متن
ترجمه آیتی
ترجمه شهیدی
ترجمه معادیخواه
تفسیر منهاج البرائه خویی
تفسیر ابن ابی الحدید
تفسیر ابن میثم
[ 183 ]
و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و التاسعة و الثمانون من المختار فى باب الخطب
أحمده شكرا لأنعامه ، و أستعينه على وظائف حقوقه ، عزيز الجند ، عظيم المجد ، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله ، دعا إلى طاعته و قاهر أعداءه ، جهادا عن دينه ، لا يثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه و التماس لإطفاء نوره .
فاعتصموا بتقوى اللّه فإنّ لها حبلا وثيقا عروته ، و معقلا منيعا ذروته ، و بادروا الموت و غمراته ، و امهدوا ( و أمهدوا خ ) له قبل حلوله ، و أعدّوا له قبل نزوله ، فإن الغاية القيمة ، و كفى بذلك واعظا لمن عقل ، و معتبرا لمن جهل ، و قبل بلوغ الغاية ما تعلمون :
من ضيق الأرماس ، و شدّة الإبلاس ، و هول المطّلع و روعات الفزع و اختلاف الأضلاع ، و استكاك الأسماع ، و ظلمة اللّحد ، و خيفة الوعد و غمّ الضّريح ، و ردم الصّفيح .
فاللّه اللّه عباد اللّه فإنّ الدّنيا ماضية بكم على سنن ، و أنتم و السّاعة في قرن ، و كأنّها قد جائت بأشراطها ، و أزفت بأفراطها
[ 184 ]
و وقفت بكم على صراطها ، و كأنّها قد أشرفت بزلازلها ، و أناخت بكلاكلها ، و انصرفت ( و انصرمت خ ل ) الدّنيا بأهلها ، و أخرجتهم من حضنها ، فكانت كيوم مضى ، أو شهر انقضى ، و صار جديدها رثّا ، و سمينها غثّا ، في موقف ضنك المقام ، و أمور مشتبهة عظام ،
و نار شديد كلبها ، عال لجبها ، ساطع لهبها ، متغيّظ زفيرها ، متأجّج سعيرها ، بعيد خمودها ، ذاك وقودها ، مخوف وعيدها ، غمّ قرارها مظلمة أقطارها ، حامية قدورها ، فظيعة أمورها .
و سيق الّذين اتّقوا ربّهم إلى الجنّة زمرا ، قد أمن العذاب ، و انقطع العتاب ، و زحزحوا عن النّار ، و اطمأنّت بهم الدّار ، و رضوا المثوى و القرار ، الّذين كانت أعمالهم في الدّنيا زاكية ، و أعينهم باكية ،
و كان ليلهم في دنياهم نهارا ، تخشّعا و استغفارا ، و كان نهارهم ليلا توحّشا و انقطاعا ، فجعل اللّه لهم الجنّة مابا ، و الجزاء ثوابا ، و كانوا أحقّ بها و أهلها ، في ملك دآئم و نعيم قآئم .
فارعوا عباد اللّه ما برعايته يفوز فائزكم ، و بإضاعته يخسر مبطلكم و بادروا اجالكم بأعمالكم ، فإنّكم مرتهنون بما أسلفتم ، و مدينون بما قدّمتم ، و كأن قد نزل بكم المخوف ، فلا رجعة تنالون ، و لا
[ 185 ]
عثرة تقالون .
استعملنا اللّه و إيّاكم بطاعته و طاعة رسوله ، و عفا عنّا و عنكم بفضل رحمته ، ألزموا الأرض و اصبروا على البلاء ، و لا تحرّكوا بأيديكم و سيوفكم و هوى ألسنتكم ، و لا تستعجلوا بما لم يعجّله اللّه لكم ، فإنّه من مات منكم على فراشه و هو على معرفة حقّ ربّه و حقّ رسوله و أهل بيته مات شهيدا ، و وقع أجره على اللّه ، و استوجب ثواب ما نوى من صالح عمله ، و قامت النّيّة مقام إصلاته بسيفه ، فإنّ لكلّ شيء مدّة و أجلا .
اللغة
( الوظائف ) جمع الوظيفة و هو ما يقدّر للانسان من عمل و رزق و طعام و غير ذلك ، و وظفت عليه العمل توظيفا قدّرته ( و قاهر أعداءه ) و في بعض النسخ قهر أعداءه يقال : قهره قهرا غلبه فهو قاهر و ( ثنيت ) الشيء ثنيا من باب رمى إذا عطفته و رددته ، و ثنيته عن مراده إذا صرفته عنه و ( المعقل ) بفتح الميم و كسر القاف قريب من الحصن و يطلق على الملجأ و ( الذّروة ) بضمّ الذال و كسرها من كلّشيء أعلاه و ( مهد ) الرّجل مهدا من باب منع كسب و عمل و مهده كمنعه بسطه و هيّأه و المهد للصّبي السّرير الذي هيّأ له و يقال بالفارسيّة گهواره ، في نسخة الشارح المعتزلي و أمهدوا له من باب الافعال أى اتّخذوا له مهادا أى بساطا و فراشا قال سبحانه :
« و لبئس المهاد » أى بئس ما مهّد لنفسه في معاده .
و ( الرمس ) التراب تسميته بالمصدر ثمّ سمّى به القبر و يجمع على أرماس و رموس مثل فلس و فلوس و رمست الميّت رمسا من باب قتل دفنته و أرمسته بالألف لغة
[ 186 ]
و ( ابلس ) الرّجل ابلاسا حزن و سكت من غم و ابلس فلان آيس قال تعالى « فاذا هم مبلسون » و منه سمّى ابليس لأياسه من رحمة اللّه تعالى .
و ( طلع ) الشمس طلوعا ظهر قال الفيومي و كلّ ما بدا لك من علوّ فقد طلع عليك ، و طلعت الجبل طلوعا يتعدّى بنفسه أى علوته و طلعت فيه رفعته و اطلعت زيدا على كذا مثل أعلمته وزنا و معنى فاطلع على افتعل أى اشرف عليه و علم به ،
و المطّلع مفتعل اسم مفعول موضع الاطلاع من المكان المرتفع إلى المكان المنخفض و هول المطّلع من ذلك شبه ما يشرف عليه من امور الآخرة بذلك ، و قال الطريحى و في الدّعاء و أعوذ بك من هول المطّلع ، بتشديد الطاء المهملة و الباء للمفعول أمر الآخرة و موقف القيامة الذي يحصل الاطلاع عليه بعد الموت .
و ( استكت ) مسامعه أى صمتت و ( اللّحد ) الشقّ في جانب القبر و الجمع لحود مثل فلس و فلوس و اللّحد بالضمّ لغة و جمعه ألحاد مثل قفل و أقفال و لحدت اللحد لحدا من باب منع حفرته و لحدت الميّت و ألحدته جعلته في اللّحد .
و ( غمّه ) الشيء غمّا من باب قتل غطاه و منه قيل للحزن غمّ لأنّه يغطى السرور و ( ردمت ) الثلمة و نحوها ردما من باب قتل سددتها و ( صفح ) السّيف بفتح الصاد و ضمّها عرضه ، و هو خلاف الطول ، و الصفح بالفتح من كلّ شيء جانبه ،
و الصّفحة مثله و يقال لكلّ شيء عريض صفيحة و صفيح و منه الصّفيح الأعلى للسّماء .
و ( السّنن ) محرّكة الطريقة و ( القرن ) محرّكة الحبل الذي يشدّ به البعير و ( الأشراط ) جمع شرط بالتحريك مثل أسباب و سبب و هو العلامة و ( الافراط ) جمع فرط بالتحريك أيضا و هو من يتقدّم القوم في طلب الماء يهييء الدّلاء و الارشاء يقال : فرط القوم فروطا من باب قعد إذا تقدّم لذلك يستوى فيه الواحد و الجمع يقال : رجل فرط و قوم فرط ، و منه يقال للطفل الميّت : اللّهمّ اجعله فرطا ، أى أجرا متقدّما ، و فى بعض النسخ بافراطها مصدر أفرط يقال أفرط في الشيء افراطا أى تجاوز عن الحدّ و بلغ الغاية .
[ 187 ]
و ( الكلاكل ) جمع كلكل و هو الصّدر و يقال للأمر الثقيل : قد أناخ عليهم بكلكله ، أى هدّهم و رضّهم كما يهدّ البعير البارك من تحته بصدره و ( انصرفت الدّنيا ) و في بعض النسخ و انصرمت بمعنى انقضت و ( الموقف ) و زان مسجد موضع الوقوف و ( ذكى ) النار بالذال المعجمة و ذكّيتها بالتثقيل أى أتممت وقودها .
و ( الوقود ) بالضم المصدر من وقدت النار و قدا و وقدا و وقدة و وقودا و وقدانا اشتعلت و بالفتح ما يوقد به قال الشارح المعتزلي : و وقودها ههنا بضمّ الواو و هو الحدث ، و لا يجوز الفتح لأنّه ما يوقد به كالحطب و نحوه ، و ذاك لا يوصف بأنه ذاك ، و أقول إن أغمضنا عن ضبط النسخ فما ذكره من العلّة لا ينهض باثبات كونه بالضمّ إذ كما يصحّ أن يقال نار تام الاشتعال ، فكذلك يصحّ أن يقال نار تام الحطب ، و هو ظاهر نعم لو علله بأنه عليه السّلام جعله في مقابل الخمود و هو قرينة على كونه بالضمّ لأنّ الخمود إنما يقابل الاشتعال لكان حسنا .
و ( غمّ قرارها ) صفة مشبّهة من الغمّ بمعنى التغطية أو من غم اليوم فهو غمّ أى اشتد حرّه فيأخذ بالنفس و ( المثوى ) بفتح الميم و العين المنزل و المقام من ثوى بالمكان و فيه أقام و ( زكا ) الرّجل يزكو إذا صلح فهو زاك .
و قوله ( فلا رجعة تنالون ) قال الشارح المعتزلي : الرواية بضمّ التاء أى تعطون يقال أنلت فلانا مالا منحته ، و قد روى تنالون بفتح التاء .
الاعراب
قوله : شكرا لانعامه ، منصوب على المصدر بغير لفظ فعله و هو أحمد لكون المراد بالحمد هنا الشكر بقرينة انعامه ، و عزيز الجند و عظيم المجد ، منصوبان على الحال من الضمير في أستعينه و ليس اضافتهما إلى المعرفة مانعة من حاليتهما لأنها اضافة لفظية لا تفيد إلا تخفيفا فلا يخرجان من النكارة الّتي هى شرط الحال و جهادا منصوب على الحال من فاعل قاهر لكونه بمعنى الفاعل أى مجاهدا و قال الشارح البحراني : إنّه انتصب نصب المصادر عن قوله قاهر من غير لفظه إذ
[ 188 ]
في قاهر معنى جاهد ، و عن دينه عن هنا بمعنى التعليل كما في قوله تعالى « و ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدة » و قوله « و ما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك » و يجوز إبقاؤها على معناها الأصلي بتضمين جهادا معنى الذّب و الدّفع و الابعاد .
