جستجو

و من كلام له ع و قد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية و لم ينزل معاوية على بيعته

متن ترجمه آیتی ترجمه شهیدی ترجمه معادیخواه تفسیر منهاج البرائه خویی تفسیر ابن ابی الحدید تفسیر ابن میثم

[ 322 ] 43 و من كلام له ع و قد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله إلى معاوية بجرير بن عبد الله البجلي إِنَّ اِسْتِعْدَادِي لِحَرْبِ أَهْلِ اَلشَّامِ وَ جَرِيرٌ عِنْدَهُمْ إِغْلاَقٌ لِلشَّامِ وَ صَرْفٌ لِأَهْلِهِ عَنْ خَيْرٍ إِنْ أَرَادُوهُ وَ لَكِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِيرٍ وَقْتاً لاَ يُقِيمُ بَعْدَهُ إِلاَّ مَخْدُوعاً أَوْ عَاصِياً وَ اَلرَّأْيُ عِنْدِي مَعَ اَلْأَنَاةِ فَأَرْوِدُوا وَ لاَ أَكْرَهُ لَكُمُ اَلْإِعْدَادَ وَ لَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هَذَا اَلْأَمْرِ وَ عَيْنَهُ وَ قَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَ بَطْنَهُ فَلَمْ أَرَ لِي فِيهِ إِلاَّ اَلْقِتَالَ أَوِ اَلْكُفْرَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ص إِنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى اَلْأُمَّةِ وَالٍ أَحْدَثَ أَحْدَاثاً وَ أَوْجَدَ اَلنَّاسَ مَقَالاً فَقَالُوا ثُمَّ نَقَمُوا فَغَيَّرُوا أرودوا أي ارفقوا أرود في السير إروادا أي سار برفق و الأناة التثبت و التأني و نهيه لهم عن الاستعداد و قوله بعد و لا أكره لكم الإعداد غير متناقض لأنه كره منهم إظهار الاستعداد و الجهر به و لم يكره الإعداد في السر و على وجه الخفاء [ 323 ] و الكتمان و يمكن أن يقال إنه كره استعداد نفسه و لم يكره إعداد أصحابه و هذان متغايران و هذا الوجه اختاره القطب الراوندي . و لقائل أن يقول التعليل الذي علل به ع يقتضي كراهية الأمرين معا و هو أن يتصل بأهل الشام الاستعداد فيرجعوا عن السلم إلى الحرب بل ينبغي أن تكون كراهته لإعداد جيشه و عسكره خيولهم و آلات حربهم أولى لأن شياع ذلك أعظم من شياع استعداده وحده لأنه وحده يمكن أن يكتم استعداده و أما استعداد العساكر العظيمة فلا يمكن أن يكتم فيكون اتصاله و انتقاله إلى أهل الشام أسرع فيكون إغلاق الشام عن باب خير إن أرادوه أقرب و الوجه في الجمع بين اللفظتين ما قدمناه . و أما قوله ع ضربت أنف هذا الأمر و عينه فمثل تقوله العرب إذا أرادت الاستقصاء في البحث و التأمل و الفكر و إنما خص الأنف و العين لأنهما صورة الوجه و الذي يتأمل من الإنسان إنما هو وجهه . و أما قوله ليس إلا القتال أو الكفر فلأن النهي عن المنكر واجب على الإمام و لا يجوز له الإقرار عليه فإن تركه فسق و وجب عزله عن الإمامة . و قوله أو الكفر من باب المبالغة و إنما هو القتال أو الفسق فسمى الفسق كفرا تغليظا و تشديدا في الزجر عنه . و قوله ع أوجد الناس مقالا أي جعلهم واجدين له . و قال الراوندي أوجد هاهنا بمعنى أغضب و هذا غير صحيح لأنه لا شي‏ء ينصب به مقالا إذا كان بمعنى أغضب و الوالي المشار إليه عثمان [ 324 ] ذكر ما أورده القاضي عبد الجبار من دفع ما تعلق به الناس على عثمان من الأحداث يجب أن نذكر هاهنا أحداثه و ما يقوله أصحابنا في تأويلاتها و ما تكلم به المرتضى في كتاب الشافي في هذا المعنى فنقول إن قاضي القضاة رحمه الله تعالى قال في المغني قبل الكلام في تفصيل هذه الأحداث كلاما مجملا معناه أن كل من تثبت عدالته و وجب توليه إما على القطع و إما على الظاهر فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن يقتضي العدول عنها يبين ذلك أن من شاهدناه على ما يوجب الظاهر توليه و تعظيمه يجب أن يبقى فيه على هذه الطريقة و إن غاب عنا و قد عرفنا أنه مع الغيبة يجوز أن يكون مستمرا على حالته و يجوز أن يكون منتقلا و لم يقدح هذا التجويز في وجوب ما ذكرناه . ثم قال فالحدث الذي يوجب الانتقال عن التعظيم و التولي إذا كان من باب محتمل لم يجز الانتقال لأجله و الأحوال المتقررة في النفوس بالعادات و الأحوال المعروفة فيمن نتولاه أقوى في باب الإمارة من الأمور المتجددة فإن مثل فرقد السبخي و مالك بن دينار لو شوهدا في دار فيها منكر لقوي في الظن حضورهما للتغيير و الإنكار [ 325 ] أو على وجه الإكراه أو الغلط و لو كان الحاضر هناك من علم من حاله الاختلاط بالمنكر لجوز حضوره للفساد بل كان ذلك هو الظاهر من حاله . ثم قال و اعلم أن الكلام فيما يدعى من الحدث و التغير فيمن ثبت توليه قد يكون من وجهين أحدهما هل علم بذلك أم لا . و الثاني أنه مع يقين حصوله هل هو حدث يؤثر في العدالة أم لا . و لا فرق بين تجويز ألا يكون حدث أصلا و بين أن يعلم حدوثه و يجوز ألا يكون حدثا . ثم قال كل محتمل لو أخبر الفاعل أنه فعله على أحد الوجهين و كان يغلب على الظن صدقه لوجب تصديقه فإذا عرف من حاله المتقررة في النفوس ما يطابق ذلك جرى مجرى الإقرار بل ربما كان أقوى و متى لم نسلك هذه الطريقة في الأمور المشتبهة لم يصح في أكثر من نتولاه و نعظمه أن تسلم حاله عندنا فإنا لو رأينا من يظن به الخير يكلم امرأة حسناء في الطريق لكان ذلك من باب المحتمل فإذا كان لو أخبر أنها أخته أو امرأته لوجب ألا نحول عن توليه فكذلك إذا كان قد تقدم في النفوس ستره و صلاحه فالواجب أن نحمله على هذا الوجه . ثم قال و قول الإمام له مزية في هذا الباب لأنه آكد من غيره و أما ما ينقل عن رسول الله ص فإنه و إن لم يكن مقطوعا به يؤثر في هذا الباب و يكون أقوى مما تقدم . ثم قال و قد طعن الطاعنون فيه بأمور متنوعة مختلفة و نحن نقدم على تلك المطاعن كلاما مجملا يبين بطلانها على الجملة ثم نتكلم عن تفصيلها . [ 326 ] قال و ذلك أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قد قال لو كانت هذه الأحداث مما توجب طعنا على الحقيقة لوجب من الوقت الذي ظهر ذلك من حاله أن يطلب المسلمون رجلا ينصب للإمامة و أن يكون ظهور ذلك عن عثمان كموته فإنه لا خلاف أنه متى ظهر من الإمام ما يوجب خلعه أن الواجب على المسلمين إقامة إمام سواه فلما علمنا أن طلبهم لإقامة إمام إنما كان بعد قتله و لم يكن من قبل و التمكن قائم علمنا بطلان ما أضيف إليه من الأحداث . قال و ليس لأحد أن يقول إنهم لم يتمكنوا من ذلك لأن المتعالم من حالهم أنهم حصروه و منعوه من التمكن من نفسه و من التصرف في سلطانه خصوصا و الخصوم يدعون أن الجميع كانوا على قول واحد في خلعه و البراءة منه . قال و معلوم من حال هذه الأحداث أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حوصر فيها و قتل بل كانت تحصل من قبل حالا بعد حال فلو كان ذلك يوجب الخلع و البراءة لما تأخر من المسلمين الإنكار عليه و لكان كبار الصحابة المقيمون بالمدينة أولى بذلك من الواردين من البلاد لأن أهل العلم و الفضل بإنكار ذلك أحق من غيرهم . قال فقد كان يجب على طريقتهم أن تحصل البراءة و الخلع من أول الوقت الذي حصل منه ما أوجب ذلك و ألا ينتظر حصول غيره من الأحداث لأنه لو وجب انتظار ذلك لم ينته إلى حد إلا و ينتظر غيره . ثم ذكر أن إمساكهم عن ذلك إذا تيقنوا الأحداث منه يوجب نسبة الجميع إلى الخطإ و الضلال و لا يمكنهم أن يقولوا إن علمهم بذلك إنما حصل في الوقت الذي حصر و منع لأن من جملة الأحداث التي يذكرونها ما تقدم عن هذه الحال بل كلها أو جلها تقدم هذا الوقت و إنما يمكنهم أن يتعلقوا فيما حدث في هذا الوقت بما يذكرونه من [ 327 ] حديث الكتاب النافذ إلى ابن أبي سرح بالقتل و ما أوجب كون ذلك حدثنا يوجب كون غيره حدثا فكان يجب أن يفعلوا ذلك من قبل و احتمال المتقدم للتأويل كاحتمال المتأخر . ثم قال و بعد فليس يخلو من أن يدعوا أن طلب الخلع وقع من كل الأمة أو من بعضهم فإن ادعوا ذلك في بعض الأمة فقد علمنا أن الإمامة إذا ثبتت بالإجماع لم يجز إبطالها بلا خلاف لأن الخطأ جائز على بعض الأمة و إن ادعوا في ذلك الإجماع لم يصح لأن من جملة أهل الإجماع عثمان و من كان ينصره و لا يمكن إخراجه من الإجماع بأن يقال إنه كان على باطل لأن بالإجماع يتوصل إلى ذلك و لم يثبت . ثم قال على أن الظاهر من حال الصحابة أنها كانت بين فريقين أما من نصره فقد روي عن زيد بن ثابت أنه قال لعثمان و من معه من الأنصار ائذن لنا بنصرك و روي مثل ذلك عن ابن عمر و أبي هريرة و المغيرة بن شعبة و الباقون ممتنعون انتظارا لزوال العارض إلا أنه لو ضيق عليهم الأمر في الدفع ما قعدوا بل المتعالم من حالهم ذلك . ثم ذكر ما روي من إنفاذ أمير المؤمنين ع الحسن و الحسين ع إليه و أنه لما قتل لامهما ع على وصول القوم إليه ظنا منه أنهما قصرا . و ذكر أن أصحاب الحديث يروون عن النبي ص أنه قال ستكون فتنة و اختلاف و أن عثمان و أصحابه يومئذ على الهدى و ما روي عن عائشة من قولها قتل و الله مظلوما . قال و لا يمتنع أن يتعلق بأخبار الأحاديث في ذلك لأنه ليس هناك أمر ظاهر يدفعه نحو دعواهم أن جميع الصحابة كانوا عليه لأن ذلك دعوى منهم و إن كان فيه رواية من جهة الآحاد و إذا تعارضت الروايات سقطت و وجب الرجوع إلى ما ثبت من أحواله السليمة و وجوب توليه . [ 328 ] قال و لا يجوز أن يعدل عن تعظيمه و صحة إمامته بأمور محتملة فلا شي‏ء مما ذكروه إلا و يحتمل الوجه الصحيح . ثم ذكر أن للإمام أن يجتهد برأيه في الأمور المنوطة به و يعمل فيها على غالب ظنه و قد يكون مصيبا و إن أفضت إلى عاقبة مذمومة . فهذه جملة ما ذكره قاضي القضاة رحمه الله تعالى في المغني من الكلام إجمالا في دفع ما يتعلق به على عثمان من الأحداث رد المرتضى على ما أورده القاضي عبد الجبار من الدفاع عن عثمان و اعترض المرتضى رحمه الله تعالى في الشافي فقال أما قوله من تثبت عدالته و وجب توليه إما قطعا أو على الظاهر فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن فغير مسلم لأن من نتولاه على الظاهر و ثبتت عدالته عندنا من جهة غالب الظن يجب أن نرجع عن ولايته بما يقتضي غالب الظن دون اليقين و لهذا يؤثر في جرح الشهود و سقوط عدالتهم أقوال الجارحين و إن كانت مظنونة غير معلومة و ما يظهر من أنفسهم من الأفعال التي لها ظاهر يظن معه القبيح بهم حتى نرجع عما كنا عليه من القول بعدالتهم و إن لم يكن كل ذلك متيقنا و إنما يصح ما ذكره فيمن ثبتت عدالته على القطع و وجب توليه على الباطن فلا يجوز أن يؤثر في حاله ما يقتضي الظن لأن الظن لا يقابل العلم و الدلالة لا تقابل الأمارة . فإن قال لم أرد بقولي إلا بأمر متيقن أن كونه حدثا متيقن و إنما أردت تيقن وقوع الفعل نفسه . قلنا الأمران سواء في تأثير غلبة الظن فيهما و لهذا يؤثر في عدالة من تقدمت [ 329 ] عدالته عندنا على سبيل الظن أقوال من يخبرنا عنه بارتكاب القبائح إذا كانوا عدولا و إن كانت أقوالهم لا تقتضي اليقين بل يحصل عندها غالب الظن و كيف لا نرجع عن ولاية من توليناه على الظاهر بوقوع أفعال منه يقتضي ظاهرها خلاف الولاية و نحن إنما قلنا بعدالته في الأصل على سبيل الظاهر و مع التجويز لأن يكون ما وقع منه في الباطن قبيحا لا يستحق به التولي و التعظيم أ لا ترى أن من شاهدناه يلزم مجالس العلم و يكرر تلاوة القرآن و يدمن الصلاة و الصيام و الحج يجب أن نتولاه و نعظمه على الظاهر و إن جوزنا أن يكون جميع ما وقع منه مع خبث باطنه و أن غرضه في فعله القبيح فلم نتوله إلا على الظاهر و مع التجويز فكيف لا نرجع عن ولايته بما يقابل هذه الطريقة فأما من غاب عنا و تقدمت له أحوال تقتضي الولاية فيجب أن نستمر على ولايته و إن جوزنا على الغيبة أن يكون منتقلا عن الأحوال الجميلة التي عهدناها منه إلا أن هذا تجويز محض لا ظاهر معه يقابل ما تقدم من الظاهر الجميل و هو بخلاف ما ذكرناه من مقابلة الظاهر للظاهر و إن كان في كل واحد من الأمرين تجويز . قال و قد أصاب في قوله إن ما يحتمل لا ينتقل له عن التعظيم و التولي إن أراد بالاحتمال ما لا ظاهر له و أما ما له ظاهر و مع ذلك يجوز أن يكون الأمر فيه بخلاف ظاهره فإنه لا يسمى محتملا و قد يكون مؤثرا فيما ثبت من التولي على الظاهر على ما ذكرناه . قال فأما قوله إن الأحوال المتقررة في النفوس بالعادات فيمن نتولاه تؤثر ما لا يؤثر غيرها و تقتضي حمل أفعاله على الصحة و التأول له فلا شك أن ما ذكره مؤثر و طريق قوي إلى غلبة الظن إلا أنه ليس يقتضي ما يتقرر في نفوسنا لبعض من نتولاه على الظاهر أن نتأول كل ما يشاهد منه من الأفعال التي لها ظاهر قبيح و نحمل الجميع على [ 330 ] أجمل الوجوه و إن كان بخلاف الظاهر بل ربما تبين الأمر فيما يقع منه من الأفعال التي ظاهرها القبيح إلى أن تؤثر في أحواله المقررة و نرجع بها عن ولايته و لهذا نجد كثيرا من أهل العدالة المتقررة لهم في النفوس ينسلخون منها حتى يلحقوا بمن لا تثبت له في وقت من الأوقات عدالة و إنما يكون ذلك بما يتوالى منهم و يتكرر من الأفعال القبيحة الظاهرة . قال فأما ما استشهد به من أن مثل مالك بن دينار لو شاهدناه في دار فيها منكر لقوي في الظن حضوره لأجل التغيير و الإنكار أو على وجه الإكراه و الغلط و أن غيره يخالفه في هذا الباب فصحيح لا يخالف ما ذكرناه لأن مثل مالك بن دينار ممن تناصرت أمارات عدالته و شواهد نزاهته حالا بعد حال لا يجوز أن يقدح فيه فعل له ظاهر قبيح بل يجب لما تقدم من حاله أن نتأول فعله و نخرجه عن ظاهره إلى أجمل وجوهه و إنما وجب ذلك لأن الظنون المتقدمة أقوى و أولى بالترجيح و الغلبة فنجعلها قاضية على الفعل و الفعلين و لهذا متى توالت منه الأفعال القبيحة الظاهرة و تكررت قدحت في حاله و أثرت في ولايته كيف لا يكون كذلك و طريق ولايته في الأصل هو الظن و الظاهر و لا بد من قدح الظاهر في الظاهر و تأثير الظن في الظن على بعض الوجوه . قال فأما قوله فإن كل محتمل لو أخبرنا عنه و هو مما يغلب على الظن صدقه أنه فعله على أحد الوجهين وجب تصديقه فمتى عرف من حاله المتقررة في النفوس ما يطابق ذلك جرى مجرى الإخبار فأول ما فيه أن المحتمل هو ما لا ظاهر له من الأفعال و الذي يكون جواز كونه قبيحا كجواز كونه حسنا و مثل هذا الفعل لا يقتضي ولاية [ 331 ] و لا عداوة و إنما يقتضي الولاية ما له من الأفعال ظاهر جميل و يقتضي العداوة ما له ظاهر قبيح . فإن قال أردت بالمحتمل ما له ظاهر لكنه يجوز أن يكون الأمر بخلاف ظاهره . قيل له ما ذكرته لا يسمى محتملا فإن كنت عنيته فقد وضعت العبارة في غير موضعها و لا شك في أنه إذا كان ممن لو أخبرنا بأنه فعل الفعل على أحد الوجهين لوجب تصديقه و حمل الفعل على خلاف ظاهره فإن الواجب لما تقرر له في النفوس أن يتأول له و يعدل بفعله عن الوجه القبيح إلى الوجه الجميل إلا أنه متى توالت منه الأفعال التي لها ظواهر قبيحة فلا بد أن تكون مؤثرة في تصديقه متى خبرنا بأن غرضه في الفعل خلاف ظاهره كما تكون مانعة من الابتداء بالتأول . و ضربه المثل بأن من نراه يكلم امرأة حسناء في الطريق إذا أخبر أنها أخته أو امرأته في أن تصديقه واجب و لو لم يخبر بذلك لحملنا كلامه لها على أجمل الوجوه لما تقدم له في النفوس صحيح إلا أنه لا بد من مراعاة ما تقدم ذكره من أنه قد يقوى الأمر لقوة الأمارات و الظواهر إلى حد لا يجوز معه تصديقه و لا التأول له و لو لا أن الأمر قد ينتهي إلى ذلك لما صح أن يخرج أحد عندنا من الولاية إلى العداوة و لا من العدالة إلى خلافها لأنه لا شي‏ء مما يفعله الفساق المتهتكون إلا و يجوز أن يكون له باطن بخلاف الظاهر و مع ذلك فلا يلتفت إلى هذا التجويز يبين صحة ما ذكرناه أنا لو رأينا من يظن به الخير يكلم امرأة حسناء في الطريق و يداعبها و يضاحكها لظننا به الجميل مرة و مرات ثم ينتهي الأمر إلى ألا نظنه و كذلك لو شاهدناه و بحضرته المنكر لحملنا حضوره على الغلط أو الإكراه أو غير ذلك من الوجوه الجميلة ثم لا بد من انتهاء الأمر إلى أن نظن به القبيح و لا نصدقه في كلامه . [ 332 ] قال ثم نقول له أخبرنا عمن شاهدناه من بعد و هو مفترش امرأة نعلم أنها ليست له بمحرم و أن لها في الحال زوجا غيره و هو ممن تقررت له في النفوس عدالة متقدمة ما ذا يجب أن نظن به و هل نرجع بهذا الفعل عن ولايته أم نحمله على أنه غالط و متوهم أن المرأة زوجته أو على أنه مكره على الفعل أو غير ذلك من الوجوه الجميلة . فإن قال نرجع عن الولاية اعترف بخلاف ما قصده في الكلام و قيل له أي فرق بين هذا الفعل و بين جميع ما عددناه من الأفعال و ادعيت أن الواجب أن نعدل عن ظاهرها و ما جواز الجميل في ذلك إلا كجواز الجميل في هذا الفعل . و إن قال لا أرجع بهذا الفعل عن ولايته بل نؤوله على بعض الوجوه الجميلة . قيل له أ رأيت لو تكرر هذا الفعل و توالى هو و أمثاله حتى نشاهده حاضرا في دور القمار و مجالس اللهو و اللعب و نراه يشرب الخمر بعينها و كل هذا مما يجوز أن يكون عليه مكرها و في أنه القبيح بعينه غالطا أ كان يجب علينا الاستمرار على ولايته أم العدول عنها فإن قال نستمر و نتأول ارتكب ما لا شبهة في فساده و ألزم ما قد قدمنا ذكره من أنه لا طريق إلى الرجوع عن ولاية أحد و لو شاهدنا منه أعظم المناكير و وقف أيضا على أن طريق الولاية المتقدمة إذا كان الظن دون القطع فكيف لا نرجع عنها لمثل هذا الطريق فلا بد إذن من الرجوع إلى ما بيناه و فصلناه في هذا الباب . قال فأما قوله إن قول الإمام له مزية لأنه آكد من غيره فلا معنى له لأن قول الإمام على مذهبنا يجب أن يكون له مزية من حيث كان معصوما مأمون الباطن و على مذهبه إنما تثبت ولايته بالظاهر كما تثبت ولاية غيره من سائر المؤمنين فأي مزية له في هذا الباب . [ 333 ] و قوله إن ما ينقل عن الرسول و إن لم يكن مقطوعا عليه يؤثر في هذا الباب و يكون أقوى مما تقدم غير صحيح على إطلاقه لأن تأثير ما ينقل إذا كان يقتضي غلبة الظن لا شبهة فيه فأما تقويته على غيره فلا وجه له و قد كان يجب أن يبين من أي الوجوه يكون أقوى . فهذه جملة ما اعترض به المرتضى على الفصل الأول من كلام قاضي القضاة رحمه الله تعالى . تم الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة [ 3 ] الجزء الثالث تتمة الخطب و الأوامر تتمة خطبة 43 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل الكريم و اعلم أن الذي ذكره المرتضى رحمه الله تعالى و أورده على قاضي القضاة جيد و لازم متى ادعى قاضي القضاة أن العدالة إذا ثبتت ظنا أو قطعا لم يجز العدول عنها و التبرؤ إلا بما يوجب القطع و يعلم به علما يقينيا زوالها فأما إذا ادعى أن المعلوم لا يزول إلا بما يوجب العلم فلا يرد عليه ما ذكره المرتضى رحمه الله تعالى . و له أن يقول قد ثبتت بالإجماع إمامة عثمان و الإجماع دليل قطعي عند أصحابنا و كل من ثبتت إمامته ثبتت عدالته بالطريق التي بها ثبتت إمامته لأنه لا يجوز أن تكون إمامته معلومة و شرائطها مظنونة لأن الموقوف على المظنون مظنون فتكون إمامته مظنونة و قد فرضناها معلومة و هذا خلف و محال و إذا كانت عدالته معلومة لم يجز القول بانتفائها و زوالها إلا بأمر معلوم . و الأخبار التي رويت في أحداثه أخبار آحاد لا تفيد العلم فلا يجوز العدول عن المعلوم بها فهذا الكلام إذا رتب هذا الترتيب اندفع به ما اعترض به المرتضى رحمه الله تعالى [ 4 ] بقية رد المرتضى على ما أورده القاضي عبد الجبار من الدفاع عن عثمان فأما كلام المرتضى رحمه الله تعالى على الفصل الثاني من كلام قاضي القضاة و هو الفصل المحكي عن شيخنا أبي علي رحمه الله تعالى فنحن نورده قال رحمه الله تعالى . أما قوله لو كان ما ذكر من الأحداث قادحا لوجب من الوقت الذي ظهرت الأحداث فيه أن يطلبوا رجلا ينصبونه في الإمامة لأن ظهور الحدث كموته فلما رأيناهم طلبوا إماما بعد قتله دل على بطلان ما أضافوه إليه من الأحداث فليس بشي‏ء معتمد لأن تلك الأحداث و إن كانت مزيلة عندهم لإمامته و فاسخة لها و مقتضية لأن يعقدوا لغيره الإمامة إلا أنهم لم يكونوا قادرين على أن يتفقوا على نصب غيره مع تشبثه بالأمر خوفا من الفتنة و التنازع و التجاذب و أرادوا أن يخلع نفسه حتى تزول الشبهة و ينشط من يصلح للأمر لقبول العقد و التكفل بالأمر و ليس يجري ذلك مجرى موته لأن موته يحسم الطمع في استمرار ولايته و لا تبقى شبهة في خلو الزمان من إمام و ليس كذلك حدثه الذي يسوغ فيه التأويل على بعده و تبقى معه الشبهة في استمرار أمره و ليس نقول إنهم لم يتمكنوا من ذلك كما سأل نفسه بل الوجه في عدولهم ما ذكرناه من إرادتهم حسم المواد و إزالة الشبهة و قطع أسباب الفتنة . [ 5 ] قال فأما قوله إنه معلوم من حال هذه الأحداث أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حصر فيها و قتل بل كانت تقع حالا بعد حال فلو كانت توجب الخلع و البراءة لما تأخر من المسلمين الإنكار عليه و لكان المقيمون من الصحابة بالمدينة أولى بذلك من الواردين من البلاد فلا شك أن الأحداث لم تحصل في وقت واحد إلا أنه غير منكر أن يكون نكيرهم إنما تأخر لأنهم تأولوا ما ورد عليهم من أفعاله على أجمل الوجوه حتى زاد الأمر و تفاقم و بعد التأويل و تعذر التخريج و لم يبق للظن الجميل طريق فحينئذ أنكروا و هذا مستمر على ما قدمنا ذكره من أن العدالة و الطريقة الجميلة يتأول لها في الفعل و الأفعال القليلة بحسب ما تقدم من حسن الظن به ثم ينتهي الأمر بعد ذلك إلى بعد التأويل و العمل على الظاهر القبيح . قال على أن الوجه الصحيح في هذا الباب أن أهل الحق كانوا معتقدين بخلعه من أول حدث بل معتقدين أن إمامته لم تثبت وقتا من الأوقات و إنما منعهم من إظهار ما في نفوسهم ما قدمناه من أسباب الخوف و التقية لأن الاعتذار بالوجل كان عاما فلما تبين أمره حالا بعد حال و أعرضت الوجوه عنه و قل العاذر له قويت الكلمة في خلعه و هذا إنما كان في آخر الأمر دون أوله فليس يقتضي الإمساك عنه إلى الوقت الذي وقع الكلام فيه نسبة الخطأ إلى الجميع على ما ظنه . قال فأما دفعه بأن تكون الأمة أجمعت على خلعه بخروجه نفسه و خروج من كان في حيزه عن القوم فليس بشي‏ء لأنه إذا ثبت أن من عداه و عدا عبيده و الرهيط من فجار أهله و فساقهم كمروان و من جرى مجراه كانوا مجمعين على خلعه فلا شبهة [ 6 ] في أن الحق في غير حيزه لأنه لا يجوز أن يكون هو المصيب و جميع الأمة مبطل و إنما يدعى أنه على الحق لمن ينازع في إجماع من عداه فأما مع التسليم لذلك فليس يبقى شبهة و ما نجد مخالفينا يعتبرون في باب الإجماع بإجماع الشذاذ و النفر القليل الخارجين من الإجماع أ لا ترى أنهم لا يحفلون بخلاف سعد و أهله و ولده في بيعه أبي بكر لقلتهم و كثرة من بإزائهم و لذلك لا يعتدون بخلاف من امتنع من بيعة أمير المؤمنين ع و يجعلونه شاذا لا تأثير بخلافه فكيف فارقوا هذه الطريقة في خلع عثمان و هل هذا إلا تقلب و تلون . قلت أما إذا احتج أصحابنا على إمامة أبي بكر بالإجماع فاعتراض حجتهم بخلاف سعد و ولده و أهله اعتراض جيد و ليس يقول أصحابنا في جوابه هؤلاء شذاذ فلا نحفل بخلافهم و إنما المعتبر بالكثرة التي بإزائهم و كيف يقولون هذا و حجتهم الإجماع و لا إجماع و لكنهم يجيبون عن ذلك بأن سعدا مات في خلافة عمر فلم يبق من يخالف في خلافة عمر فانعقد الإجماع عليها و بايع ولد سعد و أهله من قبل و إذا صحت خلافة