جستجو

و من خطبة له ع تعرف بخطبة الأشباح و هي من جلائل خطبه ع

متن ترجمه آیتی ترجمه شهیدی ترجمه معادیخواه تفسیر منهاج البرائه خویی تفسیر ابن ابی الحدید تفسیر ابن میثم

و من خطبة له عليه السّلام تعرف بخطبة الاشباح و هى التسعون من المختار فى باب الخطب و هي من خطبه المشهورة روى بعض فقراتها المحدّث العلاّمة المجلسي ( ره ) في البحار من كتاب مطالب السّؤول لمحمّد بن طلحة الشّافعي ، و رواها الصّدوق في التّوحيد مسندا باختصار و اختلاف كثير لما أورده السّيد ( ره ) في الكتاب . قال : حدّثني عليّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدّقاق ره ، قال : حدّثنا محمّد بن أبي عبد اللَّه الكوفي ، قال : حدّثنا محمّد بن إسماعيل البرمكيّ ، قال : حدّثني عليّ بن العبّاس ، قال : حدّثنى إسماعيل بن مهران الكوفيّ عن إسماعيل بن إسحاق الجهني عن فرج بن فروة عن مسعدة بن صدقة قال : سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول : بينا أمير المؤمنين عليه السّلام يخطب على المنبر بالكوفة إذ قام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين صف لنا ربّك تبارك و تعالى لنزداد له حبّا و به معرفة ، فغضب أمير المؤمنين و نادى : [ 285 ] الصّلاة 1 جامعة فاجتمع النّاس حتّى غصّ المسجد بأهله ثمّ قام متغيّر اللّون فقال : الحمد للّه إلى آخر ما رواه هذا ، و شرح ما أورده السيّد ره هنا في ضمن فصول : الفصل الاول قال السيّد ره : و هي من جلايل خطبه عليه السّلام و كان سأله سائل أن يصف اللَّه له حتّى كأنّه يره عيانا ، فغضب عليه السّلام لذلك : الحمد للّه الّذي لا يفره المنع و الجمود ، و لا يكديه الإعطاء و الجود . إذ كلّ معط منتقص سواه ، و كلّ مانع مذموم ما خلاه ، هو المنّان بفوائد النّعم ، و عوائد المزيد و القسم ، عياله الخلق ، ضمن أرزاقهم ، و قدّر أقواتهم و نهج سبيل الرّاغبين إليه ، و الطّالبين ما لديه ، و ليس بما سئل بأجود منه بما لم يسئل ، الأوّل الّذي لم يكن له قبل فيكون شي‏ء قبله ، و الآخر الّذي ليس له بعد فيكون شي‏ء بعده ، و الرّادع أناسيّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه ، ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال ، و لا كان في مكان فيجوز عليه الإنتقال ، و لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال ، و ضحكت عنه أصداف البحار من فلزّ اللّجين و العقيان ، و نثارة الدّرّ و حصيد المرجان ، ما أثّر ذلك في جوده ، و لا أنفد سعة ما عنده ، و لكان عنده من ذخاير الأنعام ، ما لا تنفده مطالب الأنام ، ----------- ( 1 ) منصوب بفعل المضمر اى احضروا الصلاة و جامعة حال و غصّ المسجد اى امتلاء فهو غاصّ بأهله ، منه [ 286 ] لأنّه الجواد الّذي لا يغيضه سؤال السّائلين ، و لا يبخله إلحاح الملحّين . اللغة ( الأشباح ) جمع الشّبح و هو الشّخص كالأسباب و السبب و ( وفر ) الشي‏ء يفر من باب وعد وفورا تمّ و كمل ، و وفرته وفرا من باب وعد أيضا أتممته و أكملته يتعدّى و لا يتعدّى و المصدر فارق و ( أكدى ) الرّجل إذا بخل أو قلّ خيره أو قلل عطائه قال سبحانه : وَ أَعْطى‏ قَليلاً وَ أَكْدى . و أصله كدى كرمى و منه أرض كادئة بطيئة الانبات و ( الأناسي ) جمع الانسان و هو المثال الذى يرى في سواد العين و ( الأصداف ) جمع الصدف بالتّحريك و هو غشاء الدّر و ( الفلز ) بكسر الفاء و اللام و تشديد الزاء و كعتلّ قال في القاموس : نحاس أبيض تجعل منه القدور المفرغة أو خبث الحديد أو الحجارة أو جواهر الأرض كلّها أو ما ينفيه الكير من كلّ ما يذاب منها و ( العقيان ) الذّهب الخالص و يقال هو ما ينبت نباتا و ليس ممّا يحصل من الحجارة و ( نثارة ) الدّر ما تناثر منه . قال الشّارح المعتزلي : و تأتي فعالة تارة للجيّد المختار و تارة للسّاقط المتروك فالأوّل نحو الخلاصة و الثاني نحو القلامة و ( الدّر ) جمع الدّرة و هى اللّؤلؤة العظيمة و ( غاض ) الماء نقص و غاضه اللَّه كأغاضه أنقصه يتعدّى بنفسه و بالهمز و ( أبخلته ) وجدته بخيلا . الاعراب قوله عليه السّلام : و كلّ مانع مذموم ما خلاه الأصل في خلا أنه لازم يتعدّى إلى المفعول بمن نحو خلت الدار من الانيس ، و قد تضمن معنى جاوز فيتعدّى بنفسه كقولهم افعل هذا و خلاك ذمّ أى جاوزك . قال الرّضى : و الزموها هذا التضمن في باب الاستثناء فيكون ما بعدها في صورة المستثنى بالاّ التي هي أمّ الباب و لهذا الغرض التزموا إضمار فاعله إلى أن [ 287 ] قال : و فاعل خلا عند النحاة بعضهم ، و فيه نظر لأنّ المقصود في جائنى القوم خلا زيدا أنّ زيدا لم يكن معهم أصلا و لا يلزم من مجاوزة بعض القوم إياه و خلوّ بعضهم منه مجاوزة الكلّ و خلوّ الكلّ ، و الأولى أن يضمر فيه ضمير راجعا إلي مصدر الفعل المتقدّم أى جائنى القوم خلا مجيئهم زيدا ، كقوله تعالى : اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى . فيكون مفسر الضمير سياق القول هذا . و ما فيه مصدرية و لذلك التزم انتصاب ما بعده لأنّ ماء المصدرية تدخل على الفعلية غالبا ، و الاسمية قليلا و ليس بعدها اسمية فتعين الفعلية فتعين أن يكون فعلا فوجب النصب و المضاف محذوف أى وقت ما خلا مجيئهم زيدا ، و ذلك انّ الحين كثيرا ما يحذف مع ماء المصدرية نحو : ما ذرّ شارق و نحوه ذكر ذلك كلّه نجم الأئمة الرضيّ ( ره ) . قال : و جوّز الجرمى الجرّ بعد ما خلا و ما عدا على أنّ ما زايدة ، و لم يثبت انتهى . أقول : حمل ما على الزيادة في كلام الامام عليه السّلام على تقدير ثبوته أقرب إلى المعنى كما لا يخفى ، و حملها على المصدرية محتاج إلى التكلّف كما هو غير خفيّ على الفطن العارف ، و اضافة الفوائد إلى النعم بيانية ، و في قوله و عوائد المزيد من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة ، و القسم عطف على العوائد ، و جملة ضمن في محل النصب على الحالية من ضمير عياله المعنى اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة كما ذكره السيد ( ره ) من جلائل خطبه عليه السّلام و مشاهرها و تسمى بخطبة الأشباح لاشتمالها على ذكر الأشباح و الأشخاص من الملائكة و كيفية خلقهم و بيان أقسامهم ، و لعلّ غضبه عليه السّلام على السائل من أجل أنّ غرض السائل كان وصفه تعالى بصفات الأجسام و زعمه جواز معرفته سبحانه [ 288 ] بالاكتناه كما يشهد به قوله : كأنه يراه عيانا ، فغضب عليه السّلام لذلك و تغيّر لونه لأجل ذلك و وصفه بأوصاف العزّ و الكمال و صفات الجبروت و الجلال فقال : ( الحمد للّه الذى لا يفره المنع و الجمود ) أى لا يوجب وفور ماله المنع و الامساك ( و لا يكديه الاعطاء و الجود ) أى لا يقلل اعطائه البذل و الاحسان يقول عليه السّلام إنه سبحانه ليس كملوك الدنيا يتزيد بالامساك و ينتقص بالانفاق إذ مقدوراته سبحانه غير متناهية و ما عنده لا يدخله نقص و لا فناء ، بل يدخلان الفاني المحدود و يشهد به ما مرّ في شرح الخطبة السابقة من الحديث القدسي : يا عبادي لو أنّ أولكم و آخركم و انسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلّ انسان مسألته ما نقص ذلك مما عندى شيئا إلاّ كما ينقص المخيط إذا دخل البحر أى لا ينقص شيئا . و إلى ما ذكرنا أشار عليه السّلام بقوله : ( إذ كلّ معط منتقص سواه ) و بحار فضله لا ينقص بالافضال ، و خزائن كرمه لا تقلّ بالانعام و النوال . و لما نبّه عليه السّلام على عدم إمكان دخول النقصان في بحر فضله وجوده أردف ذلك بنفى لحوق الذّم بمنعه على وجوده بقوله : ( و كلّ مانع مذموم ما خلاه ) و ذلك لأنّ كلّ مانع غيره إنما يمنع لخوف الضيق و المسكنة و خشية الفقر و الفاقة أو بخل نفسه الامارة ، فحرىّ أن يلحقه المذمّة و الملامة و أمّا اللَّه القدّوس السبحان فلما كان منزها عن صفات النقصان و محالا أن يلحقه طوارى الامكان ، فليس منعه لضيق أو بخل ، و إنما يمنع بمقتضا حكمة بالغة و داعى مصلحة خفية أو ظاهرة ، فمنعه في الحقيقة عين الفضل و الاحسان و العطاء و الامتنان . كما ورد في الحديث القدسي : إنّ من عبادى من لا يصلحه إلاّ الفقر و لو أغنيته لأفسده ذلك و في حديث آخر : و إنّ من عبادى المؤمنين لعبادا لا يصلح لهم أمر دينهم إلاّ بالفاقة و المسكنة و القسم في أبدانهم فأبلوهم بالفاقة و المسكنة و القسم فصلح [ 289 ] إليهم أمر دينهم و أنا أعلم بما يصلح عليه أمر دين عبادي المؤمنين ( هو المنان بفوائد النعم ) أى كثير الانعام على العباد و المعطى لهم ابتداء من غير سبق سؤال ، و به فسّره الفيروز آبادي . و يدلّ عليه ما رواه الطريحي قال : و في حديث عليّ عليه السّلام و قد سئل عن الحنّان و المنّان فقال : الحنّان هو الذي يقبل على من أعرض عنه ، و المنّان هو الذي يبدء بالنّوال قبل السؤال . و بذلك ظهر أنّ جعل المنّان مبالغة في المنّة و إظهار الاصطناع كما في شرح البحراني ممّا لا وجه له بل هو تفسير بالرأى في مقابلة النصّ ، و لا بأس بذكر كلامه لتوضيح مرامه . قال في شرح هذه الفقرة : المنة تذكير المنعم للمنعم عليه بنعمته و التطاول عليه بها كقوله تعالى : يا بَني إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ في غير موضع من كتابه و هي صفة مدح للحقّ سبحانه و إن كان صفة ذمّ لخلقه . و السّبب الفارق أنّ كلّ منعم سواه يحتمل أن يتوقّع لنعمته جزاء و يستفيد كمالا يعود إليه ممّا أفاده ، و أيسره توقّع الذكر و يقبح ممّن يعامل بنعمته و يتوقّع جزاء أن يمنّ بها لما يستلزمه المن من التّطاول و الكبر و توقّع الجزاء و الحاجة إليه مع التّطاول و الكبر مما لا يجتمعان في العرف ، إذ التّطاول و الكبر إنما يليقان بالغنى عن ثمرة ما تطاول به إلى آخر ما ذكره . أقول : أمّا قبح الامتنان من المخلوق فممّا لا ريب فيه ، لكونه ناشئا من خسّة النّفس و دنائة الهمّة و لذلك مدح اللَّه سبحانه عباده المتّقين بما حكى عنهم بقوله : إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّه لا نُريدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً كما أنه لا ريب في جوازه على اللَّه سبحانه ، و يدلّ عليه صريح الكتاب و السنّة ، و أما جعل المنّان من أسمائه سبحانه بذلك المعنى فلا دليل عليه ، بل الدليل قائم على [ 290 ] خلافه حسبما عرفت ، مع أنّ إرادة هذا المعنى في هذا المقام أعنى كلام الامام عليه السّلام على فرض ثبوت أصله ممّا يأبى عنه الذوق السّليم و الطبع المستقيم إذ المعنى الذي ذكرنا أولى بالتمدّح منه كما لا يخفى ، هذا . و ما أبعد ما بين ما ذكره الشّارح و ما ذهب إليه السيّد عليخان شارح الصحيفة السّجادية من نفي جواز المنة على اللَّه رأسا كعدم جوازه على الخلق حيث قال في شرح دعاء طلب الحوائج عند شرح قوله عليه السّلام : يا من لا يبيع نعمه بالأثمان ، و يا من لا يكدّر عطاياه بالامتنان : الامتنان افتعال من المنّ و هو إظهار الاصطناع و اعتداد الصنايع كان تقول : ألم أعطك كذا ، ألم أحسن إليك ، ألم أعنك ؟ و هو تعبير يكدّر المعروف و ينغصه فلهذا نهى الشّارع عنه بقوله : لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الأَذَى‏ . و من هنا قيل : سيّان من منح النائل و منّ ، و من منع السّائل و ضنّ ، و المراد بنفي تكديره تعالى عطاياه بالامتنان نفي الامتنان عنه رأسا فهو من باب نفي الشي‏ء بلازمه أى لا امتنان فلا تكدير . ثمّ لما كان الامتنان بالمعنى المذكور ذيلة ناشئة عن دنائة النّفس و صغر الهمة و استعظام النعمة و الاحسان كان تعالى منزّه عن الامتنان ، لأنّ كلّ نعمة من نعمه تعالى و إن عظمت و كلّ عطيّة من عطاياه و إن جلّت بالنّسبة إلى العبد المعطى و المنعم عليه فهى حقيرة بالنّسبة إلى عظمته جلّت قدرته ، و شأنه تعالى أجلّ من أن يكون لها عنده موقع فيمنّ بها و يعتدّ بها على من أعطاه و أنعم عليه ، و قول بعض العلماء إنّ المنّة بالمعنى المذكور صفة مدح للحقّ سبحانه و إن كان صفة ذمّ للمخلوق ليس بشي‏ء و عبارة الدّعاء تشهد ببطلانه ، انتهى . أقول : و الانصاف أنّ نفي الامتنان عنه سبحانه رأسا لا وجه له مع نصّ الآية الشّريفة أعنى قوله : [ 291 ] يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلمُوا قُل لا تَمُنُّوا عَلىَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَديكُمْ لِلْإِيْمانِ بخلافه 1 و دلالة الآيات الواردة في مقام الامتنان عليه بل المنفيّ عنه هو الامتنان المتصوّر في الخلايق . بيان ذلك أنّ الامتنان من المنعم على المنعم عليه تارة يكون لارادة مكافاة الأنعام و طلب العوض من الثّواب الآجل و الثناء العاجل ، و بعبارة أخرى لتوقّع منفعة عايدة على المنعم بانعامه ، و أخرى إرادة تذكّر المنعم عليه للنّعمة و استعداده بذلك لقبول نعمة اخرى و تحصيل منفعة ثانية من دون أن يكون للمنعم فيه تحصيل فايدة و اكتساب منفعة لنفسه أصلا . فالامتنان على الوجه الأوّل هو القبيح و إليه يعود منّة الخلايق ، و أمّا الثاني فلا قبح فيه أصلا بل هو حسن يشهد به الوجدان فلا غبار على جوازه على اللَّه سبحانه و على ما حقّقته فمعنى قوله عليه السّلام : يا من لا يكدّر عطاياه بالامتنان : أنّ امتنانه لا يوجب التكدّر كما يوجبه امتنان غيره إذ غرضه تعالى منه ليس إلاّ محض التّفضل و التّطول و إيصال نعمة أخرى إلى الممتنّ عليه ، و غرض غيره منه تحصيل منفعة لنفسه فمنّته يكشف عن عدم خلوص إحسانه و كونه مشوبا بالاغراض النّفسانية ، و على ذلك فالمنفىّ في كلام الامام عليه السّلام هو التكدير لا أصل الامتنان و إلاّ امتنع الجمع بينه و بين الادلّة الدالّة على الامتنان و يكون مناقضا صريحا لها ، فافهم و اغتنم ، و اللَّه العالم . و قوله ( و عوائد المزيد و القسم ) قال البحرانيّ : أى معتادهما ، و هو سهو إذ العوائد جمع العايدة لا العادة حتّى يكون بمعنى المعتاد ، و العائدة كما في القاموس المعروف و الصّلة و العطف و المنفعة ، و المزيد مصدر إما بمعنى الفاعل أو المفعول ----------- ( 1 ) متعلق بقوله : نصّ . [ 292 ] و إضافة العايدة إليه من باب إضافة الموصوف إلى صفته لا بالعكس كما هو لازم ما فسّره البحراني ، و المراد أنّه سبحانه منّان على العباد بصلاته و عطوفاته الزايدة أو المزيد و قسمه المقدرة . ( عياله الخلق ضمن أرزاقهم و قدّر أقواتهم ) لما كان عيال الرّجل عبارة عمن يمونه و ينفق عليه و يصلح حاله استعار لفظه للخلايق بالنّسبة إلى ربّهم لخلقه لهم و تربيته في حقّهم و إصلاحه حالهم في المعاش و المعاد . قال البحراني : و استعار لفظ الضّمان لما وجب في الحكمة الالهيّة من وجود ما لا بدّ منه في تدبير إصلاح حالهم من الأقوات و الأرزاق و تقدير أقواتهم إعطاء كلّ ما كتب له في اللّوح المحفوظ من زائد و ناقص ، انتهى ، و هذا هو المشار إليه بقوله سبحانه : نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعيشَتَهُمْ في الْحَيوةِ الدُّنْيا . و اعلم أنّ الرزق في اللّغة هو العطاء و يطلق على النصيب المعطى ، و أمّا في العرف فقالت الأشاعرة هو مطلق ما ينتفع به حيّ مباحا كان أو حراما بالتغذّي أو بغيره ، و ذهب أصحابنا كالمعتزلة إلى أنه ما صحّ انتفاع الحيوان به و ليس لأحد منعه منه فلا يكون الحرام رزقا ، لأنّ اللَّه سبحانه منع من الانتفاع به و أمر بالزّجر عنه و لا بأس بذكر أدلّة الظرفين ليتّضح الحقّ من البين . فأقول : استدلّ الأشاعرة بما رووه عن صفوان بن اميّة قال : كنّا عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم إذ جاء عمر بن قرّة فقال : يا رسول اللَّه إنّ اللَّه كتب علىّ الشّقوة فلا أراني أرزق إلاّ من دفّي 1 بكفّي فأذن لي في الغناء ، فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لا آذن لك و لا كرامة و لا نعمة كذبت أى عدوّ اللَّه و اللَّه لقد رزقك اللَّه حلالا طيبا ، فاخترت ما حرّم اللَّه عليك مكان ما أحلّ اللَّه لك من حلاله ، و بقوله تعالى : ----------- ( 1 ) الدف آلة اللهو . [ 293 ] وَ ما مِنْ دابَّةٍ في الْأَرْضِ إِلاّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها . تقريب الاستدلال ما ذكره الفخر الرّازي في التفسير الكبير حيث قال : تعلّق أصحابنا بهذه الآية في إثبات أنّ الرّزق قد يكون حراما قالوا : لأنّه ثبت أنّ إيصال الرّزق إلى كلّ حيوان واجب على اللَّه تعالى بحسب الوعد و بحسب الاستحقاق ، و اللَّه تعالى لا يخلّ بالواجب ، ثمّ قد نرى انسانا لا يأكل من الحلال طول عمره فلو لم يكن الحرام رزقا لكان اللَّه تعالى ما أوصل رزقه إليه فيكون تعالى قد أخلّ بالواجب و ذلك محال ، فعلمنا أنّ الحرام قد يكون رزقا . و اجيب عن الأوّل تارة بالطّعن في السّند ، و أخرى بأنّه على تقدير صحّته لا بدّ من تأويله بأنّ إطلاق الرّزق على الحرام فيه لمشاكلة قوله فلا أراني ارزق ، على حدّ قوله : و مكروا و مكر اللَّه ، و باب المشاكلة و إن كان نوعا من المجاز لكنه واسع كثير الورود في الكتاب و السنة معروف الاستعمال في نظم البلغاء و نثرهم فلا بدّ من المصير إليه جمعا بين الأدلّة . و عن الثّاني بمنع وجود مادّة النقض إذ لا نسلّم وجود حيوان لا يرزق إلاّ بالحرام مدّة عمره ، أمّا غير الانسان فواضح إذ لا يتصوّر بالنّسبة إليه حلّ و لا حرمة . أمّا الانسان فلأنّه في أيّام الصّبا و عدم التّكليف لا يتّصف ما يأكله بالحرمة كعدم اتصافه بالاباحة ، بل هو كالحيوان في عدم اتصاف أفعاله بشي‏ء من الأحكام الخمسة . و أمّا بعد البلوغ فلأنّه بعد ما كان الرّزق أعمّ من الغذاء باتفاق المعتزلة و الأشاعرة يشمل التنفّس في الهوا و معلوم أنه مباح في حقّه قطعا فلم يوجد حيوان لا يرزق إلاّ بالحرام طول عمره ، و يوضحه أنّه لو مات انسان قبل أن يأكل شيئا حلالا أو حراما لزم أن يكون غير مرزوق فما هو جواب الأشاعرة فهو جوابنا . [ 294 ] و استدلّ المعتزلة على المذهب المختار بقوله سبحانه : وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ حيث مدحهم بانفاقهم من رزقة فلا بدّ أن يكون الرّزق حلالا إذ الانفاق من الحرام بمعزل عن إيجاب المدح . أقول : و لا يخفى ما فيه : إذ يجوز جعل من تبعيضيّة فيكون معنى الآية أنّهم ينفقون بعض ما رزقهم اللَّه ، و مدحهم بذلك يستلزم أن يكون ما أنفقوه حلالا و لا يستلزم أن يكون جميع ما رزقهم اللَّه حلالا ، و هو واضح . و استدلّ بعض أصحابنا بما رواها العامة و الخاصّة من خطبته صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في حجّة الوداع و هي صريحة غير قابلة للتّأويل . و رواها الكلينيّ باسناده إلى الامام أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام قال : قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في حجّة الوداع : ألاّ إنّ الرّوح الأمين نفث في روعى أنه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها ، فاتّقوا اللَّه و أجملوا في الطلب و لا يحملنكم استبطاء شي‏ء من الرّزق أن تطلبوه بشي‏ء من معصية اللَّه ، فانّ اللَّه تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا و لم يقسّمها حراما ، فمن اتّقى اللَّه و صبر أتاه رزقه من حلّه ، و من هتك حجاب ستر اللَّه و عجّل و أخذه من غير حلّه قصّ به من رزقه الحلال و حوسب عليه يوم القيامة ، هذا . و بقى الكلام في أنّ الرزق هل يقبل الزيادة و النّقصان بالسّعى و عدمه ظاهر بعض الأخبار العدم ، و هو ما رواه في الكافى باسناده إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال : ايّها النّاس اعلموا أنّ كمال الدّين طلب العلم و العمل به ألا و إنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال إنّ المال مقسوم مضمون لكم قد قسّمه عادل بينكم و ضمنه و سيفى لكم ، و العلم مخزون عند أهله و قد امرتم بطلبه من أهله فاطلبوه . و في دعاء الصّحيفة السجادية على صاحبها آلاف الصّلاة و السّلام و التّحية جعل لكلّ روح منهم قوتا معلوما مقسوما من رزقة لا ينقص من زاده ناقص و لا يزيد من نقص منهم زائد ، يعنى أنّ من زاد اللَّه رزقه منهم لا ينقصه ناقص ، و من نقصه سبحانه [ 295 ] لا يزيده زايد ، و تقديم المفعول في الفقرتين لمزيد الاعتناء ببيان فعله من الزيادة و النقصان و هو نصّ في أنّ غيره تعالى لا يستطيع أن يتصرّف في الرزق المقسوم بالزيادة و النّقص . و في رواية اخرى : إنّ أرزاقكم تطلبكم كما تطلبكم آجالكم فلن تفوتوا الأرزاق كما لم تفوتوا الآجال . و المستفاد من الأدلّة الاخر مدخلية الطلب و السّعى فيها ، مثل ما رواه في الوسائل من كنز الفوائد للكراجكى قال : قال أمير المؤمنين عليه السّلام : الدّنيا دول فاطلب حظك منها بأجمل الطلب . و فيه عن شيخنا الطوسي قدّس اللَّه روحه باسناده عن عليّ بن عبد العزيز قال : قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام : ما فعل عمر بن مسلم ؟ قلت : جعلت فداك أقبل على العبادة و ترك التجارة ، فقال : ويحه أما علم أنّ تارك الطلب لا يستجاب له دعوة ، إنّ قوما من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لما نزلت : وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبْ . اغلقوا الأبواب و أقبلوا على العبادة و قالوا : قد كفينا ، فبلغ ذلك النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فأرسل اليهم فقال : ما حملكم على ما صنعتم ؟ فقالوا : يا رسول اللَّه تكفّل اللَّه لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة ، فقال : إنّه من فعل ذلك لم يستجب له عليكم بالطلب . و عن الكلينيّ باسناده عن عمر بن يزيد قال : قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام : أرأيت لو أنّ رجلا دخل بيته و أغلق بابه أكان يسقط عليه شي‏ء من السّماء ؟ و عن أحمد بن فهد في عدّة الدّاعي عن عمر بن يزيد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال : إنى لأركب في الحاجة التي كفانيها اللَّه ، ما أركب فيها إلاّ لالتماس أن يراني اللَّه اضحى في طلب الحلال أما تسمع قول اللَّه عزّ و جلّ : فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلوةُ فَانْتَشِرُوا في الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [ 296 ] أرأيت لو أنّ رجلا دخل بيتا و طين عليه بابه و قال : رزقى ينزل علىّ كاين يكون هذا أما أنّه يكون أحد الثّلاثة الذين لا يستجاب لهم دعوة ، قلت : من هؤلاء ؟ قال عليه السّلام : رجل عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له ، لأنّ عصمتها في يده و لو شاء أن يخلّى سبيلها ، و الرّجل يكون له الحقّ على الرجل فلا يشهد عليه فيجحد حقّه فيدعو عليه فلا يستجاب له لأنّه ترك ما امر به ، و الرجل يكون عنده الشّي‏ء فيجلس في بيته فلا ينتشر و لا يطلب و لا يلتمس الرّزق حتّى يأكله فيدعو فلا يستجاب له ، و بمعناها روايات اخر . و يمكن الجمع بينها و بين الأخبار السّابقة بجعل الرزق على قسمين : أحدهما ما ليس للطلب و السعى مدخلية فيه ، و الثاني ما لا ينال إلاّ بالطلب فيحمل الأخبار السّابقة على القسم الأوّل ، و الأدلّة الأخيرة على القسم الثّاني . و يشهد على هذا الجمع ما رواه في الوسائل من مقنعة المفيد قال : قال الصادق عليه السّلام : الرزق مقسوم على ضربين : أحدهما و اصل إلى صاحبه و إن لم يطلبه ، و الآخر معلّق بطلبه فالذى قسّم للعبد على كلّ حال آتيه و إن لم يسع له و الذي قسّم له بالسّعى فينبغي أن يلتمسه من وجوهه و هو ما أحلّه اللَّه دون غيره ، فان طلبه من جهة الحرام فوجده حسب عليه برزقه و حوسب به . ( و نهج سبيل الراغبين إليه و الطالبين ما لديه ) كما قال سبحانه : لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً . أراد أنّه تعالى أوضح السّبيل للراغبين إلى النظر إلى وجهه الكريم ، و الطالبين لما عنده من الفوز العظيم بما وضعه لهم من الشرع القويم و الدين المستقيم ( و ليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل ) تنزيه له سبحانه عن صفات الخلق فانّهم يتحركون بالسؤال و تهزهم الطلبات فيكونون بما سألهم السائل أجود منهم بما لم يسألوا ، لكونه أسهل عندهم و أقرب إلى الانجاح ، إذ السائل لا يسأل ما ليس في وسع المسؤول عنه و ما هو أعزّ عنده و لذلك كانوا بما سئلوا أجود ، و أما اللَّه تبارك و تعالى [ 297 ] فليس في عموم جوده و خزانة كرمه تفاوت بين المسؤول و غير المسؤول . بيان ذلك على ما حقّقه الشّارح البحراني ( ره ) أنّ فيضان ما صدر عنه سبحانه له اعتبار ان : أحدهما بالنظر إلى جوده ، و هو من تلك الجهة غير مختلف في جميع الموجودات بل نسبتها إليه على سواء بذلك الاعتبار فلا يقال : هو بكذا أجود منه بكذا و إلاّ لاستلزم ذلك أن يكون ببعض الأشياء أبخل أو اليها أحوج فيلزمه النقصان تعالى اللَّه عن ذلك علوّا كبيرا . الثّانى بالنظر إلى الممكن نفسه ، و الاختلاف الواقع في القرب و البعد إلى جوده إنّما هو من تلك الجهة فكلّ ممكن كان أتمّ استعدادا و أقبل للوجود و أقلّ شرطا و معاندا كان أقرب إلى جوده . إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّ السّائل إن حصل له ما سأله من اللَّه دون ما لم يسأل فليس حرمانه مما لم يسأل لعزّته عند اللَّه ، و ليس بينه و بين المسؤول بالنسبة إلى جوده تفاوت ، بل إنّما خصّ بالمسؤول لوجوب وجوده له عند تمام قبوله له بسؤاله دون ما لم يسأله و لو سأل ما لم يسأله و استحقّ وجوده لما كان في الجود الالهى بخل به و لا منع في حقه ، و ان عظم خطره و جلّ قدره و لم يكن له أثر نقصان في خزائن ملكه و عموم جوده . ( الأوّل الذي لم يكن له قبل فيكون شي‏ء قبله ، و الآخر الذى ليس له بعد فيكون شي‏ء بعده ) قد سبق في شرح الخطبة الرابعة و الستين معنى أوليّته و آخريته تعالى و ظهر لك هناك أن أوليّته لا ينافي آخريّته ، و آخريّته لا ينافي أوليّته و نزيد هنا بيانا و نقول : إنّ الأشياء في سلسلة الوجود بداية و نهاية منتهية إليه سبحانه ، فهو أوّل الأشياء و آخرها ليس شي‏ء قبله و لا شي‏ء بعده . قال النيسابوري في تفسيره : معنى الأول و الآخر أنه أوّل في ترتيب الوجود و آخر إذا عكس الترتيب ، فانه ينطبق على السلسلة المترتبة من العلل إلى المعلولات و من الأشرف إلى الأخسّ و على الاخذ من الوحدة إلى الكثرة مما يلى الأزل [ 298 ] إلى ما يلى الأبد و مما يلى المحيط إلى ما يقرب من المركز ، فهو تعالى أوّل بالترتيب الطبيعى و آخر بالترتيب المنعكس ، انتهى . و مراده بالترتيب المنعكس أنّ الأشياء إذا نسبت إلى أسبابها وقفت عنده ، و ذلك انّك إذا نظرت إلى وجود شي‏ء و فتّشت عن سببه ثمّ عن سبب سببه و هكذا فتنتهى بالأخرة إليه تعالى ، لأنّه آخر ما ينحلّ إليه اجتماع أسباب الشّي‏ء ، فظهر بذلك أن كونه أوّلا و آخرا إنّما هو بالنّظر إلى ذاته المقدّس لا باعتبار تقدّمه زمانا و تأخّره زمانا ، لكون الزمان متأخّرا عنه تعالى إذ هو من لواحق الحركة المتأخّرة عن الجسم المتأخّر عن علّته ، فلا يلحقه القبليّة و البعديّة الزمانية فضلا أن تسبق عليه أو تلحق به ، فلم يكن شي‏ء قبله و لا بعده لا من الزمانيات و لا من غيرها . و ذكر الشّارح المعتزلي في المقام وجها آخر و هو أن يكون المراد أنه الذى لم يكن محدثا أى موجودا قد سبقه عدم فيقال إنه مسبوق بشي‏ء من الأشياء اما المؤثر فيه او الزمان المقدّم عليه و أنه ليس بذات يمكن فناؤها و عدمها فيما لا يزال فيقال إنه ينقضي و ينصرف فيكون بعده شي‏ء من الأشياء الزمان أو غيره . ( و الرادع اناسىّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه ) أراد به امتناع رؤيته سبحانه لكونه تعالى منزها عن الجهة و المكان ، و الباصرة لا تتعلّق إلاّ بما كان فيهما و قد تقدّم تفصيل ذلك و تحقيقه بما لا مزيد عليه في شرح الخطبة التاسعة و الأربعين و هذا اللّفظ و إن كان بظاهره يعطي مذهب الأشاعرة من أنّ اللَّه يجوز إداركه و رؤيته و لكنه خلق في الأبصار مانعا عن إدراكه ، إلاّ أنّه لا بدّ من تأويله و حمله على ما ذكرنا بعد قيام الأدلّة القاطعة من العقل و النقل على استحالة إدراكه من حيث ذاته . ( ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال ) أراد بذلك كونه منزّها عن لحوق الزمان و عن التغيّرات الجارية على الزّمانيات فانّ مبدء التّغيرات و الاختلاف في الأحوال هو الزمان ، فلما كان متعاليا عن الزمان كان منزّها عن اختلاف الحالات الذي هو من لواحق الامكان . [ 299 ] و يوضح ذلك ما رواه في الكافي باسناده عن ابن أبي يعفور قال : سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن قول اللَّه عزّ و جلّ : هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ . و قلت : أمّا الأوّل فقد عرفناه ، و أمّا الآخر فبيّن لنا تفسيره ، فقال : إنه ليس شي‏ء إلاّ يبيد أو يتغيّر أو يدخله التغيّر و الزوال أو ينتقل من لون إلى لون و من هيئة إلى هيئة و من صفة إلى صفة و من زيادة إلى نقصان و من نقصان إلى زيادة إلاّ ربّ العالمين فانّه لم يزل و لا يزال بحالة واحدة ، هو الأوّل قبل كلّ شي‏ء و هو الآخر على ما لم يزل ، و لا يختلف عليه الصفات و الأسماء كما تختلف على غيره مثل الانسان الذي يكون ترابا مرّة ، و مرّة لحما و دما و مرّة رفاتا و رميما ، و كالبسر الذي يكون مرّة بلحا 1 ، و مرّة بسرا ، و مرّة تمرا ، فتتبدّل عليه الأسماء و الصّفات و اللَّه عزّ و جلّ بخلاف ذلك . ( و لا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال ) أراد بذلك تنزيهه عن الكون في المكان لاستلزامه الافتقار الذي هو من صفات الامكان و إذا لم يكن في مكان فلا يجوز عليه الانتقال منه إلى غيره ، إذ جواز الانتقال انما هو من شأن ذي المكان بل : هُوَ الَّذي في السَّماء إِلهُ وَ في الْأَرْضِ إِلهٌ . و نسبة جميع الأمكنة إليه تعالى على سواء : وَ هُوَ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ نجْويكُمْ وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ . و قد مرّ تحقيق ذلك في شرح الفصل الخامس و السّادس من فصول الخطبة الأولى فتذكر . ( و لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال و ضحكت عنه أصداف البحار من ----------- ( 1 ) البلح بالتحريك قبل البسر منه . [ 300 ] فلزّ اللّجين و العقيان و نثارة الدّر و حصيد المرجان ما أثّر ذلك في جوده ) أشار عليه السّلام بذلك إلى سعة جوده سبحانه و عموم كرمه و كمال قدرته و عدم تناهي مقدوراته ، و لا يخفى ما فيه من فخامة اللفظ مع عظم المعنى ، حيث إنه عليه السّلام شبّه المعادن بحيوان يتنفّس فيخرج من جوفه الهواء ، و كذلك المعادن يخرج من بطونها الفلزات ، ثمّ شبّه الأصداف بانسان يضحك و أثبت لها الضّحك بملاحظة أنّ الصّدف أوّل ما ينشقّ و ينفتح و يبد و منه اللؤلؤ يشبه بفم الانسان الضاحك و اللؤلؤ فيه يشبه بالاسنان و اللّحمة فيه تشبه اللّسان في رقّة طرفه و لطافته . و لما ذكر ما يخرج من المعادن و الأصداف مجملا ، فصّل بقوله : من فلزّ اللّجين و العقيان ، و هو تفسير لما يخرج من معادن الجبال و إنما خصّهما بالذكر مع عدم الاختصاص لأنّهما أعظم ما يتنافس فيه المتنافسون و يغتنمه أبناء الزمان ، و لا عبرة بالنحاس و الرّصاص و نحوهما في جنبهما . و بقوله : و نثارة الدّر و حصيد المرجان ، و هو بيان لما يخرج من الأصداف و الدّر كبار اللؤلؤ و المرجان صغاره و لصغره شبهه عليه السّلام بالحبّ الحصيد و ربما يطلق المرجان على الخرز الأحمر المعروف قال الشاعر : أدمى لها المرجان صفحة خدّه و بكى عليها اللّؤلؤ المكنون هو خرز يخرج من البحر أيضا ، و ربما فسّر به قوله : مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ . و لكنه ليس مرادا في كلام الامام عليه السّلام و لا يمكن حمله عليه كما هو ظاهر . و كيف كان فالمقصود أنه سبحانه لو بذل جميع ما في الأرض من الكنوز و المعادن البرّية و البحرية لأحد لم يؤثر ذلك في جوده ( و لا أنفد سعة ما عنده ) من خزائن كرمه ( و لكان عنده من ذخائر الأنعام ما لا تنفده مطالب الأنام ) و ذلك لعدم إمكان إحصاء ما عنده بعدّ ، و عدم وقوفه و انتهائه إلى حدّ ( لأنه الجواد الذي [ 301 ] لا يغيضه سؤال السّائلين و لا يبخله الحاح الملحّين ) يعنى لا يوجب سؤال السّائلين على كثرته نقصانا في جوده و لا إصرار المصرّين بخلا في كرمه ، لأنّ البخل و النقصان من توابع المزاج و لو احق الامكان ، و هو منزّه عن ذلك بالضرورة و العيان ، بل عنده نيل السؤلات و إنجاح الحاجات ، و ما يسأله السائلون على كثرته يسير في جوده ، و ما يستوهبه الطالبون على خطره حقير في وسعه و كرمه لا يضيق عن سؤال أحد ، و يده بالعطاء أعلى من كلّ يد . الترجمة از جمله خطب آنحضرتست كه معروف است بخطبه اشباح ، و اين از خطبه هاى جليله او است و بود سؤال نمود سائلى از او اينكه وصف كند پروردگار عالم را از براى او باندازه كه گويا آنرا آشكارا ميبيند پس غضب كرد آنحضرت از اين جهة و فرمود : حمد و ثنا خدائى را سزاست كه بسيار نميگرداند مال او را منع و امساك نمودن ، و كم نميگرداند عطاء او را بذل و بخشش كردن از جهت اينكه هر عطا كننده كم كننده است مال خود را سوى او ، و هر منع نماينده مذموم است غير از حضرت او سبحانه . او است بسيار احسان كننده بفوايد نعمتها و بمنفعتهاى زايده و قسمتهاى مقدره ، عيال او است مخلوقات ، ضامن شده است بروزيهاى ايشان و مقدر فرموده است قوتهاى ايشانرا ، واضح نموده است راه راغبانرا بسوى خود و راه طالبانرا بآنچه نزد او است ، و نيست او بآنچه كه سؤال كرده شده با جودتر از او بآنچه كه درخواسته نشده . أوّلى استكه نيست او را پيش تا اينكه باشد چيزى قبل از او ، و آخرى است كه نيست او را بعد تا اينكه شود چيزى پس از آن ، منع كننده است مردمك هاى ديده‏ها را از اينكه برسد بذات او يا درك نمايد او را ، مختلف نشده است بر او روزگار پس مختلف شود از او حال ، و نبوده است در مكان تا جايز باشد بر [ 302 ] او انتقال . و اگر ببخشد آنچه كه نفس كشيده است از او معدنهاى كوهها و خنديده است از او صدفهاى درياها كه عبارت باشد از گداخته نقره و طلا و از پاشيده درّ در ديده مرجان ، اثر نميكند اينهمه در جود واجب الوجود ، و تمام نميسازد وسعت آنچه را كه نزد او است ، و هر آينه هست نزد او از ذخيرهاى نعمت‏ها آنقدرى كه بپايان نميرساند آنرا مطلوبهاى خلايق از جهت آنكه او است جواد و بخشنده كه ناقص نمينمايد جود او را سؤال سؤال كننده‏ها ، و بخيل نميسازد او را اصرار و مبالغه نمودن مبالغه كننده‏ها . الفصل الثانى فانظر أيّها السّائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمَّ به ، و استضي‏ء بنور هدايته ، و ما كلّفك الشّيطان علمه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه ، و لا في سنّة النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أئمّة الهدى أثره ، فكل علمه إلى اللَّه سبحانه ، فإنّ ذلك منتهى حقّ اللَّه عليك ، و اعلم أنّ الرّاسخين في العلم هم الّذين أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب ، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح اللَّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، و سمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كهنه رسوخا ، فاقتصر على ذلك ، و لا تقدّر عظمة اللَّه سبحانه على قدر عقلك ، فتكون من الهالكين . [ 303 ] هو القادر الّذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته ، و حاول الفكر المبرّء من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته ، و تولّهت القلوب إليه لتجري في كيفيّة صفاته ، و غمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصّفات لتنال علم ذاته ، ردعها و هي تجوب مهاوي سدف الغيوب ، متخلّصة إليه سبحانه فرجعت إذ جبهت معترفة بأنّه لا ينال بجور الإعتساف كنه معرفته ، و لا تخطر ببال أولي الرّويّات خاطرة من تقدير جلال عزّته ، الّذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله ، و لا مقدار احتذى عليه ، من خالق معبود كان قبله ، و أرانا من ملكوت قدرته و عجايب ما نطقت به آثار حكمته و اعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قوّته ، ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته ، و ظهرت في البدايع الّتي أحدثها آثار صنعته ، و أعلام حكمته ، فصار كلّ ما خلق حجّة له ، و دليلا عليه ، و إن كان خلقا صامتا فحجّته بالتّدبير ناطقة ، و دلالته على المبدع قائمة . و أشهد أنّ من شبّهك بتباين أعضاء خلقك ، و تلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك ، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك ، و لم يباشر قلبه اليمين « اليقين خ » بأنّه لا ندَّ لك ، و كأنّه لم يسمع تبرّء التّابعين [ 304 ] من المتبوعين ، إذ يقولون : « تَاللَّهِ إِنْ كُنّا لَفي ضَلالٍ مُبينٍ ، إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمينَ » كذب العادلون بك إذ شبّهوك بأصنامهم ، و نحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم ، و جزّأوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم ، و قدّروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم ، و أشهد أنّ من ساواك بشي‏ء من خلقك فقد عدل بك ، و العادل بك كافر بما تنزّلت به محكمات آياتك ، و نطقت عنه شواهد حجج بيّناتك ، و أنّك أنت اللَّه الّذي لم تتناه في العقول فتكون في مهبّ فكرها مكيفا ، و لا في رويّات خواطرها فتكون محدودا مصرّفا . اللغة ( رسخ ) في العلم يرسخ من باب منع رسوخا إذا ثبت فيه و ( الاقتحام ) الدّخول في الشّي‏ء مغالبة و بشدّة من غير رويّة و ( السّدد ) جمع السدّة كغرف و غرفة و هي كالسّقيفة فوق باب الدار ليقيها من المطر ، و قيل : هي الباب نفسه و منه حديث أمّ سلمه أنّها قالت لعايشة لما أرادت الخروج إلى البصرة إنّك سدّة بين رسول اللَّه و بين امّته فمتى اصيب ذلك الباب شي‏ء فقد دخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في حريمه . و ( التعمّق ) في الأمر المبالغة لطلب أقصى غايته و ( ارتمى ) القوم بالنّبل اى تراموا و ( خطرات الوساوس ) ما تقع في البال و في بعض النسخ خطر الوساوس و هو بسكون الطاء الهاجس‏كالخاطر و ( تولّهت ) القلوب إليه أصابها الوله 1 هجس الشى فى صدره خطر بباله أو هو أن يحدث نفسه فى صدره مثل الوسواس . [ 305 ] و هو بالتحريك التحيّر أو ذهاب العقل و ( غمض ) الحق غموضا من باب قعد خفى مأخذه و غمض بالضم لغة و ( علم ذاته ) قال الشّارح المعتزلي : أنكر قوم جواز إطلاق الذّات على اللَّه سبحانه لأنّها لفظة تأنيث و الباري سبحانه منزّه عن الأسماء و الصّفات المؤنثة ، و أجاز آخرون إطلاقها عليه و استعمالها فيه لوجهين : أحدهما أنها جائت في الشعر القديم قال جنيب الصخار عند صلبه : و ذلك في ذات الاله و ان يشاء يبارك على أوصال شلو 1 موزّع 2 و يروى ممرّغ أى مفرّق و قال النابغة : محلّتهم ذات الاله و دينهم قديم فما يخشون غير العواقب و الثّاني أنها لفظة اصطلاحية لأنها على مؤنّث لكنها تستعمل ارتجالا في مسمّاها الذي عبّر عنه بها أرباب النّظر الالهى كما استعملوا لفظ الجوهر و العرض في غير ما كان أهل اللّغة يستعملونها فيه . و ( جاب ) الأرض يجوبها جوبا قطعها و ( المهاوى ) جمع المهواة و هي ما بين الجبلين و ( السّدف ) جمع السدفة و هي الظلمة و ( جبهه ) كمنعه ضرب جبهته و ردّها و ( عسف ) عن الطّريق مال و عدل كاعتسف و تعسّف أو خبط على غير هداية و ( المثال ) المقدار يقال : هذا على مثاله أى على ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ اره و صفة الشي‏ء يقال هذا على مثال ذاك أى على صفته و ( امتثله ) و تمثّل به أى اقتداه و اتّبعه يقال : امتثل طريقته إذا تبعها فلم يعدها و ( حذا ) النعل بالنعل أى قطعها و قدرها عليها و حذا حذو زيد إذا فعل فعله . و ( المساك ) ما يمسك به و ( التلاحم ) كالالتحام التلائم و الالتئام لفظا و معنى يقال : تلاحم الجرح و التحم للبرء إذا التأم و ( الحقاق ) جمع حقه يقال : إنه لنزع الحقاق أى منازع في صغار الأشياء مأخوذ من حقاق العرفط 3 و هي صغاره ----------- ( 1 ) الشلو العضو و الجسد من كلّشى‏ء ، ق ----------- ( 2 ) موزّع اى مقسم ----------- ( 3 ) بيشه‏زار . [ 306 ] و ( المحتجبة ) بصيغة المفعول المستترة أى المستورة و في أكثر النسخ بصيغة الفاعل أى المتخذة لأنفسها حجابا ففايدة الافتعال الاتحاد و ( اليمين ) إما بمعنى القوّة أو بمعنى القسم و في بعض النسخ اليقين بدله و هو أظهر إلاّ أنّ الأوّل أبلغ كما تطلع عليه و ( النّد ) المثل و ( العادلون بك ) من العدل و هو المثل و النظير و منه : عدلوا باللّه ، أى أشركوا و جعلوا له مثلا و ( النحلة ) النسبة بالباطل و منه انتحال المبطلين و ( الخلقة ) بالكسر الفطرة كالخلق . الاعراب الاقرار بالضمّ فاعل أغناهم ، و علما منصوب على التميز ، و رسوخا مفعول ثان لسمّى ، و ردعها جواب اذا ارتمت ، و جملة و هي تجوب في محل النصب على الحال و العامل ردع ، و متخلّصة حال أيضا إما من مفعول ردع أو فاعل تجوب ، و معترفة حال من فاعل رجعت ، و من خالق متعلّق بمقدّر صفة بمقدار أى صادر من خالق أو مأخوذ من خالق . و جملة و أرانا عطف على ابتدع ، و اعتراف بالجرّ عطف على عجائب ، و إلى أن متعلّق بالحاجة ، و ما دلّنا مفعول ثان لأرانا ، و جملة و ظهرت عطف على ابتدع أيضا ، و لم يعقد بالبناء على الفاعل خبران ، و غيب ضميره بالنصب مفعوله ، و في بعض النسخ بالبناء على المفعول فيكون غيب ضميره بالرفع سادا مسدّ الفاعل و الباء في قوله بما تنزّلت سببية . المعنى اعلم أنه عليه السّلام لما حمد اللَّه سبحانه و أثنى عليه في الفصل السّابق بما يليق ذاته تعالى من صفات الجمال و نعوت الجلال ، عقّبه بهذا الفصل المتضمّن لتنبيه السّائل على خطائه في سؤاله الناشي عن توهّمه جواز معرفة اللَّه سبحانه على وجه تكون بمنزلة الرّؤية بالعيان ، و لما كان ذلك محالا في حقّ اللَّه القدّوس السّبوح السّبحان أوجب ذلك السؤال غضبه و تغيّر لونه عليه السّلام كما تقدّم ذكره سابقا . [ 307 ] و هذا الفصل مشتمل على مقاصد ثلاثة . المقصد الاول متضمّن لتأديب السّائل و لساير النّاس من الحاضرين و الغائبين في وصفهم للّه سبحانه و لتعليمهم كيفية السلوك في مدح اللَّه و الثناء عليه بما هو أهله ، و للنّهي عن التعمّق و الخوض في ذات اللَّه و صفاته ، و التّكلف فيها بما فوق الاستطاعة ، و الخطاب فيه و إن كان مخصوصا بالسّائل إلاّ أنّه عام لجميع النّاس ، إذا لعبرة بعموم الغرض لا بخصوص الخطاب و المخاطب و لذلك نادى : الصّلاة جامعة و قصد اجتماع النّاس . و كيف كان و إلى ما ذكرنا نبّه بقوله : ( فانظر أيّها السّائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ به و استضي‏ء بنور هدايته ) أمر عليه السّلام بالرّجوع إلى القرآن الكريم و الكتاب الحكيم و الاقتداء به و الاستضائة بأنوار هدايته و الأخذ بأوصاف القدس و الجلال و نعوت العظمة و الكمال المدرجة فيه ، فانه أدلّ دليل و أوضح سبيل و هو كلام الحقّ سبحانه و هو أعلم بصفاته من غيره فما وصف به فيه نفسه فهو الحقّ أحقّ أن يتّبع ، و ما نزّه ذاته عنه فهو الباطل ينبغي تنزيهه منه . إِنّهُ لَقَوْلُ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ . و قد دلّت الآيات الكريمة على أنّه تعالى ربّ ، رحمان ، رحيم ، شهيد ، عليم ، حكيم ، قادر ، قاهر ، قديم ، خالق ، رازق ، كريم ، سميع ، بصير ، خبير ، غفور ، شكور ، مجير ، عزيز ، متكبّر ، جبار ، قوى ، منتقم ، قهار ، إلى غير هذه ممّا فيها من الأسماء الحسنى و الأمثال العليا ، و قد تضمّنت مضافا إلى ذلك أنه « لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ » « وَ لا يُحيطونَ بِه‏ عِلْماً » « وَ لَيْسَ كَمِثْلِه‏ شَي‏ءٌ » . فانّ هذه الآيات الثلاث نصّ في عدم إمكان معرفته حقّ المعرفة و عدم جواز إدراكه [ 308 ] بالأبصار و بمشاهدة العيان أما الاية الاولى فظاهرة و أما الثانية فلأنّ كلّ من أبصر شيئا فقد أحاط به علما لا خلاف لأحد فيه و أما الثالثة فلأنّ الابصار عبارة عن حصول صورة الشي‏ء في حسّ البصر فما لا مثل له لا يمكن حصول صورته في الحسّ و حيث إنه ليس كمثله شي‏ء امتنع تعلّق الأبصار به فظهر من كلّ ذلك بطلان ما توهّمه السّائل . و نظير إرشاده عليه السّلام للسّائل إلى الرجوع إلى القرآن و الائتمام به إرشاد أبي الحسن الرّضا عليه السّلام لأبي هاشم الجعفري إلى الرجوع إليه و الأخذ به على ما رواه في الكافي عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن أبي هاشم الجعفري عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام قال : سألته عن اللَّه هل يوصف ؟ فقال عليه السّلام : أما تقرء القرآن ؟ قلت : بلى ، قال : أما تقرء قوله تعالى : لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ . قال : فتعرفون الأبصار ؟ قلت : بلى ، قال : ما هي ؟ قلت : أبصار العيون قال عليه السّلام : إنّ أوهام القلوب أكبر من أبصار العيون ، فهو لا يدركه الأوهام و هو يدرك الأوهام . فانّ السّائل لما استفهم عن جواز وصفه تعالى بالرّؤية أراد عليه السّلام التنبيه و الارشاد له على نفي الرّؤية مطلقا عنه تعالى بآية القرآن ، و لما ظهر من حال السّائل أنه قرء القرآن و قرء قوله تعالى : لا تدركه الأبصار ، و لم يعرف من الأبصار إلاّ أبصار العيون عرّفه عليه السّلام أنّ أوهام القلوب أكبر و أقوى في باب الادراك من أبصار العيون ، لسعة دائرة الاولى و قصور دائرة الثانية من حيث إنّ الوهم رئيس الحواس الظّاهرة و الباطنة و مستخدمها و مستعملها ، كما أنّ القلب أعنى العقل رئيس الوهم و مخدومه ، فالأولى أن يكون معنى الآية لا تدركه الأوهام ليدلّ على نفي الادراك مطلقا إذ كلّ ما يدركه الوهم لا يدركه البصر بخلاف العكس . و في الكافي باسناده عن عبد الرحيم بن عتيك القصير قال : كتبت على يدى عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد اللَّه عليه السّلام : إنّ قوما بالعراق يصفون اللَّه تعالى [ 309 ] بالصورة و التخطيط ، فان رأيت جعلنى اللَّه فداك أن تكتب إلىّ بالمذهب الصحيح من التّوحيد ؟ فكتب إلىّ : سألت رحمك اللَّه عن التّوحيد و ما ذهب إليه من قبلك فتعالى اللَّه الذي ليس كمثله شي‏ء و هو السّميع البصير ، تعالى عما يصفه الواصفون المشبّهون للّه بخلقه المفترين على اللَّه ، فاعلم رحمك اللَّه أنّ المذهب الصحيح في التّوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللَّه تعالى ، فانف عن اللَّه تعالى البطلان و التشبيه فلا نفى و لا تشبيه هو اللَّه الثابت الموجود تعالى اللَّه عمّا يصفه الواصفون و لا تعدّوا القرآن فتضلّوا بعد البيان . قال صدر المتألهين : في شرح الحديث : قوله عليه السّلام : فانف عن اللَّه البطلان و التشبيه أمر بنفى التعطيل و التشبيه فان جماعة ارادوا تنزيه اللَّه عن مشابهة المخلوقات فوقعوا في التعطيل و نفي الصفات رأسا و جماعة اخرى أرادوا أن يصفوه بصفاته العليا و أسمائه الحسنى فأثبتوا له صفات زايدة على ذاته فشبّهوه بخلقه فأكثر النّاس إلاّ القليل النادر منهم بين المعطل و المشبّه . قوله عليه السّلام : فلا نفي و لا تشبيه ، أى يجب على المسلم أن لا يقول بنفى الصفات و لا باثباتها على وجه التشبيه ، و قوله : هو اللَّه الثابت الموجود ، إشارة إلى نفي التعطيل و البطلان ، و قوله تعالى عمّا يصفه الواصفون إشارة إلى نفي التشبيه ، فانّ الواصفين هم الذين يصفون اللَّه بصفات زايدة و يقال لهم : الصّفاتية و كلُ من أثبت للّه صفة زايدة فهو مشبّه لا محالة . و قوله عليه السّلام : فلا تعدّوا القرآن فتضلّوا بعد البيان ، أى فلا تجاوزوا ما في القرآن بأن تنفوا عن اللَّه ما ورد في القرآن حتّى تقعوا في ضلالة التعطيل و اللَّه يقول : لَيْس كَمِثْلِه‏ شَيْ‏ءٌ وَ هُوَ السَّميعُ الْبَصيرُ أو تثبتو اللَّه من الصّفات ما يجب التنزيه عنها حتّى تقعوا في زيغ التشبيه و اللَّه يقول : [ 310 ] سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ هذ . و لما أمر عليه السّلام بالرجوع إلى القرآن و الاقتداء به و الاستضائة بأنواره و الأخذ بما ورد فيه من صفات الحقّ تعالى شأنه و تقدّس ذاته أردفه بقوله : ( و ما كلّفك الشّيطان علمه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه و لا في سنّة النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أئمة الهدى أثره فكل علمه إلى اللَّه سبحانه فانّ ذلك منتهى حقّ اللَّه عليك ) و مراده عليه السّلام بذلك المنع من تكلّف ما لم يفرض علمه على المكلّفين ، و الرّدع عن الخوض فيما لم يثبت وجوب معرفته على العباد في الكتاب المبين ، و لا في سنّة النّبيّ الأمين و أئمة الدّين سلام اللَّه عليهم أجمعين معلّلا بأنّ منتهى حقّ اللَّه على العباد أن يقولوا بما دلّ عليه القرآن ، و يصفوه بالأوصاف الثّابتة في الفرقان ، و ينتهوا عما رفع علمه عنهم و يكلوا علمه و يفوّضوه إلى اللَّه السّبحان مشيرا إلى أن تكلّف ما يزيد على ذلك من تكليفات الشّيطان اللّعين و تدليساته و وساوسه ليضلّ به عن النهج القويم و الصّراط المستقيم . و ان شئت توضيح ذلك فأقول : إنّ الكتاب الكريم قد دلّ على أنّه سبحانه عالم و أنه بكلّ شي‏ء محيط ، فيجب لنا الاذعان بذلك و عقد القلب عليه ، و أمّا البحث عن كيفيّة علمه و أنه على أىّ نحو هو فلا يجب علينا ، و ربما يؤدّى التعمق فيه إلى الضّلال كما ضلّ فيه كثير من الحكماء . فمنهم من تحيّر في معرفته فنفاه رأسا ، و منهم من ضاق به الخناق إلى الاطلاق فنفى علمه بالجزئيات ، و منهم من قرّره على وجه أوجب القول بكون الذّات فاعلا و قابلا و بكونه متّصفا بصفات غير سبلبية و لا اضافية إلى غير ذلك من المفاسد التي نشأت من كثرة البحث فيه على ما مرّ تفصيلا في تنبيه الفصل السّابع من فصول الخطبة الاولى . و كذلك قد ورد في القرآن أنّه تعالى خالق الأشياء و مبدعها ، فيجب لنا الاعتقاد به و ليس بفرض علينا أن نتكلّف البحث في كيفيّة الخلقة حتّى نقع في [ 311 ] الضلال البعيد كما وقع فيه الفلاسفة المثبتة للعقولات العشرة المبتنية على ما ذهبوا إليه من أنّ الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد ، فانّهم لمّا ذهبوا إلى أنّ الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد ألجأهم ذلك و اضطرّهم إلى القول بالعقولات مع أنه مخالف لاصول الشّريعة و لم يرد به كتاب و لا سنّة . و هكذا البحث و التعمق في ساير الصفات ، و مثله البحث في متشابهات الآيات مثل قوله سبحانه : الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى و قوله : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفَّاً صَفّاً . و غير ذلك ، فالواجب في كلّ ذلك و كول علمه إلى اللَّه سبحانه و ردّه عليه كما أبان عنه الكتاب العزيز في سورة آل عمران حيث قال : هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْويلِه‏ وَ ما يَعْلَمُ تأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَ الرّاسِخُونَ فى الْعِلْمِ يَقولُونَ آمَنّا بِه‏ كُلُّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ . روى أبو بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال : سمعته يقول : إنّ القرآن زاجر و آمر يأمر بالجنّة و يزجر عن النّار و فيه محكم و متشابه ، فأمّا المحكم فيؤمن به و يعمل به و يدين به و أمّا المتشابه فيؤمن به و لا يعمل به و هو قول اللَّه : فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ الآية هذا . ( و اعلم أنّ الرّاسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ) يعني أنّ [ 312 ] الرّاسخين في العلم إذا وصلوا إلى المتشابهات و إلى ما جهلوا كشف القناع و الغطاء عنها وقفوا عندها و اعترفوا بها إجمالا كما حكى اللَّه عنهم بقوله : يَقُولُونَ آمَنّا بِه‏ كُلُّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا . و لا يتعدّون عن ذلك حتى يقتحموا في المهالك . فان قلت : من المراد بالرّاسخين في العلم و ما المراد بالغيب المحجوب و ما ذا أراد عليه السّلام بالسّدد المضروبة دون الغيوب ؟ قلت : أما الرّاسخون في العلم فهم الثابتون فيه و الضابطون له كأئمة الدّين و أولياء اليقين الحاملين لأسرار النّبوة و أعباء الولاية و بعض خواصّهم المقتبسين من أنوار الهداية و المهتدين بنور الامامة . و أمّا المراد بالغيب المحجوب فهو ما غاب عن الخلق علمه و خفى مأخذه إما لعدم الاستعداد و القابليّة و قصور الطبيعة عن الادراك كذات اللَّه و صفاته الذّاتية ، و إمّا لاقتضاء الحكمة و المصلحة للاخفاء ، كعلم السّاعة و ما في الأرحام و نحوهما ممّا حجب اللَّه علمه عن العباد ، و من ذلك القبيل الآيات المتشابهة . و أمّا المراد بالسّدد المضروبة فهي الحجب المانعة من الوصول إلى الغيب ، و هي بالنسبة إلى الغيب المحجوب بها على قسمين : احدهما ما هي قابلة للارتفاع إمّا بالرّياضيات و المجاهدات كما يحصل للبعض فيعرف ضماير بعض العباد و يطلع على بعض المخبيات و يخبر عن بعض المغيبات ، و إمّا بتعليم من اللَّه سبحانه كما كان في حق الأنبياء و الأولياء فانّ عمدة معجزاتهم كانت من قبيل معرفتهم بالغيب و إخبارهم من المغيبات ، و إليه الاشارة في قوله تعالى : وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ . يعني أنّه عالم بكلّ شي‏ء من مبتدءات الامور و عواقبها ، و أنّه الذي يفتح باب العلم و يرفع الحجاب عن الغيب لمن يريد من الأنبياء و الأولياء ، لأنّه لا يعلم الغيب [ 313 ] سواه ، و لا يقدر أحد أن يفتح باب العلم به للعباد الاّ اللَّه ، و قال سبحانه : عالِمُ الْغيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِه‏ أَحَداً إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ أراد أنّ من ارتضاه و اختاره للنبوّة و الرّسالة فانّه يطلعه على ما شاء من غيبه على حسب ما يراه من المصلحة . و عن الخرايج عن الرّضا عليه السّلام في تفسير هذه الآية فرسول اللَّه عند اللَّه مرتضى ، و نحن ورثة ذلك الرّسول الذي اطلعه اللَّه على ما يشآء من غيبه فعلمنا ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة . و من هذا الباب معرفتهم بالمتشابهات و علمهم بتأويلها بسبب تعليمه تعالى بوحي أو الهام ، و لا منافاة بين إقرارهم بجملة ما جهلوا تفسيره منها من تلقاء نفسهم و وكول ذلك إلى ربّهم كما حكاه اللَّه و حكاه عليه السّلام عن الرّاسخين و بين معرفتهم الحاصلة بتعليمه سبحانه بل ربما يشير إليه قوله سبحانه : قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما يُوحى‏ إِلَيَّ فافهم جيّدا . القسم الثانى ما هي غير قابلة للارتفاع كحجب النور المانعة من الوصول إلىّ الحق و الاكتناه في ذاته . بيان ذلك : أنّ اللَّه سبحانه متجلّ لذاته بذاته و محتجب عن مخلوقاته ، و احتجابه ليس لخفاء ذاته بل لشدّة نوره و غاية ظهوره و كمال ذاته ، فغاية ظهوره أوجب بطونه ، و شدّة نوره أوجب اختفائه و احتجابه ، من حيث قصور عقول البشر عن إدراكه كمثال نور الشّمس و بصر الخفاش على ما حقّقناه في شرح الخطبة الرّابعة و الستّين ، و على هذا فلا سبيل إلى معرفة الحقّ سبحانه إلاّ بواسطة صفاته السّلبية و الاضافية ، و لا نهاية لهذه الصّفات و لمراتبها ، فالعبد لا يزال [ 314 ] يكون مترقّيا فيها فان وصل إلى درجة و بقى فيها كان استغراقه في مشاهدة تلك الدّرجة حجابا له عن الترقي إلى ما فوقها . و لما كان لا نهاية لهذه الدّرجات كان العبد دائما في السير و الانتقال بحسب قوّة عقله و استعداد ذاته إلى أن يبلغ إلى مقام عجز عن التّرقي إلى ما فوقه ، و يقصر عن إدراكه ، و هذا شأن الرّاسخين السّالكين في مقام السّلوك بقدمي العرفان المترقين في مقام المعرفة من مرتبة إلى مرتبة حتّى يقصروا عن الترقى إلى ما فوقها فيغنيهم حينئذ عن اقتحام السدد المضروبة اعترافهم بجملة ما جهلوا تفسيره على ما أشار إليه الامام عليه السّلام ( فمدح اللَّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما و سمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا ) . عجز الواصفون عن صفتك اعتصام الورى بمغفرتك تب علينا فانّنا بشر ما عرفناك حقّ معرفتك ( فاقتصر ) أيّها السّائل ( على ذلك ) أى على ما دلّ عليه الكتاب العزيز من صفته ( و لا تقدّر عظمة اللَّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين ) الذين اعتقدوا أنّ عقلهم قدّره سبحانه و أحاط به علما ، و صغّروا عظمته سبحانه بحسب عقلهم الضعيف مع أنّ عظمته تعالى أجلّ و أعظم من أن يضبطها عقل بشرى ، و إنما منشأ ذلك الحكم لمن حصل له هو الوهم الحاكم لمثليّة اللَّه لمدركاته من الأجسام و الجسمانيات ، و ذلك في الحقيقة كفر لاعتقاد غير الصّانع صانعا ، و ضلال عن طريق معرفة اللَّه ، مستلزم للهلاك الدّائم ، و الخزي العظيم . المقصد الثانى متضمن للتنبيه على عجز العقول عن الاكتناه في ذاته تعالى و عن معرفتها به حقّ المعرفة ، و لبيان أنّ حقّها و حظّها الاستدلال عليه بآيات العظمة و آثار الصّنع و القدرة و دلائل الملك و الملكوت . اما الاول فهو قوله : ( هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع [ 315 ] قدرته و حاول الفكر المبرء من خطرات الوسواس ان يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته و تولّهت القلوب إليه لتجري في كيفيّة صفاته و غمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصّفات لتنال علم ذاته ردعها ) و هذه الجملة أعنى قوله عليه السّلام إذا ارتمت إلى الآخر شرطية متصلة متعدّدة المقدم متّحدة التّالى و هو ردعها ، و هي بمنزلة شرطيّات متعدّدة . و المقصود بذلك أنّ الأوهام إذا ترامت و استرسلت مجدّة في التفتيش عن منتهى قدرته ، نكصت عن ذلك ، لأنّ قدرته تعالى متعلّق بجميع المقدورات لا نهاية له حتّى يبلغ الأوهام إلى غايته و منتهاه . و إنّ الفكر الصافي الخالي عن وساوس الشّيطان و شوائب الأوهام إذا قصد أن يقع على ذاته و يستثبتها بكلّ ما ينبغي لها من الكمالات في عميقات مغيبات عزّته و سلطانه و مملكته ، كلّ و حسر لقصوره عن إدراك ما لا نهاية له . و انّ القلوب إذا اشتدّ شوقها إليه و تولهت نحوه لتقف على كيفيّة صفاته عجزت ، و ذلك لأنّ صفاته كذاته قديمة و الكيف مهيّة امكانيّة مفتقرة إلى الجعل حادثة و هو سبحانه منزّه عن كونه محلاّ للحوادث فليس لذاته و صفاته كيفيّة حتّى يقف عليها العقول و لذلك قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام : و كيف أصفه بالكيف و هو الذى كيّف الكيف حتّى صار كيفا ، فعرّف الكيف بما كيّف لنا من الكيف . و أنّ العقول إذا غمضت مداخلها أى خفيت مواقع دخولها في دقايق العلوم النّظرية الالهية بحيث لا توصف لدقتها طالبة ان تعلم حقيقة ذاته انقطعت و أعيت لقصور العقول عن الوصول إلى حقيقة ما ليس بذى حدّ و لا تركيب . و محصّل الكلام أنّ هذه القوى التي هي أعظم المشاعر الانسانية لو حاولت التعمّق و الاستقصاء في معرفة ذات اللَّه الأعلى و صفاته الحسنى و أرادت الخوض في بحار ملكه و ملكوته ، وقفت خاسئة و رجعت حسيرة ، لقصورها عن إدراك هذه المطالب العظيمة و ردعها اللَّه تعالى عن ذلك و منعها من أن تحوم حول ذلك . ( و هي تجوب مهاوى سدف الغيوب متخلّصة إليه سبحانه ) أى تقطع مهاوي [ 316 ] ظلمات الغيوب حالكونها متوجّهة بكلّيتها إليه سبحانه في طلب إدراكه تعالى ( فرجعت إذ جبهت ) و ردّت ( معترفة ) و مذعنة ( بأنّه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته ) أى لا ينال باعتساف المسافات التي بينها و بينه و بشدّة الجولان في تلك المنازل إلى كنه معرفته سبحانه . إذ بينه و بين خلقه منازل غير متناهية ، و معارج غير مستقصاة بعضها نورانيّة و بعضها ظلمانيّة لا بدّ للسّالك من قطع جميعها حتّى يصل إلى باب الرّبوبية ، و أنّى له بذلك و أين التراب من ربّ الأرباب فجور الاعتساف غير نافع في تحصيل ما لا يمكن . ( و ) لذلك اعترفت العقول بأنّه لا ينال بذلك كنه معرفته كما اعترفت بأنه ( لا تخطر ببال اولى الرّويات خاطرة من تقدير جلال عزّته ) إذ كلّ ما يخطر ببال أرباب الفكر و كلّ ما يتصوّره اولو النظر في حقّه سبحانه و إن كان جليلا عظيما فهو أجلّ و أعظم من ذلك ، لأنّ ذلك صفة الواصفين لا صفة الرّب العظيم . قال فضيل بن يسار فيما رواه عنه في الكافي : سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول : إنّ اللَّه لا يوصف و كيف يوصف و قد قال في كتابه : وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه‏ . فلا يوصف بقدر إلاّ كان أعظم من ذلك . و روى عن محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام أنّ كلّ ما تصوّره أحد في عقله أو وهمه أو خياله فاللّه سبحانه غيره و ورائه ، لأنّه مخلوق و المخلوق لا يكون من صفات الخالق . ( الذى ابتدع الخلق على غير مثال امتثله و لا مقدار احتذى عليه من خالق معبود كان قبله ) أراد بذلك التنبيه على كون ايجاده للعالم بمحض الابداع و الاختراع و عدم كونه مستفادا من الغير . بيان ذلك أن الصّنايع البشريّة إنما تحصل بعد أن يرتسم في القوّة المتخيلة [ 317 ] صورة المصوع بل و كلّ فعل لا يصدر إلاّ بعد تصوّر وصفه و كيفيته أولا . و هذه التصورات تارة تحصل عن أمثلة للمصنوع و مقادير خارجيّة له يشاهدها الصّانع و يحذو حذوها كما يفعل التلميذ في الصّباغة شيئا قد مثل له استاده هيئته و صورته فيفعل نظيره . و تارة بمحض الالهام و الافاضة على قلبه كما يفاض على أذهان كثير من الأذكياء و المصوّرين صورة شكل لم يسبق إليه غيره ، فيصوّره في قلبه و يبرز صورته في الخارج على طبق ما افيض على قلبه ، و كيفيّة صنع اللَّه سبحانه منزّهة عن كونها على أحد الوجهين . اما الوجه الأوّل فلما مرّ في شرح الفصل السّابق من أنه سبحانه قبل القبل بلا قبل فليس قبله خالق مثل مثالا فاتّبعه سبحانه ، و لا قدر مقدارا فقطع على قدره و احتذى عليه تعالى شأنه . و أما الوجه الثاني فلأنّ الصورة المفاضة و المثال الملهم مستندان إلى المفيض و الملهم مستفادان من الغير فعلان له ، و ليس قبله تعالى غير حتّى يستفيد و يستفيض منه مضافا إلى استلزامه الافتقار تعالى اللَّه عن ذلك علوّا كبيرا ، هذا . و اما الثانى أعني بيان جواز الاستدلال عليه تعالى و إمكان معرفته بآيات القدرة و أدلة العظمة فهو قوله ( و أرانا من ملكوت قدرته ) أى من ملكها كما قال اللَّه : فَسُبْحانَ الَّذي بِيَدِه‏ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ . أى بقدرته و نسبته إلى القدرة لكون القدرة مبدء الوجود كلّه فهي مبدء المالكيّة ( و عجائب ما نطقت به آثار حكمته ) أى عجائب ما أفصحت عنه الأفعال و الأحكام الصادرة عن وجه الحكمة و المصلحة على أحسن ترتيب و نظام ، و تمام إتقان و انتظام . ( و اعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قوّته ) الموجود في النسخ التي رأيناها يقيمها بضمير التأنيث فلا بدّ من رجوعه إلى الخلق باعتبار ملاحظة المعنى ، إذ المراد المخلوقات بجميعها ، و يحتمل رجوعه إلى الحاجة على تكلّف ، [ 318 ] و المقصود اقرار الخلايق و اعترافهم بالاحتياج و الافتقار إلى أن يقيمهم و يجبر فاقتهم بقدرته و قوته الماسكة التي تمسك السّماء و الأرض أن تزولا ، و اعتراف بعضهم بلسان الحال و بعضهم بلسان الحال و المقال . ( ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته ) أى أرانا من ملكوت القدرة و آثار الحكمة و اعتراف الموجودات بالحاجة دليلا وافيا و برهانا كافيا دلّنا على معرفته سبحانه ، بسبب قيام الحجّة له تعالى بالضّرورة و البداهة . و بعبارة اخرى أرانا ممّا ذكر ما كان لنا دليلا على معرفته من أجل ضرورية الحجة القائمة له على الخلايق في باب المعرفة و بداهتها ( و ظهرت في البدايع التي أحدثها آثار صنعته و أعلام حكمته ) أى ظهرت في الحوادث البديعة المعجبة التي أحدثها و أوجدها آثار تدلّ على صانعيّته و علامات يستدلّ بها على حكمته ( فصار كلّ ما خلق ) في الأنفس و الآفاق ( حجّة له و دليلا عليه و إن كان خلقا صامتا ) لأنّ افتقاره الذاتي دليل على حاجته إلى المؤثر المبدع و إن لم يكن مفصحا عنه بلسانه ، إما لعدم كونه ذا لسان كالجماد و النبات و إما لكفره و إلحاده كبعض أفراد الانسان . ( فحجّته بالتّدبير ناطقة و دلالته على المبدع قائمة ) يحتمل رجوع الضمير في حجّته و دلالته إلى الخلق الصامت ، و يحتمل رجوعه إلى اللَّه سبحانه ، و الثاني أظهر ، و المراد أنّ حجّته تعالى ناطقة بكونه مدبّرا ، و دليله قائم على كونه مبدعا مؤثّرا . فحاصل الكلام و فذلكة المرام أنّ في ما أبدعه سبحانه في عالم الكون و أحدثه في الأنفس و الآفاق شواهد متظاهرة و آيات متناصرة ناطقة بلسان حالها مفصحة عن جلالة بارئها ، معربة عن كمال حكمته و تدبيره فيها ، منادية لأرباب القلوب بنغماتها ، قائلة : أ ما تراني و ما ترى صورتي و تركيبي و صفاتي و منافعي و اختلاف أحوالى و كثرة فوائدي ، أ تظنّ أنى خلقت بنفسي أو خلقني أحد من جنسي ، و فعلت هذه الأفاعيل و ما يترتّب عليها من المنافع بطبعي و ذاتي ؟ [ 319 ] أو ما تستحيي تنظر إلى كلمة مرقومة في ثلاثة أحرف فتقطع أنه صنعة آدمي عالم قادر مريد متكلّم ثمّ تنظر إلى عجائب هذه الخطوط المرقومة على وجه الانسان بالقلم الالهي الذى لا يدرك الابصار ذاته و لا حركته و لا اتصاله بمحلّ الخطّ ثمّ ينفكّ قلبك من جلالة صانعه ؟ و كذلك النطفة التي كأنها قطرة من الماء المتشابه الأجزاء يقول لمن له قلب أو ألقى السّمع و هو شهيد لا الّذينهم عن السّمع لمعزولون : توهّمني في ظلمة الأحشاء مغموسا في دم الحيض في الوقت الذي يظهر التخطيط و التصوير على وجهي ، و قد نقش النقاش حدقتي و أجفاني و جبهتي و خدّى و شفتي ، فترى النقوش يظهر شيئا فشيئا على التدريج و لا ترى داخل الرّحم و لا خارجة أحدا و لا خبر منها للاّم و لا للأب و لا للنطفة و لا للرّحم فما هذا النقاش ؟ أفلم يكن بأعجب ممّن يشاهده ينقش بقلمه صورة عجيبة لو نظر إليها مرّتين أو أكثر لتعلّمه فهل يقدر أن يتعلّم هذا الجنس من النقش الذي يعمّ ظاهر النطفة و باطنها و جميع أجزائها من غير ملامسة النطفة و من غير اتّصال بها لا من داخل و لا من خارج ؟ فان كنت لا تتعجّب من هذه العجائب و لا تعلم أنّ الذى صوّر و نقش هذه النقوش و الأشكال و الصّور و الأمثال مما لا شبه له و لا ندّ و لا شريك له و لا ضدّ ، كما أنّ صنعه و نقشه لا يساويه نقش و صنع و التباعد و المباينة بين الفاعلين كما بين الفعلين فعدم تعجّبك أعجب من كلّ عجيب ، فانّ الذى أعمى بصيرتك مع هذا الوضوح و منعك اليقين مع هذا البيان جدير بأن يتعجّب منه : فَسُبْحانَ مَنْ أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى و أضلّ و أغوى ، و فتح بصائر أحبائه فشاهدوه و هم به مؤمنون و أعمى قلوب أعدائه فقال فيهم صُمُّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ فله الخلق و الأمر لا معقّب لحكمه و لاراد لقضائه . المقصد الثالث متضمن للشهادة بالتنزيه و التقديس و أنه سبحانه تعالى شأنه عن مشابهة [ 320 ] مصنوعاته و مجانسة مخلوقاته و هو قوله : ( و أشهد أنّ من شبّهك بتباين أعضاء خلقك و تلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك لم يعقد غيب ضميره على معرفتك و لم يباشر قلبه اليمين بأنّه لا ندّ لك ) و لا يخفى ما فيه من المحسّنات البيانيّة . أوّلها أنّه عليه السّلام غيّر اسلوب الكلام و التفت من الغيبة إلى الخطاب على حدّ قوله تعالى : إيّاك نعبد ، لأنّ الكلام إذا نقل من اسلوب إلى اسلوب آخر كان أحسن تطرئة لنشاط السّامع ، و أكثر ايقاظا للاصغاء إلى ذلك الكلام . و ثانيها أنّ التشبيه يعتمد على أركان : المشبّه ، و المشبّه ، و المشبّه به ، فالمشبّه في هذا المقام هو القايس له سبحانه على خلقه ، و المشبّه هو اللَّه العزيز المتعال ، و المشبّه به في الحقيقة هو الخلق المتباينة الأعضاء و المتلائمة حقاق المفاصل إلاّ أنه عليه السّلام جعل المشبّه به تباين الأعضاء و تلاحم الحقاق تعريضا على ذمّ المشبّه و توبيخه ، و تنبيها على غلطه في تشبيهه ، و ذلك لأنّ تباين الأعضاء و تلاحمها من لوازم المشبّه به ، و هما مستلزمان للتركيب و اجتماع المفردات المستلزمين للافتقار إلى المركب و الجامع ، فمن كان ملزوما للحاجة و الافتقار كيف يجوز أن يشبه به العزيز الغني المتكبر الجبّار ، فجعلها نفس المشبّه به تنبيها على كونهما بمنزلة الوسط في لزوم التركيب للمشبّه به الحقيقي حتّى يظهر بذلك تقدّسه عن التّشبه به . و ثالثها أنّه وصف المفاصل بكونها محتجبة معلّلا احتجابها بأنه من تدبيرات حكمته تعالى و مقتضياتها ، و ذلك لأنها لو لم تحتجب و خلقت بارزة عريّة عن الغطاء و الغشاء ليبست رباطاتها و قست فيعذر تصرّف الحيوان بها كما هو الآن مضافا إلى كونها معرضة للآفات المفسدة لها و غير ذلك من خفيّ تدبيره و لطيف حكمته . و رابعها أنه عليه السّلام شهد في حقّ المشبّهة بعدم عقد ضميرهم المكنون على معرفة اللَّه سبحانه و عدم اعتقادهم و يقينهم بأنه لا مثل له تعالى ، و إنّما عبّر عن عدم اليقين [ 321 ] بعدم اليمين إشعارا بأنّ اللازم على العبد في مقام تنزيهه سبحانه عن المثل و النّظير أن يكون تنزيهه له صادرا عن وجه كمال اليقين بحيث لو أراد الحلف بذلك أمكنه ذلك . هذا إن جعلنا اليمين بمعنى القسم ، و إن كان بمعنى القوّة فالمقصود الاشعار بأن يكون تنزيهه صادرا عن قوّة القلب و لا يكون مضطربا فيه . و لما شهد عليه السّلام في حقّ المشبّه بأنّه لم يعقد قلبه على معرفة اللَّه سبحانه و لم يتيقّن تنزيهه عن المثل أكّد ذلك بقوله ( و كأنه ) أى المشبّه للّه بخلقه ( لم يسمع تبرّء التّابعين ) و هم عبدة الأصنام و الأوثان ( من المتبوعين ) أى من آلهتهم يوم القيامة ( إذ يقولون ) حين القوا « في الْجَحيمِ فَكُبْكِبُوا فيها هُمْ وَ الْغاوُونَ وَ جُنُودُ إِبْليسَ أَجْمَعُونَ ( تَاللَّهِ إِنْ كُنّا ) أى قد كنُّا ( لَفي ضَلالٍ مُبينٍ إِذْ نُسَوّيكمْ بِرَبِّ الْعالَمينَ ) وَ ما أَضَلنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ فَما لَنا مِنْ شافِعينَ وَ لا صَديقٍ حَميمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكونَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ فانّ المشبّهين لو سمعوا ذلك و عرفوا بذلك أى بتبرّء التّابعين من المتبوعين و بما حكى اللَّه عنهم في الكتاب المبين ، لعقدوا قلبهم على المعرفة ، و نزّهوه سبحانه عن المثل و الصفة ، كيلا يقعوا في الضّلالة الدّائمة و الحسرة الباقية ، كما وقع فيها التّابعون بتلك الجهة . فانّهم شهدوا على أنفسهم بالقسم البارّ بأنّهم في ضلال مبين ، و تحسّروا بأنهم ليس لهم من شافعين و لا صديق حميم . و تمنّوا الرّجوع إلى الدّنيا ليكونوا من المؤمنين ، كلّ ذلك من أجل تشبيههم الخالق بالخلايق و إبدائهم المساواة بين معبوداتهم الباطلة و بين ربّ العالمين ، و عدم كونهم بعلوّ شأنه سبحانه و جلالة قدره موقنين مذعنين [ 322 ] ( كذب العادلون بك ) أى الجاعلون لك عديلا و مثلا ( إذ شبّهوك بأصنامهم ) الباطلة ( و نحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم ) الفاسدة ( و جزّؤوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم ) الكاسدة ( و قدّروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم ) الجامدة أمّا كذبهم في تشبيههم له سبحانه بالأصنام فواضح ، حيث اعترفوا بأنّهم في ضلال مبين من جهة تسويتهم الأصنام بربّ العالمين و أمّا كذبهم في نحلتهم له حلية المخلوقين ، و تجزيتهم له تجزئة المجسّمات و تقديرهم له على الخلقة المختلفة القوى كقولهم : بأنّه في صورة غلام أمرد في رجليه نعلان من ذهب ، و قولهم : بأنّه أجوف من فيه إلى صدره و ما سوى ذلك فصمت ، و غير ذلك من هذياناتهم فأشدّ وضوحا إذ الأعضاء المختلفة إنّما تتولّد و تكمل بواسطة قوى طبيعيّة و نباتيّة و حيوانيّة و غيرها ، و هي قوى مختلفة بحقايقها متضادّة في أفعالها محتاجة إلى المركّب و الجامع ، و الاحتياج مستحيل على واجب الوجود ، تعالى عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا ( و أشهد أنّ من ساواك بشي‏ء من خلقك فقد عدل بك و العادل بك كافر بما تنزّلت به محكمات آياتك و نطقت عنه شواهد حجج بيّناتك ) شهادة ثانية على كفر المشبّهة متفرّعة على ما سبق . وجهة كفرهم أنهم لمّا شبّهوه بخلقه و سووه به حيث اعتقدوا أنّ خالقهم و صانعهم هو ما توهّموه بأوهامهم الفاسدة و وصفوه بعقولهم الكاسدة مع عدم كونه خالقهم بل هو مخلوق لهم مصنوع مثلهم لا جرم كانوا بذلك متّخذين غير الخالق خالقا جاعلين للّه سبحانه ندّا و عديلا ، و هو الكفر و الضّلال كما شهدت به محكمات الآيات و أفصحت عنه شواهد أدلّة البيّنات قال سبحانه في سورة البقرة : وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَ الَّذينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ إلى أن قال إِذْ تَبَرَّءَ الَّذينَ اتَّبعُوا مِنَ الَّذين [ 323 ] اتُّبِعُوا وَ رَأَوُ الْعَذابَ وَ تَقَطِّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ و في سورة إبراهيم : أَلَمْ تَرَ إِلىَ الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضلُّوا عَنْ سَبيلِه‏ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصيرَكُمْ إِلىَ النّارِ و في سورة الزّمر : وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً قُلْ تُمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَليلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النّارِ و في سورة فصّلت : قُلْ أَئِنّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالّذي خَلَقَ الْأَرْضَ في يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمينَ . إلى غير هذه من الآيات الباهرة و الحجج القاهرة ( و ) أشهد ( أنّك أنت اللَّه الذي لم تتناه في العقول فتكون في مهبّ فكرها مكيّفا ، و لا في رويّات خواطرها فتكون محدودا مصرّفا ) و هي شهادة ثالثة على تنزّهه من إحاطة العقول البشريّة فنفاها بنفي ما يترتّب عليها من كونه تعالى ذا نهاية ، إذ معنى الاحاطة بالشي‏ء هو إدراكه بكنهه و معرفته بجميع جهاته و بلوغ العقل غايته و نهايته بحيث لا يكون وراء ما أدركه شي‏ء آخر و نفي انتهائه بنفي ما يترتّب عليه من كونه ذا كيفيّة تكيّفه بها القوى المتخيّلة لتثبته بها العقول ، و كونه محدودا أى ذا حدّ و نهاية أو محدودا بحدّ يحدّه و يعرّفه إذ إدراك العقول للحقايق بكنهها إنّما هو من حدودها و معرّفاتها . و هذا مبنيّ على كون المحدود مأخوذا من الحدّ الذى هو معرّف الشي‏ء و القول الشارح له كما أنّ الاوّل مبنيّ على أخذه من الحدّ بمعنى النهاية ، و هو بكلا المعنيين محال على اللَّه سبحانه و كونه مصرّفا أى ذا تصريف و تقليب مأخوذ من تصريف الرّياح و هو تحويلها من وجه إلى وجه و من حال إلى حال لأنّه إذا [ 324 ] كان العقول و الفكر متعلّقة به لا بدّ أن يتصرّف فيه العقول و الأفكار ، و تحوّله من وجه إلى وجه لتبلغ غايته و تعرفه بكنهه و هو معنى كونه مصرّفا و لما كان هذه اللوازم كلّها باطلة مستحيلة في حقّه تعالى كان ملزومها و هو إحاطة العقول به و تناهيه فيها محالا أمّا بطلان اللاّزم الأول فلأنّ الكيف حادث بالذات ممكن الوجود مفتقر إلى جاعل يوجده برى‏ء الذات من الاتصاف به ، أما حدوثه فلكونه عرضا قائما بالمحلّ فهو مفتقر إلى جاعل و ينتهى افتقاره بالأخرة إلى الحقّ تعالى ، و امّا برائة ذات المحدث من الاتصاف به فلأنّ موجد الشي‏ء مقدّم عليه بالوجود فيستحيل أن يكون المكيّف بالكسر أى موجد الكيف و جاعله مكيّفا أى منفعلا ذا كيفيّة و إلاّ لزم تقدّم الشي‏ء على نفسه و كون الشي‏ء الواحد فاعلا قابلا و هو محال و أمّا بطلان الّلازم الثّاني و هو كونه محدودا إى ذا نهاية فلأنه لا غاية لوجوده و لا منتهى لذاته ، لأنّ وجوده وراء ما لا يتناهى مدّة و عدّة بما لا يتناهى قوّة و شدّة و أمّا إن جعلنا الحدّ بالمعنى الثّاني الذي أشرنا إليه فلأنّ حدّ الشي‏ء عبارة عن معرّفه المركب من الجنس و الفصل و اللَّه سبحانه بسيط الذّات لا جزء له و ما لا جزء له لا جنس له و ما ليس له جنس ليس له حدّ و قول شارح يعرّف به ، و ما ليس له حدّ لا يكون محدودا و أمّا بطلان اللازم الثالث أعني كونه مصرّفا فلاستحالة التغيّر و الانتقال من حال إلى حال على اللَّه تعالى شأنه . الترجمة پس نظر كن أى سؤال كننده از صفات پروردگار پس آنچيزيكه دلالت دارد قرآن بر آن از صفت حضرت آفريدگار پس اقتدا كن بآن و طلب روشنائى كن بنور هدايت او ، و آنچه كه تكليف كرده آنرا شيطان ملعون دانستن او را از چيزيكه نيست در قرآن بر تو فرض آن و نه در سنّت پيغمبر خدا صلّى اللَّه عليه و آله و نه ائمه هدى [ 325 ] علامت و نشانه او پس واگذار دانستن آن را بخداى تعالى ، پس بدرستيكه اين منتهاى حق خداوند است بر تو و زياده از اين بر تو لازم نيست . و بدان كه جماعتى كه رسوخ دارند در علم و استوارند در دانش ، ايشان كساني هستند كه بى‏نياز ساخته ايشان را از بى‏فكر داخل شدن حجاباتي كه زده شده در پيش غيبها ، اقرار و اعتراف ايشان بإجمال آنچه كه جاهل شده‏اند بتفسير و توضيح آن از غيبي كه پوشيده است ، پس مدح فرموده حق سبحانه و تعالى اعتراف بعجز كردن ايشان را از أخذ نمودن آنچه كه احاطه نكرده‏اند بآن از حيثيت علم و نام نهاده ترك تعمّق و خوض كردن ايشان را در چيزيكه تكليف نكرده بر ايشان بحث نمودن از حقيقت آن را برسوخ . پس قناعت كن ايسائل در باب معرفت باين مقدار و تقدير مكن عظمت پروردگار را باندازه عقل خود تا اينكه شوى از هالكين . او سبحانه قادريست كه اگر مجدّ شوند و همهاتا دريابند نهاية توانائى آنرا ، و طلب كند فكري كه مبرّاست از خطرات وساوس شيطانيّه آنكه واقع شود در اسرار عميقه پادشاهى او ، و واله و متحيّر باشند قلبها بسوى او تا اينكه جارى شوند در چگونگى صفتهاى او ، و غامض و خفى باشد محلّ دخول عقلها باندازه كه خارج از وصف باشد بجهة طلب علم بذات او سبحانه ردع ميكند و باز دارد خداوند تعالى آن عقول و اوهام را از معرفت بذات و صفات خود و حال آنكه قطع كند آن اوهام و عقول مواضع هلاك تاريكيهاى غيبها را در حالتيكه رهيده باشد از غير و نزديكى جويند بسوى حق سبحانه . پس برگشتند زمانيكه باز داشته شدند در حالتيكه اعتراف كننده باشند باينكه رسيده نميشود بشدة جولان در بيداء جلال و عزّت و حقيقت معرفت او ، و باينكه خطور نميكند بدل صاحبان فكرها خطور كننده از اندازه كردن بزرگي عزّت او . آن خداونديكه ايجاد كرد مخلوقات را بدون سبق مثالى كه متابعت [ 326 ] كرده باشد بر آن ، و بي‏تقدّم مقدار و اندازه كه عمل كرده باشد بر وفق آن كه صادر شده باشد آن مثال و مقدار از خالق معبودي كه بوده باشد قبل از او ، و بنمود ما را از پادشاهى قدرت خود و از عجايب آن چيزيكه گويا شده است بآن نشانهاى حكمت او و از اعتراف نمودن خلايق باحتياج خودشان باينكه اقامه نمايد و بپا داشته باشد ايشان را بنگه داشته قوّة خود دليل وافي و برهان شافي ما را بسبب ضروري و بديهى بودن حجتى كه قائم است مر او را بمعرفت او و ظاهر گرديد در اشياء بديعة كه ايجاد فرموده نشانهاى صنعت أو و علامتهاى حكمت او . پس گرديد هر چيزيكه خلق فرموده برهان قاطع مرا الوهيت آن را ، و دليل ساطع بر وجوب وجود آن و اگر چه بوده باشد آن مخلوق خلق غير ناطق و جماد ساكت ، پس حجت حق تعالى بتدبير حكمت او گويا است و دليل او بر وجود مبدع برپا . پس شهادت ميدهم بر اينكه كسيكه تشبيه كرده تو را باعضاى متباينه مخلوقات تو ، و خورده‏هاى بهم پيوسته مفاصل ايشان كه پوشيده شده است بتدبير حكمت تو عقد ننموده فكر باطني خود را بر معرفت تو ، و مباشر نكرده بقلب خودش يقين را باينكه نيست هيچ مثلى تو را . و گويا كه نشنيده آن تشبيه كننده بيزاري جستن تابعان را از متبوعان در روز قيامت ، و زمان انداخته شدن ايشان بر آتش وقتيكه گويند : قسم بخدا كه هر آينه بوديم ما در ضلالت هويدا ، در وقتيكه برابر كرديم ما شما را با پروردگار عالميان . دروغ گفتند كسانى كه بتو مثل و عديل قرار دادند وقتى كه تشبيه كردند تو را به بتهاي خودشان و بخشيدند بتو صفات مخلوقاترا بوهمهاي خود ، و تجزيه كردند تو را همچه مجزّا كردن أشياء مجسّمه با خواطرهاي خود ، و اندازه كردند تو را بر هيكلي و شكلى كه مختلف است قوتهاي او با عقلهاي خود . پس شهادت مى‏دهم بر اينكه هر كس كه مساوي ساخت تو را با چيزي از [ 327 ] مخلوق تو پس بتحقيق كه عديل قرار داد ترا و هر كس كه عديل قرار داد بتو كافر است بحكم آنچيزي كه نازل شده با آن آيات محكمات تو ، و بحكم آن چيزى كه ناطق شد از آن گواهان حجتهاي واضحه تو . و شهادت ميدهم بر اينكه توئى معبود بحق كه پايان نداري در عقلها تا اينكه باشى در محلّ ورزيدن انديشهاى آن عقول مكيّف با كيفيتي ، و نه در انديشهاى خاطرهاى آن عقول صاحب حدّ و نهايتى و موصوف بتغيير از حالت بحالتى الفصل الثالث منها قدّر ما خلق فأحكم تقديره ، و دبّره فألطف تدبيره ، و وجّهه لوجهته فلم يتعدّ حدود منزلته ، و لم يقصر دون الإنتهاء إلى غايته ، و لم يستصعب إذ أمر بالمضيّ على إرادته ، و كيف ؟ و إنّما صدرت الامور عن مشيّة المنشي‏ء أصناف الأشياء بلا رويّة فكر آل إليها ، و لا قريحة غريزة أضمر عليها ، و لا تجربة أفادها من حوادث الدّهور ، و لا شريك أعانه على ابتداع عجائب الامور ، فتمّ خلقه و أذعن لطاعته ، و أجاب إلى دعوته ، و لم يعترض دونه ريث المبطى ، و لا أناة المتلكِّي ، فأقام من الأشياء أودها ، و نهج حدودها ، و لائم بقدرته بين متضادّها ، و وصل أسباب قرائنها ، و فرّقها أجناسا مختلفات ، في الحدود و الأقدار و الغرائز و الهيئات ، بدايا ( برايا خ ل ) خلايق أحكم صنعها ، و فطرها على ما أراد و ابتدعها . [ 328 ] اللغة ( التدبير ) في الامور النّظر إلى ما يؤل إليه عاقبتها و ( وجهة ) الشي‏ء بالكسر جهة الشّي‏ء يتوجّه اليها قال تعالى : وَ لِكُلِّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيها . و ( قصر ) السهم عن الهدف إذا لم يبلغه و قصرت عن الشي‏ء أى عجزت عنه و ( دون ) الشّي‏ء أى قريبا منه و قبل الوصول إليه و ( آل ) إليه رجع و ( الغريزة ) الطبيعة و ( قريحة الغريزة ) ما يستنبطه الذّهن . قال الجوهريّ : القريحة أوّل ما يستنبط من البئر و منه قولهم : لفلان قريحة جيّدة يراد استنباط العلم بجودة الطبع و ( أضمر عليها ) أى بلغ الغاية و استقصى عليها من الاضمار بمعنى الاستقصاء ، و قيل : من الاضمار بمعنى الاخفاء و ليس بشي‏ء لتعدّيه بنفسه يقال أضمره و أخفاه و لا يقال : أخفى و أضمر عليه و ( الافادة ) الاستفادة و ( اعترض ) الشي‏ء دون الشي‏ء حال ، و اعترض صار كالخشبة المعترضة في النهر و ( الريث ) الابطاء و ( الاناة ) كقتاة : الحلم و الوقار مأخوذ من تأنّي في الأمر أى تثبّت و ( تلكّاء ) عليه اعتلّ و عنه أبطأ و ( الاود ) محركة الاعوجاج و ( قرائنها ) جمع القرينة و هي الأنفس و يحتمل أن يراد بها مقارنات الأشياء كما تطلع عليه . قال الشّارح المعتزلي : و ( بدايا ) ههنا جمع بدية و هي الحالة العجيبة بدأ الرّجل إذا جاء بالأمر البدى‏ء أى المعجب و البدية أيضا الحالة المبتكرة المبتدئة و منه قولهم فعله بادى بدي‏ء على وزن فعل أي أوّل كلّ شي‏ء . الاعراب قوله : و كيف استفهام على سبيل الانكار و إنما صدرت جملة حالية و العامل محذوف أى كيف يستصعب و إنّما صدرت الامور ، و جملة لم يعترض حال أيضا من فاعل المصدر أعني دعوته ، قوله : أجناسا حال من مفعول فرّق أو منصوب بنزع [ 329 ] الخافض أي فرّقها بأجناس أو على أجناس مختلفة ، و قوله : بدايا خلايق خبر لمبتداء محذوف أى هي بدايا خلايق ، و اضافة بدايا إلى خلايق من باب اضافة الصّفة إلى موصوفها ، قال الشّارح المعتزلي : و يجوز أن لا يكون بدايا إضافة إليها بل يكون بدلا من اجناسا . أقول : فعلى هذا الاحتمال تكون بدايا صفة ثانية لأجناسا و ما ذكرناه أظهر فتدبّر . المعنى اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة متضمن لتنزيه اللَّه سبحانه في كيفية ايجاده للأشياء و خلقه لها عن صفات المصنوعين ، و فيه تنبيه على كون المخلوقين مذلّين لانقياد حكمه ، مطيعين لأمره ، ماضين على ارادته ، غير متمرّدين عن طاعته كما قال عليه السّلام : ( قدّر ما خلق فأحكم تقديره ) يعني أنّ كلّ مخلوق قدّره في الوجود فعلى وفق حكمته بحيث لو زاد على ذلك المقدار أو نقص منه لاختلّت مصلحة ذلك المقدّر و تغيّرت جهة المنفعة فيه ( و دبّره فألطف تدبيره ) يعني أنّه أوجد الأشياء على وفق المصلحة و نظام الخير فتصرّف فيها تصرّفات كلّية و جزئيّة من غير شعور غيره ذلك . ( و وجّهه لوجهته فلم يتعدّ حدود منزلته و لم يقصر دون الانتهاء إلى غايته ) أراد أنّه سبحانه وجّه كلّ ما خلق إلى الجهة التي وجّهه إليها ، و ألهم كلاّ و يسّره لما خلق له ، كالسحاب للمطر و الحمار للحمل و النّحل للشمع و العسل و هكذا فلم يتجاوز شي‏ء منها مرسوم تلك المنزلة المحدودة له المعيّنة في حقّه ، و لم يقصر دون الانتهاء إلى الغاية التي كتبت له في اللّوح المحفوظ و إلاّ لزم التّغيّر في علمه و عدم النفاذ في أمره و هما محالان . ( و لم يستصعب إذ أمر بالمضيّ على إرادته ) أى لم يستصعب أحد من المخلوق التّوجّه إلى الجهة التي وجّهه إليها ، و لم يمكنه التّخلّف من المضيّ اليها على وفق إرادته و حكمته بعد أمره له بذلك أمر تكوين لا تشريع . [ 330 ] ( و كيف ) يستصعب و يتخلّف ( و إنّما صدرت الامور عن مشيّة المنشي أصناف الأشياء ) يعني أنّ جميع الآثار مستند إلى مشيّة إذ كلّ أثر فهو واجب عن مؤثّره و الكلّ منته في سلسلة الحاجة إلى إرادته فهو واجب عنها . و يدلّ عليه ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اذينة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال : خلق اللَّه المشيّة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيّة . و سيأتي تحقيق الكلام في ذلك بعد الفراغ من شرح الفصل ، هذا و قوله عليه السّلام ( بلا رويّة فكر آل إليها و لا قريحة غريزة أضمر عليها و لا تجربة أفادها من حوادث الدّهور و لا شريك أعانه على ابتداع عجائب الامور ) إشارة إلى تنزّهه في ايجاد المخلوقات عن الافتقار إلى هذه الامور ، و أنّ ذاته بذاته مصدر جميع الامور و أنّ خلقه سبحانه لها غير موقوف على شي‏ء منها . أمّا رويّة الفكر فلأنها عبارة عن حركة القوّة المفكّرة في تحصيل المطالب من المبادي و انتقالها منها إليها و هي محال على اللَّه سبحانه : « أمّا أوّلا » فلكون القوّة المفكّرة من خواصّ نوع الانسان « و أمّا ثانيا » فلأنّ فايدتها تحصيل المطالب المجهولة من المعلومات و الجهل محال في حقه تعالى و أمّا قريحة الغريزة فلانّها على ما عرفت عبارة عن استنباط العلم بجودة الذهن ، و استحالته على اللَّه واضحة إذ العلم عين ذاته و هو تعالى غير فاقد له حتّى يكون محتاجا إلى التّعمق و الاستنباط و النظر في موارده و مصادره و الاستقصاء عليه و بلوغ الغاية فيه و أمّا التجربة فلأنّها عبارة عن حكم العقل بأمر على أمر بواسطة مشاهدات متكرّرة معدّة لليقين بسبب انضمام قياس خفيّ إليها ، و هو أنّه لو كان هذا الأمر اتفاقيّا لما كان دائما أو أكثريّا و استحالتها على اللَّه من وجهين : أحدهما أنّها ، مركبة من مقتضى الحسّ و العقل ، و ذلك أنّ الحسّ يشاهد وقوع الاسهال مثلا [ 331 ] عقيب شرب الدّواء مرّة بعد مرّة فينتزع العقل من تلك المشاهدة حكما كلّيا بأنّ ذلك الدّواء مسهل و معلوم أنّ اجتماع الحسّ و العقل من خصايص نوع الانسان و ثانيهما أنّ التّجربة إنما تفيد علما لم يكن قبل فالمحتاج إلى التجربة لاستفادة العلم بها ناقص بذاته مستكمل بها و المستكمل بالغير محتاج إليه فيكون ممكنا و أمّا الشريك المعين فلانتفاء الشريك أوّلا كما مرّ في شرح الفصل الرابع من فصول الخطبة الاولى ، و لانتفاء مبدء الاستعانة ثانيا لأنّ مبدئها هو العجز من الفعل و العجز عبارة عن تناهي القوّة و القدرة ، و قدس الحقّ منزّه عن ذلك . فقد وضح و اتّضح بذلك كلّ الوضوح أنّ اللَّه سبحانه غير محتاج في ابداع الخلايق و ايجادها إلى الفكر و الرّوية ، و لا قريحة الطّبيعة و لا تجربة و لا مشاركة و إنّما مستند الايجاد نفس الارادة و المشيّة و أنّه سبحانه إِذا قضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . ( فتمّ خلقه ) بمشيّته ( و أذعن ) الكلّ ( لطاعته ) بمقتضا امكانه و حاجته ( و أجاب ) الجميع ( إلى دعوته ) حيث دعاهم إلى بساط الوجود بمقتضا عموم الافاضة و الجود ( و ) الحال انّه ( لم يعترض دونه ريث المبطي‏ء و لا أناة المتلكّى ) أى لم يحل دون نفاذ أمره إبطاء المبطي‏ء و لا تثبّت المتوقّف المعتلّ بل انقاد له جميع الأشياء و أسرعوا إلى أمره عند الدّعاء من غير تعلّل و لا إبطاء لكون الكلّ مقهورا تحت قدرته أذلّة تحت عزّته كما قال عزّ من قائل : بَديعُ السَّمواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فإِنَّما يَقولُ لَهُ كُنْ فَيَكوُنُ . يعنى أنّه إذا أراد فعله و خلقه يقول له ذلك بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همة و لا تفكّر ، فقوله كن اشارة إلى هبة ما ينبغي لذلك المأمور و بذل ما يعدّه لاجابة [ 332 ] أمره بالكون في الوجود ، و قوله : فيكون إشارة إلى وجوده ، و الفاء المقتضية للتعقيب بلا مهلة دليل على اللّزوم و عدم التأخّر ، هذا . و يحتمل أن يكون المراد بنفي اعتراض الرّيث و الاناة نفي اعتراضهما بالنّظر إلى ذاته من حيث فاعليته ، فيكون المقصود بذلك تنزيهه من أن يعرض له شي‏ء من هذه الكيفيّات كما يعزض على أحدنا إذا أردنا فعل شي‏ء من حيث قصور قدرتنا و ضعف قوّتنا ( فأقام من الأشياء أودها ) و اعوجاجها ، و إقامتها كناية عن اعداده ما ينبغي لها و إفاضته الكمال بالنسبة إليها ( و نهج حدودها ) و غاياتها أراد به ايضاحه لكلّ شي‏ء وجهته و تيسيرها له ( و لائم بقدرته بين متضادّها ) كما جمع بين العناصر الأربعة على تضادّ كيفيّتها في مزاج واحد ( و وصل أسباب قرائنها ) و نفوسها بتعديل أمزجتها لأنّ اعتدال المزاج سبب بقائها . قال الشارح البحراني : و يحتمل أن يكون معنى الوصول لأسبابها هدايتها إلى عبادته و ما هو الأولى بها في معاشها و معادها و سوقها إلى ذلك ، إذ المفهوم من قول القائل : وصل الملك أسباب فلان إذا علّقه عليه و وصله إلى برّه و انعامه ، هذا إن جعلنا القراين بمعنى الأنفس و إن كانت بمعنى مقارنات الشي‏ء فهو إشارة إلى أنّ الموجودات لا تنفكّ عن أشياء يقترن بها من هيئة أو شكل أو غريزة و نحوها ، و اقتران الشيئين لا محالة مستلزم لاقتران أسبابهما ، لاستحالة قيام الموجود بدون أسبابه ، و ذلك الاقتران و الاتّصال مستند إلى كمال قدرته إذ هو مسبب الأسباب . ( و فرّقها أجناسا مختلفات في الحدود و الاقدار و الغرايز و الهيئات ) أى جعلها أقساما مختلفة النهايات و المقادير متفاوتة الطبايع و الصفات ، فجعل بعضها طويلا و بعضها قصيرا و بعضها صغيرا و بعضها كبيرا ، و جعل سجيّة بعضها شجاعا و بعضها جبانا و بعضها شحيحة و بعضها كريمة و هيئة بعضها حسنة و بعضها قبيحة و هكذا ، هذا ان كان الحدود في كلامه عليه السّلام بمعنى النهايات قال الشارح البحرانيّ : و إن حملنا الحدود على ما هو المتعارف كان حسنا ، [ 333 ] فانّ حكمة الخالق سبحانه اقتضت تميّز بعض الموجودات عن بعض بحدودها و حقايقها ، و بعضها بأشكالها و هيئاتها و مقاديرها و غرائزها و اخلاقها كما يقتضيه نظام الوجود و أحكام الصّنع و حكم الارادة الالهيّة . ( بدايا خلايق أحكم صنعها و فطرها على ما أراد و ابتدعها ) أى هي مخلوقات عجيبة أو مبتكرة غير محتذى بها حذو خالق سابق ، جعل صنعها محكما متقنا ، و أوجدها على وفق ارادته و أبدعها من العدم المحض إلى الوجود من دون أن تكون لها مادّة أصلا لها كما زعمت الفلاسفة من أنّ الأجسام لها أصل أزلىّ هي المادّة فهو المخترع للمكنات بما فيها من المقادير و الأشكال و الهيئآت ، و المبتدع للموجودات بمالها من الحدود و الغايات و النّهايات بمحض القدرة على وفق الارادة و مقتضى الحكمة . تنبيه اعلم أنّه لما جرى في هذا الفصل ذكر حديث صدور الأشياء عن مشيّته سبحانه أحببت تنقيح ذلك المرام و عزمت على تحقيق الكلام في هذا المقام لكونه من مزالّ الأقدام . فأقول : و باللّه التكلان و هو المستعان إنّ الكلام في هذا الباب يقع في مقامات ثلاثة . المقام الاول في معنى المشيّة ، و قد فسّرها أهل اللغة بالارادة قال في القاموس : شئته إشائه شيئا و مشيئة و مشائة و مشائية أرادته ، و في مجمع البحرين : و المشيّة الارادة من شاء زيد يشاء من باب قال أراد ، و في المصباح شاء زيد الأمر يشائه شيئا من باب قال أراده ، و المشيئة اسم منه بالهمز ، و الادغام غير سايغ إلاّ على قياس من يحمل الأصلى على الزّايد لكنّه غير منقول و نحوها في ساير كتب اللغة . و أما في الأخبار و أحاديث أئمّتنا الأبرار الأخيار فتارة اطلقتا على معنى [ 334 ] واحد مثل ما رواه الطريحي عن الرّضا عليه السّلام ان الابداع و المشية و الارادة معناها واحد و الأسماء ثلاثة ، و اخرى و هو الأكثر على معنيين مختلفين يجعل مرتبة المشية متقدّمة على مرتبة الارادة و كون نسبتها إليها نسبة القوّة إلى الضعف . و يدلّ عليه ما رواه المحدّث المجلسيّ من المحاسن للبرقي قال : حدثني أبي عن يونس عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام قال : قلت : لا يكون إلاّ ما شاء اللَّه و أراد و قضى ؟ فقال عليه السّلام : لا يكون إلاّ ما شاء اللَّه و قدّر و قضى ، قلت : فما معنى شاء ؟ قال : ابتداء الفعل ، قلت : فما معنى أراد ؟ قال عليه السّلام : الثبوت عليه ، قلت : فما معنى قدّر ؟ قال : تقدير الشي‏ء من طوله و عرضه ، قلت : فما معنى قضى ؟ قال عليه السّلام : إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مردّ له . و رواه في الكافي مسندا عن عليّ بن إبراهيم الهاشمي عن أبي الحسن موسى ابن جعفر عليهما السّلام نحوه إلاّ أنّه ليس فيه قوله : قلت : فما معنى أراد قال الثبوت عليه ، و لعلّه سقط من الكتاب و الظّاهر أنّ مراده منه هو ما ذكرنا كما فهمه شرّاح الحديث . قال في مرآت العقول : قوله عليه السّلام : ابتداء الفعل أى أوّل الكتابة في اللّوح المحفوظ أو أوّل ما يحصل من جانب الفاعل و يصدر عنه ممّا يؤدّي إلى وجود المعلول و على ما في المحاسن يدلّ على أنّ الارادة تأكّد المشيّة و في اللَّه سبحانه تكون عبارة عن الكتابة في الألواح و تسبيب أسباب وجوده ، و قوله : تقدير الشي‏ء ، أى تعيين خصوصيّاته في اللّوح أو تعيين بعض الأسباب المؤدّية إلى تعيين المعلول و تحديده و خصوصيّاته إذا قضى أمضاه ، أى إذا أوجبه باستكمال شرايط وجوده و جميع ما يتوقّف عليه المعلول أوجده ، و ذلك الذي لا مردّ له لاستحالة تخلّف المعلول عن الموجب التّام . و قال الصّالح المازندراني في شرحه على أصول الكافي : لما كان قوله عليه السّلام : لا يكون شي‏ء إلاّ ما شاء اللَّه ، دالاّ بحسب الظاهر على أنّ المعاصي تقع بمشيّته تعالى و إرادته و هذا لا يستقيم على المذهب الحقّ ، سأل السائل عن معنى المشيّة حتى يظهر [ 335 ] له وجه الاستقامة ، فأجاب عليه السّلام بأنّ المشيّة ابتداء الفعل و أوله ، و لعلّ المراد بابتداء الفعل أنّ مشيّته تعالى أوّل فعل من الأفعال ، و كلّ فعل غيرها يتوقّف عليها و يصدر بعدها كما يدلّ عليه ما عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال : خلق اللَّه المشيّة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيّة ، يعني خلق أفعاله بها و كذا خلق أفعال عباده لكن بتوسط مشيّة جازمة صادرة منهم ، فاذا سلسلة جميع الأفعال منتهية إلى مشيّته تعالى ، و المراد به أنّ مشيّته أوّل المشيئآت ، و كلّ مشيّة سواها تابعة لها ، كما أنّه تعالى هو الفاعل الأوّل و كلّ فاعل بعدها فاعل ثانوى يسند فعله إليه بلا واسطة ، و إلى الفاعل الأوّل بواسطة ، و هذا معنى مشيّته تعالى لأفعال العباد و معنى اسناد فعلهم إلى مشيّته . و في محاسن البرقي بعد هذا السؤال و الجواب قلت : فما معنى أراد ؟ قال : الثبوت عليه ، يعنى على ابتداء الفعل و من ههنا فسرّ بعضهم الارادة تارة بأنّها عزيمة على المشيّة ، و تارة بأنها الاتمام لها ، و تارة بأنّها الجدّ عليها . و قال صدر المتألّهين : نسبة المشيّة إلى الارادة كنسبة الضعف إلى القوّة و نسبة الظنّ إلى الجزم ، فانّك ربما تشاء أشياء و لا تريده ، فظهر أنّ المشيّة ابتداء العزم على الفعل هذا . و في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن أبيه و محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسين بن سعيد و محمّد بن خالد جميعا عن فضالة بن أيوب عن محمّد بن عمارة عن حريز بن عبد اللَّه و عبد اللَّه بن مسكان جميعا عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال : لا يكون شي‏ء في الأرض و لا في السّماء إلاّ بهذه الخصال السّبع : بمشيّة ، و إرادة ، و قدر ، و قضاء ، و اذن ، و كتاب ، و أجل ، فمن زعم أنّه يقدر على نقص واحدة فقد كفر . قال في مرآت العقول : يمكن حمل الخصال السبع على اختلاف مراتب التقدير في الألواح السّماويّة ، أو اختلاف مراتب تسبب الأسباب السّماويّة و الأرضيّة ، أو يكون بعضها في الامور التكوينيّة و بعضها في الأحكام التكليفيّة ، أو كلّها في [ 336 ] الامور التكوينيّة . فالمشيّة و هي العزم و الارادة و هي تأكّدها في الأمور التكوينيّة ظاهرتان و أمّا في التكليفيّة فلعلّ عدم تعلّق الارادة الحتميّة بالترك عبّر عنه بارادة الفعل مجازا . و الحاصل أنّ الارادة متعلّقة بالأشياء كلّها لكن تعلّقها بها على وجوه مختلفة إذ تعلّقها بأفعال نفسه بمعنى ايجادها و الرضا بها و الأمر بها ، و بالمباحاة بمعنى الرّخصة بها ، و بالمعاصي إرادة أن لا يمنع منها بالجبر لتحقّق الابتلاء و التكليف كما قال تعالى : وَ لَوْ شآءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا . أو يقال تعلّقها بأفعال العباد على سبيل التجوّز باعتبار ايجاد الآلة و القدرة عليها و عدم المنع منها فكانّه أرادها . و بالقدر تقدير الموجودات طولا و عرضا و كيلا و وزنا و حدّا و وصفا و كمّا و كيفا ، و بالقضاء الحكم عليها بالثواب و العقاب أو تسبيب أسبابه البعيدة كما مرّ و المراد بالاذن إما العلم أو الأمر في الطّاعات أو رفع الموانع ، و بالكتاب الكتابة في الألواح السّماوية أو الفرض و الايجاب كما قال تعالى : كتب عليكم الصّيام ، و كتب على نفسه الرّحمة ، و بالأجل الأمد المعيّن و الوقت المقدّر عنده تعالى . و في الكافي أيضا عن الحسين بن محمّد عن معلّى بن محمّد قال : سئل العالم عليه السّلام كيف علم اللَّه ؟ قال : علم و شاء و أراد و قدّر و قضى و أمضى ، فأمضى ما قضى و قضى ما قدّر و قدّر ما أراد ، فبعلمه كانت المشيّة ، و بمشيّته كانت الارادة ، و بارادته كان التقدير ، و بتقديره كان القضاء ، و بقضائه كان الامضاء الحديث . قال صدر المتألّهين في شرحه : هذا السّائل سأله عليه السّلام عن كيفيّة علمه تعالى بالجزئيات الزّمانيّة و المكانيّة ، فأجابه عليه السّلام عنها بما أفاده من المراتب السّتة المرتّب بعضها على بعض . [ 337 ] أوّلها العلم ، لأنه المبدء الأوّل لجميع الأفعال الاختياريّة ، فانّ الفاعل المختار لا يصدر عنه فعل إلاّ بعد القصد و الارادة ، و لا يصدر عنه القصد و الارادة إلاّ بعد تصوّر ما يدعوه إلى ذلك الميل و تلك الارادة و التّصديق به تصديقا جازما أو ظنا راجحا ، فالعلم مبدء مبادى الأفعال الاختياريّة ، و اعلم أنّ المراد بهذا العلم المقدّم على المشيّة و الارادة و ما بعدهما بحسب الاعتبار أو التحقّق هو العلم الأزلىّ الذاتي الالهيّ أو القضائي المحفوظ عن التغيّر ، فينبعث منه ما بعده و أشار إليه بقوله : علم ، أى علم دائما عن غير زوال و تبدّل . و ثانيها المشيّة ، و المراد بها مطلق الارادة سواء بلغت حدّ العزم و الاجماع أم لا ، و قد ينفكّ المشيّة فينا عن الارادة الجازمة كما نشتاق أو نشتهى شيئا و لا نعزم على فعله لمانع عقليّ أو شرعيّ و إليها أشار بقوله : و شاء و ثالثها الارادة ، و هي العزم على الفعل أو الترك بعد تصوّره و تصوّر غاية المترتبة عليه من خير أو نفع أو لذّة ، لكنّ اللَّه برى‏ء عن أن يفعل لأجل غرض يعود إلى ذاته و إليها الاشارة بقوله : أراد . و رابعها التقدير ، فانّ الفاعل لفعل جزئيّ من أفعال طبيعة واحدة مشتركة إذا عزم على تكوينه في الخارج كما إذا عزم الانسان على بناء بيت فلا بدّ قبل الشروع أن يعيّن مكانه الذي يبنى عليه ، و زمانه الذي يشرع فيه ، و مقداره الذي يكوّنه عليه من كبر أو صغر أو طول أو عرض ، و شكله و وصفه و لونه و غير ذلك من صفاته و أحواله ، و هذه كلّها داخلة في التقدير . و خامسها القضاء ، و المراد هنا ايجاب الفعل و اقتضاء الفعل من القوّة الفاعلة المباشرة ، فانّ الشي‏ء ما لم يجب لم يوجد ، و هذه القوّة الموجبة بوقوع الفعل منّا هي القوّة التي تقوم في العضلة و العصب من العضو الذي توقع القوّة الفاعلة فيها قبضا و تشنّجا أو بسطا و إرخاء أوّلا فيتبعه حركة العضو فتتبعه صورة الفعل في الخارج من كتابة أو بناء أو غيرهما ، و الفرق بين هذا الايجاب و بين وجود الفعل في العين كالفرق بين الميل الذي في المتحرّك و بين حركته ، و قد ينفكّ الميل كما تحسّ [ 338 ] يدك من الحجر المسكن باليد في الهواء ، و معنى هذا الايجاب و الميل من القوّة المحرّكة أنه لو لا هناك اتفاق مانع أو دافع من خارج لوقعت الحركة ضرورة إذ لم يبق من جانب الفاعل شي‏ء منتظر فقوله عليه السّلام : و قضى ، إشارة إلى هذا الاقتضاء و الايجاب الذي ذكرنا أنه لا بدّ من تحقّقه قبل الفعل قبليّة بالذّات لا بالزّمان إلاّ أن يدفعه دافع من خارج ، و ليس المراد منه القضاء الأزلي لأنه نفس العلم ، و مرتبة العلم قبل المشيّة و الارادة و التقدير . و سادسها نفس الايجاد و هو أيضا متقدّم على وجود الشي‏ء المقدّر في الخارج و لهذا يعدّه أهل العلم و التحقيق من المراتب السّابقة على الوجود الممكن في الخارج فيقال أوجب فوجب . فأوجد فوجد . فان قلت : أليس الايجاد و الوجود و كذا الايجاب و الوجوب متضايفين و المتضايفان معان في الوجود ؟ قلت : المتضايفان و إن كانا من حيث مفهوميهما الاضافيّين و من حيث اتّصاف الذاتين بهما معا كما ذكرت ، لكنّ المراد ههنا ليس حال المفهومين ، فانّ كلاّ من الموجد بالفعل أو المقتضى أو المحرّك قد يراد به المعنى الاضافي و المفهوم النّسبي و حكمه كما ذكرت من كون تحقّقه مع تحقّق ما اضيف إليه من حيث إنه اضيف إليه ، و قد يراد به كون الشي‏ء بحيث يكون وجوده مستتبعا لوجود شي‏ء آخر و هذا الكون لا محالة متقدّم على كون شي‏ء آخر هو تابعه و مقتضاه الموجود بسبب هذا الاقتضاء أو الايجاد . كما في تحريك اليد بحركتها للمفتاح ، تقول : تحرّك اليد فتحرّك المفتاح فانّ الفاء يدلّ على الترتيب و إن كانا معا في الزّمان و ربما يتقدّم المقتضي على المقتضي زمانا في عالم الاتفاقات إذا كان هناك مانع من خارج كما في المثال الذي ذكرناه و كما في اقتضاء الشمس لاضائة ما يحاذيها من وجه الأرض فحال بينهما حائل ، فعدم استضائة ذلك الموضع ليس لأجل فتور أو نقصان في جانب المقتضي ، لأنّ حاله في الاقتضاء و الاضائة لم يتغيّر عما كان ، و إنّما التخلّف في الاستضائة [ 339 ] لأجل شي‏ء من جانب القابل ، فقوله عليه السّلام : فأمضى ، اشارة إلى هذا الايجاد الذي بيّنا أنه قبل الوجود و الصدور . المقام الثانى في تحقيق أنّ المشية و الارادة من صفات الفعل لا من صفات الذات ، و توضيح ذلك موقوف على رسم مقدّمة متضمنة لقاعدة كلّية بها يعرف الفرق بين صفات الذات و صفات الفعل ، و قد أشار إليها ثقة الاسلام الكليني عطّر اللَّه مضجعه في الكافي أيضا و هي : أنّ الفرق بينهما من وجوه ثلاثة : الأوّل أنّ كلّ صفة وجودية لها مقابل وجوديّ فهي من صفات الفعل لا من صفات الذات ، لأنّ صفاته الذاتية كلّها عين ذاته و ذاته مما لا ضدّ له ، فكذلك كلّما هو عين ذاته ، مثال ذلك أنّك تقول : إنّ اللَّه سبحانه رضي و سخط و أحبّ و أبغض و أحيى و أمات ، و هكذا و لا يجوز أن تقول : علم و جهل و قدر و عجز و عزّ و ذلّ ، فبذلك يعرف أنّ الحبّ و الاحياء و الرّضا من صفات الفعل لأنّ البغض و الاماتة و السّخط مقابلاتها ناقضات لها ، فلو كانت من صفات الذّات لزم أن يكون مقابلاتها ناقضات للذّات الأحدية و هو محال ، لأنّه لا ضدّ له كما لا ندّ له فاتصاف ذاته بصفتين ذاتيّتين متقابلتين محال . الثّاني أنّ كلّ صفة صحّ تعلّق القدرة بها فهي من صفات الفعل و كلّما لا تصحّ تعلّقها بها فهي صفة الذات ، و ذلك لأنّ القدرة صفة ذاتيّة تتعلّق بالممكنات لا غير ، فلا تتعلّق بالواجب و لا بالممتنع ، فكلّ ما هو صفة الذات فهو أزليّ غير مقدور و كلّما هو صفة الفعل فهو ممكن مقدور فيصح أن تقول : يقدر أن يخلق و أن لا يخلق و يقدر أن يميت و يحيى و أن يثيب و يعاقب و هكذا ، و لا يصحّ أن تقول : يقدر أن يعلم و أن لا يعلم ، لأنّ علمه بالأشياء ضروريّ واجب بالذّات ، و عدم علمه بها محال ممتنع بالذات و مصحّح المقدوريّة هو الامكان ، و مثله صفة الملك و العزّة و العظمة و الكبرياء و الجلال و الجمال و الجبروت و أمثالها . [ 340 ] الثّالث أنّ كلّ صفة صحّ تعلّق الارادة بها فهي صفة فعل ، و ما لا يصحّ تعلّقها بها فهي صفة الذّات ، و ذلك لأنّ الارادة من توابع القدرة إذ هي عبارة عن اختيار أحد طرفي المقدور و العزم عليه لأجل تحقّق الدّاعي ، فما لا يكون مقدورا لا يكون مرادا ، و أيضا الارادة صفة فعل حادثة و الحادث لا يؤثر في القديم . إذا عرفت هذه المقدّمة الشريفة فأقول : إنّ الارادة كما حقّقه صدر المتألّهين في شرح الكافي تطلق على معنيين : أحدهماما يفهمه الجمهور و هو الذي ضدّه الكراهة ، و هي التي قد تحصل فينا عقيب تصوّر الشي‏ء الملايم و عقيب التردّد حتى يترجّح عندنا الأمر الداعي إلى الفعل أو الترك فيصدر أحدهما منا ، و هذا المعنى فينا من الصفات النفسانية ، و هى و الكراهة فينا كالشهوة و الغضب فينا ، و هذا المعنى لا يجوز على اللَّه سبحانه ، بل ارادته نفس صدور الأفعال الحسنة منه من جهة علمه بوجه الخير و كراهته عدم صدور الفعل القبيح من جهة علمه بقبحه . كما قال المفيد ( ره ) : إنّ الارادة من اللَّه جلّ اسمه نفس الفعل و من الخلق الضمير و أشباهه مما لا يجوز إلاّ على ذوى الحاجة و النقص و ذلك لأنّ العقول شاهدة بأنّ القصد لا يكون إلاّ بقلب كما لا تكون الشهوة و المحبّة إلاّ لذي قلب و لا تصحّ النيّة و الضمير و العزم إلاّ على ذيخاطر يضطرّ معه في الفعل الذى يقلب عليه إلى الارادة له و النّية فيه و العزم و لما كان اللَّه تعالى يجلّ عن الحاجات و يستحيل عليه الوصف بالجوارح و الأدوات و لا يجوز عليه الدّواعى و الخطرات ، بطل أن يكون محتاجا في الأفعال إلى القصود و العزمات ، و ثبت أنّ وصفها بالارادة مخالف في معناه لوصف العباد و أنها نفس فعله الأشياء و بذلك جاء الخبر عن أئمة الهدى . ثمّ اورد رواية صفوان بن يحيى قال : قلت لأبي الحسن عليه السّلام : أخبرني عن الارادة من اللَّه و من الخلق ؟ قال : فقال عليه السّلام : الارادة من الخلق الضمير 1 و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، و أما من اللَّه تعالى فارادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنّه تعالى ----------- ( 1 ) الضمير أى تصور الشي‏ء و توجّه الذهن اليه . [ 341 ] لا يروّي و لا يتفكّر و لا يهمّ و هذه الصّفات منتفية عنه و هي صفات الخلق فارادة اللَّه تعالى الفعل يقول له كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همة و لا تفكر و لا كيف لذلك كما لا كيف له تعالى . المعنى الثانى للارادة كون ذاته سبحانه بحيث يصدر عنه الأشياء لأجل علمه بنظام الخير فيها التابع لعلمه بذاته ، لا كاتباع الضؤ للمضي‏ء و السخونة للمسخن ، و لا كفعل الطبايع لا عن علم و شعور ، و لا كفعل المجبورين و المسّخرين ، و لا كفعل المختارين بقصد زايد أو ارادة ظنيّة يحتمل الطرف المقابل . و قد تحقّقت أنّ قيّوم الكلّ إنّما يفعل الكلّ عن علم هو نفس ذاته العليم الذي هو أتمّ العلوم ، فاذا هو سبحانه فاعل للأشياء كلّها بارادة ترجع إلى علمه بذاته المستتبع لعلمه بغيره المقتضى لوجود غيره في الخارج لا لغرض زايد و جلب منفعة أو طلب محمدة أو ثناء أو التخلّص من مذمّة ، بل غاية فعله محبة ذاته فهذه الأشياء الصادرة عنه كلّها مرادة لأجل ذاته لأنها من توابع ذاته و علمه بذاته ، فلو كنت تعشق شيئا لكان جميع ما يصدر عنه معشوقا لك لأجل ذلك الشّي‏ء . و إليه الاشارة بما ورد في الحديث الالهي عن نفسه : كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف . و إذا ظهر لك ذلك اتّضح عندك أنّ الارادة بالمعنى الثاني لا غبار على كونها من صفات الذّات لكونها عبارة اخرى للعلم بالأصلح و النّظام الخير و العلم صفة ذات له سبحانه ، و بالمعنى الأول هي صفة فعل و لذلك صحّ سلبها عنه سبحانه . و يشهد به ما رواه في الكافي باسناده عن عاصم بن حميد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال : قلت : لم يزل اللَّه مريدا قال : إنّ المريد لا يكون إلاّ المراد معه ، لم يزل اللَّه عالما قادرا ثم أراد . فانّه كما ترى يدلّ على كونها من الصّفات الاضافيّة المتجدّدة كخالقيّته تعالى و رازقيّته ، و يشهد به أخبار اخر أيضا لا حاجة إلى إيرادها بعد وضوح المراد . [ 342 ] المقام الثالث في تحقيق الحديث المعروف المرويّ في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اذينة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال : خلق اللَّه المشيّة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيّة . و قد ذكروا في تأويله وجوها أشار إليها المحدّث العلاّمة المجلسيّ طاب رمسه في مرآت العقول . الأوّل أن لا يكون المراد بالمشيّة الارادة بل احدى مراتب التّقديرات التي اقتضت الحكمة جعلها من أسباب وجود الشّي‏ء ، كالتّقدير في اللّوح مثلا و الاثبات فيه ، فانّ اللّوح و ما أثبت فيه لم يحصل بتقدير اخر فى لوح سوى ذلك اللّوح و إنما وجد ساير الأشياء بما قدّر في ذلك اللّوح و ربما يلوح هذا المعنى من بعض الأخبار ، و على هذا المعنى يحتمل أن يكون الخلق بمعنى التقدير . الثّاني أن يكون خلق المشيّة بنفسها كناية عن كونها لازمة لذاته تعالى غير متوقّفه على تعلّق إرادة اخرى بها ، فيكون نسبة الخلق إليها مجازا عن تحقّقها بنفسها منتزعة عن ذاته تعالى بلا توقّف على مشيّة اخرى ، أو أنه كناية عن أنّه اقتضى علمه الكامل و حكمته الشّاملة كون جميع الأشياء حاصلة بالعلم بالأصلح ، فالمعنى أنه لما اقتضى كمال ذاته أن لا يصدر عنه شي‏ء إلاّ على الوجه الأصلح و الأكمل فلذا لا يصدر شي‏ء عنه تعالى إلاّ بارادته المقتضية لذلك . الثالث ما ذكره السيّد داماد قدّس اللَّه روحه و هو : أنّ المراد بالمشيّة هنا مشيّة العباد لأفعالهم الاختيارية ، لتقدّسه تعالى عن مشيّة مخلوقة زايدة على ذاته عزّ و جلّ و بالأشياء أفاعيلهم المترتّب وجودها على تلك المشيّة ، و بذلك تنحلّ شبهة ربما اوردت ههنا ، و هي : أنه لو كانت أفعال العباد مسبوقة بارادتهم لكانت الارادة مسبوقة بارادة اخرى و تسلسلت الارادات لا إلى نهاية . الرّابع ما ذكره بعض الأفاضل و هو : أنّ للمشيّة معنيين أحدهما متعلّق بالشّائى و هي صفة كمالية قديمية هي نفس ذاته سبحانه ، و هي كون ذاته سبحانه [ 343 ] بحيث يختار ما هو الخير و الصّلاح و الاخر يتعلّق بالمشي‏ء و هو حادث بحدوث المخلوقات لا تتخلّف المخلوقات عنه ، و هو ايجاده سبحانه إيّاها بحسب اختياره ، و ليست صفة زايدة على ذاته عزّ و جلّ و على المخلوقات بل هي نسبة بينهما تحدث بحدوث المخلوقات لفرعيّتها على المنتسبين معا فنقول إنه لما كان ههنا مظنّة شبهة هي : أنه إن كان اللَّه عزّ و جلّ خلق الأشياء بالمشيّة فبم خلق المشيّة أبمشيّة اخرى فيلزم أن تكون قبل كلّ مشيّة مشيّة إلى ما لا نهاية له ، فأفاد الامام عليه السّلام أنّ الأشياء مخلوقة بالمشيّة و أما المشيّة نفسها فلا يحتاج خلقها إلى مشيّة اخرى ، بل هي مخلوقة بنفسها لأنها إضافة و نسبة بين الشائي و المشى‏ء تتحصّل بوجوديهما العيني و العلمي ، و لذا أضاف خلقها إلى اللَّه سبحانه لأنّ كلّ الوجودين له و فيه و منه ، و في قوله : بنفسها ، دون أن يقول بنفسه إشارة لطيفة إلى ذلك ، نظير ذلك ما يقال : إنّ الأشياء إنما توجد بالوجود و أما الوجود نفسه فلا يفتقر على وجود آخر بل إنما يوجد بنفسه . الخامس ما ذكره بعض المحقّقين بعد ما حقّق : أنّ إرادة اللَّه المتحقّقه المتجدّدة هي نفس أفعاله المتجدّدة الكائنة الفاسدة ، فارادته لكلّ حادث بالمعنى الاضافي يرجع إلى ايجاده ، و بمعنى المراديّة ترجع إلى وجوده . قال : نحن إذا فعلنا شيئا بقدرتنا و اختيارنا فاردناه أوّلا ثمّ فعلناه بسبب الارادة فالارادة نشأت من أنفسنا بذاتها لا بارادة اخرى و إلاّ لتسلسل الأمر لا إلى نهاية فالارادة مرادة لذاتها و الفعل مراد بالارادة ، و كذا الشهوة في الحيوان مشتهاة لذاتها لذيذة بنفسها و ساير الأشياء مرغوبة بالشهوة . فعلى هذا المثال حال مشيّة اللَّه المخلوقة و هي وجودات الأشياء ، فانّ الوجود خير و مؤثر لذاته و مجعول بنفسه و الأشياء بالوجود موجودة و الوجود مشي‏ء بالذات و الأشياء مشيئة بالوجود ، و كما أنّ الوجود حقيقة واحدة متفاوتة بالشدّة و الضعف و الكمال و النقص ، فكذا الخيرية و المشيئة ، و ليس الخير المحض الذي لا يشوبه شرّ إلاّ الوجود البحت الذى لا يمازجه عدم و نقص ، و هو ذات الباري جلّ مجده فهو [ 344 ] المراد الحقيقى إلى آخر ما حقّقه . قال المحدّث المجلسيّ ( ره ) بعد ايراد هذه الوجوه : و الأوفق بأصولنا هو الوجه الأوّل . أقول : بل ما سوى الوجه الأخير كلّها أوفق و إن كانت متفاوتة بالقرب و البعد ، و إنما الوجه الأخير الذى مرجعه إلى القول بوحدة الوجود مخالف للأخبار و اصول الأئمة الأطهار سلام اللَّه عليهم ما تعاقب اللّيل و النّهار ، و اللَّه العالم بحقايق صفاته و المتعالى عن مجانسة مخلوقاته . الترجمة بعضى ديگر از آن خطبه شريفه اينستكه فرموده : تقدير كرده خداوند تعالى هر چيزيرا كه آفريده پس محكم گردانيده اندازه و تقدير آنرا و تدبير نموده هر چيزيرا كه خلق فرموده ، پس لطيف گردانيده تدبير آنرا و توجيه نموده هر شي‏ء را بسوى جهت خود ، پس تجاوز ننمود آن شي‏ء از حدّ و سدّ مكان خود ، و قاصر نشد نزد منتهى نشدن بغايت خود ، و صعب و دشوار نشمرد آنچه كه ايجاد فرمود مضى بر وفق اراده او را وقتيكه مأمور شد باين ، و چه طور ميباشد كه دشوار شمارد و حال آنكه جميع امور صادر شده از مشيّة قاهره خداونديكه انشاء و ايجاد فرموده أصناف و احساس اشياء را بدون روية و فكرى كه رجوع نمايد بآن ، و بدون استنباط طبيعتى كه اضمار نمايد و بغايت برسد در آن ، و بدون تجربه كه استفاده نموده باشد آن را از حوادثات روزگار و بيشتر يك و معاونى كه اعانت و يارى نمايد او را بر ايجاد عجائب امورات . پس تمام شد مخلوق او سبحانه و گردن نهاد بفرمان‏بردارى او ، و اجابت نمود بسوى دعوت او در حالتيكه حايل نشد نزد نفاذ امر او دير كردن دير كننده ، و نه توقف نمودن توقف نماينده ، پس راست فرمود از اشياء كجى آن‏ها را ، و روشن نمود حدود آنها را ، و الفت داد با قدرت خويش در ميان اضداد آنها ، و متصل ساخت [ 345 ] اسباب نفوس آن‏ها را ، و متفرّق نمود آن‏ها را بأقسام مختلفه گوناگون در نهايات و مقادير و در طبيعتها و هيئتها ، عجايب مخلوقاتيكة محكم گردانيد صنعت آن‏ها را و آفريد آنها را بر وجهيكه اراده كرده ، و ابداع فرموده آنها را از كتم عدم با قدرت كامله و حكمت شامله . و الفصل الرابع منها في صفّة السّماء : و نظم بلا تعليق رهوات فرجها ، و لاحم صدوع انفراجها ، و وشّج بينها و بين أزواجها ، و ذلّل للهابطين بأمره و الصّاعدين بأعمال خلقه حزونة معراجها ، و ناديها بعد إذ هي دخان فالتحمت عرى أشراجها ، و فتق بعد الإرتتاق صوامت أبوابها ، و أقام رصدا من الشّهب الثّواقب على نقابها ، و أمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده ، و أمرها أنْ ثقف مستسلمة لأمره ، و جعل شمسها آية مبصرة لنهارها ، و قمرها آية ممحوّة من ليلها ، و أجريهما في مناقل مجريهما ، و قدّر مسيرهما في مدارج درجهما ، ليميّز بين اللّيل و النّهار بهما ، و ليعلم عدد السّنين و الحساب بمقاديرهما ، ثمّ علّق في جوّها فلكها ، و ناط بها زينتها من خفيّات دراريّها ، و مصابيح كواكبها ، و رمى مسترق السّمع بثواقب شهبها ، و أجريها على أذلال تسخيرها ، من ثبات ثابتها ، و مسير سائرها ، و هبوطها و صعودها ، و نحوسها و سعودها . [ 346 ] اللغة ( الرّهوات ) جمع رهوة و هي المكان المرتفع و المنخفض أيضا يجتمع فيه ماء المطر ، و هو من الأضداد ، و عن النهاية تفسيرها بالمواضع المنفتحة ، و هو مأخوذ من قولهم رها رجليه رهوا أى فتح و ( الفرج ) جمع الفرجة و هي المكان الخالي و ( لاحم ) الصق و ( الصدع ) الشقّ و ( وشّج ) بتشديد الشين فالجيم المعجمة شبّك و ( ذلل ) البعير جعله ذلولا و هو ضدّ الصّعب الذي لا ينقاد من الذلّ بالكسر و هو اللّين و ( الحزونة ) خلاف السّهولة و ( المعراج ) السّلّم و المصعد و ( العروة ) من الدّلو و الكوز المقبض و من الثوب اخت زرّه كالعرى و يكسر و ( الأشراج ) جمع الشّرج محرّكة كالأسباب و السّبب ، و هي العروة للعيبة و قيل و قد تطلق الاشراج على حروف العيبة التي تخاط و هو الأنسب في المقام . قال الشارح المعتزلي : و تسمّى مجرّة السّماء شرجا تشبيها بشرج العيبة و اشراج الوادي ما انفسح منه و انشقّ و ( فتق ) الثوب فتقا شقّه و نقض خياطته حتّى انفصل بعضه عن بعض و ( الرتق ) ضدّ الفتق و ( صوامت ) الأبواب مغلقاتها و ( الرصد ) جمع راصد كخدم و خادم او اسم جمع و يكون مصدرا كالرّصد بالفتح ، و الرّاصد هو القاعد على الطريق منتظرا لغيره للاستلاب أو المنع ، و المرصاد الطريق و المكان يرصد فيه العدوّ و ارصدت له اعددت . و ( النقاب ) بالكسر جمع نقب كسهام و سهم و هو الثقب و الخرق و الطريق في الجبل و ( المور ) الموج و الاضطراب و الحركة قال تعالى : يوم تمور السّماء مورا و ( الخرق ) يكون بمعنى الثقب في الحايط و الشقّ فى الثوب و غيره ، و هو في الأصل مصدر خرقته إذا قطعته و مزقته ، يكون بمعنى القفر و الأرض الواسعة تتخرّق فيها الرّياح أى تهب و تشتدّ و ( الهواء ) يقال : للجسم الذي هو أحد العناصر و يقال : لكلّ خال قال سبحانه : و افئدتهم هواء ، أى خالية من العقل أو الخير و ( الأيد ) القوّة و ( المنقل ) في الأصل الطريق في الجبل و ( المدارج ) جمع المدرج و هو المسلك و ( درج ) الصّبي دروجا و درجانا مشى و درجهما بالتّحريك الطريق ، [ 347 ] و في بعض النسخ درجيهما بصيغة التثنية ، و في نسخة الشارح البحراني درجتهما بالتّاء الفوقانية . و ( الجوّ ) الهواء و ( النياط ) التعليق و ( الدّراري ) الكواكب المضيئة جمع الدّرى بتثليث الدّال نسبت إلى الدّر لبياضها ، و عن الفراء الكوكب الدّرى عند العرب عظيم المقدار ، و قيل : هو أحد الكواكب الخمسة السيارة ، و لا يخفى أنّ وصفه عليه السّلام الدّرارى بالخفيات ينافي القولين ظاهرا و ( مسترق السمع ) المستمع مختفيا ، و في النسخ مسترقى السّمع بصيغة الجمع و ( الأذلال ) بفتح الالف و الذال المعجمة جمع الذلّ بالكسر يقال : امور اللَّه جارية أذلالها بالنصب و على اذلالها أى مجاريها و يقال : دعه على اذلاله أى حاله بلا واحد و جاء على اذلاله أى وجهه . الاعراب قوله عليه السّلام : و ناداها بعد إذ هي دخان ، قال الشارح المعتزلي : روى باضافة بعد إلى إذ ، و روى بضمّ بعد أى و ناداها بعد ذلك إذ هى دخان و الأوّل أحسن و أصوب ، لأنّها على الضّم تكون دخانا بعد فتور رهوات فروجها و ملائمة صدوعها و الحال تقتضى أنّ دخانيّتها قبل ذلك لا بعده اه . و قوله : و أمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده الظرف الأوّل أعنى في خرق الهواء يجوز تعلّقه بأمسك و يجوز تعلّقه بتمور ، و أما الثاني فهو متعلّق بالامساك لا غير ، و من في قوله من ليلها إما لابتداء الغاية أو لبيان الجنس و تتعلّق بممحوّة أو بجعل ، و قوله عليه السّلام ثمّ علّق في جوّها فلكها ، الظاهر كون ثمّ هنا للترتيب الذكرى ، و من خفيات دراريها إما متعلّق بناط أو بيان للزينة . المعنى اعلم أنه عليه السّلام لما ذكر في الفصل السّابق عظمة قدرة اللَّه سبحانه في الخلق و التقدير و اللّطف و التدبير و كمال حكمته في الفطر و الابداع و الايجاد و الاختراع على نحو الاجمال و الاطلاق ، عقّبه بهذا الفصل المتضمّن لعجيب خلقة السماء و بديع [ 348 ] ما أودعه فيها لدلالتها المخصوصة على عظمة بارئها ، و شهادتها المحسوسة على قدرة صانعها و كفايتها للمستبصر و غنيتها للمستهدي ، و قد مرّ في تذييلات الفصل الثامن من فصول الخطبة الاولى ما فيه كفاية لشرح هذا المقام و دراية لذوى الأفهام إلاّ أنّا نعيد هنا بعض ما قدّمناه هناك و نزيد ههنا بعض ما لم نورده ثمة باقتضاء المقام و توضيحا لكلام الامام عليه السّلام فأقول : قال : ( و نظم بلا تعليق رهوات فرجها ) اى جمع و ألف أجزاء السماء المنفرجة المتصفة بالارتفاع و الانخفاض فسوّاها بقدرته الكاملة من غير أن يعلّق بعضها ببعض بخياطة و علاقة كما ينظم الانسان ثوبا بثوب أو نحوهما بالقيد و التعليق ، و هو مناسب لما مرّ في شرح الخطبة الاولى من أنّ مادّتها الدّخان المرتفع من الماء إذ مثل ذلك يكون قطعا ذات فرج . و أما ما في شرح البحراني من تأويل ذلك بتباين أجزاء المركّب لو لا التركيب و التأليف ، أو بالفواصل التي كانت بين أطباق السماوات فخلقها اللَّه سبحانه اكرا متماسّة لا خلا بينها ، فمبنىّ على قواعد الفلاسفة و تقليدهم ( و لاحم صدوع انفراجها ) هذا العطف بمنزلة التفسير و التّوكيد للجملة السابقة أى الصق أجزائها ذوات الصدوع بعضها ببعض و اضافة الصّدوع إلى الانفراج من اضافة الخاصّ إلى العامّ ( و وشّج بينها و بين أزواجها ) أي شبّك بينهما . قال الشارح البحراني : أراد بأزواجها نفوسها التى هي الملائكة السّماوية بمعنى قرائنها و كلّ قرين زوج أى ربط ما بينها و بين نفوسها بقبول كلّ جرم سماويّ لنفسه التي لا يقبلها غيره . و أورد عليه المحدّث العلامة المجلسىّ ( ره ) بأنّ القول بكون السّماوات حيوانات ذات نفوس مخالف للمشهور بين أهل الاسلام ، بل نقل السيّد المرتضى رضى اللَّه عنه اجماع المسلمين على أنّ الأفلاك لا شعور لها و لا إرادة ، بل هى أجسام جمادية يحرّكها خالقها . ثمّ قال ( ره ) : و يمكن أن يراد بالأزواج الملائكة الموكلون بها ، أو القاطنون [ 349 ] فيها ، أو المراد أشباهها من الكواكب و الأفلاك الجزئية ، و يمكن أن يكون المراد أشباهها في الجسمية و الامكان من الأرضيات و يناسب ما جرى على الألسن من تشبيه العلويات بالآباء و السّفليّات بالامهات ( و ذلّل لها بطين بأمره و الصاعدين بأعمال خلقه حزونة معراجها ) أى ذلّل للملائكة النّازلين بأمره التّكوينيّ و التشريعي و للكرام الكاتبين الصّاعدين بأعمال خلقه حزونة المعراج إلى السماء و قد تقدّم شرح حال الفرقة الاولى أعنى المدبّرات أمرا في شرح الفصل التاسع من فصول الخطبة الاولى و شرح حال الفرقة الثانية في شرح الفصل الأوّل من الخطبة الثانية و العشرين في المقام الثاني من تكملة ذلك الفصل ، هذا . و قال الشارح البحراني في شرح هذه الفقرة : قد سبقت الاشارة إلى أنّ الملائكة ليست أجساما كساير الحيوان ، فاذن ليس هبوطها و صعودها الهبوط و الصعود المحسوسين ، و إلاّ لكان الباري جلّ قدسه عن أوهام المتوهّمين في جهة إليه يصعد و عنه ينزل ، فاذن هو استعارة لفظ النزول من الجهة المحسوسة إلى أسفل للنزول المعقول من سماء جود الالهى إلى أراضى الموادّ القابلة للافاضات العالية ، و بذلك المعنى يكون هبوط الملائكة عبارة عن ايصالها إلى كلّ ما دونها كماله متوسطة بينه و بين مبدعه و موجده و هم المرسلون من الملائكة بالوحى و غيره ، و كذلك الصاعدون بأعمال الخلق هم الملائكة أيضا . و أما معنى الصّعود بها فيعود إلى كونها منقوشة في ذوات الصّاعدين بها ، و قد لاح فيما سبق أنّ علمه تعالي بمعلولاته البعيدة كالزمانيات و المعدومات التي من شأنها أن توجد في وقت و تتعلّق بزمان يكون بارتسام صورها المعقولة في تلك الألواح ، و هو أيضا مستعار كلفظ الهبوط للمعنى الذى ذكرناه من أراضى النفوس إلى الألواح . فامّا الانفراج الذى ذلل حزونته لهم و سهّل عليهم سلوكه فيعود إلى عدم حجبها و منعها لنفوذ علوم الملائكة بأعمال الخلايق و ما يجرى في هذا العالم ، و كما أنّ الجسم المتصدّع لا يمنع نفوذ جسم آخر فيه من حيث هو متصدّع و الوصول [ 350 ] إلى ما ورائه ، كذلك السّماء لا تحجب علوم الملائكة أن تتعلّق بما في هذا العالم من الموجودات ، فجرت مجرى المنفرج من الأجسام فاطلق عليه لفظ الانفراج و تذليله لحزونة ذلك الانفراج لهم هو كونها غير مانعة بوجه لجريان علوم الملائكة المقرّبين في هذا العالم . أقول : و أنت خبير بما فيه ، فانّ ما ذكره كلّه تأويل لا داعي إليه موجب لطرح ظواهر الآيات المتوافرة و نصوص الأخبار المتواترة المثبتة للهبوط و الصعود المحسوسين للملائكة ، بعيد عن لسان الشريعة ، و إنما دعاه إلى ذلك استيناسه بحكمة الفلاسفة المخالفة للكتاب و السّنة . ( و ناداها بعد إذ هي دخان فالتحمت عرى أشراجها ) المراد بندائها حكمه و أمره التكويني النافذ فيها بالوجود و بالتحام عرى أشراجها تمام خلقها و فيضان الصور السماوية عليها ، و ذلك باعتبار تركيبها و انضمام جزئها الصورى إلى جزئها المادّى كما يلتحم طرفا العيبة تبشريج عراها ، و فيه تلميح إلى قوله سبحانه : ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعينَ فَقَضيهُنَّ سَبْعَ سَمواتٍ فقوله عليه السّلام : و ناداها إشارة إلى قوله : ائتيا طوعا أو كرها ، و قوله عليه السّلام : بعد إذ هى دخان ، موافق لقوله : و هي دخان ، و قوله عليه السّلام : فالتحمت اه مساوق لقوله : فقضيهنّ الآية . قال البيضاوى في تفسيرها : قصد نحو السماء و هي دخان أمر ظلماني ، و لعلّه أراد به مادّتها و الاجزاء المتفرّقة التي ركبت منها ، فقال لها و للأَرض ائتيا بما خلقت فيكما من التأثير و التأثّر و ابراز ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة و الكاينات المتنوّعة أو ائتيا في الوجود أو اتيان السماء حدوثها و إتيان الأرض أن تصير مدحوّة ، طوعا أو كرها شئتما ذلك أو أبيتما ، و المراد إظهار قدرته و وجوب وقوع مراده لا إثبات الطلوع و الكره لهما ، قالتا أتينا طائعين منقادين بالذات و الأظهر أنّ المراد تصوير [ 351 ] تأثير قدرته فيهما و تأثّرهما بالذات عنها و تمثيلها بأمر المطاع و إجابة المطيع الطائع كقوله : كن فيكون ، فقضيهنّ سبع سموات خلقهنّ حلقا إبداعيّا و أتقن أمرهنّ . و قال الطبرسي في مجمع البيان أى ثمّ قصد إلى خلق السماء و كانت السماء دخانا ، و قال ابن عباس كانت بخار الأرض و أصل الاستواء الاستقامة ، و القصد التدبير المستقيم تسوية له : فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعينَ قال ابن عباس أتت السماء بما فيها من الشمس و القمر و النجوم ، و أتت الأرض بما فيها من الأنهار و الأشجار و الثمار و ليس هناك أمر بالقول على الحقيقة و لا جواب لذلك القول بل أخبر اللَّه سبحانه عن اختراعه السّماوات و الأرض و إنشائه لهما من غير تعذّر و لا كلفة و لا مشقّة بمنزلة ما يقال للمأمور افعل فيفعل من غير تلبّث و لا توقّف فعبّر عن ذلك بالأمر و الطاعة و هو كقوله : إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيكُونُ . و إنما قال أتينا طائعين و لم يقل أتينا طائعتين لأنّ المعنى أتينا بمن فينا من العقلاء فغلب حكم العقلاء و قيل إنه لما خوطبن خطاب من يعقل جمعن جمع من يعقل كما قال : وَ كُلُّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ . ( و فتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها ) و هو إما كناية عن ايجاد الأبواب فيها و خرقها بعد ما كانت رتقا لا باب فيها ، أو فتح الأبواب المخلوقة فيها حين ايجادها ، و هذه الأبواب هي التى منها عروج الملائكة و هبوطها و صعود أعمال العباد و أدعيتهم و أرواحهم كما قال تعالى : وَ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماء أو التي تنزل منها الأمطار كما أشار إليه بقوله : [ 352 ] فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ و يؤيّد الأخير ما رواه الطبرسيّ ( ره ) في تفسير قوله سبحانه : أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما عن أبي جعفر و أبي عبد اللَّه عليهما السّلام و عكرمة و عطية و ابن زيد أنّ السماء كانت رتقا لا تمطر و الأرض رتقا لا تنبت ففتقنا السماء بالمطر و الأرض بالنّبات ، هذا . و لا يخفى عليك أنه بعد دلالة كلام الامام عليه السّلام كغير واحد من الآيات و الأخبار على أنّ للسماء أبوابا لا يعباء بما قاله الفلاسفة من استحالة الخرق و الالتيام على الفلك المبتنية على قواعدهم الفاسدة و عقولهم الكاسدة . و لعلّ الشارح البحراني ألجأه التقليد بهم إلى تأويل كلامه عليه السّلام في هذا المقام بما لا ينافي اصولهم حيث قال : و افتتاق صوامت أبوابها بعد الارتتاق هو جعلها أسبابا لنزول رحمته و مدبرات تنزل بواسطة حركاتها على هذا العالم أنواع رحمة اللَّه فكانت حركاتها تشبه الأبواب إذ هى أبواب رحمته و مفاتيح جوده . و مثله ما ذكره في شرح قوله عليه السّلام : ( و أقام رصدا من الشهب الثواقب على نقابها ) حيث قال إنه استعار لفظ النقاب لكونها بحيث لا يمنع تعلّق العلوم بما ورائها من الأجسام و المجرّدات ، و أنت خبير بأنّ كلّ ذلك تكلّف لا داعي إليه و الأدلّة على امكان الخرق و وجود الأبواب فوق حدّ الاحصاء ، و لعلّنا نشبع الكلام في ذلك في مقام مناسب ، و المهمّ الآن شرح معنى كلامه عليه السّلام على مقتضى اسلوبنا و سليقتنا المفادة من الآيات و الأخبار فأقول : مراده عليه السّلام بنقابها طرائقها كما قال سبحانه : وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ فالمقصود بذلك إقامة الشّهب و إرصادها على المرصاد لطرد الشياطين عن استراق [ 353 ] السّمع كما حكى اللَّه ذلك في سورة الجنّ بقوله : وَ أَنّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَديداً وَ شُهُباً وَ أَنّا كنّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الانَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً . قال الطبرسيُّ : ثمّ حكى اللَّه الجنّ و قولهم : وَ أَنّا لَمَسْنا السَّماءَ أى مسّنّاها ، و قيل : طلبنا الصعود إلى السّماء فعبّر عن ذلك بالمسّ مجازا . فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَديداً أي حفظة من الملائكة شدادا وَ شهُباً و التقدير ملئت السّماء من الحرس و الشهب و هو جمع شهاب و هو نور يمتدّ من السّماء كالنار . وَ أَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أى لاستراق السّمع أى كان يتهيّأ لنا فيما قبل القعود في مواضع الاستماع فنسمع صوت الملائكة و كلامهم : فَمَنْ يَسْتَمِعِ » منّا « الانَ » ذلك « يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً » يرمي به و يرصد له ، و شهابا مفعول به و رصدا صفته قال معمّر : قلت للزّهرى أكان يرمي بالنجوم في الجاهليّة ؟ قال : نعم قلت : أفرأيت قوله : أَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْها الآية قال : غلّظ و شدّد أمرها حين بعث النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم ( و أمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده ) أى أمسكها بقدرته و قوّته من الحركة و الاضطراب في الهواء الذى هو أحد العناصر إذ لا دليل على انحصاره في الذي بين السماء و الأرض في المكان [ 354 ] الخالى الموهوم أو الموجود طبعا أو قسرا ، و المراد حركة أجزائها فيما بين السماء و الأرض و يؤيّده قوله سبحانه : وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاّ بِإِذْنِهِ ( و أمرها أن تقف مستسلمة لأمره ) أى أمرها بالوقوف و القيام و أراد منها ذلك منقادة لارادته كما قال تعالى : وَ مِنْ آياتِه‏ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِه‏ قال الطبرسيّ : بلا دعامة تدعمهما و لا علاقة تتعلّق بهما بأمره لهما بالقيام كقوله تعالى : إِنَّما أَمْرُنا لِشَيْ‏ءٍ إذا أَرَدْنا أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ و قيل بأمره أى بفعله و إمساكه إلاّ أنّ أفعال اللَّه عزّ اسمه مضاف إليه بلفظ الأمر لأنه أبلغ في الاقتدار فانّ قول القائل أراد فكان أو أمر فكان أبلغ في الدلالة على الاقتدار من أن يقول فعل فكان ، و معنى القيام الثبات و الدّوام ( و جعل شمسها آية مبصرة لنهارها ، و قمرها آية ممحوّة من ليلها ) هو مأخوذ من قوله سبحانه في سورة الاسرى : وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السَّنينَ وَ الْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصيلاً و فيه قولان : أحدهما أن يراد أنّ اللّيل و النهار آيتان في أنفسهما فتكون الاضافة في آية الليل و آية النهار للتّبيين كإضافة العدد إلى المعدود ، أى فمحونا الآية التي هي اللّيل فكانت مظلمة و جعلنا الآية التي هي النهار مبصرة و الثانى أن يراد : و جعلنا آيتي اللّيل و النّهار أى نيّريهما آيتين ، فيكون المراد بهما الشمس و القمر و ظاهر كلام الامام عليه السّلام ربما يشعر بهذا القول ، و يدلّ على القولين قوله سبحانه : [ 355 ] وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تعْبُدُونَ أمّا كون الأوّلين آيتين فلأنّ كلّ واحد منهما مضاد للآخر معاند له ، فكونهما متعاقبين على الدوام من أقوى الدّلائل على أنّهما غير موجودين بالذات بل لا بدّ لهما من فاعل يدبِّرهما و يقدّرهما بالمقادير المخصوصة ، مضافا إلى أنّ مقتضى التّضادّ بين الشيئين أن يتفاسد الا أن يتعاونا على سبيل المصالح ، و هما مع تضادّهما و تنافيهما متعاونان على تحصيل منافع الخلق و مصالحهم ، فلو لا اللّيل لما حصل السكون و الراحة ، و لو لا النهار لما أمكن الكسب و المعيشة ، و لو لا الليل لفسدت الزراعات بالحرارة ، و لو لا النّهار لفسدت بالبرودة ، فهما من أقوى الآيات و أظهر البيّنات . و أمّا كون الآخرين آيتين للصانع و دليلين على وجود القادر المختار فلأنّ الأجسام متماثلة فاختصاصهما بالحركة الدّائمة دون السّكون لا بدّ له من مخصّص ، و أيضا انّ كلّ واحدة من تلك الحركات مختصّة بكيفيّة معيّنة من البطوء و السّرعة فلا بدّ له أيضا من مخصّص على أنّ تقدير تلك الحركات بمقادير مخصوصة على وجه تحصل عوداتها و دوراتها متساوية بحسب المدّة حالة عجيبة و صنعة بديعة لا بدّ لها من مدبّر مقدّر و مبدع مقتدر ، هذا . و أما المقصود بمحو آية اللّيل فلهم فيه قولان : أحدهما أنه هو ما يظهر في القمر من الزّيادة و النقصان في النور فيبدو في أوّل الأمر في صورة الهلال ثمّ لا يزال يتزايد نوره حتّى يصير بدرا كاملا ، ثمّ يأخذ في الانتقاص قليلا قليلا و ذلك هو المحو إلى أن يعود إلى المحاق . و الثاني أنه هو الكلف في وجه القمر و كونه مطموس النّور ، فانه بعد ما كان مساويا للشمس في الضوء و النّور أرسل اللَّه جبرئيل فأمرّ جناحه على وجهه فطمس عنه الضوء ، و معنى المحو في اللّغة إذهاب الأثر ، و قد استظهرنا هذا القول في التذييل [ 356 ] السادس من تذييلات الفصل الثامن من فصول الخطبة الاولى ببعض الأخبار التي أوردناها هناك . و ربما يستظهر القول الأوّل بقوله سبحانه : لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنينَ وَ الْحِسابَ لأنّ المحو إنما يؤثّر في ابتغاء فضل اللَّه إذا حملناه على زيادة نور القمر و نقصانه ، فانّ أهل التجارب تبيّنوا أنّ اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم و مصالحها ، مثل أحوال البحار في المدّ و الجزر و مثل أحوال البحرانات على ما يذكره الأطباء في كتبهم و أيضا بسبب زيادة نور القمر و نقصانه تحصل الشهور و بسبب معاودة الشهور تحصل السنون العربية المبنيّة على رؤية الأهلّة . و أمّا المراد بجعل آية النهار مبصرة ففيه أيضا قولان : أحدهما أنّ معنى كونها مبصرة كونها مضيئة نيّرة ، قال الكسائي : العرب تقول : أبصر النّهار إذا أضاء أقول : و لعلّ ذلك من حيث إنّ الاضائة لما كان سببا للابصار فاطلق اسم الابصار على الاضائة إطلاقا لاسم المسبّب على السّبب . و ثانيهما أنّ المبصرة التي أهلها بصراء فيها قال أبو عبيدة يقال : قد أبصر النّهار إذا صار النّاس يبصرون فيه ، كقولهم رجل مخبت إذا كان أصحابه خبتاء و رجل مضعف إذا كان دوابه ضعفاء ، هذا . و بقى الكلام في إضافة اللّيل و النّهار إلى السماء في كلامه عليه السّلام ، و وجهها أنّ استنادهما لما كان إلى حركة الفلك أضافهما إليها لتلك المناسبة ( و أجراهما في مناقل مجريهما و قدّر سيرهما في مدارج درجيهما ) أراد بالمناقل و المدارج منازل الشمس و القمر . قال ابن عباس : للشمس مأة و ثمانون منزلا كلّ يوم لها منزل و ذلك في ستّة أشهر ثمّ إنها تعود إلى واحد واحد منها في ستّة أشهر مرّة اخرى ، و القمر له ثمانية و عشرون منزلا . [ 357 ] و تحقيق المقام أنهم قسّموا دور الفلك الذي يسير فيه الكواكب اثنا عشر قسما و سمّوا كلّ قسم برجا كما قال سبحانه : وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوج و قال : تبارَكَ الَّذي جَعَلَ في السَّماءِ بُرُوجاً قال الرازي البروج هي القصور العالية سمّيت بروج الكواكب لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكّانها ، ثمّ إنّهم قسّموا كلّ برج ثلاثين قسما و سمّوا كلّ قسم درجة و سمّوا البروج بهذه الأسماء : الحمل ، الثور ، الجوزا ، السرطان ، الاسد : السنبلة ، الميزان ، العقرب ، القوس ، الجدى ، الدلو ، الحوت ، و الشّمس تسير كلّ برج منها في شهر واحد ، فتحصل تمام دورتها لتلك البروج في سنة كاملة و به تحصل السّنة و هي ثلاثمأة و خمسة و ستّون يوما و شي‏ء تنزل كلّ يوم في منزل و ما قاله ابن عباس في كلامه الذي حكيناه لعلّه مبنىّ على ما هو الشّايع في ألسنة النّاس من تقدير السنّة بثلاثمأة و ستّين يوما و إن لم يكن مطابقا لشي‏ء من حركتي الشّمس و القمر فتأمل ، هذا و ما ذكرناه في سير الشمس انّما هو بحسب حركتها الذاتية ، و أما حركتها بسبب حركة الفلك الأعظم فتتمّ في اليوم بليلته ، و أمّا القمر فيسير كلّ برج في أزيد من يومين و نقص من ثلاثة أيّام و تمام دورتها في ثمانية و عشرين ليلة ، و له في كلّ ليلة منزل . فمنازله ثمانية و عشرون مسمّاة بتلك الأسماء : الشرطين ، البطين ، الثريا ، الدبران ، الهقعة ، الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرفة ، الجبهة ، الدبرة ، الصرفة ، العواء ، السماك ، الغفر ، الزبانا ، الاكليل ، القلب ، الشولة ، النعايم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بلع ، سعد السعود ، سعد الاخبية ، فرغ الدلو المقدم ، فرغ الدلو المؤخر ، الرشا ، و هو بطن الحوت و إلى تلك المنازل اشير في قوله سبحانه : [ 358 ] وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتّى‏ عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَديمِ أى قدّرنا مسيره منازل أو سيره في منازل ينزل كلّ ليلة في واحدة منها ، فاذا كان في آخر منازله دقّ و استقوس حتّى عاد كالعرجون أى كالشمراخ المعوج القديم العتيق . قال نصير الملّة و الدّين ( ره ) في محكيّ كلامه من التذكرة : و أمّا منازل القمر فهي من الكواكب القريبة من منطقة البروج جعلها العرب علامات الاقسام الثمانية و العشرين التي قسّمت المنطقة بها لتكون مطابقة لعدد أيام دور القمر . و قال الخفرى في شرحه : و المراد من المنزل المسافة التي يقطعها القمر في يوم بليلته ، و منازل القمر عند الهند سبعة و عشرون يوما بليلة و ثلث ، فحذفوا الثلث لكونه أقل من النّصف كما هو عادة أهل التنجيم . و أما عند العرب فهي ثمانية و عشرون ، لا لأنّهم تمّموا الثلث واحدا كما قال البعض ، بل لأنّه لمّا كان سنوهم لكونها باعتبار الأهلّة مختلفة الأوايل بوقوعها في وسط الصّيف تارة و في وسط الشّتاء أخرى ، احتاجوا إلى ضبط سنة الشّمس لمعرفة فصول السنة حتّى يشتغلوا في استقبال كلّ فصل منها بما يهمّهم ، فنظروا إلى القمر فوجدوه يعود إلى وضع له من الشّمس في قريب من ثلاثين يوما و يختفى في هذا الشّهر ليلتين أو أكثر أو أقلّ فأسقطوا يومين من الثلاثين فبقى ثمانية و عشرون و هو الزّمان الواقع في الأغلب بين رؤيته في العشيّات في أوّل الشّهر و رؤيته بالغدوات في آخره ، فقسّموا دور الفلك عليه ، فكان كلّ منزل اثنتي عشرة درجة و احدى و خمسين دقيقة تقريبا أى ستّة أسباع درجة فتصيب كلّ برج منزلان و ثلث . ثمّ وجدوا الشّمس تقطع كلّ منزل في ثلاثة عشر يوما في التقريب فسار المنازل في ثلاثمأة و أربعة و ستّين يوما ، لكن عود الشمس إلى كلّ منزل إنّما يكون في ثلاثمأة و خمسة و ستّين يوما ، فزادوا يوما في أيّام منازل غفر و قد يحتاج [ 359 ] إلى زيادة للكبيسة حتّى تصير أيّامه خمسة عشر و يكون انقضاء أيّام السنة الشّمسية مع انقضاء أيّام المنازل و رجوع الأمر إلى منزل جعل مبدء . ثمّ إنّهم جعلوا علامات المنازل من الكواكب الظاهرة القريبة من المنطقة مما يقارب ممرّ القمر أو يحاذيه ، فيرى كلّ ليلة نازلا بقرب أحدها فان سترها يقال كفحه فكافحه أى واجهه فغلبه و لا يتفأل به و إن لم يستره يقال : عدل القمر و يتفأل به . و قوله ( ليميز بين اللّيل و النّهار بهما و ليعلم عدد السنين و الحساب بمقاديرهما ) الظاهر كون التميز و العلم غايتين لمجموع الأفعال السابقة على حدّ قوله سبحانه في سورة الاسرى : وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنينَ وَ الْحِسابَ و قوله في سورة يونس : هُوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمْس ضِيآءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنينَ وَ الْحِسابَ و يحتمل كون التميز غاية للأوّل و العلم غاية للأخير أو الأخيرين فيكون نشرا على ترتيب اللّف ، و معناه على ذلك أنّه تعالى جعل الشمس آية مبصرة و القمر آية ممحوّة ليحصل التميز بين الليل و النّهار بهما ، و أجرى الشمس و القمر في منازلهما و قدّر سيرهما في مناقلهما ليحصل العلم بعدد السّنين و الحساب بمقادير سيرهما و تفاوت أحوالهما ، هذا . و المراد بالحساب حساب ما يحتاج إليه النّاس في امور دينهم و دنياهم ليتمكّنوا بذلك من إتيان الحجّ و الصّوم و الصّلوات في أوقاتها ، و يعرفوا عدّة المطلقة و المتوفّى عنها زوجها ، و مدّة حلول آجال الدّيون و انقضائها ، و يرتّبوا معاشهم بالزراعة و الحراثة و الفلاحة في ساعاتها و يهيّئوا مهمّات الشّتاء و الصّيف و ضروريّات العيش [ 360 ] في آنائها إلى غير هذه ممّا يحتاجون إليها في الدّنيا و الدّين إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ ( ثمّ علّق في جوّها فلكها ) هذه العبارة من مشكلات كلامه عليه السّلام . وجهة الاشكال فيها من ثلاثة وجوه : أحدها أنّه عليه السّلام قال في صدر هذا الفصل : و نظم بلا تعليق رهوات فرجها ، فنفى التعليق في نظم الأجزاء ثمّة ينافي إثباته هنا و ثانيها أنّ الجوّ عبارة عن ما بين السّماء و الأرض من الهواء فما معنى تعليق الفلك فيه ، ثمّ ما معنى الاضافة ، و ثالثها أنّ المشهور أنّ الفلك هو السّماء و الاضافة في كلامه عليه السّلام يفيد التغاير و يرفع الاشكال عن الأوّل بحمل التّعليق المنفيّ فيما سبق على التعليق بالعلايق المحسوسة و التعليق المثبت هنا على التّعليق بالقدرة ، و عن الثّاني بحمل الجوّ على الفضاء الواسع الموهوم أو الموجود الذي هو مكان الفلك و وجه اضافته إليها واضح ، و عن الثّالث بجعل المراد بالفلك مدار النّجوم كما فسّره به في القاموس . و قال الشّارح المعتزلي : أراد به دايرة معدّل النهار ، و قيل : المراد به سماء الدّنيا ، و هو مبنيّ على كون النّجوم فيها على وفق قوله سبحانه إِنّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزينَةٍ الْكَواكِبِ و على المشهور من عدم كون جميعها في السّماء الدّنيا فلعلّ الأظهر أن يراد بالفلك ما ارتكز فيه من السّماوات كوكب يتحرّك بحركته ، قاله في البحار ثمّ قال : و يمكن على طريقة الاستخدام أو بدونه أن يراد بضمير السّماء الذي أحاط بجميع ما ارتكزت فيه الكواكب المدبّر لها فكون فلكها في جوّها ظاهر أو يراد بالسّماء الأفلاك الكلّية و بالفلك الأفلاك الجزئية الواقعة في جوفها ( و ناط بها زينتها من خفيّات دراريها و مصابيح كواكبها ) أى علّق بالسّماء ما يزيّنها من الكواكب الخفيّة الّتي هي كالدّر في الصّفاء و الضياء ، و الكواكب التي هي بمنزلة المصباح يضي‏ء و كونها زينة لها إمّا بضوئها أو باشتمالها على الأشكال [ 361 ] المختلفة العجيبة ( و رمى مسترق السّمع بثواقب شهبها ) و فيه تلميح إلى قوله سبحانه إِلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبينٌ أى إلاّ من حاول أخذ مسموع من السّماء في خفية فلحقه شعلة نار ظاهر لأهل الأرض بيّن لمن رآه ، و إلى قوله سبحانه : إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ قال الطبرسيُّ : و التقدير لا يتسمّعون إلى الملائكة إلاّ من وثب الوثبة إلى قريب من السّماء فاختلس خلسة من الملائكة و استلب استلابا بسرعة فلحقه و أصابه نار مضيئة محرقة ، و الثاقب النيّر المضي‏ء . فان قلت : تقدّم ذكر الشهب في قوله : و أقام رصدا من الشّهب الثواقب على نقابها فما وجه إعادتها ؟ قلنا : إنّه عليه السّلام ذكر سابقا أنه أقامها رصدا ، و نبّه ههنا على أنّ إرصادها لرمى مسترق السّمع ، روى عن ابن عباس أنه كان في الجاهليّة كهنة و مع كلّ واحد شيطان فكان يقعد من السّماء مقاعد للسّمع فيستمع من الملائكة ما هو كائن في الأرض فينزل و يخبر به الكاهن فيفشيه الكاهن إلى النّاس ، فلما بعث اللَّه عيسى عليه السّلام منعوا من ثلاث سماوات ، و لمّا بعث محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم منعوا من السّماوات كلّها و حرست السّمآء بالنّجوم و الشّهاب من معجزات نبيّنا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لأنّه لم ير قبل زمانه ، و قيل : إنّ الشهاب يقتل الشياطين ، و قيل لا يقتلهم . قال الفخر الرّازي بعد ما عدّد جملة من منافع النجوم : و منها أنه تعالى جعلها رجوما للشياطين الذين يخرجون الناس من نور الايمان إلى ظلمة الكفر ، يروي أنّ السّبب في ذلك أنّ الجنّ كانت تسمع بخبر السّماء ، فلما بعث محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم حرست السماء و رصدت الشياطين فمن جاء منهم مسترقا للسّمع رمي بشهاب [ 362 ] فأحرقه لئلاّ ينزل به إلى الأرض فيلقيه إلى الناس فيخلط على النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أمره و يرتاب الناس بخبره ، و هذا هو السّبب في انقضاض الشّهب ، فهذا هو المراد من قوله تعالى و جعلناها رجوما للشّياطين . و من الناس من طعن في هذا من وجوه : أحدها أنّ انقضاض الكواكب مذكورة في كتب قدماء الفلاسفة قالوا : إنّ الأرض إذا سخّنت بالشّمس ارتفع منها بخار يابس فاذا بلغ النار التي دون الفلك احترق بها فتلك الشعلة هي الشّهاب . و ثانيها أنّ هؤلاء الجنّ كيف يجوز أن يشاهدوا واحدا و ألفا من جنسهم يسترقون السّمع فيحرقون ثمّ إنهم مع ذلك يعودون لمثل صفتهم فانّ العاقل إذا رأى الهلاك في شي‏ء مرّة و مرارا امتنع أن يعود إليه من غير فائدة . و ثالثها أنه يقال : في ثخن السّماء مسيرة خمسمأة عام فهؤلاء الجنّ إن نفذوا في جرم السّماء و خرقوا له فهذا باطل لأنّه تعالى نفى أن يكون فيها فطور على ما قال : فارجع البصر هل ترى من فطور ، و إن كانوا لا ينفذون في جرم السّماء فكيف يمكنهم أن يسمعوا أسرار الملائكة من ذلك البعد العظيم فلم لا يسمعون كلام الملائكة حالكونهم في الأرض . و رابعها أنّ الملائكة إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة إما لأنّهم طالعوها من اللّوح المحفوظ ، أو لأنّهم يتلقّونها من وحى اللَّه تعالى إليهم ، و على التّقديرين فلم لا يمسكوا عن ذكرها حتّى لا يتمكنّ الجنّ عن الوقوف عليها . و خامسها أنّ الشّياطين مخلوقون من النّار و النار لا تحرق النّار بل تقويها فكيف يحتمل أن يقال : الشّيطان زجر من استراق السّمع بهذه الشهب . و سادسها أنه إن كان هذا القذف لأجل النّبوّة فلم دام بعد وفات الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم . و سابعها أنّ هذه الرّجوم إنما تحدث بالقرب من الأرض بدليل أنّا نشاهد حركاتها بالغة و لو كانت قريبة من الفلك لما شاهدنا حركاتها كما لم نشاهد حركات [ 363 ] الكواكب ، و إذا ثبت أنّ هذه الشهب إنما تحدث بالقرب من الأرض كيف يقال إنّها تمنع الشّياطين من الوصول إلى الفلك . و ثامنها أنّ هؤلاء الشّياطين لو كان يمكنهم أن ينقلوا أخبار الملائكة من المغيبات إلى الكهنة فلم لا ينقلون أسرار المؤمنين إلى الكفّار حتّى يتوسّل الكفار بواسطة وقوفهم على أسرارهم إلى إلحاق الضّرر بهم . و تاسعها لم لم يمنعهم اللَّه ابتداء من الصعود إلى السّماء حتّى لا يحتاج في دفعهم عن السماء إلى هذه الشهب و الجواب عن السؤال الأوّل أنا لا ننكر أنّ هذه الشهب كانت موجودة قبل مبعث النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و قد يوجد بسبب آخر و هو دفع الجنّ و زجرهم ، يروى أنّه قيل للزّهرى أكان يرمي في الجاهلية ؟ قال : نعم قال : أفرأيت قوله تعالى : أَنّا كنّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الانَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً قال : غلظت و شدّد أمرها حين بعث النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم . و الجواب عن السّؤال الثاني أنه إذا جاء القدر عمى البصر ، فاذا قضى اللَّه على طائفة منهم الحرق لطغيانها و ضلالها قيّض له من الدواعي المطمعة في درك المقصود ما عندها يقدم على العمل المفضى إلى الهلاك و البوار . و الجواب عن السؤال الثالث أنّ البعد بين السّماء و الأرض مسيرة خمسمأة عام فأما ثخن الفلك فلعلّه لا يكون عظيما . و الجواب عن السؤال الرابع ما روى الزهرى عن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبيطالب عليه السّلام عن ابن عباس ( ره ) قال بينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم جالس فى نفر من أصحابه إذ رمى بنجم فاستنار فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم : ما كنتم تقولون في الجاهليّة إذا حدث مثل هذا ؟ قالوا : كنا نقول : يولد عظيم أو يموت عظيم ، قال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم : فانها لا ترمى لموت أحد و لا لحياته و لكن ربّنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبّحت [ 364 ] حملة العرش ثمّ سبّح أهل السّماء و سبّح كلّ سماء حتّى ينتهى التّسبيح إلى هذا السّماء و يستخبر أهل السّماء حملة العرش ما ذا قال ربّكم ؟ فيخبرونهم و لا يزال ينتهى ذلك الخبر من سماء إلى سماء حتّى ينتهى الخبر إلى هذه السماء و يتخطّف الجنّ فيرمون . فما جاؤوا به فهو حقّ و لكنّهم يزيدون فيه و الجواب عن السؤال الخامس أنّ النّار قد تكون أقوى من نار اخرى فالأقوى يبطل الأضعف . و الجواب عن السّؤال السادس أنه إنما دام لأنّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أخبر ببطلان الكهنة فلو لم يدم هذا القذف لعادت الكهانة و ذلك يقدح في خبر الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم عن بطلان الكهانة . و الجواب عن السؤال السّابع أنّ البعد على مذهبنا غير مانع من السّماع فلعلّه تعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقعوا في تلك المواضع سمعوا كلام الملائكة . و الجواب عن السؤال الثامن لعلّه تعالى أقدرهم على استماع الغيوب عن الملائكة و أعجزهم عن ايصال أسرار المؤمنين إلى الكافرين . و الجواب عن السّؤال التاسع أنه تعالى يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد ، فهذا ما يتعلّق بهذا الباب على سبيل الاختصار انتهى . و قال المحدّث المجلسيّ ( ره ) بعد نقل كلام الرازى و أجوبته : أقول الأصوب في الجواب عن الثالث أن يقال : قد ظهر أنّ للسماء أبوابا يصعد منها الملائكة و صعد منها نبيّنا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و عيسى و إدريس عليه السّلام بل أجساد ساير الأنبياء و الأوصياء بعد وفاتهم على قول ، و قد ورد في الأخبار أنّ الجنّ كانوا يصعدون قبل عيسى عليه السّلام إلى ما تحت العرش و بعد بعثته كانوا يصعدون إلى الرابعة و بعد بعثة النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم منعوا عن صعود السماء مطلقا بالشّهب ، فصعودهم إمّا من أبوابها أو لكونهم اجساما لطيفة يمكنهم النفوذ في جرمها و لعلّ 1 المراد بالفطور فيها أن ترى فيها شقوق و ثقب أو تنهدم و تنحلّ أجزائها فلا إشكال في ذلك . ----------- ( 1 ) يعنى انّ ما ذكرناه لا ينافي الفطور المنفى عنها فى قوله تعالى : فارجع البصر هل ترى من فطور . [ 365 ] ( و أجراها على اذلال تسخيرها ) أى على مجارى تسخيرها أو وجوه مقهوريّتها و فيه تلميح إلى قوله تعالى : وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِه‏ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمينَ قال الطبرسيُّ ( ره ) : أى مذلّلات جاريات في مجاريهنّ بتدبيره و صنعه خلقهنّ لمنافع العباد . و قال الفخر الرازيّ ، كون الشّمس و القمر و النّجوم مسخرّات بأمره يحتمل وجوها : أحدها أنا قد دللنا أنّ الأجسام متماثلة ، و متى كان كذلك كان اختصاص جسم الشمس بذلك النور المخصوص و الضوء الباهر و التسخين الشّديد و التّدبيرات العجيبة فى العالم العلوى و السّفلى لا بدّ و أن يكون لأجل أنّ الفاعل الحكيم و المقدّر العليم خصّ ذلك الجسم بهذه الصّفات ، فجسم كلّ واحد من الكواكب و النّيرات كالمسخّر في قبول تلك القوى و الخواصّ عن قدرة المدبّر العليم . و ثانيها أن يقال : إنّ لكلّ واحد من أجرام الشمس و القمر و الكواكب سيرا خاصّا بطيئا من المغرب إلى المشرق و سيرا آخر سريعا بسبب حركة الفلك الأعظم ، فالحقّ سبحانه خصّ جرم الفلك الأعظم بقوّة زايدة على أجرام ساير الأفلاك و باعتبارها صارت مستولية عليها قادرة على تحريكها على سبيل القهر من المشرق إلى المغرب ، فأجرام الأفلاك و الكواكب صارت كالمسخّرة لهذا القهر و القسر ثمّ ذكر باقي الوجوه و لا طائل تحتها . و قوله عليه السّلام : ( من ثبات ثابتها و مسير سائرها ) بيان لوجه تسخيرها و ثبات الثوابت بالنسبة إلى سير السيارات . و المراد بالسيارات الكواكب السبعة و هي : القمر ، و عطارد ، و زهرة ، و الشمس و المرّيخ ، و المشترى ، و الزّحل ، و يسمّى الشمس و القمر بالنّيرين ، و الخمسة [ 366 ] الباقية بالمتحيّرة لأنّ لكلّ واحد منها استقامة ثمّ وقوفا ثمّ رجوعا ثمّ وقوفا ثانيا ثمّ عودا إلى الاستقامة و ليس للنّيرين غير الاستقامة ، و المراد بالثّوابت إمّا ساير الكواكب على السماء غير هذه السّبعة أو خصوص ما في كرة البروج . و في توحيد المفضّل قال : قال الصّادق عليه السّلام : فكّر يا مفضّل في النّجوم و اختلاف مسيرها فبعضها لا تفارق مراكزها من الفلك و لا تسير إلاّ مجتمعة ، و بعضها تنتقل في البروج و تفترق في مسيرها ، فكلّ واحد منها يسير سيرين مختلفين ، أحدهما عامّ مع الفلك نحو المغرب ، و الآخر خاصّ لنفسه نحو المشرق كالنملة التي تدور على الرّحا ، فالرّحا تدور ذات اليمين و النّملة تدور ذات الشمال و النّملة تتحرّك في تلك حركتين مختلفتين ، إحداهما بنفسه فتتوجّه أمامها ، و الاخرى مستكرهة مع الرّحا تجذبها إلى خلفها ، فاسأل الزّاعمين أنّ النّجوم صارت على ما هي عليه بالاهمال من غير عمد و لا صانع لها ما منعها كلّها أن تكون راتبة أو تكون كلّها متنقّلة ؟ فانّ الاهمال معنى واحد فكيف صار يأتي بحركتين مختلفتين على وزن و تقدير ؟ ففي هذا بيان أنّ مسير الفريقين على ما يسيران عليه بعمد و تدبير و حكمة و تقدير و ليس باهمال كما تزعمه المعطلة . فان قال قائل : و لم صار بعض النّجوم راتبا و بعضها متنقّلا ؟ قلنا : إنّها لو كانت كلّها راتبة لبطلت الدلالات التي يستدلّ بها من تنقّل المتنقّلة و مسيرها في كلّ برج من البروج كما قد يستدلّ على أشياء ممّا يحدث في العالم بتنقّل الشّمس و النّجوم في منازلها ، و لو كانت كلّها متنقّلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف و لا رسم يوقف عليه ، لأنّه انما يوقف بمسير المتنقّلة منها لتنقلها في البروج الرّاتبة كما يستدلّ على سير السّاير على الأرض بالمنازل يجتاز عليها ، و لو كان تنقّلها بحال واحدة لاختلط نظامها و بطلت المآرب فيها و لساغ لقائل أن يقول : إنّ كينونيّتها على حال واحدة توجب عليها الاهمال من الجهة التي وصفنا . ففي اختلاف سيرها و تصرّفها و ما في ذلك من المآرب و المصلحة أبين دليل على العمد و التدبير فيها . [ 367 ] ( و هبوطها و صعودها و نحوسها و سعودها ) المراد بالهبوط إما مقابل الشرف كما هو مصطلح المنجّمين ، أو التوجّه إلى حضيض الحامل فانّ للكواكب صعودا في الأوج و هبوطا في الحضيض أو التوجّه إلى الغروب فيكون الهبوط حسّا و يقابله الصعود فيما ذكر . و المراد بالسعود و النحوس كون اتصالات الكواكب أسبابا لصلاح حال شي‏ء من الأشياء من أحوال هذا العالم و أسبابا لفساده . قال المنجّمون : زحل و المريخ نحسان أكبرهما زحل ، و المشتري و الزّهرة سعدان أكبرهما المشتري ، و عطارد سعد مع السعود و نحس مع النحوس ، و النيّران سعدان من التثليث و التسديس نحسان من المقابلة و التربيع و المقارنة ، و الرّأس سعد و الذنب و الكبد نحسان ، و اللَّه العالم بحقايق ملكه و ملكوته . الترجمة بعض ديگر از اين خطبه در صفت آسمان است ميفرمايد : ترتيب داد حق سبحانه و تعالى بدون قيد و علاقه پست و بلندي فرجه‏هاي آنرا و ملتئم نمود و بهم درآورد شكافهاى گشادگى آنرا و بهم پيوست ميان آنها و ميان زوجهاى آنها ، و ذليل و آسان نمود بجهة ملائكه كه نزول كننده‏اند بأمر او سبحانه و صعود نماينده‏اند با عملهاى بندگان او دشوارى نردبانهاى آسمانها را ، و ندا نمود آنها را بعد از اينكه بود دود پس بهم آمد بندهاى ريسمانهاى آنها و گشود بعد از بهم پيوستن درهاى بسته آنها را ، و بر پا نمود ديده‏بانها از شهابهاى درخشان بر راهها و منفذهاى آنها ، و نگه داشت آنها را از اين كه حركت نمايند و مضطرب گردند در شكاف هوا با قوت خود ، و أمر كرد آنها را باينكه بايستند در حالتي كه انقياد و تسليم نمايند فرمان او را . و گردانيد آفتاب آسمان را ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ آشكار براى روز آن ، و ماه آنرا علامتي محو شده از شب آن ، و جارى فرمود مهر و ماه را در مواضع انتقال كه جاى جريان ايشانست ، و مقدّر كرد سير ايشانرا در راههاى درجه‏هاى ايشان تا تميز دهد شب [ 368 ] و روز را بآن مهر و ماه و تا دانسته شود شماره سالها و حسابها بمقدار حركات اين دو كوكب ، پس از آن در آويخت در فضاى آسمان فلكرا كه محل دوران كوكب است ، و منوط ساخت بآن زينت آنرا از ستارگان پنهان كه مثل درّند در صفا و از چراغهاى ستارها و انداخت بسوى شياطين كه بدزدى و سرقت گوش دهندگانند تا اينكه أسرار ملائكه را مطّلع شوند بشهابهاى درخشنده سوراخ كننده و جارى ساخت ستارگانرا بر مجارى تسخير و مقهوريت آنها از ثبات كواكب ثابته و سير كردن ستارگان رونده ، و از هبوط كردن ايشان بحضيض حامل ، و صعود نمودن ايشان بأوج حامل و از سعادت آنها و نحوست آنها . الفصل الخامس منها في صفة الملائكة ثمّ خلق سبحانه لإسكان سمواته ، و عمارة الصّفيح الأعلى من ملكوته ، خلقا بديعا من ملائكته ، ملأ بهم فروج فجاجها ، و حشابهم فتوق أجوائها ، و بين فجوجات تلك الفروج زجل المسبّحين منهم في حظاير القدس ، و سترات الحجب ، و سرادقات المجد ، و ورآء ذلك الرّجيج الّذي تستك منه الأسماع سبحات نور تردع الأبصار عن بلوغها ، فتقف خاسئة على حدودها ، أنشأهم على صور مختلفات ، و أقدار متفاوتات ، أولي أجنحة تسبّح جلال عزّته ، لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه ، و لا يدّعون أنّهم يخلقون شيئا معه ممّا [ 369 ] انفرد به ، بل عباد مكرمون ، لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون . جعلهم فيما هنا لك أهل الأمانة على وحيه ، و حمّلهم إلى المرسلين و دائع أمره و نهيه ، و عصمهم من ريب الشّبهات ، فما منهم زآئغ من سبيل مرضاته ، و أمدّهم بفوائد المعونة ، و أشعر قلوبهم تواضع إخبات السّكينة ، و فتح لهم أبوابا ذللا إلى تماجيده ، و نصب لهم منارا واضحة على أعلام توحيده ، لم تثقلهم موصرات الاثام ، و لم ترتحلهم عقب اللّيالي و الأيّام ، و لم ترم الشّكوك بنوازعها عزيمة إيمانهم ، و لم تعترك الظّنون على معاقد يقينهم ، و لا قدحت قادحة الأحن فيما بينهم ، و لا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم ، و ما سكن من عظمته و هيبة جلالته في أثناء صدورهم ، و لم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على فكرهم منهم من هو في خلق الغمام الدّلّح ، و في عظم الجبال الشّمّخ ، و في قترة الظّلام الأيهم ، و منهم من قد خرقت أقدامهم تخوم الأرض السّفلى ، فهي كرايات بيض قد نفذت في مخارق الهواء ، و تحتها ريح هفّافة تحبسها على حيث انتهت من الحدود المتناهية ، قد استفرغتهم أشغال عبادته ، و وصلت حقايق الإيمان بينهم و بين معرفته ، و قطعهم الإيقان به إلى الوله إليه ، و لم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره . [ 370 ] قد ذاقوا حلاوة معرفته ، و شربوا بالكأس الرّويّة من محبّته ، و تمكّنت من سويداء قلوبهم و شيجة خيفته ، فحنوا بطول الطّاعة اعتدال ظهورهم ، و لم ينفد طول الرّغبة إليه مادّة تضرّعهم ، و لا أطلق عنهم عظيم الزّلفة ربق خشوعهم ، و لم يتولّهم الإعجاب فيستكثروا ما سلف منهم و لا تركت لهم استكانة الإجلال نصيبا في تعظيم حسناتهم ، و لم تجر الفترات فيهم على طول دؤوبهم ، و لم تغض رغباتهم فيخالفوا عن رجاء ربّهم ، و لم تجفّ لطول المناجاة أسلات ألسنتهم ، و لا ملكتهم الأشغال فتنقطع بهمس الجؤار إليه أصواتهم ، و لم تختلف في مقاوم الطّاعة مناكبهم ، و لم يثنوا إلى راحة التّقصير في أمره رقابهم ، و لا تعدوا على عزيمة جدّهم بلادة الغفلات ، و لا تنتصل في هممهم خدائع الشّهوات . قد اتّخذوا ذا العرش ذخيرة ليوم فاقتهم ، و يمّموه عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين برغبتهم ، لا يقطعون أمد غاية عبادته ، و لا يرجع بهم الاستهتار بلزوم طاعته ، إلاّ إلى موادّ من قلوبهم غير منقطعة من رجائه و مخافته ، لم تنقطع أسباب الشّفقة منهم فينوا في جدّهم ، و لم تأسرهم الأطماع فيؤثروا و شيك السّعي على اجتهادهم ، و لم يستعظموا [ 371 ] ما مضى من أعمالهم ، و لو استعظموا ذلك لنسخ الرّجآء منهم شفقات وجلهم و لم يختلفوا في ربّهم باستحواذ الشّيطان عليهم ، و لم يفرّقهم سوء التّقاطع ، و لا تولاّهم غلّ التّحاسد ، و لا شعّبتهم مصارف الرّيب ، و لا اقتسمتهم أخياف الهمم ، فهم أسراء إيمان لم يفكّهم من ربقته زيغ و لا عدول ، و لا ونا و لا فتور ، و ليس في أطباق السّموات موضع إهاب إلاّ و عليه ملك ساجد ، أو ساع حافد ، يزدادون على طول الطّاعة بربّهم علما ، و تزداد عزّة ربّهم في قلوبهم عظما . اللغة ( عمارة ) المنزل جعله أهلا ضدّ الخراب الذى لا أهل له يقال عمره اللَّه منزلك عمارة و أعمره جعله أهلا و ( الصفيح ) السّماء و وجه كلّ شى‏ء عريض قاله فى القاموس ، و وصفه بالأعلى بالنسبة إلى الأرض لأنه الصفيح الأسفل ، فما في شرح المعتزلي من تفسيره بسطح الفلك الأعظم ليس بشي‏ء بل مخالف لكلام الامام عليه السّلام مضافا إلى مخالفته لتفسير أهل اللغة إذ كلامه هنا و في الخطبة الاولى صريح في عدم اختصاص مسكن الملائكة بالفلك الأعظم ، حيث قال ثمّة : ثمّ فتق ما بين السّماوات العلى فملأهنّ أطوارا من ملائكته ، و ذكر هنا أنه تعالى ملأ بهم فروج فجاجها و حشابهم فتوق أجوائها . و ( الملكوت ) كرهبوت العزّ و السلطان ، قال بعض اللّغويين : إنّ أهل التحقيق يستعملون الملك في العالم الظاهر و الملكوت في العالم الباطن ، و قال : إنّ الواو و التاء فيه كما في رهبوت و رغبوت و جبروت و تربوت زيدتا للمبالغة فيكون معنى الملكوت الملك العظيم و ( الفجاج ) بكسر الفاء جمع فجّ بفتحها قال سبحانه : [ 372 ] مِنْ كُلِّ فَجِّ عَميقٍ و هو الطريق الواسع بين الجبلين و ( حشوت ) الوسادة بالقطن جعلتها مملوّة منه و ( الفجوات ) جمع فجوة و هي الفرجة و الموضع المتّسع بين الشيئين و ( الزجل ) محرّكة رفع الصّوت مصدر زجل كفرح و ( الحظيرة ) بالحاء المهملة و الظاء المعجمة الموضع الذى يحاط عليه لتأوى إليه الابل و الغنم و غيرهما ليقيها من الحرّ و البرد و ( القدس ) بسكون الدّال و ضمّها الطهر و ( السترات ) بضمّتين جمع سترة بالضمّ و هو ما يستتر به كالسّتارة و ( السرادق ) الذى يمدّ فوق صحن البيت و البيت من الكرسف و ( المجد ) الشرف و العظمة و ( الرجيج ) الزلزلة و الاضطراب و منه رجيج البحر و ( استكّت ) المسامع ضاقت و صمت قال الشّاعر : و نبّئت خير النّاس أنّك لمتنى و تلك التى تستكّ منه المسامع و ( السّبحات ) بضمّتين النور و البهاء و الجلال و العظمة و قيل : سبحات الوجه محاسنه لأنّك إذا رأيت الوجه الحسن قلت سبحان اللَّه تعجّبا و ( ردعه ) كمنعه كفّه وردّه و ( خسأ ) البصر كلّ من باب منع و الخاسى‏ء من الكلاب و نحوها المبعد الذى لا يترك أن يدنو من النّاس و ( تسبّح ) من التّسبيح و في بعض النسخ تسبح من السّباحة و في هذه النسخة ( خلال ) بالخاء المعجمة المكسورة و هو وسط الشّي‏ء أو جمع خلل بالتحريك و هو الفرجة بين الشيئين ، و في بعضها جلال بحار عزّته و ( انتحل ) الشّي‏ء إذا ادّعاه لنفسه و هو لغيره و ( حمّلهم ) بتشديد الميم و ( الزّيغ ) العدول عن الحق قال سبحانه : ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى و ( استعنت به ) فأعاننى و قد يتعدّى بنفسه فيقال استعنته فأعاننى و الاسم منه العون و المعانة و المعونة بفتح الميم و ضمّ الواو على وزن مكرمة و بضمّ العين أيضا و اتباع الواو على وزن مقولة . قال الفيومى : وزن المعونة مفعلة بضمّ العين و بعضهم يجعل الميم أصلية و يقول [ 373 ] هي مأخوذة من الماعون و يقول هي فعولة و ( اشعر ) قلوبهم من شعرت بالشّي‏ء شعورا من باب قعد علمت و قيل مأخوذ من الشعار و هو ما يلبس تحت الدّثار أى الزم قلوبهم تشبيها بلزوم الشعار للبدن و ( أخبت ) الرجل خضع للّه و خشع قلبه و ( السكينة ) الوقار و الطمأنينة و المهابة و ( الذّلل ) بضمّتين جمع الذّلول و هو ضدّ الصّعب و ( مجدّه ) تمجيدا عظّمه و أثنا عليه و الجمع للدّلالة على الأنواع و ( الأعلام ) جمع علم بالتحريك و هو الجبل الطويل قال الشّاعر : ربما اوفيت في علم ترفعن ثوبي شمالات و ( الاصر ) الثقل و ( العقب ) جمع العقبة كغرف و غرفة و هي النوبة و اللّيل و النّهار يتعاقبان أى يتناوبان و يجي‏ء كلّ منهما بعد الآخر و ( نوازعها ) في بعض النسخ بالعين المهملة من نزع في القوس إذا مدّها و في بعضها بالغين المعجمة من نزغ الشيطان بين القوم أى أفسد و ( الاعتراك ) الازدحام و ( قدح ) بالزند من باب منع أى رام الايراء به و هو استخراج النّار و ( أحن ) الرّجل من باب تعب حقد و أضمر العداوة ، و الاحنة اسم منه و الجمع احن كسدرة و سدر و ( لاق ) الشّي‏ء بغيره أى لزق و منه الليقة للصوق المداد بها و ( الاقتراع ) الضرب بالقرعة و الاختيار . و في شرح المعتزلي هو من الاقتراع بالسهام بأن يتناوب كلّ من الوساوس عليها ، و الأنسب أن يجعل المزيد بمعنى المجرّد يقال قرعته بالمقرعة ضربته بها ، و في بعض النسخ فتفترع بالفاء من فرعه أى علاه و الأول أنسب بالطبع و ( الرّين ) بالنون كما في بعض النسخ و هو الدنس و الطبع و الغطاء و ران ذنبه على قلبه رينا غلب ، و في بعضها بالباء الموحّدة بمعنى الشّك . و ( الغمام ) جمع الغمامة و ( الدلّح ) بالحاء المهملة جمع دالح كراكع و ركّع يقاب سحاب دالح أى ثقيل بكثرة مائه و ( الشمّخ ) بالخاء المعجمة جمع الشامخ و هو المرتفع العالى و ( القترة ) بالضمّ بيت الصايد الذي يستتر به عند تصيده من خصّ و نحوه ، و الجمع قتر مثل غرفة و غرف و ( الايهم ) الذى لا يهتدى فيه و منه فلاة يهماء و ( تخوم ) الأرض بالضمّ حدودها و معالمها ، قال الفيومى : التخم حدّ الأرض [ 374 ] و الجمع تخوم مثل فلس و فلوس ، و قال ابن الاعرابى و ابن السّكيت الواحد تخوم و الجمع تخم مثل رسول و رسل . و ( ريح هفافة ) طيبة ساكنة و ( وصلت ) في بعض النسخ بالسين المهملة المشدّدة يقال و سلّ إلى اللَّه توسيلا و توسّل أى عمل عملا يقرب به إليه و ( الوله ) محركة شدّة الوجد أو ذهاب العقل و ( شربوا بالكأس ) بتثليث الرّاء و الكأس مؤنثة و ( الرّوية ) المرويّة التي تزيل العطش و ( سويداء ) القلب و سوداؤه حبّته و ( الوشيجة ) في الأصل عرق الشجرة يقال : و شجت العروق و الأغصان أى اشتبكت و ( حنيت ) العود ثنّيته و حنّيت ضلعي عوّجته و يقال للرّجل إذا انحنى من الكبر : حناه الدّهر . و ( اعجب ) زيد بنفسه على البناء للمفعول إذا ترفّع و سرّ بفضائله و أعجبنى حسن زيد إذا أعجبت منه قال الفيومى : و التعجّب على وجهين أحدهما ما يحمده الفاعل و معناه الاستحسان و الاخبار عن رضاه به ، و الثاني ما يكرهه و معناه الانكار و الذّم له ففي الاستحسان يقال أعجبني بالألف و في الذّم و الانكار عجبت و زان تعبت و ( الفترات ) جمع الفترة مصدر بنيت للمرّة من فتر الشي‏ء فتورا سكن بعد حدّة و لان بعد شدّة . و ( دأب ) في عمله من باب منع دأبا و دابا بالتحريك و دؤبا بالضمّ جدّ و تعب . و ( غاض ) الماء غيضا من باب سار قلّ و نقص و ( اسلة ) اللسان طرفه و مستدقّه و ( الهمس ) محرّكة الصّوت الخفىّ و ( الجؤار ) و زان غراب رفع الصّوت بالدّعاء و التضرّع و ( المقاوم ) جمع مقام و ( ثنا ) الشي‏ء يثنى و يثنو من باب رمى و دعا ردّ بعضه على بعض و ثنيته أيضا أى صرفته إلى حاجته و ( بلد ) الرّجل بالضمّ بلادة فهو بليد أى غير فطن و لا ذكي و ( ناضلته ) مناضلة راميته فنضلته نضلا من باب قتل غلبته في الرّمى و انتضل القوم رموا للسبق و ( الهمة ) ما همّ به من أمر ليفعل و ( يمّمته ) قصدته و ( الأمد ) المنتهى و قد يكون بمعنى امتداد المسافة و ( رجع ) يكون لازما و متعدّ يا تقول رجع زيد و رجعته أنا و ( اهتر ) [ 375 ] فلان بكذا و استهتر بالبناء للمفعول فهو مهتر و مستهتر بالفتح أولع به لا يتحدّث بغيره و لا يفعل غيره ، و الاستهتار الولع بالشى‏ء لا يبالي بما فعل فيه و شتم له . و ( الوني ) الضّعف و الفتور من وني في الأمر من باب تعب و وعدو ( الوشيك ) القريب و السّريع و ( نسخ ) الشي‏ء إزالته و إبطاله و ( استحوذ ) عليه الشيطان استولى و ( التقاطع ) التعادي و ترك البرّ و الاحسان و ( تولّيت ) الأمر قمت به و ( الغلّ ) الحقد و ( الشعبة ) من كلّ شي‏ء الطائفة منه و شعّبهم أى فرّقهم و فى بعض النّسخ تشعبّتهم على التفعّل و الأوّل أظهر و ( الرّيب ) جمع الرّيبة و هو الشّك . و ( أخياف ) الهمم اختلافها و أصله من الخيف بالتحريك مصدر من باب تعب و هو أن يكون إحدى العينين من الفرس زرقاء و الاخرى كحلاء ، فالفرس أخيف و النّاس أخياف أى مختلفون ، و منه قيل لاخوة الامّ : أخياف لاختلافهم من حيث الأب و ( الاهاب ) ككتاب الجلد و ( الحافد ) المسرع و الخفيف في العمل و يجمع على حفد بالتحريك و يطلق على الخدم لاسراعه في الخدمة و ( العظم ) وزان عنب خلاف الصّغر مصدر عظم و فى بعض النّسخ بالضّم و زان قفل و هو اسم من تعظّم أى تكبّر . الاعراب قوله : و بين فجوات آه الجملة حال من مفعول حشا ، و قوله : و وراء ذلك خبر قدّم على مبتدائه و هو سبحات ، و الابصار في بعض النسخ بالنصب على أنّه مفعول تردع و فاعله راجع إلى سبحات ، و في بعضها بالرّفع على بناء تردع للمفعول ، و أنشأهم عطف على ملاء بهم ، و أولى أجنحة حال من مفعول أنشأ ، و جملة تسبح صفة لأولى أجنحة أو لأجنحة ، و جملة لا ينتحلون حال ، و اللاّم في قوله : بالقول عوض عن المضاف إليه أى لا يسبقون اللَّه بقولهم . و قوله إلى المرسلين متعلّق بحملهم على تضمين معنى البعث أو الارسال أو نحوه ، و ودائع أمره بالنصب مفعول حمّلهم ، و جملة لم تثقلهم استيناف بيانى ، و الباء [ 376 ] في قوله عليه السّلام : و شربوا بالكأس إمّا للاستعانة ، أو بمعنى من و ربما يضمن الشّرب معنى الالتذاذ ليتعدّى بالباء و كلمة من في قوله عليه السّلام : من قلوبهم ابتدائية أى إلى موادّ ناشئة من قلوبهم ، و في قوله عليه السّلام ، من رجائه بيانيّة ، فالمراد الخوف و الرجاء الباعثان لهم على لزوم الطاعة ، و يحتمل أن يكون الاولى بيانية أو ابتدائية و الثانية صلة للانقطاع . المعنى اعلم أنّ هذا الفصل من كلامه عليه السّلام متضمّن لبيان صفات الملائكة و كيفية خلقتهم و حالة عبوديّتهم و خشوعهم و ذلّتهم لمعبودهم ، و قد مضى شطر واف من الكلام على هذا العنوان في شرح الفصل التاسع من فصول الخطبة الأولى ، و تقدّم ثمّة ما ينفعك في هذا المقام و لما كان الغرض من هذه الخطبة الاشارة إلى عظمة اللَّه سبحانه و قدرته و الابانة عن الصّفات الجمالية و الجلالية له تعالى ، و كان ملائكة السماوات من أفضل الموجودات و أشرف المجعولات و عجائب الخلايق و بدايع الصّنايع و عظم المخلوق كان دالا على عظم الخالق و بديع صنعة المصنوع كان دليلا على كمال قدرة الصّانع و تدبيره و حكمته ، لا جرم ساق عليه السّلام هذا الفصل لبيان حالهم و ضمنه ذكر أوصافهم المختلفة و شئوناتهم المتفاوتة بعبارات رائقة و بدائع فائقة . قال الشّارح المعتزلي و لنعم ما قال : إذا جاء هذا الكلام الرّباني و اللّفظ القدسي بطلت فصاحة العرب و كانت نسبة الفصيح من كلامها إليه نسبة التراب إلى النضار الخالص ، و لو فرضنا أنّ العرب تقدر على الألفاظ الفصيحة المناسبة أو المقاربة لهذه الألفاظ من أين لهم المادّة التى عبرت هذه الألفاظ عنها و من أين تعرف الجاهلية بل الصحابة المعاصرون لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله هذه المعانى الغامضة السّمائية ليتهيّأ لها التعبير عنها . أما الجاهلية فانّهم إنما كانت تظهر فصاحتهم في صفة بعير أو فرس أو حمار وحش أو ثور فلاة أو صفة جبال أو فلوات و نحو ذلك . و أما الصّحابة المذكورون منهم بفصاحة إنما كان منتهى فصاحة أحدهم كلمات [ 377 ] لا يتجاوز السطرين أو الثلاثة إما في موعظة تتضمّن ذكر الموت أو ذمّ الدّنيا و ما يتعلّق بحرب و قتال من ترغيب أو ترهيب . فأمّا الكلام في الملائكة و صفاتها و عبادتها و تسبيحها و معرفتها بخالقها و حبّها له و ولهها إليه و ما جرى مجرى ذلك ممّا تضمّنه هذا الفصل بطوله فانّه لم يكن معروفا عندهم على هذا التّفصيل ، نعم ربّما علموه جملة غير مقسّمة هذا التقسيم و لا مرتّبة هذا الترتيب بما سمعوه من ذكر الملائكة في القرآن العظيم ، فثبت أنّ هذه الامور الدقيقة مثل هذه العبارة الفصيحة لم تحصل إلاّ لعليّ عليه السّلام وحده ، و اقسم أنّ هذا الكلام إذا تأمّله اللّبيب اقشعرّ جلده و رجف قلبه و استشعر عظمة اللَّه العظيم في روعه و خلده و هام نحوه و غلب الوجد عليه و كاد أن يخرج من مسكه شوقا و أن يفارق هيكله صبابة و وجدا . إذا عرفت ذلك فلنعد إلى شرح كلامه عليه السّلام فأقول : قال عليه السّلام ( ثمّ خلق سبحانه لإمكان سمواته و عمارة الصّفيح الأعلى من ملكوته خلقا بديعا من ملائكته ) ظاهر كلمة ثمّ المفيد للترتيب الحقيقي كون خلق الملائكة بعد خلقة السّماوات ، و يدلّ عليه أخبار كثيرة إلاّ أنّ في بعض الرّوايات سبق خلقة الملائكة على خلقة السّماوات ، و يمكن الجمع بالتخصيص ههنا بسكان السّماوات الذين لا يفارقونها ، و المراد بالصفيح الأعلى سطح كلّ سماء ، و يقابله الصفيح الأسفل الذى هو الأرض ، و يظهر من ذلك عدم تلاصق السّماوات على ما ذهبت إليه الفلاسفة من غير دليل يعتمد عليه . و أمّا ما في شرح البحراني من أنّه يحتمل أن يشير عليه السّلام بالصّفيح الأعلى إلى الفلك التاسع و هو العرش لكونه أعظم الأجرام و أعلاها و سكانه الملائكة المدبّرون له ، فمبنىّ على اصول الفلاسفة مخالف للأخبار و كلام أهل اللغة حسبما عرفت آنفا في ترجمة لفظ الصفيح ، و مخالف أيضا لظاهر قوله عليه السّلام ( فملأ بهم فروج فجاجها و حشابهم فتوق أجوائها ) إذ المستفاد من ذلك أنّ ما بين السّماوات مملوّة بهم فيكون السّطوح المحدّبة منها محلّ إسكان الملائكة و مكان عبادتهم للّه سبحانه [ 378 ] بأنواع العبادة و يستفاد منه أيضا تجسم الملائكة و هو المستفاد من الأخبار المتواترة معنى . و العجب أنّ شارح البحراني أوّل ذلك أيضا بناء على الاصول الفاسدة بأنه عليه السّلام استعار لفظ الفروج و الفجاج و الفتوق لما يتصوّر بين أجزاء الفلك من التباين لولد الملائكة الذين هم أرواح الأفلاك و بها قام وجودها ، و بقاء جواهرها محفوظة بها ، و وجه المشابهة ظاهر ، و رشح تلك الاستعارة بذكر الملاء و الحشو ، و أما فجاجها و فروجها فاشارة إلى ما يعقل بين أجزائها و أجوائها المنتظمة على التباس لو لا الناظم لها بوجود الملائكة ، فيكون حشو تلك الفرج بالملائكة كناية عن نظامها بوجودها و جعلها مدبّرة لها انتهى . و قد مضى فساد ذلك و بطلانه في شرح الفصل التاسع من فصول الخطبة الأولى فتذكّر ( و بين فجوات تلك الفروج ) و متّسعاتها ( زجل المسّبحين منهم ) و أصواتهم الرفيعة العالية بالتضرّع و الابتهال و المسكنة ( في حظاير القدس و سترات الحجب و سرادقات المجد ) لعلّ المراد بها المواضع المعدّة لعبادة الملائكة بين أطباق السّماوات و وصفها بالقدس من حيث اتصافها بالطهارة و النزاهة من الأدناس و الأرجاس و يمكن أن يكون الاشارة بها إلى ما فوق السماء السّابعة من الحجب و السّرادقات النورانية . ففي الخبر أنّ ما فوق السّماء السابعة صحارى من نور ، و لا يعلم فوق ذلك إلاّ اللَّه . و عن وهب بن منبه فوق السّماوات حجب فيها ملائكة لا يعرف بعضهم بعضا لكثرتهم يسبّحون اللَّه تعالى بلغات مختلفة و أصوات كالرّعد العاصف ، هذا . و قد أشار عليه السّلام إلى تفصيل الحجب و السرادقات فيما رواه الصّدوق في التوحيد باسناده عن زيد بن وهب قال : سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن الحجب ، فقال عليه السّلام : أوّل الحجب سبعة غلظ كلّ حجاب منها مسيرة خمسمأة عام و بين كلّ حجابين مسيرة خمسمأة عام ، و الحجاب الثاني سبعون حجابا بين كلّ حجابين مسيرة خمسمأة [ 379 ] عام و طوله خمسمأة عام حجبة كلّ حجاب منها سبعون ألف ملك قوّة كلّ ملك منهم قوّة الثّقلين ، منها ظلمة ، و منها نور ، و منها نار ، و منها دخان ، و منها سحاب ، و منها برق ، و منها مطر ، و منها رعد ، و منها ضوء ، و منها رمل ، و منها جبل ، و منها عجاج ، و منها ماء ، و منها أنهار ، و هي حجب مختلفة غلظ كلّ حجاب مسيرة سبعين ألف عام . ثمّ سرادقات الجلال و هي ستّون « سبعون » سرادقا في كلّ سرادق سبعون ألف ملك بين كلّ سرادق و سرادق مسيرة خمسمأة عام ، ثمّ سرادقات العزّ ، ثمّ سرادق الكبرياء ، ثمّ سرادق العظمة ، ثمّ سرادق القدس ، ثمّ سرادق الجبروت ، ثمّ سرادق الفخر ، ثمّ سرادق النور الأبيض ، ثمّ سرادق الوحدانية ، و هو مسيرة سبعين ألف عام في سبعين ألف عام ، ثمّ الحجاب الأعلى و انقضى كلامه عليه السّلام و سكت ، فقال له عمر : لا بقيت ليوم لا أراك فيه يا أبا الحسن . قال المجلسيُّ ( ره ) بعد رواية ذلك في البحار : قوله عليه السّلام : منها ظلمة ، لعلّ المراد من مطلق الحجب لا من الحجب المتقدّمة كما يدلّ عليه قوله غلظ كلّ حجاب اه ( و وراء ذلك الرجيج الذى تستكّ منه الأسماع ) و الزجل الذى تنسدّ منه الآذان ( سبحات نور تردع الأبصار عن بلوغها ) و تمنع الأعين عن وصولها لشدّة ضيائها و فرط بهائها ( فتقف ) الأبصار ( خاسئة ) حسيرة ( على حدودها ) أى حدود تلك السبحات ، و يستفاد من شرح المعتزلي رجوع الضمير إلى الأبصار ، قال : أى تقف حيث تنتهى قوّتها ، لأنّ قوّتها متناهية فاذا بلغت حدّها وقفت هذا . و المراد بسبحات النور إما الأنوار التي تغشي العرش . و يدلّ عليه ما روى عن ميسرة قال : لا تستطيع الملائكة الذين يحملون العرش أن ينظروا إلى ما فوقهم من شعاع النور . و عن زاذان قال : حملة العرش أرجلهم في التخوم لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور . و في حديث المعراج قال : و رأيت في علّيين بحارا و أنوارا و حجبا و غيرها [ 380 ] لو لا تلك لاحترق كلّ ما تحت العرش من نور العرش ، و إمّا حجب النّور التي دون العرش ، و يؤيّده ما في الحديث أنّ جبرئيل عليه السّلام قال للّه سبحانه : دون العرش سبعون حجابا لو دنونا من أحدها لاحترقتنا سبحات وجه ربّنا ، و في حديث آخر من طرق المخالفين حجابه النّور و النّار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كلّ شي‏ء أدركه بصره . و قال الشّارح البحراني ( ره ) أشار عليه السّلام بسبحات النّور التي وراء ذلك الرّجيج إلى جلال وجه اللَّه و عظمته و تنزيهه أن يصل إليه أبصار البصاير ، و نبّه بكون ذلك وراء رجيجهم على أنّ معارفهم لا تتعلّق به كما هو ، بل وراء علومهم و عباداتهم أطوار اخرى من جلاله تقصر معارفهم عنها و تردع أبصار البصاير عن ادراكها فترجع حسيرة متحيّرة واقفة عند حدودها و غاياتها من الادراك . أقول : و هو لا ينافي ما ذكرناه إذ ما ذكرته تفسير للظّاهر و ما ذكره الشّارح تأويل للباطن ، و قد تقدّم في شرح الخطبة التي قبل هذه الخطبة 1 ما ينفعك ذكره في هذا المقام ( أنشأهم على صور مختلفات و أقدار متفاوتات اولى أجنحة تسبّح جلال عزّته ) قال الشّارح البحراني اختلاف صورهم كناية عن اختلافهم بالحقايق و تفاوت أقدارهم تفاوت مراتبهم في الكمال و القرب منه ، و لفظ الاجنحة مستعار لقواهم التي بها حصلوا على المعارف الالهيّة و تفاوتها بالزيادة و النّقصان كما قال تعالى : أُولي أَجْنِحَةٍ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ كناية عن تفاوت ادراكهم لجلال اللَّه و علومهم بما ينبغى له ، و لذلك جعل الأجنحة هي التي تسبّح جلال عزّته فانّ علمهم بجلاله منزّه عمّا لا ينبغي لكرم وجهه و لا يناسب جلال عزّته . أقول : تسليط يد التّأويل على الظواهر من غير دليل هدم لأساس الشّريعة و حمل اللّفظ على المجازات إنّما هو عند تعذّر إرادة الحقيقة ، و امّا مع إمكانها ----------- ( 1 ) و هي المصدّرة بقوله : الحمد للّه المعروف من غير رؤية ، منه [ 381 ] و دلالة الدّليل عليها فهو خلاف السيرة المستمرة مناف لمقتضى الاصول اللفظية المتداولة بين أهل اللّسان من العرب و من حذاحذوهم من علماء الاصول و الأدب . بل المراد انشاءهم على صور مختلفة و أشكال متشتّتة فبعضهم على صورة الانسان و بعضهم على صورة الحيوان من الأسد و الثور و الدّيك و غيرها من أصناف الحيوان على ما ورد في الأخبار ، و بعضهم أولى أجنحة مثنى و ثلاث و رباع يزيد سبحانه عليها ما يشاء على وفق حكمته و مقتضى تدبيره و إرادته . و ايجادهم على أقدار متفاوتة في الصغر و الكبر و الطّول و القصر ، روى عليّ ابن إبراهيم القمّي ( ره ) في تفسير قوله سبحانه : جاعلُ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ عن الصّادق عليه السّلام أنّه قال : خلق اللَّه الملائكة مختلفين ، و قد رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم جبرئيل و له ستّمأة جناح على ساقه الدّر مثل القطر على البقل قد ملأ ما بين السّماء و الأرض ، و قال : إذا أمر اللَّه ميكائيل بالهبوط إلى الدّنيا صارت رجله اليمنى في السّماء السّابعة و الأخرى في الأرض السّابعة ، و أنّ للَّه ملائكة أنصافهم من برد و أنصافهم من نار يقولون : يا مؤلّفا بين البرد و النّار ثبّت قلوبنا على طاعتك ، و قال : إنّ اللَّه ملكا بعد ما بين شحمة اذنه إلى عينه مسير خمسمأة عام بخفقان الطير ، و قال عليه السّلام : إنّ الملائكة لا يأكلون و لا يشربون و لا ينكحون و إنما يعيشون بنسيم العرش و إنّ للّه ملائكة ركّعا إلى يوم القيامة و إنّ للَّه ملائكة سجّدا إلى يوم القيامة ثمّ قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام ما من شي‏ء ممّا خلق اللَّه أكثر من الملائكة و أنّه ليهبط في كلّ يوم أو في كلّ ليلة سبعون ألف ملك فيأتون البيت الحرام فيطوفون به ثمّ يأتون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم ثمّ يأتون أمير المؤمنين عليه السّلام فيسلّمون عليه ثمّ يأتون الحسين عليه السّلام فيقيمون عنده ، فاذا كان وقت السّحر وضع لهم معراج إلى السّماء ثمّ لا يعودون أبدا . و في التّوحيد بإسناده عن زيد بن وهب قال : سئل أمير المؤمنين عليّ بن [ 382 ] أبي طالب عليه السّلام عن قدرة اللَّه جلّت عظمته ، فقام خطيبا فحمد اللَّه و أثنا عليه ثمّ قال : إنّ اللَّه تبارك و تعالى ملائكة لو أنّ ملكا منهم هبط إلى الأرض ما وسعته لعظمة خلقته و كثرة أجنحته ، و منهم من لو كلّفت الجنّ و الانس أن يصفوه ما وصفوه لبعد ما بين مفاصله و حسن تركيب صورته ، و كيف يوصف من ملائكته من سبعمأة عام ما بين منكبيه و شحمة اذنيه ، و منهم من يسدّ الافق بجناح من أجنحته دون عظم بدنه ، و منهم من السّماوات إلى حجزته 1 ، و منهم من قدمه على غير قرار في جوّ الهواء الأسفل و الأرضون إلى ركبتيه ، و منهم من لو ألقى في نقرة ابهامه جميع المياه لوسعتها ، و منهم من لو القيت السفن في دموع عينه لجرت دهر الداهرين فتبارك اللَّه أحسن الخالقين . و فيه بإسناده عن ابن عباس عن النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال : إنّ للَّه تبارك و تعالى ديكا رجلاه في تخوم الأرض السّابعة و رأسه عند 2 العرش ثاني عنقه‏تحت العرش « إلى أن قال : » و لذلك الدّيك جناحان إذا نشرهما جاوز المشرق و المغرب ، فاذا كان في آخر اللّيل نشر جناحيه و خفق بهما و صرخ بالتسبيح يقول : سبحان الملك القدّوس الكبير المتعال لا إله إلاّ اللَّه الحيّ القيّوم ، فاذا فعل ذلك سبّحت ديكة الأرض كلّها و خفقت بأجنحتها و أخذت في الصّراخ ، فاذا سكن ذلك الدّيك في السّماء سكنت الديكة في الأرض فإذا كان في بعض السحر نشر جناحيه فجاوز بهما المشرق و المغرب و خفق بهما و صرخ بالتسبيح سبحان اللَّه العظيم « سبحان خ » العزيز القهار سبحان اللَّه ذي العرش المجيد سبحان اللَّه ربّ العرش الرّفيع ، فاذا فعل ذلك سبّحت ديكة الأرض فاذا هاج هاجت الدّيكة في الأرض تجاوبه بالتسبيح و التقديس للّه عزّ و جلّ و لذلك الدّيك ريش أبيض كأشدّ بياض رأيته قطّ و له زعبا 1 خضر تحت ريشه الأبيض كأشدّ خضرة رأيتها قطّ فما زلت مشتاقا إلى أن أنظر إلى ريش ذلك الدّيك . ----------- ( 1 ) الحجزة معقد الازار ----------- ( 2 ) ثانى عنقه اى عاطف و ملتو لعنقه ، منه ----------- ( 3 ) الزعب شعيرات صفر على ريش الفرخ ، منه [ 383 ] و بهذا الإسناد عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال : إنّ للَّه تبارك و تعالى ملكا من الملائكة نصف جسده الأعلى نار و نصفه الأسفل ثلج ، فلا النّار تذيب الثلج و لا الثلج تطفى‏ء النّار و هو قائم ينادى بصوت رفيع : سبحان اللَّه الذي كفّ حرّ هذه النّار فلا يذيب الثلج و كفّ برد هذا الثلج فلا يطفى‏ء حرّ النّار اللّهمّ يا مؤلّفا بين الثلج و النّار ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين على طاعتك هذا . و بقى الكلام في قوله عليه السّلام اولى أجنحة تسبح جلال عزّته ، فأقول : إن كان تسبح بالتخفيف و الخلال بالخاء المعجمة فالمراد سباحتهم و سيرهم في اطباق السّماوات و فوقها أو نزولهم و صعودهم لأداء الرّسالات و غيرها أو سيرهم في مراتب القرب بالعبادة و التسبيح . و أمّا على رواية التشديد و كون الجلال بالجيم فالجملة إما صفة لاولى أجنحة فالتأنيث باعتبار الجماعة و المقصود أنهم يسبّحونه و يقدّسون جلاله و عظمته و عزّته و قوّته سبحانه من النقايص . و إمّا صفة لأجنحة فالمقصود بالتسبيح إمّا التنزيه و التقديس بلسان الحال إذ كلّ جناح من اجنحتهم بل كلّ ذرّة من ذرّات وجودهم ناطقة بلسان حالها شارحة لعظمة بارئها و مبدعها ، برهان صدق على قدرته و قوّته و كماله ، و دليل متين على تدبيره و حكمته و جلاله ، و هذا عام لجميع الملائكة . و إمّا التنزيه بلسان المقال و هو مخصوص ببعض الملائكة . و يشهد به ما رواه في التوحيد باسناده عن ابن عباس عن النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قال : إنّ اللَّه تبارك و تعالى ملائكة ليس شي‏ء من أطباق أجسادهم إلاّ و هو يسبّح اللَّه عزّ و جلّ و يحمده من ناحية بأصوات مختلفة لا يرفعون رؤوسهم إلى السماء و لا يخفضونها إلى أقدامهم من البكاء و الخشية للَّه عزّ و جل . و عن جميل بن درّاج قال : سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام هل في السماء بحار ؟ قال عليه السّلام : نعم أخبرني أبي عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام قال : قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم : إنّ في [ 384 ] السماوات السبع لبحارا عمق أحدها مسيرة خمسمأة عام فيها ملائكة قيام منذ خلقهم اللَّه عزّ و جلّ و الماء إلى ركبهم ليس فيهم ملك إلاّ و له ألف و أربع مأة جناح في كلّ جناح أربعة وجوه في كلّ وجوه « وجه خ » أربعة ألسن ليس فيها جناح و لا وجه و لا لسان و لا فم إلاّ و هو يسبّح اللَّه عزّ و جلّ بتسبيح لا يشبه نوع منه صاحبه ، و اللَّه أعلم بحقايق ملكه و ملكوته ، و آثار جلاله و جبروته . ثمّ وصف عليه السّلام الملائكة بأنهم ( لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه و لا يدعون أنهم يخلقون شيئا معه مما انفرد به ) أي لا يدّعون الرّبوبية لأنفسهم كما يدّعيه البشر لهم و لأنفسهم فالفقرة الأولى لنفى ادّعاء الاستبداد و الثانية لنفى ادّعاء المشاركة أو الاولى لنفى ادّعائهم الخالقية فيماهم و سايط وجوده و لهم مدخل فيه بأمره سبحانه و الثانية لنفى ذلك فيما خلقه اللَّه سبحانه بمجرّد أمره من دون توسط الوسايل ( بل ) هم ( عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون ) و هو اقتباس من قوله سبحانه في سورة الأنبياء . وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ » الآية قيل : نزلت في خزاعة حيث قالت : الملائكة بنات اللَّه ، فنزّه اللَّه سبحانه نفسه عن ذلك و قال سبحانه أنفة له : بل هؤلاء الّذين زعموا أنهم ولد اللَّه ليسوا أولاده ، بل هم عباد مكرمون أكرمهم اللَّه و اصطفاهم لا يسبقونه بالقول و لا يتكلّمون إلاّ بما يأمرهم به ربّهم ، فكلّ أقوالهم طاعة لربّهم و يكفى بذلك جلالة قدرهم ، و هم بأمره يعملون ، و من كان بهذه الصفة لا يوصف بأنه ولد . ( جعلهم ) اللَّه ( فيما هنالك أهل الأمانة على وحيه ، و حملهم إلى المرسلين ودايع أمره و نهيه ) لعلّ هذا الوصف مختصّ ببعض الملائكة و يشهد به قوله سبحانه أَللَّهُ يَصْطَفى مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً [ 385 ] و يكفى للنسبة إلى الجميع كون بعضهم كذلك و ما هنالك عبارة عن مراتب الملائكة و يدلّ على الاختصاص بالبعض أيضا قوله عليه السّلام في الفصل التاسع من الخطبة الأولى : و منهم امناء على وحيه و ألسنة إلى رسله و مختلفون بقضائه و أمره ، و قد تقدّم في شرح ذلك الفصل ما ينفعك ذكره في المقام و بيّنا ثمّة وجه الحاجة في أداء الامانة إلى وجود الواسطة من الملائكة و أشرنا إلى جهة وصفهم بالامانة . و محصّله أنّه لما كان ذو الامانة هو الحافظ لما ائتمن عليه ليؤدّيه إلى مستحقّه و كانت الرّسالات النازلة بواسطة الملائكة نازلة كما هي محفوظة عن الخلل الصادر عن سهو لعدم أسباب السّهو هناك أو عن عمد لعدم الدّاعي إليه لقوله تعالى : يَخافُونَ رَبَّهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَروُنَ صدق أنهم أهل الامانة على وحيه و رسالاته ( و عصمهم من ريب الشبهات فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته ) هذا الوصف عام لجميع الملائكة لأنهم معصومون من الشكّ و الاشتباه الناشى من معارضة النفس الأمارة للقوّة العاقلة إذ ليس لهم هذه النفس فلا يتصوّر في حقّهم العدول عن سبيل رضوان اللَّه و الانحراف عن القصد لانتفاء سببه الذى هو وجود هذه النفوس . ( و أمدّهم بفوائد المعونة و أشعر قلوبهم تواضع اخبات السّكينة ) لعلّ المراد أنّه سبحانه أعطاهم المدد و القوّة و أيّدهم بأسباب الطاعات و القربات و الألطاف و المعارف الصّارفة لهم عن المعصية و أنه ألزم قلوبهم التواضع و الذلّة و الخضوع و الاستكانة لزوم الشعار للجسد أو أنه أعلمهم ذلك ، و محصّله عدم انفكاكهم عن الخوف و الخشوع و قد مرّ بعض الأخبار فيه في شرح الفصل التاسع من الخطبة الاولى . ( و فتح لهم أبوابا ذللا إلى تماجيده ) أى فتح لهم أبوابا سهلة إلى تعظيماته و الثناء عليه ، و الجمع باعتبار أنواع التحيات و فتح الأبواب كناية عن إلهامها [ 386 ] عليهم و تسهيلها لهم لعدم معارضة شيطان أو نفس أمارة بالسوء ، بل خلقهم خلقة يلتذّون بها كما ورد : أنّ شرابهم التّسبيح و طعامهم التقديس . ( و نصب لهم منارا واضحة على أعلام توحيده ) استعار لفظ الأعلام لأدلّة التّوحيد و براهين التفريد و وجه المشابهة ايصال كلّ منهما إلى المطلوب ، و لعلّه أراد بالمنار الواضحة المنصوبة على تلك الأعلام ما يوجب لهم الاهتداء إلى تلك الأدلّة من الوحى و الالهام . و ربما قيل في شرح ذلك : إنه استعار المنار الواضحة للوسايط من الملائكة المقرّبين بينهم و بين الحقّ سبحانه إذ إخباره عن الملائكة السّماوية و لفظ الاعلام لصور المعقولات في ذواتهم المستلزمة لتوحيده و تنزيهه عن الكثرة ، و وجه المشابهة أنّ المنار و الأعلام كما يكون وسايط في حصول العلم بالمطلوب كذلك الملائكة المقرّبون و المعارف الحاصلة بواسطتهم يكون وسايط في الوصول إلى المطلوب الأول محرّك الكلّ عزّ سلطانه ، و هو قريب مما قلناه إلاّ أنّ ما قلناه أظهرو أشبه هذا . و أمّا توصيف المنار بوصف الوضوح فمن أجل وفور أسباب الهداية و كثرة الدلائل في حقهم لقربهم من سياحة عزّ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ و ملكوته و مشاهدتهم ما يخفى علينا من آثار ملكه و جبروته . ( لم تثقلهم موصرات الآثام ) أى مثقلاتها و أشار عليه السّلام بذلك إلى عصمتهم من المعاصي لعدم خلق الشهوات فيهم و انتفاء النفس الامارة الداعية إلى المعصية ( و لم ترتحلهم عقب اللّيالى و الأيام ) أى لم يزعجهم تعاقبهما و لم يوجب رحيلهم عن دارهم ، و المقصود تنزيههم عما يعرض للبشر من ضعف القوى أو القرب من الموت بكرور اللّيالى و مرور الأيام . ( و لم ترم الشّكوك بنوازعها عزيمة ايمانهم ) عزيمة ايمانهم ما لزم ذواتهم من التّصديق بمبدعهم و ما ينبغى له ، و المراد أنه لم ترم الشكوك بمحركاتها و هي شهواتها ما عزموا عليه من الايمان و التّصديق ، هذا على رواية نوازعها بالعين المهملة [ 387 ] و أما على روايتها بالغين المعجمة فالمقصود عدم انبعاث نفوسهم الأمّارة بالشكوكات و الشبهات و القائها الخواطر الفاسدة إلى أنفسهم المطمئنة . ( و لم تعترك الظنون على معاقد يقينهم ) المراد بالظنّ إمّا الاعتقاد الراجح غير الجازم أو الشّك أو ما يشملهما ، و لعلّ الأخير أظهر هنا ، فالمقصود نفى ازدحام الظنون و الأوهام على قلوبهم التي هي معاقد عقائدهم اليقينية ( و لا قدحت قادحة الاحن فيما بينهم ) أى لا تثير الأحقاد و العداوات بينهم فتنة كما تثير النّار قادحتها لتنزّهم من القوّة الغضبيّة ( و لا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمايرهم و سكن من عظمته و هيبة جلاله في أثناء صدورهم ) لمّا كان الحيرة عبارة عن عدم الاهتداء إلى وجه الصواب من حيث تردّد العقل في أنّ أىّ الأمرين أولى بالطلب و الاختيار ، و كان منشأ ذلك معارضة الوهم و الخيال للعقل و لم يكن لهم و هم و لا خيال ، لا جرم لا حيرة تخالط عقايدهم و تزيل هيبة عظمته من صدورهم . قال المجلسي ( ره ) : و يحتمل أن يكون المراد بالحيرة الوله لشدّة الحبّ و كمال المعرفة كما سيأتي ، فالمعنى أنّ شدّة و لههم لا يوجب نقصا في معرفتهم و غفلة عن ملاحظة العظمة و الجلال كما في البشر ، و على هذا فالسلب في كلامه عليه السّلام راجع إلى المحمول كما أنه على ما قلناه راجع إلى الموضوع ( و لم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على فكرهم ) أى لم تطمع فيهم الوساوس الشّيطانية و النّفسانية فتتناوب أو تضرب بأدناسها على قلوبهم ، و الغرض نفى عروض الوساوس على عقولهم كما تعرض للبشر لانتفاء أسبابها في حقّهم . ( منهم ) أى من مطلق الملائكة ( من هو في خلق الغمام الدّلح ) أى السحاب الثقيلة بالمطر ، و المراد بذلك الصّنف هم الّذين مكانهم السحاب و هم خزّان المطر و زواجر السحاب المشار إليهم بقوله سبحانه : و الزاجرات زجرا قال ابن عباس : يعنى الملائكة الموكّلين بالسحاب فيشمل لمشيعي الثلج و البرد و الهابطين مع قطر المطر إذا نزل و إن كان السحاب مكانهم قبل النّزول قال سيّد [ 388 ] السّاجدين عليه السّلام في دعائه في الصّلاة على حملة العرش و ساير الملائكة من الصحيفة الكاملة : و خزّان المطروز واجر السحاب و الّذى بصوت زجره يسمع زجل الرعود و إذا سبحت به حفيفة السحاب التمعت صواعق البروق و مشيعى الثّلج و البرد و الهابطين مع قطر المطر إذا نزل ، هذا . و يحتمل أن يكون المقصود تشبيههم في لطافة الجسم بالسحاب ، فيكون المعنى أنهم في الخلقة مثل خلق الغمام . و كذلك قوله عليه السّلام ( و في عظم الجبال الشّمخ ) يحتمل أن يراد به الملائكة الموكّلون بالجبال للحفظ و ساير المصالح ، و أن يراد به تشبيههم بالجبال في عظمة الخلقة . و هكذا قوله ( و في قترة الظلام الايهم ) محتمل لأن يراد به الملائكة السّاكنون في الظلمات لهداية الخلق و حفظهم أو غير ذلك ، و لأن يراد به تشبيههم في السّواد بالظلمة . ( و منهم من قد خرقت أقدامهم تخوم الأرض السّفلى ، فهى كرايات بيض قد نفذت في مخارق الهواء و تحتها ريح هفّافة تحبسها على حيث انتهت من الحدود المتناهية ) لعلّ المراد بهم الملائكة الموكّلون بالأرض يقول عليه السّلام : إنهم قد خرقت أقدامهم حدود الأرض السفلى و معالمها و أقدامهم بمنزلة أعلام بيض قد نفذت في مخارق الهواء ، و أراد بها المواضع التي تمكنت فيها تلك الأعلام بخرق الهواء ، و تحت هذه الأعلام ريح طيّبة ساكنة أى ليست بمضطربة فتموج تلك الرّايات تحسبها حيث انتهت هذا . و قال الشّارح البحراني : يشبه أن يكون هذا القسم من الملائكة السّماوية أيضا و استعار لفظ الأقدام لعلومهم المحيطة بأقطار الأرض السفلى و نهاياتها ، وجه الشبه كون العلوم قاطعة للمعلوم و سارية فيه واصلة إلى نهايته كما أنّ الأقدام تقطع الطريق و تصل إلى الغاية منها . و تشبيهها بالرّايات البيض من وجهين احدهما في البياض لأنّ البياض لما استلزم [ 389 ] الصّفاء عن الكدر و السّواد كذلك علومهم صافية عن كدورات الباطل و ظلمات الشبه ، الثانى في نفوذها في أجزاء المعلوم كما تنفذ الرّايات في الهواء ، و أشار بالريح التي تحبس الاقدام الى حكمة اللَّه التي اعطت كلاّ ما يستحقّه و قصرت كلّ موجود على حدّه و بهفوفها الى لطف تصرّفها و جريانها في المصنوعات . أقول : و لا بأس به و إن كان خروجا عن الظاهر . ثمّ أشار إلى استغراقهم في العبادة و ثباتهم في المعرفة و المحبّة بقوله : ( قد استفرغتهم أشغال عبادته ) أى جعلتهم فارغين عن غيرها ( و وصلت حقايق الايمان بينهم و بين معرفته ) أراد بحقايق الايمان العقايد اليقينية تحقّ أن تسمّى إيمانا أو البراهين الموجبة له ، و كونها وصلة بينهم و بين معرفته من حيث إنّ التّصديق بوجود الشّي‏ء الواجب تحصيله أقوى الأسباب الباعثة على طلبه فصار الايمان و التصديق الحق بوجوده جامع بينهم و بين معرفته و وسيلة لهم إليه . ( و قطعهم الايقان به الى الوله إليه ) أى صرفهم اليقين بوجوب وجوده عن التوجه و الالتفات إلى غيره إلى و لههم إليه و تحيّرهم من شدّة الوجد ( و لم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره ) أى رغباتهم مقصورة على ما عنده سبحانه من قربه و ثوابه و كرمه ، فانه منتهى رغبة الراغبين و هو غاية قصد الطالبين . ( قد ذاقوا حلاوة معرفته ) استعار عليه السّلام لفظ الذّوق لتعقّلاتهم و رشّحه بذكر الحلاوة و كنّى بها عن كمال ما يجدونه من اللذّة بمعرفته كما يلتذّ ذايق الحلاوة بها ( و شربوا بالكأس الرّوية من محبّته ) استعار لفظ الشرب لما تمكن في ذواتهم من كمال المحبّة و رشّحه بذكر الكأس الروّية أى من شانها أن تروى و تزيل العطش ( و تمكنت من سويداء قلوبهم وشيجة خيفته ) لما كان كمال استقرار العوارض القلبيّة من الحبّ و الخوف و نحوهما عبارة عن بلوغها إلى سويداء القلب و تمكنها فيها عبّر عليه السّلام بها مبالغة و أشار عليه السّلام بوشيجة خيفته إلى جهات الخوف المتشعبّة في ذواتهم الناشئة من زيادة معرفتهم بعزّته و قدرته و مقهوريّتهم تحت قوّته . ( فحنوا بطول الطاعة اعتدال ظهورهم ) أى عوّجوا ظهورهم المعتدلة المستقيمة بطاعاتهم الطويلة ، و هو كناية عن كمال خضوعهم . [ 390 ] ( و لم ينفد طول الرّغبة إليه مادّة تضرّعهم ) أراد به عدم إفناء طول رغبتهم إليه دواعي تضرّعهم له سبحانه كما في البشر فانّ أحدنا إذا كان له رغبة في أمر و أراد الوصول إليه من عند أحد تضرّع إليه و ابتهل و إذا طال رغبته و لم ينل إلى مطلوبه حصل له الملال و الكلال انقطع دواعى نفسه و ميول قلبه و ينعدم ما كان سببا لتضرّعه و ابتهاله ، و لمّا كان الملال و الكلال من عوارض المركبات العنصرية و كانت الملائكة السماوية منزّهة عنها لا جرم حسن سلبها عنهم . ( و لا اطلق عنهم عظيم الزلفة ربق خشوعهم ) لما كان من شأن مقرّبي الملوك و السّلاطين أنهم كلّما ازداد زلفاهم و قرباهم إليهم انتقص خضوعهم و خشوعهم و تواضعهم من أجل أنه يخفّ هيبتهم و سطوتهم في نظرهم لكونهم بشرا مثلهم و لم يكن كذلك حال من كان مقرّبي الحضرة الرّبوبيّة بل هم كلّما ازدادوا قربا ازدادوا خشوعا من حيث عدم انتهاء السّلطنة الألهيّة و عدم انتهاء مراتب العرفان و اليقين الدّاعيين إلى التضرّع و العبادة و عدم وقوفها على حدّ ، لا جرم لم يطلق عظم قربهم أعناق ذلّهم عن ربقة الابتهال ، فهم بقدر صعودهم في مدارج الطاعة يزداد قربهم ، و كلّما ازداد قربهم تضاعف علمهم بعظمته فيحصل بزيادة العلم بالعظمة كمال الخشوع و الذلّة . ( و لم يتولهم الاعجاب فيستكثروا ما سلف منهم ، و لا تركت لهم استكانة الاجلال نصيبا في تعظيم حسناتهم ) المراد بذلك نفى استيلاء العجب عليهم و الاشارة إلى أنهم لا يستعظمون ما سلف منهم من العبادات ، و لا يستكثرون ما تقدّم منهم من الطاعات ، و أنهم لم يترك لهم خضوعهم الناشي عن ملاحظة جلال اللَّه و ولههم النّاشي من شدّة المحبّة إليه نصيبا في تعظيم الحسنات و حظا في إعظام القربات ، لأنّ منشأ العجب هو النّفس الأمارة و هو من أحكام الأوهام و الملائكة السماوية مبرّؤون منها و منزّهون عنها . ( و لم تجر الفترات فيهم على طول دؤوبهم ) يعنى أنهم على طول جدّهم في العبادة لا يحصل لهم فتور و لا قصور ، و قد مضى بيان ذلك في شرح الفصل التاسع من الخطبة الاولى قال زين العابدين و سيّد السّاجدين عليه السّلام في الصلاة على حملة العرش [ 391 ] اللّهمّ و حملة عرشك الذين لا يفترون عن تسبيحك و لا يملّون عن تقديسك . و العجب من الشارح البحراني حيث قال في شرح هذه الفقرة : قد ثبت أنّ الملائكة السّماوية دائمة التّحريك لأجرامها حركة لا يتخلّلها سكون و لا يكلّها و يفترها إعياء و تعب ، و لبيان ذلك بالبراهين اصول ممهّدة في مواضعها و امّا بالقرآن فلقوله تعالى : يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتَرُونَ انتهى أقول : و هو تأويل من غير دليل مقبول مبتن على اصول الفلاسفة الجاعلين الملائكة بالنسبة إلى أجرام السّماء بمنزلة النفوس الناطقة بالنّسبة إلى أبدان البشر القائلين بكونها مدّبرة لأمرها كما أن النّفوس مدبّرة للأبدان ، و هو مخالف للاصول الشّرعية موجب لطرح ظواهر الأدلّة من الكتاب و السّنة ، فالأولى الاعراض عنه و الرّجوع إلى ما قاله المفسّرون في تفسير الآية الشريفة . قال الطبرسيُّ : أى ينزّهون اللَّه عن جميع ما لا يليق بصفاته على الدّوام في اللّيل و النهار لا يضعفون عنه ، قال كعب جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النّفس في السّهولة ، و قيل : معنى لا يفترون لا يتخلل تسبيحهم فترة أصلا بفراغ أو بشغل آخر ، و اورد عليه أنهم قد يشتغلون باللّعن كما قال تعالى : أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ و اجيب بأنّ التّسبيح لهم كالتنفس لنا لا يمنعهم عنه الاشتغال بشي‏ء آخر . و اعترض بأنّ آلة التّنفس لنا مغايرة لآلة التكلّم فلهذا صحّ اجتماع التنفس و التّكلّم ، و اجيب بأنّه لا يستبعد أن يكون لهم ألسن كثيرة أو يكون المراد بعدم الفترة أنهم لا يتركون التسبيح في أوقاته اللاّيقة به . ( و لم تغض رغباتهم فيخالفوا عن رجاء ربّهم ) أى لم تنقص رغباتهم إلى ما عنده فيعدلوا عن الرّجاء إليه ، و ذلك لأنّ أشواقهم إلى كمالاتهم دائمة و علمهم بعظمة خالقهم و بحاجتهم إليه و بأنّه مفيض الكمالات و واهب الخيرات لا يتطرّق [ 392 ] إليه نقص فلا ينقطع رجائهم عنه و لا ييأسون من فضله . ( و لم تجفّ لطول المناجاة أسلات ألسنتهم ) أراد عليه السّلام به عدم عروض الفتور و الكلال عليهم في مناجاتهم كما يعرض علينا و يجفّ ألسنتنا بسبب طول المناجاة ( و لا ملكتهم الأشغال فتنقطع بهمس الجؤار إليه أصواتهم ) أى ليست لهم أشغال خارجة عن العبادة حتّى تنقطع لأجلها أصواتهم بسبب خفاء تضرّعهم إليه ، و بعبارة اخرى ليست لهم أشغال خارجة فتكون لأجلها أصواتهم المرتفعه خافية ساكنة . ( و لم يختلف في مقاوم الطاعة مناكبهم ) أى لم ينحرف مناكبهم أو لم يتقدّم بعضهم على بعض في مقامات الطاعة و صفوف العبادة ( و لم يثنوا إلى راحة التقصير في أمره رقابهم ) يعني لم يصرفوا رقابهم من أجل تعب العبادات و كثرتها إلى الرّاحة الحاصلة باقلال العبادة أو تركها بعد التّعب فيقصروا في أوامره ، و المقصود نفى اتصافهم بالتعب و الرّاحة لكونهما من عوارض الأجسام البشريّة و توابع المزاج الحيواني . ( و لا تعدو على عزيمة جدّهم بلادة الغفلات ) المراد أنهم لا تغلب على عزيمتهم و جدّهم في العبادة بلادة و لا غفلة لكونهما من عوارض هذا البدن ( و لا تنتصل في هممهم خدايع الشهوات ) أى لا ترمى الشهوات بسهام خدايعها هممهم ، و المقصود نفى توارد وساوس الشّهوات الصارفة عن العبادة و تتابعها عنهم لبرائتهم من القوّة الشهويّة . ( قد اتّخذوا ذا العرش ذخيرة ليوم فاقتهم ) ذو العرش هو اللَّه سبحانه كما في غير واحدة من الآيات القرآنية ، و المراد بيوم فاقتهم يوم حاجتهم و هو يوم قبض أرواحهم كما يظهر من بعض الأخبار . قال المجلسيُّ ( ره ) و لا يبعد أن يكون لهم نوع من الثّواب على طاعاتهم بازدياد القرب و افاضة المعارف و ذكره سبحانه لهم و تعظيمه إيّاهم و غير ذلك ، فيكون إشارة إلى يوم جزائهم ( و يمّموه عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين برغبتهم ) أي قصدوه بتضرّعهم إليه سبحانه عند انصراف الخلق و انقطاعهم منه إلى المخلوقين [ 393 ] و يحتمل رجوع ضمير رغبتهم إلى الخلق و إليهم و إلى الملائكة على سبيل التنازع . ( لا يقطعون أمد غاية عبادته ) أراد أنّه لا يمكنهم الوصول إلى منتهى نهاية عبادته الذي هو عبارة عن كمال معرفته ، و ذلك لكون مراتب العرفان و درجاته غير متناهية فلا يمكنهم قطعها ( و لا يرجع بهم الاستهتار بلزوم طاعته إلاّ إلى موادّ من قلوبهم غير منقطعة من رجائه و مخافته ) أى لا يرجعهم الولع بلزوم طاعته سبحانه إلاّ إلى موادّ ناشئة من قلوبهم غير منقطعة و هذه الموادّ هو رجائه و مخافته الباعثان لهم على لزوم طاعته ، و الغرض إثبات دوام خوفهم و رجائهم الموجبين لعدم انفكاكهم عن الطاعة بل لزيادتها كما يشعر به لفظ الموادّ . قال الشّارح البحراني : لما كانوا غرقى فى محبّته عالمين بكمال عظمته و أنّ ما يرجونه من جوده أشرف المطالب و أربح المكاسب و ما يخشى من انقطاع جوده و نزول حرمانه أعظم المهالك و المعاطب ، لا جرم دام رجائهم له و خضوعهم في رقّ الحاجة إليه و الفزع من حرمانه ، و كان ذلك الخوف و الرّجاء هو مادّة استهتارهم بلزوم طاعته التي يرجعون إليها من قلوبهم فلم ينقطع استهتارهم بلزومها . ( لم تنقطع أسباب الشفقّة منهم فينوا في جدّهم ) أى لم تنقطع أسباب الخوف منهم فيفتروا في الجدّ في العبادة و أسباب الخوف هي حاجتهم إليه سبحانه و افتقارهم إلى إفاضته وجوده ، فانّ الحاجة الضّرورية إلى الغير في مطلوب يستلزم الخوف منه في عدم قضائه و يوجب الاقبال على الاستعداد بجوده بلزوم طاعته و القيام بوظايف عبادته . ( و لم يأسرهم الأطماع فيؤثروا وشيك السّعى على اجتهادهم ) أى لم تجعلهم الأطماع اسراء و ليسوا مأسورين في ربقة الطمع حتّى يختاروا السّعى القريب في تحصيل المطموع من الدّنيا الفانية على اجتهادهم الطويل في تحصيل السّعادة الباقية كما هو شأن البشر ، و ذلك لكون الملائكة منزّهين عن الشهوات و ما يلزمها من الاطماع الكاذبة . [ 394 ] ( و لم يستعظموا ما مضى من ذلك ) قد مرّ معناه في شرح قوله : و لم يتولهم الاعجاب آه و إنّما أعاد ذلك مع إغناء السّابق عنه و كفايته في الدلالة على نفى العجب للاشارة إلى دليله و هو قوله ( و لو استعظموا ذلك لنسخ الرجاء منهم شفقات و جلهم ) يعني أنهم لو استعظموا سالف أعمالهم لأوجب ذلك اغترارهم و زيادة رجائهم لثواب أعمالهم فيبطل ذلك و يزيل ما دات وجلهم و خوفهم ، ألا ترى أن الانسان إذا عمل لبعض الملوك عملا يستعظمه فانه يرى في نفسه استحقاق أجزل جزاء له و يجد التّطاول به فيهون ذلك ما يجده من خوفه ، و كلّما ازداد استعظامه لخدمته ازداد اعتقاده في قربه من الملك قوّة و بمقدار ذلك ينقص خوفه و يقلّ هيبته في نظره ، لكن الملائكة خائفون دائما لقوله سبحانه : وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِه‏ مُشْفِقُونَ فينتج أنّهم لا يستعظمون سالف عباداتهم ( و لم يختلفوا في ربّهم باستحواذ الشيطان عليهم ) أى لم يختلفوا فيه من حيث الاثبات و النفى أو التعيين أو الصّفات كالتّجرّد و التجسّم و كيفيّة العلم و غير ذلك ، و قيل : أى في استحقاق كمال العبادة ، و المقصود نفى الاختلاف عنهم باستيلاء الشّيطان كما هو في الانسان لأنّه : لَيْسَ لَهُ سُلطانٌ علىَ الَّذينَ آمَنُوا وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، إِنَّما سُلْطانُه عَلىَ الَّذينَ يَتَولَّوْنهُ وَ الَّذينَ هُمْ بِه‏ مُشْرِكُونَ 1 ( و لم يفرقهم سوء التقاطع ) و التعادي و ترك البرّ و الاحسان ( و لا تولاّهم غلّ التحاسد ) الناشي من النفس الامارة بالحقد و العدوان ( و لا شعّبتهم مصارف الرّيب ) و وجوهات شكوك الأذهان ( و لا اقتسمتهم أخياف الهمم ) و اختلافاتها لانحصار همّهم في طاعة اللَّه الرّحيم الرّحمن ( فهم اسراء الايمان لم يفكهم من ربقته زيغ ) و جور ( و لا عدول و لاونا ) و وهن ( و لا فتور ) ----------- ( 1 ) اقتباس من الاية في سورة الاسرى ، منه [ 395 ] ثمّ أشار عليه السّلام إلى كثرة الملائكة بقوله : ( و ليس في أطباق السموات موضع اهاب ) و جلد ( إلاّ و عليه ملك ساجد ) خاشع لربّه ( أوساع ) مسرع ( حافد ) في طاعة معبوده ( يزدادون على طول الطاعة بربّهم علما ) و يقينا ( و تزداد عزّة ربّهم في قلوبهم عظما ) و كمالا . قال الشّارح البحراني : اعلم أنّ للسماء ملائكة مباشرة لتحريكها ، و ملائكة أعلى رتبة من اولئك هم الآمرون لهم بالتحريك ، فيشبه أن يكون الاشارة بالساجدين منهم إلى الآمرين ، و السجود كناية عن كمال عبادتهم كناية بالمستعار ، و يكون الاشارة بالساعين المسرعين إلى المتولّين للتحريك ، فأمّا زيادتهم بطول طاعتهم علما بربّهم فلما ثبت أنّ حركاتهم إنما هو شوقيّة للتشبّه بملائكة أعلى رتبة منهم في كمالهم بالمعارف الالهية و ظهور ما في ذواتهم بالقوّة إلى الفعل ، و زيادة عزّة ربّهم عندهم عظما بحسب زيادة معرفتهم له تابعة لها . أقول : و قد مضى الاشارة منّا إلى أنّ هذا كلّه مبنيّ على الاصول الحكميّة و عدول عن طريق الشريعة النبويّة على صادعها آلاف الصّلاة و السّلام و التحيّة و قدّمنا الأخبار المناسبة للمقام في شرح الفصل التّاسع من الخطبة الاولى فتذكّر و ينبغي تذييل المقام بأمرين مهمّين : أحدهما فى عصمة الملائكة و هو مذهب أصحابنا الاماميّة رضوان اللَّه عليهم و عليه دلّت الآيات القرآنيّة و الأخبار الكثيرة من طرقنا ، و لنقتصر على رواية واحدة ، و هو : ما رواه في الصّافي قال : قال الرّاوي : قلت لأبي محمّد عليه السّلام : فانّ قوما عندنا يزعمون أنّ هاروت و ماروت ملكان اختارتهما الملائكة لما كثر عصيان بني آدم ، و أنزلهما اللَّه مع ثالث لهما إلى الدّنيا ، و أنهما افتتنا بالزّهرة و أراد الزنا و شربا الخمر و قتلا النفس المحرّمة و أن اللَّه يعذّبهما ببابل ، و أنّ السحرة منهما يتعلّمون السّحر و أنّ اللَّه مسخ تلك المرئة هذا الكوكب الذي هو الزّهرة . [ 396 ] فقال الامام عليه السّلام : معاذ اللَّه من ذلك إنّ ملائكة اللَّه معصومون محفوظون من الكفر و القبايح بألطاف اللَّه تعالى قال اللَّه فيهم : لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ و قال : وَ لَهُ مَنْ في السَّمواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة لا يَسْتَكْبِروُنَ عَنْ عِبادَتِه‏ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتَرُونَ و قال في الملائكة أيضا : بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِه‏ يَعْمَلُونَ إلى قوله مُشْفِقُونَ و مثله في البحار عن يوسف بن محمّد بن زياد و عليّ بن محمّد بن سيّار عن أبويهما أنهما قالا : فقلنا للحسن أبي القائم عليهما السّلام : فانّ قوما إلى آخر الخبر ، و رواه أيضا في الاحتجاج عن أبي محمّد العسكري عليه السّلام مثله . نعم في بعض الرّوايات ما يدلّ على خلاف ذلك ، و هو ما رواه عليّ بن إبراهيم القميّ ( ره ) عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن عليّ بن رئاب عن محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام قال : سأله عطا و نحن بمكّة عن هاروت و ماروت ، فقال عليه السّلام : إنّ الملائكة كانوا ينزلون من السّماء إلى الأرض في كلّ يوم و ليلة يحفظون أعمال أوساط أهل الأرض من ولد آدم عليه السّلام و الجنّ و يسطرونها و يعرجون بها إلى السّماء قال : فضجّ أهل السّماء من معاصي أوساط أهل الأرض فتوامروا فيما بينهم ممّا يسمعون و يرون من افترائهم الكذب على اللَّه تبارك و جرأتهم عليه و نزّهوا اللَّه تعالى ممّا يقول فيه خلقه و يصفون ، فقال طائفة من الملائكة : يا ربّنا ما تغضب مما يعمل خلقك في أرضك و ممّا يصفون فيك الكذب و يقولون الزّور و يرتكبون المعاصي ، و قد نهيتهم عنها ، ثمّ أنت تحلم عنهم و هم في قبضتك و قدرتك و خلال عافيتك ، قال عليه السّلام : فأحبّ اللَّه عزّ و جلّ أن يرى الملائكة سابق علمه في جميع خلقه و يعرّفهم [ 397 ] ما منّ به عليهم ممّا عدل به عنهم من صنع خلقه و ما طبعهم عليه من الطاعة و عصمهم به من الذّنوب . قال عليه السّلام : فأوحى اللَّه إلى الملائكة أن انتدبوا منكم ملكين حتّى اهبطهما إلى الأرض ثمّ أجعل فيهما من طبايع المطعم و المشرب و الشّهوة و الحرص و الأمل مثل ما جعلته في ولد آدم ، ثمّ اختبرهما في الطّاعة ، قال عليه السّلام : فندبوا لذلك هاروت و ماروت و كانا أشدّ الملائكة قولا في العيب لولد آدم و استيثار غضب اللَّه عليهم . قال عليه السّلام : فأوحى اللَّه إليهما أن اهبطا إلى الأرض فقد جعلت فيكما من طبايع المطعم و المشرب و الشّهوة و الحرص و الأمل مثل ما جعلت في ولد آدم قال عليه السّلام ثمّ أوحى اللَّه إليهما : انظرا أن لا تشركا بي شيئا و لا تقتلا النّفس الّتي حرّم اللَّه و لا تزنيا و لا تشربا الخمر . قال عليه السّلام : ثمّ كشط 1 عن السّماوات السّبع ليريهما قدرته ، ثمّ اهبطا إلى الأرض في صورة البشر و لباسهم ، فهبطا ناحية بابل فرفع لهما بناء مشرف فأقبلا نحوه فاذا بحضرته امرأة جميلة حسناء مزيّنة معطّرة مسفرة مقبلة . قال عليه السّلام فلمّا نظرا إليها و ناطقاها و تأملاها وقعت في قلوبهما موقعا شديدا لموضع الشّهوة التي جعلت فيهما ، فرجعا إليها رجوع فتنة و خذلان و راوداها عن نفسها ، فقالت لهما : إنّ لي دينا أدين به و ليس أقدر في ديني على أن اجيبكما إلى ما تريدان إلاّ أن تدخلا في ديني الذي أدين به ، فقالا لها : و ما دينك ؟ قالت : لي إله من عبده و سجد له كان لى السبيل إلى أن اجيبه إلى كلّ ما سألني ، فقالا لها : و ما إلهك ؟ قالت : إلهي هذا الصّنم . قال عليه السّلام : فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال : هاتان خصلتان مما نهينا عنها الشّرك و الزّنا ، لأنّا إن سجدنا لهذا الصّنم و عبدناه أشركنا باللّه و إنّما نشرك باللّه لنصل ----------- ( 1 ) الكشط رفعك الشى‏ء عن الشى‏ء عن الشى‏ء قد غشاه قال تعالى : و اذا السماء كشطت و كشط الجلّ من الفرس كشفه منه [ 398 ] إلى الزّنا و هو ذا نحن نطلب الزّنا فليس نعطى إلاّ بالشّرك . فقال عليه السّلام : فائتمرا بينهما فغلبتهما الشّهوة التي جعلت فيهما ، فقالا لها نجيبك إلى ما سألت ، فقالت : فدونكما فاشربا هذا الخمر فانّه قربان لكما و به تصلان إلى ما تريدان ، فائتمرا بينهما فقالا : هذه ثلاث خصال ممّا نهينا ربّنا عنها : الشرك و الزّنا ، و شرب الخمر ، و إنّما ندخل في شرب الخمر و الشّرك حتّى نصل إلى الزّنا ، فائتمرا بينهما فقالا : ما أعظم البليّة بك قد أجبناك الى ما سألت ، قالت : فدونكما فاشربا من هذا الخمر ، و اعبدا هذا الصّنم ، و اسجدا له ، فشربا الخمر و عبدا الصّنم ثمّ راوداها عن نفسها . فلمّا تهيّأت لهما و تهيّآ لها دخل عليها سائل يسأل هذه ، فلمّا رآهما و رأياه ذعرا 1 منه ، فقال لهما : إنكما لامرء آن ذعران ، فدخلتما بهذه المرأة المعطّرة الحسناء إنكما لرجلا سوء ، و خرج عنهما ، فقالت لهما : و إلهى ما تصلان الآن إلىّ و قد اطلع هذا الرجل على حالكما و عرف مكانكما ، و يخرج الآن و يخبر بخبر كما و لكن بادرا إلى هذا الرجل فاقتلاه قبل أن يفضحكما و يفضحني ثمّ دونكما فاقضيا حاجتكما و أنتما مطمئنّان آمنان . قال عليه السّلام : فقاما إلى الرّجل فأدركاه فقتلاه ثمّ رجعا إليها فلم يرياها و بدت لهما سوآتهما و نزع عنهما رياشهما و اسقطا 2 في أيديهما ، فأوحى اللَّه إليهما أن اهبطتكما إلى الأرض مع خلقي ساعة من النّهار فعصيتماني بأربع من معاصي كلّها قد نهيتكما عنها و تقدّمت إليكما فيها فلم تراقباني و لم تستحييا منى ، و قد كنتما أشدّ من نقم على أهل الأرض بالمعاصي و استجرّ أسفى و غضبي عليهم لما جعلت فيكما من طبع خلقي و عصمتي إيّاكما من المعاصي فكيف رأيتما موضع خذلاني فيكما . اختارا عذاب الدّنيا أو عذاب الآخرة ، فقال أحدهما لصاحبه : نتمتّع من ----------- ( 1 ) ذعرا أى خافا منه ----------- ( 2 ) سقط فى يده و اسقط مضمومتين ظلّ و أخطا أو ندم و تحيّر ، ق [ 399 ] شهواتنا في الدّنيا إذ صرنا إليها إلى أن نصير إلى عذاب الآخرة ، فقال الآخر : إنّ عذاب الدّنيا له مدّة و انقطاع و عذاب الآخرة قائم لا انقطاع له فلسنا نختار عذاب الآخرة الشديد الدّائم على عذاب الدّنيا المنقطع الفاني . قال عليه السّلام : فاختارا عذاب الدّنيا فكانا يعلّمان النّاس السّحر في أرض بابل ثمّ لما علّما النّاس السّحر رفعا من الأرض إلى الهواء ، فهما معذّبان منكّسان معلّقان في الهواء إلى يوم القيامة ، و رواه في البحار عن العيّاشى عن محمّد بن قيس مثله ، و بمعناه أخبار اخر ، و يمكن حملها على التقيّة ، و يشعر به كون السائل في هذه الرّواية من علماء العامة . و ما رواه في البحار عن العلل عن الصّادق عليه السّلام في حديث قال : و أمّا الزّهرة فانّها كانت امرئة تسمّى ناهيد ( ناهيل خ ل ) و هي الّتي تقول الناس إنّه افتتن بها هاروت و ماروت ، فانّ في نسبة افتتانهما إلى النّاس إشارة إلى ما ذكرناه كما لا يخفى . و قال بعض أهل العرفان بعد ما أورد الرّوايات الدّالّة على تكذيب أمر هاروت و ماروت و الرّوايات الدّالّة على صحّة قصّتهما : و الوجه في الجمع و التوفيق أن يحمل روايات الصّحة على كونها من مرموزات الأوايل و إشاراتهم ، و أنّهم عليه السّلام لمّا رأوا أنّ حكاتها كانوا يحملونها على ظاهرها كذّبوها ثمّ قال : و أمّا حلّها فلعلّ المراد بالملكين الرّوح و العقل فانّهما من العالم الرّوحاني اهبطا إلى العالم الجسمانى لاقامة الحقّ فافتتنا بزهرة الحياة الدّنيا ، و وقعا في شبكة الشهوة ، فشربا خمر الغفلة ، و عبدا صنم الهوى ، و قتلا عقلهما النّاصح لهما بمنع تغذيته بالعلم و التقوى ، و محو أثر نصحه عن أنفسهما ، و تهيّئا للزّنا ببغى الدّنيا الدّنيّة التي تلى تربية النشاط و الطرب فيها الكوكب المسمّى بالزّهرة ، فهربت الدّنيا منهما و فاتتهما لما كان من عادتهما أن تهرب من طالبيها لأنّها متاع الغرور و بقي اشراق حسنها في موضع مرتفع بحيث لا تنالها ايدى طالبها ما دامت الزّهرة باقية في السّماء و حملهما حبّها في قلبهما إلى أن وضعها طرائق مر السّحر و هو ما لطف مأخذه و دقّ ، فخيّرا للتخلّص منها [ 400 ] فاختارا بعد التنبّه و عود العقل إليهما أهون العذابين ، ثمّ رفعا إلى البرزخ معذّبين و رأسهما بعد الى أسفل إلى يوم القيامة . هذا ما خطر بالبال في حلّ هذا الرّمز و اللّه الهادي . الثانى اختلف المسلمون في أنّ الأنبياء و الملائكة أيّهم أفضل أى أكثر ثوابا ، فذهب أكثر الأشاعرة إلى أنّ الأنبياء أفضل ، و قال المعتزلة كما في شرح المعتزلي إنّ نوع الملائكة أفضل من نوع البشر ، و الملائكة المقرّبون أفضل من نوع الأنبياء و ليس كلّ ملك عند الاطلاق أفضل من محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، بل بعض المقرّبين أفضل منه ، و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل من ملائكة اخرى غير الأوّلين . و لا خلاف بين علماء الاماميّة قدّس اللّه أرواحهم في أنّ الأنبياء و الأئمّة صلوات اللّه عليهم أفضل من جميع الملائكة ، و أخبارهم على ذلك مستفيضة ، و قد حقّقوا ذلك في كتب الاصول و لا حاجة لنا الآن إلى بسط الكلام في ذلك المقام ، و إنّما نقتصر على رواية واحدة توضيحا للمرام . و هو ما رواه الصّدوق في كتاب إكمال الدّين و إتمام النّعمة قال : حدّثنا الحسن بن محمّد بن سعيد الهاشمي ، قال : حدّثنا فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي قال : حدّثنا محمّد بن علىّ بن أحمد الهمداني ، قال : حدّثنى أبو الفضيل العبّاس ابن عبد اللّه البخاري ، قال : حدّثنا محمّد بن القاسم بن إبراهيم بن عبد اللّه بن القاسم بن محمّد بن أبي بكر ، قال : حدّثنا عبد السّلام بن صالح الهروي عن عليّ بن موسى الرّضا عليه السّلام عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمّد عن أبيه محمّد بن عليّ عن أبيه عليّ بن الحسين عن أبيه الحسين بن عليّ عن أبيه عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : ما خلق اللّه خلقا أفضل منّي و لا أكرم عليه منّي قال عليّ عليه السّلام : فقلت : يا رسول اللّه فأنت أفضل أم جبرئيل ؟ فقال : إنّ اللّه تبارك و تعالى [ 401 ] فضّل أنبيآءه المرسلين على ملائكته المقزّبين و فضّلني على جميع النّبيّين و المرسلين و الفصل بعدي لك يا عليّ و الأئمّة من بعدك ، فانّ الملائكة لخدّامنا و خدّام محبّينا يا عليّ الَّذينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِروُنَ لِلَّذينَ آمَنُوا » بولايتنا ، يا عليّ لو لا نحن ما خلق اللّه آدم عليه السّلام و لا حوّا و لا الجنّة و لا النّار و لا السّماء و لا الأرض ، و كيف لا نكون أفضل من الملائكة و قد سبقناهم إلى التّوحيد و معرفة ربّنا عزّ و جلّ و تسبيحه و تقديسه و تهليله ، لأنّ أوّل ما خلق اللّه عزّ و جلّ أرواحنا ، فأنطقنا بتوحيده و تمجيده ثمّ خلق الملائكة فلمّا شاهدوا أرواحنا نورا واحدا استعظموا امورنا فسبّحنا لتعلم الملائكة أنّا خلق مخلوقون و أنّه منزّه عن صفاتنا فسبّحت الملائكة لتسبيحنا و نزهته عن صفاتنا . فلمّا شاهد و اعظم شأننا هلّلنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلاّ اللّه فلمّا شاهدوا كبر محلّنا كبّرنا اللّه لتعلم الملائكة أنّ اللّه أكبر من أن تنال و أنّه عظيم المحلّ فلمّا شاهدوا ما جعل اللّه لنا من القدرة و القوّة قلنا : لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم ، لتعلم الملائكة أن لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه . فلمّا شاهدوا ما أنعم اللّه به علينا و أوجبه من فرض الطاعة قلنا : الحمد للّه ، لتعلم الملائكة ما يحقّ اللّه تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمه فقالت الملائكة الحمد للّه فبنا اهتدوا إلى معرفة اللّه و تسبيحه و تهليله و تحميده ، ثمّ إنّ اللّه تبارك و تعالى خلق آدم عليه السّلام و أودعنا صلبه و أمر الملائكة بالسّجود له تعظيما لنا و إكراما ، و كان سجودهم للّه عزّ و جلّ عبوديّة و لآدم إكراما و طاعة لكونه ؟ ؟ ؟ في صلبه فكيف لا نكون أفضل من الملائكة و قد سجدوا لآدم عليه السّلام كلّهم أجمعون . و أنّه لما عرج بي إلى السّماء أذّن جبرئيل عليه السّلام مثنى مثنى ثمّ قال : تقدّم يا محمّد ، فقلت : يا جبرئيل تقدّم عليك ؟ فقال : نعم لأنّ اللّه تبارك و تعالى [ 402 ] اسمه فضّل أنبيائه على ملائكته أجمعين و فضّلك خاصّة ، فتقدّمت و صلّيت بهم و لا فخر فلمّا انتهينا إلى حجب النّور قال لي جبرئيل عليه السّلام : تقدّم يا محمّد و تخلّف عني ، فقلت : يا جبرئيل في مثل هذا الموضع تفارقني ؟ فقال : يا محمّد إنّ هذا انتهاء حدّي الّذي وضعه اللَّه لي في هذا المكان فان تجاوزته احترقت أجنحتي لتعدّى حدود ربّي جلّ جلاله ، فزّج بي ربّي زجّة في النّور حتّى انتهيت إلى حيث ما شاء اللّه عزّ و جلّ من ملكوته . فنوديت : يا محمّد ، فقلت : لبّيك ربّي و سعديك تباركت و تعاليت فنوديت يا محمّد أنت عبدي و أنا ربّك فإيّاى فاعبد و علىّ فتوكّل فانّك نوري في عبادي و رسولي إلى خلقي و حجّتي فى بريّتي ، لمن تبعك خلقت جنّتي و لمن عصاك و خالفك خلقت ناري ، و لأوصيائك أوجبت كرامتي ، و لشيعتك أوجبت ثوابي . فقلت : يا رب و من أوصيائي ؟ فنوديت : يا محمّد إنّ أوصيائك المكتوبون على ساق العرش ، فنظرت و أنا بين يدي ربّي إلي ساق العرش فرأيت اثنا عشر نورا في كلّ نور سطر أخضر مكتوب عليه اسم كلّ وصيّ من أوصيائي أوّلهم عليّ بن أبي طالب و آخرهم مهديّ أمّتي . فقلت : يا ربّ هؤلاء أوصيائي من بعدي ؟ فنوديت : يا محمّد هؤلاء أوليائي و أحبّائي و أصفيائي حجّتي بعدك على بريّتي ، و هم أوصياؤك و خلفاؤك و خير خلقي بعدك ، و عزّتي و جلالي لاظهرنّ بهم ديني ، و لأعلينّ بهم كلمتي و لاطهّرنّ الأرض بآخرهم من أعدائي ، و لا ملكنّه مشارق الأرض و مغاربها ، و لأسخّرنّ له الرّياح و لاذللنّ الرّقاب الصّغار ، و لا رقبه في الأسباب ، و لأنصرنّه بجندي ، و لأمدّنه بملائكتي حتّى يعلو دعوتي و يجمع الخلق على توحيدي ، ثمّ لأديمنّ ملكه و لأداولنّ الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة . و الحمد للّه ربّ العالمين و الصّلاة على نبيّنا محمّد و آله الطّيبين الطاهرين و سلّم تسليما و إنّما ذكرت الرّواية بطولها مع كون ذيلها خارجا عن الغرض لتضمّنه مناقب أهل البيت الأطهار ، و كونه نصّا في خلافة الأئمة الأبرار و لعا منّى بايراد [ 403 ] فضايلهم و مناقبهم ما تعاقب على اللّيل و النّار ، سلام اللّه عليهم أجمعين ، و لعنة اللّه على أعدائهم و منكري فضائلهم إلى يوم الدّين . الترجمة بعضي ديگر از اين خطبه شريفه در صفة ملائكه است ميفرمايد : بعد از خلق آسمان بيافريد حق سبحانه و تعالى از براى ساكن فرمودن در آسمانهاى خود و معمور ساختن صفحه پهن بلند از ملكوت خود خلقي عجيب از ملائكه خود پس پرساخت بايشان فرجهاى كشادگيهاى آسمانرا ، و مملوّ نمود بايشان كشادگيهاى فضاهاى آنرا ، و ميان وسعتهاى اين كشادگيها است صوتهاى بلند تسبيح كنندگان از ايشان در حرمهاى قدس و طهارت و پرده‏هاى حجابهاى عظمت و سراپردهاى بزرگي و عزّت و در پس اين زلزله و اضطرابى كه كر ميشود از آن گوشها ، اشراقات نورى است كه بازميدارد ديدها را از رسيدن بآن ، پس مى‏ايستد آن ديدها ذليل و متحيّر بر حدود آن . آفريد خداوند متعال آن ملائكه را بر صورتهاى مختلفه و اندازهاى متفاوته در حالتيكه صاحبان بالها هستند كه تسبيح ميكنند بزرگى عزّت او را ، در حالتيكه بخود نمى‏بندند آنچه كه ظاهر شده در مخلوقات از صنع قدر او ، و ادّعا نميكنند اينكه ايشان مى‏آفرينند چيزيرا با آفريدگار از آنچيزيكه يگانه است او سبحانه بآفريدن آن ، بلكه ايشان بندگاني هستند گرامى داشته شده در حالتي كه پيشى نميگيرند بخدا در گفتار خودشان ، و ايشان بفرمان او سبحانه عمل مينمايند . گردانيد حقتعالى ايشانرا در آنجا كه هستند ، يعنى در مقامات خودشان كه حظاير قدس است أهل أمانت بروحى خود و تحميل نمود ايشانرا در حالتيكه ارسال ميشوند بسوى پيغمبران أمانتهاى أوامر و نواهي خود را ، و معصوم ساخت ايشانرا از شك كردن در شبهها ، پس نيست از ايشان ميل كننده از راه رضاى او ، و مدد نمود ايشان را بفايده‏هاى اعانت بسوى طاعات ، و لازم فرمود قلبهاى ايشانرا تواضع خضوع وقار را ، و گشود بجهت ايشان درهاى سهل و آسان بسوى تمجيدات [ 404 ] خود ، و بر پا نمود از براى ايشان منارهاى آشكار بر نشانهاى توحيد خود . گران نكرد ايشانرا گران سازندهاى گناهها ، و ضعيف ننمود ايشان را تعاقب و تناوب شبها و روزها ، و نينداخت شكها بمحرّكات فاسده خود محكمى ايمان ايشانرا ، و عارض نشد ظنّها و وهمها بر مواضع عقد يقين ايشان ، و بر نيفروخت بر افروزندگيهاى حقد و حسد در ميان ايشان ، و سلب نكرد از ايشان حيرت چيزى را كه چسبيده از معرفت او بقلب ايشان ، و ساكن شده از عظمت و هيبت او در ميان سينهاى ايشان ، و طمع ننموده در ايشان وسوسه‏ها تا اينكه بكوبد با استيلاى خود يا اينكه تناوب نمايد با چرك خود بفكرهاى ايشان . بعضى از ايشان آنانند كه قرار گرفته در أبرهاى مخلوق شده گران بار بباران ، و در كوههاى بزرك بلند ، و در سياهى تاريكى كه هدايت يافته نميشود در آن ، و بعضى ديگر آنانند كه دريده است قدمهاى ايشان حدود زمين پائين را ، پس آن قدمها بمنزله علمهاى سفيدند كه فرو رفته باشند در مواضع خرق هوا و شكاف آن ، و در زير آن علمها است بادى كه ساكن است و پاكيزه كه بازداشته است آن علمها را بر مكاني كه منتهى شده آن علمها از حدود بنهايت رسيده . بتحقيق كه فارغ نموده ايشان را از ما سوا شغلهاى عبادت او سبحانه ، و وصل نموده است حقيقتهاى ايمان ميان ايشان و ميان معرفت آنرا ، و بريده است ايشانرا يقين و اذعان بخدا از غير آن ، و مايل ساخته ايشانرا بسوى حيراني او ، و در نگذشته است رغبتهاى ايشان از آن چيزيكه نزد او است بسوى آنچيزيكه نزد غير او است . بتحقيق كه چشيده‏اند شيرينى معرفت او را ، و آشاميده‏اند با كاسه سيراب كننده از شراب محبّت او ، و متمكّن و برقرار شده از ته دلهاى ايشان رگهاى خوف و خشيت او ، پس خم كرده‏اند بدرازى عبادت راستى پشت‏هاى خودشان را ، و تمام نكرده درازى رغبت بسوى او مادّه تضرّع ايشان‏را ، و رها نكرده از گردنهاى ايشان بزرگى قرب و منزلت بحضرت ربّ العزّة ريسمان خشوع و ذلّترا و غالب نشده بر ايشان عجب و خودپسندى تا اينكه بسيار شمارند آنچه كه پيش [ 405 ] گذشته از ايشان از طاعات و عبادات ، و نگذاشته از براى ايشان خوارى كه ناشي شده از ملاحظه جلال پروردگار نصيب و بهره در تعظيم و بزرگ دانستن حسنات خودشان ، و جارى نشده سستيها در ايشان با درازى جدّ و جهد ايشان . و ناقص نگشته رغبتهاى ايشان تا مخالفت كنند و عدول نمايند از اميدوارى پروردگار خودشان ، و خشك نگشته بجهة طول راز و نياز اطراف زبانهاى ايشان و مالك نشده است ايشانرا شغلهاى خارج از عبادت تا اينكه منقطع شود بسبب پنهاني تضرّع ايشان بسوى او آوازهاى بلند ايشان ، و مختلف نشده در صفهاى عبادت دوشهاى ايشان ، و ملتفت نساخته‏اند بسوى راحتى كه باعث تقصير در امر او است گردنهاى خودشانرا ، و غالب نميشود بر عزم جدّ و جهد ايشان بيخردي غفلتها ، و تير نمياندازند در همّتهاى ايشان فريب دهندگان شهوتها . بتحقيق كه اخذ نموده‏اند صاحب عرش را ذخيره بجهة روز حاجت‏شان ، و قصد كرده‏اند او را نزد بريده شدن خلق بسوى مخلوقات برغبتشان ، قطع نميتوانند كنند پايان غايه عبادت او را ، و باز نميگرداند ايشان را حرص و محبّت بلزوم طاعت او مگر بسوى مادّهائي كه بريده نميشوند آن مادّها كه از دل ايشانست كه عبارت‏اند از خوف و رجا آن ، بريده نشده اسباب ترس از ايشان تا سست شوند در جدّ و جهد خودشان : و أسير ننموده ايشان را طمعهاى دنيوي تا اينكه اختيار نمايند سعى نزديك در تحصيل دنيا را بر كوشش خودشان در تحصيل سعادت آخرت ، و بزرگ نميشمارند آنچه كه گذشته از اعمال ايشان ، و اگر بزرك شمارند أعمال خودشان هر آينه باطل و زايل مينمايد رجاء و اميدواري ايشان ترسهاى ايشان‏را ، و اختلاف نمى‏نمايند در ذات و صفات پروردگار بسبب غلبه شيطان بر ايشان ، و پراكنده نساخته ايشان را بدى بريدن از يكديگر ، و مالك نشده ايشان را خيانت حسد [ 406 ] بردن بيكديگر ، و متفرّق نساخته ايشان را مواضع صرف شكّ و كمان ، و منقسم نگردانيده ايشان را اختلافهاى همّتها . پس ايشان أسيران ايمانند كه رها ننموده ايشان را از بند ايمان ميل نمودن از حق و نه عدول كردن از منهج صدق و نه سستى در عبادت و نه كاهلى در طاعت ، و نيست در طبقهاى آسمان جاى پوستى مگر كه بر او است ملك سجد ، كننده يا سعى نماينده شتابنده كه زياده ميگردانند بر درازى طاعت بپروردگار خودشان علم و يقين را ، و افزون ميگرداند عزّت كردگار ايشان در دلهاى ايشان عطم و شأن را . هذا آخر الجزء السادس من هذه الطبعة النفيسة و قد تمّ تصحيحه و تهذيبه بيد العبد « السيد ابراهيم الميانجى » عفى عنه و عن والديه فى اليوم الثانى من شهر ذى الحجة الحرام سنة 1379 و يليه انشاء اللّه الجزء السابع و اوله : « الفصل السادس » من المختار التسعين و الحمد للَّه أولا و آخرا . [ 2 ] ج 7 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ تتمة خطبه نودم الفصل السادس منها فى صفة الارض و دحوها على الماء كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة ، و لجج بحار زاخرة ، تلتطم أو اذيّ أمواجها ، و تصطفق متقاذفات أثباجها ، و ترغو زبدا كالفحول عند هياجها ، فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها ، و سكن هيج ارتمائه إذ وطئته بكلكلها ، و ذلّ مستخذئا إذ تمعّكت عليه بكواهلها ، فأصبح بعد اصطحاب أمواجه ساجيا مقهورا ، و في حكمة الذّلّ منقادا أسيرا ، و سكنت الأرض مدحوّة في لجّة تيّاره ، و ردّت من نخوة بأوه و اعتلائه ، و شموخ أنفه و سموّ غلوائه ، و كعمته على [ 3 ] كظّة جريته ، فهمد بعد نزقاته ، و لبد بعد زيفان و ثباته ، فلمّا سكن هيج الماء من تحت أكنافها ، و حمل شواهق الجبال البذّخ على أكنافها ، فجر ينابيع العيون من عرانين أنوفها ، و فرّقها في سهوب بيدها و أخاديدها ، و عدّل حركاتها بالرّاسيات من جلاميدها ، و ذوات الشّناخيب الشّمّ من صيا خيدها ، فسكنت من الميدان برسوب الجبال في قطع أديمها و تغلغلها ، متسرّبة في جوبات خياشيمها و ركوبها أعناق سهول الأرضين و جراثيمها ، و فسح بين الجوّ و بينها ، و أعدّ الهواء متنسّما لساكنها ، و أخرج إليها أهلها على تمام مرافقها ، ثمّ لم يدع جرز الأرض الّتي تقصر مياه العيون عن روابيها ، و لا تجد جداول الأنهار ذريعة إلى بلوغها ، حتّى أنشأ لها ناشئة سحاب تحيي مواتها ، و تستخرج نباتها ، ألّف غمامها بعد افتراق لمعه ، و تباين قزعه ، حتّى إذا تمخّضت لجّة المزن فيه ، و التمع برقه في كففه ، و لم ينم و ميضه في كنهور ربابه ، و متراكم سحابه ، أرسله سحّا متداركا قد أسف هيدبه ، تمريه الجنوب درر أهاضيبه ، و دفع شئآبيبه ، فلمّا ألقت السّحاب برك بوانيها ، و بعاع ما استقلت به من العب‏ء المحمول عليها ، أخرج به من هو امد الأرض النّبات ، و من زعر الجبال [ 4 ] الأعشاب فهى تبهج بزينة رياضها ، و تزد هي بما ألبسته من ريط أزاهيرها ، و حلية ما سمّطت به من ناضر أنوارها ، و جعل ذلك بلاغا للأنام ، و رزقا للأنعام ، و خرق الفجاج في آفاقها ، و أقام المنار للسّالكين في جوادّ طرقها . اللغة ( دحا ) اللّه الأرض يدحوها دحوا بسطها و دحيا لغة و ( كبس ) الرّجل رأسه في قميصه اذا أدخله فيه و كبس البئر و النهر اذا طنّها بالتراب و فى شرح المعتزلي كبس الأرض أى أدخلها الماء بقوّة و اعتماد شديد و ( استفحل ) الأمر تفاقم و اشتدّ و ( اللّجج ) جمع اللّجة و هي معظم الماء قال سبحانه : في بَحْرٍ لُجِّيِّ يَغْشاهُ مَوْجٌ و ( الأواذى ) جمع الآذى بالمدّ و التشديد و هو الموج الشديد و ( الصفق ) الضرب يسمع له صوت و الصرف و الرّد و ( الثبج ) بتقديم الثاء المثلّثة على الباء الموحّدة معظم البحر و الجمع أثباج كسبب و أسباب و فى شرح المعتزلى أصل الثبج ما بين الكاهل الى الظهر و المراد أعالى الأمواج و ( ترغو زبدا ) من الرغا و هو صوت الابل و قيل من الرّغوة مثلّثة و هى الزّبد يعلو الشى‏ء عند غليانه يقال : رغا اللّبن أى صارت له رغوة ففيه تجريد و ( جماح ) الماء غليانه من جمح الفرس اذا غلب فارسه و لم يملكه و ( هيج ) الماء ثورانه و فورته و ( الارتماء ) الترامى و التقاذف و أصل ( الوطى ) الدّوس بالقدم و ( الكلكل ) بالتخفيف الصدر قال امرء القيس : فقلت له لما تمطّى بصلبه و أردف اعجازا و ناء بكلكل و ربما جاء في ضرورة الشّعر بتشديد اللام الثانية و ( ذلّ ) أى صار ذليلا أو ذلو لا ضدّ الصّعب و فى بعض النسخ كلّ أى عرض له الكلال من كلّ السّيف اذا لم يقطع و ( المستخذى ) بغير همز كما فى النسخ الخاضع و المنقاد و قد يهمز على الأصل [ 5 ] و ( تمعّكت ) الدابة تمرّغت فى التراب و ( الكاهل ) ما بين الكتفين و ( الاصطخاب ) افتعال من الصخب و هو كثرة الصّياح و اضطراب الأصوات و ( الحكمة ) محرّكة وزان قصبة حديدة فى اللّجام تكون على حنك الفرس تذلّلها لراكبها حتّى تمنعها الجماح و نحوه مأخوذة من الحكم و هو المنع يقال : حكمت عليه بكذا اذا منعته من خلافه فلم يقدر على الخروج منه و ( التيّار ) الموج و قيل أعظم الموج ، و لجّته أعمقه و ( النخوة ) الافتخار و التعظم و الانفة و الحمية و ( البأو ) الكبر و الفخر يقال بأى كسعى و كدعا قليل بأوا و بأواء فخر و تكبّر و نفسه رفعها و فخربها و ( شمخ ) الجبل شموخا علا و طال و الرّجل بأنفه تكبّر و ( الغلواء ) بضم الغين المعجمة و فتح اللاّم و قد تسكن الغلو و أوّل الشّباب و سرعته و مثله الغلوان بالضمّ و ( كعمت ) البعير من باب منع شددت فاه بالكعام و هو على وزن كتاب شي‏ء يجعل فى فيه اذا هاج لئلاّ يعضّ أويأ كل و ( الكظة ) شي‏ء يعترى الممتلى من الطعام يقول : كظه الطعام ملأه حتى لا يطيق التنفس و اكتظّ المسيل بالماء ضاق به لكثرته أو هو من الكظاظ وزان كتاب و هو الشدّة و التّعب و طول الملازمة و ( الجرية ) بكسر الجيم مصدر جرى الماء أو حالة الجريان و ( همدت ) الريح سكنت و همود النار خمودها و ( نزق ) الفرس من باب نصر و ضرب و سمع نزقا و نزوقا نزى و وثب و النزقات دفعاته و ( لبد ) بالأرض من باب نصر لبودا لزمها و أقام بها و منها اللبد وزان صرد و كتف لمن لا يبرح منزله و لا يطلب معاشا و ( زاف ) البعير يزيف زيفا و زيفانا تبختر فى مشيته و فى بعض النسخ بعد زفيان و ثباته بتقديم الفاء على الياء و هو شدّة هبوب الريح يقال : زفت الريح السحاب اذا طردته و ( الوثبة ) الطفرة و ( الأكناف ) بالنون جمع الكنف محركة كالأسباب و السبب و هو الجانب و الناحية و ( شواهق ) الجبال عواليها و ( البذخ ) جمع الباذخ و هو العالى و ( الينبوع ) ما انفجر من الأرض من الماء و قيل الجدول الكثير الماء و ( عرنين الانف ) أوّله تحت مجتمع الحاجبين و ( السّهب ) الفلاة البعيدة الأكناف و الأطراف و ( البيد ) بالكسر جمع بيداء و هى الفلاة التي تبيد سالكها [ 6 ] أى ينقطع و يهلك و ( الأخاديد ) جمع الأخدود و هو الشقّ فى الأرض قال تعالى : قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ . و ( الراسيات ) جمع الراسية من رسى السّفينة وقفت على البحر و ارسيته قال تعالى : بِسْمِ اللَّهِ مَجْريها وَ مُرْسيها . و ( الجلاميد ) جمع جلمدوزان جعفر و هو الصخر كالجلمود بضمّ و ( الشناخيب ) جمع شنخوب بالضّم أيضا و هو أعلى الجبل و ( الشم ) جمع الشميم أى المرتفع و ( الصياخيد ) جمع الصّيخود و هي الصخرة الصلبة ( فى قطع ) اديمها فى بعض النسخ وزان عنب جمع قطعة بالكسر و هى الطائفة من الشى‏ء تقطع و الطائفة من الأرض اذا كانت مفروزة و في بعضها بسكون الطاء وزان حبر و هي طنفسة 1 يجعلها الراكب تحته و يغطى كتفي البعير و جمعه قطوع و أقطاع و ( أديم ) الأرض وجهها و الأديم أيضا الجلد المدبوغ و ( التغلغل ) الدخول و ( السّرب ) محركة بيت في الأرض لا منفذله يقال : تسرب الوحش و انسرب فى جحره أى دخل و ( الجوبة ) الحفرة و الفرجة و ( الخيشوم ) أقصى الانف و ( جرثومة ) الشي‏ء أصله و قيل التراب المجتمع في اصول الشجرة و هو الأنسب و ( فسح ) له من باب منع أى وسّع و ( المتنسّم ) موضع التنسّم و التّنفس من تنسّم اذ إطلب النسيم و استنشقه و ( مرافق ) الدّار ما يستعين به أهلها و يحتاج اليه في التعيش و في القاموس مرافق الدار مصاب الماء و نحوها و ( الجرز ) بضمتين الأرض التي لانبات بها و لا ماء و قال تعالى : أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ و ( الرابية ) ما ارتفع من الأرض و كذلك الربوة بالضمّ و ( الجدول ) وزان جعفر النهر الصغير و ( ناشئة ) السّحاب أوّل ما ينشأ منه أى يبتدء ظهوره ، و يقال : نشأت ----------- ( 1 ) الطنفسة مثلثة الطاء و الفاء و بكسر الطاء و فتح الفاء و بالعكس واحدة الطنافس للبسط و الثياب [ 7 ] السّحاب اذا ارتفعت و ( الغمام ) جمع غمامة بالفتح فيهما و هي السحابة البيضاء و ( اللّمع ) على وزن صرد جمع لمعة و هي فى الأصل قطعة من النبت اذا اخذت في اليبس كأنها تلمع و تضى‏ء من بين ساير البقاع و ( القزع ) جمع قزعة بالتحريك فيهما و هي القطعة من الغيم و في الحديث كأنهم قزع الخريف و ( تمخضت ) أى تحركت بقوّة من المخض و هو تحريك السقاء الذى فيه اللّبن ليخرج زبده و ( المزن ) بضم الميم جمع مزنة و هي السحابة و ( كففه ) حواشيه و جوانبه و طرف كل شي‏ء كفه بالضمّ و عن الاصمعى كلّ ما استطال كحاشية الثوب و الرّمل فهو كفة بالضمّ و كلّ ما استدار ككفة الميزان فهو كفة بالكسر و يجوز فيه الفتح و ( و ميض ) البرق لمعانه و ( الكنهور ) وزان سفرجل قطع من السحاب كالجبال أو المتراكم منه و ( الرباب ) السّحاب الأبيض جمع ربابة و في شرح المعتزلي يقال : أنه السحاب الذي تراه كأنه دون السحاب و قد يكون أسود و قد يكون أبيض و ( المتراكم ) و المرتكم المجتمع و ( السحّ ) الصب و السّيلان من فوق و ( تدارك ) القوم اذا لحق آخرهم أولهم و ( اسفّ ) الطاير دنا من الأرض و ( الهيدب ) السحاب المتدلي أو ذيله من هدبت العين طال هدبها و تدلّى أشفارها و ( تمريه ) الجنوب من مري الناقة يمريها اى مسح ضرعها فامرت هى أى درّ لبنها و عدّى ههنا إلى مفعولين و في بعض النسخ تمري بدون الضمير هكذا قال في البحار و الأنسب عندي أن يجعل تمري على تقدير وجود الضمير كما في اكثر النسخ بمعنى تستخرج يقال : مرى الشي‏ء اذا استخرجه و هو احد معانيه كما فى القاموس و ( الدرر ) كعنب جمع درّة بالكسر و هو الصبّ و الاندقاق و ( الأهاضيب ) جمع هضاب و هو جمع هضب و هو المطر و ( دفع ) جمع دفعة بضم الدال فيهما و هي المرة من المطر و ( الشآبيب ) جمع شؤبوب و هو ما ينزل من المطر دفعة بشدّة و قوّة و ( البرك ) الصدر و ( البوانى ) قوائم الناقة و في شرح المعتزلي بوانيها بفتح النون تثنية بوان على فعال بكسر الفاء و هو عمود الخيمة و الجمع بون ، قال فى البحار في النسخ القديمة المصححة على صيغة الجمع و في النهاية فسّر البوانى بأركان البنية و فى القاموس بقوائم الناقة قال : [ 8 ] و البواني أضلاع الزور 1 و قوائم الناقة 2 و القي بوانيه أقام و ثبت ( و البعاع ) كالسحاب ثقلة من المطر و ( استقلت ) أى نهضت و ارتفعت و استقلت به حملته و رفعته و ( العب ) بالكسر وزان حبر الحمل و الثقل و ( الهوامد ) من الأرض التي لانبات بها و ( زعر ) الجبال بالضمّ جمع أزعر كحمر و أحمر و هى القليلة النبات و أصله من الزعر بالتحريك و هو قلة الشعر في الرأس يقال رجل أزعر و ( الأعشاب ) جمع عشب كقفل و هو الرطب من الكلاء و ( بهج ) يبهج من باب منع سرّ و فرح و في بعض النسخ بضمّ الهاء من باب شرف أى حسن و ( تزدهى ) افتعال من الزّهو و هو الكبر و الفخر و ( البسته ) في بعض النسخ بالبناء على الفاعل و في بعضها بالبناء على المفعول و ( الريط ) جمع ريطة بالفتح فيها و هي كلّ ملأة غير ذات لفقين اى قطعتين كلها نسج واحد و قطعة واحدة ، أو كلّ ثوب رقيق ليّن و ( الأزاهير ) جمع أزهار جمع زهرة بالفتح و هي النبات أو نورها و قيل الأصفر منه و أصل الزهرة الحسن و البهجة و ( الحلية ) ما يتزيّن به من مصوغ الذهب و الفضة و المعدنيات و ( سمّطت ) بالسين المهملة على البناء للمفعول من باب التفعيل أى علّقت و في بعض النسخ الصحيحة بالشين المعجمة من الشمط محرّكة و هو بياض الرأس يخالط سواده فمن النبات ما يخالط سواده النور الأبيض و في القاموس شمطه يشمطه خلطه و الاناء ملأه و النخلة انتشر بسرها و الشجر انتشر ورقه و الشميط من النبات ما بعضه هائج و بعضه أخضر و ( البلاغ ) ما يبتلغ به و يتوسل إلى الشي‏ء المطلوب و ( الفج ) الطريق الواسع بين الجبلين و الفجاج جمعه و ( الجادّة ) وسط الطريق و معظمه الاعراب على في قوله عليه السّلام على مور بمعنى في كما في قوله تعالى : دخل المدينة على حين غفلة ، و جملة تلتطم منصوبة المحلّ على الحالية ، و او اذي بالرفع فاعله ، و ترغو زبدا إن كان ترغو من الرغا فزبدا منصوب بمقدّر أى ترغو قاذفة زبدا ، و إن كان من ----------- ( 1 ) الزور وسط الصدر ، ق ----------- ( 2 ) و فى القاموس فى باب النون البوان بالضم و الكسر عمود للخباء جمعه ابونه و بون بالضم كصرد ، منه [ 9 ] الرّغوة فانتصابه به على التجريد أى ترمى زبدا و يشعر بتضمّنه معنى ترمى قوله عليه السّلام فى الخطبة الاولى : فرمى بالزّبد ركامه ، فافهم و مدحوّة منصوبة على الحال ، و فى لجّة إما للظر فية أو بمعنى على و الأوّل أولى إذ الأصل الحقيقة و قوله : ردّت فاعله ضمير مستكن عايد إلى الأرض و مفعوله محذوف و هو الضمير الراجع إلى جماع الماء و الباء فى قوله ، بالراسيات تحتمل الصلة و السّببية كما سنشير اليه ، و ذوات الشناخيب بالكسر عطف على جلاميدها ، و تغلغلها و ركوبها بالجرّ معطوفان على الرسوب ، و قوله : متسربة حال مؤكدة من ضمير تغلغلها على حدّ قوله تعالى : ولّى مدبرا ، و على في قوله على تمام مرافقها للاستعلاء متعلّق بمحذوف أى مستقرّين و متمكّنين على تمام مرافقها ، و أرسله جواب إذا تمخضت ، و سحّا حال من مفعول أرسل و المصدر بمعنى الفاعل و قوله : تمريه الجنوب در رأها ضيبه ، الضمير فى تمريه مفعول بالواسطة و الجنوب فاعله و الدّرر مفعول به أى تمري الجنوب منه درر أهاضيبه ، و الاضافة في برك بوانيها لأدنى ملابسة المعنى اعلم أنّ هذا الفصل من كلامه عليه السّلام مسوق للاشارة إلى قدرته سبحانه و تدبيره في كيفيّة ايجاد الأرض و دحوها على الماء و خلقة الغمام و المطر و البرق و النبات و الأنهار و الأزهار و متضمّن لما أعدّ اللّه للناس فيها من المنافع العظيمة و الفوايد الجسيمة ، و الرفد الروافغ ، و النعم السوابغ و هو قوله عليه السّلام : ( كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة ) استعار لفظ الكبس لخلقه لها غائصا معظمها في الماء كما يغوص و يكبس بعض الزقّ المنفوخ و نحوه في الماء بالاعتماد عليه ، و وصف الأمواج بالاستفحال لشدّتها أو لكونها كالفحول في الصّولة ( و لجج بحار زاخرة ) أى كثيرة مائها مرتفعة أمواجها حالكونها ( تلتطم أو اذي أمواجها ) أى تضرب شدايد أمواجها بعضها بعضا ( و تصطفق متقاذفات أثباجها ) أى تردّ متراميات أمواجها العالية المعظمة ( و ترغو زبدا كالفحول عند هياجها ) أى تصوت قاذفة زبدا [ 10 ] أو ترمى زبدا عند اضطرابه و غليانه كالفحول الهايجة ( فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها ) استعار لفظ الجماع لغليان الماء و اضطرابه و جريانه على غير نسق كما يجمح الفرس الجموح بحيث لا يتمكن من ردّه و منعه يقول عليه السّلام : ذلّ اضطراب الماء لثقل حمل الأرض عليه ( و سكن هيج ارتمائه إذ وطئته بكلكها ) أى سكن ثوران تراميه و تقاذفه حين و طئته الأرض و داسته بصدرها تشبيها لها بالناقة و تخصيص الصدر بالذكر لقوته ( و ذلّ مستخذيا إذ تمعّكت عليه بكواهلها ) أى صار ذليلا منقادا حين تمرغت عليه الأرض كالدابة المتمرغة و تخصيص الكواهل بالذكر للقوّة أيضا ( فأصبح بعد اصطخاب أمواجه ) و اضطرابها ( ساجيا مقهورا ) أى ساكنا مغلوبا ( و فى حكمة الذلّ منقادا اسيرا ) كالدابة المذللة بالحكمة المنقادة لصاحبها ، هذا و محصل كلامه عليه السّلام من قوله : فخضع إلى هنا أنّ هيجان الماء و غليانه و موجه سكن بوضع الأرض عليه و استشكل فيه بأنّ ذلك خلاف ما نشاهده و خلاف ما يقتضيه العقل لأنّ الماء السّاكن إذا جعل فيه جسم ثقيل اضطرب و تموّج و صعد علوّا فكيف الماء المتموّج يسكن بطرح الجسم الثقيل فيه و اجيب بأنّ الماء إذا كان تموّجه من قبل ريح هايجة جاز أن يسكن هيجانه بجسم يحول بينه و بين تلك الرّيح ، و لذلك إذا جعلنا في الاناء ماء ، و روّحناه بمروحة يموّجه فانه يتحرّك ، فان جعلنا على سطح الماء جسما يملؤحافات الاناء و روّحناه بالمروحة فانّ الماء لا يتحرّك لأنّ ذلك الجسم قد حال بين الهواء المجتلب بالمروحة و بين سطح الماء ، فمن الجائز أن يكون الماء الأوّل هائجا لاجل ريح محرّكة له فاذا وضعت الأرض عليه حال بين سطح الماء و بين تلك الريح و قد مرّ في كلامه عليه السّلام فى الفصل الثامن من فصول الخطبة الأولى ذكر هذه الرّيح و هو قوله عليه السّلام : ثمّ أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبها و أدام مربها إلى أن قال : [ 11 ] أمرها بتصفيق الماء الزخّار و اثارة موج البحار فمخضه مخض السّقاء و عصفت به عصفها بالفضاء ، إلى آخر ما مرّ قال المحدّث العلاّمة المجلسيّ ره في البحار بعد ذكر هذا الاشكال و الجواب : و الأولى أن يقال : إنّ غرضه عليه السّلام ليس نفي التموّج مطلقا بل نفى الشديد الذى كان للماء اذ حمله سبحانه على متن الريح العاصفة و الزعزع القاصفة بقدرته الكاملة و أنشأ ريحا تمخّضه مخض السقاء فكانت كرة الماء تدفق من جميع الجوانب و ترد الرّيح أوّله على آخره و ساجيه على مائره كما مرّ في كلامه عليه السّلام أى فى الفصل المذكور من الخطبة الأولى ، ثمّ لما كبس الأرض بحيث لم يحط الماء بجميعها فلا ريب فى انقطاع الهبوب و التمويج من ذلك الجانب المماسّ للأرض من الماء و أيضا لمّا منعت الأرض سيلان الماء من ذلك الجانب إذ ليست الأرض كالهواء المنفتق المتحرّك الذى كان ينتهي اليه ذلك الحدّ من الماء كان ذلك أيضا من أسباب ضعف التموّج و قلّة التّلاطم و أيضا لمّا تفرقت كرة الماء فى أطراف الأرض و مال الماء بطبعه الى المواضع المنخفضة من الأرض و صار البحر الواحد المجتمع بحارا متعدّدة و ان اتّصل بعضها ببعض و احاطت السواحل بأطراف البحار بحيث منعت الهبوب إلاّ من جهة السّطح الظاهر سكنت الفورة الشديدة بذلك التفرّق و قلّة التعمّق و انقطاع الهبوب ، و كلّ ذلك من أسباب السّكون الذى أشار اليه عليه السّلام و أقول : و ممّا يبيّن ذلك أنه إذا فرضنا حوضا يكون فرسخا في فرسخ و قدّرنا بناء عمارة عظيمة في وسطه فلا ريب في أنّه يقلّ بذلك أمواجه ، و كلّما وصل موج من جانب من الجوانب اليه يرتدع و يرجع ثمّ إنّ هذه الوجوه إنما تبدى جريا على قواعد الطبيعيّين و خيالاتهم الواهية و إلاّ فبعد ما ذكره عليه السّلام لا حاجة لنا الى إبداء وجه ، بل يمكن أن يكون لخلق الأرض و كبسها في الماء نوع آخر من التأثير في سكونه لا تحيط به عقولنا الضعيفة كما قال عليه السّلام : ( و سكنت الأرض ) حالكونها ( مدحوّة ) مبسوطة ( فى لجّة تياره ) [ 12 ] أى أعمق موجه و معظمه ( و ردّت الماء من نخوة بأوه و اعتلائه ) أى فخره و ترفعه ( و شموخ انفه و سمّو غلوائه ) أى تكبّره و علوّ غلوّه و هذه كلّها استعارات للماء في هيجانه و اضطرابه بملاحظة مشابهته بالانسان المتجبّر المتكبّر التياه في حركاته و أفعاله و الغرض بيان سكون الأرض في الماء المتلاطم و منعها إيّاه من تموّجه و هيجانه ( و كعمته على كظّة جريته ) و المراد بكظّة الجرية ما يشاهد من الماء الكثير في جريانه من الثقل نحو ما يعتري المملي من الطعام ، أو أراد به شدّة جريانه و طول ملازمته له ، أو التعب العارض له من الجريان على سبيل الاستعارة تشبيها له بالانسان المتعب من كثرة المزاولة لفعل ( فهمد بعد نزقاته ) أراد به سكونه بعد و ثباته و ( لبد بعد زيفان و ثباته ) أى أقام بعد تبختره في طفراته ( فلما سكن هيج الماء من تحت أكنافها ) يعنى أطراف الأرض و جوانبها ( و حمل شواهق الجبال البذخ على اكتافها ) استعار عليه السّلام لفظ الاكتاف للأرض لكونها محلا لحمل ما يثقل من الجبال كما أنّ كتف الانسان و غيره من الحيوان محلّ ، لحمل الأثقال ( فجر ينابيع العيون ) لعله عليه السّلام اعتبر في الينبوع الجريان بالفعل فيكون من قبيل اضافة الخاص الى العام ، أو التكرير للمبالغة ، و إن كان الينبوع بمعنى الجدول الكثير الماء على ما مرّ فهو مستغن عن التكلّف و قوله : ( من عرانين انوفها ) من باب الاستعارة تشبيها للجبال بالانسان و لأعاليها و رؤوسها بعرنينه و أنفه ، و انما خصّ الجبال بتفجّر العيون فيها لأنّ العيون اكثر ما يتفجّر من الجبال و الأماكن المرتفعة و أثر القدرة فيها أظهر و نفعها أتمّ ( و فرقها ) أى الينابيع ( فى سهوب بيدها و أخاديدها ) المراد بالأخاديد مجارى الأنهار ( و عدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها ) قال المحدّث المجلسيّ « قد » لعلّ تعديل الحركات بالراسيات أى الجبال الثابتات جعلها عذيلا للحركات بحيث لا تغلبه أسباب الحركة فيستفاد سكونها فالباء صلة [ 13 ] لا سببية ، أو المعنى سوّى الحركات في الجهات أى جعل الميول متساوية بالجبال فسكنت لعدم المرجّح فالباء سببية ، و يحتمل أن يكون المراد أنه جعلها بالجبال بحيث قد تتحرّك بالزلازل و قد لا تتحرّك و لم يجعل الحركة غالبة على السّكون مع احتمال كونها دائما متحرّكة بحركة ضعيفة غير محسوسة ، و من ذهب الى استناد الحركة السريعة الى الأرض لا يحتاج إلى تكلّف و كيف كان فالمعنى أنه سبحانه عدل حركات الأرض بالجبال الثابته من صخورها و ب ( ذوات الشناخيب الشمّ من صياخيدها ) أى بصاحبات الرؤوس المرتفعة من صخورها الصلبة ( فسكنت ) الأرض ( من الميدان ) و الاضطراب ( برسوب الجبال فى قطع اديمها ) أى دخولها في قطعات وجه الأرض و أعماقها ( و تغلغلها متسربة في جوبات خياشيمها ) أى دخولها حالكونها نافذة فى حفرات انوف الأرض و فرجاتها ( و ركوبها أعناق سهول الأرضين و جراثيمها ) استعار لفظ الركوب للجبال و الأعناق للأرضين كناية عن الحاقهما بالقاهر و المقهور و ذكر السّهول ترشيح ، و لعلّ المراد بجراثيمها المواضع المرتفعة منها و مفاد هذه الفقرات أنّ الأرض كانت متحرّكة مضطربة قبل خلق الجبال فسكنت بها ، و ظاهره أنّ لنفوذ الجبال فى أعماق الأرض و ظهورها و ارتفاعها عن الأرض كليهما مدخلا في سكونها و قد مرّ الكلام فى ذلك في شرح الفصل الثالث من فصول الخطبة الاولى فتدكر ( و فسح بين الجوّ و بينها ) لعلّ في الكلام تقدير مضاف أى وسّع بين منتهى الجوّ و بينها ، أو المراد بالجوّ منتهاه إى السّطح المقعر للسماء ( و أعدّ الهواء متنسّما لساكنها ) أى جعل الهواء محلاّ لطلب النسيم و استنشاقه و فائدته ترويح القلب حتّى لا يتأذّى بغلبة الحرارة ( و أخرج اليها أهلها على تمام مرافقها ) و المراد به ايجادهم و إسكانهم فيها بعد تهيئة ما يصلحهم لمعاشهم و التزوّد لمعادهم ( ثمّ لم يدع ) سبحانه و تعالى ( جرز الأرض التي ) لا نبات بها و لا ماء من حيث إنها ( تقصر مياه العيون عن ) سقى ( روابيها ) و مرتفعاتها ( و لا تجدجد اول الأنهار ذريعة ) [ 14 ] و وسيلة ( الى بلوغها ) و الوصول إليها ( حتى أنشألها ناشئة سحاب تحيى مواتها ) من باب المجاز في الاسناد ( و ) كذلك ( تستخرج نباتها ) لأنّ المحيى و المخرج هو اللّه سبحانه و السحاب سبب قال اللّه تعالى : وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ في ذلِكَ لِآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ . و قال : وَ هُوَ الَّذي أَنْزَلَ مِنَ السَّمآءِ ماءً فَأَخْرَجنا بِه‏ نَباتَ كلِّ شَيْ‏ءٍ . ( الف ) تعالى ( غمامها ) الضمير راجع إلى الأرض كساير الضماير و الاضافة لأدنى ملابسة و المراد أنه سبحانه ركب السحاب المعدّة لسقيها ( بعد افتراق لمعه و تباين قزعه ) أى بعد ما كانت أجزائها اللاّمعة متفرّقة و قطعاتها متباينة متباعدة ( حتى اذا تمخضت لجّة المزن فيه ) الضمير راجع الى المزن أى حتى اذا تحرّكت اللجّة أى معظم الماء المستودع في الغيم و استعدّت للنّزول ( و التمع برقه في كففه ) أى أضاء البرق في جوانبه و حواشيه ( و لم ينم و ميضه ) أى لم ينقطع لمعان البرق ( في كنهور ربابه ) أى فى القطع العظيمة من سحابه البيض ( و متراكم سحابه ) أى المجتمع الذى ركب بعضه بعضا ( أرسله ) اللّه سبحانه ( سحّامتدار كا ) أى حالكونه يصبّ الماء صبّا متلاحقا ( قد أسفّ هيدبه ) و دنا من الأرض ما تدلّى منه حالكونه ( تمريه الجنوب درر أهاضيبه ) أى تستخرج منه الجنوب أمطاره المنصبّة ، و الجنوب ريح مهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريّا ، و هى أدرّ للمطر و لذا خصّها بالذكر و قوله عليه السّلام ( و دفع شآبيبه ) أراد به الدّفعات من المطر المنزلة بشدّة و قوّة ( فلما ألقت السحاب برك بوانيها ) استعار عليه السّلام لفظ البرك و البوان للسحاب و اسند إليه الالقاء تشبيها لها بالجمل الذى أثقله الحمل فرمى بصدره الأرض ، أو بالخيمة التي جرّ عمودها على اختلاف التفسرين المتقدّمين ( و بعاع ما استقلّت به من العب‏ء [ 15 ] المحمول عليها ) أى ثقل ما ارتفعت به من الحمل المحمول عليها يعنى المطر ( أخرج ) سبحانه ( به ) أى بذلك العب‏ء ( من هو امد الأرض ) التي لا حياة بها و لا عود ( النبات ) كما قال تعالى : وَ تَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجِ بَهيجٍ . ( و من زعر الجبال ) أى المواضع القليلة النّبات منها ( الأعشاب ) و الرّطب من الكلا ( فهى ) أى الأرض ( تبهج ) و تفرح ( بزينة رياضها ) و مستنقع مياهها ( و تزدهى ) و تفتخر ( بما البسته من ريط أزاهيرها ) أى بأشجار البست الأرض إيّاها لباس انوارها و على ما فى بعض النسخ من كون البسته بصيغة المجهول فالمعنى أنّ الأرض تفتخر بما اكتسبت به من النبات و الأزهار و الأنوار فيكون لفظة من على هذا بيانا لما كما أنها على الأوّل صلة لألبسته ، و الثانى أظهر ( و ) تتكبّر ب ( حلية ما سمّطت ) و علّقت ( به من ناضر أنوارها ) أى أنوارها المتصفة بالنضرة و الحسن و الطراوة ( و جعل ) اللّه سبحانه ( ذلك ) أى ما انبت من الأرض ( بلاغا للأنام ) يبتلغون به و يتوسلون إلى مقاصدهم و مطالبهم ( و رزقا للأنعام ) تأكل منه و ترعى عند جوعها و حاجتها قال تعالى : وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمآءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِه‏ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ . ( و خرق الفجاج فى آفاقها ) أى خلق الطرق على الهيئة المخصوصة بين الجبال فى نواحى الأرض و أطرافها قال سبحانه : الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فيها سُبُلاً لَعَلَكُمْ تَهْتَدُونَ و قال : أَللَّهُ الَّذي جَعلَ لكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً . [ 16 ] ( و أقام المنار للسالكين فى جواد طرقها ) و المراد بالمنار العلامات التي يهتدى بها السالكون من الجبال و التلال أو النجوم ، و الأول أظهر بملاحظة المقام و اعلم أنّ هذا الفصل لمّا كان متضمّنا لبعض ما في عالم العناصر من دلائل القدرة و بدائع الحكمة و عجائب الصنعة و ما أودع اللّه سبحانه فيه من المنافع العامة و الفوائد التّامة لا جرم أحببت تذييل المقام بهدايات فيها دراية على مقتضى الترتيب الذّكري الّذي جرى عليه هذا الفصل فأقول : و باللّه التكلان و هو المستعان الهداية الاولى فى دلايل القدرة في الأرض و المنافع المعدّة فيها للخلق و هى كثيرة لا تحصى لكنّا نقتصر على البعض بما ورد فى الكتاب و أفاده اولوا الألباب فمنها أنه سبحانه جعلها مدحوّة على الماء و بارزة منه مع اقتضاء طبعها الغوص فيه و إحاطة البحار بها ، و ذلك لحكمة الافتراش و أن يكون بساطا للنّاس كما قال تعالى : الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّمآءِ بَناءً و قال : الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً و قال : الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً . فلو كانت غائصة فى الماء لبطل تلك الحكمة فأخرج سبحانه بعض جوانبها من المآء كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشا و مهادا و منها كونها ساكنة فى حيزها الطبيعى و هو وسط الأفلاك لأنّ الأثقال بالطبع تميل إلى تحت كما أنّ الخفاف بالطبع تميل إلى فوق ، و الفوق من جميع الجوانب مايلي السماء و التحت مايلي المركز ، فكما أنه يستبعد حركة الارض فيما بيننا إلى جهة السماء فكذلك يستبعد هبوطها في مقابلة ذلك لأنّ ذلك الهبوط صعود أيضا إلى السماء فاذن لاحاجة فى سكون الأرض و قرارها إلى علاقة من فوقها [ 17 ] و لا دعامة من تحتها ، بل يكفي في ذلك ما أعطاها فالقها ، و ركز فيها من الميل الطبيعى إلى الوسط الحقيقى بقدرته إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ . و منها توسّطها فى الصلابة و اللّين : هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا في مَناكِبِها . اذ لو كانت في غاية الصلابة كالحجر لكان المشى و النوم عليها ممّا يولم البدن و لتعذرت الزراعة عليها و لا متنع إجراء الأنهار و حفر الآبار فيها و لم يمكن اتخاذ الأبنية و الآنية منها لتعذّر تركيبها ، و لو كانت فى غاية اللين بحيث تغوص فيه الرّجل كالماء لا متنع الاستقرار و الافتراش و النوم و المشى و استحال الزرع و الحرث و منها أنه جعل لونها الغبراء لتكون قابلة للانارة و الضياء إذ ما كان فى غاية اللّطافة و الشفّافية لا يستقرّ النور عليه ، و ما كان كذلك فانه لا يتسخّن بالشمس فكان يبرد جدّا و لا يمكن جواره ، هكذا قال الرازى و صدر المتألهين . و الأولى ما فى شرح البحرانى « قد » من أنها لو كانت مخلوقة في غاية الشفافية و اللطافة فامّا أن تكون مع ذلك جسما سيّالا كالهواء لم يتمكن من الاستقرار عليه ، أو يكون جسما ثابتا صقيلا براقا احترق الحيوان و ما عليها بسبب انعكاس أشعة الشمس عليها كما يحرق القطن إذا قرب من المرايا المحاذية للشّمس و البلور ، لكنها خلقها غبراء ليستقرّ النّور على وجهها فيحصل فيها نوع من السخونة ، و خلقها كثيفة لئلاّ تنعكس الأشعة منها على ما فيها فتحرقه ، فصارت معتدلة في الحرّ و البرد تصلح أن تكون فراشا و مسكنا للحيوان و منها كونها يتولّد منها النبات و الحيوان و المعادن وَ أَنْبَتْنا فيها مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْزُونٍ . [ 18 ] و منها أن يتخمّر الرّطب بهافيحصل التماسك في أبدان المركبات و منها اختلاف بقاعها فمنها أرض رخوة و صلبة و رملة و سبخة و عذبة و حزنة و سهلة ، و قال تعالى وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ . و منها اختلاف ألوانها فأحمر و أبيض و أسود و رمادي اللّون و أغبر ، قال سبحانه وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابيبُ سُودٌ و منها انصداعها بالنبات وَ الْأَرْضِ ذات الصَّدْعِ و منها كونها خازنة للماء المنزّل من السماء فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكنّاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنّا عَلى‏ ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ . و منها إجراء العيون و الأنهار فيها أَنْزَلَ مِنَ السَّمآءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابيعَ فِي الْأَرْضِ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً . و منها أنّ لها طبع السماحة و الجود تدفع إليها حبّة واحدة و هي تردّها عليك سبعمأة كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِأَةُ حَبَّةٍ . و منها موتها في الشّتآء و حياتها فى الرّبيع فَسُقْناهُ إِلى‏ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ . [ 19 ] و منها انبثات الدّواب المختلفة فيها وَ بَثَّ فيها مِنْ كُلِّ دآبَّةٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشي عَلي بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشى‏ عَلى رِجْلَينِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَديرٌ . و منها كونها مبدء الخلايق و منشأها مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فيها نُعيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى‏ . و جعل ظهرها مقرّ الأحيا و بطنها موطن الأموات أَلَمْ نَجْعَل الْأَرْضَ كِفاتاً أَحيآءً وَ أَمْواتاً . و منها ما فيها من النباتات المختلفة الألوان و الأنواع و المنافع وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهيجٍ . فبعضها للانسان و بعضها للحيوان كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ . و ما للانسان بعضها طعام و بعضها إدام و بعضها فواكه و بعضها دواء و بعضها لباس كالقطن و الكتان و منها ما فيها من الأحجار المختلفة ، فبعضها للزينة كالدّرّ و الياقوت و العقيق و نحوها ، و بعضها للحاجة كما تستخرج منه النّار ، فانظر الى قلّة الأوّل و كثرة الثاني ، ثمّ انظر إلى قلّة المنفعة بذلك الخطير و كثرة المنفعة بذلك الحقير إلى غير ذلك من آثار القدرة و دلائل الصنع و العظمة و العجائب و الغرائب التى يعجز عن إدراك معشارها عقول البشر ، و يحتار فى البلوغ إليها الأذهان و الفكر الثانية في انفجار الينابيع و العيون من الأرض المشار إليه بقوله عليه السّلام : فجر [ 20 ] ينابيع الأرض من عرانين انوفها ، فأقول : ظاهر قوله سبحانه : أَلَمْ أَتَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمآءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرجُ بِه‏ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ و قوله : أَفَرَ أَيْتُمُ الْمآءَ الَّذي تَشْرَبُونَ ءَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ . هو كون ماء العيون و الأنهار هو الماء المنزل من السحاب ، و به صرّح جمع من الأصحاب فى باب طهورية الماء بقول مطلق بعد الاستدلال عليها بقوله سبحانه : وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّمآءِ مآءً طَهُوراً . و يدلّ عليه ما رواه علىّ بن إبراهيم فى تفسيره قال فى رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى : وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّمآءِ مآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ . فهي الأنهار و العيون و الآبار ، و محصّل ذلك أنّ القادر المختار أنزل بقدرته الكاملة و حكمته البالغة من السّماء ماء فأسكنه فى الأرض و أخرج منه فى العيون و الآبار و القنى و الأنهار ما اقتضاه الحكمة و التدبير فى بقاء نوع الانسان و الحيوان و إصلاح النّباتات و الزراعات و غير ذلك من وجوه الحاجات ، و إليه ذهب أبو البركات البغدادى حيث قال : إنّ هذه المياه متولّدة من أجزاء مائية متولّدة من أجزاء متفرّقة في ثقب أعماق الأرض و منافذها إذا اجتمعت ، و يدلّ عليه أنّ مياه العيون و الأنهار تزيد بزيادة الثلوج و الأمطار و قالت الحكماء : إنّ البخار إذا احتبس في داخل من الأرض لما فيها من ثقب و فرج يميل إلى جهة فيبرد بها فينقلب مياها مختلطة بأجزاء بخارية ، فاذا كثر لوصول مدد متدافع إليه بحيث لا تسعه الأرض أوجب انشقاق الأرض و انفجرت منه العيون . [ 21 ] أمّا الجارية على الولاء فهى إما لدفع تاليها سابقها أولا نجذابه إليه لضرورة عدم الخلاء بأن يكون البخار الذي انقلب ماء و فاض إلى وجه الأرض ينجذب إلى مكانه ما يقوم مقامه لئلاّ يكون خلاء فينقلب هو أيضا ماء و يفيض ، و هكذا استتبع كلّ جزء منه جزء آخر و أما العيون الرّاكدة فهي حادثة من أبخرة لم تبلغ من قوّتها و كثرة موادّها أن يحصل منها معاونة شديدة أو يدفع اللاّحق السابق و أما مياه القنى و الآبار فهى متولّدة من أبخرة ناقصة القوّة عن أن يشقّ الأرض ، فاذا ازيل ثقل الأرض عن وجهها صادفت منفذا تندفع إليه بأدنى حركة فان لم يجعل هناك مسيل فهو البئر ، و إن جعل فهو القناة ، و نسبة القنا إلى الآبار كنسبة العيون السيالة إلى الراكدة ، و إنما كثر تفجّر العيون فى الجبال و الأماكن المرتفعة لشدّة احتقان الأبخرة تحتها بالنسبة إلى ساير الأماكن الهابطة الرّخوة ، فانّ الأرض إذا كانت رخوة نفضت « نفذت خ ل » فلا يكاد يجتمع منه قدر ما يعتدّ به و قال الشيخ : هذه الأبخرة إذا انبعث عيونا أمدّت البحار بصبّ الأنهار إليها ثمّ ارتفع من البحار و البطايح و الأنهار و بطون الجبال خاصة أبخرة اخرى ، ثمّ قطرت ثانيا إليها فقامت بدل ما يتحلّل منها على الدّور دائما الثالثة في حكمة خلق الهواء المشار إليها بقوله : و أعدّا لهواء متنسما لساكنها ، فأقول : فيه نفع عظيم للانسان و الحيوان ، لأنّه من ضروريّات العيش لأنها مادّة النفس الذى لو انقطع ساعة عن الحيوان لمات ، و قيل هنا : إنّ كلّ ما كانت الحاجة إليه أشدّ كان وجدانه أسهل و لمّا كان احتياج الانسان إلى الهواء أعظم الحاجات حتّى لو انقطع