جستجو

و من خطبة له ع عظمة

متن ترجمه آیتی ترجمه شهیدی ترجمه معادیخواه تفسیر منهاج البرائه خویی تفسیر ابن ابی الحدید تفسیر ابن میثم

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و التاسعة و الخمسون من المختار فى باب الخطب و شرحها في فصلين : الفصل الاول أمره قضاء و حكمة ، و رضاه أمان و رحمة ، يقضي بعلم ، و يعفو بحلم ، الّلهُمّ لك الحمد على ما تأخذ و تعطي ، و على ما تعافي و تبتلي ، حمدا يكون أرضى الحمد لك ، و أحبّ الحمد إليك ، و أفضل الحمد عندك ، حمدا يملاء ما خلقت ، و يبلغ ما أردت ، حمدا لا يحجب عنك ، و لا يقصر دونك ، حمدا لا ينقطع عدده ، و لا يفنى مدده ، فلسنا نعلم كنه عظمتك إلاّ أنّا نعلم أنّك حىّ قيّوم ، لا تأخذك سنة و لا نوم ، لم ينته إليك نظر ، و لم يدركك بصر ، أدركت الأبصار ، و أحصيت الأعمال ، و أخذت بالنّواصي و الأقدام ، و ما الّذي نري [ 344 ] من خلقك ، و نعجب له من قدرتك ، و نصفه من عظيم سلطانك ، و ما تغيّب عنّا منه ، و قصرت أبصارنا عنه ، و انتهت عقولنا دونه ، و حالت سواتر الغيوب بيننا و بينه أعظم ، فمن فرغ قلبه ، و أعمل فكره ، ليعلم كيف أقمت عرشك ، و كيف ذرأت خلقك ، و كيف علّقت في الهواء سمواتك ، و كيف مددت على مور الماء أرضك رجع طرفه حسيرا ، و عقله مبهورا ، و سمعه والها ، و فكره حائرا . اللغة قال الفيومى ( عافاه ) اللّه محى عنه الأسقام و العافية اسم منه و هى مصدر جائت على فاعلة ، و مثله ناشئة اللّيل بمعنى نشوء اللّيل و الخاتمة بمعنى الختم ، و العاقبة بمعنى العقب ، و ليس لوقعتها كاذبة و ( حسر ) البصر حسورا من باب قعد كلّ لطول مدى و نحوه فهو حسير و ( بهره ) بهرا من باب نفع غلبه و منه قيل للقمر الباهر لظهوره على ساير الكواكب و ( اله ) تحيّر . الاعراب جملة لا تأخذه في محلّ النّصب على الحال ، و ما في قوله عليه السّلام : و ما الّذي نرى للاستفهام على وجه الاستحقار ، و الواو في قوله عليه السّلام : و ما تغيّب ، حاليّة و ما موصول اسمىّ بمعنى الّذي مرفوع المحلّ على الابتداء و خبره أعظم . المعنى اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة متضمّن لتعظيم اللّه سبحانه و تبجيله بجملة [ 345 ] من نعوت كماله و أوصاف جماله قال عليه السّلام ( أمره قضاء و حكمة ) يجوز أن يراد بأمره الأمر التّكويني أعني الاختراع و الاحداث ، فيكون القضاء بمعنى الانفاذ و الامضاء ، و حمله عليه حينئذ من باب المبالغة أو المصدر بمعنى الفاعل أو المفعول ، يعني أنّ أمره سبحانه نافذ و ممضى لا رادّ له و لا دافع كما قال عزّ من قائل إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . اى إذ أراد أن يكوّنه فيكون . قال الزّمخشري : فان قلت : ما حقيقة قوله : أن يقول له كن فيكون ؟ قلت : هو مجاز من الكلام و تمثيل لأنّه لا يمتنع عليه شي‏ء من المكوّنات و أنّه بمنزلة من المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع ، و المراد بالحكمة حينئذ العدل و النّظام الأكمل ، فمحصّل المعنى أنّ أمره تعالى نافذ في جميع الموجودات و المكوّنات ، متضمّن للعدل ، و مشتمل على النظام الأكمل . و يجوز أن يراد به الأمر التّكليفي فيكون القضاء بمعنى الحتم و الالزام يعنى أنّ أمره سبحانه حتم و إلزام مشتمل على الحكمة و المصلحة في المأمور به كما هو مذهب العدليّة من كون الأوامر و النّواهي تابعة للمصالح و المفاسد الكامنة الواقعيّة ، و قد تكون المصلحة في نفس الأمر دون المأمور به كما في الأوامر الابتلائيّة . و يجوز أن يكون المراد به الشّأن فيكون القضاء بمعنى الحكم ، يعني أنّ شأنه تعالى حكم و حكمة لأنّه القادر القاهر العالم العادل ، فبمقتضى قدرته و سلطانه حاكم ، و بمقتضى علمه و عدله حكيم . و كون الأمر بمعنى الشّأن قد صرّح به غير واحد منهم الزّمخشري في تفسير الآية السّابقة قال : إنّما أمره إنّما شأنه إذا أراد شيئا إذا دعاه داعى حكمة إلى تكوينه و لا صارف أن يقول له كن أن يكوّنه من غير توقّف ، فيكون فيحدث أى فهو كائن موجود لا محالة . [ 346 ] ( و رضاه أمان و رحمة ) أى أمان من النّار و رحمة للأبرار إذ رضوانه سبحانه مبدء كلّ منحة و نعمة ، و منشاء كلّ لذّة و بهجة كما قال تعالى : وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ . ( يقضى بعلم ) أى يحكم بما يحكم به لعلمه بحسن ذلك القضاء و اقتضاء الحكمة و العدل له و هو كالتفسير لقوله : أمره قضاء و حكمة ، كما أنّ قوله ( و يعفو بحلم ) بمنزلة التّفسير لقوله : و رضاه أمان و رحمة ، لأنّ العفو يعود إلى الرّضا بالطّاعة بعد تقدّم الذّنب ، و إنّما يتحقّق العفو مع القدرة على العقاب إذ العجز عن الانتقام لا يسمّى عفوا فلذلك قال : يعفو بحلم ، يعني أنّ عفوه لكونه حليما لا يستنفره الغضب . ثمّ أثنى عليه تعالى بالاعتراف بنعمه فقال ( اللّهمّ لك الحمد على ما تأخذ و تعطى و على ما تعافي و تبتلى ) أى على السّرّاء و الضّرّاء و الشّدة و الرّخاء ، و قد تقدّم تحقيق معنى الأخذ و الاعطاء ، و وجه استحقاق اللّه سبحانه للحمد بهذين الوصفين في شرح الخطبة المأة و الثّانية و الثّلاثين ، و وجه استحقاقه للحمد على البلاء و الابتلاء هناك أيضا مضافا إلى شرح الخطبة المأة و الثّالثة عشر . و أقول هنا زيادة على ما تقدّم : إنّه قد ثبت في علم الأصول أنّ اللّه عزّ و علا الغنيّ المطلق عمّا سواه و المتعالى عن الحاجة إلى ما عداه ، بل غني كلّ مخلوق بجوده ، و قوام كلّ موجود بوجوده ، فاذا جميع ما يصدر عنه سبحانه في حقّ العباد من الأخذ و الاعطاء و المعافاة و الابتلاء و الافتقار و الاغناء ليس الغرض منها جلب منفعة لذاته أو دفع مضرّة عن نفسه ، بل الغرض منها كلّها مصالح كامنة للمكلّفين و منافع عائدة إليهم يعلمها سبحانه و لا نعلمها إلاّ بعضا منها ممّا علّمنا اللّه سبحانه بالقوّة العاقلة أو بتعليم حججه ، فكم من فقير لا يصلحه إلاّ الفقر و لو استغنى لطغى ، و كم من غنيّ لا يصلحه إلاّ الغنى و لو افتقر لكفر ، و ربّ مريض لو كان معتدل المزاج لا نهمك في الشّهوات و اقتحم في الهلكات ، و كأيّن من صحيح البنية لو مرض [ 347 ] لم يصبر عليه و أحبّ المنيّة ، و هكذا جميع ما يفعله سبحانه في حقّ المكلّفين فهو في الحقيقة نعمة منه تعالى عليهم ظاهرة أو باطنة كما قال عزّ من قائل وَ أسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً فاذا ثبت أنّ هذه كلّها إنعام منه سبحانه عليهم ، و إحسان اليهم ظهر وجه استحقاقه للحمد و الثّناء عليها كلّها إذ الشّكر على النّعم فرض عقلا و نقلا هذا . و يدلّ على ما ذكرنا من كون الابتلاء منه تعالى في الحقيقة نعمة منه على العباد ما رواه في الكافي عن سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : إنّه ليكون للعبد منزلة عند اللّه فما ينالها إلاّ باحدى خصلتين : إمّا بذهاب في ماله أو ببليّة في جسده . و فيه عن يونس بن رباط قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول : إنّ أهل الحقّ لم يزالوا منذ كانوا في شدّة اما إنّ ذلك إلى مدّة قليلة و عافية طويلة . و فيه عن عبيد بن زرارة قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول إنّ المؤمن من اللّه عزّ و جلّ لبأفضل مكان ثلاثا إنّه ليبتليه بالبلاء ثمّ ينزع نفسه عضوا عضوا و هو يحمد اللّه على ذلك . ثمّ أخذ في تفخيم شأن حمده عليه و تعظيمه باعتبار كيفيّته فقال ( حمدا يكون أرضي الحمد لك ) أى أكمل رضاء منك به من غيره ( و أحبّ الحمد إليك و أفضل الحمد عندك ) أى أشدّ محبّة منك إليه و أرفع منزلة عندك من ساير المحامد لاتّصافه بالفضل و الكمال و رجحانه على ما سواه . ثمّ اتبعه بتفخيمه باعتبار كميّته فقال ( حمدا يملاء ما خلقت ) من السّماء و العرش و الأرض ( و يبلغ ما أردت ) من حيث الكثرة و الزّيادة . ثمّ بتفخيمه باعتبار الخلوص فقال ( حمدا لا يحجب عنك و لا يقصر ) أى لا يحبس ( دونك ) لخلوصه من شوب العجب و الرّيا و ساير ما يمنعه عن الوصول إلى درجة القبول و الرّضا ثمّ باعتبار مادّته فقال ( حمدا لا ينقطع عدده و لا يفنى مدده ) هذا و تكرار [ 348 ] لفظ الحمد إمّا لقصد التّعظيم كما في قوله : وَ أَصْحابُ الْيَمينِ ما أَصْحابُ الْيَمينِ و في قوله : إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَ ما أَدْريكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ . أو للتّلذّذ بذكر المكرّر كما في قول الشّاعر : سقى اللّه نجدا و السّلام على نجد و يا حبّذا نجد على الناى و البعد نظرت إلى نجد و بغداد دونه لعلّى أرى نجدا و هيهات من نجد و في قوله : تاللّه يا ظبيات القاع قلن لنا ليلاى منكنّ أم ليلى من البشر أو للاهتمام بشأنه ، ثمّ إنّه عليه السّلام لمّا بالغ في حمده سبحانه و الثّناء عليه من حيث الكيف و الكمّ و الخلوص و العدد و المدد ، و كان الحمد عبارة عن الوصف بالجميل على وجه التّعظيم و التّبجيل ، و كان ذلك موهما لمعرفة عظمة المحمود له حقّ معرفتها ، عقّب ذلك بالاعتراف بالعجز عن عرفان كنه عظمته ، تنبيها على عدم إمكان القيام بوظايف الثّناء عليه و إن بولغ فيه منتهى المبالغة ، تأسيّا بما صدر عن صدر النّبوّة من الاعتراف بالعجز حيث قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : لا احصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ، و لهذا أتى بالفاء المفيدة للتّعقيب و الاتّصال فقال ( فلسنا نعلم كنه عظمتك ) لقصور المشاعر الظّاهرة و الباطنة من المتفكّرة و المتخيّلة و غيرهما و القوّة العقلانية و إن كانت على غاية الكمال و بلغت إلى منتهى معارجها عن إدراك ذاته و اكتناه عظمته ( إلاّ أنّا نعلم ) أى لكن نعرفك بصفات جمالك و جلالك فنعلم ( أنّك حيّ قيّوم ) . قال في الكشّاف : الحىّ الباقي الّذي لا سبيل عليه للفناء و على اصطلاح المتكلّمين الّذي يصحّ أن يعلم و يقدر ، و القيّوم الدّائم القيام بتدبير الخلق و حفظه ( لا تأخذك سنة ) هى ما يتقدّم النّوم من الفتور يسمّى النّعاس ( و لا نوم ) بالطّريق الأولى و هو تأكيد للنّوم المنفي ضمنا . [ 349 ] قال الزّمخشري : و هو تأكيد للقيّوم لأنّ من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيّوما ، و منه حديث موسى عليه السّلام أنه سأل الملائكة و كان ذلك 1 من قومه كطلب الرؤية : أينام ربّنا ؟ فأوجى اللّه إليهم أن يوقظوه ثلاثا و لا يتركوه ينام ، ثمّ قال : خذ بيدك قارورتين مملوّتين فأخذهما و ألقى اللّه عليه النعاس فضرب إحديهما على الاخرى فانكسرتا ، ثمّ أوحى إليه قل لهؤلاء إنّى امسك السماوات و الأرض بقدرتي فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا . و كيف كان فالمقصود بقوله : لا تأخذك سنة و لا نوم تنزيهه تعالى عن صفات البشر و تقديسه عن لوازم المزاج الحيواني . فان قلت : مقتضى المقام أن ينفى النوم أوّلا و السنة ثانيا إذ مقام التقديس يناسبه نفى الأقوى ثمّ الأضعف كما تقول : زيد لا يقدّم على الحرام بل لا يأتي بالمكروه ، و فلان لا يفوت عنه الفرايض و لا النوافل ، كما أنّ التمجيد بالاثبات على عكس ذلك ، فيقدّم فيه غير الأبلغ على الأبلغ تقول : فلان عالم تحرير و جواد فياض . قلت : سلّمنا و لكنه قدّم سلب السنة تبعا لكلام اللّه سبحانه و ملاحظة للترتيب الطبيعي ، فانّ السنة لما كانت عبارة عن الفتور المتقدّم عن النوم فساق الكلام على طبق ما في نفس الأمر . ( لم ينته إليك نظر ) عقليّ أو بصري ( و لم يدركك بصر ) قد تقدّم تحقيق عدم امكان إدراكه تعالى بالنظر و البصر أي بالمشاعر الباطنة و الظاهرة في شرح الفصل الثاني من الخطبة الاولى و شرح الخطبة التاسعة و الأربعين و الخطبة الرّابعة و السّتين و الفصل الثّاني من الخطبة التّسعين مستوفي و أقول هنا مضافا إلى ما سبق : إنّ قوله عليه السّلام : لم يدركك بصر ، إبطال لزعم المجوّزين للرّؤية ، فانّ الامة قد اختلفوا في رؤية اللّه تعالى على أقوال ، فذهب الاماميّة و المعتزلة إلى امتناعها مطلقا ، و ذهبت المشبّهة و الكراميّة إلى جوازها ----------- ( 1 ) اى كان ذلك السؤال من طلب قومه و لاجل استدعائهم ، منه [ 350 ] منزّها عن المقابلة و الجهة و المكان . قال الاعرابي في كتاب إكمال الاكمال ناقلا عن بعض علمائهم إنّ رؤيته تعالى جايزة في الدّنيا عقلا ، و اختلف في وقوعها و في أنّه هل رآه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الاسرى أم لا ، فأنكرته عايشة و جماعة من الصّحابة و التّابعين و المتكلّمين ، و أثبت ذلك ابن عباس ، و قال : إنّ اللّه اختصّه بالرّؤية و موسى بالكلام و إبراهيم بالخلّة ، و أخذ به جماعة من السّلف ، و الأشعريّ ، و جماعة من أصحابه و ابن حنبل و كان الحسن يقسم لقد رآه ، و قد توقّف فيه جماعة ، هذا حال رؤيته في الدّنيا . و أمّا رؤيته في الآخرة فجايزة عقلا ، و أجمع على وقوعها أهل السّنة و أحالها المعتزلة و المرجئة و الخوارج ، و الفرق بين الدّنيا و الآخرة أنّ القوى و الادراكات ضعيفة في الدّنيا حتّى إذا كانوا في الآخرة و خلقهم للبقاء قوى إدراكهم فأطاقوا رؤيته ، انتهى كلامه على ما حكى عنه . و قد عرفت فيما تقدّم أنّ استحالة ذلك مطلقا هو المعلوم من مذهب أهل البيت عليهم السّلام ، و عليه إجماع الشّيعة باتّفاق المخالف و المؤالف ، و قد دلّت عليه الأدلّة العقليّة و النقليّة من الآيات و الأخبار المستفيضة ، و من جملة تلك الآيات قوله سبحانه : لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ الّلطيفُ الْخَبيرُ . استدلّ بها النّافون للرّؤية و قرّروها بوجهين : أحدهما أنّ إدراك البصر عبارة شايعة عن الادراك بالبصر إسناد للفعل إلى الآلة ، و الادراك بالبصر هو الرّؤية بمعنى اتّحاد المفهومين أو تلازمهما ، و الجمع المعرّف باللاّم عند عدم قرينة العهديّة و البعضيّة تفيد العموم و الاستغراق باجماع أهل العربيّة و الاصول و أئمّة التّفسير ، و بشهادة استعمال الفصحاء ، و صحّة الاستثناء فاللّه سبحانه قد أخبر بأنه لا يراه أحد في المستقبل ، فلو رآه المؤمنون في الجنّة لزم كذبه . [ 351 ] و اعترض عليه بأنّ اللاّم في الجمع لو كان للعموم و الاستغراق كان قوله : تدركه الابصار موجبة كلية ، و قد دخل عليها النفى فرفعها هو رفع الايجاب الكلّي و رفع الايجاب الكلّى سلب جزئيّ ، و لو لم يكن للعموم كان قوله : لا تدركه الأبصار سالبة مهملة في قوّة الجزئية فكان المعنى لا تدركه بعض الأبصار ، و نحن نقول بموجبه حيث لا يراه الكافرون ، و لو سلّم فلا نسلّم عمومه في الأحوال و الأوقات ، فيحمل على نفى الرّؤية في الدّنيا جمعا بين الأدلّة . و الجواب أنه قد تقرّر في موضعه أنّ الجمع المحلّى باللاّم عام نفيا و اثباتا في المنفيّ و المثبت كقوله تعالى : وَ مَا اللَّهُ يُريدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ وَ ما عَلَى الْمُحْسِنينَ مِنْ سَبيلٍ . حتّى أنه لم يرد في سياق النفى في شي‏ء من الكتاب الكريم إلاّ بمعنى عموم النفى و لم يرد لنفى العموم أصلا ، نعم قد اختلف في النفى الدّاخل على لفظة كلّ لكنّه في القرآن المجيد أيضا بالمعنى الذي ذكرنا كقوله تعالى : وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ . إلى غير ذلك ، و قد اعترف بما