليه و آله العلماء ورثة الأنبياء ، انتهى . و يرد عليه مضافا إلى ما مرّ أنّ استدلاله على خلافة العلماء و العرفاء بقوله : العلماء ورثة الأنبياء و استظهاره من ذلك كون المراد بالخليفة في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام هؤلاء لا وجه له . أمّا أوّلا فلأنّ الدّليل أخصّ من الدّعوى لافادته وراثة العلماء فقط دون العرفاء مع أنّ المدّعى أعمّ . و ثانيا إنّ قوله عليه السّلام العلماء ورثة الأنبياء لم يرد به الوراثة الحقيقية قطعا و إنما هو من باب التشبيه و المجاز يعني أنّ علومهم انتقل إليهم كما أنّ أموال المورث ينتقل [ 357 ] إلى الوارث فكانوا بمنزلة الورثة . و على ذلك فأقول : إنّ وراثة العلماء للأنبياء و خلافتهم عنهم على سبيل المجاز و الاستعارة ، و وراثة الامام المنتظر عليه السّلام و خلافته على سبيل الحقيقة ، فلا بدّ من حمل لفظ الخليفة في كلامه عليه السّلام عليه لا على العالم ، لأنّ اللّفظ إذا دار بين أن يراد منه معناه الحقيقي و معناه المجازي فالأصل الحقيقة كما برهن في علم الاصول . ( ثمّ ) أخذ عليه السّلام في نصح المخاطبين و موعظتهم و تذكيرهم و توبيخهم و ( قال عليه السّلام أيّها النّاس إنّي قد بثثت ) أى نشرت و فرّقت ( لكم المواعظ الّتي وعظ بها الأنبياء أممهم ) و هي المواعظ الجاذبة لهم إلى اللّه و معرفته و طاعته و القائدة إلى النهج القويم و الصّراط المستقيم ( و أدّيت إليكم ما أدّت الأوصياء إلى من بعدهم ) من الأسرار الالهيّة و التكاليف الشرعيّة . قال الشارح المعتزلي : و الأوصياء الذين يأتمنهم الأنبياء على الأسرار الالهيّة و قد يمكن أن لا يكونوا خلفاء بمعنى الامارة و الولاية ، فانّ مرتبتهم أعلى من مراتب الخلفاء ، انتهى . أقول : غرض الشارح من هذا الكلام اصلاح مذهبه الفاسد ، فانّ كلامه عليه السّلام لما كان ظاهرا في وصايته المساوقة للخلافة و الولاية كما هو مذهب الشيعة الاماميّة أراد الشارح صرفه عن ظاهره و أوّله بما يوافق مذهب الاعتزال . و محصّل تأويله أنّ الوصاية عبارة عن الائتمان على الأسرار الالهيّة و هو غير ملازم للخلافة و الولاية ، فلا يكون في الكلام دلالة على خلافته عليه السّلام و كونه أولى بالتصرّف ، و انما يدلّ على كونه وصيّا مؤتمنا على الأسرار فقط . و فيه أوّلا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا ائتمن الوصيّ على الأسرار و الأحكام و علّمه إيّاها ، فإمّا أن يكون غرضه من ذلك أداء وصيّة تلك الأسرار و الأحكام إلى أمّته و إبلاغها اليهم . أو يكون غرضه منه كونه فقط عالما بها و مكلّفا في نفسه على العمل بتلك [ 358 ] الأحكام و القيام بوظايف هذه الأسرار من دون أن يكون مأذونا في الأداء إليهم . و ظاهر كلامه عليه السّلام بل صريحه كون وصايته على الوجه الأوّل و إلاّ لما جاز أن يؤدّى ما أوصى به إلى المكلّفين فحيث أدّاه إليهم علم منه كونه مأذونا في الأداء و مكلّفا به ، و حيث كان مكلّفا به وجب عليهم اطاعته و إلاّ لكان الأداء عبثا ، و لا ريب أنّ الوصيّ بهذا المعنى أى المؤتمن على الأسرار و الأحكام و المكلّف على أدائها إلى الأمة و الواجب على الامة قبول قوله و طاعته ملازم بل مرادف للخليفة و الأمير و الوليّ . نعم الوصاية على الوجه الثاني غير ملازم للخلافة و الولاية إلاّ أنّه غير مراد في كلامه عليه السّلام قطعا لما ذكرنا . و ثانيا أنّ ما ذكره من أنّ الوصيّ أعلى مرتبة من الخليفة أى الأمير و الوليّ فغير مفهوم المراد . لأنه إن أراد بالخلافة و الأمارة و الولاية المعنى الّذي يقول به الشيعة و يصفون أئمّتهم به أعنى النيابة عن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و السلطنة الالهيّة و الأولوية بالتصرّف فلا نسلّم أنّ الوصاية و هي الائتمان بالاسرار أعلى رتبة منها بل الأمر بالعكس ، لأنّ الوصاية بالمعنى المذكور من شئونات الولاية المطلقة ، و الأولياء مضافا إلى كونهم مؤتمنين على الأسرار أولو الأمر و النّهى و أولى بالتصرّف في أموال المؤمنين و أنفسهم . و إن أراد بها المعنى اللّغوي أعنى الامارة على السرايا مثلا و الولاية أى كونه واليا على قوم أو بلد و نحوه فكون رتبة الوصاية أعلى من ذلك مسلّم و غني عن البيان لأنّ الاطلاع و الائتمان على الأسرار الالهيّة لا نسبة لهما قطعا إلى أمّارة جيش و ولاية قوم إلاّ أنّ الاماميّة حيث يطلقون هذه الألفاظ في مقام وصف الأئمة عليهم السّلام لا يريدون بها تلك المعاني قطعا ، فلا داعى إلى ما تكلّفه