متن
ترجمه آیتی
ترجمه شهیدی
ترجمه معادیخواه
تفسیر منهاج البرائه خویی
تفسیر ابن ابی الحدید
تفسیر ابن میثم
[ 350 ]
85 و من خطبة له ع
قَدْ عَلِمَ اَلسَّرَائِرَ وَ خَبَرَ اَلضَّمَائِرَ لَهُ اَلْإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ وَ اَلْغَلَبَةُ لِكُلِّ شَيْءٍ وَ اَلْقُوَّةُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَلْيَعْمَلِ اَلْعَامِلُ مِنْكُمْ فِي أَيَّامِ مَهَلِهِ قَبْلَ إِرْهَاقِ أَجَلِهِ وَ فِي فَرَاغِهِ قَبْلَ أَوَانِ شُغُلِهِ وَ فِي مُتَنَفَّسِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ وَ لْيُمَهِّدْ لِنَفْسِهِ وَ قَدَمِهِ وَ لْيَتَزَوَّدْ مِنْ دَارِ ظَعْنِهِ لِدَارِ إِقَامَتِهِ فَاللَّهَ اَللَّهَ أَيُّهَا اَلنَّاسُ فِيمَا اِسْتَحْفَظَكُمْ [ أَحْفَظَكُمْ ] مِنْ كِتَابِهِ وَ اِسْتَوْدَعَكُمْ مِنْ حُقُوقِهِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى وَ لَمْ يَدَعْكُمْ فِي جَهَالَةٍ وَ لاَ عَمًي قَدْ سَمَّى آثَارَكُمْ وَ عَلِمَ أَعْمَالَكُمْ وَ كَتَبَ آجَالَكُمْ وَ أَنْزَلَ عَلَيْكُمُ اَلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ عَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيِّهُ أَزْمَاناَ حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَ لَكُمْ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ دِينَهُ اَلَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ وَ أَنْهَى إِلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِهِ مَحَابَّهُ مِنَ اَلْأَعْمَالِ وَ مَكَارِهَهُ وَ نَوَاهِيَهُ وَ أَوَامِرَهُ وَ أَلْقَى إِلَيْكُمُ اَلْمَعْذِرَةَ وَ اِتَّخَذَ عَلَيْكُمُ اَلْحُجَّةَ وَ قَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ وَ أَنْذَرَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ السرائر جمع سريرة و هو ما يكتم من السر . و خبر الضمائر بفتح الباء امتحنها و ابتلاها و من رواه بكسر الباء أراد علم و الاسم
[ 351 ]
الخبر بضم الخاء و هو العلم و الضمائر جمع ضمير و هو ما تضمره و تكنه في نفسك . و في قوله له الإحاطة بكل شيء و قد بينها ثلاث مسائل في التوحيد إحداهن أنه تعالى عالم بكل المعلومات . و الثانية أنه لا شريك له و إذا ثبت كونه عالما بكل شيء كان في ضمن ذلك نفي الشريك لأن الشريك لا يكون مغلوبا . و الثالثة أنه قادر على كل ما يصح تعلق قادريته تعالى به . و أدلة هذه المسائل مذكورة في الكتب الكلامية . و قوله فليعمل العامل منكم إلى قوله و ليتزود من دار ظعنه لدار إقامته مأخوذ من قول رسول الله ص في خطبته المشهورة
و هي أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم و إن لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم إن المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به و أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه فليأخذ العبد من نفسه لنفسه و من دنياه لآخرته و من الشبيبة قبل الهرم و من الحياة قبل الموت فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب و ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار . و المهل المهلة و التؤدة و الإرهاق مصدر أرهق تقول أرهقه قرنه في الحرب إرهاقا إذا غشيه ليقتله و زيد مرهق قال الشاعر
تندى أكفهم و في أبياتهم ثقة المجاور و المضاف المرهق
و في متنفسه أي في سعة وقته يقال أنت في نفس من أمرك أي في سعة .