و جملة لا يثنيه منصوب المحلّ على الحالية أيضا من فاعل دعا أو قاهر .
و قوله : و قبل بلوغ الغاية ، ظرف مستقرّ متعلّق بمقدّر في محلّ الرّفع على الخبر قدّم على مبتدئه و هو قوله : ما تعلمون أى ما تعلمونه حاصل قبل بلوغ الغاية ، و جملة المبتدء و الخبر في محلّ النصب حال من فاعل كفى و الرابط للحال هو الواو ، و العجب من الشارح البحراني أنه جعل الواو للعطف و قال : قوله : و قبل بلوغ الغاية ما تعلمون عطف على قوله قبل نزوله ، و فيه من السماجة ما لا يخفى و من في قوله : من ضيق بيان لما .
و قوله : فاللّه اللّه ، منصوبان بالتحذير أى اتّقوا اللّه ، أو بالاغراء أى راقبوا اللّه أو اعبدوا له و نحو ذلك قال نجم الأئمة الرضي : و حكمة اختصاص وجوب الحذف يعني حذف العامل بالمحذر منه المكرر كون تكريره دالا على مقارنة المحذر منه للمحذر بحيث يضيق الوقت إلاّ عن ذكر المحذر منه على أبلغ ما يمكن و ذلك بتكريره و لا يتسع لذكر العامل مع هذا المكرّر ، و إذا لم يكرّر الاسم جاز إظهار العامل اتفاقا و قوله : في موقف ، متعلّق بصار ، و قوله : شديد كلبها ، و ما يتلوه من المجرورات التي تنيف على عشرة كلّها صفات بحال متعلّقات موصوفاتها .
و قوله : و كان ليلهم في دنياهم نهارا ، الموجود في النسخ برفع ليل و نصب نهار على أنهما معمولان لكان الناقصة قال الشارح البحراني : و في نسخة الرضي بخطه كأنّ ليلهم نهار برواية كأنّ للتشبيه و نصب ليل و رفع نهار ، و كذا في القرينة الثانية أعنى قوله : و كأنّ نهارهم ليلا برواية كأنّ نهارهم ليل .
و قوله و كأن قد نزل ، كأن مخفّفة من المثقّلة و اسمها ضمير شأن مستتر ، و قوله فلا رجعة تنالون و لا عثرة تقالون ، كلمة لا لنفى الجنس ، و رجعة و عثرة في بعض
[ 189 ]
النسخ بالبناء على الفتح و في بعضها بالنصب على الغاء لا التّبرية عن العمل و جعلهما مفعولين مقدمين على فعليهما .
و قوله : و لا تحرّكوا بأيديكم و سيوفكم و هو ألسنتكم ، هكذا في بعض النسخ و عليه فيحتمل زيادة الباء في المفعول أى لا تحرّكوا أيديكم اه على حدّ قوله تعالى « و لا تلقوا بايديكم إلى التهلكة » و يؤيّده ما في بعض النسخ من إسقاط الباء ، و يحتمل عدم زيادتها بأن يجعل الباء للسببية و المفعول محذوفا أى لا تحرّكوا الفتنة بأيديكم و قوله و هوى ألسنتكم عطف على سيوفكم و في بعض النسخ في هوى ألسنتكم فلفظة في للظرفية المجازيّة كما في قوله عليه السّلام : في النّفس المؤمنة مأة من الابل أى في قتلها فالسّبب الّذي هو القتل متضمّن للدّية تضمّن الظرف للمظروف و هذه هي الّتي يقال إنّها للسببيّة و هذه الرواية أيضا مؤيّدة لكون الباء في قوله : بأيديكم للزيادة ، و يحتمل عدم زيادتها عليها أيضا بأن تجعل للاستعانة ، فافهم و يروى في بعض النسخ هوى ألسنتكم بدون في و الواو فيكون منصوبا باسقاط الخافض أى لا تحرّكوا أيديكم لهوى ألسنتكم .
المعنى
اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة من أعيان خطبة عليه السّلام و ناضع كلامه و رايقه و فيها من لطايف البلاغة و محاسن البديع و سهل التركيب و حسن السّبك خالية من التكلّف و العقادة ما لا يخفى ، تكاد تسيل من رقّتها و تنحدر انحدار الماء في انسجامها ،
كيف و خطيبه سلام اللّه عليه و آله قطب البلاغة الذي عليه مدارها ، و اليه ايرادها و اصدارها ، إن ذكرت الرقة فهو عليه السّلام سوق رقيقها ، أو الجزالة فهو صفح عقيقها .
و هى مسوقة في معرض النصح و الموعظة و الأمر بالتقوى و أخذ الزاد ليوم المعاد و النهى عن الرّكون إلى الدّنيا و الاغترار بزخارفها و التحذير عن الموت الذي هو هادم اللّذات و قاطع الامنيات ، و التذكير بما بعده من شدائد البرزخ و ظلمات القبر و أهوال القيامة ، و فورات السعير و سورات الزفير و غيرها مما تطلع عليها .
[ 190 ]
و افتتح كلامه بما هو أحقّ أن يفتتح به كلّ كلام فقال : ( أحمده شكرا لانعامه ) أى لأجل كونه تعالى منعما و كون النعم كلّها من عنده صغيرها و كبيرها و حقيرها و خطيرها ، فانّ الشكر عليها موجب للمزيد دافع للعذاب الشديد .
روى في الصافي من العيون عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه سئل عن تفسير الحمد للّه فقال إنّ اللّه عرف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لأنها أكثر من أن تحصى أو تعرف ، فقال : قولوا : الحمد للّه على ما أنعم به علينا .
و قد مضى فصل واف في تحقيق معنى الشكر و ما يتعلّق به في شرح الفصل الأوّل من الخطبة الثانية .
( و استعينه على وظائف حقوقه ) أى أطلب منه التوفيق و الاعانة على حقوقه الواجبة و المندوبة التي وظيفتها علىّ و قدرها في حقّى من الصوم و الصلاة و الخمس و الزكاة و البرّ و الصدقات و حجّ بيت اللّه و الجهاد في سبيل اللّه و نحوها من العبادات الموظفة و الطاعات المقرّرة .
قال في تفسير الامام عند تفسير سورة الحمد للّه و إياك نستعين على طاعتك و عبادتك و على دفع شرور أعدائك و ردّ مكائدهم و المقام على ما أمرت .
و في الاستعانة منه تعالى على وظائف حقوقه إشارة إلى أنّ القيام بمراسم حقوقه و تكاليفه لا يمكن إلاّ باعانته و توفيقه سبحانه .
و ذلك لأنّ التكاليف الشرعية و الحقوق الالهية كلّها على كثرتها موقوفة على القدرة و الاستطاعة البدنية و المالية ، و العبد من حيث وصف الامكان فيه عاجز ضعيف في ذاته لا يقدر على شيء أصلا إلاّ باقدار اللّه سبحانه و إفاضة القوى الظاهرة و الباطنة و الاعانة منه مالا و بدنا و هو مستلزم لاتّصافه تعالى بالقدرة و القوّة و العظمة و الجلال و هو معنى قوله سبحانه يا أيّها الناس أنتم الفقراء إلى اللّه و اللّه هو الغنىّ الحميد أى الغنىّ المستقلّ في ذاته و الحميد المحمود في صفاته .
فهو القادر القاهر ( عزيز الجند ) و مالك الملك ( عظيم المجد ) فباعتبار قدرته و عزّة جنده يطلب منه الاعانة فى الجهاد ، فانّ حزبه هم الغالبون ، و باعتبار
[ 191 ]
عظمته و مجده يطلب منه التوفيق و الامداد لاقامة مراسم حقوقه المؤدّية إلى الرشاد في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ، فعلم من ذلك أنه سبحانه بماله من صفة العزّة و العظمة مبدء الاستعانة به على القيام بوظايف التكاليف و لذلك عقّبه بذكر الوصفين و آثرهما على ساير أوصافه .
و لما كان أعظم حقوقه الموظفة و أهمّها بالقيام به معرفة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الاذعان برسالته اتبع ثنائه سبحانه بالشهادة برسالته قضاء لحقّه الأعظم و فرضه الأهمّ فقال :
( و أشهد أنّ محمّدا ) صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ( عبده ) المنتجب ( و رسوله ) المصطفى ( دعا ) عباده ( إلى طاعته ) بالحكمة و الموعظة الحسنة ( و قاهر أعداءه جهادا عن دينه ) أى قهرهم و غلبهم حالكونه مجاهدا لهم لأجل نصب قوائم الدّين و رفع دعائم الاسلام ، أو جاهدهم جهادا طردا لهم و ابعادا عن هدم أركان الدّين و إطفاء أنوار اليقين ( لا يثنيه من ذلك ) أى لا يصرفه من الدعوة إلى الطاعة أو من جهاد الأعداء ( اجتماع على تكذيبه ) مع قلّة ناصريه و كثرة معانديه ( و التماس لاطفاء نوره ) أى طلبهم لابطال ما جاء به من من عند الحق مع اهتمامهم به و جدّهم فيه .
و استعار لفظ النور لما جاء به من دين الحقّ و قرنه بالاطفاء الملائم للمستعار منه فهو استعارة تحقيقية مرشّحة ، و الجامع أنّ الدّين يهدى إلى الصّراط المستقيم و نضرة النعيم كما أنّ النور يهتدي به في الغياهب و الظلمات إلى نهج الرشاد و منهج الصّلاح و السّداد .
و لما ذكر الغرض الأصلى من البعثة و الرسالة و هو الدّعوة إلى الدّين و الطاعة و نبّه على أنّ جهاد الكافرين قد كان لحماية الدّين أردف ذلك بأمر المؤمنين بحماية حماه و المواظبة عليه اجابة لدعوة الرسول و قضاء لحقّ ما لهم من الايمان فقال :
( فاعتصموا بتقوى اللّه ) الّتي هي الزاد و بها المعاد ، زاد رابح و معاد منجح و تقواه عبارة عن طاعته و عبادته و خشيته و هيبته و هى عاصمة مانعة من عذاب النار و غضب الجبار ، و لذلك أمرهم بالاعتصام بها و علّله بقوله ( فانّ لها حبلا وثيقا عروته ) أى محكما مقبضه لا يخشى من انفصامه ، و استعار لفظ الحبل لدين الاسلام و هو
[ 192 ]
استعارة تحقيقية و رشّحها بالوصف لوثاقة العروة و الجامع أنّ التّمسك بدين الاسلام سبب النجاة عن الرّدى كما أنّ التمسّك بالحبل الموثوق به سبب السّلامة عن التردى .