الشارح و لا حاجة إليه فافهم جيّدا ، هذا . و قد مضى في شرح الفصل الخامس من المختار الثاني عند شرح قوله عليه السّلام : و لهم خصايص حقّ الولاية و فيهم الوصيّة و الوراثة ، ما له مزيد نفع في هذا المقام فليراجع ثمّة . [ 359 ] و قوله ( و أدّبتكم بسوطي ) الظاهر أنّه كناية عن تأديبه لهم بالأقوال الغير اللينة ( فلم تستقيموا ) على نهج الحقّ ( و حدوتكم بالزّواجر ) أى بالنواهى و الابعادات ( فلم تستوسقوا ) أى لم تجتمعوا على التمكين و الطاعة ( للّه أنتم ) أى تعجّبا منكم ( أتتوقّعون إماما غيري ) استفهام على سبيل التقرير لغرض التقريع أو على سبيل الانكار و التوبيخ . فان قلت : إنّ الاستفهام الّذي هو للانكار التوبيخي يقتضي أن يكون ما بعده واقعا مع أنهم لم يكونوا متوقّعين لامام غيره إذ قد علموا أنه لا إمام وراه . قلت : نعم انهم كانوا عالمين بذلك إلاّ أنهم لما لم يقوموا بمقتضى علمهم و لم يمحضوا الطاعة له عليه السّلام نزّلهم منزلة الجاهل المتوقّع لامام آخر ، فأنكر ذلك عليهم و لامهم عليه . و قوله عليه السّلام ( يطا بكم الطريق ) أى يذهب بكم في طريق النجاة ( و يرشدكم السبيل ) أى يهديكم إلى مستقيم الصّراط ( ألا إنّه قد أدبر من الدّنيا ما كان مقبلا ) و هو الصّلاح و الرشاد الذي كان في أيام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو في أيّام خلافته عليه السّلام فيكون إشارة إلى قرب ارتحاله من دار الفناء ( و أقبل منها ما كان مدبرا ) و هو الضلال و الفساد الّذي حصل باستيلاء معاوية على البلاد ( و أزمع الترحال ) أى عزم على الرحلة إلى دار القرار ( عباد اللّه الأخيار و باعوا ) أى استبدلوا ( قليلا من الدّنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى ) . لا يخفى ما في هذه العبارة من اللّطافة و حسن التعبير في التنفير عن الدّنيا و الترغيب إلى الأخرى ، حيث وصف الاولى مع قلّتها بالفناء ، و وصف الثانية مع كثرتها بالبقاء و معلوم أنّ العقلاء لا يرضون الأولى بالثانية بدلا . و أكّد هذا المعنى بقوله ( ما ضرّ إخواننا ) المؤمنين ( الّذين سفكت دماؤهم بصفّين ألاّ يكونوا اليوم أحياء ) مثل حياتنا ( يسيغون الغصص ) و يتجرّعون الهموم من توارد الآلام ( و يشربون الرنق ) أى الكدر من كثرة مشاهدة المنكرات . و لما نفى تضرّرهم بعدم الحياة نبّه على ما حصل لهم من عظيم المنفعة بالممات [ 360 ] فقال و ل ( قد و اللّه لقوا اللّه فوفّاهم اجورهم ) بغير حساب ( و أحلّهم في دار الأمن ) مفتّحة لهم الأبواب ( بعد خوفهم ) من سوء المآل و فتن أهل الضلال . ثمّ استفهم توجّعا و تحسّرا عن السّلف الصالحين و قال ( أين إخوانى الّذين ركبوا الطريق ) أى جادّة الشريعة ( و مضوا على الحقّ ) أى المعرفة و الولاية . ثمّ استفهم عن بعض من مضى بعينه و سمّاه بخصوصه لكونه من أعيان الصحابة و أكابرهم فقال ( أين عمار ) و هو ابن ياسر المعروف و أبوه عربيّ قحطانيّ و امّه أمة لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي ولدت عمارا فاعتقه أبو حذيفة فمن هناك كان عمّار مولى لبني مخزوم . قال الشارح المعتزلي : و للحلف و الولاء الّذين بين بني مخزوم و بين عمّار و أبيه ياسر كان اجتماع بني مخزوم على عثمان حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب حتّى انفتق له فتق في بطنه زعموا و كسروا ضلعا من أضلاعه ، فاجتمعت بنو مخزوم فقالوا : و اللّه لئن مات لا قتلنا به أحدا غير عثمان . قال أبو عمرو بن عبد البرّ : كان عمّار بن ياسر ممّن عذّب في اللّه ثمّ أعطاهم ما أرادوا بلسانه مع اطمينان قلبه فنزل فيه « إلاّ من أُكره و قلبه مطمئنّ بالايمان » و هذا مما أجمع عليه أهل التفسير و هاجر إلى أرض الحبشة و صلّى القبلتين و هو من المهاجرين الأوّلين و شهد بدرا و المشاهد كلّها و أبلى بلاء حسنا ثمّ شهد اليمامة فأبلى فيها أيضا و يومئذ قطعت أذنه . و قال ابن عبّاس في قوله تعالى أو من كان ميتاً فأَحييناه و جعلنا له نوراً يمشي به في الناس أنه عمار بن ياسر « كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها » أبو جهل ابن هشام . و روى أبو عمرو عن عايشة أنها قالت : ما من أحد من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أشاء أن أقول فيه لقلت إلاّ عمّار بن ياسر ، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول : إنّه ملى‏ء إيمانا إلى أخمص قدميه . قال أبو عمرو و من حديث خالد بن الوليد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال : من أبغض [ 361 ] عمارا أبغضه اللّه . قال : و من حديث عليّ بن ابيطالب عليه السّلام إنّ عمارا جاء يستأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوما فعرف صوته فقال : مرحبا بالطيّب المطيّب ، يعني عمّارا . قال : و من حديث أنس عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله اشتاقت الجنّة إلى أربعة : عليّ عليه السّلام و عمّار ، و سلمان ، و بلال . قال أبو عمرو : و فضايل عمّار كثير يطول ذكرها . أقول : و قد مضى جملة من فضائله و مجاهداته بصفيّن و كيفيّة شهادته رضى اللّه تعالى عنه هنالك في تذييل المختار الخامس و الستّين و كان سنّه يوم قتل نيفا و تسعين . ( و أين ابن التيهان ) و اسمه مالك و اسم أبيه مالك ايضا ، و قال أبو نعيم : أبو الهيثم بن التيهان اسمه مالك و اسم التيهان عمرو بن الحارث كان « رض » أحد النقباء ليلة العقبة و شهد بدرا و الأكثر على أنه أدرك صفّين مع أمير المؤمنين عليه السّلام و قتل بها ، و قيل : توفّى في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ، قال أبو عمرو : و هذا القول لم يتابع عليه قائله ، و قيل : توفّى سنة عشرين أو إحدى و عشرين . ( و أين ذو الشهادتين ) و هو خزيمة بن ثابت الأنصاري يكنّى أبا عمارة شهد بدرا و ما بعدها من المشاهد و شهد صفين مع عليّ عليه السّلام فلما قتل عمّار بن ياسر قاتل « ره » حتّى قتل حسبما عرفته في تذييل المختار الخامس و السّتين . و انما لقّب بذو الشهادتين لما رواه الصدوق في الفقيه بسنده عن عبد اللّه بن أحمد الذّهلي قال : حدّثنا عمارة بن خزيمة بن ثابت أنّ عمّه حدّثه و هو من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ابتاع فرسا من أعرابيّ فأسرع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المشي ليقضيه ثمن فرسه فأبطأ الأعرابي ، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس و هم لا يشعرون أنّ النبيّ عليه السّلام ابتاعه ، حتّى زاد بعضهم الأعرابي في السّوم على الثمن فنادى الأعرابي فقال : إن كنت مبتاعا لهذا الفرس فابتعه و إلاّ بعته ، فقام النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله حين سمع الأعرابي فقال : أو ليس قد ابتعته منك ، فطفق الناس يلوذون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بالأعرابي و هما يتشاجران ، فقال الأعرابي : هلمّ شهيدا يشهد أنّى قد بايعتك ، و من جآء من المسلمين قال للاعرابي إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن ليقول إلاّ حقّا حتّى [ 362 ] جاء خزيمة بن ثابت فاستمع لمراجعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأعرابي فقال خزيمة إنّي أشهد أنك قد بايعته ، فأقبل النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله على خزيمة فقال : بم تشهد ؟ قال : بتصديقك يا رسول اللّه فجعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شهادة خزيمة بن ثابت شهادتين و سمّاه ذو الشهادتين و روى هذه القصّة في الكافي بنحو آخر عن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن معاوية بن وهب قال : كان البلاط حيث يصلّى على الجنايز سوقا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسمّى البطحاء يباع فيها الحليب و السّمن و الأقط و أنّ أعرابيا أتى بفرس له فأوثقه فاشتراه منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ، ثمّ دخل ليأتيه بالثمن فقام ناس من المنافقين فقالوا : بكم بعت فرسك ؟ قال : بكذا و كذا ، قالوا : بئس ما بعت ، فرسك خير من ذلك و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج إليه بالثمن وافيا طيّبا ، فقال الأعرابي : ما بعتك و اللّه ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : سبحان اللّه بلى و اللّه لقد بعتني ، و ارتفعت الأصوات فقال الناس : رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقاول الأعرابي ، فاجتمع ناس كثير فقال أبو عبد اللّه 1 و مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ أقبل خزيمة بن ثابت الأنصاري ففرج الناس بيده حتّى انتهى إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال : اشهد يا رسول اللّه لقد اشتريته منه ، فقال الأعرابي : أتشهد و لم تحضرنا ، و قال له النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : أشهدتنا ؟ فقال له : لا يا رسول اللّه و لكنّى علمت أنّك قد اشتريت أ فاصدّقك بما جئت به من عند اللّه و لا اصدّقك على هذا الأعرابي الخبيث ؟ قال : فعجب له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال له : يا خزيمة شهادتك شهادة رجلين . ( و أين نظراؤهم ) و أشباههم ( من إخوانهم الّذين تعاقدوا ) و تعاهدوا ( على المنيّة ) و جدّوا فى المقاتلة حتّى قتلوا بصفّين كابن بديل و هاشم بن عتبة و غيرهما ممّن تقدّم ذكره في تذييل المختار الخامس و الستّين ( و أبرد برؤوسهم إلى الفجرة ) أى ارسلت رؤوسهم مع البريد للبشارة بها إلى الفسقة الطغام من أمراء الشام . ----------- ( 1 ) هكذا في نسخة الكافي و الظاهر انه وقع فيه تحريف و سقط لا بدّ من الرجوع الى نسخة صحيحة إن ساعدنا التوفيق إنشاء اللّه تعالى « منه ره » . أقول : فى الكافى المطبوع أخيرا ص 400 و 401 ج 7 الحديث هكذا : فقال أبو عبد اللّه ( ع ) و مع النبى « ص » أصحابه « الخ » و زاد في أوله : عن يونس ، بعد قوله : عن محمد بن عيسى ، و ذكر في آخره : و قال ، بدل قوله : فقال له . و فى الوافى قال : كا على عن العبيدى عن يونس عن ابن وهب ، ثمّ ذكر الحديث . « المصحّح » [ 363 ] ( قال ) الرّاوى ( ثمّ ضرب عليه السّلام يده إلى لحيته فأطال البكاء ) من تقلّب الزمان و فقد الاخوان و تراكم الهموم و الأحزان ( ثمّ قال ) توجّعا و تحسّرا . ( اوه على إخوانى الّذين تلوا القرآن فأحكموه ) أى أحسنوا تلاوته و مبانيه و فهموا مقاصده و معانيه و عملوا بمقتضاه و مؤدّاه ( و تدبّروا الفرض فأقاموه ) أى تفكروا في علل الواجبات و أسرار العبادات فواظبوا عليها و قاموا بوظايفها تحصيلا للغرض الأقصى منها و هو الزلفى إلى اللّه و القربى إلى رضوان اللّه الّذي هو أشرف اللّذات و أعلى الدرجات و ( أحيوا السّنّة ) يحتمل أن يكون المراد بها المستحبّات فيكون ذكرها بعد القرآن و الفرض نظير ما روى عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنما العلم ثلاثة : آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنّة قائمة و ما خلاهنّ فهو فضل . أى العلم النافع آية محكمة أى واضحة الدّلالة أو غير منسوخة فانّ المتشابه و المنسوخ لا ينتفع بهما غالبا ، و فريضة عادلة أى الواجبات المصونة من الافراط و التفريط ، و سنّة قائمة أى المندوبات الباقية غير المنسوخة ، و على هذا الاحتمال فالمراد باحياء السنّة الاتيان بها و المراقبة عليها . إلاّ أنّ الأظهر بقرينة المقابلة بينه و بين قوله : ( و أماتوا البدعة ) أن يراد بالسنّة مقابل البدعة ، يعني السنة الّتي سنّها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الشريعة الّتي شرعها . روى في البحار من معاني الأخبار مرفوعا قال : جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال : أخبرني عن السنّة و البدعة و عن الجماعة و عن الفرقة ، فقال أمير المؤمنين السنّة ما سنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ، و البدعة ما أحدث من بعده ، و الجماعة أهل الحقّ و إن كانوا قليلا ، و الفرقة أهل الباطل و إن كانوا كثيرا . و على هذا فالمراد باحياء السنّة أخذ أحكام الشرع و العمل عليها . روى في البحار من المحاسن عن أبي جعفر عن أبيه عليهما السّلام قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تمسّك بسنّتي في اختلاف أمّتي كان له أجر مأة شهيد . و المراد باماتة البدعة إبطالها و تركها و الاعراض عنها و عن أهلها . [ 364 ] روى في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم قال في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى : و الّذين كسبوا السيئات جزآء سيئة بمثلها و ترهقهم ذلّة ما لهم من اللَّه من عاصم هؤلاء أهل البدع و الشبهات و الشهوات يسوّد اللّه وجوههم ثمّ يلقونه . و فيه من ثواب الأعمال عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : من مشى إلى صاحب بدعة فوقّره فقد مشي في هدم الاسلام . ( دعوا للجهاد فأجابوا ) و نهضوا إليه ( و وثقوا ) أى اطمأنوا و اتّكلوا ( بالقائد ) أراد به نفسه الشريف لكونه قائدا لهم إلى سبيل الحقّ ( فاتّبعوه ) . ( ثمّ ) إنّه عليه السّلام لما رغّب المخاطبين و رهّب و وعظهم و ذكّر و بشّرهم و أنذر و توجّع من مفارقة أصحابه و تحسّر تخلّص إلى أصل غرضه . و ( نادى بأعلا صوته : الجهاد الجهاد عباد اللّه ) أى اسرعوا إليه و انهضوا به ( ألا و اني معسكر في يومي هذا ) أى جامع للعساكر في المعسكر ( فمن أراد الرواح إلى اللّه ) أى الذهاب إلى الفوز برضوانه أو إلى