[ 352 ]
و الكظم بفتحهما مخرج النفس و الجمع أكظام و يجوز ظعنه و ظعنه بتحريك العين و تسكينها و قرئ بهما يَوْمَ ظَعْنِكُمْ و ظعنكم و نصب الله الله على الإغراء و هو أن تقدر فعلا ينصب المفعول به أي اتقوا الله و جعل تكرير اللفظ نائبا عن الفعل المقدر و دليلا عليه . استحفظكم من كتابه جعلكم حفظة له جمع حافظ . السدى المهمل و يجوز سدى بالفتح أسديت الإبل أهملتها و قوله قد سمى آثاركم يفسر بتفسيرين أحدهما قد بين لكم أعمالكم خيرها و شرها كقوله تعالى وَ هَدَيْناهُ اَلنَّجْدَيْنِ و الثاني قد أعلى مآثركم أي رفع منازلكم إن أطعتم و يكون سمى بمعنى أسمى كما كان في الوجه الأول بمعنى أبان و أوضح . و التبيان بكسر التاء مصدر و هو شاذ لأن المصادر إنما تجيء على التفعال بفتحها مثل التذكار و التكرار و لم يأت بالكسر إلا حرفان و هما التبيان و التلقاء . و قوله حتى أكمل له و لكم دينه من قوله تعالى اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي . و قوله الذي رضي لنفسه من قوله تعالى وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ لأنه إذا ارتضى لهم فقد ارتضاه لنفسه أي ارتضى أن ينسب إليه فيقال هذا دين الحق و أنهى إليكم عرفكم و أعلمكم . و محابه جمع محبة و مكارهه جمع مكرهة و هي ما تكره و في هذا دلالة أن الله تعالى يحب الطاعة و يكره المعصية و هو خلاف قول المجبرة .
[ 353 ]
و الأوامر جمع آمر و أنكره قوم و قالوا هاهنا جمع أمر كالأحاوص جمع أحوص و الأحامر جمع أحمر يعني الكلام الآمر لهم بالطاعات و هو القرآن . و النواهي جمع ناهية كالسواري جمع سارية و الغوادي جمع غادية يعني الآيات الناهية لهم عن المعاصي و يضعف أن يكون الأوامر و النواهي جمع أمر و نهي لأن فعلا لا يجمع على أفاعل و فواعل و إن كان قال ذلك بعض الشواذ من أهل الأدب . و قوله و ألقى إليكم المعذرة كلام فصيح و هو من قوله تعالى أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ . و قدم إليكم بالوعيد و أنذركم بين يدي عذاب شديد أي أمامه و قبله مأخوذ أيضا من القرآن و معنى قوله بين يدي عذاب شديد أي أمامه و قبله لأن ما بين يديك متقدم لك : فَاسْتَدْرِكُوا بَقِيَّةَ أَيَّامِكُمْ وَ اِصْبِرُوا لَهَا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّهَا قَلِيلٌ فِي كَثِيرِ اَلْأَيَّامِ اَلَّتِي تَكُونُ مِنْكُمْ فِيهَا اَلْغَفْلَةُ وَ اَلتَّشَاغُلُ عَنِ اَلْمَوْعِظَةِ وَ لاَ تُرَخِّصُوا لِأَنْفُسِكُمْ فَتَذْهَبَ بِكُمُ اَلرُّخَصُ مَذَاهِبَ اَلظَّلَمَةِ وَ لاَ تُدَاهِنُوا فَيَهْجُمَ بِكُمُ اَلْإِدْهَانُ عَلَى اَلْمَعْصِيَةِ عِبَادَ اَللَّهِ إِنَّ أَنْصَحَ اَلنَّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ وَ إِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاهُمْ لِرَبِّهِ وَ اَلْمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ وَ اَلْمَغْبُوطُ مَنْ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ وَ اَلسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ وَ اَلشَّقِيُّ مَنِ اِنْخَدَعَ لِهَوَاهُ وَ غُرُورِهِ
[ 354 ]
وَ اِعْلَمُوا أَنَّ يَسِيرَ اَلرِّيَاءِ شِرْكٌ وَ مُجَالَسَةَ أَهْلِ اَلْهَوَى مَنْسَاةٌ لِلْإِيمَانِ وَ مَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ جَانِبُوا اَلْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلْإِيمَانِ اَلصَّادِقُ عَلَى شَفَا مَنْجَاةٍ وَ كَرَامَةٍ وَ اَلْكَاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْوَاةٍ وَ مَهَانَةٍ وَ لاَ تَحَاسَدُوا فَإِنَّ اَلْحَسَدَ يَأْكُلُ اَلْإِيمَانَ كَمَا تَأْكُلُ اَلنَّارُ اَلْحَطَبَ وَ لاَ تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا اَلْحَالِقَةُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَلْأَمَلَ يُسْهِي اَلْعَقْلَ وَ يُنْسِي اَلذِّكْرَ فَأَكْذِبُوا اَلْأَمَلَ فَإِنَّهُ غَرُورٌ وَ صَاحِبُهُ مَغْرُورٌ قوله فاستدركوا بقية أيامكم يقال استدركت ما فات و تداركت ما فات بمعنى و اصبروا لها أنفسكم مأخوذ من قوله تعالى وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ اَلْعَشِيِّ يقال صبر فلان نفسه على كذا أي حبسها عليه يتعدى فينصب قال عنترة
فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع
أي حبست نفسا عارفة
و في الحديث النبوي في رجل أمسك رجلا و قتله الآخر فقال ع اقتلوا القاتل و اصبروا الصابر أي احبسوا الذي أمسكه حتى يموت . و الضمير في فإنها قليل عائد إلى الأيام التي أمرهم باستدراكها يقول إن هذه الأيام التي قد بقيت من أعماركم قليلة بالنسبة و الإضافة إلى الأيام التي تغفلون فيها عن الموعظة .