عنه لحظة لمات لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كلّ شي‏ء ، و بعد الهواء الماء ، فانّ الحاجة إليه أيضا شديدة فلا جرم سهل أيضا وجدان الماء ، و لكن وجدان الهواء أسهل لأنّ المآء لا بدّ فيه من تكلّف الاغتراف بخلاف الهواء [ 22 ] فانّ الآلات المهيّاة لجذبه حاضرة أبدا ثمّ بعد الماء الحاجة إلى الطعام شديدة و لكن دون الحاجة إلى الماء فلا جرم كان تحصيل الطعام أصعب من تحصيل الماء و بعد الطعام الحاجة إلى تحصيل المعاجين و الادوية النّادرة قليلة فلا جرم عزّت هذه الأشياء ، و بعد المعاجين الحاجة إلى أنواع الجواهر من الياقوت و الزبرجد نادرة جدّا فلا جرم كانت فى نهاية العزّة ، فثبت أنّ كلّ ما كان الاحتياج إليه أشدّ كان وجدانه أسهل و كلّ ما كان الحاجة إليه أقلّ كان وجدانه أصعب ، و ما ذاك إلاّ رحمة منه سبحانه على العباد قال الشاعر : سبحان من خصّ القليل بعزّة و النّاس مستغنون عن أجناسه و أذّل أنفاس الهواء و كلّ ذى نفس لمحتاج الى انفاسه الرابعة في دلايل القدرة و براهين الجلال و الجبروت في خلق السّحاب و المطر و البرد و الثلج و الرّعد و البرق و الصواعق قال تعالى : هُوَ الَّذي يُريكُمُ البَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِى‏ءُ السَّحابَ الثِّقالَ وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مَنْ خيفَتِه‏ وَ يُرْسِلُ الصّواعِقَ فَيُصيبُ بها مَنْ يَشآء وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِى اللَّهِ وَ هُوَ شَديدُ الْمِحالِ . قال الرازيّ : في كونها خوفا و طمعا وجوه الاول عند لمعان البرق يخاف وقوع الصّواعق و يطمع في نزول الغيث الثانى أنه يخاف من المطر من له فيه ضرر كالمسافر و كمن في خزينته التمر و الزبيب و يطمع فيه من له نفع الثالث أنّ كلّ شي‏ء يحصل فى الدنيا فهو خير بالنسبة إلى قوم و شرّ بالنسبة إلى آخر فكذلك المطر خير في حقّ من يحتاج في أوانه و شرّ في حقّ من يضرّه ذلك إما بحسب المكان أو بحسب الزّمان ثمّ اعلم أنّ حدوث البرق دليل عجيب على قدرة اللّه سبحانه و بيانه أنّ السحاب [ 23 ] لا شك أنه جسم مركب من أجزاء مائية و أجزاء هوائية « نارية ظ » و لا شكّ أنّ الغالب عليه الاجزاء المائية و الماء جسم بارد رطب و النّار جسم حارّ يابس ، فظهور الضّد من الضدّ التام على خلاف العقل فلا بدّ من صانع مختار يظهر الضدّ من الضدّ فان قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنّ الرّيح احتقن في داخل جرم السحاب و استولى البرد على ظاهره فانجمد السطح الظاهر منه ، ثمّ إنّ ذلك الرّيح يمزقه تمزيقا عنيفا فيتولّد من ذلك التمزيق الشّديد حركة عنيفة و الحركة العنيفة موجبة للسخونة و هي البرق فالجواب أنّ كلّ ما ذكرتموه خلاف المعقول من وجوه : الأوّل أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال أينما حصل البرق فلا بدّ و أن يحصل الرعد و هو الصوت الحاصل من تمزّق السحاب و معلوم أنه ليس الأمر كذلك فانه كثيرا ما يحدث البرق القوى من غير حدوث الرعد الثّانى أنّ السخونة الحاصلة بسبب قوّة الحركة مقابلة بالطبيعة المائية الموجبة للبرد ، و عند حصول هذا المعارض القوى كيف تحدث النّارية بل نقول : النيران العظيمة ينتفى لصبّ الماء عليها و السّحاب كلّه ماء فكيف يمكن أن يحدث فيه شعلة ضعيفة نارية الثالث من مذهبكم أنّ النار الصرفة لا لون لها البتة فهب أنه حصلت النارية بسبب قوّة المحاكة الحاصلة في أجزاء السحاب ، لكن من أين حدث ذلك اللّون الأحمر ، فثبت أنّ السبب الذي ذكروه ضعيف و أنّ حدوث النّار الحاصلة فى جرم السحاب مع كونه ماء خالصا لا يمكن إلاّ بقدرة القادر الحكيم و قال في قوله : و ينشى‏ء السحاب الثقال : السحاب اسم الجنس و الواحدة سحابة ، و الثقال جمع ثقيلة أى الثقال بالماء و اعلم أنّ هذا أيضا من دلائل القدرة و العظمة ، و ذلك لأنّ هذه الأجزاء المائية إمّا يقال إنّها حدثت في جوّ الهواء أو يقال إنها تصاعدت من وجه الأرض فان كان الأول وجب أن يكون حدوثها باحداث محدث حكيم قادر و هو المطلوب [ 24 ] و إن كان الثانى و هو أن يقال إنّ تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض فلمّا وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت فثقلت و رجعت إلى الأرض فنقول : هذا باطل ، و ذلك لأنّ الأمطار مختلفة ، فتارة تكون القطرات كبيرة ، و تارة صغيرة ، و تارة تكون متقاربة ، و اخرى تكون متباعدة ، و تارة تدوم مدّة نزول المطر زمانا طويلا ، و تارة قليلا ، فاختلاف الأمطار في هذه الصفات مع أنّ طبيعة الأرض واحدة و طبيعة الأشعّة المسخنة للبخارات واحدة لا بدّ و أن يكون بتخصيص الفاعل المختار و أيضا فالتجربة دلّت على أنّ للدّعاء و التضرّع في نزول الغيث أثرا عظيما و لذلك شرعت صلاة الاستسقاء فعلمنا أنّ المؤثّر فيه قدرة الفاعل لا الطبيعة الخاصة و في الصافي في قوله : وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ، روى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه سئل عن الرعد فقال : ملك موكّل بالسحاب معه مخاريق من النّار يسوق بها السحاب و فى الفقيه روى أنّ الرّعد صوت ملك أكبر من الذباب و أصغر من الزنبور و فيه عن الصادق عليه السّلام أنّه بمنزلة الرجل يكون فى الابل فيزجرها هاى هاى كهيئة ذلك و قوله وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خيفَتِهِ من خوفه و اجلاله وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصيبُ بِهِ مَنْ يَشآءُ من عباده فيهلكه وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِى اللَّهِ . حيث يكذبون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما يصفه تعالى من التفرّد بالالوهيّة وَ هُوَ شَديدُ الْمِحالِ . أى المماحلة و المكايدة لأعدائه و قيل : من المحل أى شديد القوّة و قال عليّ بن إبراهيم القمّي أى شديد الغضب هذا و قال الرّازي في تفسير قوله سبحانه : أَ لَمْ تَرَ أنَ اللَّهَ يُزْجي سَحاباً ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرى الْوَدْقَ يَخْرُجُ [ 25 ] مِنْ خِلالِه‏ : قال أهل الطبايع : إنّ تكوّن السحاب و المطر و الثلج و البرد و الطلّ و الصقيع فى أكثر الأمر يكون من تكاثف البخار ، و فى الأقلّ من تكاثف الهواء ، أمّا الأول فالبخار الصّاعد أن كان قليلا و كان في الهواء ، من الحرارة ما يحلّل ذلك البخار فحينئذ ينحلّ و ينقلب هواء ، و أمّا إن كان البخار كثيرا و لم يكن فى الهواء من الحرارة ما يحلّله فتلك الأبخرة المتصاعدة إمّا أن يبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أولا تبلغ ، فان بلغت فامّا أن يكون البرد قويّا أو لا يكون ، فان لم يكن البرد هناك قويا تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد و اجتمع و تقاطر فالبخار المجتمع هو السحاب ، و المتقاطر هو المطر و الديمة ، و الوابل إنما يكون من أمثال هذه الغيوم و أمّا إن كان البرد شديدا فلا يخلو إمّا أن يصل البرد إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها و انحلالها حبّات كبارا ، أو بعد صيرورتها كذلك ، فان كان على الوجه الأوّل نزل ثلجا ، و إن كان على الوجه الثانى نزل بردا و أمّا إذا لم تبلغ الأبخرة إلى الطبقة فهي إمّا أن تكون قليلة أو تكون كثيرة ، فان كانت كثيرة فهي تنعقد سحابا ماطرا و قد لا تنعقد ، أمّا الأوّل فذاك لأحد أسباب خمسة أولها إذا منع هبوب الرّياح عن تصاعد تلك الأبخرة و ثانيها أن تكون الرّياح ضاغطة لها إلى اجتماع بسبب وقوف جبال قدام الرّيح و ثالثها أن تكون هناك رياح متقابلة متضادّة فتمتنع صعود الأبخرة حينئذ و رابعها أن يعرض للجزء المتقدم وقوف لثقله و بطوء حركته ثمّ تلتصق به سائر الأجزاء الكثيرة المدد و خامسها لشدّة برد الهواء القريب من الأرض فقد يشاهد البخار يصعد في بعض الجبال صعودا يسيرا حتى كأنّه مكبة موضوعة على و هدة و يكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة و الذين يكونون تحت الغمامة يمطرون و الذين يكونون فوقها يكونون في الشمس أمّا إذا كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة فاذا ضربها برد الليل [ 26 ] كثفها و عقدها ماء يكون محسوسا و نزل نزولا متفرّقا لا يحسّ به إلاّ عند اجتماع شي‏ء يعتدّ به ، فان لم يجمد كان طلاّ ، و إن جمد كان صقيعا و نسبة الصقيع إلى الطلّ نسبة الثلج إلى المطر و امّا أن تكون السحاب من انقباض الهواء و ذلك عند ما يبرد الهواء و ينقبض و حينئذ تحصل منه الأقسام المذكورة و الجواب انّا لما دللنا على حدوث الأجسام و توسّلنا بذلك إلى كونه قادرا مختارا يمكنه ايجاد الاجسام لم يمكنا القطع بما ذكرتموه ، لاحتمال أنّه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الذى ذكرتموه ، و أيضا فهب أنّ الأمر كما ذكرتم و لكن الأجسام بالاتفاق ممكنة في ذواتها فلا بدّ لها من مؤثر ، ثمّ إنّها متماثلة فاختصاص كلّ واحد منها بصفة معينّة من الصعود و الهبوط و اللّطافة و الكثافة و الحرارة و البرودة لا بدّ له من مخصّص ، فاذا كان هو سبحانه خالقا لتلك الطبايع و تلك الطبايع مؤثّرة في هذه الأحوال و خالق السّبب و خالق المسبّب فكان سبحانه : هو الذي يزجى سحابا ، لأنّه هو الذي خلق تلك الطبايع المحركة لتلك الأبخرة من باطن الأرض إلى جوّ الهواء ، ثمّ إنّ تلك الأبخرة إذا ترادفت في صعودها و التصق بعضها بالبعض فهو سبحانه هو الذي : جعلها ركاما ، فثبت على جميع التقريرات أنّ وجه الاستدلال بهذه الأشياء على القدرة و الحكمة ظاهر بيّن انتهى و تحقيق المقام هو ما ذكره بما لا مزيد عليه و أقول : دلائل القدرة في خلق السحاب مضافا إلى ما ذكره هو أنّ الماء بطبعه ثقيل يقتضي النزول فبقاؤه في الجوّ خلاف الطبع ، و لذلك إذا انفصل منه قطرة نزلت دفعة فلا بدّ من قادر قاهر يمسكه في الجوّ على ثقله بقهره و قدرته و أيضا ، لو دام السحاب لعظم ضرره حيث يسترضوء الشمس و تكثر الأمطار و تبتلّ المركبات فتفسد ، و لو انقطع لعظم ضرره لافضائه الى القحط فيهلك المواشى و الانسان ، فكان تقديره بالمقدار المعلوم مقتضى الحكمة و المصلحة [ 27 ] و أيضا ترى السّحاب يرشي الماء على الأرض و يرسله قطرات متفاضلة لا يدرك قطرة منها قطرة و لا يعلم عددها إلاّ الذي أوجدها ، ثمّ إنّ كلّ قطرة منها عيّنت لجزء من الأرض و لحيوان معيّن فيها من طيرو وحش و دود مكتوب عليها بخطّ غيبيّ غير محسوس أنه رزق الحيوان الفلاني في الموضع الفلاني في الوقت الفلاني هذا ، مع ما في انعقاد البرد الصّلب من الماء اللّطيف و فى تناثر الثلوج كالقطن المندوف من العجائب التي لا تحصى ، كلّ ذلك عناية من اللّه سبحانه و رحمة منه على العباد ، و فيها هداية لمن استهدى و دراية لمن ابتغى الرشاد الخامسة في دلايل القدرة و العظمة في إنبات النبات و الأشجار قال سبحانه : وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّمآءِ مآءً فَأَنْبَتْنا فيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَريمٍ و قال وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّمآءِ مآءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِه‏ جَناتٍ وَ حَبَّ الْحَصيدِ ، وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضيدٌ ، رِزْقاً لِلْعِبادِ وَ أَحْيَيْنا بِه‏ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ . و دلايل القدرة في ذلك من وجوه : الأوّل أنّ الماء ثقيل بطبعه كما قلنا سابقا إنّه إذا انفصل قطرة منه من المزن تنزل إلى الأرض و لا تبقى في الجوّ بمقتضى طبعه فانظر الى قدرته تعالى كيف رقا الماء المصبوب في أسفل الأشجار مع هذا الطبع و الثقل إلى أعالى أغصانها ، فهوى الى سفل ثمّ ارتفع إلى فوق فى داخل تجاويف الأشجار شيئا فشيئا بحيث ينتشر فى جميع الأوراق فغذاء كلّ جزء من كلّ ورقة تجرى إليه في تجاويف العروق ، ففى كلّ ورقة عرق ممتد طولا و ينشعب منه عروق صغار كثيرة عرضا و طولا ، فكان الكبير نهل و ما انشعب عنها جداول ، ثمّ ينشعب من الجداول سواقي أصغر منها ثمّ ينتشر منها [ 28 ] خيوط عنكبوت دقيقة خارجة عن ادراك البصر حتى تنبسط فى جميع عرض الورق فيصل الماء فى أجوافها إلى ساير أجزاء الورق لتسقيها و تغذيها بمنزلة العروق المبثوثة في بدن الانسان و الحيوان لتوصل الغذاء إلى كلّ جزء منه و كذلك إلى ساير أجزاء الفواكه ، فانّ الماء المتحرّك بطبعه إلى سفل كيف انجذب الى فوق من غير حامل أو قاسر ، فعلم أنّ له جاذبا آخر و مجرّكا خارجا عن الحسّ ليسخّره و يدبّره و ينتهى بالأخرة إلى مدبّر السماوات و الأرض جلّت عظمته و تعالى شأنه . الثاني أنّ أصناف النبات و الأشجار لما كانت محتاجة إلى الغذاء الدائم في بقاء نضرته و طراوته كحاجة الحيوان إلى الغذاء و لم يكن لها أفواه كأفواه الحيوان جعل لها أصول مركوزة في الأرض لتنزع منها الغذا فتؤدّيه اليها فصارت الأرض كالأمّ المرّبية و صارت اصولها كالأفواه الملتقمة للأرض ، و أيضا لو لا تلك الأصول لما انتصب تلك الأشجار الطّوال العظام و لم يكن لها ثبات و دوام في الريح العاصف ، فهي لها بمنزلة عمد الفساطيط و الخيم تمدّ بالأطناب من كلّ جانب لتثبت منتصبة فلا تسقط و لا تميل ، ثمّ انظر إلى هذه العروق الصغار المنشعبة من الأصول المركوزة و أنها على دقّتها و ضعفها كيف تجرى فى أعماق الأرض و تسير فيها على صلبها عرضا و طولا الثالث إخراج أنواع مختلفه من النّبات و أصناف متشتّة من الأشجار من حبّ و عنب و قضب و زيتون و نخل و رمّان و فواكه كثيرة مختلفة الأشكال و الألوان و الطعوم و الروايح يفضل بعضها على بعض في الاكل مع أنّها جميعا يسقى بماء واحد و يخرج من أرض واحدة فان قلت : سبب اختلافها بذورها و حبوبها قلنا : هل يكفى ذلك في ترتّب هذه الآثار ؟ فانّ الحبوب على اختلافها متشابهة فى الصورة و الجوهر فكيف يصير بهذا الاختلاف موجبة لهذه الأنواع المتباعدة المتباينة في الصور الجوهرية و الكيفيّات و الخاصيّة ، فهل كان في النواة نخلة مطوّقة بعنا قيد الرطب ؟ [ 29 ] سلّمنا أنّ اختلافها من المرجّحات لكن نسوق الكلام إلى موجد هذه الاختلافات و فاعلها ، فانظر إلى اختلاف طبايع النبات و خواصها و منافعها فهذا يغذي و هذا يقوي ، و هذا يقتل و هذا يحيي و هذا داء و هذا دواء و هذا يسخّن و هذا يبرّد ، و هذا يسهل الصّفرا و هذا يولد السّوداء ، و هذا يقمع البلغم و هذا يولده ، و هذا يستحيل دما و هذا يطفيه ، و هذا يسكر و هذا ينوم ، و هذا يفرّح و هذا يضعف ، إلى غير هذا ممّا لو أردنا استقصاء العجايب المودعة فيها انقضت الأيام و مع ذلك فالحكم الباطنة و المصالح الكامنة فيها أكثر جدّا مما وصلت اليه عقولنا القاصرة ، فهذه هي دلائل القدرة و علامات العظمة و آثار الصنع و الحكمة في الأشياء المذكورة نبّهنا عليها على وجه الاختصار إذ الاستقصاء فيها خارج عن الطّوع و الاختيار ، فسبحان من أقام الحجّة على مخلوقاته بما أراهم من بدايع آياته و جعلها تذكرة لاولى الألباب ، و هو أعلم بالصواب الترجمة بعض ديگر از اين خطبه در صفت زمين و گسترانيدن او است بر روى آب ميفرمايد : فرو برد حضرت بارى تعالى زمين را بر بالاى موجهاى با شدّت و صولت و بر روى لجّه‏هاى درياهاى پر شدّت بر آمده در حالتيكه ميزدند موجهاى با شدّت آنها بعضى بعضى را و ردّ ميكردند يكديگر را دفع كننده‏هاى موجهاى بزرگ و بلند آنها ، و ميانداختند كف را مانند شتران نر در وقت هيجان آنها ، پس فروتنى نمود سركشى آب موج زننده و ردّ كننده يكديگر بجهة سنگينى باران زمين و ساكن گرديد هيجان مدافعه آن وقتيكه در نور ديد زمين آن آب را بسينه خود ، و خوار شد آب در حالتيكه خاضع و فروتن بود وقتيكه غلطيد زمين بر او بدوشهاى خود مانند غلطيدن حيوان در خاك پس گرديد آب بعد از اضطراب و شدّة موجهاى او ساكن و ذليل و در حلقه [ 30 ] آهنين لجام ذلت گردن نهاده و گرفتار ، و ساكن شد زمين در حالتيكه گسترانيده شده بود در ميان موج عميق آن آب ، و باز گردانيد آبرا از نخوت فخر و بلندى آن و از پر بادى دماغ آن و بلندى از اندازه گذشتن آن ، و ببست آبرا بر پرى روان شدن آن ، پس ساكن شد آب بعد از سبكى و جهيدنهاى خود ، و ايستاد بعد از تبختر كردن در جستنهاى خود ، پس چون ساكن گرديد هيجان آب از زير أطراف زمين و بار فرمود حقتعالى كوههاى بلند بالا را بر دوشهاى زمين ، روان گردانيد چشمهاى آبرا از بالاى بينيهاى زمين ، و پراكنده ساخت آن چشمها را در بيابانهاى گشاده آن و مجارى نهرهاى آن ، و تعديل فرمود حركتهاى زمين را بكوههاى ثابت شونده از سنگهاى آن ، و بكوههائى كه صاحب سرهاى بلندند از سختيهاى سنگهاى آن پس ساكن شد زمين از اضطراب بجهة فرو رفتن كوهها در قطعهاى سطح آن ، و بسبب در آمدن كوهها در عمق زمين در حالتيكه در آمده‏اند در خانهاى اندرون بينيهاى زمين بواسطه سوار شدن كوهها بر گردنهاى زمينهاى هموار و بر بلنديهاى آن ، و فراخ كرد حقتعالى ميان هوا و ميان زمين را و مهيّا فرمود هوا را محل تنفس كشيدن از براى ساكنين آن ، و بيرون آورد بسوى زمين اهل آنرا بر تماميت منافع و مصالح آن پس از آن ترك نكرد زمين بى‏گياه را كه قاصر باشد آبهاى چشمه‏ها از سيراب نمودن بلنديهاى آن زمين ، و نمى‏يابد رودخانه‏ها وسيله رسيدن بدان زمين ، تا اين كه ايجاد فرمود أز براى آن أبرى ظاهر شده كه زنده ميكند مردهاى آنرا و بيرون مى‏آورد گياه آنرا ، جمع و تركيب فرمود ابرهاى سفيد آنرا بعد از تفرّق قطعهاى درخشان آن ابر و مباينت پارهاى آن تا اينكه چون متحرّك شد معظم ابرهاى سفيد در آن ابر ، و درخشان گشت برق آن در جوانب و اطراف آن ، و خواب نكرد يعنى ساكن نشد لمعان آن در [ 31 ] ميان پارهاى ابر سفيد آن ، و ميان متراكم ابر كشيده آن فرستاد حقتعالى آن ابر را در حالتيكه ريزاننده آبست و دريابنده بعضى بعضى را بتحقيق كه نزديكشد بزمين ابريكه بواسطه ثقل مايل است بزمين كه بيرون مى‏آورد باد جنوب از ابر بارانهاى بهم ريخته او را ، و دفعه دفعه‏هاى بارانهاى با شدّت او را پس چون افكند ابر سينه كه قريب باضلاع او است چون شتر گران بار كه سينه خود بر زمين نهد ، و انداخت گرانى چيزى را كه بلند شده بود با او از باد گرانى كه بار شده بود بر آن ، بيرون آورد بآن آب از موضع بى‏گياه زمين گياه روئيده را و از كوههاى كم گياه گياههاى تر و تازه را . پس آن زمين بهجت مينمايد بزينت مرغزارهاى خود ، و تفاخر ميكند بآنچه كه پوشانيده شده باو از چادرهاى شكوفهاى نور دهنده خوش شكل خوش بوى خود ، و تكبر مينمايد بزيور آنچه كه معلّق شده بآن از شكوفهاى با نضرت و طراوت آن ، و گردانيده است حق سبحانه و تعالى آنرا كه بيرون آورده از زمين مايه وصول عالميان بمقصود خودشان ، و روزى از براى چهارپايان ، و شكافت حضرت بارى راههاى گشاده را در اطراف زمين ، و بر پا نمود نشانه‏ها از براى سالكين بر ميانهاى راههاى زمين الفصل السابع فلمّا مهّد أرضه ، و أنفذ أمره ، اختار آدم عليه السّلام خيرة من خلقه ، و جعله أوّل جبّلته ، و أسكنه جنّته ، و أرغد فيها أكله ، و أوعز إليه فيما نهاه عنه ، و أعلمه أنّ فى الإقدام عليه التّعرّض لمعصيته ، و المخاطرة بمنزلته ، فأقدم على ما نهاه عنه موافاة لسابق علمه ، فأهبطه بعد التّوبة ليعمر أرضه بنسله ، و ليقيم الحجّة به على عباده ، و لم يخلهم [ 32 ] بعد أن قبضه ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته ، و يصل بينهم و بين معرفته ، بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه ، و متحمّلي و دآئع رسالاته ، قرنا فقرنا ، حتّى تمّت بنبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حجّته ، و بلغ المقطع عذره و نذره ، و قدّر الأرزاق ، فكثّرها و قلّلها ، و قسّمها على الضّيق و السّعة ، فعدل فيها ، ليبتلي من أراد بميسورها و معسورها ، و ليختبر بذلك الشّكر و الصّبر من غنيّها و فقيرها ، ثمّ قرن بسعتها عقابيل فاقتها ، و بسلامتها طوارق آفاتها ، و بفرج أفراجها غصص أتراحها ، و خلق الآجال ، فأطالها و قصّرها ، و قدّمها و أخّرها ، و وصل بالموت أسبابها ، و جعله خالجا لأشطانها ، و قاطعا لمرائر أقرانها . اللغة ( الخيرة ) على وزن العنبة المختار ، و قد يسكن الياء و في القاموس خار الرجل على غيره خيرة و خيرا و خيرة ، فضّله على غيره كخيرة ، و في شرح المعتزلي الخيرة اسم من اختاره اللّه يقال : محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خيرة اللّه و ( الجبلّة ) بكسر الجيم و الباء و تشديد اللاّم الخلقة و الطبيعة و قيل في قوله تعالى : خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلينَ . أى ذوي الجبلّة ، و يحتمل أن يكون من قبيل الخلق بمعنى المخلوق ، و قيل الجبلّة الجماعة من الناس و ( الاكل ) بضمّتين الرزق و الحظّ قال تعالى : أَكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها . [ 33 ] و ( أوعزت ) الى فلان فى فعل أو ترك أى تقدّمت و امرت و ( خاطر ) بنفسه و ماله أشفاهما على خطر و ألقاهما في المهلكة قال في المغرب : ( تعهد ) الصيغة و تعاهدها أتاها و أصلحها و حقيقته جدّد العهد بها و ( القرن ) أهل كلّ زمان مأخوذ من الاقتران فكأنّه المقدار الذى يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم و أحوالهم فقيل : أربعون سنة و قيل ثمانون سنة و قيل : مأة و ( مقطع ) الشي‏ء منتهاه كأنه قطع من هناك و ( العذر و النذر ) إما مصدران بمعنى الاعذار و الانذار أو ما بيّن للمكلّفين من الأعذار في عقوبته لهم إن عصوه ، و ما أنذرهم به من الحوادث و قوله : ( فعدل ) بالتخفيف و في بعض النسخ بالتشديد و ( الميسور و المعسور ) مصدران بمعنى اليسر و العسر كالمفتون بمعنى الفتنة ، و يمتنع عند سيبويه مجي‏ء المصدر على وزن مفعول قال : الميسور الزمان الذى يوسرفيه و ( العقابيل ) جمع عقبول و عقبولة و هي قروح صغار تخرج غبّ الحمى بالشفة و ( الفرج ) جمع فرجة و هي التفصّى من الهمّ و ( الغصص ) جمع غصّة و هى ما اعترض في الحلق و ( الاتراح ) جمع الترح محركة كأسباب و سبب الهمّ و الهلاك و الانقطاع و ( خلجه ) يخلجه من باب نصر جذبه و ( الأشطان ) جمع الشطن بالتحريك و هو الحبل أو الطويل منه و ( المرائر ) جمع مرير و مريرة و هي الحبال المفتولة على اكثر من طاق و قيل : الحبال الشّديدة الفتل و قيل : الطوال الدّقاق منها و ( الأقران ) جمع قرن بالتحريك و هو حبل يجمع به البعيران . الاعراب قوله : خيرة منصوب إمّا على المصدر أو على كونه اسما منه كما حكيناه عن القاموس و عن شرح المعتزلي ، فيكون المعنى اختاره اختيارا أى فضّله تفضيلا و اختاره خيارا ، و انتصاب اسم المصدر بالفعل أيضا غير عزيز يقال : توضّأ وضوء و تطيّر طيرة و افتدى فدية ، و على كونه بمعنى المختار فهو منصوب على الحال ، و موافاة منصوب على الحدث بحذف العامل أى فوا فى المعصية موافاة و طابق بها سابق العلم مطابقة ، و لا يجوز جعله مفعولا له حتى يكون علة للفعل لاستلزامه [ 34 ] كون علمه السّابق علّة لاقدامه على المعصية و هو لا يستقيم على اصول العدلية المعنى اعلم أنّ هذا الفصل متضمن لتمجيد اللّه سبحانه باعتبار خلقه آدم عليه السّلام و تفضيله على غيره و اتمام نعمته عليه و مقابلته بالعصيان و مقابلة عصيانه بقبول توبته و اهباطه إلى الأرض و إكرام ذرّيته بعده ببعث الأنبياء فيهم و قسمته بينهم معيشتهم و آجالهم بالقلّة و الكثرة و الضيق و السعة و ابتلائه لهم بذلك فقوله عليه السّلام ( فلمّا مهّد أرضه ) أى سوّاها و أصلحها أو بسطها على الماء و لعلّ المراد هنا إتمام خلق الأرض على ما تقتضيه المصلحة في نظام امور ساكنيها و فى شرح البحرانى أى جعلها مهادا كقوله تعالى : أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً . أو جعلها مهدا كقوله تعالى : جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً . و على التقدير الأوّل أراد أنه خلقها بحيث يسهل على العباد أن يتصرّفوا فيها بالقعود و القيام و الزراعة و ساير جهات المنفعة ، و على التقدير الثاني يكون لفظ المهد استعارة لها بملاحظة تشبيهها بمهد الصبيّ في كونها محلّ الراحة و النوم ( و انفذ أمره ) أى أمضى أمره التكوينى في ايجاد المخلوقات و إتمامها و كان من تمامها خلقة نوع الانسان و ترجيحه على الأشباه و الأقران كما أشار إليه بقوله ( اختار ) أبا البشر ( آدم ) على نبيّنا و آله و عليه السّلام ( خيرة من خلقه ) و فضّله سبحانه و ذرّيته على ساير مخلوقاته كما قال عزّ من قائل : إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوْحاً وَ آلَ إِبْراهيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَميعٌ عَليمٌ . و قد اشير إلى بعض جهات التفضيل و الاصطفاء في الآيات الشريفة [ 35 ] فمنها أنه سبحانه شرّفه بالاستخلاف كما قال : إِنّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً . و منها اضافة روحه إليه كما قال : وَ نَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي . و منها اضافة خلقته إلى يديه كما قال : ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَىَّ . و منها أمر الملائكة بالسجود له كما قال : وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَة اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْليسَ . و منها تعليمه الأسماء و ايثاره بذلك على ملائكة السّماء كما قال : وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسماءَ كُلَّها . و منها تكرمته و ذرّيته بما اشير إليه بقوله : وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَني آدَمَ وَ حَمَلْنا هُمْ فِى الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى‏ كَثيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضيلاً . و منها جعلهم قابلا لاتيان الطّاعات و حمل الأمانات كما قال : إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّمواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ و منها تصويره لهم بالصور الحسنة كما قال : صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ . و منها تعليمهم البيان كما قال : [ 36 ] خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ . و منها تعديل الأعضاء و استقامة القامة كما قال : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ في أَحْسَنِ تَقْويمٍ . و منها التّعليم بالقلم كما قال : إِقْرَءْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ . و منها كونه نسخة جامعة لما في الملك و الملكوت و كتابا مبينا لاسرار القدرة و الجبروت ، و لذلك عقّب بيان خلقته بقوله : فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقينَ . و إلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين عليه السّلام فيما نسب اليه : دوائك فيك فلا تبصر و دائك منك فلا تشعر و أنت الكتاب المبين الذي بأحرفه تظهر المضمر أ تزعم أنك جرم صغير و فيك انطوى العالم الاكبر فقد ظهر بذلك كلّه أنه سبحانه اختاره على غيره ( و جعله أوّل جبلته ) أى أوّل شخص من نوع الانسان و أوّل خليفة خلقت في الأرض . و فيه ردّ على من قال بقدم الأنواع المتوالدة ( و أسكنه جنّته ) و أبا حهاله بقوله : أَسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ . ( و أرغد فيها اكله ) أى جعله واسعا طيّبا و قال له و لزوجته : فَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما . ( و أوعز إليه فيما نهاه عنه ) أى تقدّم إليه في الأكل من الشجرة و نهاه عن ذلك و عاهده في ذلك كما قال : [ 37 ] وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِىَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً . ( و أعلمه أنّ في الاقدام عليه ) أى على ما نهاه عنه ( التعرّض لمعصيته ) كما قال : وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظِّالِمينَ . ( و المخاطرة بمنزلته ) أى اشراف منزلته على خطر و انحطاط درجته كما قال : فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوُّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى . فالضمير في منزلته راجع إلى آدم ، و يحتمل رجوعه إليه سبحانه كضمير معصيته على الظاهر ( فأقدم على ما نهاه عنه ) وَ أَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‏ . و قد مرّ تأويل تلك المعصية و أضرابها في شرح الفصل الثاني عشر و الفصل الثالث عشر من فصول الخطبة الأولى و لا حاجة إلى الاعادة و قوله : ( موافاة لسابق علمه ) أراد أنه وافى بالمعصية و طابق بها سابق العلم فأقدم على المنهيّ عنه بما قدر عليه و كتب في حقّه في القضاء الالهى السابق على وجوده يدلّ عليه ما ورد في بعض الأخبار أنّ آدم عليه السّلام حجّ لموسى عليه السّلام فقال موسى : أنت خلقك اللّه بيده و نفخ فيك من روحه و أسجد لك ملائكته و أسكنك جنّته فلم عصيته ؟ قال آدم عليه السّلام له : أنت موسى الذي اتّخذك اللّه كليما و أنزل عليك التّوراة ؟ قال له : نعم قال له : كم من سنة وجدت الذنب قدّر علىّ قبل فعله ؟ [ 38 ] قال : كتب عليك قبل أن تفعله بخمسين ألف عام ، قال : يا موسى أتلومني على أمر قد كتب علىّ فعله قبل أن أفعله بخمسين ألف سنة ؟ فان قلت : إذا كانت المعصية مكتوبة عليه مقدّرة في حقه ثابتة في العلم الالهى قبل وجوده ، فلا بدّ أن يكون مجبورا فيها غير متمكن من تركها قلت : العلم ليس علّة للمعلوم بل حكاية له و كونها مقدّرة في حقّه لا يستلزم اضطراره إذا لم يكن ذلك قدرا حتما و قضاء لازما ، و إلاّ لما استحقّ اللّوم و العتاب بقوله : أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوُّ مُبينٌ . و لم ينسبا العصيان إلى أنفسهما و لم يقولا : رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرينَ . فان قلت : كيف لم يكن قدرا حتما و المستفاد من بعض الأخبار أنّ أكلهما منها كانا بمشيّة حتم و إرادة ملزمة ، و هو ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن عليّ بن معبد عن واصل بن سليمان عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : سمعته يقول : أمر اللّه و لم يشأ و شاء و لم يأمر ، أمر إبليس أن يسجد لآدم عليه السّلام و شاء أن لا يسجد و لو شاء لسجد ، و نهى آدم عليه السّلام من أكل الشجرة و شاء أن يأكل منها و لو لم يشأ لم يأكل و عن عليّ بن إبراهيم أيضا عن المختار بن محمّد الهمداني و محمّد بن الحسن عن عبد اللّه بن الحسن العلويّ جميعا عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن عليه السّلام قال : إنّ للّه إرادتين و مشيّتين : إرادة حتم ، و إرادة عزم ، ينهى و هو يشاء و يأمر و هو لا يشاء ، أو ما رأيت أنّه نهى آدم و زوجته أن يأكلا من الشجرة و شاء ذلك ، و لو لم [ 39 ] يشأ أن يأكلا لما غلبت شهوتهما مشية اللّه تعالى ، و أمر إبراهيم عليه السّلام أن يذبح إسحاق و لم يشأ أن يذبحه و لو شاء لما غلبت مشيّة إبراهيم عليه السّلام مشيّة اللّه [ 1 ] قلت : ظاهر الخبرين و إن كان يفيد أنّ صدور الأكل منهما إنّما كان عن مشيته الملزمة و أنّه لو لم يشإ الأكل أى شاء عدم الأكل لما امكن لهما الاقدام عليه و إلاّ لزم غلبة مشيّتهما مشيّته سبحانه فيلزم منه العجز تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، إلاّ أنّه يمكن توجيههما على وجه يطابق الأصول العدليّة و لا ينافيها . فنقول : أمّا الرّواية الأولى فقد وجّهت بوجوه : الأوّل حملها على التّقيّة لكونها موافقة لأصول الجبريّة [ 1 ] قال بعض شراح الكافى فى شرح الرواية الاولى : أنّ مشيّته تعالى من صفات ذاته فلا يمكن تخلف مقتضاه ، و أما أمره فهو ليس من صفاته بل هو من قبيل أفعاله لكنه على قسمين : أمر تكوين ، و أمر تشريع فالاول كما فى قوله تعالى : انما أمره اذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون و الثانى كقوله : فقعواله ساجدين : و كقوله : و لا تقربا هذه الشجرة ، فالأمر الذى هو من القسم الاول لكونه بارتفاع الوسايط لا بدّ فيه من وقوع المأمور به لا سبيل الاّ الطاعة خاصة من غير احتمال تمرّد ، و الذى هو من القسم الثانى لكونه بالواسطة و على ألسنة الرسل و الملائكة فيمكن فيه العصيان و التجاوز عن الامر فمنهم من اطاع و منهم من عصى اذا تقرر هذا فنقول : من الجايز أن يأمر تعالى عبده بشى‏ء أمرا تكليفيا و لم يشأ وقوع المأمور به ، أو نهى و شاء وقوع المنهىّ عنه لعلمه بالمصلحة العظيمة فى ذلك كما أمر ابليس أن يسجد لآدم و لم يشأ ، بل شاء أن لا يسجد و نهى آدم عن أكل الشجرة و شاء أن يأكل منها و لا يقع فى الوجود الاّ ما شاء اللّه ، فلو شاء أن يسجد ابليس لآدم لسجد لا محالة ، و لو شأ أن لا يأكل آدم منها شيئا لم ياكل البتة كما فى قوله تعالى و ما شاء اللّه كان و ما لم يشأ لم يكن‏انتهى و قال بعضهم فى شرح الرواية الثانية انّ ارادة الحتم هى الارادة الحتمية و المشية القطعية التى لا يجوز تخلّف المراد عنها كما هو شأن ارادته و مشيته تعالى بالنسبة الى أفعاله ، و ارادة العزم هى الارادة العزمية الغير الحتمية و المشية التخييرية الغير القطعية التى يجوز تخلف المراد عنها كما هو شأن ارادته و منسيته بالنسبة الى أفعال العباد ، منه ----------- ( 1 ) هذه الكلمات غير موجودة فى القرآن نعم هى مذكورة فى بعض الأدعية ، و لعلّ الشبهة من الناسخ « المصحح » [ 40 ] الثانى أن يقال المراد بالمشيّة العلم فالمقصود أنه أمر بشي‏ء و لم يعلم وقوع ذلك الشي‏ء لعدم وقوعه فلا يتعلّق علمه بوقوعه ، و شاء يعنى علم وقوع شي‏ء و لم يأمر به لكونه غير مرضيّ له الثالث أن يقال : المراد بمشية الطاعة هداياته و ألطافه الخاصة التى ليست من ضروريات التكليف ، و بمشية المعصية خذلانه و عدم فعل تلك الألطاف بالنسبة إليه و شي‏ء منهما لا يوجب جبره على الفعل و الترك و لا ينافي استحقاق الثواب و العقاب الرابع ما قيل : إنّ المراد تهية أسباب فعل العبد بعد إرادة العبد ذلك الفعل الخامس أنه اسناد للفعل إلى العلّة البعيدة ، فانّ العبد و قدرته و إرادته لما كانت مخلوقة للّه تعالى فهو جلّ و علا علّة بعيدة لجميع أفعاله السادس أن يقال : إنّ المراد بمشيّته عدم جبره على فعل الطاعة أو ترك المعصية ، و بعبارة اخرى سمّى عدم المشية مشية العدم ، فمعنى الحديث أنه أمر اللّه بشي‏ء على وجه الاختيار و أرادة على وجه التفويض و الاختيار ، و لم يشأ ذلك الشي‏ء مشيّة جبر و لم يرد إرادة قسر ، و شاء و لم يأمر يعنى شاء شيئا مشية تكليفيّة و أرادة إرادة تخييرية و لم يأمر به على وجه القسر و لم يرده على وجه الجبر ثمّ أوضح ذلك بقوله : أمر إبليس أن يسجد لآدم عليه السّلام على سبيل الاختيار و أراد منه السجود من غير القسر و الاجبار ، و شاء أن لا يسجد بالجبر و القسر و لو شاء لسجد أى لو شاء سجوده لآدم على الجبر و القسر لسجد له ، لأنّ الأفعال القسرية لا تخلف عن الفاعل و حيث لم يسجد علم انتفاء المشية القسرية و الارادة الجبرية ، و نهى آدم عليه السّلام عن أكل الشجرة على وجه الاختيار و كره منه أكل ثمرتها من غير الالجاء و الاجبار و شاء أن يأكل منها أى شاء أن يكون الأكل أمرا اختياريا و أراد أن لا يكون مجبورا في تركه و في قبول النهى عنه ، و لو لم يشأ لم يأكل أى لو لم يشأ أن يكون له اختيار في أكله و كان مجبورا على تركه لم يأكل ، لأنّ المجبور على ترك الشي‏ء و مسلوب الاختيار عن فعله لا يقدر على الاتيان به ، و حيث أكل علم أنه صاحب القدرة و الاختيار فيه و أنّه تعالى أراد أن يكون فعل العبد [ 41 ] و تركه بقدرته و اختياره حفظا لنظام التكليف و تحقيقا لمعنى الثواب و العقاب و أمّا الروّاية الثّانية فقد وجّهها الصدوق « ره » بمثل التوجيه السّادس في الرواية السّابقة قال ره في محكيّ كلامه عن كتاب التّوحيد بعد ايراد الرواية : إنّ اللّه تعالى نهى آدم و زوجته عن أن يأكلا من الشجرة و قد علم انهما يأكلان منها لكنه عزّ و جلّ شاء أن لا يحول بينهما و بين الأكل بالجبر و القدرة كما منعهما من الأكل منها بالنهى و الزجر ، فهذا معنى مشيته فيهما ، و لو شاء عزّ و جلّ منعهما عن الأكل بالجبر ثمّ أكلا منها لكان مشيّتهما قد غلبت مشيّة اللّه كما قال العالم عليه السّلام ، تعالى اللّه عن العجز علوّا كبيرا انتهى . أقول : و ساير الوجوه السّابقة جارية هنا أيضا كما لا يخفى ، و لعلّنا نشبع الكلام على هذا المرام عند تحقيق مسألة الجبر و التفويض و الأمر بين الأمرين في مقام مناسب لذلك إنشاء اللّه ، هذا . و قوله عليه السّلام : ( فأهبطه بعد التوبة ) نصّ صريح في كون التوبة قبل الاهباط و هو المطابق للترتيب الذكرى في آية طه قال تعالى : وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ أَجْتَبيهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى قالَ اهْبِطا مِنْها جَميعاً . إلاّ أنا استظهرنا في التنبيه الأوّل من تنبيهات الفصل الثالث عشر من فصول الخطبة الاولى أنّ الاهباط كان قبل التوبة لدلالة الأخبار الكثيرة على ذلك ، و يمكن الجمع بين الأدلّة بحمل ما دلّ على تقدم التوبة على الهبوط على نفس التوبة ، و ما دلّ على تأخّرها عنها على قبولها و يقال : بتأخّره عن التوبة ، أو حمل ما دلّ على تأخّرها على التوبة الكاملة ، و اللّه العالم و كيف كان فانما أهبطه سبحانه ( ليعمر أرضه بنسله و ليقيم الحجّة به على عباده ) قد مرّ كيفية ابتداء النسل في شرح الفصل الرابع عشر من الخطبة الأولى و أمّا إقامة الحجّة به على عباده فالمراد به كونه خليفة للّه سبحانه في أرضه [ 42 ] و حجّته على خلقه ممن كان معه من أولاده و من أتى بعده من الذين كانوا على شرعه و قال الشارح المعتزلي : المراد باقامة الحجّة به أنّه إذا كان أبوهم اخرج من الجنّة بخطيئة واحدة فأخلق بها أن لا يدخلها ذو خطايا جمّة ، و الأظهر ما قلناه ( و لم يخلهم بعد أن قبضه ) اللّه سبحانه إليه ( مما يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته و يصل بينهم و بين معرفته ) أراد أنه لم يخل الخلق بعد قبض آدم اليه من الحجج المؤكّدة لأدلّة ربوبيّته و الموصلة للخلق إلى معرفته ، و في الاتيان بلفظ التّاكيد إشارة إلى أنّ أدلّة الرّبوبيّة و آيات القدرة و براهين التّوحيد و شواهد التفريد للخالق تعالى ساطعة قائمة ، و آثار الجلال و الجبروت في الأنفس و الآفاق للحقّ سبحانه نيّرة واضحة ، و إنما الغرض من بعث الرّسل و إنزال الكتب محض التأكيد و التأييد ، و إلاّ فالأدلّة العقليّة في مقام الحجيّة كافية وافية . و قوله : ( بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه و متحمّلى و دائع رسالاته قرنا فقرنا ) أى أصلحهم و جدّد العهد بهم في كلّ قرن قرن بالحجج الجارية على ألسن الأنبياء و الرّسل ، و المودعة في الصحف و الكتب حسبما مرّ توضيحه في شرح الفصل الرّابع عشر من الخطبة الاولى في الرّواية الطويلة لأبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام ( حتّى تمّت بنبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حجّته ) و أكمل به دينه و ختم به أنبيائه و رسله ( و بلغ المقطع عذره و نذره ) أى بلغ الغاية و النهاية اعذاره و انذاره ، و قيل المراد بالعذر ما بيّن اللّه سبحانه للمكلّفين من الأعذار في عقوبته لهم إن عصوه ، و بالنّذر ما أنذرهم به من الحوادث و خوّفهم به ، و قد مرّ ( و قدّر الأرزاق ) في حقّ الخلايق و كتبها في أمّ الكتاب كما قال سبحانه : وَ فِى السّماءِ رِزقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ . قيل : أى في السّماء تقدير رزقكم أى ما قسّمه لكم مكتوب في اللّوح المحفوظ لأنّه في السّماء ( فكثّرها و قلّلها ) أى كثّرها في حقّ طائفة و قلّلها في حقّ [ 43 ] طائفة اخرى على ما يقتضيه الحكمة ، أو كثّرها و قلّلها بالنسبة إلى شخص واحد بحسب اختلاف الأزمان و الحالات ( و قسّمها على الضّيق و السّعة ) لما كان المتبادر من القسمة البسط على التساوي بيّن ما أراده بذكر الضيق و السّعة ، و لمّا كان ذلك موهما للجور أردفه بذكر العدل و قال : ( فعدل فيها ) أى في تلك القسمة ثمّ أشار إلى نكتة العدل و حكمته بقوله ( ليبتلى من أراد بميسورها و معسورها و ليختبر بذلك الشكر و الصبر من غنيّها و فقيرها ) نشر على ترتيب اللّف على الظاهر و الضمير فيهما راجع إلي الأرزاق و في الاضافة توسّع ، و يحتمل عوده إلى الأشخاص المفهوم من المقام أو إلى الدّنيا أو إلى الأرض و لعلّ احديهما أنسب ببعض الضماير الآتية ، و قد مرّ تحقيق معنى اختبار اللّه سبحانه و ابتلائه في شرح الخطبة الثانية و الستين . و محصّل المراد أنّه سبحانه يبسط الرّزق لمن يشاء من عباده و يقدر له و يجعل بعضهم غنيّا و بعضهم فقيرا و يختبر بذلك الشكر من الأغنياء و الصبر من الفقراء ، لاعظام مثوباتهم و إعلاء درجاتهم إن شكروا وقنعوا ، و تشديد عقوباتهم و احتطاط مقاماتهم إن كفروا و جزعوا ، و يجي‏ء لذلك إنشاء اللّه مزيد توضيح في شرح الخطبة القاصعة ( ثمّ قرن بسعتها عقابيل فاقتها ) لا يخفى ما في تشبيه الفاقة و هى الفقر و الحاجة أو آثارها بالعقابيل من اللّطف ، لكونها مما يقبح في المنظر و تخرج في العضو الذى لا يتيسّر ستره عن النّاس و تشتمل على فوائد خفيّة ، و كذلك الفقر و ما يتبعه ، و أيضا تكون غالبا بعد التلذّذ و التنعمّ ( و بسلامتها طوارق آفاتها ) أراد بها متجدّدات المصائب و ما يأتي بغتة من الطروق و هو الاتيان باللّيل ( و بفرج أفراجها غصص أتراحها ) أراد أنّ التفصّي من همومها مقارن لغصصها ، و نشاطها معقّب لهلاكها قال الأعشى : و لكن أرى الدّهر الذى هو خائن اذا صلحت كفاى عاد فأفسدا شباب و شيب و افتقار و ثروة فللّه هذا الدّهر كيف تردّدا [ 44 ] و قال الحريرىّ : وقع الشّوائب شيّب و الدّهر بالناس قلّب إن دان يوما لشخص ففي غد يتغلّب فلا تثق بوميض من برقه فهو خلّب و قال آخر : استقدر اللّه خيرا و ارضينّ به فبينما العسر إذ دارت مياسير و بينما المرء في الأحياء مغتبط إذ صار في الرّمس تعفوه الأعاصير ( و خلق الآجال فأطالها و قصّرها و قدّمها و أخّرها ) قال في البحار : الأجل محرّكة مدّة الشي‏ء و غاية الوقت في الموت 1 و حلول الدّين ، و تعليق الاطالة و التقصير على الأوّل واضح ، و أما التقديم و التأخير فيمكن أن يكون باعتبار أنّ لكلّ مدة غاية و حينئذ يرجع التقديم إلى التقصير و الاطالة إلى التأخير ، و يكون العطف للتفسير تأكيدا ، و يحتمل أن يكون المراد بالتقديم جعل بعض الأعمار سابقا على بعض و تقديم بعض الامم على بعض مثلا ، فيكون تاسيسا ، و يمكن أن يراد بتقديم الآجال قطع بعض الأعمار لبعض الأسباب كقطع الرّحم مثلا كما ورد في الأخبار و بتأخيرها مدّها لبعض الاسباب فيعود الضمير في قدّمها و أخّرها إلى الأجل بالمعنى الثاني على وجه الاستخدام أو نوع من التجوّز في التعليق كما مرّ ( و وصل بالموت أسبابها ) الضمير راجع إلى الآجال ، و المراد باتّصال أسبابها به على كون الأجل بمعنى مدّة العمر هو اتصال أسباب انقضاء الآجال به ، و على المعنى الثانى هو اتصال أسباب نفس الآجال به ، و المراد بالأسباب على ذلك هى بعض الأمراض المفضية إلى الموت و نحوها من الأسباب المؤدّية إليه . ( و جعله خالجا لأشطانها ) أى جعل الموت جاذبا لحبائل الآجال إليه و أراد بها الأعمار تشبيها لها بالأشطان في الطول و الامتداد ، و استعار لفظ الخلج للموت ----------- ( 1 ) و بعبارة اخرى هو زمان حلول الموت ، منه . [ 45 ] باعتبار استلزام الموت لقرب الأجل كما أنّ الجاذب يقرب المجذوب إلى نفسه ( و قاطعا لمرائر أقرانها ) قال المجلسيّ و لعلّ المراد بمرائر أقران الآجال الأعمار التي يرجى امتدادها لقوّة المزاج أو البنية و نحوها ، و اللّه العالم الترجمة پس چون بسط فرمود و گسترانيد حقّ سبحانه و تعالى زمين خود را ، و اجراء كرد امر خود را اختيار نمود جانب آدم عليه السّلام را اختيار كردنى ، يا اينكه برگزيد او را برگزيده شده از ميان خلقان و گردانيد او را أوّل طبيعتى از نوع انسان و ساكن فرمود او را در بهشت خود و وسعت داد در آنجا رزق او را و مقدّم داشت بسوى وى در آنچه نهى كرد او را از آن يعنى أكل از شجره ، و اعلام كرد او را كه در اقدام نمودن بر آن فعل متعرّض شدنست بمعصيت او و در خطر افكندن وضايع ساختن است منزلت و مرتبت او ، پس اقدام كرد جناب آدم بر آنچه كه نهى فرموده بود خدا از آن ، و موافقت كرد اين موافقت نمودنى با علم سابق حضرت بارى پس فرود آورد او را بزمين بعد از توبه و انابت تا اينكه آباد نمايد زمين خود را با نسل او ، و تا اينكه اقامه حجت نمايد با او به بندگان خود ، و خالى نگذاشت بندگان خود را بعد از قبض فرمودن روح آدم عليه السّلام از چيزيكه مؤكّد شود حجت پروردگارى او را و وصل كند ميان ايشان و ميان معرفت او بلكه تجديد عهد فرمود با ايشان بحجتها و دليلها بر زبان برگزيدگان از پيغمبران خود و متحملان امانتهاى پيعامهاى خود در قرنى بعد از قرنى . تا اينكه تمام شد بپيغمبر ما كه محمّد بن عبد اللّه صلوات اللّه عليه و آله است حجّة بالغه او ، و بنهايت رسيد عذر او در عذاب عاصيان و ترساندن او از آتش سوزان و مقدّر فرمود روزيها را پس بسيار گردانيد آنرا بر بعضى و كم گردانيد آنرا بر بعض آخر ، و