و قد وقع نظير هذه الاستعارة في الكتاب الكريم قال تعالى يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا اللّه حقّ تقاته و لا تموتنّ إلاّ و انتم مسلمون . و اعتصموا بحبل اللّه جميعا و لا تفرّقوا أى بدينه الاسلام و الايمان به .
قال في الكشاف : قولهم اعتصمت بحبله يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهاره به و وثوقه بحمايته بامتساك المتدلى من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه . و أن يكون الحبل استعارة لعهده و الاعتصام لوثوقه بالعهد ، أو ترشيحا لاستعارة الحبل بما يناسبه و المعنى و اجتمعوا على استعانتكم باللّه و وثوقكم به و لا تفرّقوا عنه ، أو و اجتمعوا على التمسك بعهده إلى عباده و هو الايمان و الطاعة .
و ربما استعير للاسلام لفظ العروة قال تعالى فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها قال الصّادق عليه السّلام : هى الايمان باللّه وحده لا شريك له .
و قال تعالى أيضا و من يسلم وجهه إلى اللّه و هو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى .
و بالجملة فقد أمر أمير المؤمنين عليه السّلام بالاعتصام بالتقوى معلّلا بأنّ لها حبلا وثيق العروة ، ففيه تنبيه على أنّ المعتصم بالتقوى متمسك بالحبل المتين و العروة الوثقى التي ليس لها انفصام و لا انقطاع ، و هو الدّين القويم و الحنيفيّة البيضاء ،
فيستفاد منه أنّ من لم يعتصم بها لم يتمسّك بالعروة الوثقى فقد ضلّ و غوى و تهوّر في النار و تردّى كما صرّح عليه السّلام به في المختار المأة و السادس بقوله « فمن يبتغ غير الاسلام دينا تتحقّق شقوته و تنفصم عروته و تعظم كبوته و يكن مآبه الحزن الطويل و العذاب الوبيل ، هذا
[ 193 ]
و علل اخرى بقوله ( و معقلا منيعا ذروته ) أى ملجئا مانعا أعلاه لمن التجأ إليه من نيل المكروه .
و الظاهر أنه استعار لفظ المعقل لمقام القرب من الحقّ فكما أنّ المعقل يمنع الملتجيء إليه من اصابة السّوء فكذلك التقرّب إلى اللّه سبحانه يمنع المتقرّب من نيل المكاره و المساوى ، فيكون محصّل المعنى أنّ من اعتصم بالتقوى فقد التجأ إلى معقل منيع و حصن حصين و ذلك الحصن هو رضوان اللّه سبحانه و الزلفى لديه .
قال سبحانه للّذين اتّقوا عند ربّهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و أزواج مطهّرة و رضوان من اللّه و قال « وعد اللّه المؤمنين و المؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و مساكن طيّبة في جنات عدن و رضوان من اللّه اكبر ذلك هو الفوز العظيم هذا .
و قد شبّه عليه السّلام نفس التقوى بالحصن و الحرز في بعض كلماته و هو قوله في المختار المأة و الأربعة و الخمسين : اعلموا عباد اللّه أنّ التقوى دار حصن عزيز و الفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله و لا يحرز من لجأ إليه .
و لما أمر بالاعتصام بالتقوى عقّبه و أكّده بالأمر بالمسارعة إلى الموت فقال ( و بادروا الموت و غمراته ) أى شدائده و سكراته ، و معنى المبادرة إليه المسارعة إليه بالخيرات و الصّالحات قال سبحانه فاستبقوا الخيرات و سارعوا إلى مغفرة من ربّكم أى سارعوا إلى أسباب المغفرة و موجباتها و هي الأعمال الصّالحة لتكون زادا للموت و لما بعده من الشدائد و الأهوال .
ففى الحقيقة أمره عليه السّلام بمبادرة الموت إلزام بالسّرعة إلى تهيئة الأسباب و المقدّمات النافعة عند قدومه ، و إلاّ فلموت كلّ أحد أجل معيّن لا يتقدّم عليه و لا يتأخّر ، و هو كذلك فلا يتصوّر فيه المسارعة و البدار قال سبحانه فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون » .
و يوضح ما قلناه قوله عليه السّلام ( و امهدوا له قبل حلوله ) فانّه توضيح و تفسير للفقرة السابقة ، أى اعملوا له و اكتسبوا من صالح الأعمال لأجله قبل حلوله .
[ 194 ]
( و أعدّوا له قبل نزوله ) أى هيّؤوا له من الحسنات و الصالحات قبل نزوله ،
لأنّه إذا نزل و الزاد معدّ و الأسباب ممهّدة و المقدّمات مهيّأة فلا يكون في نزوله تكلّف و لا محنة ، بل يكون بمنزلة ضيف عزيز في قدومه قرّة عين للمضيف لكونه واسطة للوصول إلى محبوبه و النيل إلى مطلوبه و للخروج من دار الفناء إلى دار البقاء و من بيت الذّلّ و المحنة إلى بيت العزّ و المنعة ، و من مجالسة الأشرار إلى مرافقة الأبرار .
فطوبى لمن كان موته سببا للنزول على حظاير القدس و مجالس الانس ، و ويل لمن لم يمهد الزاد و لم يدّخر للمعاد و قدم عليه موته بلا مهاد فأخرجه إلى بيت وحدة و منزل وحشة و مفرد غربة ، فصار له من الصفح أجنان و من التراب أكفان و من الرّفات جيران ، فقارب و سدّد و اتّق اللّه وحده و لا تستقلّ الزاد فالموت طارق هذا .
و علّل البدار إلى الموت و أخذ الزاد و المهاد له بقوله ( فانّ الغاية القيامة ) إنذارا و تحذيرا بذكر الغاية ، و تنبيها على أنّ البلية ليست منحصرة في الموت و الأمر بأخذ الزاد ليس لأجله فقط ، بل هو أوّل منازل الآخرة و الداهية الدّهياء و المصيبة العظماء آخر منازلها و هو يوم القيامة التي إليها مصير الخلايق « يوم يكون الناس كالفراش المبثوث و تكون الجبال كالعهن المنفوش » « يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عما ارضعت و تضع كلّ ذات حمل حملها و ترى الناس سكارى و ما هم بسكارى و لكنّ عذاب اللّه شديد » .
( و كفى بذلك واعظا لمن عقل ) أي كفى ذكر الموت و غمراته و القيامة و شدائدها ،
واعظا للعقلاء ( و معتبرا لمن جهل ) أي محلّ عبرة للجهلة و الغافلين .
( و ) الحال أنّ ( قبل بلوغ الغاية ما تعلمون ) و هو تحذير بأهوال البرزخ و دواهيه .
و في إتيان المسند إليه بالموصول و إبهامه من التهويل و التفخيم ما لا يخفى ،
مثل قوله سبحانه « فغشيهم من اليّم ما غشيهم » .
ثمّ فسّر هذه الأهوال و فصّلها ، لأنّ ذكر الشيء مبهما ثمّ مفسّرا أوقع في
[ 195 ]
النفوس فقال :
( من ضيق الأرماس ) و القبور ( و شدّة الابلاس ) أي الهمّ و الغمّ و الحزن بمفارقته من المال و الأولاد و الوطن و انقطاعه من الأحباب و احتباسه في سجن التراب ( و هول المطّلع ) أي هول موقف الاطلاع و مقام الاشراف على الامور الاخرويّة من الأهوال و الأفزاع الّتي كان غافلا عنها و كانت محجوبة منه فاطلع عليها و عاينها بعد الموت و ارتفاع الحجاب قال تعالى فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد .
( و روعات الفزع ) أي تارات الخوف و مرّاته قال الشارح البحراني : و إنّما حسن إضافة روعات إلى الفزع و إن كان الرّوع هو الفزع باعتبار تعدّدها و هى من حيث هى آحاد مجموع أفراد مهيّة الفزع فجازت إضافتها إليها .
أقول : و مثل هذه الاضافة في كلامه عليه السّلام غير عزيز كقوله : و سكائك الهواء في الخطبة الأولى ، و قوله عليه السّلام : لنسخ الرجاء منهم شفقات و جلهم ، في الخطبة التسعين .
و ما ذكره الشارح من العلّة غير مطّرد إذ قد ورد في كلامه عليه السّلام لفظة رخاء الدّعة و هو من إضافة الشيء إلى نفسه بدون تعدّد في المضاف .
قال نجم الأئمة الرّضي و أمّا الاسمان اللّذان ليس في أحدهما زيادة فائدة كشحط النوى و ليث أسد فالفراء يجوز إضافة أحدهما للتخفيف : قال : إنّ العرب يجيز إضافة الشيء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان ، ثمّ قال الرضيّ : و الانصاف أنّ مثله لا يمكن دفعه و لو قلنا إنّ بين الاسمين في كلّ موضع فرقا لاحتجنا إلى تعسفات كثيرة .
( و اختلاف الأضلاع ) أي اشتباكها الحاصل بضغطة القبر ( و استكاك الأسماع ) أي صممها الحاصل من شدّة الأصوات الهائلة ( و ظلمة اللّحد و خيفة الوعد ) أي خوف العذاب الموعود الّذى وعده اللّه في كتابه و ألسنة رسله ( و غمّ الضريح ) أي الكرب الحاصل بضيق القبر بعد فتحه المنازل الدّنيويّة ( و ردم الصّفيح ) أي سدّ الحجر العريض الّذى يسدّ به اللّحد .
و هذا كلّه تحذير للمخاطبين بما يحلّ عليهم بعد الموت و تذكير بأنهم سوف
[ 196 ]
ينزلون من ذروة القصور في وهدة القبور ، و يستبدلون بظهر الأرض بطنا ، و بالسعة ضيقا ، و بالأهل غربة ، و بالأمن خوفا ، و بالانس وحشة ، و بالنور ظلمة ، و صارت الأجساد شحبة بعد بضّتها و العظام نخرة بعد قوّتها ، ليس لهم من عقوبات البرزخ فترة مريحة ،
و لا رعدة مزيحة ، و لا قوّة حاجزة ، و لا موتة ناجزة ، بين أطوار الموتات ، و عقوبات الساعات .
( فاللّه اللّه عباد اللّه فانّ الدّنيا ماضية بكم على سنن ) أي على طريقة واحدة سبيل من مضى قبلكم من السّلف الماضين و العشيرة و الأقربين فكما طحنتهم المنون و توالت عليهم السّنون فأنتم مثلهم صائرون ، و على أثرهم سائرون .
فكن عالما أن سوف تدرك من مضى و لو عصمتك الراسيات الشواهق
( و أنتم و الساعة فى قرن ) تهويل بالقيامة و قربها القريب كأنها و إياهم مشدودة بحبل واحد ليس بينهما فصل مزيد و لا أمد بعيد .