ذكرنا في شرح المقاصد و بالغ فيه . و أمّا منع عموم الأحوال و الأوقات فلا يخفى فساده ، فانّ النفى المطلق غير المقيّد لا وجه لتخصيصه ببعض الأوقات إذ لا ترجيح لبعضها على بعض ، و هو من الأدلّة على العموم عند علماء الاصول . و أيضا صحّة الاستثناء دليل عليه و هل يمنع أحد صحّة قولنا : ما كلّمت زيدا إلاّ يوم الجمعة ، و لا اكلّمه إلاّ يوم العيد و قال تعالى و لا تعضلوهنّ ، إلى قوله إلاّ أن يأتين و قال لا تخرجوهنّ إلى قوله الاّ أن يأتين و أيضا كلّ نفى ورد في القرآن بالنسبة إلى ذاته تعالى فهو للتأبيد و عموم الأوقات لا سيّما ما قبل هذه الآية . [ 352 ] و أيضا عدم إدراك الأبصار جميعا لا يختصّ بشي‏ء من الموجودات خصوصا مع اعتبار شمول الأحوال و الأوقات ، فلا يختصّ به تعالى فتعيّن أن يكون التمدّح بمعنى عدم إدراك شي‏ء من الأبصار له في شي‏ء من الأوقات . و ثانيهما أنّه تعالى تمدّح بكونه لا يرى به فانّه ذكره في أثناء المدايح و ما كان من الصّفات عدمه مدحا كان وجوده نقصا ، فيجب تنزيه اللّه تعالى بنفيه مطلقا . ثمّ لمّا نفى عنه درك الأبصار له أثبت له دركه للأبصار فقال عليه السّلام ( أدركت الأبصار و أحصيت الأعمال ) كما نطق به الكتاب العزيز قال عزّ من قائل : لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ و قال أيضا يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللّهُ جَميعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللّهُ وَ نَسُوهُ وَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهيدٌ . أى أحاط به عددا لم يغب عنه شي‏ء و نسوه لكثرته أو تهاونهم به ، و اللّه على كلّ شي‏ء شهيد أى يعلم الأشياء كلّها من جميع وجوهها لا يخفى عليه شي‏ء منها ، و قال أيضا تلو هذه الآية : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّمواتِ وَ ما فِى الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيمَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَليمٌ . [ 353 ] ثمّ وصفه سبحانه بكمال الاقتدار فقال ( و أخذت بالنّواصي و الأقدام ) أى أحاطت قدرتك بنواصى العباد و أقدامهم ، و أخذت بها على وجه القهر و الاذلال ، و يجوز أن يكون المراد به خصوص أخذ المجرمين بنواصيهم و أقدامهم يوم القيامة كما قال تعالى : يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصى وَ الْأَقْدامِ . و نسبته عليه السّلام الأخذ إلى اللّه سبحانه مع كونه فعل الملائكة من باب الاسناد إلى السبب الآمر كما أسند اللّه التوفى الى نفسه في قوله : أَللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حينَ مَوْتِها مع كونه فعل ملك الموت بدليل قوله سبحانه في سورة السجدة : قُلْ يَتَوَفَّيكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذي‏ وُكِّلَ بِكُمْ . قال الفخر الرّازي في تفسير الآية الاولى : و في كيفيّة الأخذ ظهور نكالهم لأنّ في نفس الأخذ بالنّاصية إذلالا و إهانة ، و كذلك الأخذ بالقدم . و في الأخذ بها و جهان بل قولان لأهل التّفسير . أحدهما أن يجمع بين ناصيتهم و قدمهم من جانب ظهورهم فيربط بنواصيهم أقدامهم أو من جانب وجوههم فتكون رؤوسهم على ركبهم و نواصيهم في أصابع أرجلهم مربوطة . و الثاني أنّهم يسحبون سحبا ، فبعضهم يؤخذ بناصيته ، و بعضهم يجرّ برجله ثمّ استفهم على سبيل الاستحقار لما استفهم عنه فقال ( و ما الّذي نرى من خلقك ) أى من مخلوقاتك على كثرتها و اختلاف أجناسها و أنواعها و هيئآتها و مقاديرها و خواصّها و أشكالها و ألوانها إلى غير هذه من أوصافها و حالاتها الّتي لا يضبطها عدّ و لا يحيط بها حدّ ( و نعجب له من قدرتك ) أى من مقدوراتك الغير المتناهية عددا و مددا و كيفا و كمّا ( و نصفه من عظيم سلطانك ) النّافذ في الأنفس و الآفاق ، و الماضي في أطباق الأرض و أقطار السّماء ( و ) الحال أنّ ( ما تغيّب عنّا [ 354 ] منه ) أى من مخلوقك و مقدورك و ملكك ( و قصرت أبصارنا عنه ) من محسوسات الموجودات ( و انتهت عقولنا دونه ) من معقولات المخلوقات ( و حالت سواتر الغيوب بيننا و بينه ) أى كانت سرادقات العزّة و أستار القدرة عائلة بيننا و بينه ، و حاجبة لنا من الوصول إليه من غيابات الغيوب و الغيب المحجوب . ( أعظم ) و أفخم يعني أنّه لو قيس كلّ ما شاهدناه بأبصارنا و أدركناه بعقولنا و وصفناه بألسنتنا ممّا ذرأه اللّه سبحانه في عالم الامكان إلى ما غاب عنّا من أسرار القدرة و الجلال ، و شئونات الكبرياء و الجمال لم يكن إلاّ أقلّ قليل كنسبة الجدول إلى النّهر ، بل القطرة إلى البحر ( فمن فرغ قلبه ) للنّظر في عجائب الملك و الملكوت ( و أعمل فكره ليعلم ) مشاهد العزّ و السّلطان و القدرة و الجبروت و أنّه ( كيف أقمت عرشك ) في الجوّ على عظمه ( و كيف ذرأت ) أى خلقت ( خلقك ) على كثرته ( و كيف علقت في الهواء سماواتك ) بغير عمد ( و كيف مددت على مور الماء ) أى موجه و اضطرابه ( أرضك ) على ثقلها مع عدم رسوبها فيه ( رجع طرفه حسيرا ) كليلا ( و عقله مبهورا ) مغلوبا ( و سمعه والها ) متحيّرا ( و فكره حائرا ) قاصرا عن الاهتداء إليه و عن الوصول إلى معرفته . و محصّله أنّه لو بالغ أحد في إعمال فكره و بذل وسعه للوصول إلى معرفة بعض ما أبدعه اللّه سبحانه في عالم الغيب و الشّهادة من بدايع القدرة ، و لطايف الحكمة ، و عجايب الصّنعة لعجز و حار ، و انقطع و استحار ، فكيف لو رام معرفة كلّه و يشهد على ما ذكره عليه السّلام ما قدّمنا في شرح الخطبة الأولى و في شرح الخطبة التّسعين ، فليراجع ثمّة . الترجمة از جمله خطب شريفه آن حضرتست كه فصل أوّل آن متضمّن أوصاف كمال حضرت ذوالجلالست مى‏فرمايد كه : أمر خداى تعالى حكميست لازم و موافق است با حكمت و خوشنودى آن أمانست [ 355 ] از عقوبت و سبب مغفرتست و رحمت حكم ميفرمايد بعلم شامل خود ، و عفو ميفرمايد با حلم كامل ، پروردگارا مر تو راست حمد بر آنچه مى‏گيري و مى‏دهى ، و بر آنچه كه سلامت مى‏دارى از بليّات و مبتلا مى‏نمائى بآفات ، حمد مى‏كنم تو را حمد كردنى كه باشد خوشنودترين حمدها از براى تو ، و دوست‏ترين حمدها بسوى تو و فاضلترين حمدها نزد تو ، چنان حمدى كه پر سازد آنچه را خلق كرده ، و برسد بمقامى كه مراد تو است ، حمدى كه محجوب نباشد از درگاه تو ، و ممنوع و محبوس نباشد نزد بارگاه تو ، حمديكه منقطع نشود شماره و عدد آن ، و فاني نشود مادّه و مدد آن پس نيستيم ما كه بدانيم نهايت بزرگى جلال تو را غير از اين كه مى‏دانيم كه تو زنده قائم بامور مخلوقان ، أخذ نمى‏كند تو را مقدّمه خواب كه خواب خفيف است و نه خواب گران ، منتهى نشد بسوى كمال تو نظر و فكرى ، و درك ننمود جمال تو را هيچ بصرى ، درك كردى تو بصرها را ، و در شماره آوردى عملها را ، و اخذ كردى به پيشانيها و قدمهاى مردمان . و چه چيز است آنچه كه مى‏بينيم از خلق تو و تعجّب ميكنيم از براى او از قدرت تو ، و وصف ميكنيم آن را از بزرگى پادشاهى تو و حال آنكه آنچه كه غايب شده از ما از آن ، و قاصر شده بصرهاى ما از درك آن و بنهايت رسيده عقلهاى ما نزد آن ، و حايل شده پرده‏هاى غيبها ميان ما و ميان آن بزرگتر است . پس هر كه فارغ نمايد قلب خودش را و إعمال كند فكر خود را تا بداند كه چگونه بر پا داشته عرش خود را ، و چه سان آفريده مخلوقات خود را ، و چه قرار در آويخته در هوا آسمانهاى خود را ، و چه نوع گسترانيده بر موج آب زمين خود را بر مى‏گردد بينائي او در مانده و آواره ، و عقل او مغلوب ، و قوّه سامعه او حيران ، و قوّه متفكّره او متحيّر و سرگردان . [ 356 ] الفصل الثانى ( منها ) يدّعي بزعمه أنّه يرجو اللّه ، كذب و العظيم ما باله لا يتبيّن رجاؤه في عمله ، و كلّ من رجا عرف رجآؤه في عمله إلاّ رجآء اللّه فإنّه مدخول ، و كلّ خوف محقّق إلاّ خوف اللّه فإنّه معلول ، يرجو اللّه في الكبير و يرجو العباد في الصّغير ، فيعطى العبد ما لا يعطى الرّبّ ، فما بال اللّه عزّ و جلّ يقصّر به عمّا يصنع به بعباده ، أتخاف أن تكون في رجاءك له كاذبا ، أو تكون لا تراه للرّجاء موضعا ، و كذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطى ربّه ، فجعل خوفه من العباد نقدا ، و خوفه من خالقه ضمارا و وعدا ، و كذلك من عظمت الدّنيا في عينه ، و كبر موقعها في قلبه ، آثرها على اللّه فانقطع إليها ، و صار عبدا لها . و لقد كان في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كاف لك في الاسوة ، و دليل لك على ذمّ الدّنيا و عيبها ، و كثرة مخازيها و مساويها ، إذ قبضت عنه أطرافها ، و وطّئت لغيره أكنافها ، و فطم من رضاعها و زوى عن زخارفها . و إن شئت ثنّيت بموسى كليم اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ يقول « ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير » و اللّه ما سئله إلاّ خبزا يأكله ، لأنّه كان [ 357 ] يأكل بقلة الأرض ، و لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله ، و تشذّب لحمه . و إن شئت ثلّثت بداود صلّى اللّه عليه صاحب المزامير ، و قاري أهل الجنّة فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده ، و يقول لجلسائه : أيّكم يكفيني بيعها ، و يأكل قرص الشّعير من ثمنها . و إن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السّلام قد كان يتوسّد الحجر ، و يلبس الخشن ، و كان إدامه الجوع ، و سراجه باللّيل القمر ، و ظلاله في الشّتآء مشارق الأرض و مغاربها ، و فاكهته و ريحانه ما تنبت الأرض للبهائم ، و لم تكن له زوجة تفتنه ، و لا ولد يحزنه ، و لا مال يلفته ، و لا طمع يذّله ، دابّته رجلاه ، و خادمه يداه . فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، فإنّ فيه أسوة لمن تأسّى ، و عزاء لمن تعزّى ، و أحبّ العباد إلى اللّه المتأسّي بنبيّه ، و المقتصّ لأثره ، قضم الدّنيا قضما ، و لم يعرها طرفا ، أهضم أهل الدّنيا كشحا ، و أخمصهم من الدّنيا بطنا ، عرضت عليه الدّنيا فأبى أن يقبلها ، و علم أن اللّه سبحانه أبغض شيئا فأبغضه ، و حقّر شيئا فحقّره ، و صغّر شيئا فصغّره ، و لو لم يكن فينا إلاّ حبّنا ما أبغض اللّه و رسوله ، و تعظيمنا ما [ 358 ] صغّر اللّه و رسوله ، لكفى به شقاقا للّه ، و محادّة عن أمر اللّه . و لقد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأكل على الأرض ، و يجلس جلسة العبد ، و يخصف بيده نعله ، و يرقع بيده ثوبه ، و يركب الحمار العاري ، و يردف خلفه ، و يكون السّتر على باب بيته ، فتكون فيه التّصاوير ، فيقول : يا فلانة لإحدى أزواجه غيّبيه عنّي ، فإنّي إذا نظرت إليه ذكرت الدّنيا و زخارفها ، فأعرض عن الدّنيا بقلبه ، و أمات ذكرها عن نفسه ، و أحبّ أن تغيب زينتها عن عينه ، لكيلا يتّخذ منها رياشا ، و لا يعتقدها قرارا ، و لا يرجو فيها مقاما ، فأخرجها من النّفس ، و أشخصها عن القلب ، و غيّبها عن البصر ، و كذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه ، و أن يذكر عنده . و لقد كان في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يدلّك على مساوى الدّنيا و عيوبها ، إذ جاع فيها مع خاصّته ، و زويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته ، فلينظر ناظر بعقله ، أكرم اللّه تعالى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك أم أهانه ؟ فإن قال : أهانه ، فقد كذب و العظيم ، و إن قال : أكرمه ، فليعلم أنّ اللّه أهان غيره حيث بسط الدّنيا و زويها عن أقرب النّاس منه ، فتأسّى متأسّ بنبيّه ، و اقتصّ أثره ، و ولج مولجه ، و إلاّ فلا يأمن [ 359 ] الهلكة ، فإنّ اللّه جعل محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علما للسّاعة ، و مبشّرا بالجنّة ، و منذرا بالعقوبة ، خرج من الدّنيا خميصا ، و ورد الآخرة سليما ، لم يضع حجرا على حجر حتّى مضى لسبيله ، و أجاب داعى ربّه ، فما أعظم منّة اللّه عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتّبعه ، و قائدا نطا عقبه ، و اللّه لقد رقعت مدرعتي هذه حتّى استحييت من راقعها ، و لقد قال لي قائل : ألا تنبذها عنك ، فقلت : اعزب عنّي ، فعند الصّباح يحمد القوم السّرى . اللغة ( الزّعم ) مثلّثة الزاء قد يطلق على الظنّ و الاعتقاد الفاسد و منه قوله تعالى زَعَمَ الَّذينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا . و قد يطلق على القول الباطل و الكذب ، و ربّما يطلق على القول الحقّ و المراد هنا الأوّل و ( مدخول ) مفعول من الدّخل بالتسكين و هو المكر و الخديعة و العيب و مثله الدّخل محرّكة قال تعالى : وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ . أي مكرا و خديعة و ( الضّمار ) ما لا يرجى من الوعود هكذا قال الشّارح المعتزلي و قال الفيروزآبادى : الضّمار ككتاب من المال الّذي لا يرجى رجوعه ، و من العذاب ما كان ذا تسويف و خلاف العيان ، و من الدّين ما كان بلا أجل و ( الاسوة ) بالكسر و الضّم القدوه و ( المخازي ) جمع مخزاة و هى الأمر يستحى من ذكره لقبحه و ( المساوى ) العيوب و ( الأكناف ) الأطراف و ( شفّ ) الثّوب شفّا و شفيفا رقّ فحكى ما تحته . [ 360 ] و ( الصّفاف ) ككتاب الجلد الأسفل تحت الجلد الّذي عليه الشّعر و ( الهزال ) بضمّ الهاء نقيض السّمن و ( المزامير ) جمع المزمار و هي الآلة الّتي يزمر فيها من زمر يزمر و يزمر من باب نصر و ضرب زمرا و زميرا غنّى في القصب و نحوه و مزامير داود ما كان يتغنّي به من الزّبور و ضروب الدّعاء و ( السّفايف ) جمع السّفيفة و هي النّسيجة من سففت الخوص و أسففته نسجته ، و في نسخة الشّارح المعتزلي بعد قوله : و يلبس الخشن : و يأكل الجشب ، و هو كالجشيب الخشن الغليظ البشع من كلّ شي‏ء و السّيى‏ء الماكل أو بلا ادم . ( و لا ولد يحزنه ) مضارع حزن كنصر قال تعالى « انّي ليحزنني أن تذهبوا به » و يقرء يحزن مضارع أحزنه الشّي‏ء و ( لفته ) عن كذا يلفته صرفه و لواه و ( القضم ) الأكل بأدنى الفم أى بأطراف الأسنان و يروى قصم بالصّاد المهملة من القصم و هو القصر و ( الهضم ) محرّكة انضمام الجنبين و خمص البطن و ( الكشح ) الخاصرة ( و حقر شيئا ) يروى بالتّخفيف و التضعيف الاعراب الباء في قوله : بزعمه ، للسببيّة إن كان الزّعم بمعنى الظنّ و الاعتقاد ، و إلاّ فهى صلة ، و الواو في قوله : كذب و العظيم ، للقسم و إنّما قال : و العظيم و لم يقل : و اللّه العظيم ، تأكيدا لعظمة الباري سبحانه ، لأنّ الموصوف إذا لغى و ترك و اعتمد على الصّفة حتّى صارت كالاسم كانت أدلّ على تحقّق مفهوم الصّفة كالحارث و العبّاس هكذا قال الشّارح المعتزلي . و قال البحراني : و إنّما قال : و العظيم ، دون اللّه لأنّ ذكر العظمة هنا أنسب للرّجاء ، و الاضافة في قوله : من خوفه ، من اضافة المصدر إلى الفاعل أو المفعول ، و اللاّم في قوله تعالى : لما أنزلت إلىّ من خير فقير ، بمعنى إلى أو للتّعليل أو ضمن فقير معنى سائل فعدّى باللاّم ، و الواو في قوله : و لقد كانت ، للقسم و المقسم به محذوف لمعلوميّته ، و سلفا ، و قائدا ، منصوبان على الحال من ضمير به . [ 361 ] المعنى اعلم أنّه عليه السّلام قد نبّه في هذا الفصل من كلامه عليه السّلام على بطلان دعوى من يدّعى رجاء ثواب