[ 355 ]
و قوله فإنها قليل فأخبر عن المؤنث بصيغة المذكر إنما معناه فإنها شيء قليل بحذف الموصوف كقوله وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً أي قبيلا رفيقا . ثم قال و لا ترخصوا نهى عن الأخذ برخص المذاهب و ذلك لأنه لا يجوز للواحد من العامة أن يقلد كلا من أئمة الاجتهاد فيما خف و سهل من الأحكام الشرعية أو لا تساهلوا أنفسكم في ترك تشديد المعصية و لا تسامحوها و ترخصوا إليها في ارتكاب الصغائر و المحقرات من الذنوب فتهجم بكم على الكبائر لأن من مرن على أمر تدرج من صغيره إلى كبيره . و المداهنة النفاق و المصانعة و الادهان مثله قال تعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ . قوله إن أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربه لأنه قد صانها عن العقاب و أوجب لها الثواب و ذلك غاية ما يمكن من نصيحتها و نفعها . قوله و إن أغش الناس لنفسه أعصاهم لربه لأنه ألقاها في الهلاك الدائم و ذلك أقصى ما يمكن من غشها و الإضرار بها . ثم قال و المغبون من غبن نفسه أي أحق الناس أن يسمى مغبونا من غبن نفسه يقال غبنته في البيع غبنا بالتسكين أي خدعته و قد غبن فهو مغبون و غبن الرجل رأيه بالكسر غبنا بالتحريك فهو غبين أي ضعيف الرأي و فيه غبانة و لفظ الغبن يدل على أنه من باب غبن البيع و الشراء لأنه قال و المغبون و لم يقل و الغبين . و المغبوط الذي يتمنى مثل حاله و الذي يتمنى زوال حاله و انتقالها هو الحاسد
[ 356 ]
و الحسد مذموم و الغبطة غير مذمومة يقال غبطته بما نال أغبطه غبطا و غبطة فاغتبط هو كقولك منعته فامتنع و حبسته فاحتبس قال الشاعر
و بينما المرء في الأحياء مغتبط إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
هكذا أنشدوه بكسر الباء و قالوا فيه مغتبط أي مغبوط . قوله و السعيد من وعظ بغيره مثل من الأمثال النبوية . و قد ذكرنا فيما تقدم ما جاء في ذم الرياء و تفسير كونه شركا . و قوله ع منسأة للإيمان أي داعية إلى نسيان الإيمان و إهماله و الإيمان الاعتقاد و العمل . و محضرة للشيطان موضع حضوره كقولك مسبعة أي موضع السباع و مفعاة أي موضع الأفاعي . ثم نهى عن الكذب و قال إنه مجانب للإيمان و كذا ورد في الخبر المرفوع . و شفا منجاة أي حرف نجاة و خلاص و شفا الشيء حرفه قال تعالى وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنَّارِ و أشفى على الشيء و أشرف عليه بمعنى و أكثر ما يقال ذلك في المكروه يقال أشفى المريض على الموت و قد استعمله هاهنا في غير المكروه . و الشرف المكان العالي بفتح الشين و أشرفت عليه أي اطلعت من فوق . و المهواة موضع السقوط و المهانة الحقارة . ثم نهى عن الحسد و قال إنه يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب و قد ورد هذا الكلام في الأخبار المرفوعة و قد تقدم منا كلام في الحسد و ذكرنا كثيرا مما جاء فيه .