و أكدّ زيادة قربها بقوله ( و كأنّها قد جائت بأشراطها ) و وجه التأكيد الاتيان بلفظة كأنّ المفيدة لتشبيهها فى سرعة مجيئها بالّتى جائت ، و الاتيان بلفظة قد المفيدة للتحقيق ، و بماضويّة الجملة .
و قد اشير إلى قربها في غير واحدة من الآيات القرآنيّة .
قال سبحانه في سورة بني اسرائيل و يقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا .
يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده و تظنّون ان لبثتم الاّ قليلا و في سورة الأحزاب يسئلك الناس عن السّاعة قل انّما علمها عند اللّه و ما يدريك لعلّ السّاعة تكون قريبا و فى سورة النبأ إنّا انذرناكم عذابا قريبا . يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه و يقول الكافر ياليتني كنت ترابا و في سورة المعارج تعرج الملائكة و الرّوح اليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبرا جميلا انّهم يرونه بعيدا و نريه قريبا و في سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهل ينظرون الاّ السّاعة ان تاتيهم بغتة فقد جاء أشراطها أى علاماتها و اماراتها الّتي تدلّ على قربها .
روى في الصافى من العلل عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أجوبة مسائل عبد اللّه بن سلام
[ 197 ]
أما أشراط السّاعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب .
و من الكافي عن الصادق عليه السّلام قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : من أشراط الساعة أن يفشو الفالج و موت الفجأة .
و من روضة الواعظين عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم و يظهر الجهل و يشرب الخمر و يفشو الزّنا و يقلّ الرجال و تكثر النّساء حتّى أنّ الخمسين امرأة فيهنّ واحد من الرجال .
و في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي عن أبيه عن سليمان بن مسلم الخشاب عن عبد اللّه بن جريح المكّي عن عطاء بن أبي رياح عن عبد اللّه بن عبّاس قال : حججنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حجّة الوداع فأخذ بحلقة باب الكعبة ثمّ أقبل علينا بوجهه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : ألا اخبركم بأشراط السّاعة ؟ و كان أدنى منه يومئذ سلمان ره فقال :
بلى يا رسول اللّه .
فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إنّ من أشراط القيامة إضاعة الصّلوات و اتّباع الشهوات و الميل إلى الأهواء و تعظيم أصحاب المال و بيع الدّين بالدّنيا ، فعندها يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يذب الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره ، قال سلمان : و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟
قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إي و الّذي نفسي بيده إنّ عندها يليهم أمراء جورة و وزراء فسقة و عرفاء ظلمة و امناء خونة ، فقال سلمان و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟
قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان إنّ عندها يكون المنكر معروفا و المعروف منكرا و يؤتمن الخائن و يخون الأمين و يصدق الكاذب و يكذب الصادق قال سلمان و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟
قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان فعندها تكون امارة النساء و مشاورة الاماء و قعود الصبيان على المنابر ، و يكون الكذب ظرفا و الزكاة مغرما و الفيء مغنما و يجفو الرجل والديه و يبرء صديقه و يطلع الكوكب المذنب ، قال سلمان :
و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟
[ 198 ]
قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إي و الّذى نفسي بيده يا سلمان و عندها تشارك المرأة زوجها في التجارة و يكون المطر قيضا و يغيض الكرام غيضا و يحتقر الرّجل المعسر فعندها تقارب الأسواق إذا قال هذا لم أبع شيئا و قال هذا لم أربح شيئا فلا ترى إلاّ ذا مّاللّه ،
قال سلمان : إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟
قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إي و الّذى نفسي بيده يا سلمان فعندها يليهم أقوام إن تكلّموا قتلوهم و إن سكتوا استباحوهم ليستأثرون بفيئهم و ليطؤن حرمتهم و ليسفكنّ دماءهم و ليملأنّ قلوبهم دغلا و رعبا فلا تراهم إلاّ وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين ، قال سلمان : و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟
قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إي و الّذى نفسي بيده يا سلمان إنّ عندها يؤتى بشيء من المشرق و شيء من المغرب يلون امّتي فالويل لضعفاء امّتي منهم و الويل لهم من اللّه لا يرحمون صغيرا و لا يوقرون كبيرا و لا يتجافون « يتجاوزون خ » عن مسيء جثّتهم جثّة الآدميّين و قلوبهم قلوب الشياطين ، قال سلمان : و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟
قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إي و الّذى نفسى بيده يا سلمان و عندها يكتفى الرّجال بالرّجال و النساء بالنساء و يغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها و تشبه الرجال بالنساء و النساء بالرّجال و يركبن ذوات الفروج السّروج فعليهنّ من امّتي لعنة اللّه قال سلمان : و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟
قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان إنّ عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع و الكنايس و تحلّي المصاحف و تطول المنارات و تكثر الصفوف بقلوب متباغضة و ألسن مختلفة ، قال سلمان : و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟
قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان و عندها تحلّي ذكور أمّتي بالذهب و يلبسون الحرير و الدّيباج و يتّخذون جلود النمور صفافا ، قال سلمان :
و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟
قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان و عندها يظهر الرّبا و يتعاملون بالعينة و الرشاء و يوضع الدّين و ترفع الدّنيا ، قال سلمان : إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟
[ 199 ]
قال صلّى اللّه عليه و آله : إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان و عندها يكثر الطلاق فلا يقام للّه حدّ و لن يضرّ اللّه شيئا ، قال سلمان : و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟
قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان و عندها تظهر القينات « المغنيات خ » و المعازف و تليهم أشرار أمّتي ، قال سلمان : و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟
قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان و عندها تحجّ أغنياء أمّتي للنزهة و تحجّ أوساطها للتجارة و تحجّ فقرائهم للرياء و السّمعة فعندها يكون أقوام يتعلّمون القرآن لغير اللّه و يتّخذونه مزامير و يكون أقوام يتفقّهون لغير اللّه و يكثر أولاد الزّنا و يتغنّون بالقرآن و يتهافتون بالدّنيا ، قال سلمان : إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟
قال صلّى اللّه عليه و آله : إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان ذلك إذا انتهكت المحارم و اكتسب المآثم و تسلّط الأشرار على الأخيار و يفشوا الكذب و تظهر الحاجة « اللّجاجة خ » و تفشو الفاقة و يتباهون في اللباس و يمطرون في غير أوان المطر و يستحسنون الكوبة و المعازف و ينكرون الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر حتّى يكون المؤمن في ذلك الزّمان أذلّ من الأمة و يظهر قرّاؤهم و عبّادهم فيما بينهم التلازم « خ التلاوم » فاولئك يدعون في ملكوت السّماوات الأرجاس الأنجاس قال سلمان : و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟
قال صلّى اللّه عليه و آله : إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان فعند ذلك لا يخشى الغنيّ إلاّ الفقر حتّى أنّ السائل يسأل فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع فى كفّه شيئا ، قال سلمان :
و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه ؟
قال صلّى اللّه عليه و آله : إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان عندها يتكلّم الرويبضة فقال سلمان و ما الرّويبضة يا رسول اللّه فداك أبى و أمّى ؟ قال يتكلّم في أمر العامّة من لم يكن يتكلّم ، فلم يلثبوا إلاّ قليلا حتى تخور الأرض خورة فلا يظنّ كلّ قوم إلاّ أنّها خارت في ناحيتهم فيمكثون ما شاء اللّه ثمّ ينكثون في مكثهم فتلقي لهم الأرض أفلاذ كبدها قال : ذهب و فضّة ثمّ أومى بيده إلى الأساطين فقال : مثل هذا ، فيومئذ لا ينفع ذهب و لا فضّة فهذا معنى قوله : فقد جاء أشراطها .
( و أزفت بأفراطها ) أي قربت بمقدماتها فتكون عطف تفسير للجملة السابقة ،
و على رواية افراطها بكسر الهمزة فالمعني أنها قربت بتجاوزها عن الاعتدال في
[ 200 ]
الشدائد و الاهوال .
( و وقفت بكم على صراطها ) نسبة الوقوف بهم إلى الساعة من باب المجاز العقلى ، و قد مرّ تفصيل الكلام في الصراط فى شرح الفصل السادس من فصول المختار الحادى و الثمانين .
( و كأنّها قد أشرفت بزلازلها ) أى أشرفت عليكم بزلازلها الهايلة و كفى شاهدا على هولها و شدّتها تهويله تعالى منها و تفخيمه لها بقوله يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم انّ زلزلة الساعة شيء عظيم . يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا ارضعت و تضع كلّ ذات حمل حملها و ترى الناس سكارى و ما هم بسكارى و لكنّ عذاب اللّه شديد .
قال في مجمع البيان : معناه يا أيّها العقلاء المكلّفون اتّقوا عذاب ربّكم و اخشوا معصية ربكم إنّ زلزلة الأرض يوم القيامة أمر عظيم هايل لا يطاق يوم ترونها أى الزلزلة او ان الساعة تشغل كلّ مرضعة عن ولدها و تنساه و تضع كلّ ذات حمل حملها أى تضع الحبالى ما فى بطونها ، و فى هذا دلالة على أنّ الزلزلة تكون فى الدّنيا فانّ الرضاع و وضع الحمل إنّما يتصوّر فيها و من قال إنّ المراد به يوم القيامة قال إنّه تهويل ، لأمر القيامة و تعظيم لما يكون فيه من الشدائد أى لو كان ثمّ مرضعة لذهلت أو حامل لوضعت و إن لم يكن هناك حامل و لا مرضعة ،
و ترى الناس سكارى من شدّة الخوف و الفزع ، و ما هم بسكارى من الشراب و لكن من شدّة العذاب يصيبهم ما يصيبهم .
و قوله ( و أناخت بكلاكلها ) تمثيل لهجومها عليهم بأهاويلها الهايلة و رضّها لهم بشدائدها الفادحة باناخة الجمل المناخ الّذى ترضّ من تحته بثقله و يهده بكلكله فيكون استعارة تمثيليّة ، أو أنّه شبهها بالجمل الفادح بحمله على سبيل الاستعارة بالكناية فيكون إثبات الكلكل تخييلا و الاناخة ترشيحا ، و الأوّل أظهر 1 و إنّما أتى بجمع لفظ الكلاكل مبالغة في شدّة أهوالها و تنبيها على كونها
----------- ( 1 ) لاجل اتيانه الكلاكل بصيغة الجمع ، و على الاحتمال الثاني فالانسب أن يؤتى به بصيغة المفرد فتأمل ، منه ره .
[ 201 ]
كثيرة متعدّدة ، هذا .