قسمت كرد آنها را بر تنگى و وسعت ، پس عدالت كرد در آن قسمت تا اينكه امتحان نمايد هر كه را بخواهد با آسانى روزى و دشوارى آن و تا اينكه اختيار نمايد با اين شكر و صبر را از توانگر و درويش آن [ 46 ] پس از آن مقارن ساخت بفراخى روزيها تبخالهاى فقر وفاقه آن ، و بسلامتيهاى آن مصيبتهاى ناگهان آنرا ، و بگشادگيهاى شاديهاى آن غصّهاى هلاكتهاى آنرا و خلق كرد اجلها را پس دراز نمود آنرا و كوتاه گردانيد و مقدّم فرمود بعض آنرا و تأخير انداخت بعض ديگر را و چشانيد بمرگ اسباب اجلها را ، و گردانيد مرگ را كشنده ريسمانهاى اجلها و برنده ريسمانهاى محكم پرتاب آنها الفصل الثامن عالم السّرّ من ضمآئر المضمرين ، و نجوى المتخافتين ، و خواطر رجم الظنون ، و عقد عزيمات اليقين ، و مسارق إيماض الجفون ، و ما ضمنته أكنان القلوب ، و غيابات الغيوب ، و ما أصغت لاستراقه مصائخ الأسماع ، و مصآئف الذّرّ ، و مشاتى الهوامّ ، و رجع الحنين من المولهات و همس الأقدام ، و منفسح الثمرة من و لائج غلف الأكمام ، و منقمع الوحوش من غيران الجبال و أوديتها ، و مختبى‏ء البعوض بين سوق الأشجار و ألحيتها ، و مغرز الأوراق من الأفنان ، و محطّ الأمشاج من مسارب الأصلاب ، و ناشئة الغيوم و متلاحمها ، و درور قطر السّحاب في متراكمها ، و ما تسفى الأعاصير بذيولها ، و تعفو الأمطار بسيولها ، و عوم نبات الأرض في كثبان الرّمال ، و مستقرّ ذوات الأجنحة بذرى شناخيب الجبال ، و تغريد ذوات المنطق في دياجير الأوكار ، و ما أوعته الأصداف و حضنت عليه أمواج البحار ، [ 47 ] و ما غشيته سدفة ليل أو ذرّ عليه شارق نهار ، و ما اعتقبت عليه أطباق الدّياجير و سبّحات النّور ، و أثر كلّ خطوة ، و حسّ كلّ حركة ، و رجع كلّ كلمة ، و تحريك كلّ شفة ، و مستقرّ كلّ نسمة ، و مثقال كلّ ذرّة ، و هماهم كلّ نفس هامّة ، و ما عليها من ثمر شجرة ، أو ساقط ورقة ، أو قرارة نطفة ، أو نقاعة دم و مضغة ، أو ناشئة خلق و سلالة ، لم يلحقه في ذلك كلفة ، و لا اعترضته في حفظ ما ابتدعه من خلقه عارضة ، و لا اعتورته في تنفيذ الأمور و تدابير المخلوقين ملالة و لا فترة ، بل نفذ فيهم علمه ، و أحصيهم عدّه ، و وسعهم عدله ، و غمرهم فضله ، مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله . أللّهمّ أنت أهل الوصف الجميل ، و التّعداد الكثير ، إن تؤمل فخير مأمول ، و إن ترج فأكرم مرجوّ ، ألّلهمّ و قد بسطت لي فيما لا أمدح به غيرك ، و لا أثني به على أحد سواك ، و لا أوجّهه إلى معادن الخيبة ، و مواضع الرّيبة ، و عدلت بلساني عن مدائح الآدميّين ، و الثّنآء على المربوبين المخلوقين ، ألّلهمّ و لكلّ مثن على من أثنى عليه مثوبة من جزاء ، أو عارفة من عطآء ، و قد رجوتك دليلا على ذخآئر الرّحمة ، و كنوز المغفرة . [ 48 ] ألّلهمّ و هذا مقام من أفردك بالتّوحيد الّذي هو لك ، و لم ير مستحقّا لهذه المحامد و الممادح غيرك ، و بي فاقة إليك ، لا يجبر مسكنتها إلاّ فضلك ، و لا ينعش من خلّتها إلاّ منّك وجودك ، فهب لنا فى هذا المقام رضاك ، و أغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك ، إنّك على كلّ شي‏ء قدير . اللغة ( السر ) هو ما يكتم و هو خلاف الاعلان و ( ضمير ) الانسان قلبه و باطنه و الجمع ضمائر على التشبيه بسريرة و سرائر لأنّ باب فعيل إذا كان اسما لمذكر يجمع كجمع رغيف و أرغفة و رغفان قاله الفيومى ، و في القاموس الضمير السّر و داخل الخاطر و ( النجوى ) اسم مصدر بمعنى المسارة من انتجى القوم و تناجوا تسارّوا و ( التخافت ) كالاخفات خلاف الجهر قال الشّاعر : أخاطب جهرا إذ لهنّ تخافت و شتّان بين الجهر و المنطق الخفت و ( الخاطر ) ما يخطر في القلب من تدبير أمر و نحوه و ( العقد ) جمع عقده بالضمّ و عقدة كلّ شي‏ء الموضع الذي عقد منه و احكم و ( أومضت ) المرئة إذا سارقت النظر و أومض البرق إذا لمع لمعا خفيفا و أومض فلان أشار اشارة خفية و ( الاكنان ) و الاكنّة جمع الكنّ و هو اسم لكلّ ما يستتر فيه الانسان لدفع الحرّ و البرد من الأبنية و نحوها و ستر كلّ شي‏ء و وقائه قال تعالى : و جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً . قال الشّارح المعتزلي : و يروى أكنة القلوب و هى غلقها و اغطيتها قال تعالى وَ جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ . [ 49 ] و ( غيابة ) البئر قعره قال تعالى : وَ أَلْقُوهُ في غَيابَةِ الْجُبِّ . و غيابة كلّ شي‏ء ما يسترك منه و ( استراق ) السّمع الاستماع في خفيّة قال تعالى : إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهاب ثاقِبٌ . و ( الذّر ) جمع ذرّة و هى صغار النّمل و ( الهوام ) جمع الهامّة و هو كلّ ذات سمّ يقتل كبعض الحيّات و ما لا يقتل فهو السّامة كالزنبور و قد يطلق الهوام على ما يدبّ من الحيوان كالحشرات و ( منفسح ) الثمرة بالنون و الحاء المهملة من باب الانفعال موضع انفساحها ، و يروى متفسخ الثمرة بالتاء و السّين المشدّدة و الخاء المعجمة من باب التّفعل يقال : تفسّخ الشعر عن الجلد زال و ( الولايج ) المواضع السّاترة جمع و ليجة و هي كالكهف يستتر فيه المارّة من مطر أو غيره و يقال : أيضا في جمعه و لج و اولاج و ( الغلف ) بضمّة أو ضمّتين جمع غلاف ككتاب و يوجد في النّسخ على الوجهين و ( الاكمام ) جمع الكمّ بالكسر و هو وعاء الطلع و غطاء النّور و يجمع أيضا على الأكمة و كمام . و ( منقمع ) الوحوش من باب الانفعال محلّ الانقماع و الاختفاء ، و في بعض النسخ من باب التفعّل بمعناه و ( الغيران ) جمع غار و هو ما ينحت في الجبل شبه المغارة فاذا اتّسع قيل كهف ، و قيل : الغار الجحر يأوى إليه الوحش أو كلّ مطمئنّ في الأرض أو المنخفض من الجبل و ( الالحية ) جمع اللّحاء ككساء و هي قشر الشجر و ( الامشاج ) قيل : مفرد و قيل جمع مشج بالفتح أو بالتحريك أو مشيج وزان يتيم و أيتام أى المختلط و ( المسارب ) المواضع الذي يتسرّب فيها المني أى يسيل أو يختفى من قولهم تسرب الوحش إذا دخل في سربه أى جحره و اختفى او مجاري المنى من السرب بمعنى الطريق ، و تفسيرها بالاخلاط التى بتولّد منها المني كما احتمله الشّارح البحرانى بعيد ( في متراكمها ) في بعض النسخ و متراكمها بالواو [ 50 ] و ( الأعاصير ) جمع الأعصار و هو بالكسر الريح التي تهب صاعدا من الأرض نحو السّماء كالعمود و قيل : التى فيها نار و قيل : التي فيها العصار و هو الغبار الشديد و ( العوم ) السباحة و سير السّفينة و ( بنات الأرض ) بتقديم الباء على النون على ما في أكثر النسخ و في بعضها بالعكس و ( ذرى ) جمع ذروة بالكسر و الضمّ ( و غرد ) الطاير كفرح و غرّد تغريدا رفع صوته و طرب به و ( الحضن ) بالكسر ما دون الابط إلى الكشح أو الصدر و العضدان و ما بينهما ، و حضن الصبيّ من باب نصر جعله في حضنه . و ( ذرت ) الشمس تذر و ذروا أى طلعت و شرقت و ( شرقت ) الشمس و أشرقت أى أضاءت و ( التّعداد ) بالفتح مصدر للمبالغة و التكثير و قال الكوفيون أصله التفعيل الذي يفيد المبالغة قلبت ياؤه الفا و بالكسر شاذّ و ( المحامد ) جمع المحمدة بفتح العين و كسرها يقال : حمده كسمعه حمدا و محمدا و محمدا و محمدة و محمدة أثنا عليه الاعراب عالم السّر خبر لمبتداء محذوف بدلالة المقام ، و كلمة من في قوله : من ضماير المضمرين بيانية إن كان الضمير بمعنى السرّ و هو الأظهر و بمعنى في على حدّ قوله تعالى : إِذا نُودِىَ لِلصَّلوةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ . ان كان بمعنى القلب ، و نجوى المتخافتين على كون من بيانيّة عطف على الضّماير ، و على كونها بمعنى في يكون عطفا على السّر و الأوّل أظهر لأنّ نجوى المتخافتين و ما يتلوه من المعطوفات كلّها من قبيل الاسرار ، و قوله : من ولايج غلف الاكمام حرف من بيانيّة أو تبعيضية على رواية منفسح بالنون و الحاء المهملة وصلة أو بيانية على روايته بالتاء و الخاء المعجمة ، و إضافة الغلف إلى الاكمام من قبيل إضافة العام إلى الخاص لإفادة الاختصاص إذ كلّ كمّ غلاف دون العكس ، و جملة لم يلحقه إما حال من فأعل عالم السرّ المصدر به الفصل أو استيناف بيانيّ و الثّاني أظهر [ 51 ] و قوله : فخير مأمول خبر لمبتدء محذوف ، و قوله : بسطت لى فيما لا أمدح كلمة في إما زائدة أو للظرفيّة المجازية ، و مفعول بسطت محذوف أى بسطت لي القدرة أو اللّسان أو الكلام فيما لا أمدح ، و الباء في قوله : عدلت بلساني للتعدية ، و دليلا منصوب إمّا على الحال من مفعول رجوتك أو مفعول له ، و من في قوله : من خلّتها زائدة ، و الفاء في قوله : فهب لنا فصيحة المعنى اعلم أنّه عليه السّلام لما ذكر في الفصول السّابقة عجائب قدرته تعالى و بدايع صنعته و دلائل حكمته و براهين عظمته أردفها بهذا الفصل للتنبيه على عموم علمه سبحانه بجزئيات الامور و خفايا الأسرار ، و قد مضى بعض الكلام في هذا المعنى في الخطبة الخامسة و الثمانين و الخطبة التاسعة و الأربعين ، و مرّ تحقيق عموم علمه بجميع الأشياء في تنبيه الفصل السّابع من فصول الخطبة الاولى ، إلاّ أنّ هذا الفصل قد تضمن ما لم يتضمنه الخطب السابقة ، فانّ فيه مع جزالة اللّفظ و عظم خطر المعنى و فصاحة العبارة و غزارة 1 الفحوى الاشارة إلى أصناف خلقه و أنواع بريّته و عجائب ربوبيته ، و قد أحصا عليه السّلام فيه من خفيّات المخلوقات و خبيّات الموجودات و مكنونات المصنوعات مالا يوجد في كلام غيره بل لا يقدر عليه 2 سواه ، تنبيها بذلك على برهان علمه تعالى بها ، لأنّ خلقه لها و حفظه و تربيته لكلّ منها و إظهار بدايع الحكمة في كلّ صفة من أوصافها و حال من أحوالها لا يتعقّل إلاّ ممّن هو عالم بها مدرك لحقايقها ، كما قال عزّ من قائل : أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ . قال الشّارح المعتزلي و لنعم ما قال : لو سمع أرسطاطالس القائل بأنه تعالى لا يعلم الجزئيات هذا الكلام له عليه السّلام لخشع قلبه وقفّ شعره و اضطرب فكره ، ألا ترى ما عليه من الرّوا و المهابة و العظمة و الفخامة و المتانة و الجزالة مع ما قد اشرب ----------- ( 1 ) الغزيرة الكثيرة الدر من الآبار و الينابيع الكثيرة الماء ، ق ----------- ( 2 ) اى على ذلك الاحصاء ، منه [ 52 ] من الحلاوة و الطلاوة و اللطف و السلاسة ، لا أرى كلاما يشبه هذا إلا أن يكون كلام الخالق سبحانه ، فانّ هذا الكلام نبعة من تلك الشجرة ، و جدول من ذلك البحر ، و جذوة من تلك النار كأنّه شرح قوله تعالى : وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلمُها إِلاَّ هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِى الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاَّ في كِتابٍ مُبينٍ . فلنعد إلى شرح كلامه عليه السّلام لعجز اللسان و قصور البيان عن احصاء فضائله و استقصاء خصايصه فأقول قوله : ( عالم السّر من ضمائر المضمرين ) أراد به أنه خبير بمكتوبات السرائر و محيط بمكنونات الضماير ، لا يعزب عن علمه شي‏ء منها كما قال عزّ من قائل : وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقُولِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِرِّ وَ أَخْفى . ( و نجوى المتخافتين ) أى مسارة الذين يسرّون المنطق كما قال تعالى : ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى‏ ثَلثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى‏ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ . ( و خواطر رجم الظنون ) يعنى ما يخطر بالقلب ممّا يسبق إليه الظّنون من غير برهان ( و عقد عزيمات اليقين ) أى محكمات العقايد الناشئة عن اليقين التي عقد عليها القلب و اطمأنّ إليها النّفس ( و مسارق ايماض الجفون ) يعنى خفيات 1 إشارة الجفون ، أو المراد بالجفون العيون مجازا و بالمسارق النظرات الخفية التي للعيون كانّها تسرق النظر لاخفائها فيكون المقصود علمه بالنّظرات الخفيّة للعيون حين تومض أى تلمع لمعا خفيفا يبرز لمعانها تارة و يختفى اخرى عند فتح ----------- ( 1 ) هذا على كون المسارق من سرق كفرح بمعنى خفى و الايماض بمعنى الاشارة ، منه [ 53 ] الجفون و طبقها كوميض البرق ( و ما ضمنته اكنان القلوب ) أى أستارها و أغطيتها ( و غيابات الغيوب ) أى ستراتها و حجاباتها المانعة من ادراك ما فيها ( و ما أصغت لاستراقه مصائخ الاسماع ) يعنى تسمعت و مالت إلى استماعه خفية مخارق الاسماع التي تسمع و تصاخ بها ( و مصائف الذرّ و مشاتي الهوام ) يعنى المواضع التي يصيف فيها أى يقيم بالصّيف صغار النمل و المواضع التي تشتو فيها أى تأوى بالشتاء حشرات الأرض ( و رجع الحنين من المولهات ) أراد به ترجيع الصوت و ترديد شدة البكاء من النوق و كلّ انثى حيل بينها و بين أولادها ( و همس الأقدام ) أخفى ما يكون من صوتها ( و منفسح الثمرة من ولايج غلف الأكمام ) أى موضع نموّها أو محلّ انقطاعها من بطانة الأكمام و المواضع المستترة منها ( و منقمع الوحوش ) محلّ اختفائها ( من غير ان الجبال ) و أغوارها أى جحراتها التي تأوى إليها الوحش ( و أوديتها ) الضمير راجع إلى الجبال و في الاضافة توسع ( و مختبئى البعوض ) موضع اختفاء البق ( بين سوق الأشجار و ألحيتها ) أى بين جذعها و قشرها ( و مغرز الأوراق من الأفنان ) محلّ و صلها من الاغصان ( و محط الامشاج من مسارب الأصلاب ) اى انحدار الاخلاط أو محلّ انحدارها 1 من مجارى الأصلاب و مسيلها أو مخفاها قيل في قوله تعالى : إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ . أى أخلاط من الطبايع من الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة ، و قيل : من الأجزاء المختلفة في الاستعداد ، و قيل : أمشاج أى أطوار طورا نطفة و طورا علقة و هكذا ، و قيل : أى أخلاط من ماء الرجل و ماء المرأة و كلّ منهما مختلفة الاجزاء في الرقة و القوام و الخواص و لذلك يصير كلّ جزء منهما مادّة عضو و قيل : ألوان فانّ ماء الرّجل أبيض و ماء المرأة أصفر فاذا اختلطا اخضّرا ، و كلامه عليه السّلام ----------- ( 1 ) و الاول مبنى على كون المحط مصدرا و الثانى على كونه اسم مكان ، منه [ 54 ] يؤيد بعض الوجوه كما لا يخفى فيكون محطّ الأمشاج مقرّ النطفة من الرّحم أو من الأصلاب على بعض الوجوه في المسارب فافهم ( و ناشئة الغيوم و متلاحمها ) أراد أوّل ما ينشأ منها و لم يتكامل اجتماعها و ما يلتصق بعضها ببعض و يلتحم ( و درور قطر السحاب في متراكمها ) أى سيلان المطر في متكاثف السّحاب و مجتمعها ( و ما تسفى الأعاضير ) أى تذروه و تثيره من التراب و نحوه ( بذيولها ) بأطرافها التي تجرّها على الأرض و لطف الاستعارة ظاهر ( و تعفو الأمطار بسيولها ) اى تمحوه و تدرسه من الآثار بمائها الكثير السّائل ( و عوم بنات الأرض في كثبان الرّمال ) أراد عليه السّلام ببنات الأرض الحشرات و الهوام التي تكون في تلال الرّمال و تنشأ فيها ، استعار لحركتها فيها لفظ العوم الذي هو السّباحة فى الماء بمشابهة عدم استقرارها أو غوصها فيها ، و على ما في بعض النسخ من تقديم النون فلفظ العوم استعارة لحركة عروق النباتات فيها كأرجل السّابحين و أيديهم في الماء ( و مستقرّ ذوات الأجنحة من الطيور بذرى شناخيب الجبال ) و أعالى رؤوسها ( و تغريد ذوات المنطق ) أى تطريب صاحبات النطق من الأطيار و رفع أصواتها بالغناء ( في دياجير الأوكار ) و ظلماتها ( و ما أوعته الأصداف ) أى حفظته و جمعته من اللّئالي ( و حضنت عليه أمواج البحار ) من السمك و العنبر و غيرهما ، استعار لفظ الحضن للأمواج في انطباقها بملاحظة شبهها و بالحواضن في ضمّ فرخها و بيضها إلى حضنها ( و ما غشيته ) و غطته ( سدفة ليل ) و ظلمتها ( أو ذرّ عليه شارق نهار ) أى طلع عليه الشّمس المضيئة بالنهار ( و ما اعتقبت ) و تعاقبت ( عليه أطباق الدياجير ) و أغطية الظلم ( و سبحات النور ) أى ما يجرى و يسبح عليه النور من سبح الفرس و هو جريه ، و المراد بما تعاقب عليه النور و الظلمة ما تغطيه ظلمة بعد نور و نور بعد ظلمة ، و يحتمل أن يراد تعاقب أفراد كلّ منهما ( و أثر كلّ خطوة ) أى علامة كلّ مشية تبقى فى الأرض ( و حسّ كلّ حركة ) و صوتها الخفى ( و رجع كلّ كلمة ) أراد به ما ترجع به من [ 55 ] الكلام إلى نفسك و تردّده في فكرك ، أو جواب الكلمة أو ترديد الصوت و ترجيعه عند التلفظ بالكلمة أو إرجاع النفس للتلفظ بكلمة بعد الوقف على كلمة . ( و تحريك كلّ شفة و مستقر كلّ نسمة ) أى كلّ انسان أو كلّ دابة فيها روح ، و مستقرّها إما الصّلب أو الرّحم أو القبر أو مكانه في الدّنيا أو في الآخرة أو الأعم ( و مثقال كلّ ذرّة ) يعني وزنها لا المثقال المعروف كما قال تعالى : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ . ( و هما هم كلّ نفس هامة ) أراد عليه السّلام ترديدات الصّوت في الحلق أو تردّداته في الصدر من الهم و الحزن من كلّ نفس ذات همة تعزم على أمر ( و ما عليها ) أى على الأرض المفهومة بقرينة المقام و إن لم يسبق لها ذكر في الكلام على حدّ قوله تعالى : كلّ من عليها فان ( من ثمرة شجرة أو ساقط ورقة أو قرارة نطفة ) مستقرّها ( أو نقاعة دم ) أى نقرة يجتمع فيها الدّم ( و مضغة ) قطعة لحم بقدر ما يمضغ ( أو ناشئة خلق ) أى الصّورة ينشئها سبحانه في البدن أو الرّوح التي ينفخها فيه ( و سلالة ) و هي في الأصل ما استلّ و استخرج من شي‏ء و سمّي الولد و نطفة الانسان سلالة باعتبار أنّهما استلا منه ، و في هذه الفقرات إشارة إلى قوله تعالى : وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طينٍ ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقينَ . ثمّ إنّه بعد بيان عموم علمه بالمخلوقات على اختلاف أنواعها و أصنافها نبّه على تنزّهه سبحانه في ذلك عن صفات البشر فقال ( لم يلحقه في ذلك ) أى في علمه بالجزئيات المذكورة أو في خلقه لها على اختلاف موادّها و ماهيّاتها و خواصّها و حالاتها ( كلفة ) و مشقّة ( و لا اعترضته ) و منعته ( في حفظ ما ابتدع من خلقه [ 56 ] عارضة ) أى حالة أو خصلة مانعة عن الحفظ ( و لا اعتورته ) قيل أحاطت به ( في تنفيذ الامور ) و إمضائها ( و تدابير المخلوقين ) و إجراء امورهم على وفق المصلحة و العلم بالعواقب ( ملالة ) و ضجر ( و لا فترة ) أى كسر بعد حدّة و لين بعد شدّة ( بل نفذ فيهم علمه ) و أحاط بطواهرهم و بواطنهم لا يعزب عنه شي‏ء منهم ( و أحصاهم عدّه ) و في بعض النسخ عدوه ( و وسعهم عدله و غمرهم ) أى غطاهم و شملهم و سترهم ( فضله ) و نواله ( مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله ) و حقيقة ما هو مستحقه من الثناء الجميل و الوصف على جهة التعظيم و التبجيل ، و أن يعبد حقّ العبادة ، و يعرف حقّ المعرفة و فيه تنبيه على حقارة ثنائهم و عبادتهم في جنب جلاله و عظمته و استحقاقه لما هو أهله ليدوم شكرهم و ثنائهم و لا يستكثروا شيئا من طاعاتهم و عباداتهم ، ثمّ إنه لما حمد اللّه و أثنا عليه و وصفه بأوصاف الكمال و نعوت الكبرياء و الجلال أردفه بالدّعاء و السؤال و التضرّع و الابتهال فقال : ( اللهمّ أنت أهل الوصف الجميل ) دون غيرك لاتّصافك بالصّفات الحسنى و الأمثال العليا ( و التعداد الكثير ) من النعم و الآلاء و المنن و العطايا ( إن تؤمل ) للكرم و الامتنان ( ف ) أنت ( خير مأمول و إن ترج ) للرحمة و الغفران ( ف ) أنت ( أكرم مرجوّ ) لأنّ كرمك لا يضيق عن سؤال أحد و يدك بالعطاء أعلى من كلّ يد ( اللّهمّ و قد بسطت لي ) القدرة ( فيما ) كناية عن بلاغة الكلام و فصاحة البيان و عذوبة اللّسان ( لا أمدح به غيرك و لا اثنى به على أحد سواك ) لاختصاصك بالفضل و الكمال و تفرّدك بالعظمة و الجلال ( و لا اوجّهه ) أى لا أصرف ما أعطيتنى من الفصاحة و البلاغة في الحمد و المدح ( إلى معادن الخيبة و مواضع الريبة ) يعنى أني اقصر حمدى و ثنائى عليك و لا أصرفه إلى أحد غيرك من المخلوقين علما منّي بأنّهم معادن الخيبة و مظانّ الحرمان ، لأنّ عطاياهم قليلة فانية ، مع أنّهم لا يعطون غالبا فان اعطوا قلّوا و إن لم يعطوا ملّوا ، و عرفانا منّى بأنهم مواضع الرّيبة و التهمة لعدم الاعتماد على إعطائهم و عدم الوثوق بمواعيدهم ، لكونهم عاجزين [ 57 ] محتاجين مفتقرين مثل السّائلين عنهم ، فمن توجّه بحاجة إليهم و أناخ مطايا الرجاء في بابهم فقد تعرّض للحرمان و استحقّ فوت الاحسان اللهمّ ( و ) قد ( عدلت بلسانى عن مدايح الآدميين ) إلى مدائحك ( و الثناء على المربوبين المخلوقين ) إلى الثناء عليك ( اللّهم و لكلّ مثن ) و مادح ( على من ) مدحه و ( أثنا عليه مثوبة من جزاء ) مكافاة على ثنائه ( أو عارفة من عطاء ) مقابلة لمدحه ( و قد رجوتك ) و قصرت رجائى عليك لكونك ( دليلا على ذخائر الرحمة ) موصلا إلى أسبابها بالتوفيق و التأييد و العناية و المراد بها عظايم العطايا المذخورة ليوم الحاجة و المعدّة لحال الفاقة ( و ) أملتك هاديا إلى ( كنوز المغفرة ) أراد بها خزاين الغفران و معادن الاحسان و كونه سبحانه هاديا و دليلا عليهما باعتبار أنه بيده مفاتيح الكرم و الجود و هو وليّ الرّحمة و المغفرة لكلّ موجد موجود ( اللّهمّ و هذا ) المقام الذى أنا فيه مشغول بتعظيمك و توحيدك و خطيب بمحاسن محامدك ( مقام من أفردك بالتوحيد الذي هولك ) و التمجيد الذى هو مختصّ بك ( و لم ير مستحقّا لهذه المحامد و الممادح غيرك ) لانحصار أوصاف الجمال و نعوت الكمال التي بها يستحقّ الحمد و الثناء فيك ( و بي ) فقر و ( فاقة إليك ) و هي الحاجة إلى كرمه و إحسانه و رحمته و غفرانه و مرضاته و رضوانه مما لا ينجحها أحد من المخلوقين و لا يقدر على رفعها إلاّ ربّ العالمين و لذلك قصره عليه و قال : ( لا يجبر مسكنتها إلاّ فضلك و لا ينعش من خلّتها إلاّ منّك وجودك ) أى لا يصلح ذلّ تلك الفاقة و سوء حالها إلاّ فضلك و لا يرفع خصاصتها إلاّ منك ( فهب لنا في هذا المقام رضاك ، و أغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك ، إنّك على كلّ شي‏ء قدير ) و بالاجابة حقيق جدير . قال الشارح المسكين : و أنا أتأسّى في هذا المقام بجدّي أمير المؤمنين و سيد الوصيّين ، و أتوسّل به إلى حضرة ذي الجلال ، و اناديه بلسان التضرّع و الابتهال ، و أقول : [ 58 ] يا ربّي و ربّ كلّ شي‏ء قد كثرت ذنوبي ، و جمّت خطيئتي ، و أوقرت الخطايا ظهري ، و أنت الغفور الرّحيم ، العزيز الكريم ، و كثير ما أسألك يسير في وجدك و خطير ما أستوهبك حقير في وسعك ، فاجعل ما أوضحته فى شرح هذه الخطبة الشريفة من دلائل توحيدك ، و براهين تفريدك ، و كشفت الغطاء عنه من شواهد ربوبيّتك ، و أدلّة قدرتك ، و أسرار تدبيرك و حكمتك ، ذخيرة مأمولة ليوم فقري و فاقتي ، و عدّة مرجوّة لحال مسكنتي و حاجتي ، و ممحاة لكباير سيأتي ، و وسيلة لارتفاع درجتي ، و لا تقطع رجائي منك ، و لا تبت سببى عنك ، و تفضّل علىّ باتمام شرح الكتاب بمحمّد و آله الأطياب ، إنّك أنت المفضّل الوهّاب . الترجمة خداوند تعالى عالم راز و سرّ است از ضميرهاى صاحبان ضمير ، و از نجواى راز گويندگان ، و از خاطرهاى انداخته شده ظن و گمان ، يعني خاطرهائى كه سبقت نمايد بسوى أن ظنّها ، و از آنچه منعقد ميشود در قلب از عزيمتهاى يقين ، و از نظرهاى خفيه چشمها در وقت نگريستن ، و از آنچه كه در بر گرفته است او را پردهاى قلبها و حجابهاى غيبها ، و از آنچه كه گوش داده است از براى نهان شنيدن آن مواضع سوراخ گوشها ، و از جايهاى تابستاني موران و از جاى‏هاى زمستانى جنبندگان ، و از باز گردانيدن آواز آه و ناله از مادران جدا شده از فرزندان و از صوت نهان قدمها و از جاى روئيدن ميوه از مداخل و بواطن غلافهائى كه در آن ميوه مخلوق ميشود ، و از محل اختفاء وحشها از غارهاى كوهها ، و از رودخانهاى آنها ، و از موضع پنهان شدن پشّها در ميان ساقهاى درختان و پوست‏هاى آنها ، و از مكان رستن برگ‏ها از شاخها و از محلّ فرود آمدن اخلاط نطفه از مجاري صلبها ، و از تازه بر آمده ابرها و بهم پيوسته آنها ، و از ريزان شدن قطرها از أبرها و بهم بر نشسته آنها ، و از آنچه كه ميپاشد آنرا گردبادها بدامنهاى خود ، و محو مى‏كند آنرا بارانها بسيل‏هاى خود ، و از فرو رفتن و سير نمودن حشرات الأرض در تلّهاى ريكها ، و از محل استقرار صاحبان بال‏ها ببلندى‏هاى سرهاى كوه‏ها ، [ 59 ] و از آواز گردانيدن بنغمات و سرود صاحبان نطق از مرغان در تاريكى‏هاى آشيان‏ها و از آنچه كه حفظ نموده است آنرا صدف‏ها ، يعنى از لؤلؤ و مرواريد ، و دايگى نموده است آنرا موج‏هاى درياها يعنى از عنبر و ماهى ، و از آنچه كه پوشيده آنرا تاريكى شب يا طلوع نموده بر آن روشنى دهنده روز ، و از آنچه كه پى در پى مى‏آيد بر او طبق‏هاى ظلمت‏ها و مجارى نور ، و از علامت هركام ، و از حسّ و حركت هر جسمى از اجسام ، و از باز گردانيدن جواب هر كلمه ، و از حركت دادن هر لب ، و از قرارگاه هر آفريده ، و از مقدار هر ذرّه ، و از آوازهاى پنهان هر نفس صاحب همّت ، و از آنچه كه بر زمين است از ميوه درختى يا از افتاده برگى يا از آرام گرفتن نطفه يا نقاعه كه محلّ اجتماع خونست و مضغه ، يا صورتى كه آفريده شده در بدن و نطفه كه بيرون كشيده شده از پشت حيوان . نرسيده است بذات بارى تعالى در اين چيزها كه آفريده مشقتى ، و عارض نشده است او را در حفظ آنچه كه ايجاد فرموده از مخلوقات عارضه ، و احاطه نكرده او را در اجراء امورات و تدبير مخلوقات ملالت و كدورتي ، و نه ضعف و فتورى ، بلكه نافذ شده در ايشان علم او ، و بشماره در آورده ايشانرا شمردن او ، و فرا گرفته است ايشانرا عدالت او ، و پوشيده گناهان ايشانرا فضل او با وجود تقصير كردن ايشان از پايان رسانيدن آنچه كه خداوند سبحانه سزاوار او است از مراتب معرفت و عبادت . بار پروردگارا توئى سزاوار اوصاف حسنه بيشمار و اهل شمار نمودن شمارهاى بسيار اگر اميد گرفته شوى تو ، پس تو بهترين اميد داشته شدهائى ، و اگر رجا بتو باشد پس تو گرامى‏ترين رجا داشته شدگانى بار خدايا و بتحقيق كه گسترانيدى از براى من قدرترا در آنچه كه مدح نميكنم با او غير تو را ، و ثنا نميكنم با او بر أحدى غير از تو ، و متوجّه نميكنم مدح و ثناء خود را بسوى مخلوقين كه معدن‏هاى نوميدى و محل‏هاى تهمت ميباشند و باز داشته زبان مرا از مدحهاى آدميان و ثنا گفتن بر مخلوقان كه تربيت يافته [ 60 ] نعمت تو اند . بار خدايا هر ثنا كننده را بر كسى كه در حقّ او ثنا گفته ثوابى هست از پاداش آن يا خوبى از عطا كردن ، و بتحقيق كه اميد گرفتم بتو از جهت اينكه تو رهنمائى بر ذخيرهاى بخشش ، و خزانهاى مغفرت و آمرزش بار خدايا اين مقامى كه مشغول هستم بذكر حمد و ثناى تو مقام كسيست كه منحصر دانست تو را بيگانگى كه اختصاص دارد بتو ، و نديد كسى را كه مستحق باشد مر اين ستايشها و ثناها را غير از ذات تو ، و مراست حاجتى بسوى تو كه جبر و اصلاح نميكند ذلّت آنرا مگر فضل تو ، و بر نميدارد فقر وفاقت آنرا مگر عطا وجود تو پس ببخش ما را در اين مقام رضا و خشنودى خود را ، و مستغنى كن ما را از دراز نمودن دستها بسوى غير تو ، بدرستى كه تو برآنچه ميخواهى صاحب قدرت ميباشى . و من كلام له عليه السّلام لما اريد على البيعة و هو الواحد و التسعون من المختار فى باب الخطب و قد رواه غير واحد من العامة و الخاصة حسبما نشير إليه دعوني و التمسوا غيري ، فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان ، لا تقوم له القلوب ، و لا تثبت عليه العقول ، و إنّ الآفاق قد أغامت ، و المحجّة قد تنكّرت ، و اعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، و لم أصغ إلى قول القآئل ، و عتب العاتب ، و إن تركتموني فأنا كأحدكم ، و لعلّي أسمعكم و أطوعكم لمن و ليتموه أمركم ، و أنا لكم وزيرا خير لكم منّي أميرا . [ 61 ] اللغة ( غامت ) الآفاق و أغامت و اغيمت و غيمت تغييما و تغيمت غطاها الغيم ، و غيم اللّيل جاء كالغيم و ( المحجّة ) الطريق الواضح و ( التنكّر ) التّغير عن حال تسرّك إلى حال تكرهها و الاسم النّكير و ( العتب ) كالعتاب الملامة و ( الوزير ) حباء الملك أى جليسه الذى يحمل ثقله و يعينه برأيه الاعراب قوله عليه السّلام : و أنا لكم آه الواو للحال ، و الجملة بعدها منصوبة المحلّ على الحاليّة ، و أنا مبتدأ و خير خبره و الظرفان متعلّقان به ، و وزيرا و أميرا منصوبان على الحال ، و اختلف علماء الأدبية في عامل الحال إذا وقع في مثل هذا المثال ، فمنهم من جعله أفعل التفضيل ، و منهم من جعله كان محذوفة تامة صلة لاذا و التقدير أنا إذا كنت لكم وزيرا خير منّي لكم إذا كنت أميرا و تحقيق ذلك أنّهم بعد حكمهم على عدم جواز تقديم الحال على عامله إذا كان اسم تفضيل من حيث ضعفه في العمل لأجل شباهته بالفعل الجامد في عدم قبوله علامة التأنيث و التثنية و الجمع كما يقبلها أسماء الفاعلين و المفعولين و الصفة المشبهة فلا يتصرّف 1 في معموله بالتقديم كما لا يتصرّف في الفعل الجامد ، استثنوا من ذلك ما إذا كان اسم التفضيل عاملا في حالين احداهما مفضلة على الاخرى فانه يجب حينئذ تقديم الحال الفاضلة لخوف اللبس ، و مثلوا له بقولهم هذا بسرا أطيب منه رطبا ، قال سيبويه في المحكيّ عنه : انتصب بسرا على الحال من الضمير فى أطيب و انتصب رطبا على الحال أيضا من الضمير المجرور بمن ، و العامل فيهما أطيب بما فيه من معنى المفاضلة بين شيئين ، كأنه قال : هذا في حال كونه بسرا أطيب من نفسه 1 يعنى انّ الفعل الجامد لا يتصرّف فيه فلا يتصرّف فى معموله و كذلك ما أشبهه فيجب تأخير الحال فيهما يقال ما أحسنه مقبلا و هذا أفصح الناس خطيبا . منه [ 62 ] فى حالكونه رطبا ، تريد أن تفضل البسر على الرطب ، قال : فأطيب ناب مناب عاملين ، لأنّ التقدير يزيد طيبه في حالكونه بسرا على طيبه في حالكونه رطبا و أشار بذلك 1 إلى التمر ، و المعنى بسره أطيب من رطبه انتهى و به قال غير واحد من النحاة كالمازني و الفارسي و ابن كيسان و ابن جنى و ابن هشام في التوضيح ، و ذهب المبرّد و الزّجاج و ابن السّراج و السيّرافي إلى أنّ النّاصب في المثال كان محذوفة تامة صلة لإذا و إذا فان قلت ذلك و هو بلح فالمقدر اذا و ان قلته و هو تمر فالمقدر إذ ، و الصاحبان المضمران في كان لا المضمر في أطيب ، و المجرور بمن و قدم الظرف يعنى إذا و إذا على أطيب لاتساعهم في الظروف و لهذا جاز كلّ يوم لك ثوب و لم يجز زيد جالسا في الدّار و كيف كان فقد اتفق الفريقان بعد اختلافهم في عامل الحال على وجوب تقديم أحد الحالين على اسم التفضيل و تأخير الآخر ليظهر الفضل بين المفضّل و المفضّل عليه إذ لو أخّرا جميعا حصل الالتباس . فان قيل : إن جعل أحدهما تاليا لأفعل لا يحصل الالتباس ، قلنا يؤدّى إلى الفصل بين أفعل و بين من و مجرورها و هو غير جايز لكونهما بمنزلة الصّلة و الموصول فان قلت : فكيف فصّل بالظرف في كلام الامام عليه السّلام ؟ قلت : ذلك فصل جايز للاتّساع في الظروف بما لا يتّسع في غيره المعنى اعلم أنّ المستفاد من الروايات الآتية و غيرها في سبب هذا الكلام هو أنّ خلفاء الجور بعد ما غيّروا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سيرته التي كان يسيرها من العدل بالقسمة و المواساة بين الرّعية ، ففضّلوا العرب على العجم ، و الموالي على العبيد ، و الرؤساء على السفلة ، و آثر عثمان أقاربه من بني امية على ساير الناس و جرى على ذلك ديدنهم سنين عديدة ، و اعتاد الناس ذلك أزمنة متطاولة حتّى نسوا ----------- ( 1 ) اى بلفظ هذا منه [ 63 ] سيرة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، و كان غرض الطالبين لبيعته عليه السّلام أن يسير عليه السّلام فيهم مثل سيرة من سبق عليه من المتخلّفين من تفضيل الشريف على الوضيع ، و كان عليه السّلام تفرّس ذلك منهم و عرفه من و جنات حالهم . خاطبهم بهذا الكلام إتماما للحجّة و إعلاما لهم بأنّه عليه السّلام إن قام فيهم بالأمر لا يجيبهم إلى ما طمعوا فيه من الترجيح و التفضيل فقال عليه السّلام ( دعوني و التمسوا غيرى ) للبيعة ( فانّا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان ) و هو إنذار لهم بالحرب و إخبار عن ظهور الفتنة و اختلاف الكلمات و تشتّت الآراء و تفرّق الأهواء ، يعنى أنّى إن أجبت إلى ملتمسكم فلا بدّ من ابتلاء أمر له أحكام صعبة و تكاليف شاقة من محاربة الناكثين و القاسطين و المارقين و التسوية في القسمة و العدل بين الرّعيّة الى غير ذلك و هو مما ( لا تقوم له القلوب ) أى لا تصبر عليه ( و لا تثبت عليه العقول ) بل تنكره ( و انّ الآفاق قد أغامت ) أى أظلمت بظهور البدع و خفاء شمس الحقّ تحت سحاب شبه أهل الباطل ( و المحجّة قد تنكّرت ) أراد به تغيّر الحنيفية البيضاء و الملّة الغرّاء و جهالة جادّة الحقّ ( و اعلموا أنّي إن إن أجبتكم ) إلى ما تلتمسونه منّي ( ركبت بكم ما أعلم ) أى جعلتكم راكبين على محض الحقّ و أسير فيكم بسيرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ( و لم أصغ إلى قول القائل و عتب العاتب ) أى لم يأخذني في اللّه لومة لائم ( و إن تركتموني فأنا كأحدكم ) يعنى إن تركتموني فهو أنفع لكم و أرفه لحالكم لأنّى حينئذ أكون مثل واحد منكم و المراد بتركهم إيّاه عدم طاعتهم له و اختيار غيره للبيعة حتى لا تتمّ شرايط الخلافة لعدم النّاصر كما قال في الخطبة الشقشقيّة : لو لا حضور الحاضر و قيام الحجّة بوجود النّاصر لألقيت حبلها على غاربها ، و ليس الغرض ردعهم عن البيعة الواجبة بل إتمام للحجة و توطئة لابطال ما علم عليه السّلام منهم من ادعاء الاكراه بعد البيعة كما فعل طلحة و الزّبير بعد النّكث و قوله ( و لعلّى أسمعكم و أطوعكم لمن و ليتموه أمركم ) لعلّه عليه السّلام أراد أنه إذا تولى الغير أمر الامامة و لم تتم الشرايط في خلافته عليه السّلام لم يكن ليعدل عن [ 64 ] مقتضى التقيّة فيكون أكثر الناس إطاعة لوالي الأمر بخلاف ساير النّاس فانّه يجوز عليهم الخطاء ( و أنا لكم وزيرا خير لكم منّي أميرا ) يعني وزارتي خير لكم من امارتي ، لأنّ فيه موافقة الغرض أو سهولة الحال في الدنيا ، فانّه على تقدير الامارة و بسط اليد يجب عليه القيام بمحض الحق و هو صعب على النفوس و لا يحصل به آمال الطامعين بخلاف ما إذا كان وزيرا فانّ تكليف الوزير هو الاشارة بالرأى مع تجويز التأثير في الأمير و عدم الخوف و نحوه من شرايط الأمر بالمعروف ، و لعلّ الأمير الذي يولّونه الأمر يرى في كثير من الامور ما يوافق آمال القوم و يطابق أطماعهم و لا يعمل بما يشير الوزير فيكون وزارته أوفق لمقصود القوم فالحاصل أنّ ما قصد تموه و طمعتم فيه من بيعتي لا يتمّ لكم ، و وزارتي أوفق لغرضكم ، و المقصود إتمام الحجّة و إفهام حقيقة الأمر كيلا يعترضوا عليه بعد البيعة إذا لم يحصل غرضهم منه عليه السّلام و لا يقولوا : إنّا كنّا عن هذا غافلين ، هذا . و اعلم أنّ ما ذكرته في شرح هذا الكلام له عليه السّلام هو الذي ينبغي أن يحمل الكلام عليه و هو أقرب و أظهر ممّا قاله الشّارح البحراني « قد » من أنّ مراده عليه السّلام بكلامه ذلك هو التمنّع عليهم لتقوى رغبتهم إليه ، فانّه لا بدّ لكلّ مطلوب على أمر من تعزّز فيه و تمنّع ، و الحكمة في ذلك أنّ الطالب له يكون بذلك أرغب فيما يطلب فانّ الطبع حريص على ما منع ، سريع النفرة عمّا سورع إلى اجابته فيه . و أمّا الشّارح المعتزلي فقد تمشّى فيه على مذهبه و قال : هذا الكلام يحمله أصحابنا على ظاهره و يقولون : إنّه عليه السّلام لم يكن منصوصا عليه بالامامة من جهة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن كان أولى النّاس بها و أحقّهم بمنزلتها ، لأنه لو كان منصوصا عليه بالامامة من جهة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما جاز له أن يقول : دعونى و التمسوا غيرى ، و لا أن يقول : و لعلّي أسمعكم و أطوعكم لمن و ليتموه أمركم ، و لا أن يقول : و أنا لكم وزيرا خير لكم منّى أميرا . [ 65 ] ثمّ ذكر تأويل الامامية بأنّ الخطاب للطالبين منه أن يسير فيهم مثل سيرة الخلفاء بتفضيل بعضهم على بعض في القسمة و العطاء ، فاستعفاهم و سألهم أن يطلبوا غيره ممن يسير بسيرتهما إلى أن قال : و قد حمل بعضهم كلامه عليه السّلام على محمل آخر فقال : هذا كلام مستزيد شاك من أصحابه يقول عليه السّلام لهم : دعوني و التمسوا غيري ، على طريق التّضجر منهم و التّسخط لأفعالهم ، لأنّهم كانوا عدلوا عنه من قبل و اختاروا غيره عليه فلما طلبوه بعد أجابهم جواب العاتب المتسخّط ثمّ قال : و حمل قوم منهم الكلام على وجه آخر فقالوا : إنّه أخرجه مخرج التّهكّم و السّخرية ، أى أنا لكم وزيرا خير منّى لكم أميرا فيما تعتقدونه كما قال سبحانه : ذقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزيزُ الْكَريمُ . أى بزعمك و اعتقادك ثمّ قال : و اعلم أنّ ما ذكروه ليس ببعيد أن يحمل الكلام عليه لو كان الدّليل قد دلّ على ذلك ، فأمّا إذا لم يدلّ عليه دليل فلا يجوز صرف اللّفظ عن ظاهره . و نحن نتمسّك بالظاهر إلى أن يقوم دلالة على مذهبهم تصدّنا عن حمل اللّفظ على ظاهره ، و لو جاز أن يصرف الألفاظ عن ظواهرها لغير دليل قاهر يصدّ عنها لم يبق وثوق بكلام اللّه عزّ و جلّ و بكلام رسوله ، انتهى كلامه هبط مقامه . و أورد عليه المحدّث العلامة المجلسىّ طاب رمسه في المجلّد الثّامن من البحار بعد نقل كلامه بقوله : و لا يخفى على اللّبيب بعد الغماض عن الأدلّة القاهرة و النّصوص المتواترة لا فرق بين المذهبين في وجوب التّأويل و لا يستقيم الحمل على ظاهره إلاّ على القول بأنّ إمامته عليه السّلام كان مرجوحا و أنّ كونه وزيرا كان أولى من كونه أميرا ، و هو ينافي القول بالتفضيل الذي قال به ، فانّه عليه السّلام إذا كان أحقّ بالامامة و بطل تفضيل المفضول على ما هو الحقّ و اختاره أيضا كيف يجوز للناس أن يعدلوا عنه إلى غيره و كيف يجوز له عليه السّلام أن يأمر الناس بتركه و العدول عنه [ 66 ] إلى غيره مع عدم ضرورة تدعو إلى ترك الامامة ؟ و مع وجود الضّرورة كما جاز ترك الامامة الواجبة بالدّليل جاز ترك الامامة المنصوص عليها ، فالتأويل واجب على التقديرين و لا نعلم أحدا قال بتفضيل غيره عليه و رجحان العدول إلى أحد سواه في ذلك الزمان ، على أنّ الظّاهر للمتأمّل في أجزاء الكلام حيث علّل الأمر بالتماس الغير باستقبال أمر لا تقوم له القلوب و لا تثبت عليه العقول و يتنكّر المحجة و أنّه إن أجابهم حملهم على محض الحقّ ، هو أنّ السّبب في ذلك وجود المانع دون عدم النّص و أنّه لم يكن متعيّنا للامامة أو لم يكن أحقّ و أولى به و نحو ذلك تنبيه متضمّن لبعض الأخبار المناسبة للمقام ، قال ابن الأثير في المحكيّ عنه في كتاب الكامل : لما قتل عثمان اجتمع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من المهاجرين و الأنصار و فيهم طلحة و الزّبير فأتوا عليّا عليه السّلام فقالوا له لا بدّ للناس من إمام ، قال : لا حاجة لي في أمركم فمن اخترتم رضيت به ، فقالوا : ما نختار غيرك و تردّدوا إليه مرارا و قالوا في آخر ذلك : إنّا لا نعلم أحدا أحقّ به منك و لا أقدم سابقة و لا أقرب قرابة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، فقال عليه السّلام : لا تفعلوا فاني أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا ، فقالوا ، و اللّه ما نحن بفاعلين حتّى نبايعك . قال عليه السّلام : ففي المسجد فانّ بيعتي لا يكون خفيّا و لا يكون إلاّ في المسجد و كان عليه السّلام في بيته ، و قيل : في حايط لبني عمرو بن منذر ، فخرج إلى المسجد و عليه ازار و قميص و عمامة خز و نعلاه في يده متوكّئا على قوسه ، فبايعه الناس فكان أوّل من بايعه طلحة بن عبيد اللّه ، فنظر إليه حبيب بن ذويب فقال : إنّا للّه و إنّا إليه راجعون ، أوّل من بدأ بالبيعة يد شلاء لا يتمّ هذا الأمر ، و بايعه الزبير و قالا بعد ذلك : إنما صنعنا ذلك خشية على أنفسنا ، و هربا إلى مكّة بعد قتل عثمان بأربعة أشهر و بايعه الناس و جاؤوا بسعد بن أبي وقاص فقال عليّ عليه السّلام : بايع ، قال : لا حتّى يبايع النّاس و اللّه ما عليك منّي بأس ، فقال عليه السّلام : خلّوا سبيله ، و جاؤوا بابن عمر فقالوا : بايع [ 67 ] فقال : لا حتى يبايع الناس ، قال : ائتني بكفيل قال ، لا أرى كفيلا ، قال الأشتر : دعنى أضرب عنقه قال عليه السّلام : دعوه أنا كفيله . و بايعت الأنصار إلاّ نفرا يسيرا منهم حسان بن ثابت ، و كعب بن مالك ، و مسلمة بن مخلد ، و أبو سعيد الخدري ، و محمّد بن مسلمة ، و النعمان بن بشير ، و زيد ابن ثابت ، و كعب بن مالك ، و رافع خديج ، و فضالة بن عبيد ، و كعب بن عجرة كانوا عثمانية فأمّا النعمان بن بشير فانه أخذ أصابع نائلة امرئة عثمان التي قطعت و قميص عثمان الذي قتل فيه ، فلحق بالشام فكان معاوية يعلّق قميص عثمان و فيه الأصابع فاذا رأوا ذلك أهل الشام ازدادوا غيظا وجدّوا في أمرهم قال : و روى أنهم لمّا أتوا عليّا عليه السّلام ليبايعوه قال : دعوني و التمسوا غيري فانّا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تقوم له القلوب و لا تثبت عليه العقول ، فقالوا ننشدك اللّه ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى الاسلام ؟ ألا ترى الفتنة ؟ ألا تخاف اللّه ؟ فقال : قد أجبتكم و اعلموا أني إن أجبتكم أركب بكم ما أعلم فان تركتموني فانما أنا كأحدكم إلاّ أنّي من أسمعكم و أطوعكم لمن و ليتموه و روى الشّارح المعتزلي عن الطبري و غيره أنّ الناس غشوه و تكاثروا عليه يطلبون مبايعته و هو عليه السّلام يأبى ذلك و يقول : دعونى و التمسوا غيرى فانّا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تثبت عليه العقول و لا تقوم له القلوب ، قالوا : ننشدك اللّه ألا ترى الفتنة ؟ ألا ترى إلى ما حدث في الاسلام ؟ ألا تخاف اللّه ؟ فقال عليه السّلام : قد أجبتكم لما أرى منكم و اعلموا أنى إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم و إن تركتموني فانّما أنا كأحدكم بل أنا أسمعكم و أطوعكم لمن و ليتموه أمركم ، فقالوا : ما نحن بتاركيك . قال عليه السّلام : إن كان لا بدّ من ذلك ففي المسجد إنّ بيعتي لا يكون خفيّا و لا يكون إلاّ عن رضاء المسلمين و في ملاء و جماعة ، فقام و النّاس حوله فدخل المسجد و انثال عليه المسلمون فبايعوه و فيهم طلحة و الزبير و في البحار من المناقب في جمل أنساب الأشراف أنه قال الشعبي في خبر : [ 68 ] لما قتل عثمان أقبل الناس إلى عليّ عليه السّلام ليبايعوه و مالوا إليه فمدّوا يده فكفّها ، و بسطوها فقبضها حتّى بايعوه و في ساير التواريخ أنّ أوّل من بايعه طلحة بن عبد اللّه و كانت أصبعه اصيبت يوم أحد فشلّت ، فبصربها أعرابيّ حين بايع فقال : ابتدأ هذا الأمريد شلاء لا يتمّ ، ثمّ بايعه الناس فى المسجد ، و يروى أنّ الرّجل كان عبيد بن ذويب فقال : يد شلاء و بيعة لا يتمّ و فى البحار و بويع يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجّة سنة خمس و ثلاثين من الهجرة ، و عن المعلّى بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام انّ اليوم الذي بويع فيه أمير المؤمنين ثانية كان يوم النيروز ، هذا و لمّا بويع عليه السّلام انشأ عطيّة هذه الأبيات : رأيت عليّا خير من وطى‏ء الحصا و أكرم خلق اللّه من بعد أحمد وصيّ رسول المرتضى و ابن عمّه و فارسه المشهور في كلّ مشهد تخيّره الرّحمن من خير اسرة لأطهر مولود و أطيب مولد إذا نحن بايعنا عليّا فحسبنا ببيعته بعد النبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنشأ خزيمة بن ثابت إذا نحن بايعنا عليّا فحسبنا أبو حسن ممّا نخاف من الفتن وجدناه أولى النّاس بالنّاس انه أطبّ قريش بالكتاب و بالسنن و انّ قريشا لا تشقّ غباره إذا ما جرى يوما على ضمر البدن ففيه الذي فيهم من الخير كلّه و ما فيهم مثل الذي فيه من حسن وصيّ رسول اللّه من دون أهله و فارسه قد كان في سالف الزّمن و أوّل من صلّى من الناس كلّهم سوى خيرة النسوان و اللّه ذى المنن و صاحب كبش القوم في كلّ وقعة يكون لها نفس الشجاع لدى الذقن فداك الذي تثنى الخناصر باسمه إمامهم حتّى اغيّب في الكفن الترجمة از جمله كلام بلاغت نظام آن إمام عاليمقام است وقتيكه اراده شد بر بيعت [ 69 ] بعد از كشته شدن عثمان بى‏ايمان ميفرمايد : ترك نمائيد مرا از اين كار و معاف بداريد و طلب كنيد غير مرا پس بدرستي كه ما استقبال نمايندگانيم كاريرا كه مر او را است وجهها و رنگهاى گوناگون كه نمى‏ايستد و صبر نمينمايد آن كار را قلبها ، و ثابت نميشود بر آن عقلها ، و بدرستيكه آفاق و اطراف عالم را ظلمت گرفته و راه روشن شريعت تغيير يافته ، و بدانيد اينكه بدرستي من اگر اجابت نمايم و قبول كنم حرف شما را سوار گردانم شما را بآنچه كه خودم ميدانم و گوش نميدهم بگفتار گوينده و ملامت ملامت كننده ، و اگر بگذاريد مرا بحال خود و معذور بداريد پس من ميباشم مثل يكى از شماها ، و شايد اينكه گوش دادن و اطاعت نمودن من بيشتر از شماها باشد بكسى كه والى امر خود قرار بدهيد ، و من از براى شما در حالتى كه وزير باشم بهترم از براى شما از من در حالتى كه أمير باشم زيرا كه در حالت أمارت و بسط يد تكليف من قيام نمودنست بمحض حق و آن صعب است در حق أكثر مردم ، و أما در حالت وزارت تكليف من نصيحت است و مشاورت و بس خواه و الى امر قبول نمايد و خواه قبول ننمايد