عمر صحت خلافة أبي بكر لأنها فرع عليها و محال أن يصح الفرع و يكون الأصل فاسدا فهكذا يجيب أصحابنا عن الاعتراض بخلاف سعد إذا احتجوا بالإجماع فأما إذا احتجوا بالاختيار فلا يتوجه نحوهم الاعتراض بخلاف سعد و أهله و ولده لأنه ليس من شرط ثبوت الإمامة بالاختيار إجماع الأمة على الاختيار و إنما يكفي فيه بيعة خمسة من أهل الحل و العقد على الترتيب الذي يرتب أصحابنا الدلالة عليه و بهذا الطريق يثبت عندهم إمامة علي ع و لم يحفل بخلاف معاوية و أهل الشام فيها . [ 7 ] قال رحمه الله تعالى فأما قوله إن الصحابة كانت بين فريقين من نصره كزيد بن ثابت و ابن عمر و فلان و فلان و الباقون ممتنعون انتظارا لزوال العارض و لأنه ما ضيق عليهم الأمر في الدفع عنه فعجيب لأن الظاهر أن أنصاره هم الذين كانوا معه في الدار يقاتلون عنه و يدفعون الهاجمين عليه . فأما من كان في منزله ما أغنى عنه فتيلا فلا يعد ناصرا و كيف يجوز ممن أراد نصرته و كان معتقدا لصوابه و خطإ المطالبين له بالخلع أن يتوقف عن النصرة طلبا لزوال العارض و هل تراد النصرة إلا لدفع العارض و بعد زواله لا حاجة إليها و ليس يحتاج في نصرته إلى أن يضيق هو عليهم الأمر فيها بل من كان معتقدا لها لا يحتاج حمله إلى إذنه فيها و لا يحفل بنهيه عنها لأن المنكر مما قد تقدم أمر الله تعالى بالنهي عنه فليس يحتاج في إنكاره إلى أمر غيره . قال فأما زيد بن ثابت فقد روي ميله إلى عثمان و ما يغني ذلك و بإزائه جميع المهاجرين و الأنصار و لميله إليه سبب معروف فإن الواقدي روى في كتاب الدار أن مروان بن الحكم لما حصر عثمان الحصر الأخير أتى زيد بن ثابت فاستصحبه إلى عائشة ليكلمها في هذا الأمر فمضيا إليها و هي عازمة على الحج فكلماها في أن تقيم و تذب عنه فأقبلت على زيد بن ثابت فقالت و ما منعك يا ابن ثابت و لك الأشاريف قد اقتطعكها عثمان و لك كذا و كذا و أعطاك عثمان من بيت المال عشرة آلاف دينار قال زيد فلم أرجع عليها حرفا واحدا و أشارت إلى مروان بالقيام فقام مروان و هو يقول [ 8 ] حرق قيس علي البلاد حتى إذا اضطرمت أجذما فنادته عائشة و قد خرج من العتبة يا ابن الحكم أ علي تمثل الأشعار قد و الله سمعت ما قلت أ تراني في شك من صاحبك و الذي نفسي بيده لوددت أنه الآن في غرارة من غرائري مخيط عليه فألقيه في البحر الأخضر قال زيد بن ثابت فخرجنا من عندها على اليأس منها . و روى الواقدي أن زيد بن ثابت اجتمع عليه عصابة من الأنصار و هو يدعوهم إلى نصرة عثمان فوقف عليه جبلة بن عمرو بن حبة المازني فقال له و ما يمنعك يا زيد أن تذب عنه أعطاك عشرة آلاف دينار و حدائق من نخل لم ترث عن أبيك مثل حديقة منها . فأما ابن عمر فإن الواقدي روى أيضا عنه أنه قال و الله ما كان فينا إلا خاذل أو قاتل و الأمر على هذا أوضح من أن يخفى . فأما ما ذكره من إنفاذ أمير المؤمنين ع الحسن و الحسين ع فإنما أنفذهما إن كان أنفذهما ليمنعا من انتهاك حريمه و تعمد قتله و منع خرمه و نسائه من الطعام و الشراب و لم ينفذهما ليمنعا من مطالبته بالخلع و كيف و هو ع مصرح بأنه يستحق بإحداثه الخلع و القوم الذين سعوا في ذلك إليه كانوا يغدون و يروحون و معلوم منه ضرورة أنه كان مساعدا على خلعه و نقض أمره لا سيما في المرة الأخيرة فأما ادعاؤه أنه ع لعن قتلته فهو يعلم ما في هذا من الروايات المختلفة التي [ 9 ] هي أظهر من هذه الرواية و إن صحت فيجوز أن تكون محمولة على لعن من قتله متعمدا قتله قاصدا إليه فإن ذلك لم يكن لهم . فأما ادعاؤه أن طلحة رجع لما ناشده عثمان يوم الدار فظاهر البطلان و غير معروف في الرواية و الظاهر المعروف أنه لم يكن على عثمان أشد من طلحة و لا أغلظ منه . قال و لو حكينا من كلامه فيه ما قد روي لأفنينا قطعة كثيرة من هذا الكتاب و قد روي أن عثمان كان يقول يوم الدار اللهم اكفني طلحة و يكرر ذلك علما بأنه أشد القوم عليه و روي أن طلحة كان عليه يوم الدار درع و هو يرامي الناس و لم ينزع عن القتال حتى قتل الرجل . فأما ادعاؤه الرواية عن رسول الله ص ستكون فتنة و أن عثمان و أصحابه يومئذ على الهدى فهو يعلم أن هذه الرواية الشاذة لا تكون في مقابلة المعلوم ضرورة من إجماع الأمة على خلعه و خذله و كلام وجوه المهاجرين و الأنصار فيه و بإزاء هذه الرواية ما يملأ الطروس عن النبي ص و غيره مما يتضمن ما تضمنته و لو كانت هذه الرواية معروفة لكان عثمان أولى الناس بالاحتجاج بها يوم الدار و قد احتج عليهم بكل غث و سمين و قبل ذلك لما خوصم و طولب بأن يخلع نفسه و لاحتج بها عنه بعض أصحابه و أنصاره و في علمنا بأن شيئا من ذلك لم يكن دلالة على أنها مصنوعة موضوعة . فأما ما رواه عن عائشة من قولها قتل و الله مظلوما فأقوال عائشة فيه معروفة و معلومة و إخراجها قميص رسول الله ص و هي تقول هذا قميصه لم يبل و قد أبلى عثمان سنته إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة . [ 10 ] فأما مدحها له و ثناؤها عليه فإنما كانا عقيب علمها بانتقال الأمر إلى من انتقل إليه و السبب فيه معروف و قد وقفت عليه و قوبل بين كلامها فيه متقدما و متأخرا . فأما قوله لا يمتنع أن يتعلق بأخبار الآحاد في ذلك لأنها في مقابلة ما يدعونه مما طريقه أيضا الآحاد فواضح البطلان لأن إطباق الصحابة و أهل المدينة إلا من كان في الدار معه على خلافه فإنهم كانوا بين مجاهد و مقاتل مبارز و بين متقاعد خاذل معلوم ضرورة لكل من سمع الأخبار و كيف يدعى أنها من جهة الآحاد حتى يعارض بأخبار شاذة نادرة و هل هذا إلا مكابرة ظاهرة . فأما قوله إنا لا نعدل عن ولايته بأمور محتملة فقد مضى الكلام في هذا المعنى و قلنا إن المحتمل هو ما لا ظاهر له و يتجاذبه أمور محتملة فأما ما له ظاهر فلا يسمى محتملا و إن سماه بهذه التسمية فقد بينا أنه مما يعدل من أجله عن الولاية و فصلنا ذلك تفصيلا بينا . و أما قوله إن للإمام أن يجتهد برأيه في الأمور المنوطة به و يكون مصيبا و إن أفضت إلى عاقبة مذمومة فأول ما فيه أنه ليس للإمام و لا غيره أن يجتهد في الأحكام و لا يجوز أن يعمل فيها إلا على النص ثم إذا سلمنا الاجتهاد فلا شك أن هاهنا أمورا لا يسوغ فيها الاجتهاد حتى يكون من خبرنا عنه بأنه اجتهد فيها غير مصوب و تفصيل هذه الجملة يبين عند الكلام على ما تعاطاه من الإعذار عن أحداثه على جهة التفصيل . قلت الكلام في هذا الموضع على سبيل الاستقصاء إنما يكون في الكتب الكلامية المبسوطة في مسألة الإمامة و ليس هذا موضع ذاك و لكن يكفي قاضي القضاة أن يقول [ 11 ] قد ثبت بالإجماع صحة إمامة عثمان فلا يجوز الرجوع عن هذا الإجماع إلا بإجماع معلوم على خلعه و إباحة قتله و لم يجمع المسلمون على ذلك لأنه قد كان بالمدينة من ينكر ذلك و إن قلوا و قد كان أهل الأمصار ينكرون ذلك كالشام و البصرة و الحجاز و اليمن و مكة و خراسان و كثير من أهل الكوفة و هؤلاء مسلمون فيجب أن تعتبر أقوالهم في الإجماع فإذا لم يدخلوا فيمن أجلب عليه لم ينعقد الإجماع على خلعه و لا على إباحة دمه فوجب البقاء على ما اقتضاه الإجماع الأول ذكر المطاعن التي طعن بها على عثمان و الرد عليها فأما الكلام في المطاعن المفصلة التي طعن بها فيه فنحن نذكرها و نحكي ما ذكره قاضي القضاة و ما اعترضه به المرتضى رحمه الله تعالى . الطعن الأول قال قاضي القضاة في المغني فمما طعن به عليه قولهم إنه ولى أمور المسلمين من لا يصلح لذلك و لا يؤتمن عليه و من ظهر منه الفسق و الفساد و من لا علم عنده مراعاة منه لحرمة القرابة و عدولا عن مراعاة حرمة الدين و النظر للمسلمين حتى ظهر ذلك منه و تكرر و قد كان عمر حذره من ذلك حيث وصفه بأنه كلف بأقاربه و قال له إذا وليت هذا الأمر فلا تسلط بني أبي معيط على رقاب الناس فوقع منه ما حذره إياه و عوتب في ذلك فلم ينفع العتب و ذلك نحو استعماله الوليد بن عقبة و تقليده إياه [ 12 ] حتى ظهر منه شرب الخمر و استعماله سعيد بن العاص حتى ظهرت منه الأمور التي عندها أخرجه أهل الكوفة و توليته عبد الله بن أبي سرح و عبد الله بن عامر بن كريز حتى روي عنه في أمر ابن أبي سرح أنه لما تظلم منه أهل مصر و صرفه عنهم بمحمد بن أبي بكر كاتبه بأن يستمر على ولايته فأبطن خلاف ما أظهر فعل من غرضه خلاف الدين و يقال إنه كاتبه بقتل محمد بن أبي بكر و غيره ممن يرد عليه و ظفر بذلك الكتاب و لذلك عظم التظلم من بعد و كثر الجمع و كان سبب الحصار و القتل حتى كان من أمر مروان و تسلطه عليه و على أموره ما قتل بسببه و ذلك ظاهر لا يمكن دفعه . قال رحمه الله تعالى و جوابنا عن ذلك أن نقول أما ما ذكر من توليته من لا يجوز أن يستعمل فقد علمنا أنه لا يمكن أن يدعى أنه حين استعملهم علم من أحوالهم خلاف الستر و الصلاح لأن الذي ثبت عنهم من الأمور القبيحة حدث من بعد و لا يمتنع كونهم في الأول مستورين في الحقيقة أو مستورين عنده و إنما كان يجب تخطئته لو استعملهم و هم في الحال لا يصلحون لذلك . فإن قيل فلما علم بحالهم كان يجب أن يعزلهم قيل كذلك فعل لأنه إنما استعمل الوليد بن عقبة قبل ظهور شرب الخمر عنه [ 13 ] فلما شهد عليه بذلك جلده الحد و صرفه و قد روي مثله عن عمر فإنه ولى قدامة بن مظعون بعض أعماله فشهدوا عليه بشرب الخمر أشخصه و جلده الحد فإذا عد ذلك في فضائل عمر لم يجز أن يعد ما ذكروه في الوليد من معايب عثمان و يقال إنه لما أشخصه أقام عليه الحد بمشهد أمير المؤمنين ع . و قد اعتذر من عزله سعد بن أبي وقاص بالوليد بأن سعدا شكاه أهل الكوفة فأداه اجتهاده إلى عزله بالوليد . فأما سعيد بن العاص فإنه عزله عن الكوفة و ولى مكانه أبا موسى و كذلك عبد الله بن أبي سرح عزله و ولى مكانه محمد بن أبي بكر و لم يظهر له من مروان ما يوجب أن يصرفه عما كان مستعملا فيه و لو كان ذلك طعنا لوجب مثله في كل من ولى و قد علمنا أن رسول الله ص ولى الوليد بن عقبة فحدث منه ما حدث و حدث من بعض أمراء أمير المؤمنين ع الخيانة كالقعقاع بن شور لأنه ولاه على ميسان فأخذ مالها و لحق بمعاوية و كذلك فعل الأشعث بن قيس بمال آذربيجان و ولى أبا موسى الحكم فكان منه ما كان و لا يجب أن يعاب أحد بفعل غيره و إذا لم يلحقه عيب في ابتداء ولايته فقد زال العيب فيما بعده . و قولهم إنه قسم أكثر الولايات في أقاربه و زال عن طريقة الاحتياط للمسلمين و قد كان عمر حذره من ذلك فليس بعيب لأن تولية الأقارب كتولية الأباعد في أنه يحسن إذا كانوا على صفات مخصوصة و لو قيل إن تقديمهم أولى لم يمتنع إذا كان المولي لهم أشد تمكنا من عزلهم و الاستبدال بهم و قد ولى أمير المؤمنين ع عبد الله بن العباس البصرة و عبيد الله بن العباس اليمن و قثم بن العباس مكة حتى قال مالك الأشتر عند ذلك [ 14 ] على ما ذا قتلنا الشيخ أمس فيما يروى و لم يكن ذلك بعيب إذا أدى ما وجب عليه في اجتهاده . فأما قولهم إنه كتب إلى ابن أبي سرح حيث ولى محمد بن أبي بكر بأنه يقتله و يقتل أصحابه فقد أنكر ذلك أشد إنكار حتى حلف عليه و بين أن الكتاب الذي ظهر ليس كتابه و لا الغلام غلامه و لا الراحلة راحلته و كان في جملة من خاطبه في ذلك أمير المؤمنين ع فقبل عذره و ذلك بين لأن قول كل أحد مقبول في مثل ذلك و قد علم أن الكتاب يجوز فيه التزوير فهو بمنزلة الخبر الذي يجوز فيه الكذب . فإن قيل فقد علم أن مروان هو الذي زور الكتاب لأنه هو الذي كان يكتب عنه فهلا أقام فيه الحد . قيل ليس يجب بهذا القدر أن يقطع على أن مروان هو الذي فعل ذلك لأنه و إن غلب ذلك في الظن فلا يجوز أن يحكم به و قد كان القوم يسومونه تسليم مروان إليهم و ذلك ظلم لأن الواجب على الإمام أن يقيم الحد على من يستحقه أو التأديب و لا يحل له تسليمه إلى غيره فقد كان الواجب أن يثبتوا عنده ما يوجب في مروان الحد و التأديب ليفعله به و كان إذا لم يفعل و الحال هذه يستحق التعنيف و قد ذكر الفقهاء في كتبهم أن الأمر بالقتل لا يوجب قودا و لا دية و لا حدا فلو ثبت في مروان ما ذكروه لم يستحق القتل و إن استحق التعزير لكنه عدل عن تعزيره لأنه لم يثبت و قد يجوز أن يكون عثمان ظن أن هذا الفعل فعل بعض من يعادي مروان تقبيحا لأمره لأن ذلك يجوز كما يجوز أن يكون من فعله و لا يعلم كيف كان اجتهاده و ظنه و بعد فإن هذا الحدث من أجل ما نقموا عليه فإن كان شي‏ء من ذلك يوجب خلع عثمان و قتله فليس إلا هذا و قد علمنا أن هذا الأمر لو ثبت ما كان يوجب القتل لأن الأمر بالقتل لا يوجب القتل سيما قبل وقوع القتل المأمور به فنقول لهم لو ثبت ذلك على عثمان أ كان يجب قتله فلا يمكنهم ادعاء [ 15 ] ذلك لأنه بخلاف الدين و لا بد أن يقولوا إن قتله ظلم و كذلك حبسه في الدار و منعه من الماء فقد كان يجب أن يدفع القوم عن كل ذلك و أن يقال إن من لم يدفعهم و ينكر عليهم يكون مخطئا . و في القول بأن الصحابة اجتمعوا على ذلك كلهم تخطئة لجميع أصحاب رسول الله ص و ذلك غير جائز و قد علم أيضا أن المستحق للقتل و الخلع لا يحل أن يمنع الطعام و الشراب و علم أن أمير المؤمنين ع لم يمنع أهل الشام من الماء في صفين و قد تمكن من منعهم و كل ذلك يدل على كون عثمان مظلوما و أن ذلك من صنع الجهال و أن أعيان الصحابة كانوا كارهين لذلك و أيضا فإن قتله لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام من الناس و لا شبهة أن الذين أقدموا على قتله كانوا بهذه الصفة و إذا صح أن قتله لم يكن لهم فمنعهم و النكير عليهم واجب . و أيضا فقد علم أنه لم يكن من عثمان ما يستحق به القتل من كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق و أنه لو كان منه ما يوجب القتل لكان الواجب أن يتولاه الإمام فقتله على كل حال منكر و إنكار المنكر واجب . و ليس لأحد أن يقول إنه أباح قتل نفسه من حيث امتنع من دفع الظلم عنهم لأنه لم يمتنع من ذلك بل أنصفهم و نظر في حالهم و لأنه لو لم يفعل ذلك لم يحل لهم قتله لأنه إنما يحل قتل الظالم إذا كان على وجه الدفع و المروي أنهم أحرقوا بابه و هجموا عليه في منزله و بعجوه بالسيف و المشاقص و ضربوا يد زوجته لما وقعت عليه و انتهبوا متاع داره و مثل هذه القتلة لا تحل في الكافر و المرتد فكيف يظن أن الصحابة لم ينكروا ذلك و لم يعدوه ظلما حتى يقال إنه مستحق من حيث لم يدفع القوم عنه و قد تظاهر الخبر بما جرى من تجمع القوم عليه و توسط أمير المؤمنين ع لأمرهم و أنه [ 16 ] بذل لهم ما أرادوه و أعتبهم و أشهد على نفسه بذلك و أن الكتاب الموجود بعد ذلك المتضمن لقتل القوم و وقف عليه و ممن أوقفه عليه أمير المؤمنين ع فحلف أنه ما كتبه و لا أمر به فقال له فمن تتهم قال ما أتهم أحدا و إن للناس لحيلا . و الرواية ظاهرة أيضا بقوله إن كنت أخطأت أو تعمدت فإني تائب و مستغفر فكيف يجوز و الحال هذه أن تهتك فيه حرمة الإسلام و حرمة البلد الحرام و لا شبهة في أن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه و لو لا أنه كان يمنع من محاربة القوم ظنا منه أن ذلك يؤدي إلى القتل الذريع لكثر أنصاره . و قد جاء في الرواية أن الأنصار بدأت معونته و نصرته و أن أمير المؤمنين ع قد بعث إليه ابنه الحسن ع فقال له قل لأبيك فلتأتني فأراد أمير المؤمنين ع المصير إليه فمنعه من ذلك محمد ابنه و استعان بالنساء عليه حتى جاء الصريخ بقتل عثمان فمد يده إلى القبلة و قال اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان . فإن قالوا إنهم اعتقدوا أنه من المفسدين في الأرض و أنه داخل تحت آية المحاربين . قيل فقد كان يجب أن يتولى الإمام هذا الفعل لأن ذلك يجري مجرى الحد و كيف يدعى ذلك و المشهور عنه أنه كان يمنع من مقاتلتهم حتى روي أنه قال لعبيدة و مواليه و قد هموا بالقتال من أغمد سيفه فهو حر و لقد كان مؤثرا لنكير ذلك الأمر بما لا يؤدي إلى إراقة الدماء و الفتنة و لذلك لم يستعن بأصحاب الرسول ص و إن كان لما اشتد الأمر أعانه من أعان لأن عند ذلك تجب النصرة و المعونة فحيث [ 17 ] كانت الحال متماسكة و كان ينهى عن إنجاده و إعانته بالحرب امتنعوا و توقفوا و حيث اشتد الأمر أعانه و نصره من أدركه دون من لم يغلب ذلك في ظنه . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما قوله لم يكن عالما بحال الفسقة الذين ولاهم قبل الولاية فلا تعويل عليه لأنه لم يول هؤلاء النفر إلا و حالهم مشهورة في الخلاعة و المجانة و التجرم و التهتك و لم يختلف اثنان في أن الوليد بن عقبة لم يستأنف التظاهر بشرب الخمر و الاستخفاف بالدين على استقبال ولايته للكوفة بل هذه كانت سنته و العادة المعروفة منه و كيف يخفى على عثمان و هو قريبه و لصيقه و أخوه لأمه من حاله ما لا يخفى على الأجانب الأباعد و لهذا قال له سعد بن أبي وقاص في رواية الواقدي و قد دخل الكوفة يا أبا وهب أمير أم زائر قال بل أمير فقال سعد ما أدري أ حمقت بعدك أم كست بعدي قال ما حمقت بعدي و لا كست بعدك و لكن القوم ملكوا فاستأثروا فقال سعد ما أراك إلا صادقا . و في رواية أبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي أن الوليد لما دخل الكوفة مر على مجلس عمرو بن زرارة النخعي فوقف فقال عمرو يا معشر بني أسد بئسما استقبلنا به أخوكم ابن عفان أ من عدله أن ينزع عنا ابن أبي وقاص الهين اللين السهل القريب و يبعث بدله أخاه الوليد الأحمق الماجن الفاجر قديما و حديثا و استعظم الناس مقدمه و عزل سعد به و قالوا أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمة محمد ص و هذا تحقيق ما ذكرناه من أن حاله كانت مشهورة قبل الولاية لا ريب فيها عند أحد فكيف [ 18 ] يقال إنه كان مستورا حتى ظهر منه ما ظهر و في الوليد نزل قوله تعالى أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ فالمؤمن هاهنا أمير المؤمنين ع و الفاسق الوليد على ما ذكره أهل التأويل و فيه نزل قوله تعالى يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى‏ ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ و السبب في ذلك أنه كذب على بني المصطلق عند رسول الله ص و ادعى أنهم منعوه الصدقة و لو قصصنا مخازيه المتقدمة و مساويه لطال بها الشرح . و أما شربه الخمر بالكوفة و سكره حتى دخل عليه [ من دخل ] و أخذ خاتمه من إصبعه و هو لا يعلم فظاهر و قد سارت به الركبان و كذلك كلامه في الصلاة و التفاته إلى من يقتدي به فيها و هو سكران و قوله لهم أ أزيدكم فقالوا لا قد قضينا صلواتنا حتى قال الحطيئة في ذلك . شهد الحطيئة يوم يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر [ 19 ] نادى و قد نفدت صلاتهم أ أزيدكم ثملا و ما يدري ليزيدهم خيرا و لو قبلوا منه لقادهم على عشر فأبوا أبا وهب و لو فعلوا لقرنت بين الشفع و الوتر حبسوا عنانك إذ جريت و لو خلوا عنانك لم تزل تجري و قال فيه أيضا تكلم في الصلاة و زاد فيها علانية و جاهر بالنفاق و مج الخمر في سنن المصلى و نادى و الجميع إلى افتراق أزيدكم على أن تحمدوني فما لكم و ما لي من خلاق و أما قوله إنه جلده الحد و عزله فبعد أي شي‏ء كان ذلك و لم يعزله إلا بعد أن دافع و مانع و احتج عنه و ناضل و لو لم يقهره أمير المؤمنين ع على رأيه لما عزله و لا أمكن من جلده و قد روى الواقدي أن عثمان لما جاءه الشهود يشهدون على الوليد بشرب الخمر أوعدهم و تهددهم . قال الواقدي و يقال إنه ضرب بعض الشهود أيضا أسواطا فأتوا أمير المؤمنين ع فشكوا إليه فأتى عثمان فقال عطلت الحدود و ضربت قوما شهدوا على أخيك فقلبت الحكم و قد قال لك عمر لا تحمل بني أمية و آل أبي معيط على رقاب الناس قال فما ترى قال أرى أن تعزله و لا توليه شيئا من أمور المسلمين و أن تسأل عن الشهود فإن لم يكونوا أهل ظنة و لا عداوة أقمت على صاحبك الحد و تكلم في مثل ذلك طلحة و الزبير و عائشة و قالوا أقوالا شديدة و أخذته الألسن من كل جانب فحينئذ عزله و مكن من إقامة الحد عليه . [ 20 ] و قد روى الواقدي أن الشهود لما شهدوا عليه في وجهه و أراد عثمان أن يحده ألبسه جبة خز و أدخله بيتا فجعل إذا بعث إليه رجلا من قريش ليضربه قال له الوليد أنشدك الله أن تقطع رحمي و تغضب أمير المؤمنين فلما رأى علي ع ذلك أخذ السوط و دخل عليه فجلده به فأي عذر لعثمان في عزله و جلده بعد هذه الممانعة الطويلة و المدافعة الشديدة . و قصة الوليد مع الساحر الذي كان يلعب بين يديه و يغر الناس بمكره و خديعته و أن جندب بن عبد الله الأزدي امتعض من ذلك و دخل عليه فقتله و قال له أحي نفسك إن كنت صادقا و أن الوليد أراد أن يقتل جندبا بالساحر حتى أنكر الأزد ذلك عليه فحبسه و طال حبسه حتى هرب من السجن معروفة مشهورة . فإن قيل فقد ولى رسول الله ص الوليد بن عقبة هذا صدقة بني المصطلق و ولاه عمر صدقة تغلب فكيف تدعون أن حاله في أنه لا يصلح للولاية ظاهرة . قلنا لا جرم إنه غر رسول الله ص و كذب على القوم حتى نزلت فيه الآية التي قدمنا ذكرها فعزله و ليس خطب ولاية الصدقة مثل خطب ولاية الكوفة . فأما عمر فإنه لما بلغه قوله إذا ما شددت الرأس مني بمشوذ فويلك مني تغلب ابنة وائل عزله . و أما عزل أمير المؤمنين ع بعض أمرائه لما ظهر من الحدث كالقعقاع بن شور و غيره و كذلك عزل عمر قدامة بن مظعون لما شهد عليه بشرب الخمر و جلده له فإنه لا يشبه ما تقدم لأن كل واحد ممن ذكرناه لم يول إلا من هو حسن الظاهر عنده و عند الناس غير معروف باللعب و لا مشهور بالفساد ثم لما ظهر منه ما ظهر [ 21 ] لم يحام عنه و لا كذب الشهود عليه و كابرهم بل عزله مختارا غير مضطر و كل هذا لم يجر في أمراء عثمان و قد بينا كيف كان عزل الوليد و إقامة الحد عليه . فأما أبو موسى فإن أمير المؤمنين ع لم يوله الحكم مختارا لكنه غلب على رأيه و قهر على أمره و لا رأى لمقهور . فأما قوله إن ولاية الأقارب كولاية الأباعد بل الأقارب أولى من حيث كان التمكن من عزلهم أشد و ذكر تولية أمير المؤمنين ع أولاد العباس رحمه الله تعالى و غيرهم فليس بشي‏ء لأن عثمان لم ينقم عليه تولية الأقارب من حيث كانوا أقارب بل من حيث كانوا أهل بيت الظنة و التهمة و لهذا حذره عمر و أشعر بأنه يحملهم على رقاب الناس و أمير المؤمنين ع لم يول من أقاربه متهما و لا ظنينا و حين أحس من ابن العباس ببعض الريبة لم يمهله و لا احتمله و كاتبه بما هو شائع ظاهر و لو لم يجب على عثمان أن يعدل عن ولاية أقاربه إلا من حيث جعل عمر ذلك سبب عدوله عن النص عليه و شرط عليه يوم الشورى ألا يحمل أقاربه على رقاب الناس و لا يؤثرهم لمكان القرابة بما لا يؤثر به غيرهم لكان صارفا قويا فضلا عن أن ينضاف إلى ذلك ما انضاف من خصالهم الذميمة و طرائقهم القبيحة . فأما سعيد بن أبي العاص فإنه قال في الكوفة إنما السواد بستان لقريش تأخذ منه ما شاءت و تترك حتى قالوا له أ تجعل ما أفاء الله علينا بستانا لك و لقومك و نابذوه و أفضى الأمر إلى تسييره من سير عن الكوفة و القصة مشهورة ثم انتهى الأمر إلى منع أهل الكوفة سعيدا من دخولها و تكلموا فيه و فيه عثمان كلاما ظاهرا حتى [ 22 ] كادوا يخلعون عثمان فاضطر حينئذ إلى إجابتهم إلى ولاية أبي موسى فلم يصرف سعيدا مختارا بل ما صرفه جملة و إنما صرفه أهل الكوفة عنهم . فأما قوله إنه أنكر الكتاب المتضمن لقتل محمد بن أبي بكر و أصحابه و حلف على