و لما ذكر أنّ الغاية القيامة و نبّه على قربها و حذّر بأهوالها و بأهوال البرزخ الّذى قبلها أردف ذلك بالتنبيه على زوال الدّنيا و فنائها و سرعة انقضائها فقال ( و انصرفت الدّنيا بأهلها ) أى ولّت و أدبرت ظاهر مساق الكلام يعطى كون هذه الجملة معطوفة على جملة أشرفت و أناخت ، لكنّه يأبي عنه أنّ الجملتين السابقتين خبران لقوله كأنها و هذه الجملة لا يصحّ جعلها خبرا ، لأنّ الضمير في كأنّها راجع إلى الساعة فلا يكون ارتباط بين اسم كأنّ و خبرها إلاّ أن يجعل الضمير فيها ضمير القصّة و لكنه يبعّده أنّ كأنّها هذه عطف على قوله و كأنّها قد جائت ، و الضمير في المعطوف عليها راجع إلى الساعة قطعا فليكن في المعطوفة كذلك .
و بعد هذا كلّه فلا مناص إلاّ أن يجعل الجملة مستأنفه غير مرتبطة على سابقتها و لا بأس بذلك ، لأنّ الجملات السابقة في بيان أهوال الساعة ، و هذه الجملة و ما يتلوها في بيان أحوال الدّنيا .
و ممّا حقّقنا ظهر فساد ما قاله الشارح البحراني حيث قال : لما كانت الأفعال من قوله : و أناخت إلى قوله : و صار سمينها غثا ، معطوفا بعضها على بعض دخلت في حكم الشبه أى و كان الدّنيا قد انصرفت بأهلها و كأنّكم قد اخرجتم من حضنها إلى آخر الأفعال ، و المشبّه الأوّل هو الدّنيا باعتبار حالها الحاضرة ، و المشبّه به هو انصرافها بأهلها و زوالهم ، و وجه الشبه سرعة المضىّ أى كأنّها من سرعة أحوالها الحاضرة كالتي وقع انصرافها ، و كذلك الوجه في باقي التشبيهات انتهى .
و ملخّص وجه الفساد إنّ القواعد الأدبيّة آبية من عطف الجملات بعضها على بعض .
و قوله ( و أخرجتهم من حضنها ) استعارة بالكناية شبّهها بالأمّ المربّية لولدها في حضنها ثمّ اعرضت عنه و اخرجته من حضن تربيته و أسلمته إلى نفسه ( فكانت ) نسبتها إلى أهلها في قصر الزّمان و قلّة المدّة ( كيوم مضى أو شهر انقضى ) .
و أشار إلى تغيّر ما فيها و فساده بقوله : ( و صار جديد هارثا ) أى خلقا باليا ( و سمينها
[ 202 ]
غثا ) أى رثيثا مهزولا قال الشارح البحراني و السمين و الغثّ يحتمل أن يريد بهما الحقيقة ، و يحتمل أن يكنّى به ، عمّا كثر من لذّاتها و خيراتها و تغيّر ذلك بالموت و الزوال .
أقول : لا وجه لجعل الاحتمال الثاني فى مقابل الاحتمال الأوّل قسيما له ،
بل هما كنايتان و لا ينافيها إرادة الحقيقة لما قد مرّ في ديباجة الشرح من أنّ الكناية استعمال اللفظ في غير ما وضع له مع جواز إرادة ما وضع له .
ثمّ الظاهر إنّهما كنايتان عمّا عليه أهل المحشر من كون أجسادهم شحبة بعد بضّتها و عظامهم و هنة بعد قوّتها لشدّة ما عاينوه من الأهوال و الشدائد .
و قوله ( في موقف ضنك المقام ) أى صار جديدها و سمينها رثا و غثا في موقف القيامة ، و وصفه بالضنّك و الضيق لكثرة الخلايق و مزيد ازدحامهم فيه « قل إنّ الأوّلين و الآخرين لمجموعون الى ميقات يوم معلوم » .
أو لصعوبة الوقوف به و طوله مع تراكم الدّواهى و الأهاويل العظيمة و عدم إمكان المخلص منها فاذا برق البصر و خسف القمر و جمع الشمس و القمر يقول الانسان يومئذ اين المفرّ . كلاّ لاوزر . الى ربّك يومئذ المستقرّ .
( و امور مشتبهة عظام ) أراد بها أهاويلها العظيمة الملتبسة التي أوجبت التحيّر في وجه الخلاص منها و النجاة عنها ، فهم فيها تائهون هائمون حايرون .
و إن شئت أن تعرف تفصيل ما تضمّنه هاتان الفقرتان من هول موقف القيامة و ضيق مقامها و مزيد زحامها و زيادة شدّتها و طول مدّتها و التباس امورها فعليك بما يتلي عليك من أنبائها .
فنقول : إنّ يوم القيامة يوم عظيم شأنه ، مديد زمانه ، قاهر سلطانه ، يوم ترى السماء فيه قد انفطرت ، و الكواكب من هوله قد انتثرت ، و النجوم الزواهر قد انكدرت ، و الشمس قد كوّرت ، و الجبال قد سيّرت ، و العشار قد عطّلت ، و الوحوش قد حشرت ، و البحار قد سجّرت ، و النفوس مع الأبدان قد زوّجت ، و الجحيم قد سعّرت ، و الجنّة قد ازلفت ، و الأرض قد مدّت .
[ 203 ]
يوم ترى الأرض قد زلزلت فيه زلزالها ، و أخرجت أثقالها .
فيومئذ وقعت الواقعة ، و انشقّت السّماء فهي يومئذ واهية ، و الملك على أرجائها و يحمل عرش ربّك فوقهم يومئذ ثمانية ، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية .
يوم تذهل فيه كلّ مرضعة عما أرضعت و تضع كلّ ذات حمل حملها و ترى النّاس سكارى و ما هم بسكارى و لكنّ عذاب اللّه شديد .
يوم يمنع فيه المجرم من الكلام ، و لا يسأل فيه عن الاجرام بل يؤخذ بالنواصي و الأقدام .
يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها و بينه أمد بعيد .
يوم تعلم فيه كلّ نفس ما احضرت ، و تشهد ما قدّمت و أخّرت .
يوم يفرّ المرء من أخيه و امّه و أبيه ، يوم لا يقدرون أن ينطقون و لا يؤذن لهم فيعتذرون ، و على النار يفتنون ، و لا ينفع مال و لا بنون .
يوم تبلى فيه السرائر و تبدى الضماير ، و تردّ فيه المعاذير .
يوم تكشف الأستار و تخشع الأبصار و تنشر الدواوين و تنصب الموازين .
يوم تسكن فيه الأصوات و يقلّ الالتفات ، و تبرز الخفيّات ، و تظهر الخطيئات .
يوم يساق العباد ، و معهم الاشهاد ، و يشيب الصغير ، و يهرم الكبير .
يوم تغيّرت الألوان و خرس اللّسان و نطق جوارح الانسان و برّزت الجحيم و اغلى الحميم ، و سعرّت النّار ، و يئس الكفّار .
و تفكر في طول هذا اليوم الّذي تقف فيه الخلايق شاخصة أبصارهم ،
منفطرة قلوبهم ، لا يكلّمون و لا ينظر في امورهم ، يقفون ثلاثمأة عام لا يأكلون فيه اكلة ، و لا يشربون فيه شربة ، و لا يجدون فيه روح النسيم ، و لقد أفصح عن طوله الكتاب الكريم و أبان عنه ذو العرش العظيم في سورة المعارج بقوله « تعرج الملئكة و الرّوح اليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنة فاصبر صبرا جميلا » .
و تأمل في ازدحام الخلايق و اجتماعهم في موقف يجمع فيه أهل السّماوات
[ 204 ]
السبع و الارضين السبع : من ملك ، و جنّ ، و إنسان ، و وحش ، و طير ، و سبع ،
و شيطان ، فأشرقت عليهم الشمس و قد تضاعف حرّها ، و تبدّلت عما كان عليه من خفّة أمرها ، ثمّ ادنيت من رؤوس أهل العالمين مثل قاب قوسين ، فأصهرتهم بحرّها ،
و اشتدّ كربهم و غمّهم من وهجها ، ثمّ تدافعت الخلايق و دفع بعضهم بعضا لشدّة الزحام ، و اختلاف الأقدام ، و ضيق المقام ، و انصاف إلى ذلك شدّة الخجل و الحياء ،
عند العرض على مليك الأرض و السماء ، فاجتمع وهج الشمس و حرّ الأنفاس ،
و احتراق القلوب بنار الخوف ، ففاض العرق من أصل كلّ شعرة حتّى سال على صعيد القيامة ، ثمّ ارتفع على الأبدان فبعضهم بلغ العرق ركبتيه ، و بعضهم إلى حقويه ،
و بعضهم إلى شحمة اذنيه .
قال عقبة بن عامر : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة فيعرض الناس ، فمن الناس من يبلغ عرقه عقبه ، و منهم من يبلغ نصف ساقه ،
و منهم من يبلغ ركبته ، و منهم من يبلغ فخذه ، و منهم من يبلغ خاصرته . و منهم من يبلغ فاه فألجمها ، و منهم من يغطيه العرق و ضرب بيده على رأسه هكذا .
فتدبّر أيّها العاصي و الجاهل القاسي في هول ذلك اليوم و طول تعبه ، و شدّة كربه و فيما عليه أهله من ضيق المقام ، و طول القيام ، و مساءة الحال ، و عظم الشفق من سوء المآل ، فمنهم من يقول ربّ أرحنى من هذا الكرب و الانتظار ، و لو إلى النّار .
و كلّ ذلك و لم يلقوا بعد حسابا و لا كتابا و لم يصيبوا عذابا و لا عقابا .
فكيف إذا فرغوا من الحساب و عاينوا الكتاب و حقّت عليهم كلمة العذاب .
فبيناهم وقوفا ينتظرون و يخافون العطب ، و يشفقون سوء المنقلب إذ نادى مناد من عند ذى العرش المجيد « ألقيا في جهنّم كلّ كفار عنيد » .
فيبادر إليهم الزبانية بمقامع من حديد ، و يستقبلونهم بعظائم التهديد ،
و يسوقونهم إلى العذاب الشديد ( و ) يدخلونهم في ( نار شديد كلبها ) أى شرّها و اذيها
[ 205 ]
و حارتها ( عال لجبها ) أى صوتها و صياحها أو اضطراب أمواجها كالبحر الزخار ( ساطع لهبها ) أى شعلتها ( متغيّظ زفيرها ) أى صوتها الناشى من توقّدها متّصف بالهيجان و الغليان .
قال الشارح البحرانيّ : و لفظ التغيّظ مستعار للنّار باعتبار حركتها بشدّة و عنف كالغضبان انتهى .
و هذا التغيظ قد نطق به القرآن في سورة الفرقان قال « و اعتدنا لمن كذّب بالساعة سعيرا . إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيّظا و زفيرا » قال : بعض المفسّرين التغيظ الصوت الّذي يهمهم به المغتاظ ، و الزفير صوت يخرج من الصدر ، و عن ابن عرفة أى من شدّة الحريق تغيظت الهاجرة إذا اشتدّ حميمها فكأنّ المراد الغليان .