[ 357 ]
ثم نهى عن المباغضة و قال إنها الحالقة أي المستأصلة التي تأتي على القوم كالحلق للشعر . ثم نهى عن الأمل و طوله و قال إنه يورث العقل سهوا و ينسي الذكر ثم أمر بإكذاب الأمل و نهى عن الاعتماد عليه و السكون إليه فإنه من باب الغرور . و قد ذكرنا في الأمل و طوله نكتا نافعة فيما تقدم و يجب أن نذكر ما جاء في النهي عن الكذب
فصل في ذم الكذب و حقارة الكذابين
جاء في الخبر عن رسول الله ص إذا كذب العبد كذبة تباعد الملك منه مسيرة ميل من نتن ما جاء به
و عنه ع إياكم و الكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور و الفجور يهدي إلى النار و إن الرجل ليكذب و يتحرى الكذب فيكتب عند الله كاذبا و عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر و إن البر ليهدي إلى الجنة و إن الرجل ليصدق و يتحرى الصدق فيكتب عند الله صادقا
و روي أن رجلا قال للنبي ص أنا يا رسول الله أستسر بخلال أربع الزنا و شرب الخمر و السرق و الكذب فأيتهن شئت تركتها لك قال دع الكذب فلما ولى هم بالزنا فقال يسألني فإن جحدت نقضت ما جعلت له و إن أقررت حددت ثم هم بالسرق ثم بشرب الخمر ففكر في مثل ذلك فرجع إليه فقال قد أخذت على السبيل كله فقد تركتهن أجمع
قال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله يا بني أنت أفقه مني و أنا أعقل منك
[ 358 ]
و إن هذا الرجل يدنيك يعني عمر بن الخطاب فاحفظ عني ثلاثا لا تفشين له سرا و لا تغتابن عنده أحدا و لا يطلعن منك على كذبة قال عبد الله فكانت هذه الثلاث أحب إلي من ثلاث بدرات ياقوتا قال الواثق لأحمد بن أبي داود رحمه الله تعالى كان ابن الزيات عندي فذكرك بكل قبيح قال الحمد لله الذي أحوجه إلى الكذب علي و نزهني عن الصدق في أمره . و كان يقال أمران لا يكاد أحدهما ينفك من الكذب كثرة المواعيد و شدة الاعتذار . و من الحكم القديمة إنما فضل الناطق على الأخرس بالنطق و زين المنطق الصدق فالكاذب شر من الأخرس . قال الرشيد للفضل بن الربيع في كلام جرى بينهما كذبت فقال يا أمير المؤمنين وجه الكذوب لا يقابلك و لسانه لا يحاورك . قيل في تفسير قوله تعالى وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ هي في الكذابين فالويل لكل كاذب إلى يوم القيامة . و من كلام بعض الصالحين لو لم أترك الكذب تأثما لتركته تكرما . أبو حيان الكذب شعار خلق و مورد رنق و أدب سيئ و عادة فاحشة و قل من استرسل معه إلا ألفه و قل من ألفه إلا أتلفه و الصدق ملبس بهي و منهل غذي و شعاع منبث و قل من اعتاده و مرن عليه إلا صحبته السكينة و أيده التوفيق و خدمته القلوب بالمحبة و لحظته العيون بالمهابة .
[ 359 ]
ابن السماك لا أدري أوجر على ترك الكذب أم لا لأني أتركه أنفة . يحيى بن خالد رأيت شريب خمر نزع و لصا أقلع و صاحب فواحش ارتدع و لم أر كاذبا رجع . قالوا في تفسير هذا إن المولع بالكذب لا يكاد يصبر عنه فقد عوتب إنسان عليه فقال لمعاتبه يا ابن أخي لو تغرغرت به لما صبرت عنه . و قيل لكاذب معروف بالكذب أ صدقت قط قال لو لا أني أخاف أن أصدق لقلت لا .
و جاء في بعض الأخبار المرفوعة قيل له يا رسول الله أ يكون المؤمن جبانا قال نعم قيل أ فيكون بخيلا قال نعم قيل أ فيكون كاذبا قال لا
و قال ابن عباس الحدث حدثان حدث من فيك و حدث من فرجك . و قال بعضهم من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون أخذه شاعر فقال
و من دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق و بالباطل
و كان يقال خذوا عن أهل الشرف فإنهم قلما يكذبون . و قال بعض الصالحين لو صحبني رجل فقال لي اشترط علي خصلة واحدة لا تزيد عليها لقلت لا تكذب . و كان يقال خصلتان لا يجتمعان الكذب و المروءة . كان يقال من شرف الصدق أن صاحبه يصدق على عدوه و من دناءة الكذب أن صاحبه يكذب و إن كان صادقا .