اللّه سبحانه و خوف عقابه و يزعم اتّصافه بهذين الوصفين اللّذين هما من أوصاف السّالكين و حالات الطّالبين و مقامات العارفين الرّاغبين ، و عقبّه بالتّزهيد عن الدّنيا بالأمر بالتّأسّي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و جملة من السّلف الصّالحين من الأنبياء و المرسلين حيث زهدوا في الدّنيا ، و آثروا الآخرة على الاولى لما رأوا من معايبها و مساويها ، و قد تقدّم في التّنبيه الثّالث من تنبيهات الفصل السّادس من فصول الخطبة الثّانية و الثّمانين تحقيق معنى الرّجاء و تفصيل الكلام فيه و لا حاجة إلى الاعادة ، و إنّما نشير هنا إلى محصّل ما أوردناه هناك تمهيدا و توضيحا للمتن . فأقول : خلاصة ما قلناه فيما تقدّم : إنّ الرّجاء عبارة عن ارتياح النّفس لانتظار ما هو محبوب عندها ، فهو حالة لها تصدر عن علم و تقتضى عملا ، فمن كان يرجو لقاء ربه و يأمل ثوابه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربّه أحدا ، كما نطق به الكتاب الكريم و القرآن الحكيم ، فاللاّزم على الرّاجي للثواب من الملك الوهّاب عزّ و علا أن يبذر المعارف الالهيّة في قلبه ، و يدوم على سقيه بماء الطّاعات و يجتهد في تطهير نفسه عن شوك الأخلاق الرّدية المانعة من نماء العلم و زيادة الايمان ، و ينتظر من فضل اللّه سبحانه أن يثبته على ذلك إلى زمان وصوله و حصاد عمله ، فذلك الانتظار هو الرّجاء الحقيقي المحمود . إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ من النّاس من يتّبع هواه و يفرّط في أمر مولاه و يغمر في المعاصى و يدوم على المناهي و مع ذلك كلّه ( يدّعى بزعمه ) الفاسد و نظره الكاسد ( أنّه يرجو اللّه ) و يأمل لقائه فقد ( كذب ) في دعواه و خاب فيما يتوقّعه و يتمنّاه ( و ) الرّبّ ( العظيم ) لما قد عرفت أنّ الرّجاء بدون إصلاح العمل حمق و جهالة ، و من دون تزكية النّفس سفه و ضلالة ( ما باله ) استفهام على سبيل التّوبيخ و التّقريع أى ما بال هذا الدّاعي للرّجاء ( لا يتبيّن رجاؤه في عمله ) يعني انّه لو كان [ 362 ] رجاؤه صدقا لظهر رجاؤه في عمله ، و ذلك لأنّا نرى أنّ كلّ من رجا شيئا من سلطان أو غيره فانّه يتابعه و يخدمه و يتقرّب إليه و يتحبّب إليه و يبالغ في طلب رضاه و يسارع إلى خدمته و يأتي بقدر طوعه كلّ ما هو مطلوب له و محبوب عنده ليظفر بمراده و ينال إلى ما يرجوه منه ، و هذا المدّعي للرّجاء حيث لا يظهر رجاؤه في عمله يتبيّن أنّه كاذب في دعواه ، غير خالص في رجاه . و هذا معنى قوله ( و كلّ من رجا عرف رجاؤه في عمله إلاّ رجاء ) من يرجو ( اللّه فانّه مدخول ) أى معيب ( و كلّ خوف محقّق ) أى كلّ خائف فخوفه محقّق ثابت له أصل و حقيقة يظهر آثاره على الخائف ( إلاّ خوف اللّه ) تعالى ( فانّه معلول ) أى مشتمل على المرض و العلّة حيث لا يظهر آثاره و علاماته على من يخافه سبحانه كما ستعرفه تفصيلا . هذا على تقدير عود الضّمير في قوله : فانّه ، إلى خوف اللّه ، و يجوز عوده إلى كلّ خوف بأن يجعل محقّق صفة لخوف و إلاّ بمعنى غير و هذه الجملة أعني جملة فانّه معلول خبرا لكلّ خوف ، فيكون محصّل المعنى أنّ كلّ خوف ثابت غير خوف اللّه سبحانه فانّ هذا الخوف معلول ، بخلاف خوفه سبحانه فانّه الخوف الصّريح الحقيقي ، و ذلك لأنّ ما يخاف به من غيره تعالى فهو أمر دنيويّ سريع الزّوال و الانقضاء ، مع أنّ ذلك الغير لا يقدر على ايقاع مكروه على الخائف إلاّ بمشيّة اللّه سبحانه و إقدار منه له عليه ، بخلاف الخوف منه تعالى فانّه خوف من القادر القاهر لارادّ لقضائه و لا دافع لحكمه ، و عذابه أليم لا يفنى ، و سخطه عظيم لا ينقطع و لا يتناهى و يؤيّد هذا الاحتمال الثّاني في هذه الفقرة ما في بعض النّسخ بدل قوله : و كلّ من رجا آه و كلّ رجاء إلاّ رجاء اللّه فانه مدخول ، وجه التّأييد أنّ الضّمير حينئذ يعود إلى كلّ رجاء فيكون سوق كلتا الفقرتين على مساق واحد ، و يتطابق الكلّيتان كما هو غير خفيّ على البصير ، هذا . و أكّد كون رجائه للّه سبحانه معلولا بقوله ( يرجو اللّه في الكبير ) أى يرجو رحمته و مغفرته و نعمته و منّته و جنّته الّتي عرضها السّماء و الأرض ( و يرجو العباد [ 363 ] في الصّغير ) أى في امور دنيويّه زهيدة المنفعة قليلة الجدوى سريعة الزّوال و الانقضاء و مع ذلك ( فيعطى العبد ما لا يعطى الرّب ) الاتيان بلفظ الاعطاء في يعطى الرّب للمشاكلة ، و المراد أنّه يكثر عمله لمن يرجوه من العباد و يتقرّب إليه بكلّ وسيلة ليفوز بما يتوقّعه منه ، و يتهاون في طاعة ربّه و يتكاسل في عبادته و يقصّر فيما يقربه إليه مع أنّ اللاّزم عليه أن يكون عمله بعكس ذلك ، فيكون قيامه بوظايف التّقرّب إلى اللّه سبحانه أكثر و آكد من القيام بوظايف التّقرّب إلى غيره ، حيث إنّ المرجوّ الكبير يستدعى ما يناسبه ممّا هو وسيلة إليه كميّة و كيفيّة . و حيث إنّه عكس في القيام بوظايف رجاه و لم يعط ربه ما أعطاه سواه فحقيق بالتّوبيخ و الملام و التّقريع و التّبكيت ، و لذلك قال ذمّا و تشنيعا ( فما بال اللّه عزّ و جلّ يقصر به عمّا يصنع به بعباده ) أى عمّا يعمل به ، و يصانع لهم من المصانعة الّتي هى أن تصنع شيئا لغيرك لتصنع لك مثله . و أكد التّوبيخ و التشنيع بقوله ( أتخاف أن تكون في رجاءك له كاذبا أو تكون لا تراه للرّجاء موضعا ) يعني أنّ قصورك في القيام بوظايف الرّجا كاشف من خوفك من أحد أمرين كلاهما باطل : أحدهما أن تكون كاذبا في رجاءك له سبحانه لزعمك أنّك لا تستعدّ مع العمل بلوازم رجائه تعالى لافاضة الجود منه عليك و لا تنال إلى مرجوّك ، و هو خطاء عظيم ناش عن ضعف الاعتقاد بالوعود الّتي وعدها اللّه سبحانه على ألسنة رسله و أنبيائه لمن عمل صالحا و يرجو رحمة ربّه . و ثانيهما أن تكون لا تراه للرّجاء موضعا ، و هو كفر صريح ناش من توهّم عجزه أو بخله ، هذا . و لما نبّه على بطلان دعوى المدّعين للرّجاء و شنّعهم على تلك الدّعوى ، عقّبه بالتّشنيع على الخائفين بسبب قصورهم في لوازم الخوف ، و توضيح قصورهم فيها محتاج إلى تحقيق معنى الخوف و بيان حقيقته [ 364 ] فأقول : إنّ الخوف كما في إحياء العلوم عبارة عن تألّم القلب و احتراقه بسبب توقّع مكروه في الاستقبال ، و قد ظهر هذا في بيان حقيقة الرّجاء و هو صفة تقتضى علما و عملا . اما العلم فهو العلم بالسّبب المفضى إلى المكروه ، و ذلك كمن جنى على ملك ثمّ وقع في يده فيخاف القتل مثلا و يجوز العفو و الافلات ، و لكن يكون تألّم قلبه بالخوف بحسب قوّة علمه بالأسباب المفضية إلى قتله ، و هو تفاحش جنايته و كون الملك حقودا غضوبا منتقما ، و كونه محفوفا بمن يحثّه على الانتقام ، خاليا عمّن يتشفّع إليه في حقّه ، و كان هذا الخائف عاطلا عن كلّ وسيلة و حسنة تمحو أثر جنايته عند الملك ، فالعلم بتظاهر هذه الأسباب سبب لقوّة الخوف و شدّة تألّم القلب ، و بحسب ضعف هذه الأسباب يضعف الخوف . و قد يكون الخوف لا عن سبب جناية قارفها الخائف ، بل عن صفة المخوف منه كالّذى وقع في مخالب سبع ، فانّه يخاف السّبع لصفة ذات السّبع و هى سطوته و حرصه على الافتراس غالبا و إن كان افتراسه بالاختيار . و قد يكون من صفة جبليّة للمخوف منه كخوف من وقع في مجرى سيل أو جوار حريق من الغرق و الاحتراق ، لأنّ طبع الماء مجبول على السّيلان و الاغراق ، و كذا النّار على الاحراق ، فالعلم بأسباب المكروه هو السّبب الباعث المثير لاحراق القلب و تألّمه ، و ذلك الاحراق هو الخوف . فكذلك الخوف من اللّه تارة يكون لمعرفة اللّه و معرفة صفاته و أنّه لو أهلك العالمين لم يبال و لم يمنعه مانع ، و تارة يكون لكثرة الجناية من العبد بمقارفة المعاصي ، و تارة يكون بهما جميعا ، و يحسب معرفته بعيوب نفسه و معرفته بجلال اللّه تعالى و استغنائه و أنّه لا يسئل عمّا يفعل و هم يسئلون تكون قوّة خوفه فأخوف النّاس لربّه أعرفهم بنفسه و بربّه و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : أنا أخوفكم للّه ، و كذلك قال اللّه : إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء . و أما العمل فهو أنّه إذا حصل له الخوف أوجب ذلك الكفّ و التّوقّى عن [ 365 ] كلّ ما يؤدّى إلى المكروه المتوقّع الّذي يخاف منه . و خوف اللّه سبحانه إذا ثبت في القلب و اشتدّ يظهر أثره على البدن و على الجوارح و الصّفات . اما البدن فبالنّحول و الصّفار و الغشية و الزّعقة و البكاء ، و قد ننشقّ به المرارة فيفضى إلى الموت ، أو يصعد إلى الدّماغ فيفسد العقل ، أو يقوى فيورث القنوط و اليأس . و اما الجوارح فبكفّها عن المعاصي و تقييدها بالطّاعات تلافيا لما فرّط و استعدادا للمستقبل . و اما الصفات فبأن يقمع الشّهوات و يكدّر اللّذات فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة كما يصير العسل مكروها عند من يشتهيه إذا عرف أنّ فيه سمّا فتحرق الشّهوات بالخوف و تتأدّب الجوارح و يحصل في القلب الذّبول و الخشوع و الاستكانة و يفارقه الكبر و الحقد و الحسد بل يصير مستوعب الهمّ بخوفه و النّظر في خطر عاقبته ، فلا يتفرّغ لغيره و لا يكون له شغل إلاّ المراقبة و المحاسبة و المجاهدة و الضنّة بالأنفاس و اللّحظات ، و مؤاخذة النّفس بالخطرات و الخطوات و الكلمات و يكون حاله حال من وقع في مخالب سبع ضار لا يدرى أنّه يغفل عنه فيفلت أو يهجم عليه فيهلك فيكون ظاهره و باطنه مشغولا بما هو خائف منه لا متّسع فيه لغيره هذا حال من غلبه الخوف و استولى عليه . و قوّة المراقبة و المحاسبة و المجاهدة بحسب قوّة الخوف الّذي هو تألّم القلب و احتراقه و قوّة الخوف بحسب قوّة المعرفة بجلال اللّه تعالى و صفاته و أفعاله و بعيوب النّفس و ما بين يديها من الأخطار و الأهوال . و أقلّ درجات الخوف ممّا يظهر أثره في الأعمال أن يمنع عن المحظورات و يسمّى الكفّ الحاصل عن المحظورات ورعا ، فان زادت قوّته كفّ عمّا يتطرق إليه امكان التّحريم فيكفّ أيضا عن المشتبهات و يسمّى ذلك التّقوى ، إذ التّقوى أن يترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ، و قد يحمله على ترك ما لا بأس به مخافة ما به [ 366 ] بأس ، و هو الصّدق في التّقوى ، فاذا انضمّ إليه التّجرّد للخدمة فصار لا يبنى ما لا يسكنه ، و لا يجمع مالا يأكله ، و لا يلتفت إلى دنيا يعلم أنّها تفارقه ، و لا يصرف إلى غير اللّه تعالى نفسا من أنفاسه ، فهو الصّدق و صاحبه جدير بأن يسمّى صديقا . و يدخل في الصّدق التّقوى ، و يدخل في التّقوى الورع ، و يدخل في الورع العفة فانّها عبارة عن الامتناع عن مقتضى الشّهوات خاصّة فاذا الخوف يؤثّر في الجوارح بالكفّ و الاقدام ، و يتجدّد له بسبب الكفّ اسم العفّة ، و هو كفّ عن مقتضى الشّهوة و أعلى منه الورع ، فانّه أعمّ لأنّه كفّ عن كلّ محظور و أعلى منه التّقوى ، فانّه اسم للكفّ عن المحظور و الشّبهة جميعا و ورائه اسم الصّديق و المقرّب . إذا عرفت ذلك ظهر لك معنى قوله ( و كذلك إن هو خاف عبدا من عبيده ) سبحانه ( أعطاه من خوفه ) الضمير راجع إلى الخائف أو العبد أى أعطاه من أجل خوفه إيّاه ( ما لا يعطى ربّه ) يعنى أنّه يقوم بمقتضيات خوفه إن خاف غير اللّه تعالى فيفعل ما يأمر و يترك ما ينهى و يأتي بما يريد بخلاف خوفه منه سبحانه فيدّعى الخوف و لا يظهر أثره عليه ( فجعل خوفه من العباد نقدا ) أي كالنقد المعجّل لوجود آثاره فيه بالفعل ( و خوفه من خالقه ضمارا و وعدا ) ذا تسويف غير موجود آثاره فيه بعد هذا . و لمّا نبّه على بطلان دعوى المدّعين للخوف و الرّجاء و كذّبهم في تلك الدّعوى معلّلا بكون رجاهم لغير اللّه تعالى أكثر و آكد ، و خوفهم من غيره سبحانه أقوى و أشدّ ، و فهم من ذلك ضمنا بدلالة الالتزام أنّ توجّههم و مراقبتهم إلى غيره عزّ و علا أكثر من مراقبتهم و توجّههم إليه ، حيث إنّهم يؤثرون غيره عليه إذا رجوا ، و يقدمون خوف الغير على خوفه إذا خافوا أردف ذلك بالتّنبيه على أنّ حال أبناء الدّنيا كذلك ، لايثارهم الدّنيا عليه تعالى و انقطاعهم إليها و افتتانهم بها و رغبتهم إليها دونه . و بهذا ظهر لك حسن الارتباط و المناسبة بين ما مرّ و بين قوله ( و كذلك من [ 367 ] عظمت الدّنيا في عينه ) و راقه زبرجها ( و كبر موقعها من قلبه ) و عظم محلّها عنده للذّاتها العاجلة و شهواتها الموجودة الحاضرة ( آثرها على اللّه ) و اختارها على ما لديه ممّا لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر لكونه آجلا غايبا ( فانقطع إليها و صار عبدا لها ) و لمن في يديه شي‏ء منها حيثما زالت زال إليها و حيثما أقبلت أقبل عليها ، غافلا عن أنّه ظلّ زائل ، و ضوء آفل ، و سناد مائل ، و غرور حائل . و لمّا وصف حال أبناء الدّنيا المفتونين بها عقّبه بأمرهم بالتّأسّي برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المعرض عنها لما رأى من فنائها و زوالها و مخازيها و معايبها تزهيدا لهم عنها ، و تنبيها على خطائهم في الافتتان بها فقال ( و لقد كان في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كاف لك في الاسوة ) أى في القدوة و الاتّباع ( و دليل لك على ذمّ الدّنيا و كثرة مخازيها ) أى مهالكها و مقابحها و فضايحها ( و مساويها ) أى معايبها . و أشار إلى دليل الذّم بقوله ( إذ قبضت عنه أطرافها و وطئت ) أى هيّأت ( لغيره أكنافها ) و جوانبها و ( فطم من رضاعها ) و التقم غيره ضرعها ( و زوى ) أي نحىّ ( عن زخارفها ) و قرّب إلى غيره زبرجها . و دلالة هذه الجملة على ذمّها و عيبها أنّه لو كان لها وقع عنده سبحانه و لها كرامة لديه لم يضن بها على أحبّ خلقه إليه و أشرفهم و أكرمهم عنده ، فحيث زويها عنه و بسطها لغيره دلّ ذلك على خسّتها و حقارتها و هوانها و إلى ذلك يشير ما في الحديث : ما زوى اللّه عن المؤمن في هذه الدّنيا خير ممّا عجّل له فيها . قال بعض شرّاح الحديث : أى ما نحّى من الخير و الفضل ، و تصديق ذلك انّ الرّجل منهم يوم القيامة يقول : يا ربّ إنّ أهل الدّنيا تنافسوا في دنياهم فنكحوا النّساء و لبسوا الثّياب اللّينة و أكلوا الطّعام و سكنوا الدّور و ركبوا المشهور من الدّواب فأعطني مثل ما أعطيتهم ، فيقول اللّه تبارك و تعالى : و لكلّ عبد منكم ما أعطيت أهل الدّنيا منذ كانت الدّنيا إلى أن انقضت سبعون ضعفا . [ 368 ] ( و إن شئت ثنّيت ) إعراض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الدّنيا ( ب ) اعراض ( موسى كليم اللّه ) عنها أو إن شئت ثنّيت الاسوة بالرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالاسوة بالكليم ( إذ يقول ) ما حكى اللّه سبحانه عنه في سورة القصص بقوله ( ربّ إنّي لما أنزلت إلىّ من خير فقير ) أى إنّي محتاج‏إلى ما أنزلت إليّ أو سائل طالب لما أنزلته ، أو إنّي فقير من الدّنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدّين و هو النّجاة من الظّالمين أى صرت فقيرا لأجل ذلك لأنّه كان عند فرعون في ثروة و سعة و ملك ، و قال عليه السّلام ذلك رضا بالبدل النبى و فرحا به و شكرا له ، و على ذلك فالمراد بما في قوله لما أنزلت ، هو خير الدّين و النّجاة من الظّالمين و قال في الكشاف إنّى لأيّ شي‏ء أنزلت إلىّ قليل أو كثير غثّ أو سمين لفقير . و حمله الأكثرون على الطعام ، و يؤيّده ما في الصّافي عن الكافي و العياشي عن الصّادق