( متأجّج سعيرها ) أى متوقّد و متلهّب نارها المتحرقة ( بعيد خمودها ) أى سكونها ( ذاك وقودها ) أى وقودها متّصف بشدّة الوهج و الاشتغال ( مخوف وعيدها ) قال بعض الشارحين أى توعدها لأهلها بانطاقه سبحانه إيّاها أو كناية عن اشتدادها تدريجا ( غمّ قرارها ) أى متغطّى قعرها و قرارها بحيث لا يكاد أن يدرك بالبصر لظلمته أو غاية عمقه أو تراكم لهبه .
و في نسخة الشارح البحراني : عم قرارها ، بالعين المهملة قال : اسند العمى إلى قرارها مجازا باعتبار أنّه لا يهتدى فيه لظلمته أو لأنّ عمقها لا يوقف عليه لبعده ( مظلمة أقطارها ) أى أطرافها و جوانبها ( حامية قدورها فظيعة امورها ) أى شديدة شنيعة بلغت الغاية في الشدّة و الشناعة ، هذا .
و قد مضى فصل واف في أوصاف الجحيم و أهله في شرح الفصل الثالث من المختار المأة و الثمانية و إنما فصّل عليه السّلام هنا بعضها تخويفا منها و تحذيرا عنها و تنفيرا عن المعصية و متابعة الهوى الموقعة فيها و ترغيبا إلى الزّهد و التقوى العاصمة منها ، لأنّ حقيقة التقوى هو أخذ الوقاية من النار و من غضب الجبّار .
و لما ذكر سوء حال المجرمين أردفه بشرح حال المتقين حثّا على اقتفاء آثارهم و اقتباس أنوارهم فقال :
[ 206 ]
( و سيق الذين اتّقوا ربهم إلى الجنّة زمرا ) اقتباس من الآية الشريفة في سورة الزمر و آخرها حتّى إذا جاؤها و فتحت أبوابها و قال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين أى يساقون المتّقون إسراعا بهم إلى دار الكرامة مكرمين زمرة بعد زمرة أى أفواجا متفرّقة بعضها في أثر بعض على تفاوت مراتبهم في الشرف و علوّ الدّرجة و يساقون راكبين كما عرفت في شرح الفصل التاسع من المختار الأول حتّى إذا جاؤها و قد فتحت أبواب الجنّة لهم قبل مجيهم انتظارا بهم ، و قال لهم خزنتها عند استقبالهم : سلام عليكم أى سلامة من اللّه عليكم يحيّونهم بالسلامة ليزدادوا بذلك سرورا ، طبتم أى طبتم بالعمل الصّالح في الدّنيا و طابت أعمالكم الصّالحة أو طاب مواليدكم لا يدخل الجنّة إلاّ طيب المولد ، فادخلوا الجنّة خالدين مخلّدين و قد مضى فصل واف في وصف الجنّة و أوصاف أهلها في شرح الفصل التّاسع من المختار الأوّل و شرح الفصل الثالث من المختار المأة و الثمانية .
و قوله ( قد أمن العذاب و انقطع العتاب و زحزحوا عن النار و اطمأنّت بهم الدّار و رضوا المثوى و القرار ) أراد أنهم يساقون إلى الجنّة حالكونهم مأمونين من العقاب و العذاب ، منقطعا عنهم خطاب العتاب ، مبعدين عن النّار ، مطمئنين بالدّار راضين بالمثوى و القرار ، أى بالمقام و المقرّ .
و نسبة مطمئنة إلى الدار من المجاز العقلي و الاسناد إلى المكان أو من الكلام من باب الاستعارة بالكناية فانّ الدّار لما كانت مخلوقه لأجلهم معدّة لهم كما قال عزّ من قائل « جنّة عرضها السّموات و الأرض اعدّت للمتّقين » شبّهها بالمنتظر لقدوم محبوبة ، حتّى إذا قدم إليه ارتفع عنه الانتظار و حصل له الاطمينان ، فتكون الدّار استعارة بالكناية و ذكر الاطمينان تخييلا للاستعارة .
و أما كونهم راضين بالمثوى و القرار فلأجل ما اعدّ لهم فيها من جميع ما تشتهيه أنفسهم و تلذّ أعينهم مما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر .
قال سبحانه فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية و قال انّ الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة . جزاؤهم عند ربّهم جنّات عدن تجرى
[ 207 ]
من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى اللّه عنهم و رضوا عنه ذلك لمن خشى ربه و هم ( الذين كانت أعمالهم في الدّنيا زاكية ) أى طيبة طاهرة من شوب الشرك و الرّياء أو متّصفة بالصلاح و السداد ( و أعينهم باكية ) من خشية اللّه و الخوف من عذابه و الاشفاق من عقابه .
و الروايات في فضل البكاء من خشيته سبحانه كثيرة جدّا و نشير إلى بعضها فأقول :
روى في الوسائل عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث المناهي قال : و من ذرفت عيناه من خشية اللّه كان له بكلّ قطرة قطرت من دموعه قصر في الجنة مكلّل بالدّر و الجواهر فيه ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر .
و فيه من ثواب الأعمال عن أبي جعفر عليه السّلام قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : ليس شيء إلاّ و شيء يعدله إلاّ اللّه فانه لا يعدله شيء و لا إله إلاّ اللّه لا يعد له شيء و دمعة من خوف اللّه فانه ليس لها مثقال فان سالت على وجهه لم يرهقه قتر و لا ذلّة بعدها أبدا .
و عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : كلّ عين باكية يوم القيامة إلاّ ثلاثة أعين : عين بكت من خشية اللّه ، و عين غضّت عن محارم اللّه و عين باتت ساهرة في سبيل اللّه .
و عن الرّضا عليه السّلام قال : كان فيما ناجي اللّه به موسى عليه السّلام أنّه ما تقرّب إلىّ المتقرّبون بمثل البكاء من خشيتي ، و ما تعبّد لي المتعبّدون بمثل الورع عن محارمي و لا تزيّن لي المتزيّنون بمثل الزهد في الدّنيا عمايهم الغنى عنه ، فقال موسى عليه السّلام يا أكرم الأكرمين فما أثبتهم على ذلك ؟ فقال : يا موسى أما المتقرّبون لي بالبكاء من خشيتي فهم في الرفيق الأعلى لا يشركهم فيه أحد ، و أما المتعبّدون لي بالورع عن محارمي فاني افتّش الناس عن أعمالهم و لا أفتّشهم حيآء منهم ، و أما المتزيّنون لي بالزهد في الدّنيا فاني ابيحهم الجنّة بحذافيرها يتبوّؤن منها حيث يشاؤن .
و فيه من العيون عن الحسن بن عليّ العسكري عن آبائه عليهم السّلام قال : قال
[ 208 ]
الصادق عليه السّلام إنّ الرجل ليكون بينه و بين الجنّة أكثر مما بين الثرى إلى العرش لكثرة ذنوبه فما هو إلاّ أن يبكى من خشية اللّه عزّ و جلّ ندما عليها حتّى يصير بينه و بينها أقرب من جفنه إلى مقلته .
و فيه من الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام ما من شيء إلاّ و له كيل و وزن إلاّ الدّموع فانّ القطرة تطفي بحارا من نار ، فاذا اغرورقت العين بمائها لم يرهق وجهه قتر و لا ذلّة ، فاذا فاضت حرّمها اللّه على النار ، و لو أنّ باكيا بكى في امة لرحموا و في عدّة الدّاعي لأحمد بن فهد الحلّي قال : و فيما أوحى اللّه إلى عيسى عليه السّلام يا عيسى ابن البكر البتول ابك على نفسك بكاء من قد ودّع الأهل و قلى الدّنيا و تركها لأهلها و صارت رغبته عند إلهه .
و فيه عن أمير المؤمنين عليه السّلام لما كلّم اللّه موسى عليه السّلام قال : إلهي ما جزأ من دمعت عيناه من خشيتك ؟ قال : يا موسى أقي وجهه من حرّ النّار و آمنه يوم الفزع الأكبر .
و فيه عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام ما من قطرة أحبّ إلى اللّه من قطرة دموع في سواد اللّيل مخافة من اللّه لا يراد بها غيره .
و فيه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في خطبة الوداع : و من ذرفت عيناه من خشية اللّه كان له بكلّ قطرة من دموعه مثل جبل احد تكون في ميزانه من الأجر ، و كان له بكلّ قطرة عين من الجنّة على حافّتها من المداين و القصور ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر بقلب بشر .
و فيه عن أبىجعفر عليه السّلام أنّ إبراهيم النبىّ عليه السّلام قال : إلهى ما لعبد بلّ وجهه بالدّموع من مخافتك ؟ قال اللّه تعالى : جزاؤه مغفرتى و رضواني يوم القيامة الى غير هذه مما لا نطيل بروايتها .
ثمّ وصف المتّقين بوصفين آخرين أحدهما قوله ( و كان ليلهم في دنياهم نهارا تخشّعا و استغفارا ) يعنى أنهم
[ 209 ]
يسهرون لياليهم و يقومون من مضاجعهم و يتركون لذّة الرّقاد اشتغالا بمناجاة ربّ العباد ، فيجعلون ليلهم بمنزلة النهار في ترك النوم و القرار : و يقومون بين يدى الرّب المتعال بالخضوع و الخشوع و التضرّع و الابتهال ، و يواظبون على الدّعاء و الصلاة و الاستغفار إلى أن يذهب اللّيل و يؤب الفجر و النهار .
و قد مدحهم في كتابه العزيز بقوله و المستغفرين بالأسحار و قال تتجافي جنوبهم عن المضاجع و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : إذا قام العبد من لذيذ مضجعه و النعاس في عينيه ليرضى ربّه عزّ و جلّ لصلاة ليله باهي اللّه به ملائكته فقال : أما ترون عبدي هذا قد قام من لذيذ مضجعه إلى صلاة لم أفرضها عليه ، اشهدوا أنّى غفرت له .
و قد مضى أخبار كثيرة في فضل صلاة اللّيل و قيامه في شرح الفصل السادس من الخطبة الثانية و الثّمانين و في شرح الخطبة المأة و الثانية و الثمانين .
و أقول هنا مضافا إلى ما مرّ : يكفى في فضل قيامه أمر اللّه سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه و آله به في قوله يا أيّها المزمّل قم اللّيل إلاّ قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أوزد عليه و رتّل القرآن ترتيلا . إنّا سنلقى عليك قولا ثقيلا . إنّ ناشئة اللّيل هي أشدّ وطأ و أقوم قيلا .
قال أمين الاسلام الطبرسى : المعنى يا أيّها المتزمّل بثيابه المتلفّف بها ، قم اللّيل للصلاة إلاّ قليلا من اللّيل نصفه ، بدل من الليل أى قم نصف الليل أو انقص من النصف أو زد على النصف ، و قال المفسرون : أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد على النصف إلى الثلثين .