[ 360 ]
و مثل هذا قولهم من عرف بالصدق جاز كذبه و من عرف بالكذب لم يجز صدقه .
و جاء في الخبر المرفوع أن في المعاريض لمندوحة عن الكذب . و قال ابن سيرين الكلام أوسع من أن يكذب ظريف . و قالوا في قوله تعالى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ لم ينس و لكنه من معاريض الكلام و كذلك قالوا في قول إبراهيم إِنِّي سَقِيمٌ . و قال العتبي إني لأصدق في صغار ما يضرني فكيف لا أصدق في كبار ما ينفعني و قال بعض الشعراء
لا يكذب المرء إلا من مهانته أو عادة السوء أو من قلة الأدب لعض جيفة كلب خير رائحة من كذبة المرء في جد و في لعب
شهد أعرابي عند معاوية بشهادة فقال له كذبت فقال الكاذب و الله المتزمل في ثيابك فقال معاوية هذا جزاء من عجل . و قال معاوية يوما للأحنف و حدثه حديثا أ تكذب فقال له الأحنف و الله ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين أهله . و دخل عبد الله بن الزبير يوما على معاوية فقال له اسمع أبياتا قلتها و كان واجدا على معاوية فقال هات فأنشده
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته على طرف الهجران إن كان يعقل و يركب حد السيف من أن تضيمه إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل
فقال معاوية لقد شعرت بعدنا يا أبا بكر ثم لم يلبث معاوية أن دخل عليه معن
[ 361 ]
بن أوس المزني فقال أ قلت بعدنا شيئا قال نعم و أنشده
لعمرك لا أدري و إني لأوجل على أينا تعدو المنية أول
حتى صار إلى الأبيات التي أنشدها ابن الزبير فقال معاوية يا أبا بكر أ ما ذكرت آنفا أن هذا الشعر لك فقال أنا أصلحت المعاني و هو ألف الشعر و بعد فهو ظئري و ما قال من شيء فهو لي . و كان عبد الله بن الزبير مسترضعا في مزينة . و روى أبو العباس المبرد في الكامل أن عمر بن عبد العزيز كتب في إشخاص إياس بن معاوية المزني و عدي بن أرطاة الفزاري أمير البصرة و قاضيها إليه فصار عدي إلى إياس و قدر أنه يمزنه عند عمر بن عبد العزيز و يثني عليه فقال له يا أبا وائلة إن لنا حقا و رحما فقال إياس أ على الكذب تريدني و الله ما يسرني أن كذبت كذبة يغفرها الله لي و لا يطلع عليها هذا و أومأ إلى ابنه و لي ما طلعت عليه الشمس . و روى أبو العباس أيضا أن عمرو بن معديكرب الزبيدي كان معروفا بالكذب . و قيل لخلف الأحمر و كان مولى لهم و شديد التعصب لليمن أ كان عمرو بن معديكرب يكذب قال يكذب في المقال و يصدق في الفعال .
[ 362 ]
قال أبو العباس فروي لنا أن أهل الكوفة الأشراف كانوا يظهرون بالكناسة فيركبون على دوابهم حتى تطردهم الشمس فوقف عمرو بن معديكرب الزبيدي و خالد بن الصقعب النهدي و عمرو لا يعرفه إنما يسمع باسمه فأقبل عمرو يحدثه فقال أغرنا مرة على بني نهد فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصقعب فحملت عليه فطعنته فأذريته ثم ملت عليه بالصمصامة فأخذت رأسه فقال خالد بن الصقعب حلا أبا ثور إن قتيلك هو المحدث فقال عمرو يا هذا إذا حدثت فاستمع فإنما نتحدث بمثل ما تستمع لنرهب به هذه المعدية . قوله مسترعفين أي مقدمين له و قوله حلا أبا ثور أي استثن يقال حلف و لم يتحلل أي لم يستثن و المعدية مضر و ربيعة و أياد بنو معد بن عدنان و هم أعداء اليمن في المفاخرة و التكاثر