أن الكتاب ليس بكتابه و لا الغلام غلامه و لا الراحلة راحلته و أن أمير المؤمنين ع قبل عذره فأول ما فيه أنه حكى القصة بخلاف ما جرت عليه لأن جميع من يروي هذه القصة ذكر أنه اعترف بالخاتم و الغلام و الراحلة و إنما أنكر أن يكون أمر بالكتابة لأنه روي أن القوم لما ظفروا بالكتاب قدموا المدينة فجمعوا أمير المؤمنين ع و طلحة و الزبير و سعدا و جماعة الأصحاب ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم و أخبروهم بقصة الغلام فدخلوا على عثمان و الكتاب مع أمير المؤمنين فقال له أ هذا الغلام غلامك قال نعم قال و البعير بعيرك قال نعم قال أ فأنت كتبت هذا الكتاب قال لا و حلف بالله أنه ما كتب الكتاب و لا أمر به فقال له فالخاتم خاتمك قال نعم قال فكيف يخرج غلامك على بعيرك بكتاب عليه خاتمك و لا تعلم به . و في رواية أخرى أنه لما واقفه عليه قال عثمان أما الخط فخط كاتبي و أما الخاتم فعلى خاتمي قال فمن تتهم قال أتهمك و أتهم كاتبي فخرج أمير المؤمنين ع مغضبا و هو يقول بل بأمرك و لزم داره و بعد عن توسط أمره حتى جرى عليه ما جرى . و أعجب الأمور قوله لأمير المؤمنين ع إني أتهمك و تظاهره بذلك و تلقيه إياه في وجهه بهذا القول مع بعده من التهمة و الظنة في كل شي‏ء و في أمره خاصة فإن القوم في الدفعة الأولى أرادوا أن يعجلوا له ما أخبروه حتى قام أمير المؤمنين ع بأمره و توسطه و أصلحه و أشار عليه بأن يقاربهم و يعينهم حتى انصرفوا عنه و هذا [ 23 ] فعل النصيح المشفق الحدب المتحنن و لو كان ع و حوشي من ذلك متهما عليه لما كان للتهمة عليه مجال في أمر الكتاب خاصة لأن الكتاب بخط عدوه مروان و في يد غلام عثمان و محمول على بعيره و مختوم بخاتمه فأي ظن تعلق بأمير المؤمنين ع في هذا المكان لو لا العداوة و قلة الشكر للنعمة . و لقد قال له المصريون لما جحد أن يكون الكتاب كتابه شيئا لا زيادة عليه في باب الحجة لأنهم قالوا له إذا كنت ما كتبت و لا أمرت به فأنت ضعيف من حيث تم عليك أن يكتب كاتبك بما تختمه بخاتمك و ينفذه بيد غلامك و على بعيرك بغير أمرك و من تم عليه ذلك لا يصلح أن يكون واليا على أمور المسلمين فاختلع عن الخلافة على كل حال . قال و لقد كان يجب على صاحب المغني أن يستحيي من قوله إن أمير المؤمنين ع قبل عذره و كيف يقبل عذر من يتهمه و يستغشه و هو له ناصح و ما قاله أمير المؤمنين ع بعد سماع هذا القول منه معروف . و قوله إن الكتاب يجوز فيه التزوير ليس بشي‏ء لأنه لا يجوز التزوير في الكتاب و الغلام و البعير و هذه الأمور إذا انضاف بعضها إلى بعض بعد فيها التزوير و قد كان يجب على كل حال أن يبحث عن القصة و عمن زور الكتاب و أنفذ الرسول و لا ينام عن ذلك حتى يعرف من أين دهي و كيف تمت الحيلة عليه فيحترز من مثلها و لا يغضي عن ذلك إغضاء ساتر له خائف من بحثه و كشفه . فأما قوله إنه و إن غلب على الظن أن مروان كتب الكتاب فإن الحكم بالظن لا يجوز و تسليمه إلى القوم على ما سألوه إياه ظلم لأن الحد و الأدب إذا وجب عليه فالإمام يقيمه دونهم فتعلل بما لا يجدي لأنا لا نعمل إلا على قوله في أنه لم يعلم أن [ 24 ] مروان هو الذي كتب الكتاب و إنما غلب على ظنه أ ما كان يستحق مروان بهذا الظن بعض التعنيف و الزجر و التهديد أ و ما كان يجب مع وقوع التهمة عليه و قوة الأمارات في أنه جالب الفتنة و سبب الفرقة أن يبعده عنه و يطرده من داره و يسلبه ما كان يخصه به من إكرامه و ما في هذه الأمور أظهر من أن ينبه له . فأما قوله إن الأمر بالقتل لا يوجب قودا و لا دية سيما قبل وقوع القتل المأمور به فهب أن ذلك على ما قال أ ما أوجب الله تعالى على الأمر بقتل المسلمين تأديبا و لا تعزيرا و لا طردا و لا إبعادا . و قوله لم يثبت ذلك قد مضى ما فيه و بين أنه لم يستعمل فيه ما يجب استعماله من البحث و الكشف و تهديد المتهم و طرده و إبعاده و التبرؤ من التهمة بما يتبرأ به من مثلها . فأما قوله إن قتله ظلم و كذلك حبسه في الدار و منعه من الماء و إنه لو استحق القتل أو الخلع لا يحل أن يمنع الطعام و الشراب و قوله إن من لم يدفع عن ذلك من الصحابة يجب أن يكون مخطئا و قوله إن قتله لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام من الناس فباطل لأن الذين قتلوه غير منكر أن يكونوا تعمدوا قتله و إنما طالبوه بأن يخلع نفسه لما ظهر لهم من أحداثه و يعتزل عن الأمر اعتزالا يتمكنون معه من إقامة غيره فلج و صمم على الامتناع و أقام على أمر واحد فقصد القوم بحصره أن يلجئوه إلى خلع نفسه فاعتصم بداره و اجتمع إليه نفر من أوباش بني أمية يدفعون عنه و يرمون من دنا إلى الدار فانتهى الأمر إلى القتال بتدريج ثم إلى القتل و لم يكن القتال و لا القتل مقصودين في الأصل و إنما أفضى الأمر إليهما على ترتيب و جرى ذلك مجرى [ 25 ] ظالم غلب إنسانا على رحله أو متاعه فالواجب على المغلوب أن يمانعه و يدافعه ليخلص ماله من يده و لا يقصد إلى إتلافه و لا قتله فإن أفضى الأمر إلى ذلك بلا قصد كان معذورا و إنما خاف القوم في التأني به و الصبر عليه إلى أن يخلع نفسه من كتبه التي طارت في الآفاق يستنصر عليهم و يستقدم الجيوش إليهم و لم يأمنوا أن يرد بعض من يدفع عنه فيؤدي ذلك إلى الفتنة الكبرى و البلية العظمى . و أما منع الماء و الطعام فما فعل ذلك إلا تضييقا عليه ليخرج و يحوج إلى الخلع الواجب عليه و قد يستعمل في الشريعة مثل ذلك فيمن لجأ إلى الحرم من ذوي الجنايات و تعذر إقامة الحد عليه لمكان الحرم على أن أمير المؤمنين ع قد أنكر منع الماء و الطعام و أنفذ من مكن من حمل ذلك لأنه قد كان في الدار من الحرم و النسوان و الصبيان من لا يحل منعه من الطعام و الشراب و لو كان حكم المطالبة بالخلع و التجمع عليه و التضافر فيه حكم منع الطعام و الشراب في القبح و المنكر لأنكره أمير المؤمنين ع و منع منه كما منع من غيره فقد روي عنه ع أنه لما بلغه أن القوم قد منعوا الدار من الماء قال لا أرى ذلك إن في الدار صبيانا و عيالا لا أرى أن يقتل هؤلاء عطشا بجرم عثمان فصرح بالمعنى الذي ذكرناه و معلوم أن أمير المؤمنين ع ما أنكر المطالبة بالخلع بل كان مساعدا على ذلك و مشاورا فيه . فأما قوله إن قتل الظالم إنما يحل على سبيل الدفع فقد بينا أنه لا ينكر أن يكون قتله وقع على ذلك الوجه لأنه في تمسكه بالولاية عليهم و هو لا يستحقها في حكم الظالم لهم فمدافعته واجبة . [ 26 ] و أما قصة الكتاب الموجود فلم يحكها على الوجه و قد شرحنا نحن الرواية الواردة بها . و أما قوله إنه قال إن كنت أخطأت أو تعمدت فإني تائب مستغفر فقد أجابه القوم عن هذا و قالوا هكذا قلت في المرة الأولى و خطبت على المنبر بالتوبة و الاستغفار ثم وجدنا كتابك بما يقتضي الإصرار على أقبح ما عتبنا منه فكيف نثق بتوبتك و استغفارك . فأما قوله إن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه فقد بينا أنه لم يكن على سبيل الغيلة و أنه لا يمتنع أن يكون إنما وقع على سبيل المدافعة . فأما ادعاؤه أنه منع من نصرته و أقسم على عبيده بترك القتال فقد كان ذلك لعمري في ابتداء الأمر ظنا منه أن الأمر ينصلح و القوم يرجعون عما هموا به فلما اشتد الأمر و وقع اليأس من الرجوع و النزوع لم يمنع أحدا من نصرته و المحاربة عنه و كيف يمنع من ذلك و قد بعث إلى أمير المؤمنين ع يستنصره و يستصرخه . و الذي يدل على أنه لم يمنع في الابتداء من محاربتهم إلا للوجه الذي ذكرناه دون غيره أنه لا خلاف بين أهل الرواية غب عن نصرة الحاضر من يستدعي نصرة الغائب . فأما قوله إن أميفي أن كتبه تفرقت في الآفاق يستنصر و يستدعي الجيوش فكيف يرر المؤمنين ع أراد أن يأتيه حتى منعه ابنه محمد فقول بعيد مما جاءت به الرواية جدا لأنه لا إشكال في أن أمير المؤمنين ع لما واجهه عثمان بأنه يتهمه و يستغشه انصرف مغضبا عامدا على أنه لا يأتيه أبدا قائلا فيه ما يستحقه من الأقوال . [ 27 ] فأما قوله في جواب سؤال من قال إنهم اعتقدوا فيه أنه من المفسدين في الأرض و أن آية المحاربة تتناوله و أنه قد كان يجب أن يتولى الإمام ذلك الفعل بنفسه لأن ذلك يجري مجرى الحد فطريف لأن الإمام يتولى ما يجري هذا المجرى إذا كان منصوبا ثابتا و لم يكن على مذهب القوم هناك إمام يجوز أن يتولى ما يجري مجرى الحدود و متى لم يكن إمام يقوم بالدفع عن الدين و الذب عن الأمة جاز أن تتولى الأمة ذلك بنفوسها . قال و ما رأيت أعجب من ادعاء مخالفينا أن أصحاب الرسول ص كانوا كارهين لما جرى على عثمان و أنهم كانوا يعتقدونه منكرا و ظلما و هذا يجري عند من تأمله مجرى دفع الضرورات قبل النظر في الأخبار و سماع ما ورد من شرح هذه القصة لأنه معلوم أن ما يكرهه جميع الصحابة أو أكثرهم في دار عزهم و بحيث ينفذ أمرهم و نهيهم لا يجوز أن يتم و معلوم أن نفرا من أهل مصر لا يجوز أن يقدموا المدينة فيغلبوا جميع المسلمين على آرائهم و يفعلوا بإمامهم ما يكرهونه بمرأى منهم و مسمع و هذا معلوم بطلانه بالبداهة و الضرورات قبل تصفح الأخبار و تأملها و قد روى الواقدي عن ابن أبي الزناد عن أبي جعفر القارئ مولى بني مخزوم قال كان المصريون الذين حصروا عثمان ستمائة عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي و كنانة بن بشر الكندي و عمرو بن الحمق الخزاعي و الذين قدموا المدينة من الكوفة مائتين عليهم مالك الأشتر النخعي و الذين قدموا من البصرة مائة رجل رئيسهم حكيم بن جبلة العبدي و كان أصحاب النبي ص الذين خذلوه لا يرون أن الأمر يبلغ به القتل و لعمري لو قام بعضهم فحثا التراب في وجوه أولئك لانصرفوا و هذه الرواية تضمنت من عدد القوم الوافدين في هذا الباب أكثر مما تضمنه غيرها . و روى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال قلت له [ 28 ] كيف لم يمنع أصحاب رسول الله ص عن عثمان فقال إنما قتله أصحاب رسول الله ص . و روي عن أبي سعيد الخدري أنه سئل عن مقتل عثمان هل شهده أحد من أصحاب رسول الله ص فقال نعم شهده ثمانمائة . و كيف يقال إن القوم كانوا كارهين و هؤلاء المصريون كانوا يغدون إلى كل واحد منهم و يروحون و يشاورونه فيما يصنعونه و هذا عبد الرحمن بن عوف و هو عاقد الأمر لعثمان و جالبه إليه و مصيره في يده يقول على ما رواه الواقدي و قد ذكر له عثمان في مرضه الذي مات فيه عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه فبلغ ذلك عثمان فبعث إلى بئر كان عبد الرحمن يسقي منها نعمه فمنع منها و وصى عبد الرحمن ألا يصلي عليه عثمان فصلى عليه الزبير أو سعد بن أبي وقاص و قد كان حلف لما تتابعت أحداث عثمان ألا يكلمه أبدا . و روى الواقدي قال لما توفي أبو ذر بالربذة تذاكر أمير المؤمنين ع و عبد الرحمن فعل عثمان فقال أمير المؤمنين ع له هذا عملك فقال عبد الرحمن فإذا شئت فخذ سيفك و آخذ سيفي إنه خالف ما أعطاني . فأما محمد بن مسلمة فإنه أرسل إليه عثمان يقول له عند قدوم المصريين في الدفعة الثانية اردد عني فقال لا و الله لا أكذب الله في سنة مرتين و إنما عنى بذلك أنه كان أحد من كلم المصريين في الدفعة الأولى و ضمن لهم عن عثمان الرضا . و في رواية الواقدي أن محمد بن مسلمة كان يموت و عثمان محصور فيقال له عثمان مقتول فيقول هو قتل نفسه . [ 29 ] فأما كلام أمير المؤمنين ع و طلحة و الزبير و عائشة و جميع الصحابة واحدا واحدا فلو تعاطينا ذكره لطال به الشرح و من أراد أن يقف على أقوالهم مفصلة و ما صرحوا به من خلعه و الإجلاب عليه فعليه بكتاب الواقدي فقد ذكر هو و غيره من ذلك ما لا زيادة عليه . الطعن الثاني كونه رد الحكم بن أبي العاص إلى المدينة و قد كان رسول الله ص طرده و امتنع أبو بكر من رده فصار بذلك مخالفا للسنة و لسيرة من تقدمه مدعيا على رسول الله ص عاملا بدعواه من غير بينة . قال قاضي القضاة رحمه الله و جوابنا عن ذلك أن المروي في الأخبار أنه لما عوتب في ذلك ذكر أنه استأذن رسول الله ص فيه و إنما لم يقبل أبو بكر و عمر قوله لأنه شاهد واحد و كذلك روي عنهما فكأنهما جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تختص فلم يقبلا فيه خبر الواحد و أجرياه مجرى الشهادة فلما صار الأمر إليه حكم بعلمه لأن للحاكم أن يحكم بعلمه في هذا الباب و في غيره عند شيخينا و لا يفصلان بين حد و حق و لا بين أن يكون العلم قبل الولاية أو حال الولاية و يقولان إنه أقوى من البينة و الإقرار . و قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى إنه لا وجه يقطع به على كذب روايته في إذن [ 30 ] النبي ص في رده و لا بد من تجويز كونه صادقا و في تجويز ذلك كونه معذورا . فإن قيل الحاكم إنما يحكم بعلمه مع زوال التهمة و قد كانت التهمة في رد الحكم قوية لقرابته . قيل الواجب على غيره ألا يتهمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه لأنه قد نصب منصبا يقتضي زوال التهمة عنه و حمل أفعاله على الصحة و متى طرقنا عليه التهمة أدى إلى بطلان كثير من الأحكام و قد قال الشيخ أبو الحسين الخياط رحمه الله تعالى إنه لو لم يكن في رده إذن من رسول الله ص لجاز أن يكون طريقه الاجتهاد لأن النفي إذا كان صلاحا في الحال لا يمتنع أن يتغير حكمه باختلاف الأوقات و تغير حال المنفي و إذا كان لأبي بكر أن يسترد عمر من جيش أسامة للحاجة إليه و إن كان قد أمر رسول الله ص بنفوذه من حيث تغيرت الحال فغير ممتنع مثله في الحكم . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى على هذا فقال أما دعواه أن عثمان ادعى أن رسول الله ص أذن في رد الحكم فشي‏ء لم يسمع إلا من قاضي القضاة و لا يدرى من أين نقله و لا في أي كتاب وجده و الذي رواه الناس كلهم خلاف ذلك روى الواقدي من طرق مختلفة و غيره أن الحكم بن أبي العاص لما قدم المدينة بعد الفتح أخرجه النبي ص إلى الطائف و قال لا تساكني في بلد أبدا فجاءه عثمان فكلمه فأبى ثم كان من أبي بكر مثل ذلك ثم كان من عمر مثل ذلك فلما قام عثمان أدخله و وصله و أكرمه فمشى في ذلك علي و الزبير و طلحة و سعد و عبد الرحمن بن عوف [ 31 ] و عمار بن ياسر حتى دخلوا على عثمان فقالوا له إنك قد أدخلت هؤلاء القوم يعنون الحكم و من معه و قد كان النبي ص أخرجهم و إنا نذكرك الله و الإسلام و معادك فإن لك معادا و منقلبا و قد أبت ذلك الولاة قبلك و لم يطمع أحد أن يكلمها فيهم و هذا شي‏ء نخاف الله فيه عليك فقال عثمان إن قرابتهم مني ما تعلمون و قد كان رسول الله ص حيث كلمته أطعمني في أن يأذن لهم و إنما أخرجهم لكلمة بلغته عن الحكم و لم يضركم مكانهم شيئا و في الناس من هو شر منهم فقال علي ع لا أجد شرا منه و لا منهم ثم قال هل تعلم عمر يقول و الله ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس و الله إن فعل ليقتلنه فقال عثمان ما كان منكم أحد ليكون بينه و بينه من القرابة ما بيني و بينه و ينال من المقدرة ما نلت إلا قد كان سيدخله و في الناس من هو شر منه قال فغضب علي ع و قال و الله لتأتينا بشر من هذا إن سلمت و سترى يا عثمان غب ما تفعل ثم خرجوا من عنده . و هذا كما ترى خلاف ما ادعاه صاحب المغني لأن الرجل لما احتفل ادعى أن رسول الله ص كان أطمعه في رده ثم صرح بأن رعايته فيه القرابة هي الموجبة لرده و مخالفة الرسول ع و قد روي من طرق مختلفة أن عثمان لما كلم أبا بكر و عمر في رد الحكم أغلظا له و زبراه و قال له عمر يخرجه رسول الله ص و تأمرني أن أدخله و الله لو أدخلته لم آمن أن يقول قائل غير عهد رسول الله ص و الله لأن أشق باثنتين كما تشق الأبلمة أحب إلى من أن أخالف لرسول الله أمرا و إياك يا ابن عفان أن تعاودني فيه بعد اليوم و ما رأينا [ 32 ] عثمان قال في جواب هذا التعنيف و التوبيخ من أبي بكر و عمر إن عندي عهدا من رسول الله ص فيه لا أستحق معه عتابا و لا تهجينا و كيف تطيب نفس مسلم موقر لرسول الله ص معظم له أن يأتي إلى عدو رسول الله ص مصرح بعداوته و الوقيعة فيه حتى بلغ به الأمر إلى أن كان يحكى مشيته طرده رسول الله و أبعده و لعنه حتى صار مشهورا بأنه طريد رسول الله ص فيكرمه و يرده إلى حيث أخرج منه و يصله بالمال العظيم إما من مال المسلمين أو من ماله إن هذا لعظيم كبير قبل التصفح و التأمل و التعلل بالتأويل الباطل . فأما قول صاحب المغني إن أبا بكر و عمر لم يقبلا قوله لأنه شاهد واحد و جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تخص فأول ما فيه أنه لم يشهد عندهما بشي‏ء واحد في باب الحكم على ما رواه جميع الناس ثم ليس هذا من باب الذي يحتاج فيه إلى الشاهدين بل هو بمنزلة كل ما يقبل فيه أخبار الآحاد و كيف يجوز أن يجري أبو بكر و عمر مجرى الحقوق ما ليس منها و قوله لا بد من تجويز كونه صادقا في روايته لأن القطع على كذب روايته لا سبيل إليه ليس بشي‏ء لأنا قد بينا أنه لم يرو عن الرسول ص إذنا إنما ادعى أنه أطمعه في ذلك و إذا جوزنا كونه صادقا في هذه الرواية بل قطعنا على صدقه لم يكن معذورا . فأما قوله الواجب على غيره ألا يتهمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه لانتصابه منصبا يزيل التهمة فأول ما فيه أن الحاكم لا يجوز أن يحكم بعلمه مع التهمة و التهمة قد تكون لها أمارات و علامات فما وقع منها عن أمارات و أسباب تتهم في العادة كان مؤثرا و ما لم يكن كذلك فلا تأثير له و الحكم هو عم عثمان و قريبه و نسيبه و من [ 33 ] قد تكلم في رده مرة بعد أخرى و لوال بعد وال و هذه كلها أسباب التهمة فقد كان يجب أن يتجنب الحكم بعلمه في هذا الباب خاصة لتطرق التهمة إليه . فأما ما حكاه عن أبي الحسين الخياط من أن الرسول ص لو لم يأذن في رده لجاز أن يرده إذا أداه اجتهاده إلى ذلك لأن الأحوال قد تتغير فظاهر البطلان لأن الرسول ع إذا حظر شيئا أو أباحه لم يكن لأحد أن يجتهد في إباحة المحظور أو حظر المباح و من يجوز الاجتهاد في الشريعة لا يقدم على مثل هذا لأنه إنما يجوز عندهم فيما لا نص فيه و لو سوغنا الاجتهاد في مخالفة ما تناوله النص لم يؤمن أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى تحليل الخمر و إسقاط الصلاة بأن تتغير الحال و هذا هدم للشريعة فأما الاستشهاد باسترداد عمر من جيش أسامة فالكلام في الأمرين واحد . الطعن الثالث أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة التي هي عدة المسلمين نحو ما روي أنه دفع إلى أربعة أنفس من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار و أعطى مروان مائة ألف عند فتح إفريقية و يروى خمس إفريقية و غير ذلك و هذا بخلاف سيرة من تقدمه في القسمة على الناس بقدر الاستحقاق و إيثار الأباعد على الأقارب . قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك أن من الظاهر المشهور أن عثمان كان عظيم اليسار كثير المال فلا يمتنع أن يكون إنما أعطى أهل بيته من ماله و إذا احتمل ذلك وجب حمله على الصحة . و قد قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى أن الذي روي من دفعه إلى ثلاثة نفر من قريش زوجهم بناته إلى كل واحد منهم مائة ألف دينار إنما هو من ماله و لا رواية [ 34 ] تصح أنه أعطاهم ذلك من بيت المال و لو صح ذلك لكان لا يمتنع أن يكون أعطاهم من بيت المال ليرد عوضه من ماله لأن للإمام عند الحاجة أن يفعل ذلك كما له أن يقرض غيره . و قال شيخنا أبو علي أيضا أن ما روي من دفعه خمس إفريقية لما فتحت إلى مروان ليس بمحفوظ و لا منقول على وجه يجب قبوله و إنما يرويه من يقصد التشنيع و قد قال الشيخ أبو الحسين الخياط أن ابن أبي سرح لما غزا البحر و معه مروان في الجيش ففتح الله عليهم و غنموا غنيمة عظيمة اشترى مروان من ابن أبي سرح الخمس بمائة ألف و أعطاه أكثرها ثم قدم على عثمان بشيرا بالفتح و قد كانت قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب له ما بقي عليه من المال و للإمام فعل مثل ذلك ترغيبا في مثل هذه الأمور . قال و هذا الصنع كان منه في السنة الأولى من إمامته و لم يبرأ أحد منه فيها فلا وجه للتعلق بذلك . و ذكر أبو الحسين الخياط أيضا فيما أعطاه أقاربه أنه وصلهم لحاجتهم فلا يمتنع مثله في الإمام إذا رآه صلاحا و ذكر في إقطاعه القطائع لبني أمية أن الأئمة قد تحصل في أيديهم الضياع لا مالك لها و يعلمون أنها لا بد فيها ممن يقوم بإصلاحها و عمارتها و يؤدى عنها ما يجب من الحق فله أن يصرف من ذلك إلى من يقوم به و له أيضا أن يهد بعضها على بعض بحسب ما يعلم من الصلاح و التألف و طريق ذلك الاجتهاد . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما قوله يجوز أن يكون إنما أعطاهم من ماله فالرواية بخلاف ذلك و قد صرح الرجل بأنه كان يعطي من بيت المال [ 35 ] صلة لرحمه و لما عوتب على ذلك لم يعتذر عنه بهذا الضرب من العذر و لا قال إن هذه العطايا من مالي فلا اعتراض لأحد فيها روى الواقدي بإسناده عن المسور بن عتبة قال سمعت عثمان يقول إن أبا بكر و عمر كانا يتأولان في هذا المال ظلف أنفسهما و ذوي أرحامهما و إني تأولت فيه صلة رحمي . و روي عنه أيضا أنه كان بحضرته زياد بن عبيد مولى الحارث بن كلدة الثقفي و قد بعث إليه أبو موسى بمال عظيم من البصرة فجعل عثمان يقسمه بين ولده و أهله بالصحاف فبكى زياد فقال لا تبك فإن عمر كان يمنع أهله و ذوي قرابته ابتغاء وجه الله و أنا أعطي أهلي و ولدي و قرابتي ابتغاء وجه الله . و قد روي هذا المعنى عنه من عدة طرق بألفاظ مختلفة . و روى الواقدي أيضا بإسناده قال قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص و روى أيضا أنه ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلاثمائة ألف فوهبها له حين أتاه بها و روى أبو مخنف و الواقدي أن الناس أنكروا على عثمان إعطاء سعيد بن العاص مائة ألف و كلمه علي و الزبير و طلحة و سعد و عبد الرحمن في ذلك فقال إن له قرابة و رحما قالوا فما كان لأبي بكر و عمر قرابة و ذوو رحم فقال إن أبا بكر و عمر كان يحتسبان في منع قرابتهما و أنا أحتسب في إعطاء قرابتي قالوا فهديهما و الله أحب إلينا من هديك . و روى أبو مخنف أن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية قدم على عثمان من مكة و معه ناس فأمر لعبد الله بثلاثمائة ألف و لكل واحد من القوم بمائة ألف [ 36 ] و صك بذلك على عبد الله بن الأرقم و كان خازن بيت المال فاستكثره و رد الصك به و يقال إنه سأل عثمان أن يكتب عليه بذلك كتابا فأبى و امتنع ابن الأرقم أن يدفع المال إلى القوم فقال له عثمان إنما أنت خازن لنا فما حملك على ما فعلت فقال ابن الأرقم كنت أراني خازن المسلمين و إنما خازنك غلامك و الله لا إلي لك بيت المال أبدا و جاء بالمفاتيح فعلقها على المنبر و يقال بل ألقاها إلى عثمان فرفعها إلى نائل مولاه . و روى الواقدي أن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يحمل من بيت مال المسلمين إلى عبد الله بن الأرقم في عقيب هذا الفعل ثلاثمائة ألف درهم فلما دخل بها عليه قال له يا أبا محمد إن أمير المؤمنين أرسل إليك يقول إنا قد شغلناك عن التجارة و لك ذوو رحم أهل حاجة ففرق هذا المال فيهم و استعن به على عيالك فقال عبد الله بن الأرقم ما لي إليه حاجة و ما عملت لأن يثيبني عثمان و الله إن كان هذا من بيت مال المسلمين ما بلغ قدر عملي أن أعطى ثلاثمائة ألف و لئن كان من مال عثمان ما أحب أن أرزأه من ماله شيئا و ما في هذه الأمور أوضح من أن يشار إليه و ينبه عليه . فأما قوله و لو صح أنه أعطاهم من بيت المال لجاز أن يكون ذلك على طريق القرض فليس بشي‏ء لأن الروايات أولا تخالف ما ذكره و قد كان يجب لما نقم عليه وجوه الصحابة إعطاء أقاربه من بيت المال أن يقول لهم هذا على سبيل القرض و أنا أرد عوضه و لا يقول ما تقدم ذكره من أنني أصل به رحمي على أنه ليس للإمام أن يقترض من بيت مال المسلمين إلا ما ينصرف في مصلحة لهم مهمة يعود عليهم نفعها أو في سد خلة و فاقة لا يتمكنون من القيام بالأمر معها فأما أن يقرض المال ليتسع به [ 37 ] و يمرح فيه مترفي بني أمية و فساقهم فلا أحد يجيز ذلك . فأما قوله حاكيا عن أبي علي إن دفعه خمس إفريقية إلى مروان ليس بمحفوظ و لا منقول فباطل لأن العلم بذلك يجري مجرى العلم بسائر ما تقدم و من قرأ الأخبار علم ذلك على وجه لا يعترض فيه شك كما يعلم نظائره . روى الواقدي عن أسامة بن زيد عن نافع مولى الزبير عن عبد الله بن الزبير قال أغزانا عثمان سنة سبع و عشرين إفريقية فأصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة فاعطى عثمان مروان بن الحكم تلك الغنائم و هذا كما ترى يتضمن الزيادة على إعطاء الخمس و يتجاوزه إلى إعطاء الأصل . و روى الواقدي عن عبد الله بن جعفر عن أم بكر بنت المسور قالت لما بنى مروان داره بالمدينة دعا الناس إلى طعامه و كان المسور ممن دعاه فقال مروان و هو يحدثهم و الله ما أنفقت في داري هذه من مال المسلمين درهما فما فوقه فقال المسور لو أكلت طعامك و سكت كان خيرا لك لقد غزوت معنا إفريقية و إنك لأقلنا مالا و رقيقا و أعوانا و أخفنا ثقلا فأعطاك ابن عمك خمس إفريقية و عملت على الصدقات فأخذت أموال المسلمين . و روى الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف أن مروان ابتاع خمس إفريقية بمائتي ألف درهم و مائتي ألف دينار و كلم عثمان فوهبها له فأنكر الناس ذلك على عثمان و هذا بعينه هو الذي اعترف به أبو الحسين الخياط و اعتذر عنه بأن قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب لمروان ثمن ما ابتاعه من الخمس لما جاءه بشيرا بالفتح على سبيل الترغيب و هذا الاعتذار ليس بشي‏ء لأن الذي رويناه من الأخبار في هذا الباب خال من البشارة و إنما يقتضي أنه سأله ترك ذلك عليه فتركه و ابتدأ هو بصلته و لو أتى بشيرا بالفتح كما ادعوا لما جاز أن يترك عليه خمس الغنيمة العائد نفعه على المسلمين [ 38 ] لأن تلك البشارة لا تبلغ إلى أن يستحق البشير بها مائتي ألف درهم و لا اجتهاد في مثل هذا و لا فرق بين من جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى مثله و من جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى دفع أصل الغنيمة إلى البشير بها و من ارتكب ذلك ألزم جواز أن يؤدي الاجتهاد إلى إعطاء هذا البشير جميع أموال المسلمين في الشرق و الغرب . فأما قوله إنه وصل بني عمه لحاجتهم و رأى في ذلك صلاحا فقد بينا أن صلاته لهم كانت أكثر مما تقتضيه الخلة و الحاجة و أنه كان يصل فيهم المياسير ثم الصلاح الذي زعم أنه رآه لا يخلو إما أن يكون عائدا على المسلمين أو على أقاربه فإن كان على المسلمين فمعلوم ضرورة أنه لا صلاح لأحد من المسلمين في إعطاء مروان مائتي ألف دينار و الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم و ابن أسيد ثلاثمائة ألف درهم إلى غير ما ذكرنا بل على المسلمين في ذلك غاية الضرر و إن أراد الصلاح الراجع إلى الأقارب فليس له أن يصلح أمر أقاربه بفساد أمر المسلمين و ينفعهم بما يضر به المسلمين . و أما قوله إن القطائع التي أقطعها بني أمية إنما أقطعهم إياها لمصلحة تعود على المسلمين لأن تلك الضياع كانت خرابا لا عامر لها فسلمها إلى من يعمرها و يؤدي الحق عنه فأول ما فيه أنه لو كان الأمر على ما ذكره و لم تكن هذه القطائع على سبيل الصلة و المعونة لأقاربه لما خفي ذلك على الحاضرين و لكانوا لا يعدون ذلك من مثالبه و لا يواقفونه عليه في جملة ما واقفوه عليه من أحداثه ثم كان يجب لو فعلوا ذلك أن يكون جوابه بخلاف ما روي من جوابه لأنه كان يجب أن يقول لهم و أي منفعة في هذه القطائع عائدة على قرابتي حتى تعدوا ذلك من جملة صلاتي لهم و إيصالي المنافع إليهم و إنما جعلتهم فيها بمنزلة الأكرة الذين ينتفع بهم أكثر من انتفاعهم أنفسهم و ما كان [ 39 ] يجب أن يقول ما تقدمت روايته من أني محتسب في إعطاء قرابتي و أن ذلك على سبيل الصلة لرحمي إلى غير ذلك مما هو خال من المعنى الذي ذكره . الطعن الرابع إنه حمى الحمى عن المسلمين مع أن رسول الله ص جعلهم سواء في الماء و الكلأ . قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك إنه لم يحم الكلأ لنفسه و لا استأثر به لكنه حماه لإبل الصدقة التي منفعتها تعود على المسلمين و قد روي عنه هذا الكلام بعينه و أنه قال إنما فعلت ذلك لإبل الصدقة و قد أطلقته الآن و أنا أستغفر الله و ليس في الاعتذار ما يزيد عن ذلك . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما أولا فالمروي بخلاف ما ذكر لأن الواقدي روى بإسناده قال كان عثمان يحمي الربذة و الشرف و البقيع فكان لا يدخل الحمى بعير له و لا فرس و لا لبني أمية حتى كان آخر الزمان فكان يحمي الشرف لإبله و كانت ألف بعير و لإبل الحكم بن أبي العاص و يحمي الربذة لإبل الصدقة و يحمي البقيع لخيل المسلمين و خيله و خيل بني أمية . قال على أنه لو كان إنما حماه لإبل الصدقة لم يكن بذلك مصيبا لأن الله تعالى و رسوله أباحا الكلأ و جعلاه مشتركا فليس لأحد أن يغير هذه الإباحة و لو كان [ 40 ] في هذا الفعل مصيبا و أنه إنما حماه لمصلحة تعود على المسلمين لما جاز أن يستغفر الله منه و يعتذر لأن الاعتذار إنما يكون من الخطإ دون الصواب . الطعن الخامس إنه أعطى من بيت مال الصدقة المقاتلة و غيرها و ذلك مما لا يحل في الدين قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك أنه إنما جاز له ذلك لعلمه بحاجة المقاتلة و استغناء أهل الصدقة ففعل ذلك على سبيل الإفراض و قد فعل رسول الله ص مثله و للإمام في مثل هذه الأمور أن يفعل ما جرى هذا المجرى لأن عند الحاجة ربما يجوز له أن يقترض من الناس فأن يجوز له أن يتناول من مال في يده ليرد عوضه من المال الآخر أولى . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال إن المال الذي جعل الله تعالى له جهة مخصوصة لا يجوز أن يعدل به عن جهته بالاجتهاد و لو كانت المصلحة في ذلك موقوفة على الحاجة لشرطها الله تعالى في هذا الحكم لأنه سبحانه أعلم بالمصالح و اختلافها منا و لكان لا يجعل لأهل الصدقة منها القسط مطلقا . و أما قوله إن الرسول ص فعل مثله فهي دعوى مجردة من برهان و قد كان يجب أن يروي ما ذكر في ذلك و أما ما ذكره من الاقتراض فأين كان عثمان عن هذا العذر لما ووقف عليه . الطعن السادس أنه ضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر بعض أضلاعه [ 41 ] قال قاضي القضاة قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى لم يثبت عندنا و لا صح عندنا ما يقال من طعن عبد الله عليه و إكفاره له و الذي يصح من ذلك أن عبد الله كره منه جمعه الناس على قراءة زيد بن ثابت و إحراقه المصاحف و ثقل ذلك عليه كما يثقل على الواحد منا تقديم غيره عليه . و قد قيل إن بعض موالي عثمان ضربه لما سمع منه الوقيعة في عثمان و لو صح أنه أمر بضربة لم يكن بأن يكون طعنا في عثمان بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود لأن للإمام تأديب غيره و ليس لغيره الوقيعة فيه إلا بعد البيان و قد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط أن ابن مسعود إنما عابه لعزله إياه و قد روي أن عثمان اعتذر إليه فلم يقبل عذره و لما أحضر إليه عطاءه في مرضه قال ابن مسعود منعتني إياه إذ كان ينفعني و جئتني به عند الموت لا أقبله و أنه وسط أم حبيبة زوج النبي ص ليزيل ما في نفسه فلم يجب و هذا يوجب ذم ابن مسعود إذ لم يقبل الندم و يوجب براءة عثمان من هذا العيب لو صح ما صح ما رووه من ضربه . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال المعلوم المروي خلاف ما ذكره أبو علي و لا يختلف أهل النقل في طعن ابن مسعود على عثمان و قوله فيه أشد الأقوال و أعظمها و العلم بذلك كالعلم بكل ما يدعى فيه الضرورة و قد روى كل من روى السيرة من أصحاب الحديث على اختلاف طرقهم أن ابن مسعود كان يقول ليتني و عثمان برمل عالج يحثو علي و أحثو عليه حتى يموت الأعجز مني و منه . و رووا أنه كان يطعن عليه فيقال له أ لا خرجت عليه ليخرج معك فيقول لأن أزاول جبلا راسيا أحب إلى من أن أزاول ملكا مؤجلا . [ 42 ] و كان يقوم كل يوم جمعة بالكوفة جاهرا معلنا أن أصدق القول كتاب الله و أحسن الهدي هدي محمد و شر الأمور محدثاتها و كل محدث بدعة و كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار و إنما كان يقول ذلك معرضا بعثمان حتى غضب الوليد بن عقبة من استمرار تعريضه و نهاه عن خطبته هذه فأبى أن ينتهي فكتب إلى عثمان فيه فكتب عثمان يستقدمه عليه . و روي أنه لما خرج عبد الله بن مسعود إلى المدينة مزعجا عن الكوفة خرج الناس معه يشيعونه و قالوا له يا أبا عبد الرحمن ارجع فو الله لا نوصله إليك أبدا فإنا لا نأمنه عليك فقال أمر سيكون و لا أحب أن أكون أول من فتحه . و قد روي عنه أيضا من طرق لا تحصى كثرة أنه كان يقول ما يزن عثمان عند الله جناح ذباب و تعاطى ما روي عنه في هذا الباب يطول و هو أظهر من أن يحتاج إلى الاستشهاد عليه و أنه بلغ من إصرار عبد الله على مظاهرته بالعداوة أن قال لما حضره الموت من يتقبل مني وصية أوصيه بها على ما فيها فسكت القوم و عرفوا الذي يريد فأعادها فقال عمار بن ياسر رحمه الله تعالى أنا أقبلها فقال ابن مسعود ألا يصلي علي عثمان قال ذلك لك فيقال إنه لما دفن جاء عثمان منكرا لذلك فقال له قائل أن عمارا ولي الأمر فقال لعمار ما حملك على أن لم تؤذني فقال عهد إلي ألا أوذنك فوقف على قبره و أثنى عليه ثم انصرف و هو يقول رفعتم و الله أيديكم عن خير من بقي فتمثل الزبير بقول الشاعر لا ألفينك بعد الموت تندبني و في حياتي ما زودتني زادي و لما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه أتاه عثمان عائدا فقال ما تشتكي فقال ذنوبي قال فما تشتهي قال رحمة بي قال أ لا أدعو لك طبيبا قال [ 43 ] الطبيب أمرضني قال أ فلا آمر لك بعطائك قال منعتنيه و أنا محتاج إليه و تعطينيه و أنا مستغن عنه قال يكون لولدك قال رزقهم على الله تعالى قال استغفر لي يا أبا عبد الرحمن قال أسأل الله أن يأخذ لي منك حقي . قال و صاحب المغني قد حكى بعض هذا الخبر في آخر الفصل الذي حكاه من كلامه و قال هذا يوجب ذم ابن مسعود من حيث لم يقبل العذر و هذا منه طريف لأن مذهبه لا يقتضي قبول كل عذر ظاهر و إنما يجب قبول العذر الصادق الذي يغلب في الظن أن الباطن فيه كالظاهر فمن أين لصاحب المغني أن اعتذار عثمان إلى ابن مسعود كان مستوفيا للشرائط التي يجب معها القبول و إذا جاز ما ذكرناه لم يكن على ابن مسعود لوم في الامتناع من قبول عذره . فأما قوله إن عثمان لم يضربه و إنما ضربه بعض مواليه لما سمع وقيعته فيه فالأمر بخلاف ذلك و كل من قرأ الأخبار علم أن عثمان أمر بإخراجه عن المسجد على أعنف الوجوه و بأمره جرى ما جرى عليه و لو لم يكن بأمره و رضاه لوجب أن ينكر على مولاه كسر ضلعه و يعتذر إلى من عاتبه على فعله بابن مسعود بأن يقول إني لم آمر بذلك و لا رضيته من فاعله و قد أنكرت عليه فعله . و في علمنا بأن ذلك لم يكن دليل على ما قلنا و قد روى الواقدي بإسناده و غيره أن ابن مسعود لما استقدم المدينة دخلها ليلة جمعة فلما علم عثمان بدخوله قال أيها الناس إنه قد طرقكم الليلة دويبة من تمشي على طعامه يقي‏ء و يسلح فقال ابن مسعود لست كذلك و لكنني صاحب رسول الله ص يوم بدر و صاحبه يوم أحد و صاحبه يوم بيعة الرضوان و صاحبه يوم الخندق و صاحبه يوم حنين قال و صاحت عائشة يا عثمان أ تقول هذا لصاحب رسول الله ص فقال عثمان اسكتي ثم قال لعبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد العزى بن قصي أخرجه إخراجا عنيفا فأخذه [ 44 ] ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب مسجد فضرب به الأرض فكسر ضلعا من أضلاعه فقال ابن مسعود قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان و في رواية أخرى أن ابن زمعة الذي فعل به ما فعل كان مولى لعثمان أسود مسدما طوالا و في رواية أخرى أن فاعل ذلك يحموم مولى عثمان و في رواية أنه لما احتمله ليخرجه من المسجد ناداه عبد الله أنشدك الله ألا تخرجني من مسجد خليلي ص . قال الراوي فكأني أنظر إلى حموشة ساقي عبد الله بن مسعود و رجلاه تختلفان على عنق مولى عثمان حتى أخرج من المسجد و هو الذي يقول فيه رسول الله ص لساقا ابن أم عبد أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد . و قد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أن عثمان ضرب ابن مسعود أربعين سوطا في دفنه أبا ذر و هذه قصة أخرى و ذلك أن أبا ذر رحمه الله تعالى لما حضرته الوفاة بالربذة و ليس معه إلا امرأته و غلامه عهد إليهما أن غسلاني ثم كفناني ثم ضعاني على قارعة الطريق فأول ركب يمرون بكم قولوا لهم هذا أبو ذر صاحب رسول الله ص فأعينونا على دفنه فلما مات فعلوا ذلك و أقبل ابن مسعود في ركب من العراق معتمرين فلم يرعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق قد كادت الإبل تطؤها فقام إليهم العبد فقال هذا أبو ذر صاحب رسول الله ص فأعينونا على دفنه فانهل ابن مسعود باكيا و قال صدق رسول الله ص قال له تمشي وحدك و تموت وحدك و تبعث وحدك ثم نزل هو و أصحابه فواروه قال فأما قوله إن ذلك ليس بأن يكون طعنا في عثمان بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود فواضح البطلان و إنما كان طعنا في عثمان دون ابن مسعود لأنه لا خلاف [ 45 ] بين الأمة في طهارة ابن مسعود و فضله و إيمانه و مدح رسول الله ص و ثنائه عليه و أنه مات على الجملة المحمودة منه و في جميع هذا خلاف بين المسلمين في عثمان . فأما قوله إن ابن مسعود كره جمع عثمان الناس على قراءة زيد و إحراقه المصاحف فلا شك أن عبد الله كره ذلك كما كرهه جماعة من أصحاب رسول الله ص و تكلموا فيه و قد ذكر الرواة كلام كل واحد منهم في ذلك مفصلا و ما كره عبد الله من ذلك إلا مكروها و هو الذي يقول رسول الله ص في حقه من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد و روي عن ابن عباس رحمه الله تعالى أنه قال قراءة ابن أم عبد هي القراءة الأخيرة إن رسول الله ص كان يعرض عليه القرآن في كل سنة من شهر رمضان فلما كان العام الذي توفي فيه عرض عليه دفعتين فشهد عبد الله ما نسخ منه و ما صح فهي القراءة الأخيرة . و روي عن الأعمش قال قال ابن مسعود لقد أخذت القرآن من في رسول الله ص سبعين سورة و إن زيد بن ثابت لغلام في الكتاب له ذؤابة . فأما حكايته عن أبي الحسين الخياط أن ابن مسعود إنما عاب عثمان لعزله إياه فعبد الله عند كل من عرفه بخلاف هذه الصورة و إنه لم يكن ممن يخرج على عثمان و يطعن في إمامته بأمر يعود إلى منفعة الدنيا و إن كان عزله بما لا شبهة فيه في دين و لا أمانة عيبا لا شك فيه [ 46 ] الطعن السابع أنه جمع الناس على قراءة زيد بن ثابت خاصة و أحرق المصاحف و أبطل ما لا شك أنه نزل من القرآن و أنه مأخوذ عن الرسول ص و لو كان ذلك مما يسوغ لسبق إليه رسول الله ص و لفعله أبو بكر و عمر . قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك أن الوجه في جمع القرآن على قراءة واحدة تحصين القرآن و ضبطه و قطع المنازعة و الاختلاف فيه و قولهم لو كان ذلك واجبا لفعله الرسول ص غير لازم لأن الإمام إذا فعله صار كأن الرسول ص فعله و لأن الأحوال في ذلك تختلف و قد روي أن عمر كان عزم على ذلك فمات دونه و ليس لأحد أن يقول إن إحراقه المصاحف استخفاف بالدين و ذلك لأنه إذا جاز من الرسول ص أن يخرب المسجد الذي بني ضرارا و كفرا فغير ممتنع إحراق المصاحف . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال إن اختلاف الناس في القراءة ليس بموجب لما صنعه لأنهم يروون أن النبي ص قال نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف فهذا الاختلاف عندهم في القرآن مباح مسند عن الرسول ص فكيف يحظر عليهم عثمان من التوسع في الحروف ما هو مباح فلو كان في القراءة الواحدة تحصين القرآن كما ادعى لما أباح النبي ص في الأصل إلا القراءة الواحدة لأنه أعلم بوجوه المصالح من جميع أمته من حيث كان مؤيدا بالوحي موفقا في كل ما يأتي و يذر و ليس له أن يقول حدث من الاختلاف في أيام عثمان ما لم يكن في أيام الرسول ص و لا ما أباحه و ذلك لأن الأمر [ 47 ] لو كان على هذا لوجب أن ينهى عن القراءة الحادثة و الأمر المبتدع و لا يحمله ما أحدث من القراءة على تحريم المتقدم بلا شبهة . و قوله إن الإمام إذا فعل ذلك فكأن الرسول ص فعله تعلل بالباطل و كيف يكون كما ادعى و هذا الاختلاف بعينه قد كان موجودا في أيام الرسول ص فلو كان سبب الانتشار الزيادة في القرآن و في قطعه تحصين له لكان ع بالنهي عن هذا الاختلاف أولى من غيره اللهم إلا أن يقال حدث اختلاف لم يكن فقد قلنا فيه ما كفى . و أما قوله إن عمر قد كان عزم على ذلك فمات دونه فما سمعناه إلا منه و لو فعل ذلك أي فاعل كان لكان منكرا . فأما الاعتذار عن كون إحراق المصاحف لا يكون استخفافا بالدين بحمله إياه على تخريب مسجد الضرار فبين الأمرين بون بعيد لأن البنيان إنما يكون مسجدا و بيتا لله تعالى بنية الباني و قصده و لو لا ذلك لم يكن بعض البنيان بأن يكون مسجدا أولى من بعض و لما كان قصد الباني لذلك الموضع غير القربة و العبادة بل خلافها و ضدها من الفساد و المكيدة لم يكن في الحقيقة مسجدا و إن سمي بذلك مجازا على ظاهر الأمر فهدمه لا حرج فيه و ليس كذلك ما بين الدفتين لأنه كلام الله تعالى الموقر المعظم الذي يجب صيانته عن البذلة و الاستخفاف فأي نسبة بين الأمرين . الطعن الثامن أنه أقدم عمار بن ياسر بالضرب حتى حدث به فتق و لهذا صار أحد من ظاهر المتظلمين من أهل الأمصار على قتله و كان يقول قتلناه كافرا . [ 48 ] قال قاضي القضاة و قد أجاب شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى عن ذلك فقال إن ضرب عمار غير ثابت و لو ثبت أنه ضربه للقول العظيم الذي كان يقوله لم يجب أن يكون طعنا عليه لأن للإمام تأديب من يستحق التأديب و مما يبعد صحة ذلك أن عمارا لا يجوز أن يكفره و لما يقع منه ما يستوجب به الكفر لأن الذي يكفر به الكافر معلوم و لأنه لو كان قد وقع ذلك لكان غيره من الصحابة أولى بذلك و لوجب أن يجتمعوا على خلعه و لوجب أن يكون قتله مباحا لهم بل كان يجب أن يقيموا إماما ليقتله على ما قدمناه و ليس لأحد أن يقول إنما كفره عمار من حيث وثب على الخلافة و لم يكن لها أهلا لأنا قد بينا القول في ذلك و لأنه كان منصوبا لأبي بكر و عمر ما تقدم و قد بينا أن صحة إمامتهما تقتضي صحة إمامة عثمان . و قد روي أن عمارا نازع الحسن بن علي ع في أمر عثمان فقال عمار قتل عثمان كافرا و قال الحسن ع قتل مؤمنا و تعلق بعضهما ببعض فصارا إلى أمير المؤمنين ع فقال ما ذا تريد من ابن أخيك فقال إني قلت كذا و قال كذا فقال له أمير المؤمنين ع أ تكفر برب كان يؤمن به عثمان فسكت عمار و قد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط أن عثمان لما نقم عليه ضربه عمارا احتج لنفسه فقال جاءني سعد و عمار فأرسلا إلي أن ائتنا فإنا نريد أن نذاكرك أشياء فعلتها فأرسلت إليهما أني مشغول فانصرفا فموعدكما يوم كذا فانصرف سعد و أبى عمار أن ينصرف فأعدت الرسول إليه فأبى أن ينصرف فتناوله بغير أمري و و الله ما أمرت به و لا رضيت و ها أنا فليقتص مني . قال و هذا من أنصف قول و أعدله . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما الدفع لضرب عمار فهو [ 49 ] كالإنكار لطلوع الشمس ظهورا و انتشارا و كل من قرأ الأخبار و تصفح السير يعلم من هذا الأمر ما لا تثنيه عنه مكابرة و لا مدافعة و هذا الفعل أعني ضرب عمار لم تختلف الرواة فيه و إنما اختلفوا في سببه فروى عباس بن هشام الكلبي عن أبي مخنف في إسناده أنه كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي و جوهر فأخذ منه عثمان ما حلي به بعض أهله فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك و كلموه فيه بكل كلام شديد حتى أغضبوه فخطب فقال لنأخذن حاجتنا من هذا الفي‏ء و إن رغمت به أنوف أقوام فقال له علي ع إذن تمنع من ذلك و يحال بينك و بينه فقال عمار أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك فقال عثمان أ علي يا ابن ياسر تجترئ خذوه فأخذ و دخل عثمان فدعا به فضربه حتى غشي عليه ثم أخرج فحمل حتى أتي به منزل أم سلمة رضي الله تعالى عنها فلم يصل الظهر و العصر و المغرب فلما أفاق توضأ و صلى و قال الحمد لله ليس هذا أول يوم أوذينا في الله تعالى فقال هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي و كان عمار حليفا لبني مخزوم يا عثمان أما علي فاتقيته و أما نحن فاجترأت علينا و ضربت أخانا حتى أشفيت به على التلف أما و الله لئن مات لأقتلن به رجلا من بني أمية عظيم الشأن فقال عثمان و إنك لهاهنا يا ابن القسرية قال فإنهما قسريتان و كانت أم هشام و جدته قسريتين من بجيلة فشتمه عثمان و أمر به فأخرج فأتي به أم سلمة رضي الله تعالى عنها فإذا هي قد غضبت لعمار و بلغ عائشة رضي الله تعالى عنها ما صنع بعمار فغضبت أيضا و أخرجت شعرا من شعر رسول الله ص و نعلا من نعاله و ثوبا من ثيابه و قالت ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم و هذا شعره و ثوبه و نعله لم يبل بعد . [ 50 ] و روى آخرون أن السبب في ذلك أن عثمان مر بقبر جديد فسأل عنه فقيل عبد الله بن مسعود فغضب على عمار لكتمانه إياه موته إذ كان المتولي للصلاة عليه و القيام بشأنه فعندها وطئ عثمان عمارا حتى أصابه الفتق . و روى آخرون أن المقداد و عمارا و طلحة و الزبير و عدة من أصحاب رسول الله ص كتبوا كتابا عددوا فيه أحداث عثمان و خوفوه به و أعلموه أنهم مواثبوه إن لم يقلع فأخذ عمار الكتاب فأتاه به فقرأ منه صدرا ثم قال له أ علي تقدم من بينهم فقال لأني أنصحهم لك قال كذبت يا ابن سمية فقال أنا و الله ابن سمية و ابن ياسر فأمر عثمان غلمانا له فمدوا بيديه و رجليه ثم ضربه عثمان برجليه و هي في الخفين على مذاكيره فأصابه الفتق و كان ضعيفا كبيرا فغشي عليه . قال فضرب عمار على ما ترى غير مختلف فيه بين الرواة و إنما اختلفوا في سببه و الخبر الذي رواه صاحب المغني و حكاه عن أبي الحسين الخياط ما نعرفه و كتب السيرة المعلومة خالية منه و من نظيره و قد كان يجب أن يضيفه إلى الموضع الذي أخذ منه فإن قوله و قول من أسند إليه ليس بحجة و لو كان صحيحا لكان يجب أن يقول بدل قوله ها أنا فليقتص مني إذا كان ما أمر بذلك و لا رضي عنه و إنما ضربه الغلام الجاني فليقتص منه فإنه أولى و أعدل . و بعد فلا تنافي بين الروايتين لو كان ما رواه معروفا لأنه يجوز أن يكون غلامه ضربه في حال و ضربه هو في حال أخرى و الروايات إذا لم تتعارض لم يجز إسقاط شي‏ء منها . فأما قوله إن عمارا لا يجوز أن يكفره و لم يقع منه ما يوجب الكفر فإن تكفير عمار و غير عمار له معروف و قد جاءت به الروايات و قد روي من طرق مختلفة و بأسانيد كثيرة أن عمارا كان يقول ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر و أنا الرابع و أنا شر [ 51 ] الأربعة وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ و أنا أشهد أنه قد حكم بغير ما أنزل الله . و روي عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة أنه قيل له بأي شي‏ء كفرتم عثمان فقال بثلاث جعل المال دولة بين الأغنياء و جعل المهاجرين من أصحاب رسول الله ص بمنزلة من حارب الله و رسوله و عمل بغير كتاب الله . و روي عن حذيفة أنه كان يقول ما في عثمان بحمد الله أشك لكني أشك في قاتله لا أدري أ كافر قتل كافرا أم مؤمن خاض إليه الفتنة حتى قتله و هو أفضل المؤمنين إيمانا فأما ما رواه من منازعة الحسن ع عمارا في ذلك و ترافعهما إلى أمير المؤمنين ع فهو أولا غير دافع لكون عمار مكفرا له بل شاهد بذلك من قوله ع ثم إن كان الخبر صحيحا فالوجه فيه أن عمارا كان يعلم من لحن كلام أمير المؤمنين ع و عدوله عن أن يقضي بينهما بصريح من القول أنه متمسك بالتقية فأمسك عمار متابعة لغرضه . فأما قوله لا يجوز أن يكفره من حيث وثب على الخلافة لأنه كان مصوبا لأبي بكر و عمر لما تقدم من كلامه في ذلك فإنا لا نسلم له أن عمارا كان مصوبا لهما و ما تقدم من كلامه قد تقدم كلامنا عليه . فأما قوله عن أبي علي أنه لو ثبت أنه ضربه للقول العظيم الذي كان يقوله فيه لم يكن طعنا لأن للإمام تأديب من يستحق ذلك فقد كان يجب أن يستوحش صاحب كتاب المغني أو من حكى كلامه من أبي علي و غيره من أن يعتذر من ضرب عمار و وقذه حتى لحقه من الغشي ما ترك له الصلاة و وطئه بالأقدام امتهانا و استخفافا بشي‏ء من العذر [ 52 ] فلا عذر يسمع من إيقاع نهاية المكروه بمن روي أن النبي ص قال فيه عمار جلده ما بين العين و الأنف و متى تنكأ الجلدة يدم الأنف و روي أنه قال ع ما لهم و لعمار يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار روى العوام بن حوشب عن سلمة بن كهيل عن علقمة عن خالد بن الوليد أن رسول الله ص قال من عادى عمارا عاداه الله و من أبغض عمارا أبغضه الله و أي كلام غليظ سمعه عثمان من عمار يستحق به ذلك المكروه العظيم الذي يجاوز مقدار ما فرضه الله تعالى في الحدود و إنما كان عمار و غيره أثبتوا عليه أحداثه و معايبه أحيانا على ما يظهر من سيئ أفعاله و قد كان يجب عليه أحد أمرين إما أن ينزع عما يواقف عليه من تلك الأفعال أو يبين من عذره عنها و براءته منها ما يظهر و يشتهر فإن أقام مقيم بعد ذلك على توبيخه و تفسيقه زجره عن ذلك بوعظ أو غيره و لا يقدم على ما يفعله الجبابرة و الأكاسرة من شفاء الغيظ بغير ما أنزل الله تعالى و حكم به الطعن التاسع إقدامه علي أبي ذر مع تقدمه في الإسلام حتى سيره إلى الربذة و نفاه و قيل إنه ضربه . قال قاضي القضاة في الجواب عن ذلك أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قال إن الناس اختلفوا في أمر أبي ذر رحمه الله تعالى و روي أنه قيل لأبي ذر عثمان أنزلك الربذة فقال لا بل اخترت لنفسي ذلك . و روي أن معاوية كتب يشكوه و هو بالشام فكتب عثمان إليه أن صر إلى المدينة فلما صار إليها قال ما أخرجك إلى الشام قال لأني سمعت رسول الله ص [ 53 ] يقول إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فاخرج عنها فلذلك خرجت فقال فأي البلاد أحب إليك بعد الشام قال الربذة فقال صر إليها . قال و إذا تكافأت الأخبار لم يكن لهم في ذلك حجة و لو ثبت ذلك لكان لا يمتنع أن يخرجه إلى الربذة لصلاح يرجع إلى الدين فلا يكون ظلما لأبي ذر بل يكون إشفاقا عليه و خوفا من أن يناله من بعض أهل المدينة مكروه فقد روي أنه كان يغلظ في القول و يخشن الكلام فيقول لم يبق أصحاب محمد على ما عهد و ينغر بهذا القول فرأى إخراجه أصلح لما يرجع إليه و إليهم و إلى الدين و قد روي أن عمر أخرج عن المدينة نصر بن الحجاج لما خاف ناحيته و قد ندب الله سبحانه إلى خفض الجناح للمؤمنين و إلى القول اللين للكافرين و بين للرسول ص أنه لو استعمل الفظاظة لانفضوا من حوله فلما رأى عثمان من خشونة كلام أبي ذر و ما كان يورده مما يخشى منه التنغير فعل ما فعل . قال و قد روي عن زيد بن وهب قال قلت لأبي ذر رحمه الله تعالى و هو بالربذة ما أنزلك هذا المنزل قال أخبرك أني كنت بالشام في أيام معاوية و قد ذكرت هذه الآية وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فقال معاوية هذه في أهل الكتاب فقلت هي فيهم و فينا فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك فكتب إلي أن أقدم علي فقدمت عليه فانثال الناس إلي كأنهم لم يعرفوني فشكوت ذلك إلى عثمان فخيرني و قال انزل حيث شئت فنزلت الربذة . [ 54 ] و قد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط قريبا مما تقدم من أن إخراج أبي ذر إلى الربذة كان باختياره و روى في ذلك خبرا قال و أقل ما في ذلك أن تختلف الأخبار فتطرح و يرجع إلى الأمر الأول في صحة إمامة عثمان و سلامة أحواله . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما قول أبي علي إن الأخبار في سبب خروج أبي ذر إلى الربذة متكافئة فمعاذ الله أن تتكافأ في ذلك بل المعروف و الظاهر أنه نفاه أولا إلى الشام ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية ثم نفاه من المدينة إلى الربذة و قد روى جميع أهل السير على اختلاف طرقهم و أسانيدهم أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم ما أعطاه و أعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم و أعطى زيد بن ثابت مائة ألف درهم جعل أبو ذر يقول بشر الكانزين بعذاب أليم و يتلو قول الله تعالى وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فرفع ذلك مروان إلى عثمان فأرسل إلى أبي ذر نائلا مولاه أن انته عما يبلغني عنك فقال أ ينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله و عيب من ترك أمر الله فو الله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي و خير لي من أن أسخط الله برضاه فأغضب عثمان ذلك و أحفظه فتصابر . و قال يوما أ يجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر قضى فقال كعب الأحبار لا بأس بذلك فقال له أبو ذر يا ابن اليهوديين أ تعلمنا ديننا فقال عثمان قد كثر أذاك لي و تولعك بأصحابي الحق بالشام فأخرجه إليها فكان أبو ذر ينكر علي معاوية أشياء يفعلها فبعث إليه معاوية ثلاثمائة دينار فقال أبو ذر إن كانت هذه [ 55 ] من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها و إن كانت صلة فلا حاجة لي فيها و ردها عليه . و بنى معاوية الخضراء بدمشق فقال أبو ذر يا معاوية إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة و إن كانت من مالك فهو الإسراف . و كان أبو ذر رحمه الله تعالى يقول و الله لقد حدثت أعمال ما أعرفها و الله ما هي في كتاب الله و لا سنة نبيه و الله إني لأرى حقا يطفأ و باطلا يحيا و صادقا مكذبا و أثرة بغير تقى و صالحا مستأثرا عليه فقال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية أن أبا ذر لمفسد عليكم الشام فتدارك أهله إن كانت لكم حاجة فيه فكتب معاوية إلى عثمان فيه فكتب عثمان إلى معاوية أما بعد فاحمل جندبا إلي على أغلظ مركب و أوعره فوجه به مع من سار به الليل و النهار و حمله على شارف ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة و قد سقط لحم فخذيه من الجهد فلما قدم أبو ذر المدينة بعث إليه عثمان أن الحق بأي أرض شئت فقال بمكة قال لا قال فبيت المقدس قال لا قال فأحد المصرين قال لا و لكني مسيرك إلى الربذة فسيره إليها فلم يزل بها حتى مات . و في رواية الواقدي أن أبا ذر لما دخل علي عثمان قال له لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب فقال أبو ذر أنا جنيدب و سماني رسول الله ص عبد الله فاخترت اسم رسول الله الذي سماني به على اسمي فقال عثمان أنت الذي تزعم أنا نقول إن يد الله مغلولة و إن الله فقير و نحن أغنياء فقال أبو ذر لو كنتم لا تزعمون لأنفقتم [ 56 ] مال الله على عباده و لكني أشهد لسمعت رسول الله ص يقول إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا و عباد الله خولا و دين الله دخلا فقال عثمان لمن حضره أ سمعتموها من نبي الله فقالوا ما سمعناه فقال عثمان ويلك يا أبا ذر أ تكذب على رسول الله فقال أبو ذر لمن حضر أ ما تظنون أني صدقت قالوا لا و الله ما ندري فقال عثمان ادعوا لي عليا فدعي فلما جاء قال عثمان لأبي ذر اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص فحدثه فقال عثمان لعلي هل سمعت هذا من رسول الله ص فقال علي ع لا و قد صدق أبو ذر قال عثمان بم عرفت صدقه قال لأني سمعت رسول الله ص يقول ما أظلت الخضراء و لا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر فقال جميع من حضر من أصحاب النبي ص لقد صدق أبو ذر فقال أبو ذر أحدثكم أني سمعت هذا من رسول الله ص ثم تتهمونني ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد ص . و روى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى الأسلميين قال رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان فقال له أنت الذي فعلت و فعلت فقال له أبو ذر نصحتك فاستغششتني و نصحت صاحبك فاستغشني فقال عثمان كذبت و لكنك تريد الفتنة و تحبها قد انغلت الشام علينا فقال له أبو ذر اتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام قال عثمان ما لك و ذلك لا أم لك قال أبو ذر و الله ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فغضب عثمان و قال أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله فإنه قد فرق جماعة المسلمين أو أنفيه من أرض الإسلام فتكلم علي ع و كان حاضرا و قال أشير عليك [ 57 ] بما قاله مؤمن آل فرعون وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اَللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ قال فأجابه عثمان بجواب غليظ لا أحب ذكره و أجابه ع بمثله قال ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر أو يكلموه فمكث كذلك أياما ثم أمر أن يؤتى به فلما أتي به وقف بين يديه قال ويحك يا عثمان أ ما رأيت رسول الله ص و رأيت أبا بكر و عمر هل رأيت هذا هديهم إنك لتبطش بي بطش جبار فقال اخرج عنا من بلادنا فقال أبو ذر ما أبغض إلي جوارك فإلى أين أخرج قال حيث شئت قال فأخرج إلى الشام أرض الجهاد قال إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها أ فأردك إليها قال أ فأخرج إلى العراق قال لا قال و لم قال تقدم على قوم أهل شبه و طعن في الأئمة قال أ فأخرج إلى مصر قال لا قال فإلى أين أخرج قال حيث شئت قال أبو ذر فهو إذن التعرب بعد الهجرة أ أخرج إلى نجد فقال عثمان الشرف الأبعد أقصى فأقصى امض على وجهك هذا و لا تعدون الربذة فخرج إليها . و روى الواقدي عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة أن أبا الأسود الدؤلي قال كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه فنزلت الربذة فقلت له أ لا تخبرني أ خرجت من المدينة طائعا أم أخرجت مكرها فقال كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم فأخرجت إلى مدينة الرسول ع فقلت أصحابي و دار هجرتي فأخرجت منها إلى ما ترى ثم قال بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد إذ مر بي رسول الله ص فضربني برجله و قال لا أراك نائما في المسجد فقلت بأبي أنت [ 58 ] و أمي غلبتني عيني فنمت فيه فقال كيف تصنع إذا أخرجوك منه فقلت إذن ألحق بالشام فإنها أرض مقدسة و أرض بقية الإسلام و أرض الجهاد فقال فكيف تصنع إذا أخرجت منها فقلت أرجع إلى المسجد قال فكيف تصنع إذا أخرجوك منه قلت آخذ سيفي فأضرب به فقال ص أ لا أدلك على خير من ذلك انسق معهم حيث ساقوك و تسمع و تطيع فسمعت و أطعت و أنا أسمع و أطيع و الله ليلقين الله عثمان و هو آثم في جنبي . و كان يقول بالربذة ما ترك الحق لي صديقا و كان يقول فيها ردني عثمان بعد الهجرة أعرابيا . و الأخبار في هذا الباب أكثر من أن تحصر و أوسع من أن نذكرها و ما يحمل نفسه على ادعاء أن أبا ذر خرج مختارا إلى الربذة إلا مكابر و لسنا ننكر أن يكون ما أورده صاحب كتاب المغني من أنه خرج مختارا قد روي إلا أنه من الشاذ النادر و بإزاء هذه الرواية الفذة كل الروايات التي تتضمن خلافها و من تصفح الأخبار علم أنها غير متكافئة على ما ظن صاحب المغني و كيف يجوز خروجه عن اختيار و إنما أشخص من الشام على الوجه الذي أشخص عليه من خشونة المركب و قبح السير به للموجدة عليه ثم لما قدم منع الناس من كلامه و أغلظ له في القول و كل هذا لا يشبه أن يكون خروجه إلى الربذة باختياره و كيف يظن عاقل أن أبا ذر يختار الربذة منزلا مع جدبها و قحطها و بعدها عن الخيرات و لم تكن بمنزل مثله . فأما قوله إنه أشفق عليه من أن يناله بعض أهل المدينة بمكروه من حيث كان يغلظ لهم القول فليس بشي‏ء لأنه لم يكن في أهل المدينة إلا من كان راضيا بقوله عاتبا بمثل عتبة إلا أنهم كانوا بين مجاهر بما في نفسه و مخف ما عنده و ما في أهل المدينة إلا [ 59 ] من رثى لأبي ذر مما حدث عليه و من استفظعه و من رجع إلى كتب السيرة عرف ما ذكرناه . فأما قوله أن عمر أخرج من المدينة نصر بن حجاج فيا بعد ما بين الأمرين و ما كنا نظن أن أحدا يسوي بين أبي ذر و هو وجه الصحابة و عينهم و من أجمع المسلمون على توقيره و تعظيمه و أن رسول الله ص مدحه من صدق اللهجة بما لم يمدح به أحدا و بين نصر بن الحجاج الحدث الذي كان خاف عمر من افتتان النساء بشبابه و لا حظ له في فضل و لا دين على أن عمر قد ذم بإخراجه نصر بن الحجاج من غير ذنب كان منه فإذا كان من أخرج نصر بن حجاج مذموما فكيف من أخرج أبا ذر . فأما قوله إن الله تعالى و الرسول قد ندبا إلى خفض الجناح و لين القول للمؤمن و الكافر فهو كما قال إلا أن هذا أدب كان ينبغي أن يتأدب به عثمان في أبي ذر و لا يقابله بالتكذيب و قد قطع رسول الله ص على صدقه و لا يسمعه مكروه الكلام فإنما نصح له و أهدى إليه عيوبه و عاتبه على ما لو نزع عنه لكان خيرا له في الدنيا و الآخرة . الطعن العاشر تعطيله الحد الواجب على عبيد الله بن عمر بن الخطاب فإنه قتل الهرمزان مسلما فلم يقده به و قد كان أمير المؤمنين ع يطلبه لذلك . قال قاضي القضاة في الجواب عن ذلك أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قال إنه لم يكن للهرمزان ولى يطلب بدمه و الإمام ولي من لا ولي له و للولي أن يعفو كما له أن يقتل و قد روي أنه سأل المسلمين أن يعفوا عنه فأجابوا عنه إلى ذلك . [ 60 ] قال و إنما أراد عثمان بالعفو عنه ما يعود إلى عز الدين لأنه خاف أن يبلغ العدو قتله فيقال قتلوا إمامهم و قتلوا ولده و لا يعرفون الحال في ذلك فيكون فيه شماتة و قد قال الشيخ أبو الحسين الخياط أن عامة المهاجرين أجمعوا على أنه لا يقاد بالهرمزان و قالوا لعثمان هذا دم سفك في غير ولايتك و ليس له ولي يطلب به و أمره إلى الإمام فاقبل منه الدية فذلك صلاح للمسلمين . قال و لم يثبت أن أمير المؤمنين ع كان يطلبه ليقتله بالهرمزان لأنه لا يجوز قتل من عفا عنه ولي المقتول و إنما كان يطلبه ليضع من قدره و يصغر من شأنه . قال و يجوز أن يكون ما روي عن علي ع من أنه قال لو كنت بدل عثمان لقتلته يعني أنه كان يرى ذلك أقوى في الاجتهاد و أقرب إلى التشدد في دين الله سبحانه . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام قال أما قوله لم يكن للهرمزان ولي يطلب بدمه فالإمام يكون وليه و له أن يعفو عنه كما له أن يقتص فليس بمعتمد لأن الهرمزان رجل من أهل فارس و لم يكن له ولي حاضر يطالب بدمه و قد كان الواجب أن يبذل الإنصاف لأوليائه و يؤمنوا متى حضروا حتى أنه لو كان له ولي يريد المطالبة حضر و طالب ثم لو لم يكن له ولي لم يكن عثمان ولي دمه لأنه قتل في أيام عمر فصار عمر ولي دمه و قد أوصى عمر على ما جاءت به الروايات الظاهرة بقتل ابنه عبيد الله إن لم تقم البينة العادلة على الهرمزان و جفينة أنهما أمرا أبا لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة بقتله و كانت وصيته بذلك إلى أهل الشورى فقال أيكم ولي هذا الأمر فليفعل كذا و كذا مما ذكرناه فلما مات عمر طلب المسلمون إلى عثمان إمضاء [ 61 ] الوصية في عبيد الله بن عمر فدافع عن ذلك و عللهم و لو كان هو ولي الدم على ما ذكروا لم يكن له أن يعفو و أن يبطل حدا من حدود الله تعالى و أي شماتة للعدو في إقامة حد من حدود الله تعالى و إنما الشماتة كلها من أعداء الإسلام في تعطيل الحدود و أي حرج في الجمع بين قتل الإمام و ابنه حتى يقال كره أن ينتشر الخبر بأن الإمام و ابنه قتلا و إنما قتل أحدهما ظلما و الآخر عدلا أو أحدهما بغير أمر الله و الآخر بأمره سبحانه . و قد روى زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح أن أمير المؤمنين ع أتى عثمان بعد ما استخلف فكلمه في عبيد الله و لم يكلمه أحد غيره فقال اقتل هذا الفاسق الخبيث الذي قتل أميرا مسلما فقال عثمان قتلوا أباه بالأمس و أقتله اليوم و إنما هو رجل من أهل الأرض فلما أبى عليه مر عبيد الله على علي ع فقال له إيه يا فاسق أما و الله لئن ظفرت بك يوما من الدهر لأضربن عنقك فلذلك خرج مع معاوية عليه و روى القناد عن الحسن بن عيسى بن زيد عن أبيه أن المسلمين لما قال عثمان إني قد عفوت عن عبيد الله بن عمر قالوا ليس لك أن تعفو عنه قال بلى إنه ليس لجفينة و الهرمزان قرابة من أهل الإسلام و أنا ولي أمر المسلمين و أنا أولى بهما و قد عفوت فقال علي ع إنه ليس كما تقول إنما أنت في أمرهما بمنزلة أقصى المسلمين إنه قتلهما في إمرة غيرك و قد حكم الوالي الذي قتلا في إمارته بقتله و لو كان قتلهما في إمارتك لم يكن لك العفو عنه فاتق الله فإن الله سائلك عن هذا فلما رأى عثمان أن المسلمين قد أبوا إلا قتل عبيد الله أمره فارتحل إلى الكوفة و أقطعه بها دارا و أرضا و هي التي يقال لها كويفة بن عمر فعظم ذلك عند المسلمين و أكبروه و كثر كلامهم فيه . [ 62 ] و روي عن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع أنه قال ما أمسى عثمان يوم ولي حتى نقموا عليه في أمر عبيد الله بن عمر حيث لم يقتله بالهرمزان فأما قوله إن أمير المؤمنين ع لم يطلبه ليقتله بل ليضع من قدره فهو بخلاف ما صرح به ع من أنه إن تمكن ليضربن عنقه . و بعد فإن ولي الدم إذا عفا عنه على ما ادعوا لم يكن لأحد أن يستخف به و لا يضع من قدره كما ليس له أن يقتله . و أما قوله إن أمير المؤمنين ع لا يجوز أن يتوعده مع عفو الإمام عنه فإنما يكون صحيحا لو كان ذلك العفو مؤثرا و قد بينا أنه غير مؤثر . و أما قوله يجوز أن يكون ع رأى أن قتله أقوى في الاجتهاد و أقرب إلى التشدد في دين الله فلا شك أنه كذلك و هذا بناء منه على أن كل مجتهد مصيب و قد بينا أن الأمر بخلاف ذلك و إذا كان اجتهاد أمير المؤمنين ع يقتضي قتله فهو الذي لا يسوغ خلافه . الطعن الحادي عشر و هو إجمالي قالوا وجدنا أحوال الصحابة دالة على تصديقهم المطاعن فيه و براءتهم منه و الدليل على ذلك أنهم تركوه بعد قتله ثلاثة أيام لم يدفنوه و لا أنكروا على من أجلب عليه من أهل الأمصار بل أسلموه و لم يدفعوا عنه و لكنهم أعانوا عليه و لم يمنعوا من حصره و لا من منع الماء عنه و لا من قتله مع تمكنهم من خلاف ذلك و هذا من أقوى الدلائل على ما قلناه و لو لم يدل على أمره عندهم إلا ما روي عن علي ع أنه قال الله قتله و أنا معه و أنه كان في أصحابه ع من يصرح بأنه قتل [ 63 ] عثمان و مع ذلك لا يقيدهم بل و لا ينكر عليهم و كان أهل الشام يصرحون بأن مع أمير المؤمنين قتلة عثمان و يجعلون ذلك من أوكد الشبه و لا ينكر ذلك عليهم مع أنا نعلم أن أمير المؤمنين ع لو أراد أن يتعاضد هو و أصحابه على المنع عنه لما وقع في حقه ما وقع فصار كفه و كف غيره عن ذلك من أدل الدلائل على أنهم صدقوا عليه ما نسب إليه من الأحداث و أنهم لم يقبلوا منه ما جعله عذرا . و أجاب قاضي القضاة عن هذا فقال أما تركه بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن فليس بثابت و لو صح لكان طعنا على من لزمه القيام به و قد قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى إنه لا يمتنع أن يشتغلوا بإبرام البيعة لأمير المؤمنين ع خوفا على الإسلام من الفتنة فيؤخروا دفنه . قال و بعيد مع حضور قريش و قبائل العرب و سائر بني أمية و مواليهم أن يترك عثمان و لا يدفن هذه المدة و بعيد أن يكون أمير المؤمنين ع لا يتقدم بدفنه و لو مات في جواره يهودي أو نصراني و لم يكن له من يواريه ما تركه أمير المؤمنين ألا يدفن فكيف يجوز مثل ذلك في عثمان و قد روي أنه دفن في تلك الليلة و هذا هو الأولى . فأما التعلق بأن الصحابة لم تنكر على القوم و لا دفعت عنه فقد سبق القول في ذلك و الصحيح عن أمير المؤمنين ع أنه تبرأ من قتل عثمان و لعن قتلته في البر و البحر و السهل و الجبل و إنما كان يجري من جيشه هذا القول منه على جهة المجاز لأنا نعلم أن جميع من كان يقول نحن قتلناه لم يقتله لأن في الخبر أن العدد الكثير كانوا يصرحون بذلك و الذين دخلوا عليه و قتلوه اثنان أو ثلاثة و إنما كانوا يقصدون بهذا القول أي احسبوا أنا قتلناه فما لكم و ذلك أن الإمام هو الذي يقوم بأمر القود و ليس للخارج عليه أن يطالب بذلك و لم يكن لأمير المؤمنين ع أن يقتل قتلته لو عرفهم ببينة أو إقرار و ميزهم من غيرهم إلا عند مطالبة ولي الدم و الذين كانوا أولياء [ 64 ] الدم لم يكونوا يطالبونه و لا كانت صفتهم صفة من يطالب لأنهم كانوا كلهم أو بعضهم يدعون أن عليا ع ليس بإمام و لا يحل لولي الدم مع هذا الاعتقاد أن يطالب بالقود فلذلك لم يقتلهم ع هذا لو صح أنه كان يميزهم فكيف و ذلك غير صحيح . فأما ما روي عنه من قوله ع قتله الله و أنا معه فإن صح فمعناه مستقيم يريد أن الله أماته و سيميتني و سائر العباد . ثم قال سائلا نفسه كيف يقول ذلك و عثمان مات مقتولا من جهة المكلفين و أجاب بأنه و إن قتل فالإماتة من قبل الله تعالى و يجوز أن يكون ما ناله من الجراح لا يوجب انتفاء الحياة لا محالة فإذا مات صحت الإماتة على طريق الحقيقة . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما تضعيفه أن يكون عثمان ترك بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن فليس بحجة لأن ذلك قد رواه جماعة الرواة و ليس يخالف في مثله أحد يعرف بالرواية و قد ذكر ذلك الواقدي و غيره و روى أن أهل المدينة منعوا الصلاة عليه حتى حمل بين المغرب و العتمة و لم يشهد جنازته غير مروان و ثلاثة من مواليه و لما أحسوا بذلك رموه بالحجارة و ذكروه بأسوإ الذكر و لم يقع التمكن من دفنه إلا بعد أن أنكر أمير المؤمنين ع المنع من دفنه و أمر أهله بتولي ذلك منه . فأما قوله إن ذلك إن صح كان طعنا على من لزمه القيام بأمره فليس الأمر على ما ظنه بل يكون طعنا على عثمان من حيث لا يجوز أن يمنع أهل المدينة و فيها وجوه الصحابة من دفنه و الصلاة عليه إلا لاعتقاد قبيح أو لأن أكثرهم و جمهورهم يعتقد ذلك و هذا طعن لا شبهة فيه و استبعاد صاحب المغني لذلك مع ظهور الرواية به [ 65 ] لا يلتفت إليه فأما أمير المؤمنين ع و استبعاد صاحب المغني منه ألا يتقدم بدفنه فقد بينا أنه تقدم بذلك بعد مماكسة و مراوضة و أعجب من كل شي‏ء قول صاحب المغني إنهم أخروا دفنه تشاغلا بالبيعة لأمير المؤمنين ع و أي شغل في البيعة لأمير المؤمنين يمنع من دفنه و الدفن فرض على الكفاية لو قام به البعض و تشاغل الباقون بالبيعة لجاز و ليس الدفن و لا البيعة أيضا مفتقرة إلى تشاغل جميع أهل المدينة بها . فأما قوله إنه قد روي أن عثمان دفن تلك الليلة فما تعرف هذه الرواية و قد كان يجب أن يسندها و يعزوها إلى راويها أو الكتاب الذي أخذها منه فالذي ظهر في الرواية هو ما ذكرناه . فأما إحالته على ما تقدم في معنى الإنكار من الصحابة على القوم المجلبين على عثمان فقد سبق القول في ذلك . فأما روايته عن أمير المؤمنين ع تبرؤه من قتل عثمان و لعنه قتلته في البر و البحر و السهل و الجبل فلا شك في أنه ع كان بريئا من قتله و قد روي عنه ع أنه قال و الله ما قتلت عثمان و لا مالأت في قتله و الممالأة هي المعاونة و الموازرة و قد صدق ع في أنه ما قتل و لا وازر على القتل . فأما لعنه قتلته فضعيف في الرواية و إن كان قد روي فأظهر منه ما رواه الواقدي عن الحكم بن الصلت عن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال رأيت عليا ع على منبر رسول الله ص حين قتل و هو يقول ما أحببت قتله و لا كرهته و لا أمرت به و لا نهيت عنه و قد روى محمد بن سعد عن عفان بن جرير بن بشير عن أبي جلدة أنه سمع عليا [ 66 ] ع يقول و هو يخطب فذكر عثمان و قال : و الله الذي لا إله إلا هو ما قتلته و لا مالأت على قتله و لا ساءني و روى ابن بشير عن عبيدة السلماني قال سمعت عليا ع يقول من كان سائلي عن دم عثمان فإن الله قتله و أنا معه و قد روي هذا اللفظ من طرق كثيرة . و قد روى شعبة عن أبي حمزة الضبعي قال قلت لابن عباس إن أبي أخبرني أنه سمع عليا يقول ألا من كان سائلي على دم عثمان فإن الله قتله و أنا معه فقال صدق أبوك هل تدري ما معنى قوله إنما عنى الله قتله و أنا مع الله . قال فإن قيل كيف يصح الجمع بين معاني هذه الأخبار . قلنا لا تنافي بينها لأنه ع تبرأ من مباشرة قتله و المؤازرة عليه ثم قال ما أمرت بذلك و لا نهيت عنه يريد أن قاتليه لم يرجعوا إلي و لم يكن مني قول في ذلك بأمر و لا نهى فأما قوله الله قتله و أنا معه فيجوز أن يكون المراد به الله حكم بقتله و أوجبه و أنا كذلك لأن من المعلوم أن الله تعالى لم يقتله على الحقيقة فإضافة القتل إليه لا تكون إلا بمعنى الحكم و الرضا و ليس يمتنع أن يكون مما حكم الله تعالى به ما لم يتوله بنفسه و لا آزر عليه و لا شايع فيه . فإن قال قائل هذا ينافي ما روي عنه من قوله ما أحببت قتله و لا كرهته و كيف يكون من حكم الله و حكمه أن يقتل و هو لا يحب قتله . قلنا يجوز أن يريد بقوله ما أحببت قتله و لا كرهته أن ذلك لم يكن مني على سبيل التفصيل و لا خطر لي ببال و إن كان على سبيل الجملة يحب قتل من غلب المسلمين [ 67 ] على أمورهم و طالبوه بأن يعتزل لأنه مستول عليهم بغير حق فامتنع من ذلك و يكون فائدة هذا الكلام التبرؤ من مباشرة قتله و الأمر به على سبيل التفصيل أو النهي عنه و يجوز أن يريد أنني ما أحببت قتله إن كانوا تعمدوا القتل و لم يقع على سبيل الممانعة و هو غير مقصود و يريد بقوله ما كرهته أني لم أكرهه على كل حال و من كل وجه . فأما لعنه قتلته فقد بينا أنه ليس بظاهر ظهور ما ذكرناه و إن صح فهو مشروط بوقوع القتل على الوجه المحظور من تعمد له و قصد إليه و غير ذلك على أن المتولي للقتل على ما صحت به الرواية كنانة بن بشير التجيبي و سودان بن حمران المرادي و ما منهما من كان غرضه صحيحا في القتل و لا له أن يقدم عليه فهو ملعون به فأما محمد بن أبي بكر فما تولى قتله و إنما روي أنه لما جثا بين يديه قابضا على لحيته قال له يا ابن أخي دع لحيتي فإن أباك لو كان حيا لم يقعد مني هذا المقعد فقال محمد أن أبي لو كان حيا ثم يراك تفعل ما تفعل لأنكره عليك ثم وجأه بجماعة قداح كانت في يده فحزت في جلده و لم تقطع و بادره من ذكرناه في قتله بما كان فيه قتله . فأما تأويله قول أمير المؤمنين ع قتله الله و أنا معه على أن المراد به الله أماته و سيميتني فبعيد من الصواب لأن لفظة أنا لا تكون كناية عن المفعول و إنما تكون كناية عن الفاعل و لو أراد ما ذكره لكان يقول و إياي معه و ليس له أن يقول إننا نجعل قوله و أنا معه مبتدأ محذوف الخبر و يكون تقدير الكلام و أنا معه مقتول و ذلك لأن هذا ترك للظاهر و إحالة على ما ليس فيه و الكلام إذا أمكن حمله على معنى يستقل ظاهره به من غير تقدير و حذف كان أولى مما يتعلق بمحذوف على أنهم إذا جعلوه مبتدأ و قدروا خبرا لم يكونوا بأن يقدروا ما يوافق مذهبهم بأولى من تقدير خلافه و يجعل بدلا من لفظة المقتول المحذوفة لفظة معين أو ظهير . [ 68 ] و إذا تكافأ القولان في التقدير و تعارضا سقطا و وجب الرجوع إلى ظاهر الخبر على أن عثمان مضى مقتولا فكيف يقال إن الله تعالى أماته و القتل كاف في انتفاء الحياة و ليس يحتاج معه إلى ناف للحياة يسمى موتا . و قول صاحب المغني يجوز أن يكون ما ناله من الجراح لا يوجب انتفاء الحياة ليس بشي‏ء لأن المروي أنه ضرب على رأسه بعمود عظيم من حديد و أن أحد قتلته قال جلست على صدره فوجأته تسع طعنات علمت أنه مات في ثلاث و وجأته الست الأخر لما كان في نفسي عليه من الحنق . و بعد فإذا كان جائزا فمن أين علمه أمير المؤمنين ع حتى يقول إن الله أماته و إن الحياة لم تنتف بما فعله القاتلون و إنما انتفت بشي‏ء زاد على فعلهم من قبل الله تعالى مما لا يعلمه على سبيل التفصيل إلا علام الغيوب سبحانه . و الجواب عن هذه المطاعن على وجهين إجمالا و تفصيلا أما الوجه الإجمالي فهو أننا لا ننكر أن عثمان أحدث أحداثا أنكرها كثير من المسلمين و لكنا ندعي مع ذلك أنها لم تبلغ درجة الفسق و لا أحبطت ثوابه و أنها من الصغائر التي وقعت مكفرة و ذلك لأنا قد علمنا أنه مغفور له و أنه من أهل الجنة لثلاثة أوجه . أحدها أنه من أهل بدر و قد قال رسول الله ص إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم و لا يقال إن عثمان لم يشهد بدرا لأنا نقول صدقتم أنه لم يشهدها و لكنه تخلف على رقية ابنة رسول الله ص [ 69 ] بالمدينة لمرضها و ضرب له رسول الله ص بسهمه و أجره باتفاق سائر الناس . و ثانيها أنه من أهل بيعة الرضوان الذين قال الله تعالى فيهم لَقَدْ رَضِيَ اَللَّهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ و لا يقال إنه لم يشهد البيعة تحت الشجرة لأنا نقول صدقتم أنه لم يشهدها و لكنه كان رسول الله ص أرسله إلى أهل مكة و لأجله كانت بيعة الرضوان حيث أرجف بأن قريشا قتلت عثمان فقال رسول الله ص إن كانوا قتلوه لأضرمنها عليهم نارا ثم جلس تحت الشجرة و بايع الناس على الموت ثم قال إن كان عثمان حيا فأنا أبايع عنه فصفح بشماله على يمينه و قال شمالي خير من يمين عثمان روى ذلك جميع أرباب أهل السيرة متفقا عليه . و ثالثها أنه من جملة العشرة الذين تظاهرت الأخبار بأنهم من أهل الجنة . و إذا كانت الوجوه الثلاثة دالة على أنه مغفور له و أن الله تعالى قد رضي عنه و هو من أهل الجنة بطل أن يكون فاسقا لأن الفاسق يخرج عندنا من الإيمان و يحبط ثوابه و يحكم له بالنار و لا يغفر له و لا يرضى عنه و لا يرى الجنة و لا يدخلها فاقتضت هذه الوجوه الصحيحة الثابتة أن يحكم بأن كل ما وقع منه فهو من باب الصغائر المكفرة توفيقا بين هذه الوجوه و بين روايات الأحداث المذكورة . و أما الوجه التفصيلي فهو مذكور في كتب أصحابنا المطولة في الإمامة فليطلب من مظانه فإنهم قد استقصوا في الجواب عن هذه المطاعن استقصاء لا مزيد عليه [ 70 ] بيعة جرير بن عبد الله البجلي لعلي فأما خبر جرير بن عبد الله البجلي و بعث أمير المؤمنين ع إياه إلى معاوية فنحن نذكره نقلا من كتاب صفين لنصر بن مزاحم بن بشار المنقري و نذكر حال أمير المؤمنين ع منذ قدم الكوفة بعد وقعة الجمل و مراسلته معاوية و غيره و مراسلة معاوية له و لغيره و ما كان من ذلك في مبدأ حالتهما إلى أن سار علي ع إلى صفين . قال نصر حدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال لما قدم علي ع الكوفة بعد انقضاء أمر الجمل كاتب العمال فكتب إلى جرير بن عبد الله البجلي مع زحر بن قيس الجعفي و كان جرير عاملا لعثمان على ثغر همذان أما بعد ف إِنَّ اَللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذا أَرادَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ و إني أخبرك عن نبإ من سرنا إليه من جموع طلحة و الزبير عند نكثهم بيعتي و ما صنعوا بعاملي عثمان بن حنيف إني نهضت من المدينة بالمهاجرين و الأنصار حتى إذا كنت بالعذيب بعثت إلى أهل الكوفة الحسن بن علي و عبد الله بن عباس و عمار بن ياسر و قيس بن عبادة فاستنفرتهم فأجابوا فسرت بهم حتى نزلت بظهر البصرة فأعذرت في [ 71 ] الدعاء و أقلت العثرة و ناشدتهم عهد بيعتهم فأبوا إلا قتالي فاستعنت الله عليهم فقتل من قتل و ولوا مدبرين إلى مصرهم و سألوني ما كنت دعوتهم إليه قبل اللقاء فقبلت العافية و رفعت السيف و استعملت عليهم عبد الله بن العباس و سرت إلى الكوفة و قد بعثت إليك زحر بن قيس فاسأله عما بدا لك و السلام . قال فلما قرأ جرير الكتاب قام فقال أيها الناس هذا كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع و هو المأمون على الدين و الدنيا و قد كان من أمره و أمر عدوه ما نحمد الله عليه و قد بايعه الناس الأولون من المهاجرين و الأنصار و التابعين بإحسان و لو جعل هذا الأمر شورى بين المسلمين كان أحقهم بها ألا و إن البقاء في الجماعة و الفناء في الفرقة و إن عليا حاملكم على الحق ما استقمتم فإن ملتم أقام ميلكم فقال الناس سمعا و طاعة رضينا رضينا . فكتب جرير إلى علي ع جواب كتابه بالطاعة . قال نصر و كان مع علي رجل من طيئ ابن أخت لجرير فحمل زحر بن قيس شعرا له إلى خاله جرير و هو جرير بن عبد الله لا تردد الهدى و بايع عليا إنني لك ناصح فإن عليا خير من وطي‏ء الحصى سوى أحمد و الموت غاد و رائح و دع عنك قول الناكثين فإنما أولاك أبا عمرو كلاب نوابح و بايع إذا بايعته بنصيحة و لا يك منها من ضميرك قادح فإنك إن تطلب بها الدين تعطه و إن تطلب الدنيا فإنك رابح [ 72 ] و إن قلت عثمان بن عفان حقه علي عظيم و الشكور مناصح فحق علي إذ وليك كحقه و شكرك ما أوليت في الناس صالح و إن قلت لا أرضى عليا إمامنا فدع عنك بحرا ضل فيه السوابح أبى الله إلا أنه خير دهره و أفضل من ضمت عليه الأباطح قال نصر ثم إن جريرا قام في أهل همذان خطيبا فقال الحمد لله الذي اختار لنفسه الحمد و تولاه دون خلقه لا شريك له في الحمد و لا نظير له في المجد و لا إله إلا الله وحده الدائم القائم إله السماء و الأرض و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله بالنور الواضح و الحق الناطق داعيا إلى الخير و قائدا إلى الهدى ثم قال أيها الناس إن عليا قد كتب إليكم كتابا لا يقال بعده إلا رجيع من القول و لكن لا بد من رد الكلام إن الناس بايعوا عليا بالمدينة عن غير محاباة له ببيعتهم لعلمه بكتاب الله و سنن الحق و إن طلحة و الزبير نقضا بيعته على غير محاباة حدثت و ألبا عليه الناس ثم لم يرضيا حتى نصبا له الحرب و أخرجا أم المؤمنين فلقيهما فأعذر في الدعاء و أحسن في البقية و حمل الناس على ما يعرفون فهذا عيان ما غاب عنكم و إن سألتم الزيادة زدناكم و لا قوة إلا بالله ثم قال أتانا كتاب علي فلم ترد الكتاب بأرض العجم و لم نعص ما فيه لما أتى و لما نذم و لما نلم و نحن ولاة على ثغرنا نضيم العزيز و نحمي الذمم نساقيهم الموت عند اللقاء بكأس المنايا و نشفي القرم [ 73 ] فصلى الإله على أحمد رسول المليك تمام النعم رسول المليك و من بعده خليفتنا القائم المدعم عليا عنيت وصي النبي نجالد عنه غواة الأمم له الفضل و السبق و المكرمات و بيت النبوة لا يهتضم قال نصر فسر الناس بخطبة جرير و شعره . و قال ابن الأزور القسري في جرير يمدحه بذلك لعمر أبيك و الأنباء تنمي لقد جلى بخطبته جرير و قال مقالة جدعت رجالا من الحيين خطبهم كبير بدا بك قبل أمته علي و مخك إن رددت الحق رير أتاك بأمره زحر بن قيس و زحر بالتي حدثت خبير فكنت لما أتاك به سميعا و كدت إليه من فرح تطير فأنت بما سعدت به ولي و أنت لما تعد له نصير و أحرزت الثواب و رب حاد حدا بالركب ليس له بعير بيعة الأشعث لعلي قال نصر و كتب علي ع إلى الأشعث و كان عامل عثمان على آذربيجان [ 74 ] يدعوه إلى البيعة و الطاعة و كتب جرير بن عبد الله البجلي إلى الأشعث يحضه على طاعة أمير المؤمنين ع و قبول كتابه أما بعد فإني أتتني بيعة علي فقبلتها و لم أجد إلى دفعها سبيلا لأني نظرت فيما غاب عني من أمر عثمان فلم أجده يلزمني و قد شهد المهاجرون و الأنصار فكان أوفق أمرهم فيه الوقوف فأقبل بيعته فإنك لا تنقلب إلى خير منه و اعلم أن بيعة علي خير من مصارع أهل البصرة و السلام . قال نصر فقبل الأشعث البيعة و سمع و أطاع و أقبل جرير سائرا من ثغر همذان حتى ورد علي ع الكوفة فبايعه و دخل فيما دخل فيه الناس من طاعته و لزوم أمره دعوة علي معاوية إلى البيعة و الطاعة و رد معاوية عليه قال نصر فلما أراد علي ع أن يبعث إلى معاوية رسولا قال له جرير ابعثني يا أمير المؤمنين إليه فإنه لم يزل لي مستخصا و ودا آتيه فأدعوه على أن يسلم لك هذا الأمر و يجامعك على الحق على أن يكون أميرا من أمرائك و عاملا من عمالك ما عمل بطاعة الله و اتبع ما في كتاب الله و أدعو أهل الشام إلى طاعتك و ولايتك فجلهم قومي و أهل بلادي و قد رجوت ألا يعصوني . فقال له الأشتر لا تبعثه و لا تصدقه فو الله إني لأظن هواه هواهم و نيته نيتهم . فقال له علي ع دعه حتى ننظر ما يرجع به إلينا فبعثه علي ع و قال له ع حين أراد أن يبعثه إن حولي من أصحاب رسول الله ص من أهل الرأي و الدين من قد رأيت و قد اخترتك عليهم لقول رسول الله فيك [ 75 ] إنك من خير ذي يمن ائت معاوية بكتابي فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون و إلا فانبذ إليه و أعلمه إني لا أرضى به أميرا و أن العامة لا ترضى به خليفة . فانطلق جرير حتى أتى الشام و نزل بمعاوية فلما دخل عليه حمد الله و أثنى عليه و قال أما بعد يا معاوية فإنه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين و أهل المصرين و أهل الحجاز و أهل اليمن و أهل مصر و أهل العروض و العروض عمان و أهل البحرين و اليمامة فلم يبق إلا هذه الحصون التي أنت فيها لو سال عليها سيل من أوديته غرقها و قد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك و يهديك إلى مبايعة هذا الرجل و دفع إليه كتاب علي ع و فيه أما بعد فإن بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بويعوا عليه فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يرد و إنما الشورى للمهاجرين و الأنصار إذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما كان ذلك لله رضا فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه على اتباع سبيل المؤمنين و ولاه الله ما تولى و يصليه جهنم و ساءت مصيرا و إن طلحة و الزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي فكان نقضهما كردتهما فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق و ظهر أمر الله و هم كارهون فادخل فيما دخل فيه المسلمون فإن أحب الأمور إلي فيك العافية إلا أن تتعرض للبلاء فإن تعرضت له قاتلتك و استعنت بالله عليك . و قد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه الناس ثم حاكم القوم إلي أحملك [ 76 ] و إياهم على كتاب الله فأما تلك التي تريدها فخدعة الصبي عن اللبن و لعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان و اعلم أنك من الطلقاء الذين لا يحل لهم الخلافة و لا تعرض فيهم الشورى و قد أرسلت إليك و إلى من قبلك جرير بن عبد الله البجلي و هو من أهل الإيمان و الهجرة فبايع و لا قوة إلا بالله . فلما قرأ الكتاب قام جرير فخطب فقال الحمد لله المحمود بالعوائد و المأمول منه الزوائد المرتجى منه الثواب المستعان على النوائب أحمده و أستعينه في الأمور التي تحير دونها الألباب و تضمحل عندها الأسباب و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كل شي‏ء هالك إلا وجهه له الحكم و إليه ترجعون و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله بعد فترة من الرسل الماضية و القرون الخالية و أبدان البالية و الجبلة الطاغية فبلغ الرسالة و نصح للأمة و أدى الحق الذي استودعه الله و أمره بأدائه إلى أمته ص من رسول و مبتعث و منتجب . أيها الناس إن أمر عثمان قد أعيا من شهده فكيف بمن غاب عنه و إن الناس بايعوا عليا غير واتر و لا موتور و كان طلحة و الزبير ممن بايعاه ثم نكثا بيعته على غير حدث ألا و إن هذا الدين لا يحتمل الفتن ألا و إن العرب لا تحتمل الفتن و قد كانت بالبصرة أمس روعة ملحمة إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس [ 77 ] و قد بايعت الأمة عليا و لو ملكنا و الله الأمور لم نختر لها غيره و من خالف هذا استعتب فادخل يا معاوية فيما دخل فيه الناس . فإن قلت استعملني عثمان ثم لم يعزلني فإن هذا قول لو جاز لم يقم لله دين و كان لكل امرئ ما في يديه و لكن الله جعل للآخر من الولاة حق الأول و جعل الأمور موطأة ينسخ بعضها بعضا ثم قعد . قال نصر فقال معاوية أنظر و تنظر و أستطلع رأي أهل الشام . فمضت أيام و أمر معاوية مناديا ينادي الصلاة جامعة فلما اجتمع الناس صعد المنبر ثم قال الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركانا و الشرائع للإيمان برهانا يتوقد قبسه في الأرض المقدسة جعلها الله محل الأنبياء و الصالحين من عباده فأحلهم أرض الشام و رضيهم لها و رضيها لهم لما سبق في مكنون علمه من طاعتهم و مناصحتهم خلفاءه و القوام بأمره و الذابين عن دينه و حرماته ثم جعلهم لهذه الأمة نظاما و في سبيل الخيرات أعلاما يردع الله بهم الناكثين و يجمع بهم ألفة المؤمنين و الله نستعين على ما تشعب من أمر المسلمين بعد الالتئام و تباعد بعد القرب اللهم انصرنا على أقوام يوقظون نائمنا و يخيفون آمننا و يريدون إراقة دمائنا و إخافة سبلنا و قد علم الله أنا لا نريد لهم عقابا و لا نهتك لهم حجابا و لا نوطئهم زلقا غير أن الله الحميد كسانا [ 78 ] من الكرامة ثوبا لن ننزعه طوعا ما جاوب الصدى و سقط الندى و عرف الهدى حملهم على ذلك البغي و الحسد فنستعين الله عليهم أيها الناس قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب و خليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان عليكم و أني لم أقم رجلا منكم على خزاية قط و أني ولي عثمان و قد قتل مظلوما و الله تعالى يقول وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً و أنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان . فقام أهل الشام بأجمعهم فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان و بايعوه على ذلك و أوثقوا له على أن يبذلوا بين يديه أموالهم و أنفسهم حتى يدركوا بثأره أو تلتحق أرواحهم بالله . قال نصر فلما أمسى معاوية اغتم بما هو فيه و جنة الليل و عنده أهل بيته فقال تطاول ليلي و اعترتني وساوسي لآت أتى بالترهات البسابس أتاني جرير و الحوادث جمة بتلك التي فيها اجتداع المعاطس أكايده و السيف بيني و بينه و لست لأثواب الدني‏ء بلابس إن الشام أعطت طاعة يمنية تواصفها أشياخها في المجالس فإن يفعلوا أصدم عليا بجبهة تفت عليه كل رطب و يابس و إني لأرجو خير ما نال نائل و ما أنا من ملك العراق بآيس قلت الجبهة هاهنا الخيل و منه قول النبي ص ليس في الجبهة صدقة أي زكاة . [ 79 ] قال نصر فاستحثه جرير بالبيعة فقال يا جرير إنها ليست بخلسة و إنه أمر له ما بعده فأبلعني ريقي حتى أنظر و دعا ثقاته فأشار عليه أخوه بعمرو بن العاص و قال له إنه من قد عرفت و قد اعتزل عثمان في حياته و هو لأمرك أشد اعتزالا إلا أن يثمن له دينه . و قد ذكرنا فيما تقدم خبر استدعائه عمرا و ما شرط له من ولاية مصر و استقدامه شرحبيل بن السمط رئيس اليمنية و شيخها و المقدم عليها و تدسيس الرجال إليه يغرونه بعلي ع و يشهدون عنده أنه قتل عثمان حتى ملئوا صدره و قلبه حقدا و ترة و إحنة على علي ع و أصحابه بما لا حاجة إلى إعادته . قال نصر فحدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال جاء شرحبيل إلى حصين بن نمير فقال ابعث إلى جرير فليأتنا فبعث حصين بن نمير إلى جرير أن زرنا فعندنا شرحبيل فاجتمعا عند حصين فتكلم شرحبيل [ 80 ] فقال يا جرير أتيتنا بأمر ملفف لتلقينا في لهوات الأسد و أردت أن تخلط الشام بالعراق و أطريت عليا و هو قاتل عثمان و الله سائلك عما قلت يوم القيامة . فأقبل عليه جرير و قال يا شرحبيل أما قولك إني جئت بأمر ملفف فكيف يكون ملففا و قد اجتمع عليه المهاجرون و الأنصار و قوتل على رده طلحة و الزبير . و أما قولك إني ألقيك في لهوات الأسد ففي لهواتها ألقيت نفسك . و أما خلط أهل الشام بأهل العراق فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل . و أما قولك إن عليا قتل عثمان فو الله ما في يديك من ذلك إلا القذف بالغيب من مكان بعيد و لكنك ملت إلى الدنيا و شي‏ء كان في نفسك على زمن سعد بن أبي وقاص . فبلغ ما قالاه إلى معاوية فبعث إلى جرير فزجره قال نصر و كتب إلى شرحبيل كتاب لا يعرف كاتبه فيه . شرحبيل يا ابن السمط لا تتبع الهوى فما لك في الدنيا من الدين من بدل و لا تك كالمجرى إلى شر غاية فقد خرق السربال و استنوق الجمل و قل لابن حرب ما لك اليوم خلة تروم بها ما رمت و اقطع له الأمل شرحبيل إن الحق قد جد جده فكن فيه مأمون الأديم من النغل و أرود و لا تفرط بشي‏ء نخافه عليك و لا تعجل فلا خير في العجل [ 81 ] مقال ابن هند في علي عضيهة و لله في صدر بن أبي طالب أجل و ما من علي في ابن عفان سقطة بقول و لا مالا عليه و لا قتل و ما كان إلا لازما قعر بيته إلى أن أتى عثمان في داره الأجل فمن قال قولا غير هذا فحسبه من الزور و البهتان بعض الذي احتمل وصى رسول الله من دون أهله و من باسمه في فضله يضرب المثل قال نصر فلما قرأ شرحبيل الكتاب ذعر و فكر و قال هذه نصيحة لي في ديني و لا و الله لا أعجل في هذا الأمر بشي‏ء و في نفسي منه حاجة