لقائه تعالى بالشهادة ( فليخرج ) ( قال نوف : و عقد للحسين عليه السّلام ) راية ( في عشرة آلاف و لقيس بن سعد ) ابن عبادة ( في عشرة آلاف ) و كان سعد أبو قيس رئيس الخزرج و لم يبايع أبا بكر و مات على عدم البيعة و المشهور أنّهم قتلوه لذلك و أحالوا قتله على الجنّ و افتروا شعرا من لسان الجنّ كما مرّ في المقدّمة الثالثة من مقدّمات الخطبة الثالثة و في التنبيه الأوّل من شرح المختار السابع و الستّين . و قال الشّارح المعتزلي : سعد هو الّذي حاول إقامته في الخلافة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يبايع أبا بكر حين بويع و خرج إلى حوران فمات بها ، قيل قتلته الجنّ لأنه بال قايما في الصحراء ليلا و رووا بيتي شعر قيل إنهما سمعا ليلة قتله و لم ير قائلهما نحن قتلنا سيّد الخزرج سعد بن عبادة و رميناه بسهمين فلم يخط فؤاده و يقول قوم : إنّ أمير الشام يومئذ كمن له من رماه ليلا و هو خارج إلى الصحراء بسهمين فقتله لخروجه عن طاعته ، و قد قال بعض المتأخّرين : [ 365 ] يقولون سعد شكّت الجنّ قلبه ألا ربّما صحّحت ذنبك بالعذر و ما ذنب سعد أنّه بال قائما و لكنّ سعدا لم يبايع أبا بكر و قد صبرت من لذّة العيش أنفس و ما صبرت عن لذّة النّهى و الأمر و كان قيس من صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كبار شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام ، و كان طوالا جوادا شجاعا شهد مع أمير المؤمنين عليه السّلام حروبه كلّها ، و كان مخلصا في اعتقاده ثابت الرأى في التشيّع و المحبّة . و قد مرّ في التنبيه الثاني من شرح المختار السابع و الستّين ما يفصح عن جلالة شأنه و رفعة مقامه و أحببت أن أورد هنا رواية مفيدة لخلوص عقيدته على وجه الكمال مع تضمّنها لاعجاز غريب لأمير المؤمنين عليه السّلام . فأقول : روى في البحار من كتاب إرشاد القلوب عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري و عبد اللّه بن عباس قالا : كنّا جلوسا عند أبي بكر في ولايته و قد أضحى النهار و إذا بخالد بن الوليد المخزومي قد وافي في جيش قام غباره و كثر صهيل أهل خيله ، و إذا بقطب رحى ملوىّ في عنقه قد فتل فتلا فأقبل حتّى نزل عن جواده و دخل المسجد و وقف بين يدي أبي بكر فرمقه الناس بأعينهم فهالهم منظره . ثمّ قال : اعدل يا ابن أبي قحافة حيث جعلك الناس في هذا الموضع الّذى لست له أنت بأهل ، و ما ارتفعت إلى هذا المكان إلاّ كما يرتفع الطافى من السّمك على الماء ، و انما يطفو و يعلو حين لا حراك به ، مالك و سياسة الجيوش و تقديم العساكر و أنت بحيث أنت من دنائة الحسب و منقوص النسب و ضعف القوى و قلّة التحصيل لا تحمى ذمارا و لا تضرم نارا فلا جزى اللّه أخا ثقيف و ولد صهّاك خيرا . إنّى رجعت متكفأ من الطايف إلى جدة فى طلب المرتدّين فرأيت علىّ بن أبيطالب عليه السّلام و معه عتاة من الدّين حماليق شزرات أعينهم من حسدك و بدرت حنقا عليك و قرحت آماقهم لمكانك ، منهم ابن ياسر و المقداد و ابن جنادة أخو غفار و ابن العوام و غلامان أعرف أحدهما بوجهه ، و غلام أسمر لعلّه من ولد عقيل أخيه . فتبيّن لى المنكر في وجوههم و الحسد في احمرار أعينهم ، و قد توشّح علىّ [ 366 ] بدرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لبس ردائه السحاب و لقد اسرج له دابّته العقاب ، و لقد نزل علىّ على عين ماء اسمها روية ، فلما رآنى اشمأزّ و بربر و أطرق موحشا يقبض على لحيته . فبادرته بالسلام استكفاء و اتّقاء و وحشة ، فاستغنمت سعة المناخ و سهولة المنزل فنزلت و من معى بحيث نزلوا اتّقاء عن مراوغته ، فبدانى ابن ياسر بقبيح لفظه و محض عداوته فقر عنى هزؤا بما تقدّمت به إلى بسوء رأيك . فالتفت إلىّ أصلع الرأس و قد ازدحم الكلام فى حلقه كهمهمة الأسد أو كقعقعة الرّعد فقال لي بغضب منه : أو كنت فاعلا يا با سليمان ؟ فقلت له : إى و اللّه لو أقام على رأيه لضربت الّذي فيه عيناك ، فأغضبه قولي إذ صدقته و أخرجه إلى طبعه الذي أعرفه به عند الغضب . فقال : يا ابن اللّخناء مثلك من يقدر على مثلي أو يجسر أو يدير اسمى في لهواته الّتي لا عهد لها بكلمة حكمة ، ويلك إني لست من قتلاك و لا من قتلا صاحبك و اني لأعرف بمنيتي منك بنفسك . ثمّ ضرب بيده إلى ترقوتي فنكسنى عن فرسي و جعل يسوقني دعا الى رحى للحارث بن كلدة الثقفي ، فعمد إلى القطب الغليظ فمدّ عنقى بكلتا يديه و أداره فى عنقى ينفتل له كالعلك المسخن . و أصحابى هؤلاء وقوف ، ما أغنوا عنّي سطوته ، و لا كفّوا عنّى شرته فلا جزاهم اللّه عنى خيرا ، فانهم لما نظروا اليه كأنما نظروا إلى ملك موتهم ، فو الّذي رفع السماء بلا اعماد لقد اجتمع على فكّ هذا القطب مأة « ألف خ » رجل أو يزيدون من أشدّ العرب فما قدروا على فكّه فدلّنى عجز الناس عن فكّه أنه سحر منه أو قوّة ملك قد ركبت فيه ، ففكّه الآن عنّى إن كنت فاكّه ، و خذ لى بحقّى إن كنت آخذه ، و إلاّ لحقت بدار عزّى و مستقرّ مكرمتى ، قد ألبسنى ابن أبى طالب من العار ما صرت به ضحكة لأهل الدّيار . فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال : ما ترى إلى ما يخرج من هذا الرّجل كأنّ [ 367 ] ولايتى ثقل على كاهله أو شجى فى صدره . فالتفت إليه عمر فقال : فيه دعابة لا تدعها حتّى تورده فلا تصدره « و جهل خ » و حسد قد استحكما في خلده فجريا منه مجرى الدّماء لا يدعانه حتّى يهنا منزلته و يورطاه ورطة الهلكة . ثمّ قال أبو بكر لمن بحضرته : ادعوا لي قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، فليس لفكّ هذا القطب غيره . قال : و كان قيس سيّاف النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان رجلا طويلا طوله ثمانية عشر شبرا في عرض خمسة أشبار و كان أشدّ الناس في زمانه بعد أمير المؤمنين عليه السّلام . فحضر قيس فقال له : يا قيس إنك من شدّة البدن بحيث أنت ففكّ هذا القطب من عنق أخيك خالد . فقال قيس : و لم لا يفكّه خالد عن عنقه ؟ قال : لا يقدر عليه . قال : فما لا يقدر عليه أبو سليمان و هو نجم عسكركم و سيفكم على أعدائكم كيف أقدر عليه أنا . قال عمر : دعنا من هزؤك و هزلك و خذ فيما حضرت له . فقال : لمسألة : تسألونها طوعا أو كرها تجبروني عليه . فقال له : إن كان طوعا و إلاّ فكرها . قال قيس : يا ابن صحّاك خذل اللّه من يكرهه مثلك إنّ بطنك لعظيمة و إنّ كرشك لكبيرة ، فلو فعلت أنت ذلك ما كان منك . فخجل عمر من قيس بن سعد فجعل ينكث أسنانه بأنامله . فقال أبو بكر : و ما بذلك منه ، اقصد لما سئلت . فقال قيس : و اللّه لو أقدر على ذلك لما فعلت ، فدونكم و حدّادى المدينة فانّهم أقدر على ذلك منّي ، فأتوا بجماعة من الحدّادين فقالوا : لا ينفتح حتّى نحميه بالنّار . [ 368 ] فالتفت أبو بكر إلى قيس مغضبا ، فقال : و اللّه ما بك من ضعف من فكّه و لكنّك لا تفعل فعلا يعيبك فيه إمامك و حبيبك أبو الحسن ، و ليس هذا بأعجب من أنّ أباك رام الخلافة ليبتغى الاسلام عوجا فحدّ اللّه شوكته و أذهب نخوته و أعزّ الاسلام لوليّه و أقام دينه بأهل طاعته ، و أنت الآن في حال كيذ و شقاق . قال : فاستشاط قيس بن سعد غضبا و امتلأ غيظا ، فقال : يا ابن أبي قحافة إنّ لك جوابا حميا بلسان طلق و قلب جرىّ ، لولا البيعة الّتي لك في عنقى سمعته منّى و اللّه لان بايعتك يدي لم يبايعك قلبى و لا لسانى و لا حجّة لى فى علىّ بعد يوم الغدير و لا كانت بيعتى لك إلاّ كالّتى نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا ، أقول قولى هذا غير هائب منك ، و لا خائف من معرتك ، و لو سمعت هذا القول منك بدأة لما فتح لك منّى صالحا . إن كان أبي رام الخلافة فحقيق أن يرومها بعد من ذكرته ، لأنه رجل لا يقعقع بالشنآن و لا يغمز جانبه كغمز التينة ضخم صنديد و سمك منيف و عز بازخ اشوس ، بخلافك أيّها النعجة العرجاء و الديك النافش لا عن صميم و لا حسب كريم و أيم اللّه لان عاودتنى في أبى لألجمنّك بلجام من القول يمجّ فوك منه دما ، دعنا نخوض في عمايتك و نتردّى في غوايتك على معرفة منّا بترك الحقّ و اتّباع الباطل . و أما قولك إنّ عليّا إمامى ما انكر إمامته و لا أعدل عن ولايته و كيف انقض و قد أعطيت اللّه عهدا بامامته و ولايته يسألنى عنه فأنا إن ألقى اللّه بنقض بيعتك أحبّ إلىّ من انقض عهده و عهد رسوله و عهد وصيّه و خليله . و ما أنت إلاّ أمير قومك إن شاؤوا تركوك و إن شاؤوا عزلوك ، فتب إلى اللّه مما اجترمته و تنصّل إليه مما ارتكبته ، سلّم الأمر إلى من هو أولى منك بنفسك ، فقد ركبت عظيما بولايتك دونه و جلوسك في موضعه و تسميتك باسمه ، و كأنك بالقليل من دنياك و قد انقشع عنك كما ينقشع السحاب و تعلم أىّ الفريقين شرّ مكانا و أضعف جندا [ 369 ] و أمّا تعييرك إيّاى بانّه مولاى هو و اللّه مولاى و مولاك و مولى المؤمنين أجمعين آه آه أنّى لي بثبات قدم أو تمكّن وطأ حتّى الفظك لفظ المنجنيق الحجرة و لعلّ ذلك يكون قريبا و تكتفى بالعيان عن الخبر . ثمّ قام و نفض ثوبه و مضى ، و ندم أبو بكر عمّا أسرع إليه