جستجو

و من خطبة له ع و هي المعروفة بالشقشقية و تشتمل على الشكوى من أمر الخلافة ثم ترجيح صبره عنها ثم مبايعة الناس له

متن ترجمه آیتی ترجمه شهیدی ترجمه معادیخواه تفسیر منهاج البرائه خویی تفسیر ابن ابی الحدید تفسیر ابن میثم

[ 151 ] 3 و من خطبة له و هي المعروفة بالشقشقية أَمَا وَ اَللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلاَنٌ [ اِبْنُ أَبِي قُحَافَةَ ] اِبْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنْ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ اَلْقُطْبِ مِنَ اَلرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي اَلسَّيْلُ وَ لاَ يَرْقَى إِلَيَّ اَلطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ [ جِدٍّ ] أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ [ ظَلْمَةٍ ] عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا اَلْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا اَلصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ فَرَأَيْتُ أَنَّ اَلصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَ فِي اَلْعَيْنِ قَذًى وَ فِي اَلْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً سدلت دونها ثوبا أي أرخيت يقول ضربت بيني و بينها حجابا فعل الزاهد فيها الراغب عنها و طويت عنها كشحا أي قطعتها و صرمتها و هو مثل قالوا لأن من كان إلى جانبك الأيمن ماثلا فطويت كشحك الأيسر فقد ملت عنه و الكشح ما بين الخاصرة و الجنب و عندي أنهم أرادوا غير ذلك و هو أن من أجاع نفسه فقد طوى كشحه كما أن من أكل و شبع فقد ملأ كشحه فكأنه أراد أني أجعت نفسي عنها و لم ألقمها و اليد الجذاء بالدال المهملة و بالذال المعجمة و الحاء المهملة مع الذال المعجمة كله بمعنى المقطوعة و الطخية قطعة من الغيم و السحاب و قوله عمياء تأكيد لظلام الحال و اسودادها يقولون مفازة عمياء أي يعمى فيها الدليل [ 152 ] و يكدح يسعى و يكد مع مشقة قال تعالى إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً و هاتا بمعنى هذه ها للتنبيه و تا للإشارة و معنى تا ذي و هذا أحجى من كذا أي أليق بالحجا و هو العقل . و في هذا الفصل من باب البديع في علم البيان عشرة ألفاظ . أولها قوله لقد تقمصها أي جعلها كالقميص مشتملة عليه و الضمير للخلافة و لم يذكرها للعلم بها كقوله سبحانه حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ و كقوله كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ و كقول حاتم أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما و ضاق بها الصدر و هذه اللفظة مأخوذة من كتاب الله تعالى في قوله سبحانه وَ لِباسُ اَلتَّقْوى‏ و قول النابغة تسربل سربالا من النصر و ارتدى عليه بعضب في الكريهة قاصل الثانية قوله ينحدر عني السيل يعني رفعة منزلته ع كأنه في ذروة جبل أو يفاع مشرف ينحدر السيل عنه إلى الوهاد و الغيطان قال الهذلي و عيطاء يكثر فيها الزليل و ينحدر السيل عنها انحدارا الثالثة قوله ع و لا يرقى إلي الطير هذه أعظم في الرفعة و العلو من التي قبلها لأن السيل ينحدر عن الرابية و الهضبة و أما تعذر رقي الطير فربما يكون للقلال الشاهقة جدا بل ما هو أعلى من قلال الجبال كأنه يقول إني لعلو منزلتي كمن في السماء التي يستحيل أن يرقى الطير إليها قال أبو الطيب فوق السماء و فوق ما طلبوا فإذا أرادوا غاية نزلوا [ 153 ] و قال حبيب مكارم لجت في علو كأنما تحاول ثأرا عند بعض الكواكب الرابعة قوله سدلت دونها ثوبا قد ذكرناه . الخامسة قوله و طويت عنها كشحا قد ذكرناه أيضا . السادسة قوله أصول بيد جذاء قد ذكرناه . السابعة قوله أصبر على طخية عمياء قد ذكرناه أيضا . الثامنة قوله و في العين قذى أي صبرت على مضض كما يصبر الأرمد . التاسعة قوله و في الحلق شجا و هو ما يعترض في الحلق أي كما يصبر من غص بأمر فهو يكابد الخنق . العاشرة قوله أرى تراثي نهبا كنى عن الخلافة بالتراث و هو الموروث من المال . فأما قوله ع إن محلي منها محل القطب من الرحى فليس من هذا النمط الذي نحن فيه و لكنه تشبيه محض خارج من باب الاستعارة و التوسع يقول كما أن الرحى لا تدور إلا على القطب و دورانها بغير قطب لا ثمرة له و لا فائدة فيه كذلك نسبتي إلى الخلافة فإنها لا تقوم إلا بي و لا يدور أمرها إلا علي . هكذا فسروه و عندي أنه أراد أمرا آخر و هو أني من الخلافة في الصميم و في وسطها و بحبوحتها كما أن القطب وسط دائرة الرحى قال الراجز [ 154 ] على قلاص مثل خيطان السلم إذا قطعن علما بدا علم حتى أنحناها إلى باب الحكم خليفة الحجاج غير المتهم في سرة المجد و بحبوح الكرم و قال أمية بن أبي الصلت لعبد الله بن جدعان فحللت منها بالبطاح و حل غيرك بالظواهر و أما قوله يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير فيمكن أن يكون من باب الحقائق و يمكن أن يكون من باب المجازات و الاستعارات أما الأول فإنه يعني به طول مدة ولاية المتقدمين عليه فإنها مدة يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير . و أما الثاني فإنه يعني بذلك صعوبة تلك الأيام حتى أن الكبير من الناس يكاد يهرم لصعوبتها و الصغير يشيب من أهوالها كقولهم هذا أمر يشيب له الوليد و إن لم يشب على الحقيقة . [ 155 ] و اعلم أن في الكلام تقديما و تأخيرا و تقديره و لا يرقى إلي الطير فطفقت أرتئي بين كذا و كذا فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فسدلت دونها ثوبا و طويت عنها كشحا ثم فصبرت و في العين قذى إلى آخر القصة لأنه لا يجوز أن يسدل دونها ثوبا و يطوي عنها كشحا ثم يطفق يرتئي بين أن ينابذهم أو يصبر أ لا ترى أنه إذا سدل دونها ثوبا و طوى عنها كشحا فقد تركها و صرمها و من يترك و يصرم لا يرتئي في المنابذة و التقديم و التأخير طريق لاحب و سبيل مهيع في لغة العرب قال سبحانه اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلى‏ عَبْدِهِ اَلْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً أي أنزل على عبده الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا و هذا كثير . و قوله ع حتى يلقى ربه بالوقف و الإسكان كما جاءت به الرواية في قوله سبحانه ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ بالوقف أيضا نسب أبي بكر و نبذة من أخبار أبيه ابن أبي قحافة المشار إليه هو أبو بكر و اسمه القديم عبد الكعبة فسماه رسول الله ص عبد الله و اختلفوا في عتيق فقيل كان اسمه في الجاهلية و قيل بل سماه به رسول الله ص و اسم أبي قحافة عثمان و هو عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب و أمه ابنة عم أبيه و هي أم الخير بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد أسلم أبو قحافة يوم الفتح جاء به ابنه أبو بكر إلى النبي ص و هو شيخ كبير رأسه كالثغامة البيضاء فأسلم فقال رسول الله ص غيروا شيبته . [ 156 ] و ولي ابنه الخلافة و هو حي منقطع في بيته مكفوف عاجز عن الحركة فسمع ضوضاء الناس فقال ما الخبر فقالوا ولي ابنك الخلافة فقال رضيت بنو عبد مناف بذلك قالوا نعم قال اللهم لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت . و لم يل الخلافة من أبوه حي إلا أبو بكر و أبو بكر عبد الكريم الطائع لله ولي الأمر و أبوه المطيع حي خلع نفسه من الخلافة و عهد بها إلى ابنه و كان المنصور يسمي عبد الله بن الحسن بن الحسن أبا قحافة تهكما به لأن ابنه محمدا ادعى الخلافة و أبوه حي . و مات أبو بكر و أبو قحافة حي فسمع الأصوات فسأل فقيل مات ابنك فقال رزء جليل و توفي أبو قحافة في أيام عمر في سنة أربع عشرة للهجرة و عمره سبع و تسعون سنة و هي السنة التي توفي فيها نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم . إن قيل بينوا لنا ما عندكم في هذا الكلام أ ليس صريحه دالا على تظليم القوم و نسبتهم إلى اغتصاب الأمر فما قولكم في ذلك إن حكمتم عليهم بذلك فقد طعنتم فيهم و إن لم تحكموا عليهم بذلك فقد طعنتم في المتظلم المتكلم عليهم . قيل أما الإمامية من الشيعة فتجري هذه الألفاظ على ظواهرها و تذهب إلى أن النبي ص نص على أمير المؤمنين ع و أنه غصب حقه . [ 157 ] و أما أصحابنا رحمهم الله فلهم أن يقولوا إنه لما كان أمير المؤمنين ع هو الأفضل و الأحق و عدل عنه إلى من لا يساويه في فضل و لا يوازيه في جهاد و علم و لا يماثله في سؤدد و شرف ساغ إطلاق هذه الألفاظ و إن كان من وسم بالخلافة قبله عدلا تقيا و كانت بيعته بيعة صحيحة أ لا ترى أن البلد قد يكون فيه فقيهان أحدهما أعلم من الآخر بطبقات كثيرة فيجعل السلطان الأنقص علما منهما قاضيا فيتوجد الأعلم و يتألم و ينفث أحيانا بالشكوى و لا يكون ذلك طعنا في القاضي و لا تفسيقا له و لا حكما منه بأنه غير صالح بل للعدول عن الأحق و الأولى و هذا أمر مركوز في طباع البشر و مجبول في أصل الغريزة و الفطرة فأصحابنا رحمهم الله لما أحسنوا الظن بالصحابة و حملوا ما وقع منهم على وجه الصواب و أنهم نظروا إلى مصلحة الإسلام و خافوا فتنة لا تقتصر على ذهاب الخلافة فقط بل و تفضي إلى ذهاب النبوة و الملة فعدلوا عن الأفضل الأشرف الأحق إلى فاضل آخر دونه فعقدوا له احتاجوا إلى تأويل هذه الألفاظ الصادرة عمن يعتقدونه في الجلالة و الرفعة قريبا من منزلة النبوة فتأولوها بهذا التأويل و حملوها على التألم للعدول عن الأولى . و ليس هذا بأبعد من تأويل الإمامية قوله تعالى وَ عَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‏ و قولهم معنى عصى أنه عدل عن الأولى لأن الأمر بترك أكل الشجرة كان أمرا على سبيل الندب فلما تركه آدم كان تاركا للأفضل و الأولى فسمي عاصيا باعتبار مخالفة الأولى و حملوا غوى على خاب لا على الغواية بمعنى الضلال و معلوم أن تأويل كلام أمير المؤمنين ع و حمله على أنه شكا من تركهم الأولى أحسن من حمل قوله تعالى وَ عَصى‏ آدَمُ على أنه ترك الأولى . [ 158 ] إن قيل لا تخلو الصحابة إما أن تكون عدلت عن الأفضل لعلة و مانع في الأفضل أو لا لمانع فإن كان لا لمانع كان ذلك عقدا للمفضول بالهوى فيكون باطلا و إن كان لمانع و هو ما تذكرونه من خوف الفتنة و كون الناس كانوا يبغضون عليا ع و يحسدونه فقد كان يجب أن يعذرهم أمير المؤمنين ع في العدول عنه و يعلم أن العقد لغيره هو المصلحة للإسلام فكيف حسن منه أن يشكوهم بعد ذلك و يتوجد عليهم . و أيضا فما معنى قوله فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء على ما تأولتم به كلامه فإن تارك الأولى لا يصال عليه بالحرب . قيل يجوز أن يكون أمير المؤمنين ع لم يغلب على ظنه ما غلب على ظنون الصحابة من الشغب و ثوران الفتنة و الظنون تختلف باختلاف الأمارات فرب إنسان يغلب على ظنه أمر يغلب على ظن غيره خلافه و أما قوله أرتئي بين أن أصول فيجوز أن يكون لم يعن به صيال الحرب بل صيال الجدل و المناظرة يبين ذلك أنه لو كان جادلهم و أظهر ما في نفسه لهم فربما خصموه بأن يقولوا له قد غلب على ظنوننا أن الفساد يعظم و يتفاقم إن وليت الأمر و لا يجوز مع غلبة ظنوننا لذلك أن نسلم الأمر إليك فهو ع قال طفقت أرتئي بين أن أذكر لهم فضائلي عليهم و أحاجهم بها فيجيبوني بهذا الضرب من الجواب الذي تصير حجتي به جذاء مقطوعة و لا قدرة لي على تشييدها و نصرتها و بين أن أصبر على ما منيت به و دفعت إليه . إن قيل إذا كان ع لم يغلب على ظنه وجود العلة و المانع فيه و قد استراب الصحابة و شكاهم لعدولهم عن الأفضل الذي لا علة فيه عنده فقد سلمتم أنه ظلم الصحابة و نسبهم إلى غصب حقه فما الفرق بين ذلك و بين أن يستظلمهم لمخالفة النص و كيف [ 159 ] هربتم من نسبته لهم إلى الظلم لدفع النص و وقعتم في نسبته لهم إلى الظلم لخلاف الأولى من غير علة في الأولى و معلوم أن مخالفة الأولى من غير علة في الأولى كتارك النص لأن العقد في كلا الموضعين يكون فاسدا . قيل الفرق بين الأمرين ظاهر لأنه ع لو نسبهم إلى مخالفة النص لوجب وجود النص و لو كان النص موجودا لكانوا فساقا أو كفارا لمخالفته و أما إذا نسبهم إلى ترك الأولى من غير علة في الأولى فقد نسبهم إلى أمر يدعون فيه خلاف ما يدعي ع و أحد الأمرين لازم و هو إما أن يكون ظنهم صحيحا أو غير صحيح فإن كان ظنهم هو الصحيح فلا كلام في المسألة و إن لم يكن ظنهم صحيحا كانوا كالمجتهد إذا ظن و أخطأ فإنه معذور و مخالفة النص أمر خارج عن هذا الباب لأن مخالفه غير معذور بحال فافترق المحملان مرض رسول الله و أمره أسامة بن زيد على الجيش لما مرض رسول الله ص مرض الموت دعا أسامة بن زيد بن حارثة فقال سر إلى مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك على هذا الجيش و إن أظفرك الله بالعدو فأقلل اللبث و بث العيون و قدم الطلائع فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين و الأنصار إلا كان في ذلك الجيش منهم أبو بكر و عمر فتكلم قوم و قالوا يستعمل هذا الغلام على جلة المهاجرين و الأنصار فغضب رسول الله ص لما سمع ذلك و خرج عاصبا رأسه فصعد المنبر و عليه قطيفة فقال أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة لئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله و ايم الله إن كان لخليقا بالإمارة و ابنه من بعده لخليق بها [ 160 ] و إنهما لمن أحب الناس إلي فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم ثم نزل و دخل بيته و جاء المسلمون يودعون رسول الله ص و يمضون إلى عسكر أسامة بالجرف . و ثقل رسول الله ص و اشتد ما يجده فأرسل بعض نسائه إلى أسامة و بعض من كان معه يعلمونهم ذلك فدخل أسامة من معسكره و النبي ص مغمور و هو اليوم الذي لدوه فيه فتطأطأ أسامة عليه فقبله و رسول الله ص قد أسكت فهو لا يتكلم فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة كالداعي له ثم أشار إليه بالرجوع إلى عسكره و التوجه لما بعثه فيه فرجع أسامة إلى عسكره ثم أرسل نساء رسول الله ص إلى أسامة يأمرنه بالدخول و يقلن إن رسول الله ص قد أصبح بارئا فدخل أسامة من معسكره يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول فوجد رسول الله ص مفيقا فأمره بالخروج و تعجيل النفوذ و قال اغد على بركة الله و جعل يقول أنفذوا بعث أسامة و يكرر ذلك فودع رسول الله ص و خرج و معه أبو بكر و عمر فلما ركب جاءه رسول أم أيمن فقال إن رسول الله ص يموت فأقبل و معه أبو بكر و عمر و أبو عبيدة فانتهوا إلى رسول الله ص حين زالت الشمس من هذا اليوم و هو يوم الإثنين و قد مات و اللواء مع بريدة بن الحصيب فدخل باللواء فركزه عند باب رسول الله ص و هو مغلق و علي ع و بعض بني هاشم مشتغلون بإعداد جهازه و غسله فقال العباس لعلي و هما في الدار امدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله فلا يختلف عليك [ 161 ] اثنان فقال له أ و يطمع يا عم فيها طامع غيري قال ستعلم فلم يلبثا أن جاءتهما الأخبار بأن الأنصار أقعدت سعدا لتبايعه و أن عمر جاء بأبي بكر فبايعه و سبق الأنصار بالبيعة فندم علي ع على تفريطه في أمر البيعة و تقاعده عنها و أنشده العباس قول دريد أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد و تزعم الشيعة أن رسول الله ص كان يعلم موته و أنه سير أبا بكر و عمر في بعث أسامة لتخلو دار الهجرة منهما فيصفو الأمر لعلي ع و يبايعه من تخلف من المسلمين بالمدينة على سكون و طمأنينة فإذا جاءهما الخبر بموت رسول الله ص و بيعة الناس لعلي ع بعده كانا عن المنازعة و الخلاف أبعد لأن العرب كانت تلتزم بإتمام تلك البيعة و يحتاج في نقضها إلى حروب شديدة فلم يتم له ما قدر و تثاقل أسامة بالجيش أياما مع شدة حث رسول الله ص على نفوذه و خروجه بالجيش حتى مات ص و هما بالمدينة فسبقا عليا إلى البيعة و جرى ما جرى . و هذا عندي غير منقدح لأنه إن كان ص يعلم موته فهو أيضا يعلم أن أبا بكر سيلي الخلافة و ما يعلمه لا يحترس منه و إنما يتم هذا و يصح إذا فرضنا أنه ع كان يظن موته و لا يعلمه حقيقة و يظن أن أبا بكر و عمر يتمالآن على ابن عمه و يخاف وقوع ذلك منهما و لا يعلمه حقيقة فيجوز إن كانت الحال هكذا أن ينقدح هذا التوهم و يتطرق هذا الظن كالواحد منا له ولدان يخاف من أحدهما [ 162 ] أن يتغلب بعد موته على جميع ماله و لا يوصل أخاه إلى شي‏ء من حقه فإنه قد يخطر له عند مرضه الذي يتخوف أن يموت فيه أن يأمر الولد المخوف جانبه بالسفر إلى بلد بعيد في تجارة يسلمها إليه يجعل ذلك طريقا إلى دفع تغلبه على الولد الآخر : حَتَّى مَضَى اَلْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلاَنٍ اِبْنِ اَلْخَطَّابِ بَعْدَهُ ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ اَلْأَعْشَى إِلَى اِبْنِ اَلْخَطَّابِ شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا وَ يَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآِخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا [ كَلاَمُهَا ] وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَ يَكْثُرُ اَلْعِثَارُ فِيهَا وَ اَلاِعْتِذَارُ مِنْهَا فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ اَلصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ اَلنَّاسُ لَعَمْرُ اَللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اِعْتِرَاضٍ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ اَلْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ اَلْمِحْنَةِ مضى لسبيله مات و السبيل الطريق و تقديره مضى على سبيله و تجي‏ء اللام بمعنى على كقوله فخر صريعا لليدين و للفم و قوله فأدلى بها من قوله تعالى وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [ 163 ] وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكَّامِ أي تدفعوها إليهم رشوة و أصله من أدليت الدلو في البئر أرسلتها . فإن قلت فإن أبا بكر إنما دفعها إلى عمر حين مات و لا معنى للرشوة عند الموت . قلت لما كان ع يرى أن العدول بها عنه إلى غيره إخراج لها إلى غير جهة الاستحقاق شبه ذلك بإدلاء الإنسان بماله إلى الحاكم فإنه إخراج للمال إلى غير وجهه فكان ذلك من باب الاستعارة . عهد أبي بكر بالخلافة إلى عمر بن الخطاب و ابن الخطاب هو أبو حفص عمر الفاروق و أبوه الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب و أم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم . لما احتضر أبو بكر قال للكاتب اكتب هذا ما عهد عبد الله بن عثمان آخر عهده بالدنيا و أول عهده بالآخرة في الساعة التي يبر فيها الفاجر و يسلم فيها الكافر ثم أغمي عليه فكتب الكاتب عمر بن الخطاب ثم أفاق أبو بكر فقال اقرأ ما كتبت فقرأ و ذكر اسم عمر فقال أنى لك هذا قال ما كنت لتعدوه فقال أصبت ثم قال أتم كتابك قال ما أكتب قال اكتب و ذلك حيث أجال رأيه و أعمل فكره فرأى أن هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما يصلح به أوله و لا يحتمله إلا أفضل العرب مقدرة و أملكهم لنفسه و أشدهم في حال الشدة و أسلسهم في حال اللين و أعلمهم برأي ذوي الرأي لا يتشاغل بما لا يعنيه و لا يحزن لما لم ينزل به [ 164 ] و لا يستحي من التعلم و لا يتحير عند البديهة قوي على الأمور لا يجوز بشي‏ء منها حده عدوانا و لا تقصيرا يرصد لما هو آت عتاده من الحذر . فلما فرغ من الكتاب دخل عليه قوم من الصحابة منهم طلحة فقال له ما أنت قائل لربك غدا و قد وليت علينا فظا غليظا تفرق منه النفوس و تنفض عنه القلوب . فقال أبو بكر أسندوني و كان مستلقيا فأسندوه فقال لطلحة أ بالله تخوفني إذا قال لي ذلك غدا قلت له وليت عليهم خير أهلك . و يقال أصدق الناس فراسة ثلاثة العزيز في قوله لامرأته عن يوسف ع وَ قالَ اَلَّذِي اِشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً و ابنة شعيب حيث قالت لأبيها في موسى يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ و أبو بكر في عمر . و روى كثير من الناس أن أبا بكر لما نزل به الموت دعا عبد الرحمن بن عوف فقال أخبرني عن عمر فقال إنه أفضل من رأيك فيه إلا أن فيه غلظة فقال أبو بكر ذاك لأنه يراني رقيقا و لو قد أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه و قد رمقته إذا أنا غضبت على رجل أراني الرضا عنه و إذا لنت له أراني الشدة عليه ثم دعا عثمان بن عفان فقال أخبرني عن عمر فقال سريرته خير من علانيته و ليس فينا مثله فقال لهما لا تذكرا مما قلت لكما شيئا و لو تركت عمر لما عدوتك يا عثمان و الخيرة لك ألا تلي من أمورهم شيئا و لوددت أني كنت من أموركم خلوا و كنت فيمن مضى من سلفكم و دخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر فقال إنه بلغني أنك يا خليفة [ 165 ] رسول الله استخلفت على الناس عمر و قد رأيت ما يلقى الناس منه و أنت معه فكيف به إذا خلا بهم و أنت غدا لاق ربك فيسألك عن رعيتك فقال أبو بكر أجلسوني ثم قال أ بالله تخوفني إذا لقيت ربي فسألني قلت استخلفت عليهم خير أهلك فقال طلحة أ عمر خير الناس يا خليفة رسول الله فاشتد غضبه و قال إي و الله هو خيرهم و أنت شرهم أما و الله لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك و لرفعت نفسك فوق قدرها حتى يكون الله هو الذي يضعها أتيتني و قد دلكت عينك تريد أن تفتنني عن ديني و تزيلني عن رأيي قم لا أقام الله رجليك أما و الله لئن عشت فواق ناقة و بلغني أنك غمصته فيها أو ذكرته بسوء لألحقنك بمحمضات قنة حيث كنتم تسقون و لا تروون و ترعون و لا تشبعون و أنتم بذلك بجحون راضون فقام طلحة فخرج . أحضر أبو بكر عثمان و هو يجود بنفسه فأمره أن يكتب عهدا و قال اكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد عبد الله بن عثمان إلى المسلمين أما بعد ثم أغمي عليه و كتب عثمان قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب و أفاق أبو بكر فقال اقرأ فقرأه فكبر أبو بكر و سر و قال أراك خفت أن يختلف الناس أن مت في غشيتي قال نعم قال جزاك الله خيرا عن الإسلام و أهله ثم أتم العهد و أمر أن يقرأ على الناس فقرئ عليهم ثم أوصى عمر فقال له إن لله حقا بالليل لا يقبله في النهار و حقا في النهار لا يقبله بالليل و إنه لا يقبل نافلة ما لم تؤد الفريضة و إنما ثقلت موازين من اتبع الحق مع ثقله عليه و إنما خفت موازين من اتبع الباطل لخفته عليه إنما أنزلت آية الرخاء مع آية الشدة لئلا يرغب المؤمن رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له و لئلا [ 166 ] يرهب رهبة يلقى فيها بيده فإن حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت و لست معجزة ثم توفي أبو بكر . دعا أبو بكر عمر يوم موته بعد عهده إليه فقال إني لأرجو أن أموت في يومي هذا فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى بن حارثة و إن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس معه و لا تشغلنكم مصيبة عن دينكم و قد رأيتني متوفى رسول الله ص كيف صنعت . و توفي أبو بكر ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة . و أما البيت الذي تمثل به ع فإنه للأعشى الكبير أعشى قيس و هو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل من القصيدة التي قالها في منافرة علقمة بن علاثة و عامر بن الطفيل و أولها علقم ما أنت إلى عامر الناقض الأوتار و الواتر يقول فيها و قد أسلي الهم إذ يعتري بجسرة دوسرة عاقر زيافة بالرحل خطارة تلوي بشرخي ميسة قاتر شرخا الرحل مقدمه و مؤخره و الميس شجر يتخذ منه الرحال و رحل قاتر جيد الوقوع على ظهر البعير [ 167 ] شتان ما يومي على كورها و يوم حيان أخي جابر أرمي بها البيداء إذ هجرت و أنت بين القرو و العاصر في مجدل شيد بنيانه يزل عنه ظفر الطائر تقول شتان ما هما و شتان هما و لا يجوز شتان ما بينهما إلا على قول ضعيف . و شتان أصله شتت كوشكان ذا خروجا من وشك و حيان و جابر ابنا السمين الحنفيان و كان حيان صاحب شراب و معاقرة خمر و كان نديم الأعشى و كان أخوه جابر أصغر سنا منه فيقال إن حيان قال للأعشى نسبتني إلى أخي و هو أصغر سنا مني فقال إن الروي اضطرني إلى ذلك فقال و الله لا نازعتك كأسا أبدا ما عشت يقول شتان يومي و أنا في الهاجرة و الرمضاء أسير على كور هذه الناقة و يوم حيان و هو في سكرة الشراب ناعم البال مرفه من الأكدار و المشاق و القرو شبه حوض يتخذ من جذع أو من شجر ينبذ فيه و العاصر الذي يعتصر العنب و المجدل الحصن المنيع . و شبيه بهذا المعنى قول الفضل بن الربيع في أيام فتنة الأمين يذكر حاله و حال أخيه المأمون إنما نحن شعب من أصل إن قوي قوينا و إن ضعف ضعفنا و إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء يشاور النساء و يقدم على الرؤيا قد أمكن أهل الخسارة و اللهو من سمعه فهم يمنونه الظفر و يعدونه عقب الأيام و الهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل ينام نوم الظربان و ينتبه انتباه الذئب همه بطنه و فرجه لا يفكر في زوال نعمة و لا يروى في إمضاء رأي و لا مكيدة قد شمر له عبد الله [ 168 ] عن ساقه و فوق إليه أسد سهامه يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ و الموت القاصد قد عبا له المنايا على متون الخيل و ناط له البلايا بأسنة الرماح و شفار السيوف فهو كما قال الشاعر لشتان ما بيني و بين ابن خالد أمية في الرزق الذي الله يقسم يقارع أتراك ابن خاقان ليله إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم و آخذها حمراء كالمسك ريحها لها أرج من دنها يتنسم فيصبح من طول الطراد و جسمه نحيل و أضحي في النعيم أصمم و أمية المذكور في هذا الشعر هو أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس كان والي خراسان و حارب الترك و الشعر للبعيث . يقول أمير المؤمنين ع شتان بين يومي في الخلافة مع ما انتقض علي من الأمر و منيت به من انتشار الحبل و اضطراب أركان الخلافة و بين يوم عمر حيث وليها على قاعدة ممهدة و أركان ثابتة و سكون شامل فانتظم أمره و اطرد حاله و سكنت أيامه . قوله ع فيا عجبا أصله فيا عجبي كقولك يا غلامي ثم قلبوا الياء ألفا فقالوا يا عجبا كقولهم يا غلاما فإن وقفت وقفت على هاء السكت فقلت يا عجباه و يا غلاماه قال العجب منه و هو يستقيل المسلمين من الخلافة أيام حياته فيقول أقيلوني ثم يعقدها عند وفاته لآخر و هذا يناقض الزهد فيها و الاستقالة منها و قال شاعر من شعراء الشيعة حملوها يوم السقيفة أوزارا تخف الجبال و هي ثقال [ 169 ] ثم جاءوا من بعدها يستقيلون و هيهات عثرة لا تقال و قد اختلف الرواة في هذه اللفظة فكثير من الناس رواها أقيلوني فلست بخيركم و من الناس من أنكر هذه اللفظة و لم يروها و إنما روى قوله وليتكم و لست بخيركم و احتج بذلك من لم يشترط الأفضلية في الإمامة و من رواها اعتذر لأبي بكر فقال إنما قال أقيلوني ليثور ما في نفوس الناس من بيعته و يخبر ما عندهم من ولايته فيعلم مريدهم و كارههم و محبهم و مبغضهم فلما رأى النفوس إليه ساكنة و القلوب لبيعته مذعنة استمر على إمارته و حكم حكم الخلفاء في رعيته و لم يكن منكرا منه أن يعهد إلى من استصلحه لخلافته . قالوا و قد جرى مثل ذلك لعلي ع فإنه قال للناس بعد قتل عثمان دعوني و التمسوا غيري فأنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا و قال لهم اتركوني فأنا كأحدكم بل أنا أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم فأبوا عليه و بايعوه فكرهها أولا ثم عهد بها إلى الحسن ع عند موته . قالت الإمامية هذا غير لازم و الفرق بين الموضعين ظاهر لأن عليا ع لم يقل إني لا أصلح و لكنه كره الفتنة و أبو بكر قال كلاما معناه أني لا أصلح لها لقوله لست بخيركم و من نفى عن نفسه صلاحيته للإمامة لا يجوز أن يعهد بها إلى غيره . و اعلم أن الكلام في هذا الموضع مبني على أن الأفضلية هل هي شرط في الإمامة أم لا و قد تكلمنا في شرح الغرر لشيخنا أبي الحسين رحمه الله تعالى في هذا البحث بما لا يحتمله هذا الكتاب [ 170 ] و قوله ع لشد ما تشطرا ضرعيها شد أصله شدد كقولك حب في حبذا أصله حبب و معنى شد صار شديدا جدا و معنى حب صار حبيبا قال البحتري شد ما أغريت ظلوم بهجري بعد وجدي بها و غلة صدري و للناقة أربعة أخلاف خلفان قادمان و خلفان آخران و كل اثنين منهما شطر و تشطرا ضرعيها اقتسما فائدتهما و نفعهما و الضمير للخلافة و سمى القادمين معا ضرعا و سمى الآخرين معا ضرعا لما كانا لتجاورهما و لكونهما لا يحلبان إلا معا كشي‏ء واحد . قوله ع فجعلها في حوزة خشناء أي في جهة صعبة المرام شديدة الشكيمة و الكلم الجرح . و قوله يغلظ من الناس من قال كيف قال يغلظ كلمها و الكلم لا يوصف بالغلظ و هذا قلة فهم بالفصاحة أ لا ترى كيف قد وصف الله سبحانه العذاب بالغلظ فقال وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أي متضاعف لأن الغليظ من الأجسام هو ما كثف و جسم فكان أجزاؤه و جواهره متضاعفة فلما كان العذاب أعاذنا الله منه متضاعفا سمي غليظا و كذلك الجرح إذا أمعن و عمق فكأنه قد تضاعف و صار جروحا فسمي غليظا . إن قيل قد قال ع في حوزة خشناء فوصفها بالخشونة فكيف أعاد ذكر الخشونة ثانية فقال يخشن مسها . قيل الاعتبار مختلف لأن مراده بقوله في حوزة خشناء أي لا ينال ما عندها و لا يرام يقال إن فلانا لخشن الجانب و وعر الجانب و مراده بقوله يخشن [ 171 ] مسها أي تؤذي و تضر و تنكئ من يمسها يصف جفاء أخلاق الوالي المذكور و نفور طبعه و شدة بادرته . قوله ع و يكثر العثار فيها و الاعتذار منها يقول ليست هذه الجهة جددا مهيعا بل هي كطريق كثير الحجارة لا يزال الماشي فيه عاثرا . و أما منها في قوله ع و الاعتذار منها فيمكن أن تكون من على أصلها يعني أن عمر كان كثيرا ما يحكم بالأمر ثم ينقضه و يفتي بالفتيا ثم يرجع عنها و يعتذر مما أفتى به أولا و يمكن أن تكون من هاهنا للتعليل و السببية أي و يكثر اعتذار الناس عن أفعالهم و حركاتهم لأجلها قال أ من رسم دار مربع و مصيف لعينيك من ماء الشئون و كيف أي لأجل أن رسم المربع و المصيف هذه الدار و كف دمع عينيك . و الصعبة من النوق ما لم تركب و لم ترض إن أشنق لها راكبها بالزمام خرم أنفها و إن أسلس زمامها تقحم في المهالك فألقته في مهواة أو ماء أو نار أو ندت فلم تقف حتى ترديه عنها فهلك . و أشنق الرجل ناقته إذا كفها بالزمام و هو راكبها و اللغة المشهورة شنق ثلاثية و في الحديث أن طلحة أنشد قصيدة فما زال شانقا راحلته حتى كتبت له و أشنق البعير نفسه إذا رفع رأسه يتعدى و لا يتعدى و أصله من الشناق و هو خيط يشد به فم القربة . و قال الرضي أبو الحسن رحمه الله تعالى إنما قال ع أشنق لها و لم يقل أشنقها لأنه جعل ذلك في مقابلة قوله أسلس لها و هذا حسن فإنهم إذا [ 172 ] قصدوا الازدواج في الخطابة فعلوا مثل هذا قالوا الغدايا و العشايا و الأصل الغدوات جمع غدوة و قال ص ارجعن مأزورات غير مأجورات و أصله موزورات بالواو لأنه من الوزر . و قال الرضي رحمه الله تعالى و مما يشهد على أن أشنق بمعنى شنق قول عدي بن زيد العبادي ساءها ما لها تبين في الأيدي و إشناقها إلى الأعناق قلت تبين في هذا البيت فعل ماض تبين يتبين تبينا و اللام في لها تتعلق بتبين يقول ظهر لها ما في أيدينا فساءها و هذا البيت من قصيدة أولها ليس شي‏ء على المنون بباق غير وجه المسبح الخلاق و قد كان زارته بنية له صغيرة اسمها هند و هو في الحبس حبس النعمان و يداه مغلولتان إلى عنقه فأنكرت ذلك و قالت ما هذا الذي في يدك و عنقك يا أبت و بكت فقال هذا الشعر و قبل هذا البيت و لقد غمني زيارة ذي قربى صغير لقربنا مشتاق ساءها ما لها تبين في الأيدي و إشناقها إلى الأعناق أي ساءها ما ظهر لها من ذلك و يروى ساءها ما بنا تبين أي ما بان و ظهر و يروى ما بنا تبين بالرفع على أنه مضارع . و يروى إشناقها بالرفع عطفا على ما التي هي بمعنى الذي و هي فاعلة و يروى بالجر عطفا على الأيدي . [ 173 ] و قال الرضي رحمه الله تعالى أيضا و يروى أن رسول الله ص خطب الناس و هو على ناقة قد شنق لها و هي تقصع بجرتها . قلت الجرة ما يعلو من الجوف و تجتره الإبل و الدرة ما يسفل و تقصع بها تدفع و قد كان للرضي رحمه الله تعالى إذا كانت الرواية قد وردت هكذا أن يحتج بها على جواز أشنق لها فإن الفعل في الخبر قد عدي باللام لا بنفسه قوله ع فمني الناس أي بلي الناس قال منيت بزمردة كالعصا و الخبط السير على غير جادة و الشماس النفار و التلون التبدل و الاعتراض السير لا على خط مستقيم كأنه يسير عرضا في غضون سيره طولا و إنما يفعل ذلك البعير الجامح الخابط و بعير عرضي يعترض في مسيره لأنه لم يتم رياضته و في فلان عرضية أي عجرفة و صعوبة طرف من أخبار عمر بن الخطاب و كان عمر بن الخطاب صعبا عظيم الهيبة شديد السياسة لا يحابي أحدا و لا يراقب شريفا و لا مشروفا و كان أكابر الصحابة يتحامون و يتفادون من لقائه كان أبو سفيان بن حرب في مجلس عمر و هناك زياد بن سمية و كثير من الصحابة فتكلم زياد فأحسن و هو يومئذ غلام فقال علي ع و كان حاضرا لأبي سفيان و هو إلى جانبه لله هذا الغلام لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه فقال له أبو سفيان أما و الله لو عرفت أباه لعرفت أنه من خير أهلك قال و من أبوه قال أنا وضعته و الله في رحم أمه فقال علي ع فما يمنعك من استلحاقه قال أخاف هذا العير الجالس أن يخرق علي إهابي [ 174 ] و قيل لابن عباس لما أظهر قوله في العول بعد موت عمر و لم يكن قبل يظهره هلا قلت هذا و عمر حي قال هبته و كان امرأ مهابا . و استدعى عمر امرأة ليسألها عن أمر و كانت حاملا فلشدة هيبته ألقت ما في بطنها فأجهضت به جنينا ميتا فاستفتى عمر أكابر الصحابة في ذلك فقالوا لا شي‏ء عليك إنما أنت مؤدب فقال له علي ع إن كانوا راقبوك فقد غشوك و إن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا عليك غرة يعني عتق رقبة فرجع عمر و الصحابة إلى قوله . و عمر هو الذي شد بيعة أبي بكر و وقم المخالفين فيها فكسر سيف الزبير لما جرده و دفع في صدر المقداد و وطئ في السقيفة سعد بن عبادة و قال اقتلوا سعدا قتل الله سعدا و حطم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب و توعد من لجأ إلى دار فاطمة ع من الهاشميين و أخرجهم منها و لولاه لم يثبت لأبي بكر أمر و لا قامت له قائمة . و هو الذي ساس العمال و أخذ أموالهم في خلافته و ذلك من أحسن السياسات . و روى الزبير بن بكار قال لما قلد عمر عمرو بن العاص مصر بلغه أنه قد صار له مال عظيم من ناطق و صامت فكتب إليه أما بعد فقد ظهر لي من مالك ما لم يكن في رزقك و لا كان لك مال قبل أن أستعملك فأنى لك هذا فو الله لو لم يهمني في ذات الله إلا من اختان في مال الله لكثر همي و انتثر أمري و لقد كان عندي من المهاجرين الأولين من هو خير منك و لكني قلدتك رجاء غنائك فاكتب إلي من أين لك هذا المال و عجل . [ 175 ] فكتب إليه عمرو أما بعد فقد فهمت كتاب أمير المؤمنين فأما ما ظهر لي من مال فأنا قدمنا بلادا رخيصة الأسعار كثيرة الغزو فجعلنا ما أصابنا في الفضول التي اتصل بأمير المؤمنين نبؤها و و الله لو كانت خيانتك حلالا ما خنتك و قد ائتمنتني فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك و ذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير مني فإذا كان ذاك فو الله ما دققت لك يا أمير المؤمنين بابا و لا فتحت لك قفلا فكتب إليه عمر أما بعد فإني لست من تسطيرك الكتاب و تشقيقك الكلام في شي‏ء و لكنكم معشر الأمراء قعدتم على عيون الأموال و لن تعدموا عذرا و إنما تأكلون النار و تتعجلون العار و قد وجهت إليك محمد بن مسلمة فسلم إليه شطر مالك . فلما قدم محمد صنع له عمرو طعاما و دعاه فلم يأكل و قال هذه تقدمة الشر و لو جئتني بطعام الضيف لأكلت فنح عني طعامك و أحضر لي مالك فأحضره فأخذ شطره فلما رأى عمرو كثرة ما أخذ منه قال لعن الله زمانا صرت فيه عاملا لعمر و الله لقد رأيت عمر و أباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية لا تجاوز مأبض ركبتيه و على عنقه حزمة حطب و العاص بن وائل في مزررات الديباج فقال محمد إيها عنك يا عمرو فعمر و الله خير منك و أما أبوك و أبوه فإنهما في النار و لو لا الإسلام لألفيت معتلقا شاة يسرك غزرها و يسوؤك بكوؤها قال صدقت فاكتم علي قال أفعل قال الربيع بن زياد الحارثي كنت عاملا لأبي موسى الأشعري على البحرين [ 176 ] فكتب إليه عمر بالقدوم عليه هو و عماله و أن يستخلفوا جميعا فلما قدمنا المدينة أتيت يرفأ حاجب عمر فقلت يا يرفأ مسترشد و ابن سبيل أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله فأومأ إلي بالخشونة فاتخذت خفين مطارقين و لبست جبة صوف و لثت عمامتي على رأسي ثم دخلنا على عمر فصفنا بين يديه فصعد بصره فينا و صوب فلم تأخذ عينه أحدا غيري فدعاني فقال من أنت قلت الربيع بن زياد الحارثي قال و ما تتولى من أعمالنا قلت البحرين قال كم ترزق قلت ألفا قال كثير فما تصنع به قلت أتقوت منه شيئا و أعود بباقيه على أقارب لي فما فضل منهم فعلى فقراء المسلمين قال لا بأس ارجع إلى موضعك فرجعت إلى موضعي من الصف فصعد فينا و صوب فلم تقع عينه إلا علي فدعاني فقال كم سنك قلت خمس و أربعون فقال الآن حيث استحكمت ثم دعا بالطعام و أصحابي حديث عهدهم بلين العيش و قد تجوعت له فأتى بخبز يابس و أكسار بعير فجعل أصحابي يعافون ذلك و جعلت آكل فأجيد و أنا أنظر إليه و هو يلحظني من بينهم ثم سبقت مني كلمة تمنيت لها أني سخت في الأرض فقلت يا أمير المؤمنين إن الناس يحتاجون إلى صلاحك فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا فزجرني ثم قال كيف قلت فقلت يا أمير المؤمنين أن تنظر إلى قوتك من الطحين فيخبز قبل إرادتك إياه بيوم و يطبخ لك اللحم كذلك فتؤتى بالخبز لينا و باللحم غريضا فسكن من غربه و قال أ هاهنا غرت قلت نعم فقال يا ربيع إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق و سبائك و صناب و لكني رأيت الله نعى على قوم شهواتهم فقال أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ [ 177 ] فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا ثم أمر أبا موسى بإقراري و أن يستبدل بأصحابي . أسلم عمر بعد جماعة من الناس و كان سبب إسلامه أن أخته و بعلها أسلما سرا من عمر فدخل إليهما خباب بن الأرت يعلمهما الدين خفية فوشى بهم واش إلى عمر فجاء دار أخته فتوارى خباب منه داخل البيت فقال عمر ما هذه الهينمة عندكم قالت أخته ما عدا حديثا تحدثناه بيننا قال أراكما قد صبوتما قال ختنه أ رأيت إن كان هو الحق فوثب عليه عمر فوطئه وطئا شديدا فجاءت أخته فدفعته عنه فنفحها بيده فدمي وجهها ثم ندم و رق و جلس واجما فخرج إليه خباب فقال أبشر يا عمر فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله لك الليلة فإنه لم يزل يدعو منذ الليلة اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام . قال فانطلق عمر متقلدا سيفه حتى أتى إلى الدار التي فيها رسول الله ص يومئذ و هي الدار التي في أصل الصفا و على الباب حمزة و طلحة و ناس من المسلمين فوجل القوم من عمر إلا حمزة فإنه قال قد جاءنا عمر فإن يرد الله به خيرا يهده و إن يرد غير ذلك كان قتله علينا هينا و النبي ص داخل الدار يوحى إليه فسمع كلامهم فخرج حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه و حمائل سيفه و قال ما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي و النكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة اللهم هذا عمر اللهم أعز الإسلام بعمر فقال عمر أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله . مر يوما عمر في بعض شوارع المدينة فناداه إنسان ما أراك إلا تستعمل عمالك و تعهد إليهم العهود و ترى أن ذلك قد أجزأك كلا و الله إنك المأخوذ بهم إن لم تتعهدهم [ 178 ] قال ما ذاك قال عياض بن غنم يلبس اللين و يأكل الطيب و يفعل كذا و كذا قال أ ساع قال بل مؤد ما عليه فقال لمحمد بن مسلمة الحق بعياض بن غنم فأتني به كما تجده فمضى محمد بن مسلمة حتى أتى باب عياض و هو أمير على حمص و إذا عليه بواب فقال له قل لعياض على بابك رجل يريد أن يلقاك قال ما تقول قال قل له ما أقول لك فقام كالمعجب فأخبره فعرف عياض أنه أمر حدث فخرج فإذا محمد بن مسلمة فأدخله فرأى على عياض قميصا رقيقا و رداء لينا فقال إن أمير المؤمنين أمرني ألا أفارقك حتى آتيه بك كما أجدك فأقدمه على عمر و أخبره أنه وجده في عيش ناعم فأمر له بعصا و كساء و قال اذهب بهذه الغنم فأحسن رعيها فقال الموت أهون من ذلك فقال كذبت و لقد كان ترك ما كنت عليه أهون عليك من ذلك فساق الغنم بعصاه و الكساء في عنقه فلما بعد رده و قال أ رأيت إن رددتك إلى عملك أ تصنع خيرا قال نعم و الله يا أمير المؤمنين لا يبلغك مني بعدها ما تكره فرده إلى عمله فلم يبلغه عنه بعدها ما ينقمه عليه . كان الناس بعد وفاة رسول الله ص يأتون الشجرة التي كانت بيعة الرضوان تحتها فيصلون عندها فقال عمر أراكم أيها الناس رجعتم إلى العزى ألا لا أوتي منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد ثم أمر بها فقطعت . لما مات رسول الله ص و شاع بين الناس موته طاف عمر على الناس قائلا إنه لم يمت و لكنه غاب عنا كما غاب موسى عن قومه و ليرجعن فليقطعن أيدي رجال و أرجلهم يزعمون أنه مات فجعل لا يمر بأحد يقول إنه مات إلا و يخبطه و يتوعده حتى جاء أبو بكر فقال أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات [ 179 ] و من كان يعبد رب محمد فإنه حي لم يمت ثم تلا قوله تعالى أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ قالوا فو الله لكان الناس ما سمعوا هذه الآية حتى تلاها أبو بكر و قال عمر لما سمعته يتلوها هويت إلى الأرض و علمت أن رسول الله قد مات . لما قتل خالد مالك بن نويرة و نكح امرأته كان في عسكره أبو قتادة الأنصاري فركب فرسه و التحق بأبي بكر و حلف ألا يسير في جيش تحت لواء خالد أبدا فقص على أبي بكر القصة فقال أبو بكر لقد فتنت الغنائم العرب و ترك خالد ما أمر به فقال عمر إن عليك أن تقيده بمالك فسكت أبو بكر و قدم خالد فدخل المسجد و عليه ثياب قد صدئت من الحديد و في عمامته ثلاثة أسهم فلما رآه عمر قال أ رياء يا عدو الله عدوت على رجل من المسلمين فقتلته و نكحت امرأته أما و الله إن أمكنني الله منك لأرجمنك ثم تناول