و كاد يحول عن نصر معاوية و يتوقف فلفق له معاوية الرجال يدخلون إليه و يخرجون و يعظمون عنده قتل عثمان و يرمون به عليا و يقيمون الشهادة الباطلة و الكتب المختلقة حتى أعادوا رأيه و شحذوا عزمه . [ 82 ] قال نصر و حدثنا عمر بن سعد بإسناده قال بعث معاوية إلى شرحبيل بن السمط إنه قد كان من إجابتك إلى الحق و ما وقع فيه أجرك على الله و قبله عنك صلحاء الناس ما علمت و إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يتم إلا برضا العامة فسر في مدائن الشام و ناد فيهم بأن عليا قتل عثمان و أنه يجب علي المسلمين أن يطلبوا بدمه . فسار شرحبيل فبدأ بأهل حمص فقام فيهم خطيبا و كان مأمونا في أهل الشام ناسكا متألها فقال أيها الناس إن عليا قتل عثمان فغضب له قوم من أصحاب رسول الله ص فلقيهم فهزم الجمع و قتل صلحاءهم و غلب على الأرض فلم يبق إلا الشام و هو واضع سيفه على عاتقه ثم خائض غمرات الموت حتى يأتيكم أو يحدث الله أمرا و لا نجد أحدا أقوى على قتاله من معاوية فجدوا و انهضوا . فأجابه الناس كلهم إلا نساكا من أهل حمص فإنهم قالوا له بيوتنا قبورنا و مساجدنا و أنت أعلم بما ترى . قال و جعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفرغها لا يأتي على قوم إلا قبلوا [ 83 ] ما أتاهم به فبعث إليه النجاشي بن الحارث و كان له صديقا . شرحبيل ما للدين فارقت ديننا و لكن لبغض المالكي جرير و شحناء دبت بين سعد و بينه فأصبحت كالحادي بغير بعير و ما أنت إذ كانت بجيلة عاتبت قريشا فيا لله بعد نصير أ تفصل أمرا غبت عنه بشبهة و قد حار فيه عقل كل بصير بقول رجال لم يكونوا أئمة و لا للتي لقوكها بحضور و ما قول قوم غائبين تقاذفوا من الغيب ما دلاهم بغرور و تترك أن الناس أعطوا عهودهم عليا على أنس به و سرور إذا قيل هاتوا واحدا يقتدى به نظيرا له لم يفصحوا بنظير لعلك أن تشقى الغداة بحربه فليس الذي قد جئته بصغير قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن نمير بن وعلة عن الشعبي أن شرحبيل بن السمط بن الأسود بن جبلة الكندي دخل على معاوية فقال له أنت عامل أمير المؤمنين و ابن عمه و نحن المؤمنون فإن كنت رجلا تجاهد عليا و قتلة عثمان حتى ندرك ثارنا أو تذهب أرواحنا استعملناك علينا و إلا عزلناك و استعملنا غيرك ممن نريد ثم جاهدنا معه حتى ندرك بدم عثمان أو نهلك . فقال جرير بن عبد الله و كان حاضرا مهلا يا شرحبيل فإن الله قد حقن الدماء و لم الشعث و جمع أمر الأمة و دنا من هذه الأمة سكون فإياك أن تفسد بين الناس [ 84 ] و أمسك عن هذا القول قبل أن يشيع و يظهر عنك قول لا تستطيع رده فقال لا و الله لا أسرة أبدا ثم قام فتكلم به فقال الناس صدق صدق القول ما قال و الرأي ما رأى فأيس جرير عند ذلك من معاوية و من عوام أهل الشام . قال نصر و حدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال كان معاوية قد أتى جريرا قبل ذلك في منزله فقال له يا جرير إني قد رأيت رأيا قال هاته قال اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام و مصر جباية فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده في عنقي بيعة و أسلم له هذا الأمر و اكتب إليه بالخلافة فقال جرير اكتب ما أردت أكتب معك . فكتب معاوية بذلك إلى علي فكتب علي ع إلى جرير أما بعد فإنما أراد معاوية ألا يكون لي في عنقه بيعة و أن يختار من أمره ما أحب و أراد أن يريثك و يبطئك حتى يذوق أهل الشام و أن المغيرة بن شعبة قد كان أشار علي أن أستعمل معاوية على الشام و أنا حينئذ بالمدينة فأبيت ذلك عليه و لم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا فإن بايعك الرجل و إلا فأقبل و السلام . قال نصر و فشا كتاب معاوية في العرب فبعث إليه الوليد بن عقبة معاوي إن الشام شامك فاعتصم بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا و حام عليها بالصوارم و القنا و لا تك موهون الذراعين وانيا و إن عليا ناظر ما تجيبه فأهد له حربا تشيب النواصيا [ 85 ] و إلا فسلم إن في السلم راحة لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا و إن كتابا يا ابن حرب كتبته على طمع يزجى إليك الدواهيا سألت عليا فيه ما لن تناله و لو نلته لم يبق إلا لياليا و سوف ترى منه التي ليس بعدها بقاء فلا تكثر عليك الأمانيا أ مثل علي تعتريه بخدعة و قد كان ما جربت من قبل كافيا قال و كتب الوليد بن عقبة إلى معاوية أيضا يوقظه و يشير عليه بالحرب و ألا يكتب جواب جرير معاوي إن الملك قد جب غاربه و أنت بما في كفك اليوم صاحبه أتاك كتاب من علي بخطه هي الفصل فاختر سلمه أو تحاربه فلا ترج عند الواترين مودة و لا تأمن اليوم الذي أنت راهبه و حاربه إن حاربت حرب ابن حرة و إلا فسلم لا تدب عقاربه فإن عليا غير ساحب ذيله على خدعة ما سوغ الماء شاربه و لا قابل ما لا يريد و هذه يقوم بها يوما عليه نوادبه فلا تدعن الملك و الأمر مقبل و تطلب ما أعيت عليك مذاهبه فإن كنت تنوي أن تجيب كتابه فقبح ممليه و قبح كاتبه و إن كنت تنوي أن ترد كتابه و أنت بأمر لا محالة راكبه فألق إلى الحي اليمانين كلمة تنال بها الأمر الذي أنت طالبه تقول أمير المؤمنين أصابه عدو و مالأهم عليه أقاربه أفانين منهم قائل و محرض بلا ترة كانت و آخر سالبه [ 86 ] و كنت أميرا قبل بالشام فيكم فحسبي و إياكم من الحق واجبه فجيئوا و من أرسى ثبيرا مكانه ندافع بحرا لا ترد غواربه فأقلل و أكثر ما لها اليوم صاحب سواك فصرح لست ممن تواربه قال نصر و خرج جرير يوما يتجسس الأخبار فإذا هو بغلام يتغنى على قعود له هو يقول حكيم و عمار الشجا و محمد و أشتر و المكشوح جروا الدواهيا و قد كان فيها للزبير عجاجة و صاحبه الأدنى أثاروا الدواهيا فأما علي فاستجار ببيته فلا آمر فيها و لم يك ناهيا فقل في جميع الناس ما شئت بعده فلو قلت أخطأ الناس لم تك خاطيا و إن قلت عم القوم فيه بفتنة فحسبك من ذاك الذي كان كافيا فقولا لأصحاب النبي محمد و خصا الرجال الأقربين الأدانيا أ يقتل عثمان بن عفان بينكم على غير شي‏ء ليس إلا تعاميا فلا نوم حتى نستبيح حريمكم و نخضب من أهل الشنان العواليا فقال جرير يا ابن أخي من أنت فقال غلام من قريش و أصلي من ثقيف أنا ابن المغيرة بن الأخنس بن شريق قتل أبي مع عثمان يوم الدار فعجب جرير [ 87 ] من شعره و قوله و كتب بذلك إلى علي ع فقال علي و الله ما أخطأ الغلام شيئا . قال نصر و في حديث صالح بن صدقة قال أبطأ جرير عند معاوية حتى اتهمه الناس و قال علي ع قد وقت لجرير وقتا لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا و أبطأ على علي حتى أيس منه . قال و في حديث محمد و صالح بن صدقة قالا فكتب علي ع إلى جرير بعد ذلك إذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل ثم خيره و خذه بالجواب بين حرب مخزية أو سلم محظية فإن اختار الحرب فانبذ إليه و إن اختار السلم فخذه ببيعته و السلام . قال فلما انتهى الكتاب إلى جرير أتى معاوية فأقرأه الكتاب و قال له يا معاوية إنه لا يطبع على قلب إلا بذنب و لا يشرح صدر إلا بتوبة و لا أظن قلبك إلا مطبوعا عليه أراك قد وقفت بين الحق و الباطل كأنك تنتظر شيئا في يد غيرك . فقال معاوية ألقاك بالفصل في أول مجلس إن شاء الله . فلما بايع معاوية أهل الشام بعد أن ذاقهم قال يا جرير الحق بصاحبك و كتب إليه بالحرب و كتب في أسفل الكتاب شعر كعب بن جعيل أرى الشام تكره أهل العراق و أهل العراق لهم كارهونا [ 88 ] و قد ذكرنا هذا الشعر فيما تقدم . و قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل إن عليا ع لما أراد أن يبعث جريرا إلى معاوية قال و الله يا أمير المؤمنين ما أدخرك من نصرتي شيئا و ما أطمع لك في معاوية فقال علي ع إنما قصدي حجة أقيمها عليه فلما أتى جرير معاوية دافعه بالبيعة فقال له جرير إن المنافق لا يصلي حتى لا يجد من الصلاة بدا فقال معاوية إنها ليست بخدعة الصبي عن اللبن فأبلغني ريقي إنه أمر له ما بعده . قال و كتب مع جرير إلى علي ع جوابا عن كتابه إليه من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب أما بعد فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك و أنت بري‏ء من دم عثمان كنت كأبي بكر و عمر و عثمان و لكنك أغريت بعثمان المهاجرين و خذلت عنه الأنصار فأطاعك الجاهل و قوي بك الضعيف و قد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين و لعمري ليس حججك علي كحججك على طلحة و الزبير لأنهما بايعاك و لم أبايعك و ما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة لأن أهل البصرة أطاعوك و لم يطعك أهل الشام فأما شرفك في الإسلام و قرابتك من النبي ص و موضعك من قريش فلست أدفعه . [ 89 ] ثم كتب في آخر الكتاب شعر كعب بن جعيل الذي أوله أرى الشام تكره أهل العراق و أهل العراق لهم كارهونا قال أبو العباس المبرد رحمه الله تعالى فكتب إليه علي ع جوابا عن كتابه هذا من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن صخر بن حرب أما بعد فإنه أتاني منك كتاب امرئ ليس له بصر يهديه و لا قائد يرشده دعاه الهوى فأجابه و قاده الضلال فاتبعه زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان و لعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين أوردت كما أوردوا و أصدرت كما أصدروا و ما كان الله ليجمعهم على الضلال و لا ليضربهم بالعمى و بعد فما أنت و عثمان إنما أنت رجل من بني أمية و بنو عثمان أولى بمطالبة دمه فإن زعمت أنك أقوى على ذلك فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثم حاكم القوم إلي و أما تمييزك بينك و بين طلحة و الزبير و بين أهل الشام و أهل البصرة فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا سواء لأنها بيعة شاملة لا يستثنى فيها الخيار و لا يستأنف فيها النظر و أما شرفي في الإسلام و قرابتي من رسول الله ص و موضعي من قريش فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته . قال ثم دعا النجاشي أحد بني الحارث بن كعب فقال له إن ابن جعيل شاعر أهل الشام و أنت شاعر أهل العراق فأجب الرجل فقال يا أمير المؤمنين أسمعني قوله قال إذن أسمعك شعر شاعر ثم أسمعه فقال النجاشي يجيبه [ 90 ] دعا يا معاوي ما لن يكونا فقد حقق الله ما تحذرونا أتاكم علي بأهل العراق و أهل الحجاز فما تصنعونا على كل جرداء خيفانة و أشعث نهد يسر العيونا عليها فوارس مخشية كأسد العرين حمين العرينا يرون الطعان خلال العجاج و ضرب الفوارس في النقع دينا هم هزموا الجمع جمع الزبير و طلحة و المعشر الناكثينا و آلوا يمينا على حلفة لنهدي إلى الشام حربا زبونا تشيب النواهد قبل المشيب و تلقى الحوامل منها الجنينا فإن تكرهوا الملك ملك العراق فقد رضي القوم ما تكرهونا فقل للمضلل من وائل و من جعل الغث يوما سمينا جعلتم عليا و أشياعه نظير ابن هند أ ما تستحونا إلى أفضل الناس بعد الرسول و صنو الرسول من العالمينا و صهر الرسول و من مثله إذا كان يوم يشيب القرونا قلت أبيات كعب بن جعيل خير من هذه الأبيات و أخبث مقصدا و أدهى و أحسن . و زاد نصر بن مزاحم في هذه الرسالة بعد قوله و لا ليضربهم بالعمى و ما ألبت فتلزمني خطيئة الأمر و لا قتلت فيجب على القصاص و أما قولك إن [ 91 ] أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز فهات رجلا من أهل الشام يقبل في الشورى أو تحل له الخلافة فإن زعمت ذلك كذبك المهاجرون و الأنصار و إلا أتيتك به من قريش الحجاز و أما ولوعك بي في أمر عثمان فما قلت ذلك عن حق العيان و لا يقين الخبر . و هذه الزيادة التي ذكرها نصر بن مزاحم تقتضي أنه كان في كتاب معاوية إليه ع أن أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز و ما وجدنا هذا الكلام في كتابه أخبار متفرقة و روى نصر بن مزاحم قال لما قتل عثمان ضربت الركبان إلى الشام بقتله فبينا معاوية يوما إذا أقبل رجل متلفف فكشف عن وجهه و قال لمعاوية يا أمير المؤمنين أ تعرفني قال نعم أنت الحجاج بن خزيمة بن الصمة فأين تريد قال إليك القربان نعي ابن عفان ثم قال إن بني عمك عبد المطلب هم قتلوا شيخكم غير كذب و أنت أولى الناس بالوثب فثب و اغضب معاوي للإله و احتسب و سر بنا سير الجرير المتلئب و انهض بأهل الشام ترشد و تصب ثم اهزز الصعدة للشأس الشغب قال يعني عليا ع قلت المتلئب المستقيم المطرد يقال هذا قياس متلئب أي مستمر مطرد [ 92 ] و يقال مكان شأس أي غليظ صلب و الشغب الهائج للشر و من رواه للشاسي بالياء فأصله الشاصي بالصاد و هو المرتفع يقال شصا السحاب إذا ارتفع فأبدل الصاد سينا و مراده هنا نسبة علي ع إلى التيه و الترفع عن الناس . قال نصر فقال له معاوية أ فيك مهز فقال نعم فقال أخبر الناس فقال الحجاج يا أمير المؤمنين و لم يخاطب معاوية بأمير المؤمنين قبلها إني كنت فيمن خرج مع يزيد بن أسد القسري مغيثا لعثمان فقدمت أنا و زفر بن الحارث فلقينا رجلا زعم أنه ممن قتل عثمان فقتلناه و إني أخبرك يا أمير المؤمنين إنك لتقوى على علي بدون ما يقوى به عليك لأن معك قوما لا يقولون إذا قلت و لا يسألون إذا أمرت و إن مع علي قوما يقولون إذا قال و يسألون إذا أمر فقليل ممن معك خير من كثير ممن معه و اعلم أنه لا يرضى علي إلا بالرضا و إن رضاه سخطك و لست و علي سواء علي لا يرضى بالعراق دون الشام و أنت ترضى بالشام دون العراق . قال نصر فضاق معاوية صدرا بما أتاه و ندم على خذلان عثمان و قال أتاني أمر فيه للنفس غمة و فيه بكاء للعيون طويل و فيه فناء شامل و خزاية و فيه اجتداع للأنوف أصيل مصاب أمير المؤمنين و هدة تكاد لها صم الجبال تزول فلله عينا من رأى مثل هالك أصيب بلا ذنب و ذاك جليل تداعت عليه بالمدينة عصبة فريقان منهم قاتل و خذول دعاهم فصموا عنه عند دعائه و ذاك على ما في النفوس دليل ندمت على ما كان من تبعي الهوى و قصري فيه حسرة و عويل [ 93 ] سأبغي أبا عمرو بكل مثقف و بيض لها في الدار عين صليل تركتك للقوم الذين هم هم شجاك فما ذا بعد ذاك أقول فلست مقيما ما حييت ببلدة أجر بها ذيلي و أنت قتيل فلا نوم حتى تشجر الخيل بالقنا و يشفي من القوم الغواة غليل و نطحنهم طحن الرحى بثفالها و ذاك بما أسدوا إليك قليل فأما التي فيها مودة بيننا فليس إليها ما حييت سبيل سألقحها حربا عوانا ملحة و إني بها من عامنا لكفيل قال نصر و افتخر الحجاج على أهل الشام بما كان من تسليمه على معاوية بأمره المؤمنين . قال نصر و حدثنا صالح بن صدقة عن ابن إسحاق عن خالد الخزاعي و غيره ممن لا يتهم أن عثمان لما قتل و أتي معاوية بكتاب علي ع بعزله عن الشام صعد المنبر و نادى في الناس أن يحضروا فحضروا فخطبهم فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ثم قال يا أهل الشام قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب و خليفة عثمان و قد قتل و أنا ابن عمه و وليه و الله تعالى يقول وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً و أنا أحب أن تعلموني ما في نفوسكم من قتل خليفتكم . [ 94 ] فقام مرة بن كعب و في المسجد يومئذ أربعمائة رجل من أصحاب النبي ص أو نحوها فقال و الله لقد قمت مقامي هذا و إني لأعلم أن فيكم من هو أقدم صحبة لرسول الله ص مني و لكني شهدت رسول الله ص نصف النهار في يوم شديد الحر و هو يقول لتكونن فتنة حاضرة فمر رجل مقنع فقال رسول الله و هذا المقنع يومئذ على الهدى فقمت فأخذت بمنكبه و حسرت عن رأسه فإذا عثمان فأقبلت بوجهه على رسول الله ص و قلت هذا يا رسول الله فقال نعم فأصفق أهل الشام مع معاوية حينئذ و بايعوه على الطلب بدم عثمان أميرا لا يطمع في الخلافة ثم الأمر شورى . و روى إبراهيم بن الحسن بن ديزيل في كتاب صفين عن أبي بكر بن عبد الله الهذلي أن الوليد بن عقبة كتب إلى معاوية يستبطئه في الطلب بدم عثمان و يحرضه و ينهاه عن قطع الوقت بالمكاتبة ألا أبلغ معاوية بن حرب فإنك من أخي ثقة مليم قطعت الدهر كالسدم المعنى تهدر في دمشق و لا تريم [ 95 ] فإنك و الكتاب إلى علي كدابغة و قد حلم الأديم لك الويلات أقحمها عليهم فخير الطالبي الترة الغشوم قال فكتب معاوية إليه الجواب بيتا من شعر أوس بن حجر و مستعجب مما يرى من أناتنا و لو زبنته الحرب لم يترمرم و روى ابن ديزيل قال لما عزم علي ع على المسير إلى الشام دعا رجلا فأمره أن يتجهز و يسير إلى دمشق فإذا دخل أناخ راحلته بباب المسجد و لا يلقي من ثياب سفره شيئا فإن الناس إذا رأوه عليه آثار الغربة سألوه فليقل لهم تركت عليا قد نهد إليكم بأهل العراق فانظر ما يكون من أمرهم ففعل الرجل ذلك فاجتمع الناس و سألوه فقال لهم فكثروا عليه يسألونه فأرسل [ 96 ] إليه معاوية بالأعور السلمي يسأله فأتاه فسأله فقال له فأتى معاوية فأخبره فنادى الصلاة جامعة ثم قام فخطب الناس و قال لهم إن عليا قد نهد إليكم في أهل العراق فما ترون فضرب الناس بأذقانهم على صدورهم لا يتكلمون فقام ذو الكلاع الحميري فقال عليك ام‏رأي و علينا ام‏فعال و هي لغة حمير . فنزل و نادى في الناس بالخروج إلى معسكرهم و عاد إلى علي ع فأخبره فنادى الصلاة جامعة ثم قام فخطب الناس فأخبرهم أنه قدم عليه رسول كان بعثه إلى الشام و أخبره أن معاوية قد نهد إلى العراق في أهل الشام فما الرأي . قال فاضطرب أهل المسجد هذا يقول الرأي كذا و هذا يقول الرأي كذا و كثر اللغط و اللجب فلم يفهم علي ع من كلامهم شيئا و لم يدر المصيب من المخطئ فنزل عن المنبر و هو يقول إنا لله و إنا إليه راجعون ذهب بها ابن آكلة الأكباد يعني معاوية . و روى ابن ديزيل عن عقبة بن مكرم عن يونس بن بكير عن الأعمش قال كان أبو مريم صديقا لعلي ع فسمع بما كان فيه علي ع من اختلاف أصحابه عليه فجاءه فلم يرع عليا ع إلا و هو قائم على رأسه بالعراق فقال له أبا مريم ما جاء بك نحوي قال ما جاء بي غيرك عهدي بك لو وليت أمر الأمة كفيتهم ثم سمعت بما أنت فيه من الاختلاف فقال يا أبا مريم إني منيت بشرار خلق الله أريدهم على الأمر الذي هو الرأي فلا يتبعونني . [ 97 ] و روى ابن ديزيل عن عبد الله بن عمر عن زيد بن الحباب عن علاء بن جرير العنبري عن الحكم بن عمير الثمالي و كانت أمه بنت أبي سفيان بن حرب قال قال رسول الله ص لأصحابه ذات يوم كيف بك يا أبا بكر إذا وليت قال لا يكون ذلك أبدا قال فكيف بك يا عمر إذا وليت فقال آكل حجرا لقد لقيت إذن شرا قال فكيف بك يا عثمان إذا وليت قال آكل و أطعم و أقسم و لا أظلم قال فكيف بك يا علي إذا وليت قال آكل الفوت و أحمي الجمرة و أقسم التمرة و أخفي الصور قال أي العورة فقال ص أما إنكم كلكم سيلي و سيرى الله أعمالكم ثم قال يا معاوية كيف بك إذا وليت قال الله و رسوله أعلم فقال أنت رأس الحطم و مفتاح الظلم حصبا و حقبا تتخذ الحسن قبيحا و السيئة حسنة يربو فيها الصغير و يهرم فيها الكبير أجلك يسير و ظلمك عظيم . و روى ابن ديزيل أيضا عن عمر بن عون عن هشيم عن أبي فلج عن عمرو بن ميمون قال قال عبد الله بن مسعود كيف أنتم إذا لقيتكم فتنة يهرم فيها الكبير و يربو فيها الصغير تجري بين الناس و يتخذونها سنة فإذا غيرت قيل هذا منكر . و روى ابن ديزيل قال حدثنا الحسن بن الربيع البجلي عن أبي إسحاق الفزاري عن حميد الطويل عن أنس بن مالك في قوله تعالى فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ اَلَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ قال أكرم الله تعالى نبيه ع أن يريه في أمته ما يكره رفعه إليه و بقيت النقمة . [ 98 ] قال ابن ديزيل و حدثنا عبد الله بن عمر قال حدثنا عمرو بن محمد قال أخبرنا أسباط عن السدي عن أبي المنهال عن أبي هريرة قال قال رسول الله ص سألت ربي لأمتي ثلاث خلال فأعطاني اثنتين و منعني واحدة سألته ألا تكفر أمتي صفقة واحدة فأعطانيها و سألته ألا يعذبهم بما عذب به الأمم قبلهم فأعطانيها و سألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها . قال ابن ديزيل و حدثنا يحيى بن عبد الله الكرابيسي قال حدثنا أبو كريب قال حدثنا أبو معاوية عن عمار بن زريق عن عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد قال جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال إن الله تعالى قد آمننا أن يظلمنا و لم يؤمنا أن يفتننا أ رأيت إذا أنزلت فتنة كيف أصنع فقال عليك كتاب الله تعالى قال أ فرأيت إن جاء قوم كلهم يدعو إلى كتاب الله تعالى فقال ابن مسعود سمعت رسول الله ص يقول إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق يعني عمارا . و روى ابن ديزيل قال حدثنا يحيى بن زكريا قال حدثنا علي بن القاسم عن سعيد بن طارق عن عثمان بن القاسم عن زيد بن أرقم قال قال رسول الله ص أ لا أدلكم على ما إن تساءلتم عليه لم تهلكوا إن وليكم الله و إن إمامكم علي بن أبي طالب فناصحوه و صدقوه فإن جبريل أخبرني بذلك . فإن قلت هذا نص صريح في الإمامة فما الذي تصنع المعتزلة بذلك . قلت يجوز أن يريد أنه إمامهم في الفتاوي و الأحكام الشرعية لا في الخلافة . و أيضا فإنا قد شرحنا من قول شيوخنا البغداديين ما محصله إن الإمامة كانت لعلي [ 99 ] ع إن رغب فيها و نازع عليها و إن أقرها في غيره و سكت عنها تولينا ذلك الغير و قلنا بصحة خلافته و أمير المؤمنين ع لم ينازع الأئمة الثلاثة و لا جرد السيف و لا استنجد بالناس عليهم فدل ذلك على إقراره لهم على ما كانوا فيه فلذلك توليناهم و قلنا فيهم بالطهارة و الخير و الصلاح و لو حاربهم و جرد السيف عليهم و استصرخ العرب على حربهم لقلنا فيهم ما قلناه فيمن عامله هذه المعاملة من التفسيق و التضليل . قال ابن ديزيل و حدثنا عمرو بن الربيع قال حدثنا السري بن شيبان عن عبد الكريم أن عمر بن الخطاب قال لما طعن يا أصحاب محمد تناصحوا فإنكم إن لم تفعلوا غلبكم عليها عمرو بن العاص و معاوية بن أبي سفيان . قلت إن محمد بن النعمان المعروف بالمفيد أحد الإمامية قال في بعض كتبه إنما أراد عمر بهذا القول إغراء معاوية و عمرو بن العاص بطلب الخلافة و إطماعهما فيها لأن معاوية كان عامله و أميره على الشام و عمرو بن العاص عامله و أميره على مصر و خاف أن يضعف عثمان عنها و أن تصير إلى علي ع فألقى هذه الكلمة إلى الناس لتنقل إليهما و هما بمصر و الشام فيتغلبا على هذين الإقليمين إن أفضت إلى علي ع . و هذا عندي من باب الاستنباطات التي يوجبها الشنآن و الحنق و عمر كان أتقى لله من أن يخطر له هذا و لكنه من فراسته الصادقة التي كان يعلم بها كثيرا من الأمور المستقبلة كما قال عبد الله بن عباس في وصفه و الله ما كان أوس بن حجر عنى أحدا سواه بقوله الألمعي الذي يظن بك الظن كان قد رأى و قد سمعا [ 100 ] و روى ابن ديزيل عن عفان بن مسلم عن وهب بن خالد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن مرة بن كعب قال ذكر رسول الله ص فتنة فقربها فمر رجل قد تقنع بثوبه فقال ع هذا و أصحابه يومئذ على الحق فقمت إليه فأخذت بمنكبه فقلت هو هذا فقال نعم فإذا هو عثمان بن عفان . قلت هذا الحديث قد رواه كثير من محققي أصحاب الحديث و رواه محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه الكبير بعدة روايات و ليس لقائل أن يقول فهذا الحديث