عليه السّلام سأل الطعام ، قال : و في الاكمال روى أنّه قال ذلك و هو محتاج إلى شقّ تمرة . و في مجمع البيان عن ابن عبّاس قال : سأل نبيّ اللّه فلق خبز يقيم به صلبه و يؤيّده أيضا كما يؤيّد تضمين فقير معنى سائل و كون اللاّم للصّلة قول أمير المؤمنين عليه السّلام ( و اللّه ما سأله إلا خبزا يأكله ، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض ) إذ خرج من مدينة فرعون خائفا يترقّب بغير ظهر و لا دابّة و لا خادم و لا زاد تخفضه الأرض مرّة و ترفعه اخرى حتّى انتهى إلى أرض مدين ، و كان بينه و بين مدين مسيرة ثلاثة أيّام ، و قيل : ثمانية ، فخرج منها حافيا و لم يصل إلى مدين حتّى وقع خفّ قدميه ، و كان لا يأكل في مدّة مسيرها إلاّ حشيش الصّحراء و بقل الأرض . ( و لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه ) يعني أنّ جلد بطنه ----------- ( 1 ) هذا مبنى على تضمين فقير معنى محتاج و جعل اللاّم بمعنى الى ، و الثانى مبنى على تضمينه معنى الطلب و السؤال و جعل اللام للصلة ، و الثالث مبنى على ابقاء الفقير على معناه الاصلى و جعل اللاّم للتعليل ، و لكلّ واحد قال المفسرون ، منه [ 369 ] بسبب رقّته لم يكن حاجبا عن إدراك البصر لما ورائه و ذلك ( لهزاله و تشذّب لحمه ) أى تفرّقه قال في عدّة الدّاعي : و يروى أنّه أى موسى عليه السّلام قال يوما يا ربّ إنّي جائع فقال اللّه أنا أعلم بجوعك ، قال : يا ربّ أطمعني قال : إلي أن اريد . و فيما أوحى إليه عليه السّلام يا موسى الفقير من ليس له مثلي كفيل ، و المريض من ليس له مثلي طبيب ، و الغريب من ليس له مثلي مونس قال : و يروى حبيب ، يا موسى ارض بكسرة من شعير تسدّ بها جوعتك ، و بخرقة توارى بها عورتك ، و اصبر على المصائب ، و إذا رأيت الدّنيا مقبلة عليك فقل : إنّا للّه و إنّا إليه راجعون عقوبة قد عجلت في الدّنيا ، و إذا رأيت الدّنيا مدبرة عنك فقل : مرحبا بشعار الصّالحين ، يا موسى لا تعجبنّ بما اوتى فرعون و ما تمتّع به فانّما هي زهرة الحياة الدّنيا . ( و إن شئت ثلّثت بداود ) بن أيش من أولاد يهودا سمّى به لأنّه داوي جرحه بودّ و قد قيل : داوى ودّه بالطّاعة حتّى قيل عبد ، رواه في البحار من معانى الأخبار و غيره ( صاحب المزامير ) قال الفيروزآبادي : مزاميره ما كان يتغنّى به من الزّبور و قال الشّارح المعتزلي : يقال : إنّ داود اعطى من طيب النّغم و لذّة ترجيع القراءة ما كان الطّيور لأجله تقع عليه و هو في محرابه ، و الوحش تسمعه فيدخل بين النّاس و لا تنفر منهم لما قد استغرقها من طيب صوته . و في البحار من الامالي عن هشام بن سالم عن الصّادق عليه السّلام في الحديث الآتي و كان إذا قرء الزّبور لا يبقى جبل و لا حجر و لا طائر و لا سبع إلاّ جاذبه ( و ) لعلّه لطيب صوته كان ( قاري أهل الجنّة فلقد كان يعمل سفائف الخوص ) أي نسايج ورق النّخل ( بيده و يقول لجلسائه أيّكم يكفيني بيعها و يأكل قرص الشّعير من ثمنها ) قال في البحار : لعلّ هذا كان قبل أن ألان اللّه له الحديد . و روي فيه من تفسير عليّ بن إبراهيم في قوله تعالى « و لقد آتينا داود منّا فضلا يا جبال أوّبي معه » أى سبّحى للّه « و الطّير و ألنّا له الحديد » قال : كان داود إذا مرّ في البرارى يقرء الزّبور يسبّح الجبال و الطّير معه و الوحوش و ألان اللّه [ 370 ] له الحديد مثل الشّمع حتّى كان يتّخذ منه ما أحبّ . و فيه من الفقيه بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : أوحى اللّه إلى داود نعم العبد لو لا أنّك تأكل من بيت المال و لا تأكل بيدك شيئا قال : فبكى داود عليه السّلام فأوحى اللّه تعالى إلى الحديد أن لن لعبدى داود فألان اللّه له الحديد ، فكان يعمل كلّ يوم درعا فيبيعها بألف درهم فعمل ثلاثمأة و ستّين درعا فباعها بثلاثمأة و ستّين ألفا ، و استغنى عن بيت المال . و عن صاحب الكامل كان داود بن ايشاح ( ايش خ ل ) من أولاد يهود او كان قصيرا أزرق قليل الشّعر ، فلمّا قتل طالوت أتى بنو إسرائيل داود و أعطوه خزاين طالوت و ملكوه عليهم . و قيل إنّ داود ملك قبل أن يقتل جالوت ، فلمّا ملك جعله اللّه نبيّا ملكا و أنزل عليه الزّبور و علّمه صنعة الدّرع و ألان له الحديد و أمر الجبال و الطّير أن يسبّحن معه إذا سبّح ، و لم يعط اللّه أحدا مثل صوته كان إذا قرء الزّبور تدنو الوحش حتّى يؤخذ بأعناقها ، و كان شديد الاجتهاد ، كثير العبادة و البكاء ، و كان يقوم اللّيل و يصوم نصف الدّهر ، و كان يحرسه كلّ يوم و ليلة أربعة آلاف ، و كان يأكل من كسب يده أربعة آلاف ، و كانت مدّة ملكه أربعين و تمام عمره مأة ، هذا . و قد اتّضح بذلك أنّه عليه السّلام مع ما آتاه اللّه من الملك و النّبوة و البسطة زهد في الدّنيا و رغب عنها و جعل رزقه في كدّ يمينه ، و العجب أنّه مع زهده ذلك عيّره حزقيل النّبيّ و يعجبني أن أذكر قصّته معه لمناسبتها بالمقام ، و دلالتها على ذمّ الدّنيا المسوق له هذا الفصل من كلام الامام عليه السّلام فأقول : روى في البحار من أمالي الصّدوق عن أبيه عن عليّ عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن الصّادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام قال : إنّ داود خرج ذات يوم يقرء الزّبور و كان إذا قرء الزّبور لا يبقى جبل و لا حجر و لا طائر و لا سبع إلاّ جاذبه ، فما زال يمرّ حتّى انتهى إلى جبل فاذا على ذلك الجبل نبيّ عابد يقال له حزقيل ، فلمّا سمع دويّ الجبال و أصوات السّباع و الطّير علم أنّه داود ، فقال [ 371 ] داود : يا حزقيل أتاذن لي فأصعد إليك ؟ قال : لا ، فبكى داود عليه السّلام فأوحى اللّه جلّ جلاله إليه يا حزقيل لا تعيّر داود و سلنى العافية ، فقام حزقيل فأخذ بيد داود عليه السّلام فرفعه إليه فقال : داود عليه السّلام يا حزقيل هل هممت بخطيئة قطّ ؟ قال : لا ، قال : فهل دخلك العجب ممّا أنت فيه من عبادة اللّه تعالى ؟ قال : لا ، قال : فهل ركنت إلى الدّنيا فأحببت أن تأخذ من شهوتها و لذّتها ؟ قال : بلى ربّما عرض بقلبي ، قال : فماذا تصنع إذا كان ذلك ؟ قال : أدخل هذا الشّعب فأعتبر بما فيه . قال : فدخل داود النّبيّ الشعب فاذا سرير من حديد عليه جمجمة بالية و عظام فانية ، و إذا لوح حديد فيه كتابة ، فقرئها داود فاذا هي : أنا أردى شلم ملكت ألف سنة و بنيت ألف مدينة و افتضضت ألف بكر فكان آخر أمري أن صار التّراب فراشى ، و الحجارة و سادتى ، و الدّيوان و الحيّات جيراني ، فمن رآني فلا يغترّ بالدّنيا و في البحار أيضا دخل داود غارا من غيران بيت المقدّس ، فوجد حزقيل يعبد ربّه و قد يبس جلده على عظمه فسلّم عليه ، فقال : أسمع صوت شبعان ناعم فمن أنت ؟ قال : أنا قال : الّذي له كذا و كذا امة ؟ قال : نعم و أنت في هذه الشّدة قال : ما أنا في شدّة و لا أنت في نعمة حتّى تدخل الجنّة . ( و ان شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السّلام ) أى ان شئت أن تذكر حال المسيح فاذكر انّه ل ( قد كان يتوسّد الحجر ) أى يأخذه و سادة له ( و يلبس ) اللّباس ( الخشن و كان إدامه الجوع ) قال العلاّمة المجلسيّ : لعلّ المعنى أنّ الانسان إنّما يحتاج إلى الادام لأنّه يعسر على النّفس أكل الخبز يابسا ، فأمّا مع الجوع الشّديد فيلتذّ بالخبز و لا يطلب غيره فهو بمنزلة الادام ، أو أنّه كان يأكل الخبز دون الشّبع فكان الجوع مخلوطا به كالادام . أقول : و يحتمل أن يكون المراد أنّه كان يلتذّ بالجوع كما يلتذّ بالادام و الطّعام ، أو أنّ الجوع كان بدلا عن إدامه فاستعير لفظ الجوع له من باب استعارة اسم الضدّ للضّد مثل قوله في الخطبة الثّانية : نومهم سهود و كحلهم دموع . ( و سراجه باللّيل القمر ) يستضي‏ء به كما يستضاء بالسراج ( و ظلاله في [ 372 ] الشّتاء ) أى مكمنه من البرد ( مشارق الأرض ) في الضّحى ( و مغاربها ) في المساء ( و فاكهته و ريحانه ما تنبت الأرض للبهائم ) و استعارة الفاكهة و الرّيحان لما تنبت باعتبار التذاذ ذوقه و شمّه به كالتذاذ غيره بالفواكه و الرّياحين ( و لم تكن له زوجة تفتنه و لا ولد يحزنه و لا مال يلفته ) أى يلويه و يصرفه عن ذكر اللّه ( و لا طمع يذلّه ) أى يوقعه في الذّلّة و الهوان ( دابّته رجلاه و خادمه يداه ) أى انتفاعه بهما كما ينتفع غيره بالدّابة و الخادم . و اعلم أنّ ما وصف عليه السّلام به عيسى فقد روى عنه عليه السّلام نحوه في عدّة الدّاعي قال : و أمّا عيسى روح اللّه و كلمته فانّه كان يقول : خادمى يداى و دابّتي رجلاى و فراشي الأرض و وسادي الحجر و دفئي في الشّتاء مشارق الأرض و سراجي باللّيل القمر و ادامي الجوع و شعارى الخوف و لباسي الصّوف و فاكهتي و ريحاني ما أنبتت الأرض للوحوش و الأنعام ، أبيت و ليس لي شي‏ء ، و أصبح و ليس لي شي‏ء ، و ليس على وجه الأرض أحد أغنى منّي و رواه مثله في البحار من ارشاد القلوب إلاّ أنّ فيه بدل مشارق الأرض مشارق الشّمس ، و بدل ريحاني ريحانتي . و في عدّة الدّاعي عن أبيعبد اللّه عليه السّلام قال : في الانجيل إنّ عيسى قال : اللّهمّ ارزقني غدوة رغيفا من شعير رعشيّة رغيفا من شعير و لا ترزقني فوق ذلك فاطغى . أقول : و ان شئت فاتّبع ذكر حال هؤلاء الأنبياء الأكرمين بذكر حال غيرهم من الأنبياء و المرسلين . و اذكر نوحا نجيّ اللّه فانّه مع كونه شيخ المرسلين و قد روي أنّه عاش ألفى عام و خمسمأة عام ، و عمّر في الدّنيا مديدا ، مضى منها و لم يبن فيها بيتا ، و كان إذا أصبح يقول لا امسى و إذا أمسى يقول لا أصبح . و انظر إلى أبي الأنبياء إبراهيم خليل الرّحمن فقد كان لباسه الصّوف و طعامه الشّعير . ثمّ انظر إلى يحيى بن زكريا كان لباسه اللّيف و أكله ورق الشّجر . [ 373 ] ثمّ إلى سليمان بن داود فقد كان مع ما هو فيه من الملك العظيم يلبس الشّعر و إذا جنّه اللّيل شدّ يديه إلى عنقه فلا يزال قائما باكيا حتّى يصبح ، و كان قوته من سفائف الخوص يعملها بيده ، و هكذا كان حال ساير الأنبياء في إعراضهم عن الدّنيا . و أمّا سيّد البشر فوصف حاله إجمالا قد مرّ و قد تقدّم أنّ فيه كافيا لك في الاتباع به و الاهتداء بهداه ، و لذلك عقّبه بالأمر بالتّأسّي به و أردفه بوصف حاله تفصيلا فقال ( فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ) و اتّبع له ( فانّ فيه اسوة لمن تأسّى و عزاء لمن تعزّى ) أى نسبة لمن انتسب ( و أحبّ العباد إلى اللّه المتأسّى بنبيّه و المقتصّ ) المتتبّع ( لاثره ) و إنّما كان أحبّ العباد إليه سبحانه لقوله تعالى قل إن كنتم تحبّون اللّه فاتّبعوني يحببكم اللّه قال الفخر الرّازي : قال المتكلّمون محبّة اللّه للعبد عبارة عن إرادته تعالى ايصال الخيرات و المنافع في الدّين و الدّنيا إليه ، و قال بعض المحقّقين : و من المتكلّمين من أنكر محبّة اللّه لعباده كالزمخشري و أترابه ، زعما منهم أنّ ذلك يوجب نقصا في ذاته و لم يعلموا أنّ محبّة اللّه تعالى لخلقه راجعة إلى محبّة ذاته ، هذا . و قوله ( قضم الدّنيا قضما ) استيناف بيانيّ ، فانّه لمّا ذكر أنّ أحبّ العباد إلى اللّه من اقتصّ أثر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، و كان ذلك مظنّة لأن يسأل عن الأثر الذي يقتصّ أردف بهذا الكلام و ما يتلوه جوابا لهذا السّؤال المتوهّم ، و تفصيلا لما فيه الاسوة ، و به يكون الاقتصاص ، و أراد بقضمه اقتصاره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الدّنيا على قدر الضّرورة إذا لقضم يقابل الخضم و الأوّل أكل الشي‏ء اليابس بأطراف الأسنان ، و الثاني الأكل بالفم كلّه للأشياء الرّطبة كما قال عليه السّلام في وصف حال بني اميّة في الخطبة الشقشقيّة : يخضمون مال اللّه خضم الابل نبتة الرّبيع ، و في حديث أبي ذر « رض » يخضمون و نقضم و الموعد للّه ( و لم يعرها طرفا ) أى لم يعطها نظرة على وجه العارية فكيف بأن يجعلها مطمح نظره ، و هو كناية عن عدم التفاته إليها ( أهضم أهل الدّنيا كشحا و أخمصهم [ 374 ] بطنا ) أى أخمصهم خاصرة و بطنا ، و هو كناية عن كونه أشدّهم جوعا و أقلّهم شبعا كما روى أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا اشتدّ جوعه كان يربط على بطنه حجرا و يسميّه المشبع مع كونه مالكا لقطعة واسعة من الدّنيا . قال الغزالي في احياء العلوم : و في الخبر أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يجوع من غير غور أى مختارا لذلك . قال : و كانت عايشة تقول إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يمتل قطّ شبعا و ربّما بكيت رحمة له مما أرى به من الجوع فأمسح بطنه بيدى و أقول نفسى لك الفداء لو تبلّغت من الدّنيا بقدر ما يقويك و يمنعك من الجوع ، فيقول : يا عايشة اخواني من اولى العزم من الرّسل قد صبروا على ما هو أشدّ من هذا ، فمضوا على حالهم فقدموا على ربّهم فأكرم مآبهم و أجزل ثوابهم ، فأجدني أستحي إن ترفّهت في معيشتي أن يقصر بي غدا دونهم ، فالصّبر أيّاما يسيرة أحبّ إلىّ من أن ينقص حظّى غدا في الآخرة ، و ما من شي‏ء أحبّ إلىّ من اللّحوق بأصحابي و إخواني ، قالت عايشة : فو اللّه ما استكمل بعد ذلك جمعة حتّى قبضه اللّه إليه . و عن أنس قال : جائت فاطمة صلوات اللّه و سلامه عليها بكسرة خبز إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال : ما هذه الكسرة ؟ قالت : قرص خبزته و لم تطب نفسى حتى أتيتك منه بهذه الكسرة ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : أما أنّه أوّل طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيّام ، هذا ، و سنورد فصلا مشبعا في فضيلة الجوع و فوايده بعد الفراغ من شرح الخطبة إنشاء اللّه . ( عرضت عليه الدّنيا فأبى أن يقبلها ) إشارة إلى ما ورد في غير واحد من الأحاديث العاميّة و الخاصيّة من أنّه صلّى اللّه عليه و آله عرض عليه مفاتيح كنوز الأرض فامتنع من قبولها . منها ما في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن القاسم بن يحيى عن جدّة الحسن بن راشد عن عبد اللّه بن سنان عن أبيعبد اللّه عليه السّلام قال : خرج النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو محزون ، فأتاه ملك و معه مفاتيح خزائن الأرض فقال : يا محمّد [ 375 ] هذه مفاتيح خزائن الدّنيا يقول لك ربّك : افتح و خذ منها ما شئت من غير أن تنقص شيئا عندى ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : الدّنيا دار من لا دار له و لها يجمع من لا عقل له ، فقال له الملك : و الّذي بعثك بالحقّ لقد سمعت هذا الكلام من ملك يقوله في السّماء الرّابعة حين اعطيت المفاتيح . و منها ما في الوسائل عن الكلينيّ عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث طويل و فيه : ثمّ قال عليه السّلام : يا محمّد لعلّك ترى أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شبع من خبز البرّ ثلاثة أيّام منذ بعثه اللّه إلى أن قبض ، ثمّ ردّ على نفسه ثمّ قال : لا و اللّه ما شبع من خبز البرّ ثلاثة أيّام متوالية منذ بعثه اللّه إلى أن قبضه ، أما أنّي لا أقول إنّه كان لا يجد ، لقد كان يجير الرجل الواحد بالمأة من الابل فلو أراد أن يأكل لأكل ، و قد أتاه جبرئيل بمفاتيح خزائن الأرض ثلاث مرّات يخيّره من غير أن ينقص ممّا أعدّ اللّه له يوم القيامة شيئا ، فيختار التّواضع للّه ، الحديث . و قد مرّ في شرح الكلام التّاسع و السّتين في التّذنيب الأوّل من شرحه المسوق لكيفيّة شهادة أمير المؤمنين عند اقتصاص حاله في ليلة تسع عشرة من شهر رمضان حديث عرض المفاتيح برواية لوط بن يحيى بنحو آخر فتذكّر ( و علم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ اللّه سبحانه أبغض شيئا ) و لم يرده لأولياءه ( فأبغضه ) النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لنفسه لأنّه لا يشاء إلاّ أن يشاء اللّه روى في إحياء العلوم عن موسى بن يسار قال : قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يخلق خلقا أبغض إليه من الدّنيا و أنّه منذ خلقها لم ينظر إليها . و فيه أيضا قال رسول اللّه : الدّنيا موقوفة بين السّماء و الأرض منذ خلقها اللّه لم ينظر إليها و تقول يوم القيامة : يا ربّ اجعلني لأدنى أوليائك اليوم نصيبا ، فيقول اسكتي يا لا شي‏ء إنّي لم أرضك لهم في الدّنيا ارضاك لهم اليوم ؟ ( و حقّر شيئا فحقّره ) أى حقره النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لحقارته عند اللّه سبحانه كما روى في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بجدى اسك ملقى على مزبلة ميّتا فقال [ 376 ] لأصحابه كم يساوى هذا ؟ فقالوا : لعلّه لو كان حيّا لم يساو درهما ، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الّذي نفسي بيده الدّنيا أهون عند اللّه من هذا الجدي على أهله . ( و صغّر شيئا ) أراد تصغيره بالنّسبة إلى ما أعدّه لأوليائه في الآخرة ( فصغّره ) قال في إحياء العلوم قال داود بن هلال : مكتوب في صحف إبراهيم عليه السّلام : يا دنيا ما هونك على الابرار الّذين تمنّعت و تزيّنت لهم إنّي قذفت في قلوبهم بغضك و الصّدود عنك ، و ما خلقت خلقا أهون علىّ منك كلّ شأنك صغير ، و إلى الفناء تصير قضيت عليك يوم خلقتك أن لا تدومى لأحد ، و لا يدوم لك أحد و إن بخل به صاحبك و شحّ عليك ، طوبى للأبرار الّذين اطلعوني من قلوبهم على الرضا ، و من ضميرهم على الصّدق و الاستقامة ، طوبى لهم مالهم عندي من الجزاء إذا وفدوا إلىّ من قبورهم إلاّ النّور يسعى أمامهم ، و الملائكة حافّون بهم حتّى ابلغهم ما يرجون من رحمتى ، هذا و لمّا ذكر أنّ الدّنيا مبغوضة للّه ، حقيرة عنده و كذلك عند النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تبعا لرضائه تعالى ، عقّب ذلك بالتنبيه على أنّ اللاّزم على المتأسّي له صلّى اللّه عليه و آله و المقتصّ لأثره أن يبغض ما أبغضه اللّه و رسوله و يحقّر ما حقّراه و إلاّ لكان موادّا لما حادّ اللّه و رسوله فقال ( و لو لم يكن فينا إلاّ خبّنا ما أبغض اللّه و رسوله و تعظيمنا ما صغّر اللّه و رسوله لكفى به شقاقا للّه ) و مخالفة له ( و محادّة عن أمر اللّه ) أى معاداة و مجانبة عنه . و إلى ذلك ينظر ما روى أنّ سلمان رضى اللّه عنه كان متحسّرا عند موته ، فقيل له : يا أبا عبد اللّه على ما تأسّفك ؟ قال : ليس تأسّفي علي الدّنيا ، و لكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عهد إلينا و قال : لتكن بلغة أحدكم كزاد الراكب ، و أخاف أن يكون قد جاوزنا أمره و حولى هذه الأساور ، و أشار إلى ما في بيته و إذا هو دست و سيف و جفنة . ثمّ أشار إلى تواضعه و تذلّله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مأكله و مجلسه و مركبه و غيرها فقال ( و لقد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأكل على الأرض و يجلس جلسة العبد ) و قد ورد التصريح بذلك [ 377 ] في روايات كثيرة مرويّة في الوسائل في كتاب الأطعمة . ففيه عن محمّد بن يعقوب الكلينيّ باسناده عن هارون بن خارجة عن أبيعبد اللّه عليه السّلام قال : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأكل أكل العبد ، و يجلس جلسة العبد و يعلم أنّه عبد . و عن الكليني عن الحسن الصّيقل قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول مرّت امرأة بذيّة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يأكل و هو جالس على الحضيض 1 فقالت : يا محمّد إنّك تأكل أكل العبد و تجلس جلوسه ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : و أىّ عبد أعبد منّى . و فيه عن البرقي عن عمرو بن جميع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأكل بالأرض ، هذا . و ظهور التّواضع في الأكل على الأرض واضح . و المراد بأكله أكل العبد إمّا ذلك أعنى الأكل على الأرض ، أو الأكل بثلاثة أصابع لا بالأصبعين كما يشعر به ما في الوسائل عن البرقي عن أبي خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه كان يجلس جلسة العبد و يضع يده على الأرض و يأكل بثلاثة أصابع ، و قال : إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يأكل هكذا ليس كما يفعله الجبّارون يأكل أحدهم بأصبعيه ، أو الأكل من غير اتّكاء و يدلّ عليه ما في الوسائل عن الكلينيّ عن معاوية بن وهب عن أبيعبد اللّه عليه السّلام قال : ما أكل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متّكئا منذ بعثه اللّه إلى أن قبضه تواضعا للّه عزّ و جلّ . و عن زيد الشّحام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : ما أكل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متّكئا منذ بعثه اللّه حتّى قبض كان يأكل أكلة العبد ، و يجلس جلسة العبد ، قلت : و لم ذلك ؟ قال : تواضعا للّه عزّ و جلّ . و أما المراد من كون جلوسه جلسة العبد إمّا جلوسه على الأرض ، و يدلّ عليه ما مر أو الجلوس من غير تربّع كما هو جلوس الملوك ، و يدلّ عليه ما في الوسائل ----------- ( 1 ) القرار في الأرض [ 378 ] عن الكلينيّ عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قال أمير المؤمنين عليه السّلام إذا جلس أحدكم على الطّعام فليجلس جلسة العبد و لا يضعنّ احدى رجليه على الأخرى و يتربّع ، فانّها جلسة يبغضها اللّه و يمقتها . أو الجلوس دون شرفه ، و يفيده ما في الوسايل أيضا عن الكلينيّ مرسلا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا دخل منزلا قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل . ( و يخصف بيده نعله ) و تضمّن لبس النّعل المخصوفة للتّواضع ظاهر لا سيّما إذا كان لابسها هو الخاصف ، و قد تأسّي به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمير المؤمنين عليه السّلام في هذا الوصف مضافا إلى ساير الصّفات كما يفصح عنه ما مرّ في عنوان الخطبة الثّالثة و الثلاثين عن ابن عبّاس أنّه قال : دخلت على أمير المؤمنين عليه السّلام بذى قار و هو يخصف نعله ، فقال لي ما قيمة هذه النّعل ؟ فقلت : لا قيمة لها ، فقال عليه السّلام : و اللّه لهى أحبّ إليّ من امرتكم إلاّ أن اقيم حقّا أو أدفع باطلا . ( و يرقع بيده ثوبه و يركب الحمار العارى و يردف خلفه ) و معلوم أنّ ركوب الحمار العاري آية التواضع و هضم النفس ، و إرداف غيره خلفه آكد في الدّلالة عليه . روى في الوسائل من العيون عن الرّضا عليه السّلام عن آبائه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال خمس لا أدعهنّ حتى الممات : الأكل على الحضيض مع العبد ، و ركوبى الحمار موكفا 1 و حلب العنز بيدي ، و لبس الصوف ، و التسليم على الصبيان لتكون سنة من بعدي . و كذلك لبس الثوب المرقع لا سيما إذا كان اللاّبس هو الراقع . ثمّ أشار إلى مبغوضيّة الدّنيا و قيناتها عنده بقوله ( و يكون الستر على باب بيته و يكون فيه التصاوير ) الظاهر أنّ المراد به تصاوير الشجر و النبات و نحوها لا تصاوير الحيوان و غيره من ذوى الأرواح ، إذ بيته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان مهبط الوحى ----------- ( 1 ) الوكف محرّكة العيب و الضعف و الثقل . ق [ 379 ] و مختلف الملائكة و لا يدخل الملك بيتا فيه صورة مجسّمة كما ورد به الأخبار . ( فيقول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا فلانة لإحدى أزواجه غيّبي عنّي ) الظّاهر أنه أراد بها عايشة كما يؤمى إليه في باب الزّهد من احياء العلوم قال : و رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على باب عايشة سترا فهتكه و قال : كلّما رأيته ذكرت الدّنيا أرسلى به إلى آل فلان . قال الشارح البحراني : أمره بتغييب التصاوير محافظة من حركة الوسواس الخناس ، و كما أنّ الأنبياء عليهم السّلام كانوا كاسرين للنفس الأمّارة بالسوء ، و قاهرين لشياطينهم كانوا أيضا محتاجين إلى مراعاتهم و مراقبتهم و تفقّد أحوال نفوسهم في كلّ لحظة و طرفة ، فانها كاللّصوص المخادعين للنفوس المطمئنّة مهما تركت و غفل عن قهرها و التحفّظ منها عادت إلى طباغها . أقول : لا يخفى ما في هذا التعليل بعد الغضّ عن كونه خلاف ما يستفاد من كلامه عليه السّلام من الركاكة و السخافة و السماجة و إسائة الأدب بالنسبة إلى خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل و ساير أولياء الدّين و كيف يتصوّر في حقّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حركة الوسواس الخناس مع وجود ملكة العصمة و لو لم يغب عنه عليه السّلام التصاوير ، بل الظاهر أنّ أمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بتغييبها إنما هو لأجل أنّ الدّنيا و زخارفها كانت مبغوضة عنده بالذات و مكروهة لديه بالطبع ، فأمر بتغييبها لكونها موجبة لذكر ما يبغضه و يتنفّر عنه و يعاديه . كما يومى إليه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ( فانّى إذا نظرت إليه ذكرت الدّنيا و زخارفها ) و يدلّ عليه صريحا قوله عليه السّلام الآتي و كذلك من أبغض شيئا آه ( فأعرض صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الدنيا بقلبه و أمات ذكرها عن نفسه ) و هو الزهد الحقيقي ( و أحب أن تغيب زينتها عن عينه لكيلا يتّخذ منها رياشا ) أى لباسا فاخرا ، و ذلك لما روى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ اللّه يحب المبتذل الذي لا يبالي ما لبس قال في إحياء العلوم : قال أبو بردة : اخرجت لنا عايشة كساء ملبدا و إزارا غليظا فقالت : قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في هذين . قال : و اشترى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثوبا بأربعة دراهم و كانت قيمة ثوبيه عشرة [ 380 ] و كان إزاره أربعة أذرع و نصفا و اشترى سراويل بثلاثة دراهم و كان يلبس شملتين بيضاوين و كانت تسمى حلّة لأنّهما ثوبان من جنس واحد ، و ربّما كان يلبس بردين يمانين أو سحوليين من هذه الغلاظ ، و كان شراك نعله قد اخلق فابدل بسير جديد فصلّى فيه فلما سلّم : قال اعيدوا الشراك الخلق و انزعوا هذا الجديد فانى نظرت إليه في الصلاة ، و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد احتذى مرّة نعلين جديدين فأعجبه حسنهما فخرّ ساجدا و قال : أعجبني حسنهما فتواضعت لربّي خشية أن يمقتني فدفعهما إلى أوّل مسكين رآه . ( و لا يعتقدها قرارا و لا يرجو فيها مقاما ) لأنها دار مجاز لا دار قرار أحلام نوم أو كظلّ زائل إنّ اللّبيب بمثلها لا يخدع و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : الدّنيا دار من لا دار له ، و لها يجمع من لا عقل له ، و عليها يعادي من لا علم له ، و عليها يحسد من لا فقه له ، و لها يسعى من لا يقين له و لنعم ما قيل : أرى طالب الدّنيا و إن طال عمره و نال من الدّنيا سرورا و أنعما كبان بنى بنيانه فأقامه فلمّا استوى ما قد بناه تهدّما ( فأخرج ) محبّت ( ها من النّفس و أشخص ) رغبت ( ها عن القلب و غيّب ) زينت ( ها عن البصر ) و ذلك لفرط بغضه لها و نفرته عنها و كراهته إيّاها ( و كذلك ) حال ( من أبغض شيئا ) فانه إذا أبغضه ( أبغض أن ينظر إليه و أن يذكر عنده ) ثمّ أكّد ما قدّم و قال : ( و لقد كان في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يدلّك على مساوى الدّنيا و عيوبها إذ جاع فيها مع خاصّته ) . أمّا جوعه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد عرفته فيما تقدّم ، و أقول هنا مضافا إلى ما سبق : روى أحمد بن فهد في عدّة الداعي أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصابه يوما الجوع فوضع صخرة على بطنه ثمّ قال : ألا ربّ مكرم لنفسه و هولها مهين ، ألا ربّ مهين لنفسه و هو لها مكرم ألا ربّ نفس جايعة عارية في الدّنيا طاعمة في الآخرة ناعمة يوم القيامة ، ألا ربّ نفس كاسية ناعمة في الدّنيا جايعة عارية يوم القيامة ، ألا ربّ نفس متخوّض متنعّم فيما أفاء اللّه على رسوله ما له في الآخرة من خلاق ، ألا إنّ عمل أهل الجنّة حزنة بربوة [ 381 ] ألا إنّ عمل أهل النّار سهلة لشهوة ، ألا ربّ شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا يوم القيامة . و أما جوع خاصته فقد ورد في روايات مستفيضة . منها ما في إحياء العلوم قال أبو هريرة : ما أشبع النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أهله أعني أهل بيته و أزواجه و أهل بطانته من أصحابه ثلاثة أيّام تباعا من خبز الحنطة حتّى فارق الدّنيا ، و قال إنّ أهل الجوع في الدّنياهم أهل الشّبع في الآخرة . و فيه قال الفضيل ما شبع رسول اللّه منذ قدم المدينة ثلاثة أيّام من خبز البرّ قالت عايشة : كانت تأتي علينا أربعون ليلة و ما يوقد في بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مصباح و لا نار ، قيل لها : فيم كنتم تعيشون ؟ قال : بالأسودين : التّمر و الماء . و أما جوع أخصّ خاصّته أعني أهل بيت العصمة و الطّهارة فهو غنيّ عن البيان ، و كتب الخاصّة بل العامّة قد تضمّنت أخبارا كثيرا في ذلك المعنى ، و لنقتصر على ثلاثة أحاديث . أحدها ما رواه المحدّث الجزايري في الأنوار النّعمانيّة عن الصدوق طاب ثراه باسناده إلى خالد بن ربعى قال : إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام دخل مكّة في بعض حوائجه فوجد اعرابيا متعلّقا بأستار الكعبة و هو يقول : يا صاحب البيت البيت بيتك و الضيف ضيفك و لكلّ ضيف من مضيفه قرى فاجعل قراى منك اللّيلة المغفرة فقال أمير المؤمنين عليه السّلام لأصحابه : أما تسمعون كلام الأعرابي ؟ قالوا : نعم قال عليه السّلام : اللّه اكرم من أن يردّ ضيفه . قال : فلمّا كان من اللّيلة الثانية وجده متعلّقا بذلك الركن و هو يقول : يا عزيزا في عزّك فلا أعزّ منك في عزّك أعزّني بعزّ عزّك في عزّ لا يعلم أحد كيف هو أتوجّه إليك و أتوسّل إليك بحقّ محمّد و آل محمّد عليك اعطنى ما لا يعطينى أحد غيرك ، و اصرف عني ما لا يصرفه أحد غيرك . قال فقال أمير المؤمنين عليه السّلام لأصحابه : هذا و اللّه الاسم الأكبر بالسريانية أخبرني به حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سأله الجنّة فأعطاه و سأله صرف النار فصرفها عنه . [ 382 ] قال : فلما كان اللّيلة الثالثة وجده و هو متعلّق بذلك الركن و هو يقول : يا من لا يحويه مكان و لا يخلو منه مكان بلا كيفية كان ارزق الأعرابي أربعة آلاف درهم . قال : فتقدّم إليه أمير المؤمنين عليه السّلام و قال يا اعرابي سألت ربّك فأقراك ، و سألت الجنّة فأعطاك ، و سألته أن يصرف عنك النار فصرفها عنك و في هذه اللّيلة تسأله أربعة آلاف درهم ؟ قال الاعرابي : من أنت ؟ قال عليه السّلام أنا علىّ بن أبيطالب قال الاعرابي : أنت و اللّه بغيتي و بك أنزلت حاجتي ، قال عليه السّلام : سل يا اعرابي ، قال : اريد ألف درهم للصداق ، و ألف درهم اقضى بها ( به خ ) ديني ، و ألف درهم اشترى بها دارا ، و ألف درهم أتعيّش بها ، قال أنصفت يا اعرابي فاذا خرجت من مكّة فسل عن دارى بمدينة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم . فأقام الاعرابي بمكّة اسبوعا فخرج في طلب أمير المؤمنين عليه السّلام إلى المدينة و نادى من يدلّني على دار أمير المؤمنين عليه السّلام فقال الحسين بن عليّ من بين الصبيان أنا أدلّك على دار أمير المؤمنين و أنا ابنه الحسين بن عليّ ، فقال الاعرابى : من أبوك ؟ قال : أمير المؤمنين عليّ بن أبيطالب عليه السّلام ، قال : من امّك ؟ قال : فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين ، قال : من جدّك ؟ قال : محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطلب ، قال من جدّتك ؟ قال خديجة بنت خويلد ، قال : من أخوك ؟ قال أبو محمّد الحسن بن عليّ عليه السّلام ، قال : قد أخذت الدّنيا بطرفيها امش إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و قل له إنّ الاعرابي صاحب الضمان بمكّة على الباب . قال : فدخل الحسين بن عليّ عليهما السّلام فقال يا أبه اعرابيّ بالباب و يزعم أنه صاحب الضمان بمكّة ، قال : فقال : يا فاطمة عندك شي‏ء يأكله الاعرابي ؟ قالت : اللّهم لا ، فتلبّس أمير المؤمنين عليه السّلام و خرج و قال : ادعو الي أبا عبد اللّه سلمان الفارسي قال . فدخل سلمان الفارسي ( رض ) فقال عليه السّلام : يا أبا عبد اللّه اعرض الحديقة التي غرسها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على التجار . قال : فدخل سلمان إلى السوق و عرض الحديقة فباعها باثنى عشر ألف درهم [ 383 ] و أحضر المال و أحضروا الاعرابي فأعطاه أربعة آلاف درهم و أربعين درهما نفقة ، و وقع الخبر إلى سؤّال المدينة فاجتمعوا ، و مضى رجل إلى فاطمة فأخبرها بذلك فقالت : آجرك اللّه في ممشاك ، فجلس عليّ عليه السّلام و الدّراهم مصبوبة بين يديه حتّى اجتمع عليه أصحابه فقبض قبضة قبضة و جعل يعطى رجلا رجلا حتى لم يبق معه درهم واحد فلما أتى المنزل قالت له فاطمة عليه السّلام : يا ابن عم بعت الحائط الذى غرسه لك والدى ، قال : نعم بخير منه عاجلا و آجلا ، قالت : فأين الثمن ؟ قال دفعته إلى أعين استحييت أن أذلّها بذلّ المسألة اعطيتها قبل أن تسألنى ، قالت فاطمة : أنا جايعة و أولادي جايعان و لا شكّ إلاّ و أنّك مثلنا في الجوع لم يكن لنا منه درهم و أخذت بطرف ثوب عليّ ، فقال عليّ : خلّيني ، فقالت عليها السّلام : لا و اللّه أو يحكم بيني و بينك أبي . فهبط جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال : يا محمّد ربك يقرءك السّلام و يقول اقرء عليّا منّي السّلام و قل لفاطمة : ليس لك أن تضربي على يديه و لا تلزمى بثوبه فلمّا أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منزل عليّ عليه السّلام وجد فاطمة ملازمة لعليّ عليه السّلام ، فقال لها با بنيّة ما لك ملازمة لعليّ ؟ قالت : يا أبت باع الحائط الّذي غرسته له باثنى عشر ألف درهم لم يحبس لنا منه درهما واحدا نشترى به طعاما ، فقال : يا بنيّة إنّ جبرئيل يقرئني من ربّي السّلام و يقول : اقرء عليّا منّي السّلام و أمرني أن أقول لك ليس لك أن تضربي على يديه و لا تلزمي بثوبه ، قالت فاطمة : أستغفر اللّه و لا أعود أبدا . قالت فاطمة عليها السّلام : فخرج أبي في ناحية و زوجي في ناحية فما لبث أن أتى أبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معه سبعة دراهم سود هجرية ، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : يا فاطمة أين ابن عمّي فقلت له : خرج ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : هاك هذه الدّراهم فاذا جاء ابن عمّي فقولي له يبتاع لكم بها طعاما ، فما لبث إلاّ يسيرا حتّى جاء عليّ عليه السّلام فقال : رجع ابن عمّي فانّي أجد رايحة طيّبة ، قالت : نعم و قد دفع إلىّ شيئا تبتاع به طعاما قال : فقال عليّ عليه السّلام : هاتيه ، فدفعت إليه سبعة دراهم سود هجريّة فقال : بسم اللّه [ 384 ] و الحمد للّه كثيرا طيبا و هذا من رزق اللّه تعالى ، ثمّ قال عليه السّلام : يا حسن قم معى فأتيا السّوق فاذا هما برجل واقف و هو يقول : من يقرض الملى الوفي ؟ قال : يا بنيّ نعطيه قال : اى و اللّه يا أبه ، فأعطاه علىّ الدّراهم كلّها ، فقال : يا أبتاه أعطيته الدّراهم كلّها ؟ قال : نعم يا بنيّ إنّ الّذي يعطى القليل قادر على أن يعطى الكثير . قال : فمضى عليّ عليه السّلام إلى باب رجل يستقرض منه شيئا ، فلقيه اعرابيّ و معه ناقة ، فقال : يا عليّ اشتر منّي هذه النّاقة قال : ليس معى ثمنها قال : فاني انظرك به إلى القبض ، قال : بكم يا اعرابي ؟ قال : بمأة درهم ، فقال عليّ عليه السّلام : خذها يا حسن فأخذها . فمضى عليّ عليه السّلام فلقيه اعرابي آخر المثال واحد و الثياب مختلفة فقال : يا علي تبيع النّاقة ، قال عليّ عليه السّلام : و ما تصنع بها ؟ قال : أغزو بها أوّل غزوة يغزوها ابن عمّك ؟ قال عليه السّلام : إن قبلتها فهى لك بلا ثمن ، قال : معى ثمنها و بالثّمن أشتريها ، قال : فبكم اشتريتها ؟ قال عليه السّلام : بمأة درهم ، قال الاعرابي : فلك سبعون و مأة درهم ، قال عليّ عليه السّلام للحسن عليه السّلام : خذ السّبعين و المأة و سلّم المأة للأعرابي الّذي باعنا الناقة و السبعين لنا نبتاع بها شيئا ، فأخذ الحسن عليه السّلام الدّراهم و سلّم الناقة قال عليّ عليه السّلام : فمضيت أطلب الاعرابي الذي ابتعت منه الناقة لأعطيه ثمنه فرأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جالسا لم أر فيه جالسا قبل ذلك اليوم و لا بعده على قارعة الطريق ، فلما نظر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليّ تبسّم ضاحكا حتّى بدت نواجذه ، قال عليّ عليه السّلام أضحك اللّه سنّك و بشرك بيومك ، فقال يا أبا الحسن إنك تطلب الاعرابي الذي باعك الناقة لتوفيه الثمن ؟ فقلت : إى و اللّه فداك أبي و امّي ، فقال : يا أبا الحسن الّذي باعك النّاقة جبرائيل و الّذي اشتريها منك ميكائيل و الناقة من نوق الجنة و الدّراهم من عند ربّ العالمين فأنفقها في خير و لا تخف إقتارا . الثانى ما روته العامة و الخاصة بروايات كثيرة تنيف على عشرين في سبب نزول سورة هل أتى ، فلنقتصر على رواية واحدة . [ 385 ] و هي ما في غاية المرام عن الصّدوق بسندين مذكوريين فيه أحدهما عن ابن عبّاس ، و ثانيهما عن الصّادق جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ « يوفون بالنّذر » قال عليه السّلام : مرض الحسن و الحسين و هما صبيّان صغيران فعادهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معه رجلان 1 فقال أحدهما لو نذرت في ابنيك نذرا إن عافاهما اللّه قال عليه السّلام أصوم ثلاثة أيّام للّه شكرا للّه عزّ و جلّ ، و كذلك قالت فاطمة ، و قال الصّبيان و نحن أيضا نصوم ثلاثة أيّام ، و كذلك قالت جاريتهم فضّة فألبسهما اللّه العافية فأصبحوا صائمين ، و ليس عندهم طعام . فانطلق عليّ عليه السّلام إلى جار له من اليهود يقال له : شمعون يعالج الصّوف ، فقال له : هل لك أن تعطيني جزّه من صوف تغزلها ابنة محمّد بثلاثة أصوع من شعير قال : نعم ، فأعطاه ، فجاء بالصّوف و الشّعير و أخبر فاطمة فقبلت و أطاعت ، ثمّ عمدت فغزلت ثلث الصّوف ثمّ أخذت صاعا من الشّعير فطحنته و عجنته و خبزت منه خمسة أقراص لكلّ واحد منهم قرص ، و صلّى عليّ عليه السّلام مع النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المغرب ثمّ أتى منزله فوضع الخوان و جلسوا خمستهم . فأوّل لقمة كسرها عليّ عليه السّلام إذا مسكين واقف ، فقال : السّلام عليكم يا أهل بيت محمّد أنا مسكين من مساكين المسلمين أطعموني ممّا تأكلون أطعمكم اللّه من موائد الجنّة ، فوضع اللّقمة من يده ثمّ قال عليه السّلام : فاطم ذات المجد و اليقين يا بنت خير النّاس أجمعين أما ترين البائس المسكين جاء إلى الباب له حنين يشكو إلى اللّه و يستكين يشكو إلينا جائع حزين كلّ امرء بكسبه رهين من يفعل الخير يكن حسين موعده في جنّة و مين حرّمها اللّه على الضّنين و صاحب البخل يقف حزين تهوى به النّار إلى سجّين شرابه الحميم و الغسلين ----------- ( 1 ) و هما أبو بكر و عمر كما في رواية الخوارزمى منه [ 386 ] فأقبلت فاطمة عليها السّلام تقول . أمرك سمع يا ابن عم و طاعة ما بى من لؤم و لا ضراعة غذيت باللّب و بالبراعة أرجو إذا أشبعت في مجاعة أن الحق الخيار و الجماعة و أدخل الجنّة في شفاعة و عمدت إلى ما كان من الخوان فدفعته إلى المسكين و باتوا جياعا و أصبحوا صياما لم يذوقوا إلاّ الماء القراح . ثمّ عمدت إلى الثلث الثّاني من الصّوف فغزلته ثمّ أخذت صاعا من الشّعير فطحنته و عجنته و خبزت منه خمسة أقراص لكلّ واحد قرص ، و صلّى عليّ عليه السّلام المغرب مع النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ أتا إلى منزله فلمّا وضع الخوان بين يديه و جلسوا خمستهم . فأوّل لقمة كسرها عليّ عليه السّلام إذا يتيم من يتامى المسلمين قد وقف فقال : السّلام عليكم يا أهل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنا يتيم المسلمين أطعموني ممّا تأكلون أطعمكم اللّه على موائد الجنّة ، فوضع عليّ عليه السّلام اللّقمة من يده ثمّ قال عليه السّلام : فاطم بنت السّيد الكريم بنت نبيّ ليس بالزّنيم قد جائنا اللّه بذا اليتيم من يرحم اليوم فهو رحيم موعده في جنّة النّعيم حرّمها اللّه على اللّئيم و صاحب البخل يقف ذميم تهوى به النّار إلى الجحيم شرابه الصّديد و الحميم فأقبلت فاطمة عليها السلام تقول : فسوف أعطيه و لا ابالي و اوثر اللّه على عيالي أمسوا جياعا و هم أشبالي أصغرهما يقتل في القتال في كربلا يقتل باغتيال لقاتليه الويل و الوبال تهوى به النّار إلى سفال كبوله زادت على الأكبال ثمّ عمدت فأعطته جميع ما على الخوان ، و باتوا جياعا لم يذوقوا إلاّ الماء القراح [ 387 ] فأصبحوا صياما . و عمدت فاطمة عليها السّلام فعزلت الثّلث الباقي من الصّوف و طحنت الثّلث الباقي و عجنته و خبزت منه خمسة أقراص لكلّ واحد منهم قرص و صلّى عليّ عليه السّلام مع النّبيّ ثمّ أتى منزله فقرب إليه الخوان فجلسوا خمستهم . فأوّل لقمة كسرها عليّ عليه السّلام إذا أسير من أسير المشركين قد وقف بالباب فقال : السّلام عليكم يا أهل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تأسرونا و تشدّونا و لا تطعمونا ، فوضع عليّ عليه السّلام اللّقمة من يده ثمّ قال : فاطم يا بنت النّبي أحمد بنت نبيّ سيّد مسدّد قد جائك الأسير ليس يهتدى ما يزرع الزارع سوف يحصد فأعطيه و لا تخطيه بنكد 1 فأقبلت فاطمة عليها السّلام و هى تقول : لم يبق ممّا كان غير صاع قد دبرت كفّي مع الذّراع شبلاى و اللّه هما جياع يا ربّ لا تتركهما ضياع أبوهما للخير ذو اصطناع عبل الذّراعين طويل الباع و ما على رأسي من قناع إلاّ عباء نسجها بصاع و عمدوا إلى ما كان على الخوان فأعطوه و باتوا جياعا و أصبحوا مفطرين ليس عندهم شي‏ء . قال شعيب في حديثه : و أقبل عليّ عليه السّلام بالحسن و الحسين عليهما السّلام نحو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هما يرتعشان كالفراخ من شدّة الجوع ، فلمّا بصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال : يا أبا الحسن أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم انطلق إلى بنتي فاطمة عليها السّلام فانطلقوا و هى في محرابها قد لصق بطنها بظهرها من شدّة الجوع و غارت عيناها ، ----------- ( 1 ) هكذا في رواية الصدوق و لا يستقيم وزن الشعر و أثبتناه كما وجدناه و فى رواية الخوارزمى عن ابن عباس ( رض ) : فأطعمى من غير من نكد و بعده : حتى تجازى بالذى لم ينفد منه [ 388 ] فلمّا رآها رسول اللّه ضمّها إليه ، و قال : وا غوثاه أنتم منذ ثلاث فيما أرى فهبط جبرائيل فقال : يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خذما هنالك في أهل بيتك ، قال : و ما آخذ يا جبرئيل ؟ قال : « هل أتى على الإنسان حين من الدّهر » حتّى بلغ « إنّ هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا » و قال الحسن بن مهران في حديثه : فوثب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى دخل منزل فاطمة فرأى ما بهم فجمعهم ثمّ انكبّ عليهم يبكى ، و قال : أنتم منذ ثلاث فيما أرى و أنا غافل عنكم ، فهبط جبرائيل بهذه الآيات إنّ الأبرار يشربون من كأسٍ كانَ مزاجها كافوراً عيناً يشرب بها عباد اللّه يفجّرونها تفجيرا قال : هى عين في دار النّبيّ يتفجّر إلى دور الأنبياء و المؤمنين يوفون بالنّذر يعني عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين و جاريتهما فضّة وَ يَخافُون يومًا كان شرُّه مستطيراً يقول عابسا كلوحا و يطعمون الطّعام على حبّه يقول على حبّ شهوتهم الطّعام و ايثارهم له مسكينا من مساكين المسلمين و يتيماً من يتامى المسلمين و أسيراً من اسارى المشركين ، و يقولون إذا أطعموهم إنّما نطعمكم لوجه اللّه لا نريد منكم جزاء و لا شكوراً قال : و اللّه ما قالوا هذا و لكنّهم أضمروا في أنفسهم فأخبر اللّه باضمارهم يقول : لا نريد منكم جزاء تكافوننا به ، و لا شكورا تثنون علينا به ، و لكنّا إنّما نطعمكم لوجه اللّه و طلب ثوابه قال اللّه تعالى ذكره فوقيهم اللّه شرّ ذلك اليوم و لقيّهم نضرة و سرورا نضرة في الوجوه و سرورا في القلب و جزاهم بما صبروا جنّة و حريرا جنّة يسكنونها و حريرا يفرشونه و يلبسونه متّكئين فيها على الأرائك و الأرائك السّرير عليه الحجلّة لا يرون فيها شمسا و لا زمهريرا قال ابن عبّاس : فبينا أنّ أهل الجنّة في الجنّة إذا رأوا مثل الشّمس اشرقت له الجنان فيقول أهل الجنّة : يا ربّ إنّك قلت في كتابك لا يرون فيها شمسا ، فيرسل اللّه جلّ اسمه إليهم جبرئيل فيقول : ليس هذه بشمس لكن عليّا و فاطمة ضحكا فأشرقت الجنان من نور ضحكهما ، و نزلت هل أتى فيهم إلى قوله : و كان سعيكم مشكورا . أقول : و قد أثبتّ الرّواية برمّتها و إن كان خاتمتها خارجة من الغرض الذي [ 389 ] نحن فيه شعفا منّي بذكر مآثر أمير المؤمنين و زوجته و الطّيّبين من أولادهما سلام اللّه عليهم ، و فيما رويناه من الفضل الّذي تخصّصوا به ما لم يشركهم فيه أحد و لا ساواهم في نظير له مساو . الثالث ما في الصافي من الأمالي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنه جاء إليه رجل فشكى إليه الجوع ، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى بيوت أزواجه فقال : ما عندنا إلاّ ماء ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : من لهذا الرّجل اللّيلة ؟ فقال عليّ بن أبيطالب : أنا له يا رسول اللّه و أتا فاطمة عليها السلام فقال لها : ما عندك يا ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ؟ فقالت : ما عندنا إلاّ قوت العشيّة لكنا نؤثر ضيفنا ، فقال : يا ابنة محمّد صلّى اللّه عليه و آله نومى الصبيّة و أطفى المصباح ، فلما أصبح عليّ عليه السّلام غدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره الخبر ، فلم يبرح حتى أنزل اللّه عزّ و جلّ « و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة و من يوق شحّ نفسه فاولئك هم المفلحون » هذا . و قد ظهر لك ممّا تضمنّته هذه الرّوايات الثلاث الذي هو انموزج ممّا تضمّنته ساير الرّوايات كيفيّة عيش رسول اللّه مع خواصّه في دار الدّنيا و زهدهم فيها و ايثارهم الآخرة على الاولى و أنّها قبضت عنه و عن أهل بيته ( و زويت ) أى صرفت و نحيت ( عنه زخارفها ) و زينتها ( مع عظيم ) تقرّبه و ( زلفته فلينظر ناظر بعقله ) أنه لو يكون في الدّنيا و الاكثار منها خير لم يفت هؤلاء الأكياس الذين هم أقرب الخلق إلى اللّه و خاصّته و حججه على ساير الناس ، بل تقرّبوا إليه سبحانه بالبعد عنها ، و تحبّبوا إليه تعالى بالبغض لها . و ليتفكّر بفكرة سليمة أنه ( أكرم اللّه تعالى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله ) و ساير أنبيائه و أوليائه ( بذلك ) الضيق في الدّنيا و الاعسار فيها ( أم أهانه ) و أهانهم . ( فان قال أهانه ) و إيّاهم ( فقد كذب و العظيم ) ضرورة أنّ أحقر ملك من ملوك الدّنيا لا يقصد بأحد من خاصّته إذا كان مطيعا له منقادا لأمره مخلصا في طاعته الاهانة فكيف يصدر ذلك عن ملك السلوك و سلطان السلاطين حكيم الحكماء و رحيم الرحماء في حقّ أخصّ خواصّه و أقربهم إليه و أشدّهم زلفة عنده و اكثرهم [ 390 ] طاعة له . ( و إن قال أكرمه ) و أكرمهم كما هو الحقّ و الصدق ( فليعلم أنّ اللّه ) قد ( أهان غيره ) و غيرهم إذ الشي‏ء إن كان عدمه إكراما و كمالا كان وجوده نقصا و إهانة ف ( حيث بسط الدّنيا ) له أى لذلك الغير ( و زويها عن أقرب الناس منه ) كان في بسطها له إهانة لا محالة . ( فتأسّي متأسّ بنبيّه و اقتصّ أثره و ولح مولجه ) الفاء فصيحة و الجملات الثلاث إخبار في معنى الانشاء أى إذا عرف زهد النّبيّ في الدّنيا و علم أنّها دار هوان فليتأسّ المتأسّي به صلّى اللّه عليه و آله ، و ليتبّع أثره و ليدخل مدخله و يحذو حذوه و ليرغب عنها . ( و إلاّ فلا يأمن الهلكة ) لأنّ حبّ الدّنيا و التّنافس فيها رأس كلّ خطيئة جاذبة من درجات النّعيم إلى دركات الجحيم . و أوضح هذه العلّة بقوله ( فانّ اللّه سبحانه جعل محمّدا صلّى اللّه عليه و آله علما للسّاعة و مبشّرا بالجنّة و منذرا بالعقوبة ) أى مطلعا بأحوال الآخرة جميعها ، فحيث آثر الآخرة على الاولى و ترك الرّكون إليها مع اطلاعه عليهما علم أن ليس ذلك إلاّ لكون الدّنيا مظنّة الهلاك ، و العقبى محلّة النّجاة و الحياة ، فالرّاكن إليها متعرّض للهلاك الدائم و الخزي الأبد لا محالة . و يظهر لك عدم ركونه صلّى اللّه عليه و آله إليها بأنّه ( خرج من الدّنيا خميصا ) أى جائعا إمّا حقيقة أو كناية عن عدم الاستمتاع بها ( و ورد الآخرة سليما ) من التبعات و المكاره ( لم يضع حجرا على حجر ) كناية عن عدم بنائه فيها ( حتّى مضى لسبيله و أجاب داعى ربّه ) . قال الحسن : مات رسول اللّه و لم يضع لبنة على لبنة و لا قصبة على قصبة ، رواه في إحياء العلوم . و فيه أيضا قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله : إذا أراد اللّه بعبد شرّا أهلك ماله في الماء و الطّين . [ 391 ] و قال عبد اللّه بن عمر : مرّ علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نحن نعالج خصّا ، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : ما هذا ؟ قلنا : خصّ لنا قد وهى ، فقال : أرى الأمر أعجل من ذلك . و قال الغزالي : و قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من بنى فوق ما يكفيه كلّف أن يحمله يوم القيامة ، هذا . و لمّا فرغ من التزهيد في الدّنيا و التّرغيب في الآخرة بالتّنبيه على هوانها و حقارتها بما لا مزيد عليه ، و بشرح حال أولياء الدّين من خاتم النّبيّين و ساير الأنبياء و المرسلين سلام اللّه عليهم أجمعين في رفضهم لها و تركهم ايّاها ، أردف ذلك بالاشارة إلى زهده و إظهار غاية الامتنان من اللّه سبحانه في إنعامه عزّ و جلّ عليه عليه السّلام بالتّأسّي بنبيّه فقال : ( فما أعظم نعمة اللّه عندنا حين أنعم علينا به ) أى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ( سلفا نتّبعه و قائدا نطا عقبه ) و نقفو أثره و نسلك سبيله في زهده . و أوضح اتّباعه و تأسّيه به صلّى اللّه عليه و آله بالاشارة إلى بعض مراتب زهده فانّه انموزج من ساير المراتب ، و فيه عبرة لمن اعتبر ، و كفاية لمن تذكّر ، فقال : ( و اللّه لقد رقعت مدرعتى هذه ) و هو ثوب من صوف يتدرّع به ( حتّى استحييت من راقعها ) لكثرة رقاعها ( و لقد قال لي قائل ) لمّا رأى أنّها خلق و سمل ( ألا تنبذها ) و تطرحها ( عنك فقلت ) له ( اعزب ) أى غب و تباعد ( عنّي فعند الصّباح يحمد القوم السّرى ) و هو مثل يضرب لمن احتمل المشقّة عاجلا لينال الرّاحة آجلا . و أصله أنّ المسافر إذا احتمل المشقّة و حرّم على نفسه لذة الرّقاد و بادر إلى السّرى من أوّل اللّيل و جدّ في سيره فانّه يبلغ عند الصّباح منزله و يصل إليه سالما غانما و ينزل أحسن المنازل و أشرفها مقدّما على غيره ، و يستريح من تعب اللّيل و يكون محمودا ، بخلاف من أخذه نوم الغفلة و آثر اللّذة العاجلة على الآجلة ، فانّه إذا سرى في آخر اللّيل و في اخريات النّاس فانّه ربما يغيله اللّصوص فلا يسلم أو يضلّ ؟ ؟ ؟ عن الطّريق فيعطب ، و مع سلامته يكون مسيره في حرّ النّهار على و صب و تعب ، فيصل إلى المنزل بعد ما سبق غيره إلى أحسنه و أشرفه ، فلا يجد له منزلا و مقيلا إلاّ أردء المنازل و أدونها ، فعند ذلك يلوم نفسه بتفريطه ، و يذمّه غيره و يندم [ 392 ] على ما فرّط و لا ينفعه النّدم . و بهذا التّقرير انقدح لك وجه المطابقة بين المثال و الممثّل . بيانه أنّ ذلك النشأة المشوبة بالكدورات و العلايق الظّلمانية البدنيّة بمنزلة اللّيل ، و النّشأة الاخرويّة المطابقة لتلك النشأة الّتي هى دار التجرّد الصّافية عن الكدورات و العلاقات بمنزلة الصّباح الواقع عقيب اللّيل ، و الوطن الأصلي للانسان هى الدّار الآخرة ، و هو في الدّنيا بمنزلة المسافر ، فمن ترك الدّنيا وجدّ في السّير إلى الآخرة بالمواظبة على الطّاعات و الرّياضات الشّاقّة الموصلة له إليها وصل إلى مقصده ، و نزل في غرفات الجنان ، و فيهنّ خيرات حسان فعند ذلك يكون محمودا مسرورا عند نفسه و عند الخالق و الخلايق لما صبر على مشاقّ الدّنيا و مقاساة الشّدائد . و من أخذه نوم الغفلة فيها و اغترّ باللّذات الحاضرة و الشهوات العاجلة ، و رد الآخرة و ليس له مقام إلاّ سجّين ، و لا شراب و طعام إلاّ من حميم و غسلين ، فعند ذلك يلومه نفسه و غيره و يندم على تقصيره ، و يقعد ملوما محسورا و يدعو ثبورا تذييلان الاول قد مضى في مقدّمات شرح الخطبة الشقشقيّة و في غيرها بعض الكلام في زهد أمير المؤمنين عليه السّلام ، و أقول هنا مضافا إلى ما سبق : روى في عدّة الدّاعي عن خبير بن حبيب قال : نزل بعمر بن خطّاب نازلة قام لها و قعد ، و تربخ لها و تقطر 1 ثمّ قال : يا معشر المهاجرين ما عندكم فيها قالوا : يا أمير المؤمنين أنت المفزع و المنزل ، فغضب و قال : يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا اللّه و قولوا قولا سديدا ، أما و اللّه إنّا و إيّاكم لنعرف ابن بجدتها 2 و الخبير ----------- ( 1 ) تربخ بالباء الموحدة و الخاء المعجمة استرخى ، و تقطر تهيأ للقتال و رمى بنفسه من علو ، ق . ----------- ( 2 ) ابن بجدتها بالباء و الجيم يقال : بالعالم بالشى‏ء ، و للدليل الهادى ، و لمن لا يبرح عن قوله هكذا فى ق [ 393 ] بها ، قالوا : كأنّك أردت ابن أبي طالب ؟ قال : و أنّي يعدل بي عنه و هل طفحت جرّة بمثله ؟ قالوا : فلو بعثت إليه ، قال : هيهات هيهات هناك شمخ من هاشم و لحمة من الرّسول و اثرة من علم يؤتى لها و لا يأتي ، امضوا إليه فاقصفوا 1 نحوه و أفضوا إليه ، و هو في حايط له عليه تبّان يتركّل على مسحاته 2 و هو يقول : « أ يحسب الانسان أن يترك سدى ، ألم يك نطفة من منىّ يمنى ، ثمّ كان علقة فخلق فسوّى » و دموعه تهمى على خدّيه ، فأجهش 3 القوم لبكائه ثمّ سكن و سكنوا ، و سأله عمر عن مسألة فأصدر إليه جوابها فلوى عمر يديه ثمّ قال : أما و اللّه لقد أرادك الحقّ و لكن أبى قومك ، فقال عليه السّلام : يا أبا حفص خفّض عليك من هناك و من هنا إنّ يوم الفصل كان ميقاتا ، فانصرف و قد أظلم وجهه و كأنّما ينظر إليه من ليل . و فى شرح المعتزلي عن أحمد بن حنبل قال : لمّا ارسل عثمان إلى عليّ عليه السّلام وجدوه مؤتزرا بعباة محتجزا بعقال 4 و هو يهنأ 5 بعيرا له . و في كشف الغمة من مناقب الخوارزمي عن عبد اللّه بن أبي الهذيل قال : رأيت على عليّ عليه السّلام قميصا زريّا إذا مدّه بلغ الظفر ، و إذا أرسله كان مع نصف الذراع ، و منه عن عديّ بن ثابت قال : اتي عليّ بن أبيطالب عليه السّلام بفالوذج فأبى أن يأكل منه ، و قال : شي‏ء لم يأكل منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا أحبّ أن آكل منه . و منه عن أبي مسطر قال : خرجت من المسجد فاذا رجل ينادي من خلفي : ارفع إزارك فانّه أتقى لثوبك و أبقى لك و خذ من رأسك إن كنت مسلما ، فمشيت خلفه و هو مؤتزر بازار و مرتد برداء و معه الدّرة كأنّه أعرابيّ بدويّ ، فقلت من هذا ----------- ( 1 ) اى تزاحموا اليه . ----------- ( 2 ) سراويل صغير يستر العورة المغلظة يكون مع الملاحين ، و تركل بمسحاته ضربها برجله لتدخل الارض ، منه ----------- ( 3 ) اى تهيأوا للبكاء ----------- ( 4 ) أى شدّ وسطه بالحبل لتشمير ثوبه و يقال لذلك الحبل الحجاز ----------- ( 5 ) أى يطلبه بالقطران [ 394 ] فقال لي رجل أراك غريبا بهذا البلد ، قلت : أجل رجل من أهل البصرة ، قال : هذا عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام حتّى انتهى الى دار بني أبي معيط و هو سوق الابل فقال : بيعوا و لا تحلفوا فانّ اليمين تنفق السّلعة و تمحق البركة . ثمّ أتى أصحاب التمر فاذا خادمة تبكى فقال : ما يبكيك ؟ قالت : باعنى هذا الرّجل تمرا بدرهم فردّوه موالىّ فأبى أن يقبله ، فقال : خذ تمرك و أعطها درهمها فانّها خادم ليس لها أمر ، فدفعه ، فقلت أتدرى من هذا ؟ قال : لا قلت : عليّ بن أبيطالب أمير المؤمنين عليه السّلام فصبّ تمره و أعطاها درهمها و قال : احبّ أن ترضى عنّى ، فقال : ما أرضاني عنك إذا وفيتهم حقوقهم . ثمّ مرّ مجتازا بأصحاب التّمر فقال : يا أصحاب التمر أطعموا المساكين يربو كسبكم . ثمّ مرّ مجتازا و معه المسلمون حتّى أتى أصحاب السّمك فقال : لا يباع فى سوقنا طاف . ثمّ أتى دار فرات و هو سوق الكرابيس فقال : يا شيخ أحسن بيعي في قيمصي بثلاثة دراهم ، فلمّا عرفه لم يشتر منه شيئا ، فأتى غلاما حدثا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم و لبسه ما بين الرّسغين إلى الكعبين ، و قال حين لبسه : الحمد للّه الّذي رزقني من الرّياش ما أتجمّل به في النّاس و اوارى به عورتي . فقيل له : يا أمير المؤمنين هذا شي‏ء ترويه عن نفسك أو شي‏ء سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال : بل شي‏ء سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقوله عند الكسوة : فجاء أبو الغلام صاحب الثّوب فقيل يا فلان قد باع ابنك اليوم من أمير المؤمنين عليه السّلام قميصا بثلاثة دراهم قال : أفلا أخذت منه درهمين . فأخذ أبوه درهما و جاء به إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و هو جالس على باب الرّحبة و معه المسلمون ، فقال : امسك هذا الدّرهم يا أمير المؤمنين ، قال عليه السّلام : ما شأن هذا الدّرهم ؟ قال : كان ثمن قميصك درهمين ، فقال : باعني رضاى و أخذ رضاه . و منه قال ابن الأعرابي : إنّ عليّا عليه السّلام دخل السّوق و هو أمير المؤمنين فاشترى قميصا بثلاثة دراهم و نصف فلبسه في السّوق فطال أصابعه ، فقال عليه السّلام [ 395 ] للخيّاط : قصّه ، قال : فقصّه و قال الخيّاط : أحوصه 1 يا أمير المؤمنين ؟ قال : لا و مشى و الدّرة على كتفه و هو عليه السّلام يقول : شرعك ما بلغك المحلّ شرعك 2 ما بلغك المحل . و في كشف الغمة أيضا قال هارون بن عنترة : قال حدّثني أبي قال : دخلت على عليّ بن أبيطالب عليه السّلام بالخورنق و هو يرعد تحت سمل 3 قطيفة ، فقلت : يا أمير المؤمنين إنّ اللّه تعالى قد جعل لك و لأهل بيتك في هذا المال ما يعمّ و أنت تصنع بنفسك ما تصنع ؟ فقال : و اللّه ما أرزاكم من أموالكم شيئا و انّ هذه لقطيفتي الّتي خرجت بها من منزلي من المدينة ما عندي غيرها . و فيه و خرج عليه السّلام يوما و عليه ازار مرقوع فعوتب عليه فقال : يخشع القلب بلبسه و يقتدى بي المؤمنين إذا رآه عليّ . و اشترى عليه السّلام يوما ثوبين غليظين فخيّر قنبرا فيهما ، فأخذ واحدا و لبس هو الآخر ، و رأى في كمّه طولا عن أصابعه فقطعه . و كان عليه السّلام قد وليّ على عكبرا رجلا من ثقيف قال : قال لي عليّ عليه السّلام إذا صلّيت الظّهر غدا فعد إليّ ، فعدت إليه في الوقت المعيّن فلم أجد عنده حاجبا يحبسنى دونه فوجدته جالسا و عنده قدح و كوز ماء ، فدعا بوعاء مشدود مختوم ، فقلت : قد أمننى حتّى يخرج إلىّ جوهرا ، فكسر الختم فاذا فيه سويق فأخرج منه فصبّه في القدح و صبّ عليه ماء فشرب و سقاني فلم أصبر فقلت له : يا أمير المؤمنين أتصنع هذا في العراق و طعامه كما ترى في كثرته ؟ فقال عليه السّلام : أما و اللّه ما أختم عليه بخلا به و لكنّى أبتاع قدر ما يكفيني فأخاف أن ينقص فيوضع فيه من غيره و أنا أكره أن أدخل بطني إلاّ طيّبا ، فلذلك أحترز عليه كما ترى ، فايّاك و تناول ما لا تعلم حلّه . قال كاشف الغمّة بعد روايته لهذه الأخبار و غيرها ممّا تركنا روايتها خوف الاطالة : و كم له صلّى اللّه عليه من الآثار و الأخبار و المناقب الّتي لا تستر أو يستر ----------- ( 1 ) الحوص الخياطة ----------- ( 2 ) اى كفاك و حسبك ----------- ( 3 ) السمل الخلق من الثياب . [ 396 ] وجه النّهار ، و السّيرة الّتي هى عنوان السّير ، و المفاخر الّتي يتعلّم منها من فخر ، و المآثر الّتي تعجز من بقى كما أعجزت من غبر ، فأعجب بهذه المكارم و الأفعال الّتي هي غرر في جهات الأيّام ، و الزّهادة الّتي فاق بها جميع الأنام ، و الورع الّذي حمله على ترك الحلال فضلا عن الحرام ، و العبادة الّتي أوصلته إلى مقام وقف دونه كلّ الأقوام . و لمّا ألزم نفسه الشّريف تحمّل هذه المتاعب ، و قادها إلى اتّباعه فانقادت انقياد الجنائب ، و ملكها حتّى صاحب منها أكرم عشير و خير مصاحب ، و استشارها ليختبرها فلم تنه إلاّ عن منكر و لا أمرت إلاّ بواجب صار له ذلك طبعا و سجيّة ، و انضمّ عليه ظاهرا و نية ، و اعمل فيه عزيمة بهمّة قويّة ، و استوى في السّعى لبلوغ غاياته علانية و طويّة ، فما تحرّك حركة إلاّ بفكر و في تحصيل أجر ، و في تخليد ذكر لا لطلب فخر و إعلاء قدر ، بل لامتثال أمر و طاعة في سرّ و جهر ، فلذلك شكر اللّه سعيه حين سعى ، و عمّه بألطافه العميمة و رعى ، و أجاب دعائه لما دعى ، و جعل اذنه السّميعة الواعية فسمع و وعى ، فاسأل اللّه بكرمه أن يحشرني و محبّيه و إيّاه معا . قال كاشف الغمّة : أنشدني بعض الأصحاب لبعض العلويّين . عتبت على الدّنيا و قلت إلى متى أكابد عسرا ضرّه ليس ينجلي أكلّ شريف من على جدوده حرام عليه الرّزق غير محلّل فقالت نعم يا ابن الحسين رميتكم بسهمى عنادا حين طلّقني على 1 التذييل الثانى لمّا كان هذا الفصل من خطبته عليه السّلام متضمّنا للتحريض على الجوع و الترغيب فيه تأسّيا بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ساير السّلف الصّالحين أحببت أن أعرّفك فوايد الجوع ----------- ( 1 ) و يبالى انى رأيت في بعض الكتب نسبة هذه الابيات الى الشريف الرضى مؤلف المتن و عليه فالمراد بالحسين فى البيت الاخير هو أبو الرضى ره كما عرفته في ديباجة الشرح في ترجمته ، منه [ 397 ] و آفات الشّبع على ما يستفاد من الأخبار و يدلّ عليه الوجدان و التجربة فأقول : قال الغزالي في إحياء العلوم ما ملخّصه ببعض تصرّف و تغيير منّا : إنّ في الجوع عشر فوايد . الفائدة الاولى صفاء القلب و إيقاد القريحة و إنفاذ البصيرة ، فانّ الشّبع يورث البلادة و يعمى القلب و يكثر البخار في الدّماغ شبه السّكر حتّى يحتوى على معادن الفكر ، فيثقل القلب بسببه عن الجريان في الأفكار و عن سرعة الادراك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : أحيوا قلوبكم بقلّة الضّحك و قلّة الشّبع ، و طهّروها بالجوع تصفو و ترق . و قال لقمان لابنه : يا بنىّ إذا امتلائت المعدة نامت الفكرة و خرست الحكمة و قعدت الأعضاء عن العبادة . الثانية رقّة القلب و صفائه الّذي به يتهيّأ لادراك لذّة المناجاة و التّأثر بالذّكر ، فكم من ذكر يجرى على اللّسان و لكنّ القلب لا يلتذّ به و لا يتأثّر حتّى كأنّ بينه و بينه حجابا من قسوة القلب ، و إنّما يحصل التّلذّذ و التّأثّر بخلوّ المعدة كما هو معلوم بالتّجربة . الثالثة الانكسار و الذّل و زوال البطر و الأشر و الفرح الّذي هو مبدء الطغيان و الغفلة عن اللّه كما قال تعالى « إنّ الإنسانَ لَيَطغى أَنْ رآهُ استغنى‏ » فلا تنكسر النّفس و لا تذلّ بشي‏ء كما تذلّ بالجوع ، فعنده تسكن لربّها و تخشع و تذعن بعجزها و ذلّها لما ذاقت حيلتها بلقمة طعام و أظلمت الدّنيا عليها بشربة ماء ، و ما لم يشاهد الانسان ذلّ نفسه و عجزه لا يرى عزّة مولاه و لا قهره . و لذلك إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا جائه جبرئيل و عرض عليه خزائن الدّنيا و أبي من قبولها قال لجبرئيل : دعنى أجوع يوما و أشبع يوما ، فاليوم الّذي أجوع فيه أتضرّع إلى ربّي و أسأله ، و اليوم الّذي أشبع فيه أشكر ربّي و أحمده ، فقال له جبرئيل : وفّقت لكلّ خير . [ 398 ] الرابعة التّذكّر بجوعه جوع الفقراء و المساكين و المحتاجين ، لأنّ الانسان إنّما يقيس غيره على نفسه فيلاحظ حال الغير بملاحظة حاله ، فاذا شاهد في نفسه ألم الجوع يعرف بذلك ما في المحتاجين من الألم ، فيوجب ذلك مواساتهم ، و يدعو إلى الاطعام و الشّفقة و الرّحمة على خلق اللّه ، و الشّبعان بمعزل عن ذلك و غفلة منه . و لذلك قيل ليوسف عليه السّلام : لم تجوع و في يديك خزائن الأرض ؟ فقال : أخاف أن اشبع فانسى الجايع . الخامسة التّذكّر به جوع يوم القيامة و عطشه ، فانّ العبد لا ينبغي أن يغفل أهوال يوم القيامة و آلامها . قال في عدّة الدّاعي : قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : أكثر النّاس شبعا أكثرهم جوعا يوم القيامة ، لأنّ تذكّرها يهيج الخوف و الخشية من اللّه و هو زمام النّفس الأمّارة العاطف لها عن الفحشاء و المنكر . السادسة و هي أعظم الفوايد كسرة شهوات المعاصي كلّها و الاستيلاء على النّفس فانّ منشأ المعاصى الشّهوات و القوى ، و مادّة القوى و الشّهوات هى الأطعمة البتّة ، فتقليلها يضعف كلّ شهوة و قوّة ، و إنّما السّعادة كلّها في أن يملك الرّجل نفسه و لا يملكه نفسه و كما أنّك لا تملك الدّابة الجموح إلاّ بضعف الجوع و الهزال فاذا شبعت قويت و شردت و جمحت ، فكذلك النّفس . و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : إنّ الشّيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدّم في العروق ، فضيّقوا مجاريه بالجوع . السابعة دفع النوم و دوام السّهر ، فانّ من شبع شرب كثيرا ، و من كثر شربه كثر نومه ، و في كثرة النّوم ضياع العمر و فوات التهجّد و العمر أنفس الجواهر و هو رأس مال الانسان به يتّجر و يتزوّد لآخرته ، و فضيلة التّهجّد غير خفيّة . الثامنة تيسير المواظبة على العبادات ، فانّ كثرة الأكل مانعة منها ، لأنّها محتاجة إلى زمان يشتغل فيه بالأكل و مضغ الطّعام و ازدراده في الفم ، و ربّما يحتاج إلى شراء الطّعام و طبخه و غسل اليد و نحوها ، و في ذلك تفويت العمر و تضييع الوقت [ 399 ] فلو صرف زمانه المصروف إلى ذلك في الطّاعات و المناجات لعظم أجره و كثر ربحه التاسعة صحّة البدن و السّلامة من الأمراض ، فانّ سببها كثرة الأكل و حصول فضلة الأخلاط في المعدة و العروق . روى إنّ سقراط الحكيم كان قليل الأكل فقيل له في ذلك : فأجاب إنّ الأكل للحياة و ليس الحياة للأكل . قال المحدّث الجزائري في زهر الرّبيع : ورد في الحديث أنّ حكيما نصرانيّا دخل على الصّادق عليه السّلام فقال : أفي كتاب ربّكم أم في سنّة نبيّكم شي‏ء من الطّب ؟ فقال : أمّا في كتاب ربّنا فقوله تعالى « كُلُوا وَ اشرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا » و أمّا في سنّة نبيّنا : الاسراف في الأكل رأس كلّ داء و الحمية منه رأس كلّ دواء ، فقام النّصراني و قال : و اللّه ما ترك كتاب ربّكم و لا سنّة نبيّكم شيئا من الطبّ لجالينوس قال : روي عنه عليه السّلام أنه لو سئل أهل القبور عن السّبب و العلّة في موتهم لقال أكثرهم التّخمة ، فعلم من ذلك أنّ عمدة السبب للمرض هو كثرة الأكل و ممانعة المرض من العبادات و تشويشه للقلب و منعه من الذّكر و الفكر و تنغيصه للعيش معلوم . العاشرة خفّة المؤنة ، فانّ من اعتاد قلّة الأكل كفاه القليل من الطعام و اليسير من المال ، بخلاف من تعوّد البطنة ، فانّ بطنه صار غريما له آخذا بخناقه في كلّ يوم و ليلة ، فيلجاه إلى أن يمدّ عين الطمع إلى الناس ، و يدخل المداخل فيكتسب إما من الحرام فيعصى ، أو من الحلال فيحاسب . هذا كله مضافا إلى ما في قلّة الأكل من التمكّن من الايثار و التصدّق بفاضل قوته على الفقراء و المساكين ، فيكون يوم القيامة في ظلّ صدقته ، و قد تقدّم في شرح الخطبة المأة و التاسعة في فضايل الصوم و الصدقة ما يوجب زيادة البصيرة في هذا المقام فليتذكّر . ثم انه بقى الكلام في مقدار قلّة الأكل ، و قد عيّنه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيما رواه عنه في عدّة الدّاعي قال : و يروى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال : حسب ابن آدم لقيمات يقمن [ 400 ] به صلبه ، فان كان و لا بدّ فليكن الثّلث للطعام و الثّلث للشراب و الثّلث للنّفس . قال القرطبي لو سمع بقراط بهذه القسمة لتعجّب في هذه الحكمة . قيل : لا شكّ إنّ أثر الحكمة في هذا الحديث واضح و إنّما خصّ الثلاثة 1 بالذّكر ، لأنّها أسباب حياة الحيوان ، لأنّه لا يدخل البطن سواها . و مراتب الأكل على ما قاله بعضهم سبع : الاولى ما به تقوم الحياة الثانية أن يزيد حتّى أن يصوم و يصلّى عن قيام ، و هذان واجبان الثالثة أن يزيد حتّى يقوى على أداء النوافل الرابعة أن يزيد حتّى يقدر على التكسّب للتّوسعة ، و هذان مستحبّان الخامسة أن يملاء الثّلث و هذا جايز السادسة أن يزيد على ذلك فيثقل البدن و يكثر النوم ، و هذا مكروه السابعة أن يزيد حتّى يتضرّر و هى البطنة المنهىّ عنها و هذا حرام ، و يمكن إدخال الأولى إلى الثّانية و الثالثة إلى الرّابعة . الترجمة فصل دويم از اين خطبه متضمّن است ابطال دعوى بعض أهل زمان رجا بثواب خداوند را و خوف از عقاب آن مى‏فرمايد : ادّعا مى‏كند بزعم فاسد خود كه اميدوار است بخداى تعالى دروغ ميگويد بحقّ خداى بزرگ ، چيست حال او كه ظاهر نمى‏شود رجا و اميدوارى در عمل او و هر كه اميد داشته باشد شناخته مى‏شود اميدواري در عمل و كردار او مگر اميد بخداوند متعال كه بدرستي آن مغشوش است و معيوب ، و هر ترس محقّق است مگر ترس از حقتعالى پس بدرستى كه آن معلولست و مريض ، اميد مى‏دارد آن شخص بخدا در چيز بزرگ و اميد مى‏دارد به بندگان در چيز حقير پس مى‏دهد به بنده چيزيرا كه نمى‏دهد بپروردگار ، پس چيست شأن خداى عزّ و جل كه تقصير كرده مى‏شود بأو از آن چيزى كه رفتار مى‏شود با آن بر بندگان او ، آيا مى‏ترسى كه ----------- ( 1 ) أى الطعام و الشراب و النفس منه [ 401 ] باشى در اميدوارى تو بأو دروغ گوى ، يا باشى كه نه بينى او را از براى اميدوارى محل قابل . و همچنين است اگر او بترسد از بنده از بندگان خدا عطا مى‏كند بأو از جهة خوف خود چيزيرا كه عطا نمى‏كند بپروردگار خود ، پس ميگرداند ترس خود را از بندگان نقد و ترس خود را از خالق خود وعده غير اميدوار ، و همين قرار است كسى كه عظم و شأن داشته باشد دنيا در چشم او ، و بزرگ باشد وقع دنيا از قلب او ترجيح مى‏دهد آن دنيا را بر خدا پس بالكلّيه رجوع نمايد بآن دنيا و برگردد بنده از براى آن . و بتحقيق كه هست در رفتار و كردار حضرت رسالتمآب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كفايت كننده مر تو را در تأسّى و پيروى نمودن بآن بزرگوار و راه نماينده از براى تو بر مذمت دنياى فانى و كثرت مهالك و معايب آن ، از جهة اينكه بسته شد از او اطراف آن ، و مهيا شد از براى غير او جوانب او ، و باز گرفته شد از شيرخوارى دنيا ، و دور كرده شد از زينتهاى آن . و اگر بخواهى دو تا گردانى اعراض حضرت رسالتمآب را از دنيا با اعراض و زهد حضرت موسى كليم اللّه وقتى كه گفت بخداوند تعالى : بار پروردگارا بدرستى من محتاجم بآنچه كه فرو ميفرستى بمن از طعام ، قسم بخدا كه سؤال نمى‏كرد از خداوند مگر نانى كه بخورد آنرا ، بجهة اينكه بود آن حضرت مى‏خورد سبزي زمين را ، و بتحقيق كه بود سبزى تره ديده ميشد از پوست درون شكم او بجهة لاغري او و كمى گوشت او . و اگر مى‏خواهى سه تا گردانى آنرا با زهد حضرت داود عليه السّلام صاحب مزمارهاى زبور و قرائت كننده أهل بهشت ، پس بتحقيق كه بود عمل مى‏كرد ببافته‏شده‏هاى برگ درخت خرما يعنى زنبيل مى‏بافت بدست خود مى‏گفت بهمنشينان خود كدام يك از شما كفايت مى‏كند مرا بفروختن اين ، و مى‏خورد نان جوى از قيمت آن . [ 402 ] و اگر بخواهى بگوئى در عيسى بن مريم عليه السّلام پس بتحقيق كه بود بالش اخذ مى‏نمود سنگ را ، و مى‏پوشيد جامه درشت را ، و بود نان خورش او گرسنگى و چراغ او در شب روشنائى ماه ، و سايه بانهاى او در فصل زمستان مشرقهاى آفتاب و مغربهاى آن ، و ميوه او و ريحان او آنچه كه مى‏رويانيد آن را زمين از براى حيوانات و نبود او را زنى كه مفتون نمايد او را ، و نه فرزندى كه محزون كند او را ، و نه مالى كه برگرداند او را از حق ، و نه طمعى كه ذليل بگرداند او را ، مركب او پايهاى او بود ، و خدمتكار او دستهايش بود . پس تأسّى كن به پيغمبر پاك پاكيزه خودت صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، پس بتحقيق كه در اوست قابليّت متبوعيّت از براى كسى كه اقتدا و تبعيّت نمايد ، و لياقت انتساب از براى كسى كه نسبت خود را باو بدهد ، و دوسترين بندگان بسوى خدا كسى است كه تأسّى نمايد به پيغمبر خود و متابعت كند أثر او را ، خورد دنيا را خوردنى أندك بأطراف دندان و پر نكرد از آن دهان خود را ، و نظر التفات بسوى او نگماشت ، لاغرترين أهل دنيا بود از حيثيّت تهى‏گاه ، و گرسنه‏ترين ايشان بوده از حيثيّت شكم ، عرض كرده شد بر او خزاين دنيا پس امتناع فرمود از قبول آن و دانست كه خداى تعالى دشمن داشته چيزى را پس دشمن گرفت آن حضرت نيز آنرا ، و حقير گرفته چيزيرا پس حقير گرفت آن حضرت نيز آن را ، و كوچك و بى‏مقدار شمرده چيزيرا پس كوچك شمرد آن هم او را . و اگر نشود در ما هيچ چيز مگر محبّت ما بچيزى كه دشمن داشته خدا و رسول او ، و تعظيم ما چيزى را كه خوار و خرد شمرده خدا و رسول او هر آينه كفايت مى‏كند آن از حيثيّت مخالفت مر خدا را ، و از حيثيّت معاداة و مجانبت از فرمان آن . و بتحقيق كه بود حضرت رسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مى‏خورد طعام را بر روى زمين ، و مى‏نشست مانند نشستن غلام ، و مى‏دوخت با دست خود كفش خودش را ، و پينه ميزد با دست خود رخت خود را ، و سوار مى‏شد بر دراز گوش برهنه و رديف ميكرد [ 403 ] در پس خود ديگريرا ، و مى‏بود پرده بر در خانه آن حضرت پس مى‏شد در آن پرده نقش نگارها ، پس مى‏فرمود بر يكى از زوجات خود : أى فلانه پنهان كن اين را از نظر من ، پس بدرستى كه من زمانى كه نظر مى‏كنم بسوى آن ياد مى‏كنم دنيا و زينتهاى آنرا . پس اعراض فرمود از دنيا بقلب مبارك خود ، و معدوم ساخت ذكر دنيا را از نفس نفيس خود ، و دوست گرفت كه غايب شود زينت آن از چشم جهان بين خود تا اينكه اخذ ننمايد از دنيا لباس فاخرى ، و اعتقاد نكند آنرا آرامگاهى ، و اميد نگيرد در آن اقامت را ، پس بيرون نمود دنيا را از نفس نفيس ، و كوچانيد حبّ دنيا را از خواطر أنور ، و غايب گردانيد آن را از نظر آفتاب منظر ، و همچنين است هر كس كه دشمن مى‏گيرد چيزيرا دشمن ميگيرد آنكه نگاه كند بسوى آن و آنكه ذكر بشود نام و نشان آن در نزد او . و بتحقيق كه هست در رسول خدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم چيزى كه دلالت كند ترا بر بديهاى دنيا و عيبهاى آن از جهت اينكه گرسنه ماند در دنيا با خواصّ خودش ، و دور كرده شد از او زينتهاى آن با وجود بزرگى قرب و منزلت او . پس بايد كه نظر كند نظر كننده بعقل خود كه آيا گرامى داشته خداى تعالى محمّد مصطفى صلّى اللّه عليه و آله را به سبب اين ، يا خوار نموده آن را ؟ پس اگر گويد خوار فرموده او را پس بتحقيق كه دروغ گفته قسم بخداى بزرگوار ، و اگر گويد گرامى داشته او را پس بايد كه بداند آنكه خداى متعال بتحقيق كه خوار كرده غير او را از جهة اينكه بسط فرموده دنيا را از براى آن غير ، و صرف نموده دنيا را از أقرب خلق بسوى او . پس بايد كه تأسّى نمايد تأسّى كننده به پيغمبر برگزيده خود ، و پيروى نمايد أثر او را ، و داخل شود بمحلّ دخول آن ، و إلاّ پس أيمن نشود از هلاكت . پس بدرستى كه خداى تعالى گردانيد محمّد مصطفى صلّى اللّه عليه و آله را نشانه از براى قيامت ، و بشارت دهنده به بهشت ، و ترساننده با عقوبت ، بيرون رفت آن حضرت از دنيا در حالتى كه شكم تهى بود ، و وارد شد بآخرت در حالتى كه سالم بود از مكاره [ 404 ] و معايب ، ننهاد سنگ بالاى سنگى تا اينكه در گذشت براه خود و اجابت فرمود دعوت كننده پروردگار خود را . پس چه قدر بزرگست منّت و نعمت خدا در نزد ما وقتى كه انعام فرمود با آن حضرت بر ما پيش روى كه متابعت كنيم او را ، و پيشوائى كه كام مى‏نهيم در پى او ، قسم بخدا بتحقيق كه پينه دوزاندم اين درّاعه خود را تا بمرتبه كه خجالت كشيدم از پينه دوزنده آن ، و بتحقيق كه گفت مرا گوينده : آيا نمى‏اندازى آن را از خودت ؟ پس گفتم كه دور شو از من كه در نزد صبح ستايش كرده مى‏شوند مردمان شب رونده .