الأسهم من عمامته فكسرها و خالد ساكت لا يرد عليه ظنا أن ذلك عن أمر أبي بكر و رأيه فلما دخل إلى أبي بكر و حدثه صدقه فيما حكاه و قبل عذره فكان عمر يحرض أبا بكر على خالد و يشير عليه أن يقتص منه بدم مالك فقال أبو بكر إيها يا عمر ما هو بأول من أخطأ فارفع لسانك عنه ثم ودى مالكا من بيت مال المسلمين . لما صالح خالد أهل اليمامة و كتب بينه و بينهم كتاب الصلح و تزوج ابنة مجاعة بن مرارة الحنفي وصل إليه كتاب أبي بكر لعمري يا ابن أم خالد إنك لفارغ حتى تزوج النساء و حول حجرتك دماء المسلمين لم تجف بعد في كلام أغلظ له فيه فقال خالد هذا الكتاب ليس من عمل أبي بكر هذا عمل الأعيسر يعني عمر [ 180 ] عزل عمر خالدا عن إمارة حمص في سنة سبع عشرة و إقامة للناس و عقله بعمامته و نزع قلنسوته عن رأسه و قال أعلمني من أين لك هذا المال و ذلك أنه أجاز الأشعث بن قيس بعشرة آلاف درهم فقال من الأنفال و السهمان فقال لا و الله لا تعمل لي عملا بعد اليوم و شاطره ماله و كتب إلى الأمصار بعزله و قال إن الناس فتنوا به فخفت أن يوكلوا إليه و أحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع . لما أسر الهرمزان حمل إلى عمر من تستر إلى المدينة و معه رجال من المسلمين منهم الأحنف بن قيس و أنس بن مالك فأدخلوه المدينة في هيئته و تاجه و كسوته فوجدوا عمر نائما في جانب المسجد فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه فقال الهرمزان و أين عمر قالوا ها هو ذا قال أين حرسه قالوا لا حاجب له و لا حارس قال فينبغي أن يكون هذا نبيا قالوا إنه يعمل بعمل الأنبياء و استيقظ عمر فقال الهرمزان فقالوا نعم قال لا أكلمه أو لا يبقى عليه من حليته شي‏ء فرموا ما عليه و ألبسوه ثوبا صفيقا فلما كلمه عمر أمر أبا طلحة أن ينتضي سيفه و يقوم على رأسه ففعل ثم قال له ما عذرك في نقض الصلح و نكث العهد و قد كان الهرمزان صالح أولا ثم نقض و غدر فقال أخبرك قال قل قال و أنا شديد العطش فاسقني ثم أخبرك فأحضر له ماء فلما تناوله جعلت يده ترعد قال ما شأنك قال أخاف أن أمد عنقي و أنا أشرب فيقتلني سيفك قال لا بأس عليك حتى تشرب فألقى الإناء عن يده فقال ما بالك أعيدوا عليه الماء و لا تجمعوا عليه بين القتل و العطش قال إنك قد أمنتني قال كذبت قال لم أكذب قال أنس صدق يا أمير المؤمنين قال ويحك يا أنس أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور و البراء بن مالك و الله لتأتيني بالمخرج أو لأعاقبنك قال أنت يا أمير المؤمنين قلت لا بأس عليك حتى تشرب و قال له ناس من المسلمين [ 181 ] مثل قول أنس فقال للهرمزان ويحك أ تخدعني و الله لأقتلنك إلا أن تسلم ثم أومأ إلى أبي طلحة فقال الهرمزان أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله فأمنه و أنزله المدينة . سأل عمر عمرو بن معديكرب عن السلاح فقال له ما تقول في الرمح قال أخوك و ربما خانك قال فالنبل قال رسل المنايا تخطئ و تصيب قال فالدرع قال مشغلة للفارس متعبة للراجل و إنها مع ذلك لحصن حصين قال فالترس قال هو المجن و عليه تدور الدوائر قال فالسيف قال هناك قارعت أمك الهبل قال بل أمك قال و الحمى أضرعتني لك . و أول من ضرب عمر بالدرة أم فروة بنت أبي قحافة مات أبو بكر فناح النساء عليه و فيهن أخته أم فروة فنهاهن عمر مرارا و هن يعاودن فأخرج أم فروة من بينهن و علاها بالدرة فهربن و تفرقن . كان يقال درة عمر أهيب من سيف الحجاج و في الصحيح أن نسوة كن عند رسول الله ص قد كثر لغطهن فجاء عمر فهربن هيبة له فقال لهن يا عديات أنفسهن أ تهبنني و لا تهبن رسول الله قلن نعم أنت أغلظ و أفظ . و كان عمر يفتي كثيرا بالحكم ثم ينقضه و يفتي بضده و خلافه قضى في الجد مع الإخوة قضايا كثيرة مختلفة ثم خاف من الحكم في هذه المسألة فقال من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه . [ 182 ] و قال مرة لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النبي إلا ارتجعت ذلك منها فقالت له امرأة ما جعل الله لك ذلك إنه تعالى قال وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً فقال كل النساء أفقه من عمر حتى ربات الحجال أ لا تعجبون من إمام أخطأ و امرأة أصابت فاضلت إمامكم ففضلته . و مر يوما بشاب من فتيان الأنصار و هو ظمآن فاستسقاه فجدح له ماء بعسل فلم يشربه و قال إن الله تعالى يقول أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا فقال له الفتى يا أمير المؤمنين إنها ليست لك و لا لأحد من هذه القبيلة اقرأ ما قبلها وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا فقال عمر كل الناس أفقه من عمر . و قيل إن عمر كان يعس بالليل فسمع صوت رجل و امرأة في بيت فارتاب فتسور الحائط فوجد امرأة و رجلا و عندهما زق خمر فقال يا عدو الله أ كنت ترى أن الله يسترك و أنت على معصيته قال يا أمير المؤمنين إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث قال الله تعالى وَ لا تَجَسَّسُوا و قد تجسست و قال وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها و قد تسورت و قال فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا و ما سلمت . و قال متعتان كانتا على عهد رسول الله و أنا محرمهما و معاقب عليهما متعة النساء و متعة الحج و هذا الكلام و إن كان ظاهره منكرا فله عندنا مخرج و تأويل و قد ذكره أصحابنا الفقهاء في كتبهم . [ 183 ] و كان في أخلاق عمر و ألفاظه جفاء و عنجهية ظاهرة يحسبه السامع لها أنه أراد بها ما لم يكن قد أراد و يتوهم من تحكى له أنه قصد بها ظاهرا ما لم يقصده فمنها الكلمة التي قالها في مرض رسول الله ص و معاذ الله أن يقصد بها ظاهرها و لكنه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته و لم يتحفظ منها و كان الأحسن أن يقول مغمور أو مغلوب بالمرض و حاشاه أن يعني بها غير ذلك . و لجفاة الأعراب من هذا الفن كثير سمع سليمان بن عبد الملك أعرابيا يقول في سنة قحط رب العباد ما لنا و ما لكا قد كنت تسقينا فما بدا لكا أنزل علينا القطر لا أبا لكا فقال سليمان أشهد أنه لا أب له و لا صاحبه و لا ولد فأخرجه أحسن مخرج . و على نحو هذا يحتمل كلامه في صلح الحديبية لما قال للنبي ص أ لم تقل لنا ستدخلونها في ألفاظ نكره حكايتها حتى شكاه النبي ص إلى أبي بكر و حتى قال له أبو بكر الزم بغرزه فو الله إنه لرسول الله . و عمر هو الذي أغلظ على جبلة بن الأيهم حتى اضطره إلى مفارقة دار الهجرة بل مفارقة دار الإسلام كلها و عاد مرتدا داخلا في دين النصرانية لأجل لطمة لطمها و قال جبلة بعد ارتداده متندما على ما فعل تنصرت الأشراف من أجل لطمة و ما كان فيها لو صبرت لها ضرر فيا ليت أمي لم تلدني و ليتني رجعت إلى القول الذي قاله عمر [ 184 ] حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي سِتَّةٍ جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى مَتَى اِعْتَرَضَ اَلرَّيْبُ فِيَّ مَعَ اَلْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أَقْرَنُ إِلَى هَذِهِ اَلنَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَ مَالَ اَلآْخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ اللام في يا لله مفتوحة و اللام في و للشورى مكسورة لأن الأولى للمدعو و الثانية للمدعو إليه قال يا للرجال ليوم الأربعاء أما ينفك يحدث لي بعد النهي طربا اللام في للرجال مفتوحة و في ليوم مكسورة و أسف الرجل إذا دخل في الأمر الدني‏ء أصله من أسف الطائر إذا دنا من الأرض في طيرانه و الضغن الحقد . و قوله مع هن و هن أي مع أمور يكنى عنها و لا يصرح بذكرها و أكثر ما يستعمل ذلك في الشر قال على هنوات شرها متتابع يقول ع إن عمر لما طعن جعل الخلافة في ستة هو ع أحدهم ثم تعجب من ذلك فقال متى اعترض الشك في مع أبي بكر حتى أقرن بسعد بن أبي وقاص و عبد الرحمن بن عوف و أمثالهما لكني طلبت الأمر و هو موسوم بالأصاغر منهم كما طلبته أولا و هو موسوم بأكابرهم أي هو حقي فلا أستنكف من طلبه إن كان المنازع فيه جليل القدر أو صغير المنزلة . و صغا الرجل بمعنى مال الصغو الميل بالفتح و الكسر [ 185 ] قصة الشورى و صورة هذه الواقعة أن عمر لما طعنه أبو لؤلؤة و علم أنه ميت استشار فيمن يوليه الأمر بعده فأشير عليه بابنه عبد الله فقال لاها الله إذا لا يليها رجلان من ولد الخطاب حسب عمر ما حمل حسب عمر ما احتقب لاها الله لا أتحملها حيا و ميتا ثم قال إن رسول الله مات و هو راض عن هذه الستة من قريش علي و عثمان و طلحة و الزبير و سعد و عبد الرحمن بن عوف و قد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم ثم قال إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر و إن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله ص ثم قال ادعوهم لي فدعوهم فدخلوا عليه و هو ملقى على فراشه يجود بنفسه . فنظر إليهم فقال أ كلكم يطمع في الخلافة بعدي فوجموا فقال لهم ثانية فأجابه الزبير و قال و ما الذي يبعدنا منها وليتها أنت فقمت بها و لسنا دونك في قريش و لا في السابقة و لا في القرابة . قال الشيخ أبو عثمان الجاحظ و الله لو لا علمه أن عمر يموت في مجلسه ذلك لم يقدم على أن يفوه من هذا الكلام بكلمة و لا أن ينبس منه بلفظة . فقال عمر أ فلا أخبركم عن أنفسكم قال قل فإنا لو استعفيناك لم تعفنا فقال أما أنت يا زبير فوعق لقس مؤمن الرضا كافر الغضب يوما إنسان و يوما شيطان و لعلها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير أ فرأيت إن أفضت إليك فليت شعري من يكون للناس يوم تكون شيطانا و من يكون يوم تغضب و ما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمة و أنت على هذه الصفة . ثم أقبل على طلحة و كان له مبغضا منذ قال لأبي بكر يوم وفاته ما قال في عمر فقال له أقول أم أسكت قال قل فإنك لا تقول من الخير شيئا قال أما إني أعرفك منذ أصيبت إصبعك يوم أحد و البأو الذي حدث لك و لقد مات رسول الله ص [ 186 ] ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب . قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ رحمه الله تعالى الكلمة المذكورة أن طلحة لما أنزلت آية الحجاب قال بمحضر ممن نقل عنه إلى رسول الله ص ما الذي يغنيه حجابهن اليوم و سيموت غدا فننكحهن قال أبو عثمان أيضا لو قال لعمر قائل أنت قلت إن رسول الله ص مات و هو راض عن الستة فكيف تقول الآن لطلحة إنه مات ع ساخطا عليك للكلمة التي قلتها لكان قد رماه بمشاقصه و لكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا فكيف هذا . قال ثم أقبل على