إذا صححتموه كان حجة للسفيانية لأنا نقول الخبر يتضمن أن عثمان و أصحابه على الحق و هذا مذهبنا لأنا نذهب إلى أن عثمان قتل مظلوما و أنه و ناصريه يوم الدار على الحق و أن القوم الذين قتلوه لم يكونوا على الحق فأما معاوية و أهل الشام الذين حاربوا عليا ع بصفين فليسوا بداخلين في الخبر و لا في ألفاظ الخبر لفظ عموم يتعلق به أ لا ترى أنه ليس فيه كل من أظهر الانتصار لعثمان في حياته و بعد وفاته فهو على الحق و إنما خلاصته أنه ستقوم فتنة يكون عثمان فيها و أصحابه على الحق و نحن لا نأبى ذلك بل هو مذهبنا . و روى نصر بن مزاحم في كتاب صفين قال لما قدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب على معاوية بالشام أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص إن الله قد أحيا لك عمر بن الخطاب بالشام بقدوم عبيد الله بن عمر و قد رأيت أن أقيمه خطيبا يشهد على علي بقتل عثمان و ينال منه فقال الرأي ما رأيت فبعث إليه فأتاه فقال له معاوية يا ابن أخي إن لك [ 101 ] اسم أبيك فانظر بمل‏ء عينيك و أنطق بمل‏ء فيك فأنت المأمون المصدق فاصعد المنبر و اشتم عليا و اشهد عليه أنه قتل عثمان . فقال أيها الأمير أما شتمه فإن أباه أبو طالب و أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم فما عسى أن أقول في حسبه و أما بأسه فهو الشجاع المطرق و أما أيامه فما قد عرفت و لكني ملزمه دم عثمان فقال عمرو بن العاص قد و أبيك إذن نكأت القرحة . فلما خرج عبيد الله بن عمر قال معاوية أما و الله لو لا قتله الهرمزان و مخافته عليا على نفسه ما أتانا أبدا أ لا ترى إلى تقريظه عليا فقال عمرو يا معاوية إن لم تغلب فاخلب قال و خرج حديثهما إلى عبيد الله فلما قام خطيبا تكلم بحاجته فلما انتهى إلى أمر علي أمسك و لم يقل شيئا فلما نزل بعث إليه معاوية يا ابن أخي إنك بين عي و خيانة فبعث إليه إني كرهت أن أقطع الشهادة على رجل لم يقتل عثمان و عرفت أن الناس محتملوها عني فتركتها . قال فهجره معاوية و استخف به و فسقه فقال عبيد الله معاوي لم أحرض بخطبة خاطب و لم أك عيا في لؤي بن غالب و لكنني زاولت نفسا أبية على قذف شيخ بالعراقين غائب و قذفي عليا بابن عفان جهرة كذاب و ما طبي سجايا المكاذب و لكنه قد قرب القوم جهده و دبوا حواليه دبيب العقارب فما قال أحسنتم و لا قد أسأتم و أطرق إطراق الشجاع المواثب [ 102 ] فأما ابن عفان فأشهد أنه أصيب بريئا لابسا ثوب تائب و قد كان فيها للزبير عجاجة و طلحة فيها جاهد غير لاعب و قد أظهرا من بعد ذلك توبة فيا ليت شعري ما هما في العواقب قال فلما بلغ معاوية شعره بعث إليه فأرضاه و قال حسبي هذا منك . و روى نصر عن عبيد الله بن موسى قال سمعت سفيان بن سعيد المعروف بسفيان الثوري يقول ما أشك أن طلحة و الزبير بايعا عليا و ما نقما عليه جورا في حكم و لا استئثارا بفي‏ء و ما قاتل عليا أحد إلا و علي أولى بالحق منه . و روى نصر بن مزاحم أن عليا ع قدم من البصرة في غرة شهر رجب من سنة ست و ثلاثين إلى الكوفة و أقام بها سبعة عشر شهرا تجري الكتب بينه و بين معاوية و عمرو بن العاص حتى سار إلى الشام . قال نصر و قد روي من طريق أبي الكنود و غيره أنه قدم الكوفة بعد وقعة الجمل لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رجب سنة ست و ثلاثين . قال نصر فدخل الكوفة و معه أشراف الناس من أهل البصرة و غيرهم فاستقبله أهل الكوفة و فيهم قراؤهم و أشرافهم فدعوا له بالبركة و قالوا يا أمير المؤمنين أين تنزل أ تنزل القصر قال لا و لكني أنزل الرحبة فنزلها و أقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى فيه ركعتين ثم صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ثم قال [ 103 ] أما بعد يا أهل الكوفة فإن لكم في الإسلام فضلا ما لم تبدلوا و تغيروا دعوتكم إلى الحق فأجبتم و بدأتم بالمنكر فغيرتم ألا إن فضلكم فيما بينكم و بين الله فأما في الأحكام و القسم فأنتم أسوة غيركم ممن أجابكم و دخل فيما دخلتم فيه ألا إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى و طول الأمل أما اتباع الهوى فيصد عن الحق و أما طول الأمل فينسي الآخرة ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة و إن الآخرة قد ترحلت مقبلة و لكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة اليوم عمل و لا حساب و غدا حساب و لا عمل الحمد لله الذي نصر وليه و خذل عدوه و أعز الصادق المحق و أذل الناكث المبطل عليكم بتقوى الله و طاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم الذين هم أولى بطاعتكم فيما أطاعوا الله فيه من المستحلين المدعين المقابلين إلينا يتفضلون بفضلنا و يجاحدوننا أمرنا و ينازعوننا حقنا و يباعدوننا عنه فقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غيا ألا إنه قد قعد عن نصرتي رجال منكم و أنا عليهم عاتب زار فاهجروهم و أسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا ليعرف بذلك حزب الله عند الفرقة فقام إليه مالك بن حبيب اليربوعي و كان صاحب شرطته فقال و الله إني لأرى الهجر و سماع المكروه لهم قليلا و الله لو أمرتنا لنقتلنهم فقال علي ع سبحان الله يا مال جزت المدى و عدوت الحد فأغرقت في النزع فقال يا أمير المؤمنين لبعض الغشم أبلغ في أمر ينوبك من مهادنة الأعادي فقال علي ع ليس هكذا قضى الله يا مال قال سبحانه اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ فما بال ذكر الغشم [ 104 ] و قال تعالى وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ و الإسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك فقد نهى الله عنه و ذاك هو الغشم فقام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي و كان ممن تخلف عنه فقال يا أمير المؤمنين أ رأيت القتلى حول عائشة و طلحة و الزبير علام قتلوا أو قال بم قتلوا فقال علي ع قتلوا بما قتلوا شيعتي و عمالي و قتلوا أخا ربيعة العبدي في عصابة من المسلمين قالوا إنا لا ننكث كما نكثتم و لا نغدر كما غدرتم فوثبوا عليهم فقتلوهم فسألتهم أن يدفعوا إلي قتلة إخواني أقتلهم بهم ثم كتاب الله حكم بيني و بينهم فأبوا علي و قاتلوني و في أعناقهم بيعتي و دماء قريب من ألف رجل من شيعتي فقتلتهم أ في شك أنت من ذلك فقال قد كنت في شك فأما الآن فقد عرفت و استبان لي خطأ القوم و أنك المهتدي المصيب . قال نصر و كان أشياخ الحي يذكرون أنه كان عثمانيا و قد شهد على ذلك صفين مع علي ع و لكنه بعد ما رجع كان يكاتب معاوية فلما ظهر معاوية أقطعه قطيعة بالفلوجة و كان عليه كريما . قال ثم إن عليا ع تهيأ لينزل و قام رجال ليتكلموا فلما رأوه نزل جلسوا و سكتوا . قال و نزل علي ع بالكوفة على جعدة بن هبيرة المخزومي . قلت جعدة ابن أخته أم هانئ بنت أبي طالب كانت تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي فأولدها جعدة و كان شريفا . [ 105 ] قال نصر و لما قدم علي ع إلى الكوفة نزل على باب المسجد فدخل فصلى ثم تحول فجلس إليه الناس فسأل عن رجل من الصحابة كان نزل الكوفة فقال قائل استأثر الله به فقال علي ع إن الله تبارك و تعالى لا يستأثر بأحد من خلقه إنما أراد الله جل ذكره بالموت إعزاز نفسه و إذلال خلقه و قرأ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ قال نصر فلما لحقه ع ثقله قالوا أ ننزل القصر فقال قصر الخبال لا تنزلوا فيه . قال نصر و دخل سليمان بن صرد الخزاعي على علي ع مرجعه من البصرة فعاتبه و عذله و قال له ارتبت و تربصت و راوغت و قد كنت من أوثق الناس في نفسي و أسرعهم فيما أظن إلى نصرتي فما قعد بك عن أهل بيت نبيك و ما زهدك في نصرتهم فقال يا أمير المؤمنين لا تردن الأمور على أعقابها و لا تؤنبني بما مضى منها و استبق مودتي تخلص لك نصيحتي فقد بقيت أمور تعرف فيها عدوك من وليك فسكت عنه و جلس سليمان قليلا ثم نهض فخرج إلى الحسن بن علي ع و هو قاعد في باب المسجد فقال أ لا أعجبك من أمير المؤمنين و ما لقيت منه من التوبيخ و التبكيت فقال الحسن إنما يعاتب من ترجى مودته و نصيحته فقال لقد وثبت أمور ستشرع فيها القنا و تنتضى فيها السيوف و يحتاج فيها إلى أشباهي فلا [ 106 ] تستغشوا عتبي و لا تتهموا نصحي فقال الحسن رحمك الله ما أنت عندنا بظنين قال نصر و دخل عليه سعيد بن قيس الأزدي فسلم عليه فقال و عليك السلام و إن كنت من المتربصين قال حاش لله يا أمير المؤمنين فإني لست من أولئك فقال لعل الله فعل ذلك . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن مخنف قال دخلت مع أبي على علي ع مقدمه من البصرة و هو عام بلغت الحلم فإذا بين يديه رجال يؤنبهم و يقول لهم ما أبطأ بكم عني و أنتم أشراف قومكم و الله إن كان من ضعف النية و تقصير البصيرة إنكم لبور و إن كان من شك في فضلي و مظاهرة علي إنكم لعدو . فقالوا حاش لله يا أمير المؤمنين نحن سلمك و حرب عدوك ثم اعتذر القوم فمنهم من ذكر عذرا و منهم من اعتل بمرض و منهم من ذكر غيبة فنظرت إليهم فعرفتهم فإذا عبد الله المعتم العبسي و حنظلة بن الربيع التميمي و كلاهما كانت له صحبة و إذا أبو بردة بن عوف الأزدي و إذا غريب بن شرحبيل الهمداني . قال و نظر علي ع إلى أبي فقال و لكن مخنف بن مسلم و قومه لم يتخلفوا و لم يكن مثلهم كمثل القوم الذين قال الله تعالى فيهم وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ [ 107 ] أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اَللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً . قال نصر ثم إن عليا ع مكث بالكوفة فقال الشني في ذلك [ شن بن عبد القيس ] قل لهذا الإمام قد خبت الحرب و تمت بذلك النعماء و فرغنا من حرب من نقض العهد و بالشام حية صماء تنفث السم ما لمن نهشته فارمها قبل أن تعض شفاء إنه و الذي يحج له الناس و من دون بيته البيداء لضعيف النخاع إن رمي اليوم بخيل كأنها أشلاء تتبارى بكل أصيد كالفحل بكفيه صعدة سمراء إن تذره فما معاوية الدهر بمعطيك ما أراك تشاء و لنيل السماء أقرب من ذاك و نجم العيوق و العواء فأعد بالحد و الحديد إليهم ليس و الله غير ذاك دواء [ 108 ] قال نصر و أتم علي ع صلاته يوم دخل الكوفة فلما كانت الجمعة خطب الناس فقال الحمد لله الذي أحمده و أستعينه و أستهديه و أعوذ بالله من الضلالة من يهد الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله انتجبه لأمره و اختصه بنبوته أكرم خلقه عليه و أحبهم إليه فبلغ رسالة ربه و نصح لأمته و أدى الذي عليه أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله و أقربه إلى رضوان الله و خيره في عواقب الأمور عند الله و بتقوى الله أمرتم و للإحسان و الطاعة خلقتم فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه فإنه حذر بأسا شديدا و اخشوا خشية ليست بتعذير و اعملوا في غير رياء و لا سمعة فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل له و من عمل لله مخلصا تولى الله أجره أشفقوا من عذاب الله فإنه لم يخلقكم عبثا و لم يترك شيئا من أمركم سدى قد سمى آثاركم و علم أعمالكم و كتب آجالكم فلا تغتروا بالدنيا فإنها غرارة لأهلها مغرور من اغتر بها و إلى فناء ما هي و إن الآخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون أسأل الله منازل الشهداء و مرافقة الأنبياء و معيشة السعداء فإنما نحن به و له . قال نصر ثم استعمل علي ع العمال و فرقهم في البلاد و كتب إلى معاوية مع جرير بن عبد الله البجلي ما تقدم ذكره [ 109 ] قال نصر و قال معاوية لعمرو بن العاص أيام كان جرير عنده ينتظر جوابه إنني قد رأيت أن نلقي إلى أهل مكة و أهل المدينة كتابا نذكر فيه أمر عثمان فإما أن ندرك به حاجتنا أو نكف القوم عنا فقال له عمرو إنما تكتب إلى ثلاثة نفر رجل راض بعلي فلا يزيده كتابك إلا بصيرة فيه أو رجل يهوي عثمان فلن يزيده كتابك على ما هو عليه أو رجل معتزل فلست في نفسه بأوثق من علي . قال علي ذاك فكتبا أما بعد فإنه مهما غاب عنا من الأمور فلم يغب عنا أن عليا قتل عثمان و الدليل على ذلك مكان قتلته منه و إنما نطلب قتلته حتى يدفعوا إلينا فنقتلهم بكتاب الله عز و جل فإن دفعهم علي إلينا كففنا عنه و جعلناها شورى بين المسلمين على ما جعلها عليه عمر بن الخطاب فأما الخلافة فلسنا نطلبها فأعينونا على أمرنا هذا و انهضوا من ناحيتكم فإن أيدينا و أيديكم إذا اجتمعت على أمر واحد هاب علي ما هو فيه و السلام . فكتب إليهما عبد الله بن عمر أما بعد فلعمري لقد أخطأتما موضع النصرة و تناولتماها من مكان بعيد و ما زاد الله من شك في هذا الأمر بكتابكما إلا شكا و ما أنتما و المشورة و ما أنتما و الخلافة أما أنت يا معاوية فطليق و أما أنت يا عمرو فظنين ألا فكفا أنفسكما فليس لكم فينا ولي و لا نصير و السلام . قال نصر و كتب رجل من الأنصار إليهما مع كتاب عبد الله بن عمر [ 110 ] معاوي إن الحق أبلج واضح و ليس بما ربصت أنت و لا عمرو نصبت ابن عفان لنا اليوم خدعة كما نصب الشيخان إذ قضي الأمر يعني طلحة و الزبير رحمهما الله فهذا كهذاك البلا حذو نعله سواء كرقراق يغر به السفر رميتم عليا بالذي لا يضيره و إن عظمت فيه المكيدة و المكر و ما ذنبه إن نال عثمان معشر أتوه من الأحياء تجمعهم مصر فثار إليه المسلمون ببيعة علانية ما كان فيها لهم قسر و بايعه الشيخان ثم تحملا إلى العمرة العظمى و باطنها الغدر فكان الذي قد كان مما اقتصاصه يطول فيا لله ما أحدث الدهر و ما أنتما و النصر منا و أنتما بعيثا حروب ما يبوخ لها جمر و ما أنتما لله در أبيكما و ذكركما الشورى و قد وضح الفجر قال نصر و قام عدي بن حاتم الطائي إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين إن عندي رجلا لا يوازى به رجل و هو يريد أن يزور ابن عمه حابس بن سعد الطائي بالشام فلو أمرناه أن يلقى معاوية لعله أن يكسره و يكسر أهل الشام فقال علي [ 111 ] ع نعم فأمره عدي بذلك و كان اسم الرجل خفاف بن عبد الله . فقدم على ابن عمه حابس بن سعد بالشام و حابس سيد طي‏ء بها فحدث خفاف حابسا أنه شهد عثمان بالمدينة و سار مع علي إلى الكوفة و كان لخفاف لسان و هيئة و شعر فغدا حابس بخفاف إلى معاوية فقال إن هذا ابن عم لي قدم الكوفة مع علي و شهد عثمان بالمدينة و هو ثقة فقال له معاوية هات حدثنا عن عثمان فقال نعم حصره المكشوح و حكم فيه حكيم و وليه عمار و تجرد في أمره ثلاثة نفر عدي بن حاتم و الأشتر النخعي و عمرو بن الحمق و جد في أمره رجلان و طلحة و الزبير و أبرأ الناس منه علي قال ثم مه قال ثم تهافت الناس على علي بالبيعة تهافت الفراش حتى ضاعت النعل و سقط الرداء و وطئ الشيخ و لم يذكر عثمان و لم يذكر له ثم تهيأ للمسير و خف معه المهاجرون و الأنصار و كره القتال معه ثلاثة نفر سعد بن مالك و عبد الله بن عمر و محمد بن مسلمة فلم يستكره أحدا و استغنى بمن خف معه عمن ثقل ثم سار حتى أتى جبل طي‏ء فأتته منا جماعة كان ضاربا بهم الناس حتى إذا كان ببعض الطريق أتاه مسير طلحة و الزبير و عائشة إلى البصرة فسرح رجالا إلى الكوفة يدعونهم فأجابوا دعوته فسار إلى البصرة فإذا هي في كفه ثم قدم الكوفة فحمل إليه الصبي و دبت إليه العجوز و خرجت إليه العروس فرحا به و شوقا إليه و تركته و ليس له همة إلا الشام . فذعر معاوية من قوله و قال حابس أيها الأمير لقد أسمعني شعرا غير به حالي في عثمان و عظم به عليا عندي . [ 112 ] فقال معاوية أسمعنيه يا خفاف فأنشده شعرا أوله قلت و الليل ساقط الأكناف و لجنبي عن الفراش تجاف يذكر فيه حال عثمان و قتله و فيه إطالة عدلنا عن ذكره . . . و من جملته قد مضى ما مضى و مر به الدهر كما مر ذاهب الأسلاف إنني و الذي يحج له الناس على لحق البطون عجاف تتبارى مثل القسي من النبع بشعث مثل السهام نحاف أرهب اليوم إن أتاكم علي صيحة مثل صيحة الأحقاف إنه الليث غاديا و شجاع مطرق نافث بسم زعاف واضع السيف فوق عاتقه الأيمن يفري به شئون القحاف سوم الخيل ثم قال لقوم بايعوه إلى الطعان خفاف استعدوا لحرب طاغية الشام فلبوه كاليدين اللطاف ثم قالوا أنت الجناح لك الريش القدامى و نحن منه الخوافي فانظر اليوم قبل بادرة القوم بسلم تهم أم بخلاف قال فانكسر معاوية و قال يا حابس إني لأظن هذا عينا لعلي أخرجه عنك لئلا يفسد علينا أهل الشام . [ 113 ] قال نصر و حدثنا عطية بن غني عن زياد بن رستم قال كتب معاوية إلى عبد الله بن عمر خاصة و إلى سعد بن أبي وقاص و إلى محمد بن مسلمة دون كتابه إلى أهل المدينة فكان كتابه إلى عبد الله بن عمر أما بعد فإنه لم يكن أحد من قريش أحب إلي أن يجتمع عليه الناس بعد قتل عثمان منك ثم ذكرت خذلك إياه و طعنك على أنصاره فتغيرت لك و قد هون ذلك علي خلافك على علي و محا عنك بعض ما كان منك فأعنا رحمك الله على حق هذا الخليفة المظلوم فإني لست أريد الإمارة عليك و لكني أريدها لك فإن أبيت كانت شورى بين المسلمين . فأجابه عبد الله بن عمر أما بعد فإن الرأي الذي أطمعك في هو الذي صيرك إلى ما صيرك إليه اترك عليا في المهاجرين و الأنصار و طلحة و الزبير و عائشة أم المؤمنين و أتبعك و أما زعمك أني طعنت على علي فلعمري ما أنا كعلي في الإيمان و الهجرة و مكانه من رسول الله ص و نكايته في المشركين و لكني عهد إلي في هذا الأمر عهد ففزعت فيه إلى الوقوف و قلت إن كان هذا هدى ففضل تركته و إن كان ضلالا فشر نجوت منه فأغن عنا نفسك و السلام . [ 114 ] قال و كان كتاب معاوية إلى سعد أما بعد فإن أحق الناس بنصر عثمان أهل الشورى من قريش الذين أثبتوا حقه و اختاروه على غيره و قد نصره طلحة و الزبير و هما شريكان في الأمر و نظيراك في الإسلام و خفت لذلك أم المؤمنين فلا تكرهن ما رضوا و لا تردن ما قبلوا فإنا نردها شورى بين المسلمين . فأجابه سعد أما بعد فإن عمر لم يدخل في الشورى إلا من تحل له الخلافة من قريش فلم يكن أحد منا أحق بها من صاحبه إلا بإجماعنا عليه إلا أن عليا كان فيه ما فينا و لم يكن فينا ما فيه و هذا أمر قد كرهت أوله و كرهت آخره فأما طلحة و الزبير فلو لزما بيوتهما لكان خيرا لهما و الله يغفر لأم المؤمنين ما أتت و السلام . قال و كان كتاب معاوية إلى محمد بن مسلمة أما بعد فإني لم أكتب إليك و أنا أرجو مبايعتك و لكني أردت أن أذكرك النعمة التي خرجت منها و الشك الذي صرت إليه إنك فارس الأنصار و عدة المهاجرين و قد ادعيت على رسول الله ص أمرا لم تستطع إلا أن تمضي عليه و هو أنه نهاك عن قتال أهل القبلة أ فلا نهيت أهل القبلة عن قتال بعضهم بعضا [ 115 ] فقد كان عليك أن تكره لهم ما كره رسول الله ص أ لم تر عثمان و أهل الدار من أهل القبلة فأما قومك فقد عصوا الله و خذلوا عثمان و الله سائلهم و سائلك عما كان يوم القيامة و السلام . قال فكتب إليه محمد بن مسلمة أما بعد فقد اعتزل هذا الأمر من ليس في يده من رسول الله ص مثل الذي في يده قد أخبرني رسول الله ص بالذي هو كائن قبل أن يكون فلما كان كسرت سيفي و جلست في بيتي و اتهمت الرأي على الدين إذ لم يصح لي معروف آمر به و لا منكر أنهي عنه و أما أنت فلعمري ما طلبت إلا الدنيا و لا اتبعت إلا الهوى و إن تنصر عثمان ميتا فقد خذلته حيا و السلام مفارقة جرير بن عبد الله البجلي لعلي قد أتينا على ما أردنا ذكره من حال أمير المؤمنين ع مذ قدم من حرب البصرة إلى الكوفة و ما جرى بينه و بين معاوية من المراسلات و ما جرى بين معاوية و بين غيره من الصحابة من الاستنجاد و الاستصراخ و ما أجابوه به و نحن نذكر الآن ما جرى لجرير بن عبد الله عند عوده إلى أمير المؤمنين من تهمة الشيعة له بممالأة معاوية عليهم و مفارقته جنبة أمير المؤمنين . قال نصر بن مزاحم حدثنا صالح بن صدقة بإسناده قال قال لما رجع جرير [ 116 ] إلى علي ع كثر قول الناس في التهمة لجرير في أمر معاوية فاجتمع جرير و الأشتر عند علي ع فقال الأشتر أما و الله يا أمير المؤمنين أن لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت خيرا لك من هذا الذي أرخى خناقه و أقام عنده حتى لم يدع بابا يرجو فتحه إلا فتحه و لا بابا يخاف أمره إلا سده . فقال جرير لو كنت و الله أتيتهم لقتلوك و خوفه بعمرو و ذي الكلاع و حوشب و قال إنهم يزعمون أنك من قتلة عثمان . فقال الأشتر و الله لو أتيتهم يا جرير لم يعيني جوابها و لم يثقل علي محملها و لحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر . قال فائتهم إذا قال الآن و قد أفسدتهم و وقع بينهم الشر . و روى نصر عن نمير بن وعلة عن الشعبي قال اجتمع جرير و الأشتر عند علي ع فقال الأشتر أ ليس قد نهيتك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريرا و أخبرتك بعداوته و غشه و أقبل الأشتر يشتمه و يقول يا أخا بجيلة إن عثمان اشترى منك دينك بهمدان و الله ما أنت بأهل أن تترك تمشي فوق الأرض إنما أتيتهم لتتخذ عندهم يدا بمسيرك إليهم ثم رجعت إلينا من عندهم تهددنا بهم و أنت و الله منهم و لا أرى سعيك إلا لهم لئن أطاعني فيك أمير المؤمنين ليحبسنك و أشباهك في حبس لا تخرجون منه حتى تستتم هذه الأمور و يهلك الله الظالمين . قال جرير وددت و الله أن لو كنت مكاني بعثت إذن و الله لم ترجع . [ 117 ] قال فلما سمع جرير مثل ذلك من قوله فارق عليا ع فلحق بقرقيسياء و لحق به ناس من قسر من قومه فلم يشهد صفين من قسر غير تسعة عشر رجلا و لكن شهدها من أحمس سبعمائة رجل . قال نصر و قال الأشتر فيما كان من تخويف من جرير إياه بعمرو و حوشب و ذي الكلاع لعمرك يا جرير لقول عمرو و صاحبه معاوي بالشام و ذي كلع و حوشب ذي ظليم أخف علي من ريش النعام إذا اجتمعوا علي فخل عنهم و عن باز مخالبه دوامي و لست بخائف ما خوفوني و كيف أخاف أحلام النيام و همهم الذي حاموا عليه من الدنيا و همي ما أمامي فإن أسلم أعمهم بحرب يشيب لهولها رأس الغلام و إن أهلك فقد قدمت أمرا أفوز بفلجه يوم الخصام و قد زادوا علي و أوعدوني و من ذا مات من خوف الكلام نسب جرير بن عبد الله البجلي و بعض أخباره و ذكر ابن قتيبة في المعارف أن جريرا قدم على رسول الله ص [ 118 ] سنة عشر من الهجرة في شهر رمضان فبايعه و أسلم و كان جرير صبيح الوجه جميلا قال رسول الله ص كأن على وجهه مسحة ملك و كان عمر يقول جرير يوسف هذه الأمة و كان طوالا يفتل في ذروة البعير من طوله و كانت نعله ذراعا و كان يخضب لحيته بالزعفران من الليل و يغسلها إذا أصبح فتخرج مثل لون التبر و اعتزل عليا ع و معاوية و أقام بالجزيرة و نواحيها حتى توفي بالشراة سنة أربع و خمسين في ولاية الضحاك بن قيس على الكوفة . فأما نسبه فقد ذكره ابن الكلبي في جمهرة الأنساب فقال هو جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك بن نضر بن ثعلب بن جشم بن عويف بن حرب بن علي بن مالك بن سعد بن بدير بن قسر و اسمه ملك بن عبقر بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن زيد بن كهلان . و يذكر أهل السير أن عليا ع هدم دار جرير و دور قوم ممن خرج معه حيث فارق عليا ع منهم أبو أراكة بن مالك بن عامر القسري كان ختنه على ابنته و موضع داره بالكوفة كان يعرف بدار أبي أراكة قديما و لعله اليوم نسي ذلك الاسم