من القول إلى قيس ، الحديث . قال نوف ( و ) عقد ( لأبي أيّوب الأنصاري ) أيضا ( في عشرة آلاف ) و أبو أيّوب هو خالد بن زيد بن كعب الخزرجي من بنى النجار شهد العقبة و بدرا و ساير المشاهد ، و عليه نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين قدم المدينة و شهد مع أمير المؤمنين مشاهده كلّها و كان على مقدمته يوم النهروان . ( و ) عقد ( لغيرهم على اعداد اخر و هو عليه السّلام يريد الرّجعة إلى صفين فما دارت الجمعة حتّى ضربه الملعون ) أشقى الأولين و الآخرين شقيق عاقر ناقة صالح ( ابن ملجم ) المرادي ( لعنه اللّه ) حسبما عرفت تفصيل ضربته في شرح المختار التاسع و الستّين . ( فتراجعت العساكر ) من المعسكر إلى الكوفة قال الرّاوي ( فكنّا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كلّ مكان ) كما قال الفرزدق : فلا غرو للأشراف إن ظفرت لها ذئاب الأعادى من فصيح و أعجم فحربة وحشىّ سقت حمزة الرّدى و قتل علىّ من حسام مصمّم و المراد من اختطاف الذئاب إمّا النهب و القتل و الاذلال أو الاغواء و الاضلال قال الشارح المعتزلي : يقال : إنّ هذه الخطبة آخر خطبة خطبها أمير المؤمنين عليه السّلام قائما . الترجمة فصل سيّم از اين خطبه اشارتست بصفات امام زمان عليه السّلام ميفرمايد كه بتحقيق كه پوشيده است آن بزرگوار از براى حفظ حكمت سپروزره آنرا و أخذ كرده حكمت را با جميع آدابهاى آن كه عبارتند از اقبال كردن بر آن [ 370 ] و شناختن قدر و منزلت آن و فارغ شدن از براى آن ، پس آن حكمت در پيش آنحضرت بمنزله گم شده او است كه طلب مينمايد آنرا ، و حاجت اوست كه سؤال ميكند از آن ، پس آنحضرت اختيار غربت و غيبت كننده است زمانى كه غريب شود اسلام ، و بزند اطراف دم خود را و بچسباند بزمين سينه خود را ، آنحضرت بقيّه ايست از باقى ماندگان حجّت خدا ، و خليفه‏ايست از خليفهاى پيغمبران حقتعالى . پس فرمود آن حضرت : اى مردمان بدرستى كه من منتشر كردم از براى شما موعظهائى كه موعظه فرمودند با آنها پيغمبران امتهاى خودشان را ، و رساندم بسوى شما چيزيرا كه رساند وصيهاى پيغمبران بكسانى كه بودند بعد از ايشان ، و ادب دادم بشما با تازيانه خودم پس مستقيم نشديد ، و راندم شما را بدلائل مانعه از راه ناصواب پس منتظم نگشتيد ، تعجّب ميكنم از شما آيا توقع ميكنيد امامى را غير از من كه ببرد شما را بجادّه حق ، و ارشاد نمايد شما را براه راست . آگاه باشيد بدرستيكه ادبار كرده است از دنيا چيزيكه اقبال نموده بود ، و اقبال كرده است از آن چيزيكه ادبار كرده بود ، و عزم برحلت كردند بندگان پسنديده خدا و عوض كردند قليل از دنيا را كه باقى نخواهد ماند بكثير از آخرت كه فانى نخواهد شد ، ضرر نرساند برادران ما را كه ريخته شد خونهاى ايشان در جنگ صفين اينكه نشدند امروز زنده كه گوارا كنند غصه‏ها را و بياشامند آب كدورت آميز اندوه را بتحقيق قسم بذات حق كه ملاقات كردند پروردگار را پس بتمام و كمال رسانيد بايشان اجرهاى ايشان را ، و فرود آورد ايشان را در سراى امن و امان بعد از خوف و هراس ايشان . كجايند برادران من كه سوار شدند بر راه صدق ، و گذشتند بر طريق حق ، كجا است عمار ياسر كجا است ابي الهيثم بن التيهان كجا است خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و كجايند امثال ايشان از برادران مؤمنين ايشان كه عهد بسته بودند با همديگر بر مردن در راه دين ، و فرستاده شد سرهاى ايشان با قاصد بسوى فاجران پس از آن زد آن حضرت دست خود را بمحاسن شريف خود ، پس بسيار گريست بعد از آن فرمود : [ 371 ] آه بر برادران من كه تلاوت كردند قرآن را پس محكم ساختند آنرا ، و تفكر كردند در واجبات پس برپا داشتند آن را ، و زنده كردند سنّت پيغمبر را و كشتند بدعت را ، خوانده شدند از براى جهاد پس اجابت كردند ، و اعتماد نمودند به پيشوا پس متابعت كردند او را . بعد از آن ندا فرمود آن حضرت بآواز بلند و فرمود : بشتابيد بسوى جهاد و قتال اى بندگان خدا ، آگاه باشيد كه اردو درست كننده‏ام در همين روز پس هر كه اراده كند توجّه نمودن بسوى پروردگار خود بس بايد كه خارج بشود باردوگاه . گفت نوف بكالي : و عقد فرمود حضرت أمير مؤمنان از براى پسر خود امام حسين عليه السّلام در ده هزار نفر ، و معين فرمود از براى قيس بن سعد بن عبادة در ده هزار ، و از براى أبو أيوب انصاري در ده هزار ، و از براى سايرين بر شمارهاى ديگر و اراده داشت كه بر گردد بسوى صفين پس بر نگرديد روز جمعه همان