سعد بن أبي وقاص فقال إنما أنت صاحب مقنب من هذه المقانب تقاتل به و صاحب قنص و قوس و أسهم و ما زهرة و الخلافة و أمور الناس . ثم أقبل على عبد الرحمن بن عوف فقال و أما أنت يا عبد الرحمن فلو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك لرجح إيمانك به و لكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك و ما زهرة و هذا الأمر . ثم أقبل على علي ع فقال لله أنت لو لا دعابة فيك أما و الله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح و المحجة البيضاء ثم أقبل على عثمان فقال هيها إليك كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك فحملت بني أمية و بني أبي معيط على رقاب الناس و آثرتهم بالفي‏ء فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحا و الله لئن فعلوا لتفعلن و لئن فعلت ليفعلن ثم أخذ بناصيته فقال فإذا كان ذلك فاذكر قولي فإنه كائن . ذكر هذا الخبر كله شيخنا أبو عثمان في كتاب السفيانية و ذكره جماعة غيره في باب فراسة عمر و ذكر أبو عثمان في هذا الكتاب عقيب رواية هذا الخبر قال و روى [ 187 ] معمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال سمعت عمر بن الخطاب يقول لأهل الشورى إنكم إن تعاونتم و توازرتم و تناصحتم أكلتموها و أولادكم و إن تحاسدتم و تقاعدتم و تدابرتم و تباغضتم غلبكم على هذا الأمر معاوية بن أبي سفيان و كان معاوية حينئذ أمير الشام . ثم رجع بنا الكلام إلى تمام قصة الشورى ثم قال ادعوا إلي أبا طلحة الأنصاري فدعوه له فقال انظر يا أبا طلحة إذا عدتم من حفرتي فكن في خمسين رجلا من الأنصار حاملي سيوفكم فخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر و تعجيله و اجمعهم في بيت و قف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا و يختاروا واحدا منهم فإن اتفق خمسة و أبى واحد فاضرب عنقه و إن اتفق أربعة و أبى اثنان فاضرب أعناقهما و إن اتفق ثلاثة و خالف ثلاثة فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن فارجع إلى ما قد اتفقت عليه فإن أصرت الثلاثة الأخرى على خلافها فاضرب أعناقها و إن مضت ثلاثة أيام و لم يتفقوا على أمر فاضرب أعناق الستة و دع المسلمين يختاروا لأنفسهم . فلما دفن عمر جمعهم أبو طلحة و وقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار حاملي سيوفهم ثم تكلم القوم و تنازعوا فأول ما عمل طلحة أنه أشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان و ذلك لعلمه أن الناس لا يعدلون به عليا و عثمان و أن الخلافة لا تخلص له و هذان موجودان فأراد تقوية أمر عثمان و إضعاف جانب علي ع بهبة أمر لا انتفاع له به و لا تمكن له منه . فقال الزبير في معارضته و أنا أشهدكم على نفسي أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي و إنما فعل ذلك لأنه لما رأى عليا قد ضعف و انخزل بهبة طلحة حقه لعثمان دخلته حمية النسب لأنه ابن عمة أمير المؤمنين ع و هي صفية بنت عبد المطلب و أبو طالب خاله و إنما مال طلحة إلى عثمان لانحرافه عن علي ع باعتبار أنه [ 188 ] تيمي و ابن عم أبي بكر الصديق و قد كان حصل في نفوس بني هاشم من بني تيم حنق شديد لأجل الخلافة و كذلك صار في صدور تيم على بني هاشم و هذا أمر مركوز في طبيعة البشر و خصوصا طينة العرب و طباعها و التجربة إلى الآن تحقق ذلك فبقي من الستة أربعة . فقال سعد بن أبي وقاص و أنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبد الرحمن و ذلك لأنهما من بني زهرة و لعلم سعد أن الأمر لا يتم له فلما لم يبق إلا الثلاثة قال عبد الرحمن لعلي و عثمان أيكما يخرج نفسه من الخلافة و يكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين فلم يتكلم منهما أحد فقال عبد الرحمن أشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدهما فأمسكا فبدأ بعلي ع و قال له أبايعك على كتاب الله و سنة رسول الله و سيرة الشيخين أبي بكر و عمر فقال بل على كتاب الله و سنة رسوله و اجتهاد رأيي فعدل عنه إلى عثمان فعرض ذلك عليه فقال نعم فعاد إلى علي ع فأعاد قوله فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثا فلما رأى أن عليا غير راجع عما قاله و أن عثمان ينعم له بالإجابة صفق على يد عثمان و قال السلام عليك يا أمير المؤمنين فيقال إن عليا ع قال له و الله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه دق الله بينكما عطر منشم . قيل ففسد بعد ذلك بين عثمان و عبد الرحمن فلم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن [ 189 ] ثم نرجع إلى تفسير ألفاظ الفصل أما قوله ع فصغا رجل منهم لضغنه فإنه يعني طلحة و قال القطب الراوندي يعني سعد بن أبي وقاص لأن عليا ع قتل أباه يوم بدر و هذا خطأ فإن أباه أبو وقاص و اسمه مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب مات في الجاهلية حتف أنفه . و أما قوله و مال الآخر لصهره يعني عبد الرحمن مال إلى عثمان لأن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت تحته و أم كلثوم هذه هي أخت عثمان من أمه أروى بنت كريز . و روى القطب الراوندي أن عمر لما قال كونوا مع الثلاثة التي عبد الرحمن فيها قال ابن عباس لعلي ع ذهب الأمر منا الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان فقال علي ع و أنا أعلم ذلك و لكني أدخل معهم في الشورى لأن عمر قد أهلني الآن للخلافة و كان قبل ذلك يقول إن رسول الله ص قال إن النبوة و الإمامة لا يجتمعان في بيت فأنا أدخل في ذلك لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته الذي ذكره الراوندي غير معروف و لم ينقل عمر هذا عن رسول الله ص و لكنه قال لعبد الله بن عباس يوما يا عبد الله ما تقول منع قومكم منكم قال لا أعلم يا أمير المؤمنين قال اللهم غفرا إن قومكم كرهوا أن تجتمع لكم النبوة و الخلافة فتذهبون في السماء بذخا و شمخا لعلكم تقولون إن أبا بكر أراد الإمرة عليكم و هضمكم كلا لكنه حضره أمر لم يكن عنده أحزم مما فعل و لو لا رأي أبي بكر [ 190 ] في بعد موته لأعاد أمركم إليكم و لو فعل ما هنأكم مع قومكم إنهم لينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره . فأما الرواية التي جاءت بأن طلحة لم يكن حاضرا يوم الشورى فإن صحت فذو الضغن هو سعد بن أبي وقاص لأن أمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس و الضغينة التي عنده على علي ع من قبل أخواله الذين قتل صناديدهم و تقلد دماءهم و لم يعرف أن عليا ع قتل أحدا من بني زهرة لينسب الضغن إليه . و هذه الرواية هي التي اختارها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ قال لما طعن عمر قيل له لو استخلفت يا أمير المؤمنين فقال من أستخلف لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته و قلت لربي لو سألني سمعت نبيك يقول أبو عبيدة أمين هذه الأمة و لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته و قلت لربي إن سألني سمعت نبيك ع يقول إن سالما شديد الحب لله فقال له رجل ول عبد الله بن عمر فقال قاتلك الله و الله ما الله أردت بهذا الأمر ويحك كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته لا أرب لعمر في خلافتكم ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي إن تك خيرا فقد أصبنا منه و إن تك شرا يصرف عنا حسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد و يسأل عن أمر أمة محمد . فخرج الناس من عنده ثم راحوا إليه فقالوا له لو عهدت عهدا قال قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أولي أمركم رجلا هو أحراكم أن يحملكم على الحق [ 191 ] و أشار إلى علي ع فرهقتني غشية فرأيت رجلا يدخل جنة قد غرسها فجعل يقطف كل غضة و يانعة فيضمها إليه و يصيرها تحته فخفت أن أتحملها حيا و ميتا و علمت أن الله غالب أمره عليكم بالرهط الذي قال رسول الله عنهم إنهم من أهل الجنة ثم ذكر خمسة عليا و عثمان و عبد الرحمن و الزبير و سعدا . قال و لم يذكر في هذا المجلس طلحة و لا كان طلحة يومئذ بالمدينة ثم قال لهم انهضوا إلى حجرة عائشة فتشاوروا فيها و وضع رأسه و قد نزفه الدم فقال العباس لعلي ع لا تدخل معهم و ارفع نفسك عنهم قال إني أكره الخلاف قال إذن ترى ما تكره فدخلوا الحجرة فتناجوا حتى ارتفعت أصواتهم فقال عبد الله بن عمر إن أمير المؤمنين لم يمت بعد ففيم هذا اللغط و انتبه عمر و سمع الأصوات فقال ليصل بالناس صهيب و لا يأتين اليوم الرابع من يوم موتي إلا و عليكم أمير و ليحضر عبد الله بن عمر مشيرا و ليس له شي‏ء من الأمر و طلحة بن عبيد الله شريككم في الأمر فإن قدم إلى ثلاثة أيام فأحضروه أمركم و إلا فأرضوه و من لي برضا طلحة فقال سعد أنا لك به و لن يخالف إن شاء الله تعالى . ثم ذكر وصيته لأبي طلحة الأنصاري و ما خص به عبد الرحمن بن عوف من كون الحق في الفئة التي هو فيها و أمره بقتل من يخالف ثم خرج الناس فقال علي ع لقوم معه من بني هاشم إن أطيع فيكم قومكم من قريش لم تؤمروا أبدا و قال للعباس عدل بالأمر عني يا عم قال و ما علمك قال قرن بي عثمان و قال عمر كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلا و رجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن فسعد لا يخالف ابن عمه و عبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان فيوليها أحدهما الآخر فلو كان الآخران معي لم يغنيا شيئا فقال العباس لم أدفعك إلى شي‏ء إلا رجعت إلي [ 192 ] مستأخرا بما أكره أشرت عليك عند مرض رسول الله ص أن تسأله عن هذا الأمر فيمن هو فأبيت و أشرت عليك عند وفاته أن تعاجل البيعة فأبيت و قد أشرت عليك حين سماك عمر في الشورى اليوم أن ترفع نفسك عنها و لا تدخل معهم فيها فأبيت فاحفظ عني واحدة كلما عرض عليك القوم الأمر فقل لا إلا أن يولوك و اعلم أن هؤلاء لا يبرحون يدفعونك عن هذا الأمر حتى يقوم لك به غيرك و ايم الله لا تناله إلا بشر لا ينفع معه خير فقال ع أما إني أعلم أنهم سيولون عثمان و ليحدثن البدع و الأحداث و لئن بقي لأذكرنك و إن قتل أو مات ليتداولنها بنو أمية بينهم و إن كنت حيا لتجدني حيث تكرهون ثم تمثل حلفت برب الراقصات عشية غدون خفافا يبتدرن المحصبا ليجتلبن رهط ابن يعمر غدوة نجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا قال ثم التفت فرأى أبا طلحة الأنصاري فكره مكانه فقال أبو طلحة لا ترع أبا حسن فلما مات عمر و دفن و خلوا بأنفسهم للمشاورة في الأمر و قام أبو طلحة يحجبهم بباب البيت جاء عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة فجلسا