و قوله : و رتّل القرآن ترتيلا روى في الصافي من الكافي عن الصادق عليه السّلام أنه سئل عن هذه الآية فقال : قال أمير المؤمنين عليه السّلام : بيّنه بيانا و لا تهذّه هذّ الشعر و لا تنثره نثر الرّمل ، و لكن افرغوا قلوبكم القاسية ، و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة إنّا سنلقى عليك قولا ثقيلا قيل أى القرآن ، لأنّه لما فيه من التكاليف ثقيل على المكلّفين ، قال عليّ بن إبراهيم القميّ : قولا ثقيلا قال عليه السّلام قيام الليل و هو
[ 210 ]
قوله إنّ ناشئة الليل الآية ، و قيل : أى النفس التى تنشأ من مضجعها للعبادة أى تنهض أو العبادة التى تنشأ بالليل أى تحدث ، و في المجمع عن أبيجعفر و أبيعبد اللّه عليهما السلام أنهما قالا : هى القيام في آخر الليل إلى صلاة الليل .
هى أشدّ وطأ ، أى أكثر ثقلا و أبلغ مشقة ، لأنّ الليل وقت الراحة و العمل يشقّ فيه ، و من قرء وطاء بالمدّ فالمعنى أشدّ مواطاة للسمع و البصر يتوافق فيه قلب المصلّى و لسانه و سمعه على التفكر و التفهّم إذ القلب غير مشتغل بشيء من امور الدّنيا .
و أقوم قيلا أى أسدّ مقالا و أصوب « خ اثبت » للقراءة ، لفراغ البال و انقطاع ما يشغل القلب ، هذا .
و في عدة الداعى عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كان له حاجة فليطلبها في العشاء فانّها لم يعطها أحد من الامم قبلكم ، يعني العشاء الآخرة .
و في رواية في السّدس الأوّل من النصف الثاني من اللّيل ، و يعضدها ما ورد من الترغيب و الفضل لمن صلّى اللّيل و النّاس نيام و في الذكر في الغافلين ، و لا شكّ في استيلاء النوم على غالب الناس في ذلك الوقت ، بخلاف النصف الأوّل ، فانّه ربما يستصحب الحال فيه النهار ، و آخر اللّيل ربما انتشروا فيه لمعايشهم و أسفارهم ،
و انّما مخّ 1 اللّيل هو وقت الغفلة و فراغ القلب للعبادة ، لاشتماله على مجاهدة النفس و مهاجرة الرقاد و مهاجرة وثير المهاد و الخلوة بمالك العباد و سلطان الدّنيا و المعاد ، و هو المقصود من جوف الليل و هي ما رواه عمر بن اذينة قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول : إنّ في الليل ساعة ما يوافق فيها عبد مؤمن يصلّي و يدعو اللّه فيها إلاّ استجاب له ، قلت : أصلحك اللّه و أىّ ساعة الليل هي ؟ قال : إذا مضى نصف الليل ، و بقي السّدس الأوّل من النصف الثاني .
و أمّا الثلث الأخير فمتواتر 2 قال : صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إذا كان آخر الليل يقول اللّه سبحانه و تعالى : هل من داع فأجيبه ، هل من سائل فاعطيه سؤاله ، هل من مستغفر
----------- ( 1 ) مخّ كلّ شيء خالصه و خيره ، لغة 2 يعنى كونه وقت استجابة فالخبر فيه متواتر ، منه .
[ 211 ]
فأغفر له ، هل من تائب فأتوب عليه .
و روى ابراهيم بن محمود قال ، قلت للرّضا عليه السّلام : ما تقول في الحديث الّذي يرويه النّاس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال : إنّ اللّه تعالى ينزل في كلّ ليلة إلى السماء الدّنيا ؟ فقال عليه السّلام : لعن اللّه المحرّفين الكلم عن مواضعه ، و اللّه ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كذلك إنما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إنّ اللّه تعالى ينزل ملكا إلى السماء الدّنيا كلّ ليلة في الثلث الأخير و ليلة الجمعة من أوّل اللّيل فيأمره فينادى : هل من سائل فاعطيه سؤله ، هل من تائب فاتوب عليه ، هل من مستغفر فأغفر له ، يا طالب الخير أقبل ، يا طالب الشرّ أقصر ، فلا يزال ينادى بها حتّى يطلع الفجر ، فاذا طلع عاد إلى محلّه من ملكوت السماء ، حدّثني بذلك أبي عن جدّي عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله .
إذا عرفت ذلك فأقول : طوبى لعبد يتجافى جنبه عن المضجع و المهاد ،
و يسلب عن عينه لذّة الرقاد ، و يشتغل بعبادة ربّ العباد ، و يناجيه في غلس الظلام و الناس نيام ، تارة بالقعود و السجود ، و اخرى بالرّكوع و القيام ، فيقوم بحضرة الملك الجليل قيام العبد الذّليل : و يجعل ذنوبه و خطاياه نصب عينيه فيبكى على حاله و يسأله أن يعفو عنه ، و يرحم عليه ، و يرفع إلى اللّه سبحانه يد المسكنة و السؤال ،
و يقول بالتضرّع و الذلّ و الابتهال :
طرقت باب الرّجا و الناس قد رقدوا و جئت أشكو إلى مولاى ما أجد و قلت ما املى في كلّ نائبة و من عليه بكشف الضرّ أعتمد أشكو إليك أمورا أنت تعلمها مالى على حملها صبر و لا جلد و قد مددت يدى بالذّل خاضعة إليك يا خير من مدّت إليه يد فلا تردّنها يا ربّ خائبة فبحر جودك يروى كلّ من يرد يا من يغيث الورى من بعد ما قنطوا ارحم عبيدا أتوا بالذلّ قد نكسوا
الوصف الثاني قوله عليه السّلام : ( و كان نهارهم ليلا توحّشا و انقطاعا ) و هو من التشبيه البليغ المحذوف الأداة ، و على رواية كأنّ بالتشديد فهو تشبيه اصطلاحى ، و طرفاه
[ 212 ]
حسيّان و قد أشير إلى وجه الشبه و هو التوحش و الانقطاع ، فيكون من التشبيه المفصّل المذكور فيه أركان التشبيه بحذافيرها ، و مثله القرينة السابقة أعنى قوله : و كان ليلهم نهارا اه و ما ذكرناه هنا آت ثمّة حرفا بحرف و كيف كان فالمراد إنّ المتقين جعلوا نهارهم بمنزلة اللّيل في التوحش من الخلق و الاعتزال منهم و الانقطاع عنهم إلى اللّه سبحانه و الفراغ للعبادة و الطاعة ، و قد مضى تفصيل الكلام في فوايد الاعتزال و الانقطاع بما لا مزيد عليه في شرح الفصل الثاني من المختار المأة و الثاني فليراجع ثمّة .
و لما وصف حال المتّقين و تمحيضهم العبادة للّه و خلوصهم في مقام العبودية و استيحاشهم من الخلق و استيناسهم بالخالق أراد أن ينبّه على ما منحه اللّه عليهم جزاء لعملهم فقال :
( فجعل اللّه لهم الجنّة مآبا ) أى مرجعا و منزلا و مقيلا كما قال تعالى و انّ للمتقين لحسن مآب . جنّات عدن مفتّحة لهم الأبواب و قال لكن الذين اتّقوا ربّهم لهم جنّات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها نزلا من عند اللّه و ما عند اللّه خير للابرار .
( و الجزاء ثوابا ) كما قال عزّ من قائل انّ للمتّقين مفازا . حدائق و أعنابا .
و كواعب أترابا . و كأسا دهاقا . لا يسمعون فيها لغوا و لا كذّابا . جزاء من ربّك عطاء حسابا ( و كانوا أحقّ بها و أهلها ) أى بالجنّة و بأهلها من الحور العين و الولدان المخلّدين ، أو أنّه من التقديم و التأخير و التقدير كانوا أهلها و أحقّ بها أى كان المتّقون أهل الجنّة و احتسابها من الفاسقين و الكافرين ، أو المراد أنهم كانوا أحقّ بدخول الجنّة و أهلالها ، و على أىّ احتمال ففيه إشارة إلى أنّهم بصالح أعمالهم استحقّوا بذلك الجزاء الجميل و الأجر الجزيل و كانوا أحقّ تبلك النعمة العظيمة .
و أشار إلى بقائها و عدم نفادها بقوله : ( في ملك دائم و نعيم قائم ) كما قال تعالى اولئك هم الوارثون . الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون .
ثمّ أكدّ الحثّ على التقوى بعبارة أخرى مرغبة إلى أخذها محذرة من تركها
[ 213 ]
فقال ( فارعوا عباد اللّه ما برعايته يفوز فائزكم و باضاعته يخسر مبطلكم ) أى حافظوا على ما بحفظه و مواظبته يفوز الفائزون و هو التقوى و صالح العمل كما نطق به كتاب اللّه عزّ و جلّ قال و من يطع اللّه و رسوله و يخش اللّه و يتّقه فاولئك هم الفائزون و قال الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا فى سبيل اللّه بأموالهم و أنفسهم أعظم درجة عند اللّه و اولئك هم الفائزون .
و باضاعته و تركه يخسر المبطلون أى الآخذون بالباطل و سميّء العمل ، و هم التاركون للتقوى و المنهمكون فى الزيغ و الزلل قال تعالى و يوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون .
( و بادروا آجالكم ) الموعودة ( بأعمالكم ) الصالحة أى استعدّوا للموت قبل حلول الفوت ( فانّكم مرتهنون بما أسلفتم ) من الذّنوب محتاجون إلى فكّ رهانتها .
قال الشارح البحراني : لفظ المرتهن مستعار للنفوس الآثمة باعتبار تقيّدها بالسيّئة و إطلاقها بالحسنة كتقيّد الرّهن المتعارف بما عليه من المال و افتكاكه بأدائه ( و مدينون بما قدّمتم ) أى مجزيّون به إن خيرا فخيرا و إن شرّا فشرا .
ثمّ نبّه على قرب الموت منهم بقوله ( و كأن قد نزل بكم المخوف ) أى أشرف عليكم و أظلكم ( فلا رجعة تنالون و لا عثرة تقالون ) يعني أنّه إذا نزل فليس بعد نزوله رجعة تعطوها و لا عثرة تقالون منها ، لأنّ إقالة العثرات بالتوبة إنما تكون فى دار الدّنيا ، لأنها دار التكليف و العمل و أمّا الآخرة فهى دار الجزاء لا ينفع فيه الندّم و الاستقالة ، و لو قال أحدهم ربّ ارجعوني لعلّى أعمل صالحا فيما تركت قيل له : كلا إنّها كلمة هو قائلها و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون .
( استعملنا اللّه و اياكم بطاعته و طاعة رسوله ) هو دعاء للتوفيق و الاعانة منه سبحانه على القيام بوظائف تكاليفه و مراسم طاعته ( و عفا عنّا و عنكم بفضل ) ه الواسع و كرمه السابغ و ( رحمته ) الّتي وسعت كلّ شيء ، هذا .
و لما فرغ من نصح المخاطبين و وعظهم و الدّعاء لهم بما اقتضته الحال و المقام ،
عقّب ذلك كلّه بالأمر بلزوم الأرض و الصبر على البلاء فقال :
[ 214 ]
و ( الزموا الأرض ) و هو كناية عن ترك النهوض الى الحرب ( و اصبروا على البلاء ) و أذى الأعداء ، لأنّ الصبر مفتاح الفرج و اللّه مع الصّابرين ( و لا تحرّكوا بأيديكم و سيوفكم و هوى ألسنتكم ) أى لا تحرّكوا شيئا منها لاثارة الفتنة و قد مضى في تفسيرها احتمالات اخر فى بيان اعرابها فتذكّر ، و أراد بهوى الألسنة هفوات اللّسان و سقطات الألفاظ من السّب و الشّتم و النميمة و الغيبة و نحوها من فضول الكلام المهيجة للفتنة و الفساد الناشئة من هوى الألسنة و ميلها اليها باقتضاء هوى النفس الأمارة .
( و لا تستعجلوا بما لم يعجّله اللّه لكم ) أى لا تسرعوا باتيان ما لم يفرض عليكم فيكون نسبة التعجيل إلى اللّه من باب المشاكلة أو المراد ما لم يفرضه عليكم فورا بل متراخيا و بعد حين لفقدان شرطه أو اقتضاء المصلحة لتأخيره .
قال الشارح المعتزلي : أمر عليه السّلام أصحابه أن يثبتوا و لا يعجلوا في محاربة من كان مخالطا من ذوى العقايد الفاسدة كالخوارج ، و من كان يبطن هوى معاوية ،
و ليس خطابه هذا تثبيطا لهم عن حرب أهل الشام كيف و هو لا يزال يقرعهم و يوبّخهم عن التقاعد و الابطاء فى ذلك ، و لكن قوما من خاصّته كانوا يطلعون على ما عند قوم من أهل الكوفة و يعرفون نفاقهم و عنادهم و يرومون قتلهم و قتالهم ، فنهاهم عن ذلك ، و كان يخاف فرقة جنده و انتشار حبل عسكره فأمرهم بلزوم الأرض و الصّبر على البلاء .
و قال الشارح البحراني : الخطاب خاصّ ممّن يكون بعده ، فأمره بالصّبر في مواطنهم و قعودهم عن النهوض لجهاد الظالمين في زمن عدم قيام الامام بالحقّ بعده .
و احتمل بعض الشارحين أن يكون الأمر بالصبر عند استدعاء الأصحاب لحرب أهل الشام أو الخوارج فى زمان يقتضى المصلحة تركه و تأخيره .
أقول : و الأظهر ما قاله الشارح المعتزلى كما هو غير خفىّ على المتدبّر .
و كيف كان فلما كان أمرهم بالصّبر و الثبات موجبا ليأسهم مما كانوا يرجونه بالحرب من تحصيل السعادة و الفوز بالثواب ، تدارك ذلك جبرا لانكسار
[ 215 ]
قلوبهم ، و بشارة لهم بقوله :
( فانه من مات منكم على فراشه و هو على معرفة حقّ ربّه و حقّ رسوله و أهل بيته مات شهيدا ) يعنى من مات على فراشه مذعنا بتوحيد اللّه سبحانه و رسالة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معتقدا بامامة الأئمة الهداة من أهل بيته لحق بدرجة الشهداء و فاز ثواب السعداء ( و وقع أجره على اللّه ) تعالى ( و استوجب ثواب ما نوى من صالح عمله و قامت النية مقام اصلاته بسيفه ) يعنى أنه استحقّ ثواب ما كان قصده الاتيان به من العمل الصالح و قامت نيّته مقام سلّه بسيفه .
و ملخصه أنّه إذا كان عارفا بحق اللّه و حق رسوله و بولاية الأئمة عليهم السّلام ، و كان من نيّته الحرب لمن حارب اللّه و رسوله وقع أجره على اللّه سبحانه و استوجب الثواب الجميل و الأجر الجزيل لقيام نيّته مقام فعله ، و نيّة المؤمن خير من عمله ، و قد مرّ نظير مضمون هذا الكلام منه عليه السّلام في المختار الثانى عشر .
و علّل حسن الصبر و ترك الاستعجال بقوله ( فانّ لكلّ شيء مدّة و أجلا ) لا ينبغي التسرّع إليه قبل مضىّ تلك المدّة و حلول ذلك الأجل ، و باللّه التوفيق .
الترجمة
از جمله خطب شريفه آنحضرت است در ترغيب بتقوى و پرهيزكارى و تحذير أز أهاويل قيامت و شدايد برزخ و عقوبات دوزخ و تشويق بنعيم بهشت ميفرمايد :
شكر ميكنم خداوند را شكر كردنى از براى نعمت دادن او ، و استعانت ميكنم از او بر وظيفهاى حقهاى او در حالتيكه غالب است لشكر او ، و بزرگ است بزرگوارى او ، و شهادت ميدهم باينكه محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنده او و رسول او است دعوت فرمود آنحضرت بسوى اطاعت او ، و غلبه كرد دشمنان او را در حالتيكه جهاد كننده بود از براى دين او ، باز نميگردانيد او را از دعوت بطاعت اتفاق كردن كفار بر تكذيب او ، و طلب نمودن ايشان فرو نشاندن نور او را .
[ 216 ]
پس تمسّك نمائيد بتقوى و پرهيزكارى از جهت اينكه مر تقوى را است ريسمانى كه محكم است گوشه آن ، و پناه گاهى كه مانع است بلندى آن ، و مبادرت نمائيد بسوى مرگ در سختيهاى آن ، و مهيا نمائيد از براى آن مرگ پيش از حلول كردن او ، و آماده نمائيد از براى آن قبل از نازل شدن او ، پس بدرستيكه منتها إليه خلايق قيامت است ، و كفايت ميكند مرگ و قيامت در حالتيكه واعظ است مر صاحب عقل را در حالتيكه محلّ عبرتست مر صاحب جهل را .
و پيش از رسيدن غاية كه قيامت است آنچيزيست كه ميدانيد شما از تنگى قبرها ، و شدّت مأيوسى ، و ترس محلّ اطلاع و ترسهاى فزع عذاب و بهم در رفتن استخوانها از فشار قبر ، و كر شدن گوشها ، و تاريكى لحد گور ، و ترس وعده عذاب و پوشانيدن شكاف قبر ، و استوار كردن سنگهاى بالاى لحد .
پس بترسيد از خدا اى بندگان خدا پس بدرستيكه دنيا گذرنده است بشما بر يكطريقه ، و شما و قيامت گويا بسته شدهايد بيك ريسمان ، و گويا كه روز قيامت آمده است با علامتهاى خود ، و نزديك بوده است با مقدّمات خود ، و نگه داشته است شما را بالاى صراط خود ، و گويا كه آن مشرف بوده با زلزلهاى خود ، و فرو خوابانيده سينهاى خود را كه عبارتست از سنگينيهاى آن ، و رو برگردانده دنيا بأهل خود ، و بيرون كرده ايشان را از كنار تربيت خود ، پس گشت دنيا بمنزله روزي كه گذشت ، و بمنزله ماهى كه بنهايت رسيد ، و گرديد تازه او كهنه ، و فربه او لاغر در موقفى كه تنگ است محل ايستادن او و در كارهائى كه مشتبهاند و بزرگ ، و در آتشى كه سخت است حدت و أذيت آن ، بلند است آواز آن ، درخشنده است شعله آن ، صاحب غيظ است صداى منكر آن ، بر افروخته است آتش سوزاننده آن ، دور است خاموشى آن ، تمام است اشتغال آن ، ترسناكست وعده آن ، پوشيده است قعر آن ، تاريك است اطراف آن ، گرم است ريگهاى آن ، فضاحت دارد كارهاى آن .
و رانده شدند با سرعت كسانى كه پرهيزكارى پروردگار خود نمودند بسوى بهشت فوج فوج در حالتيكه أمن حاصل شده است از عذاب ، و بريده شده سرزنش و عتاب
[ 217 ]
و دور كرده شدهاند ايشان از آتش جحيم ، و آرام گرفته بايشان دار نعيم ، و خوشنود شدهاند بمنزل و مقرّ ، چنان كسانيكه بود عملهاى ايشان در دنيا پاك پاكيزه ،
و چشمهاى ايشان پر از گريه ، و بود شب ايشان بمنزله روز از جهت خضوع و خشوع و طلب مغفرت ، و روز ايشان بمنزله شب از جهت وحشت از خلق روزگار و بريده شدن از ايشان بسوى پروردگار ، پسگردانيد خداوند عالم از براى ايشان بهشت را محلّ بازگشت ، و جزاى عمل ايشان را ثواب بىنهايت ، و بودند ايشان سزاوارتر ببهشت و أهل بهشت در پادشاهى دائمى و نعمت باقى .
پس رعايت كنيد اى بندگان خدا چيزيرا كه بسبب رعايت آن فايز شود راستكار شما ، و بسبب ضايع نمودن آن زيان ميبرد تبهكار شما ، و مبادرت نمائيد بر اجلهاى خودتان با عملهاى خود ، پس بدرستى كه شما گرو گذاشته شدهايد بسبب آنچه كه پيش فرستادهايد ، و جزا داده شدهايد بجهت آنچه كه مقدّم ساختهايد ، و گويا كه نازل شد بشما مرگ هولناك ، پس بعد از مرگ بازگشتنى نيست كه عطا كرده شويد ، و نه لغزشى كه عفو كرده شويد .
توفيق بدهد خداوند ما را و شما را باطاعت خود و اطاعت رسول خود ، و عفو فرمايد از ما و از شما بافضل و احسان خود و رحمت خود ، لازم بشويد و آرام باشيد در زمين خود ، و صبر نمائيد بر بلا ، و حركت ندهيد دستهاى خود و شمشيرهاى خود و خواهشات زبانهاى خودتان را ، و تعجيل نكنيد بچيزيكه تعجيل نفرموده خداى تعالى آنرا از براى شما ، پس بدرستيكه آنكس كه مرد از شما بر رختخواب خود در حالتى كه عارف باشد بحق پروردگار خود و بحق رسول خود و بحق أهل بيت او مرده است در حالتى كه شهيد بوده ، و واقع شده أجر آن بر خداى تعالى ، و مستحق بوده بثواب آنچه نيت كرده بود از عمل صالح خود ، و نايب ميشود نيت او مناب بر كشيدن او شمشير خود را ، پس بدرستى كه هر چيزيرا مدّتى و أجلى است .