هفته تا آنكه ضربت زد آن بزرگوار را ملعون ابن ملجم مرادي ، خدا لعنت كند او را پس بر گشتند لشگريان پس شديم ما بمنزله گوسفندانى كه گم كرده باشند شبان خود را در حالتى كه بربايند آنها را گرگان از هر مكان . و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الثانية و الثمانون من المختار فى باب الخطب ألحمد للّه المعروف من غير رؤية ، الخالق من غير منصبة ، خلق الخلائق بقدرته ، و استعبد الأرباب بعزّته ، و ساد العظماء بجوده ، و هو الّذي أسكن الدّنيا خلقه ، و بعث إلى الجنّ و الإنس رسله ، [ 372 ] ليكشفوا لهم عن غطائها ، و ليحذّروهم من ضرائها ، و ليضربوا لهم أمثالها ، و ليبصّروهم عيوبها ، و ليهجموا عليهم بمعتبر من تصرّف مصاحّها و أسقامها ، و حلالها و حرامها ، و ما أعدّ سبحانه للمطيعين منهم و العصاة من جنّة و نار ، و كرامة و هوان ، أحمده إلى نفسه كما استحمد إلى خلقه ، جعل لكلّ شي‏ء قدرا ، و لكلّ قدر أجلا ، و لكلّ أجل كتابا . منها : في ذكر القرآن فالقرآن آمر زاجر ، و صامت ناطق ، حجّة اللّه على خلقه ، أخذ عليهم ميثاقه ، و ارتهن عليه أنفسهم ، أتمّ نوره ، و أكرم به دينه ، و قبض نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و قد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به ، فعظّموا منه سبحانه ما عظّم من نفسه ، فإنّه لم يخف عنكم شيئا من دينه ، و لم يترك شيئا رضيه أو كرهه إلاّ و جعل له علما باديا ، و اية محكمة تزجر عنه أو تدعو إليه ، فرضاه فيما بقي واحد ، و سخطه فيما بقي واحد . و اعلموا أنّه لن يرض عنكم بشي‏ء سخطه على من كان قبلكم ، و لن يسخط عليكم بشي‏ء رضيه ممّن كان قبلكم ، و إنّما تسيرون في أثر بيّن ، و تتكلّمون برجع قول قد قاله الرّجال من قبلكم ، قد [ 373 ] كفاكم مؤنة دنياكم ، و حثّكم على الشّكر ، و افترض من ألسنتكم الذّكر ، و أوصاكم بالتّقوى و جعلها منتهى رضاه ، و حاجته من خلقه ، فاتّقوا اللّه الّذي أنتم بعينه ، و نواصيكم بيده ، و تقلّبكم في قبضته ، إن أسررتم علمه ، و إن أعلنتم كتبه ، قد وكّل بكم حفظة كراما ، لا يسقطون حقّا ، و لا يثبتون باطلا . و اعلموا أنّ من يتّق اللّه يجعل له مخرجا من الفتن ، و نورا من الظّلم ، و يخلّده فيما اشتهت نفسه ، و ينزّله منزلة الكرامة عنده في دار اصطنعها لنفسه ، ظلّها عرشه ، و نورها بهجته ، و زوّارها ملائكته ، و رفقاءها رسله ، فبادروا المعاد ، و سابقوا الاجال ، فإنّ النّاس يوشك أن ينقطع بهم الأمل ، و يرهقهم الأجل ، و يسدّ عنهم باب التّوبة ، فقد أصبحتم في مثل ما سأل إليه الرّجعة من كان قبلكم ، و أنتم بنو سبيل على سفر من دار ليست بداركم ، و قد أوذنتم منها بالإرتحال ، و أمرتم فيها بالزّاد . و اعلموا أنّه ليس لهذا الجلد الرّقيق صبر على النّار ، فارحموا نفوسكم فإنّكم قد جرّبتموها في مصائب الدّنيا أ فرأيتم جزع أحدكم من الشّوكة تصيبه ، و العثرة تدميه ، و الرّمضآء تحرقه ، فكيف إذا [ 374 ] كان بين طابقين من نار ، ضجيع حجر ، و قرين شيطان ، أعلمتم أنّ مالكا إذا غضب على النّار حطم بعضها بعضا لغضبه ، و إذا زجرها توثّبت بين أبوابها جزعا من زجرته ، أيّها اليفن الكبير الّذي قد لهزه القتير ، كيف أنت إذا التحمت أطواق النّار بعظام الأعناق ، و نشبت الجوامع حتّى أكلت لحوم السّواعد . فاللّه اللّه معشر العباد و أنتم سالمون في الصّحّة قبل السّقم ، و في الفسحة قبل الضّيق ، فاسعوا في فكاك رقابكم من قبل أن تغلق رهائنها ، أسهروا عيونكم ، و أضمروا بطونكم ، و استعملوا أقدامكم و أنفقوا أموالكم ، و خذوا من أجسادكم ما تجودوا بها على أنفسكم و لا تبخلوا بها عنها ، فقد قال اللّه سبحانه إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ و قال : مَنْ ذَا الَّذي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أََجْرٌ كَريمٌ فلم يستنصركم من ذلّ ، و لم يستقرضكم من قلّ ، استنصركم و له جنود السّموات و الأرض و هو العزيز الحكيم ، و استقرضكم و له خزائن السّموات و الأرض و هو الغنيّ الحميد ، و إنّما أراد أن يبلوكم أيّكم أحسن عملا ، فبادروا بأعمالكم ، تكونوا مع جيران اللّه في داره ، رافق بهم رسله ، و أزارهم [ 375 ] ملائكته ، و أكرم أسماعهم أن تسمع حسيس نار أبدا ، و صان أجسادهم أن تلقى لغوبا و نصبا ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظيمِ أقول ما تسمعون ، و اللّه المستعان على نفسي و أنفسكم ، و هو حسبنا و نعم الوكيل .