بالباب فحصبهما سعد و أقامهما و قال إنما تريدان أن تقولا حضرنا و كنا في أصحاب الشورى . فتنافس القوم في الأمر و كثر بينهم الكلام فقال أبو طلحة أنا كنت لأن تدافعوها أخوف مني عليكم أن تنافسوها أما و الذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي وقفت لكم فاصنعوا ما بدا لكم . قال ثم إن عبد الرحمن قال لابن عمه سعد بن أبي وقاص إني قد كرهتها و سأخلع نفسي منها لأني رأيت الليلة روضة خضراء كثيرة العشب فدخل فحل ما رأيت [ 193 ] أكرم منه فمر كأنه سهم لم يلتفت إلى شي‏ء منها حتى قطعها لم يعرج و دخل بعير يتلوه تابع أثره حتى خرج منها ثم دخل فحل عبقري يجر خطامه و مضى قصد الأولين ثم دخل بعير رابع فوقع في الروضة يرتع و يخضم و لا و الله لا أكون الرابع و إن أحدا لا يقوم مقام أبي بكر و عمر فيرضى الناس عنه . ثم ذكر خلع عبد الرحمن نفسه من الأمر على أن يوليها أفضلهم في نفسه و أن عثمان أجاب إلى ذلك و أن عليا ع سكت فلما روجع رضي على موثق أعطاه عبد الرحمن أن يؤثر الحق و لا يتبع الهوى و لا يخص ذا رحم و لا يألو الأمة نصحا و أن عبد الرحمن ردد القول بين علي و عثمان متلوما و أنه خلا بسعد تارة و بالمسور بن مخرمة الزهري تارة أخرى و أجال فكره و أعمل نظره و وقف موقف الحائر بينهما قال قال علي ع لسعد بن أبي وقاص يا سعد اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ أسألك برحم ابني هذا من رسول الله ص و برحم عمي حمزة منك ألا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرا قلت رحم حمزة من سعد هي أن أم حمزة هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة و هي أيضا أم المقوم و حجفل و اسمه المغيرة و الغيداق أبناء عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف هؤلاء الأربعة بنو عبد المطلب من هالة و هالة هذه هي عمة سعد بن أبي وقاص فحمزة إذن ابن عمة سعد و سعد ابن خال حمزة . قال أبو جعفر فلما أتى اليوم الثالث جمعهم عبد الرحمن و اجتمع الناس كافة فقال عبد الرحمن أيها الناس أشيروا علي في هذين الرجلين فقال عمار بن ياسر إن أردت ألا يختلف الناس فبايع عليا ع فقال المقداد صدق عمار و إن بايعت عليا سمعنا و أطعنا فقال عبد الله بن أبي سرح إن أردت ألا تختلف قريش [ 194 ] فبايع عثمان قال عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي صدق إن بايعت عثمان سمعنا و أطعنا فشتم عمار ابن أبي سرح و قال له متى كنت تنصح الإسلام . فتكلم بنو هاشم و بنو أمية و قام عمار فقال أيها الناس إن الله أكرمكم بنبيه و أعزكم بدينه فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم فقال رجل من بني مخزوم لقد عدوت طورك يا ابن سمية و ما أنت و تأمير قريش لأنفسها فقال سعد يا عبد الرحمن افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس فحينئذ عرض عبد الرحمن على علي ع العمل بسيرة الشيخين فقال بل أجتهد برأيي فبايع عثمان بعد أن عرض عليه فقال نعم فقال علي ع ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اَللَّهُ اَلْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ و الله ما وليته الأمر إلا ليرده إليك و الله كل يوم في شأن . فقال عبد الرحمن لا تجعلن على نفسك سبيلا يا علي يعني أمر عمر أبا طلحة أن يضرب عنق المخالف فقام علي ع فخرج و قال سيبلغ الكتاب أجله فقال عمار يا عبد الرحمن أما و الله لقد تركته و إنه من الذين يقضون بالحق و به كانوا يعدلون فقال المقداد تالله ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم وا عجبا لقريش لقد تركت رجلا ما أقول و لا أعلم أن أحدا أقضى بالعدل و لا أعلم و لا أتقى منه أما و الله لو أجد أعوانا فقال عبد الرحمن اتق الله يا مقداد فإني خائف عليك الفتنة . و قال علي ع إني لأعلم ما في أنفسهم إن الناس ينظرون إلى قريش و قريش تنظر في صلاح شأنها فتقول إن ولي الأمر بنو هاشم لم يخرج منهم أبدا و ما كان في غيرهم فهو متداول في بطون قريش . قال و قدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان فتلكأ ساعة ثم بايع . [ 195 ] و روى أبو جعفر رواية أخرى أطالها و ذكر خطب أهل الشورى و ما قاله كل منهم و ذكر كلاما قاله علي ع في ذلك اليوم و هو الحمد لله الذي اختار محمدا منا نبيا و ابتعثه إلينا رسولا فنحن أهل بيت النبوة و معدن الحكمة أمان لأهل الأرض و نجاة لمن طلب إن لنا حقا إن نعطه نأخذه و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و إن طال السرى لو عهد إلينا رسول الله ص عهدا لأنفذنا عهده و لو قال لنا قولا لجالدنا عليه حتى نموت لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق و صلة رحم و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم اسمعوا كلامي و عوا منطقي عسى أن تروا هذا الأمر بعد هذا الجمع تنتضى فيه السيوف و تخان فيه العهود حتى لا يكون لكم جماعة و حتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة و شيعة لأهل الجهالة . قلت و قد ذكر الهروي في كتاب الجمع بين الغريبين قوله و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و فسره على وجهين أحدهما أن من ركب عجز البعير يعاني مشقة و يقاسي جهدا فكأنه قال و إن نمنعه نصبر على المشقة كما يصبر عليها راكب عجز البعير . و الوجه الثاني أنه أراد نتبع غيرنا كما أن راكب عجز البعير يكون رديفا لمن هو أمامه فكأنه قال و إن نمنعه نتأخر و نتبع غيرنا كما يتأخر راكب البعير . [ 196 ] و قال أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل استجيبت دعوة علي ع في عثمان و عبد الرحمن فما ماتا إلا متهاجرين متعاديين أرسل عبد الرحمن إلى عثمان يعاتبه و قال لرسوله قل له لقد وليتك ما وليتك من أمر الناس و إن لي لأمورا ما هي لك شهدت بدرا و ما شهدتها و شهدت بيعة الرضوان و ما شهدتها و فررت يوم أحد و صبرت فقال عثمان لرسوله قل له أما يوم بدر فإن رسول الله ص ردني إلى ابنته لما بها من المرض و قد كنت خرجت للذي خرجت له و لقيته عند منصرفه فبشرني بأجر مثل أجوركم و أعطاني سهما مثل سهامكم و أما بيعة الرضوان فإنه ص بعثني أستأذن قريشا في دخوله إلى مكة فلما قيل له إني قتلت بايع المسلمين على الموت لما سمعه عني و قال إن كان حيا فأنا أبايع عنه و صفق بإحدى يديه على الأخرى و قال يساري خير من يمين عثمان فيدك أفضل أم يد رسول الله ص و أما صبرك يوم أحد و فراري فلقد كان ذلك فأنزل الله تعالى العفو عني في كتابه فعيرتني بذنب غفره الله لي و نسيت من ذنوبك ما لا تدري أ غفر لك أم لم يغفر . لما بنى عثمان قصره طمار بالزوراء و صنع طعاما كثيرا و دعا الناس إليه كان فيهم عبد الرحمن فلما نظر للبناء و الطعام قال يا ابن عفان لقد صدقنا عليك ما كنا نكذب فيك و إني أستعيذ بالله من بيعتك فغضب عثمان و قال أخرجه عني يا غلام فأخرجوه و أمر الناس ألا يجالسوه فلم يكن يأتيه أحد إلا ابن عباس كان يأتيه فيتعلم منه القرآن و الفرائض و مرض عبد الرحمن فعاده عثمان و كلمه فلم يكلمه حتى مات [ 197 ] إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ اَلْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اَللَّهِ خَضْمَ خِضْمَةَ اَلْإِبِلِ نِبْتَةَ اَلرَّبِيعِ إِلَى أَنِ اِنْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ نافجا حضنيه رافعا لهما و الحضن ما بين الإبط و الكشح يقال للمتكبر جاء نافجا حضنيه و يقال لمن امتلأ بطنه طعاما جاء نافجا حضنيه و مراده ع هذا الثاني و النثيل الروث و المعتلف موضع العلف يريد أن همه الأكل و الرجيع و هذا من ممض الذم و أشد من قول الحطيئة الذي قيل إنه أهجى بيت للعرب دع المكارم لا ترحل لبغيتها و اقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي و الخضم أكل بكل الفم و ضده القضم و هو الأكل بأطراف الأسنان و قيل الخضم أكل الشي‏ء الرطب و القضم أكل الشي‏ء اليابس و المراد على التفسيرين لا يختلف و هو أنهم على قدم عظيمة من النهم و شدة الأكل و امتلاء الأفواه و قال أبو ذر رحمه الله تعالى إن بني أمية يخضمون و نقضم و الموعد لله و الماضي خضمت بالكسر و مثله قضمت . و النبتة بكسر النون كالنبات تقول نبت الرطب نباتا و نبتة و انتكث فتله انتقض و هذه استعارة و أجهز عليه عمله تمم قتله يقال أجهزت على الجريح مثل ذففت إذا أتممت قتله و كبت به بطنته كبا الجواد إذا سقط لوجهه و البطنة الإسراف في الشبع [ 198 ] نتف من أخبار عثمان بن عفان و ثالث القوم هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف كنيته أبو عمرو و أمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس . بايعه الناس بعد انقضاء الشورى و استقرار الأمر له و صحت فيه فراسة عمر فإنه أوطأ بني أمية رقاب الناس و ولاهم الولايات و أقطعهم القطائع و افتتحت إفريقية في أيامه فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان فقال عبد الرحمن بن حنبل الجمحي أحلف بالله رب الأنام ما ترك الله شيئا سدى و لكن خلقت لنا فتنة لكي نبتلى بك أو تبتلى فإن الأمينين قد بينا منار الطريق عليه الهدى فما أخذا درهما غيلة و لا جعلا درهما في هوى و أعطيت مروان خمس البلاد فهيهات سعيك ممن سعى الأمينان أبو بكر و عمر . و طلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه أربعمائة ألف درهم . و أعاد الحكم بن أبي العاص بعد أن كان رسول الله ص قد سيره ثم لم يرده أبو بكر و لا عمر و أعطاه مائة ألف درهم . و تصدق رسول الله ص بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزور على المسلمين فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم . و أقطع مروان فدك و قد كانت فاطمة ع طلبتها بعد وفاة أبيها ص [ 199 ] تارة بالميراث و تارة بالنحلة فدفعت عنها . و حمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية . و أعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح إفريقية بالمغرب و هي من طرابلس الغرب إلى طنجة من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين . و أعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال و قد كان زوجه ابنته أم أبان فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان و بكى فقال عثمان أ تبكي أن وصلت رحمي قال لا و لكن أبكي لأني أظنك أنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله ص و الله لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا فقال ألق المفاتيح يا ابن أرقم فأنا سنجد غيرك . و أتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة فقسمها كلها في بني أمية و أنكح الحارث بن الحكم ابنته عائشة فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضا بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنة . و انضم إلى هذه الأمور أمور أخرى نقمها عليه المسلمون كتسيير أبي ذر رحمه الله تعالى إلى الربذة و ضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر أضلاعه و ما أظهر من الحجاب و العدول عن طريقة عمر في إقامة الحدود و رد المظالم و كف الأيدي العادية و الانتصاب لسياسة الرعية و ختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين و اجتمع عليه كثير من أهل المدينة مع القوم الذين وصلوا من مصر لتعديد أحداثه عليه فقتلوه . و قد أجاب أصحابنا عن المطاعن في عثمان بأجوبة مشهورة مذكورة في كتبهم و الذي نقول نحن إنها و إن كانت أحداثا إلا أنها لم تبلغ المبلغ الذي يستباح به دمه [ 200 ] و قد كان الواجب عليهم أن يخلعوه من الخلافة حيث لم يستصلحوه لها و لا يعجلوا بقتله و أمير المؤمنين ع أبرأ الناس من دمه و قد صرح بذلك في كثير من كلامه من ذلك قوله ع و الله ما قتلت عثمان و لا مالأت على قتله و صدق ص : فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ وَ اَلنَّاسُ إِلَيَّ كَعُرْفِ اَلضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ اَلْحَسَنَانِ وَ شُقَّ عِطْفَايَ [ عِطَافِي ] مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ اَلْغَنَمِ فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ فَسَقَ قَسَطَ [ فَسَقَ ] آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا كَلاَمَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ حَيْثُ يَقُولُ تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بَلَى وَ اَللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا وَ لَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ اَلدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا عرف الضبع ثخين و يضرب به المثل في الازدحام و ينثالون يتتابعون مزدحمين و الحسنان الحسن و الحسين ع و العطفان الجانبان من المنكب إلى الورك و يروى عطافي و العطاف الرداء و هو أشبه بالحال إلا أن الرواية الأولى أشهر و المعنى خدش جانباي لشدة الاصطكاك منهم و الزحام و قال القطب الراوندي الحسنان إبهاما الرجل و هذا لا أعرفه . [ 201 ] و قوله كربيضة الغنم أي كالقطعة الرابضة من الغنم يصف شدة ازدحامهم حوله و جثومهم بين يديه . و قال القطب الراوندي يصف بلادتهم و نقصان عقولهم لأن الغنم توصف بقلة الفطنة و هذا التفسير بعيد و غير مناسب للحال . فأما الطائفة الناكثة فهم أصحاب الجمل و أما الطائفة الفاسقة فأصحاب صفين و سماهم رسول الله ص القاسطين و أما الطائفة المارقة فأصحاب النهروان و أشرنا نحن بقولنا سماهم رسول الله ص القاسطين إلى قوله ع ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين و هذا الخبر من دلائل نبوته ص لأنه إخبار صريح بالغيب لا يحتمل التمويه و التدليس كما تحتمله الأخبار المجملة و صدق قوله ع و المارقين قوله أولا في الخوارج يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية و صدق قوله ع الناكثين كونهم نكثوا البيعة بادئ بدء و قد كان ع يتلو وقت مبايعتهم له فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ . و أما أصحاب صفين فإنهم عند أصحابنا رحمهم الله مخلدون في النار لفسقهم فصح فيهم قوله تعالى وَ أَمَّا اَلْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً . و قوله ع حليت الدنيا في أعينهم تقول حلا الشي‏ء في فمي يحلو و حلي لعيني يحلى و الزبرج الزينة من وشي أو غيره و يقال الزبرج الذهب . فأما الآية فنحن نذكر بعض ما فيها فنقول إنه تعالى لم يعلق الوعد بترك العلو في الأرض و الفساد و لكن بترك إرادتهما و هو كقوله تعالى وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ [ 202 ] ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنَّارُ علق الوعيد بالركون إليهم و الميل معهم و هذا شديد في الوعيد . و يروى عن أمير المؤمنين ع أنه قال إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أحسن من شراك نعل صاحبه فيدخل تحت هذه الآية و يقال إن عمر بن عبد العزيز كان يرددها حتى قبض : أَمَا وَ اَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَةَ لَوْ لاَ حُضُورُ اَلْحَاضِرِ وَ قِيَامُ اَلْحُجَّةِ بِوُجُودِ اَلنَّاصِرِ وَ مَا أَخَذَ اَللَّهُ عَلَى اَلْعُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لاَ سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ فلق الحبة من قوله تعالى فالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوى‏ و النسمة كل ذي روح من البشر خاصة . قوله لو لا حضور الحاضر يمكن أن يريد به لو لا حضور البيعة فإنها بعد عقدها تتعين المحاماة عنها و يمكن أن يريد بالحاضر من حضره من الجيش الذين يستعين بهم على الحرب و الكظة بكسر الكاف ما يعتري الإنسان من الثقل و الكرب عند الامتلاء من الطعام و السغب الجوع و قولهم قد ألقى فلان حبل فلان على غاربه [ 203 ] أي تركه هملا يسرح حيث يشاء من غير وازع و لا مانع و الفقهاء يذكرون هذه اللفظة في كنايات الطلاق و عفطة عنز ما تنثره من أنفها عفطت تعفط بالكسر و أكثر ما يستعمل ذلك في النعجة فأما العنز فالمستعمل الأشهر فيها النفطة بالنون و يقولون ما له عافط و لا نافط أي نعجة و لا عنز فإن قيل أ يجوز أن يقال العفطة هاهنا الحبقة فإن ذلك يقال في العنز خاصة عفطت تعفط قيل ذلك جائز إلا أن الأحسن و الأليق بكلام أمير المؤمنين ع التفسير الأول فإن جلالته و سؤدده تقتضي أن يكون ذاك أراد لا الثاني فإن صح أنه لا يقال في العطسة عفطة إلا للنعجة قلنا إنه استعمله في العنز مجازا . يقول ع لو لا وجود من ينصرني لا كما كانت الحال عليها أولا بعد وفاة رسول الله ص فإني لم أكن حينئذ واجدا للناصر مع كوني مكلفا إلا أمكن الظالم من ظلمه لتركت الخلافة و لرفضتها الآن كما رفضتها قبل و لوجدتم هذه الدنيا عندي أهون من عطسة عنز و هذا إشارة إلى ما يقوله أصحابنا من وجوب النهي عن المنكر عند التمكن : قَالُوا وَ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اَلسَّوَادِ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى هَذَا اَلْمَوْضِعِ مِنْ خُطْبَتِهِ فَنَاوَلَهُ كِتَاباً قِيلَ إِنَّ فِيهِ مَسَائِلَ كَانَ يُرِيدُ اَلْإِجَابَةَ عَنْهَا فَأَقْبَلَ يَنْظُرُ فِيهِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ [ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ ] قَالَ لَهُ اِبْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ لَوِ اِطَّرَدَتْ مَقَالَتُكَ خُطْبَتُكَ مِنْ حَيْثُ أَفْضَيْتَ فَقَالَ هَيْهَاتَ يَا اِبْنَ عَبَّاسٍ تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ فَوَاللَّهِ مَا أَسَفْتُ عَلَى كَلاَمٍ قَطُّ كَأَسَفِي عَلَى هَذَا اَلْكَلاَمِ أَلاَّ يَكُونَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ بَلَغَ مِنْهُ حَيْثُ أَرَادَ [ 204 ] قوله عليه السلام في هذه الخطبة كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم و إن أسلس لها تقحم يريد أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام و هي تنازعه رأسها خرم أنفها و إن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها يقال أشنق الناقة إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه و شنقها أيضا ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق و إنما قال ع أشنق لها و لم يقل أشنقها لأنه جعله في مقابلة قوله أسلس لها فكأنه قال إن رفع لها رأسها بالزمام يعني أمسكه عليها و في الحديث أن رسول الله ص خطب على ناقة و قد شنق لها فهي تقصع بجرتها و من الشاهد على أن أشنق بمعنى شنق قول عدي بن زيد العبادي ساءها ما لها تبين في الأيدي و إشناقها إلى الأعناق سمي السواد سوادا لخضرته بالزروع و الأشجار و النخل و العرب تسمي الأخضر أسود قال سبحانه مُدْهامَّتانِ يريد الخضرة و قوله لو اطردت مقالتك أي أتبعت الأول قولا ثانيا من قولهم اطرد النهر إذا تتابع جريه . و قوله من حيث أفضيت أصل أفضى خرج إلى الفضاء فكأنه شبهه ع حيث سكت عما كان يقوله بمن خرج من خباء أو جدار إلى فضاء من الأرض و ذلك لأن النفس و القوى و الهمة عند ارتجال الخطب و الأشعار تجتمع إلى القلب فإذا قطع الإنسان و فرغ تفرقت و خرجت عن حجر الاجتماع و استراحت [ 205 ] و الشقشقة بالكسر فيهما شي‏ء يخرجه البعير من فيه إذا هاج و إذا قالوا للخطيب ذو شقشقة فإنما شبهوه بالفحل و الهدير صوتها . و أما قول ابن عباس ما أسفت على كلام إلى آخره فحدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث و ستمائة قال قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة فلما انتهيت إلى هذا الموضع قال لي لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له و هل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف ألا يكون بلغ من كلامه ما أراد و الله ما رجع عن الأولين و لا عن الآخرين و لا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلا رسول الله ص . قال مصدق و كان ابن الخشاب صاحب دعابة و هزل قال فقلت له أ تقول إنها منحولة فقال لا و الله و إني لأعلم أنها كلامه كما أعلم أنك مصدق قال فقلت له إن كثيرا من الناس يقولون إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى فقال أنى للرضي و لغير الرضي هذا النفس و هذا الأسلوب قد وقفنا على رسائل الرضي و عرفنا طريقته و فنه في الكلام المنثور و ما يقع مع هذا الكلام في خل و لا خمر ثم قال و الله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة و لقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها و أعرف خطوط من هو من العلماء و أهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي . قلت و قد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي [ 206 ] إمام البغداديين من المعتزلة و كان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة و وجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلمي الإمامية و هو الكتاب المشهور المعروف بكتاب الإنصاف و كان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى و مات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجودا