جستجو

و من كتاب له ع إلى معاوية جوابا قال الشريف و هو من محاسن الكتب

متن ترجمه آیتی ترجمه شهیدی ترجمه معادیخواه تفسیر منهاج البرائه خویی تفسیر ابن ابی الحدید تفسیر ابن میثم

و من كتاب له عليه السلام الى معاوية و هو من محاسن الكتب و هو المختار الثامن و العشرون من باب الكتب أمّا بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء اللَّه تعالى محمّدا صلّى اللَّه عليه و سلّم لدينه ، و تأييده إيّاه بمن أيّده من أصحابه فلقد خبأ لنا الدّهر منك عجبا إذ طفقت تخبرنا ببلاء اللَّه عندنا ، و نعمته علينا في نبيّنا فكنت في ذلك كناقل التّمر إلى هجر [ هجر معا ] ، أو داعى مسدّده إلى النّضال . و زعمت أنّ أفضل النّاس في الإسلام فلان و فلان فذكرت أمرا إن تمّ اعتز لك كلّه ، و إن نقص لم يلحقك ثلمه ، و ما أنت و الفاضل و المفضول و السّائس و المسوس [ و الفاضل و المفضول و السّائس و المسوس معا ] ، و ما للطّلقاء و أبناء الطّلقاء و التّمييز [ و التّمييز معا ] بين المهاجرين الأوّلين و ترتيب [ ترتيب معا ] [ 93 ] درجاتهم ، و تعريف [ تعريف معا ] طبقاتهم ؟ هيهات لقد حنّ قدح ليس منها و طفق يحكم فيها من عليه الحكم لها . ألا تربع أيّها الإنسان على ظلعك و تعرف قصور ذرعك ، تتأخّر حيث أخّرك القدر ؟ فما عليك غلبة المغلوب ، و لا لك ظفر الظّافر ، و إنّك [ فإنّك خ ] لذهّاب في التّيه ، روّاغ من القصد ، ألا ترى غير مخبّر لك لكن بنعمة اللَّه أحدّث ، أنّ قوما من المهاجرين استشهدوا في سبيل اللَّه و لكلّ فضل حتّى إذا استشهد شهيد [ نا ] قيل : سيّد الشّهداء و خصّه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه ؟ أو لا ترى أنّ قوما قطعت أيديهم في سبيل اللَّه و لكلّ فضل حتّى إذا فعل بواحد منّا كما فعل بواحدهم ، قيل : الطّيّار في الجنّة و ذو الجناحين ؟ و لولا ما نهى اللَّه عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة تعرفها قلوب المؤمنين ، و لا تمجّها آذان السّامعين ، فدع عنك من مالت به الرّميّة فإنّا صنائع ربّنا و النّاس بعد صنائع لنا ، لم يمنعنا قديم عزّنا و عاديّ طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا و أنكحنا فعل الأكفاء و لستم هناك ، و أنّى يكون ذلك كذلك و منّا النّبيّ و منكم المكذّب ، و منّا أسد اللَّه و منكم [ 94 ] أسد الأحلاف ، و منّا سيّدا شباب أهل الجنّة و منكم صبية النّار ، و منّا خير نساء العالمين و منكم حمّالة الحطب ، في كثير ممّا لنا و عليكم ، فإسلامنا ما قد سمعتم [ سمع ] ، و جاهليّتنا لا تدفع ، و كتاب اللَّه يجمع لنا ما شذّ عنّا و هو قوله سبحانه : و أُولُو الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ في كِتابِ اللَّهِ ، و قوله تعالى : إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيْمَ لَلذينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنين ، فَنَحْنُ مَرَّةً أَوْلى‏ بِالْقَرابَةِ وَ تارَةً أَوْلى‏ بِالطَّاعَةِ . و لمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السّقيفة برسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله فلجوا عليهم فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم ، و إن يكن بغيره فالأنصار على دعويهم . و زعمت أنّي لكلّ الخلفاء حسدت ، و على كلّهم بغيت ، فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك فيكون العذر إليك و تلك شكاة ظاهر عنك عارها . و قلت : إنّي كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتّى أبايع و لعمر اللَّه لقد أردت أن تذمّ فمدحت ، و أن تفضح فافتضحت ، و ما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه [ 95 ] و لا مرتابا بيقينه ، و هذه حجّتي إلى غيرك قصدها و لكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها . ثمّ ذكرت ما كان من أمري و أمر عثمان فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه فأيّنا كان أعدى له و أهدى إلى مقاتله ؟ أمن بذل له نصرته فاستقعده و استكفّه ، أم من استنصر فتراخى عنه ، و بثّ المنون إليه حتّى أتى قدره عليه ؟ كلاّ و اللَّه لقد علم اللَّه المعوّقين منكم و القائلين لإخوانهم هلمّ إلينا و لا تأتون البأس إلاّ قليلا . و ما كنت لأعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا فإن كان الذّنب إليه إرشادي و هدايتي له فربّ ملوم لا ذنب له ، و قد يستفيد الظّنّة المتنصّح . و ما أردت إلاّ الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلاّ باللَّه عليه توكّلت . و ذكرت أنّه ليس لي و لا لأصحابي عندك إلاّ السّيف فلقد أضحكت بعد استعبار ، متى ألفيت بنو عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين ، و بالسّيوف مخوّفين ؟ فلبّث قليلا يلحق الهيجاء حمل ، فسيطلبك من تطلب ، و يقرب منك ما تستبعد ، و أنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين و الأنصار و التّابعين بإحسان ، شديد زحامهم ، [ 96 ] ساطع قتامهم ، متسربلين سرابيل الموت ، أحبّ اللّقاء إليهم لقاء ربّهم ، قد صحبتهم ذرّيّة بدريّة ، و سيوف هاشميّة ، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك و خالك و جدّك و أهلك و ما هي من الظّالمين ببعيد . اللغة قد مضى بيان طائفة من لغات هذا الكتاب في شرح المختار التاسع من هذا الباب ، أوّله قوله عليه السّلام : فأراد قومنا قتل نبيّه و اجتياح أصله و همّوا بنا الهموم الخ . ( ص 324 ج 17 ) . ( خبأ ) أى أخفى ، يقال : خبأ الشي‏ء ، من باب منع مهموزا ، و خبّأ مشدّدا أى ستره و أخفاه و في كثير من النسخ المطبوعة كانت الكلمة مشكولة بتشديد الباء و نسخة الرضيّ بتخفيفها كما اخترناها . ( ببلاء اللَّه ) أي بانعامه و إحسانه ، أو اختباره و امتحانه و لكن المناسب مع ما عندنا هو الانعام و الاحسان . ( هجر ) محرّكة اسم بلد مذكر مصروف و غير مصروف و النسبة إليه هاجريّ على خلاف القياس و من ذلك قولهم نبأ هاجريّ ، و هو في نسخة الرّضي مشكول مصروفا و غير مصروف معا ، ( مسدّده ) أي معلّمه ، ( النضال ) المراماة . ( ثلمه ) الثلم : الكسر و العيب ، و في عدّة من النسخ المطبوعة و غيرها : لم ينقصك ثلمه ، و لكن نسخة الرضيّ رضوان اللَّه عليه كانت : لم يلحقك ثلمه كما اخترناه . ( الطلقاء ) جمع الطليق و هو من اطلق بعد الأسرة . ( لقد حنّ قدح ليس منها ) مثل ، قال الميداني في فصل الحاء المهملة المفتوحة من مجمع الأمثال : حنّ قدح ليس منها ، القدح أحد قداح الميسر و إذا كان أحد القداح من غير جوهرة اخواته ثمّ أجاله المفيض خرج له صوت يخالف أصواتها يعرف به أنّه ليس من جملة القداح ، يضرب للرّجل يفتخر بقبيلة [ 97 ] ليس منها أو يتمدّح بما لا يوجد فيه ، و تمثّل به عمر حين قال الوليد بن عقبة بن أبى معيط : اقتل من بين قريش فقال عمر : حنّ قدح ليس منها ، و الهاء في منها راجعة إلى القداح . انتهى . قوله : أجاله المفيض يقال : أفاض أهل الميسر بالقداح أي ضربوا بها . ( ألا تربع ) ربع كمنع : وقف و انتظر و تحبّس و منه قولهم : اربع عليك أو على نفسك أو على ظلعك قاله في القاموس . ( و الظّلع ) بسكون اللاّم : العيب ، و بفتحها : العرج و الغمز ، و هو مصدر ظلع البعير كمنع أى غمز في مشيه ، و من أمثالهم : ظالع يعود كسيرا ، يعود من العيادة ، يضرب للضعيف ينصر من هو أضعف منه كما في مجمع الأمثال للميداني . ( الذّرع ) : الطاقة و الوسع و بسط اليد و ذرع الإنسان طاقته الّتي يبلغها ، و في آخر الدّعاء السابع من الصّحيفة السّجادية : فقد ضقت لما نزل بى يا ربّ ذرعا ، و في شرحها الموسوم برياض السالكين للعالم المتضلّع السيّد عليخان قدّس سرّه في ضيق الذّرع المناسب لقصورها نكات أدبيّة فراجع . ( التّيه ) : الضلال و التحيّر في المفاوز قال اللَّه تعالى : إنها محرَّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ، ( الرّواغ ) : كثير الميل ، يقال : راغ الرجل و الثعلب روغا و روغانا إذا مال و حاد عن الشي‏ء ، و يقال : فلان يروغ روغان الثعلب و من الأمثال فلان أروغ من الثعلب . ( القصد ) : الاعتدال و الطّريق المستقيم ، ( غير مخبّر ) خبّره الشي‏ء و بالشي‏ء من باب التفعيل أعلمه إيّاه و أنبأه كأخبره و أخبر به ، ( استشهد ) أى قتل في سبيل اللَّه ، و كذا اشهد ، على صيغتى المجهول . ( تمجّها ) يقال مجّ الماء من فيها إذا ألقاه ، ( الطّول ) بالفتح فالسّكون : الفضل ، ( عادىّ ) أى قديم ، قال الجوهرى في الصحاح : عاد قبيلة و هم قوم هود عليه السّلام و شي‏ء عادىّ أى قديم كأنّه منسوب إلى عاد . و قال الشّيخ محمّد عبده : العادى الاعتيادىّ المعروف ، أقول : الصّواب ما [ 98 ] قدّمنا و هذا الوجه خطر ببالنا أيضا إلاّ أنّ مقابلته بالقديم منعنا عن ذلك ، و في رواية صبح الأعشى : و مديد طولنا . ( الرّمية ) المراد منها ههنا الصيد الّذي يرمي و هو كالمثل يضرب لمن يميل به عن الحقّ أغراضه الباطلة و أصله أنّ الرجل يقصد قصدا فيتعرّض له الصيد فيتبعه فيميل به عن قصده الأصلى . ( فلجوا عليهم ) أى ظفروا عليهم ، و الفلج : الظّفر ، و الفعل من بابى نصر و ضرب ، قال محمّد بن بشير : كم من فتى قصرت في الرّزق خطوته ألفيته بسهام الرّزق قد فلجا و البيت من الحماسة ، ( الحماسة 436 من شرح المرزوقى ) ، و في الحديث السادس من باب في شأن إنّا أنزلناه في ليلة القدر و تفسير من اصول الكافي عن أبي جعفر عليه السّلام قال : يا معشر الشيعة خاصموا بسورة إنّا أنزلناه تفلجوا فو اللَّه إنها لحجّة اللَّه تبارك و تعالى على الخلق بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و انّها لسيّدة دينكم و انّها لغاية علمنا الحديث . ( صنائع ) جمع صنيعة ، قال الزمخشرى في أساس البلاغة : فلان صنيعتك و مصطنعك ، و اصطنعتك لنفسى ، قال الحطيئة : فإن يصطنعنى اللَّه لا أصطنعكم و لا اوتكم مالى على العثرات و قال في القاموس : هو صنيعى و صنيعتى أى اصطنعته و ربّيته و خرّجته . و الصنيعة أيضا هي ما يسدى من معروف أو يد إلى إنسان ، قال ابن مولى ليزيد بن حاتم : و إذا صنعت صنيعة أتممتها بيدين ليس نداهما بمكدّر و البيت من الحماسة ، قال المرزوقي في الشرح : يقول : و إذا اتّخذت عند إنسان يدا و أزللت إليه نعمة فانّك لا تخدجها و لا تترك تربيتها لكنّك تكمّلها و تقوم بعمارتها مصونة من المنّ و التكدير صافية من الشوائب و التعذير . ( شباب ) جمع الشاب . [ 99 ] ( شكاة ) الشكاة في الأصل : المرض ، و توضع موضع العيب و الذمّ كما في هذا البيت فمعناها العيب و النقيصة . ( ظاهر عنك ) أى زائل عنك و ينبو ، و لا يعلق بك ، قال ابن الأثير في النهاية : و في حديث عائشة كان يصلّى العصر و لم يظهر فيى‏ء الشمس بعد من حجرتها أى لم يرتفع و لم يخرج إلى ظهرها ، و منه حديث ابن الزبير لما قيل له يا ابن النطاقين تمثّل بقول أبي ذؤيب : و تلك شكاة ظاهر عنك عارها ، يقال ظهر عنّى هذا العيب إذا ارتفع عنك و لم ينلك عنه شي‏ء أراد أنّ نطاقها لا يفضّ منه فيعيّر به و لكنّه يرفع منه و يزيده نبلا ، انتهى . أقول في بيانه : كانت امّ عبد اللَّه بن الزبير ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر و أراد ابن الزبير أنّ تعييره إيّاه بلقب امّه ليس عارا يستحيى منه إنّما هو من مفاخره لأنّه لقب لقبها به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و هو في الغار مع أبي بكر على ما قيل فراجع إلى السيرة النّبوية لابن هشام ( ص 486 ج 1 من طبع مصر 1375 ه ) و في الحماسة : قال سبرة بن عمرو الفقعسىّ و عيره ضمرة بن النهشلىّ كثرة إبله : أعيرتنا ألبانها و لحومها و ذلك عار يا ابن ريطة ظاهر قال المرزوقى في الشرح : و ذلك عار ظاهر أى زائل ، قال أبو ذؤيب : و عيّرها الواشون أنّى احبّها و تلك شكاة ظاهر عنك عارها و من هذا قولك : ظهر فوق السطح ، و قولك : جعلته منّى بظهر ، و قوله تعالى : اتّخذتموه وراءكم ظهريّا ، انتهى قول المرزوقي . و أقول : صار هذا المصراع من البيت أعنى قول أبي ذؤيب و تلك شكاة الخ مثلا يضرب لمن ينكر فعلا ليس له ربط به و لا تعلّق له ، و البيت من قصيدة غرّاء تنتهى إلى ثمانية و ثلاثين بيتا يرثى بها نشيبة بن محرث أحد بني مومل ابن حطيط الهذلى منقولة كاملة في ديوان الهذليّين ( ص 21 من طبع مصر 1385 ه ) مطلعها : [ 100 ] هل الدّهر إلاّ ليلة و نهارها و إلاّ طلوع الشمس ثمّ غيارها أبى القلب إلاّ امّ عمرو و أصبحت تحرّق ناري بالشّكاة و نارها و عيّرها الواشون البيت . و أبو ذؤيب هذا هو خويلد بن خالد بن محرز الهذلىّ شاعر مجيد مخضرم أدرك الجاهلية و الإسلام ، قدم المدينة عند وفاة النّبي صلى اللَّه عليه و آله فأسلم و حسن إسلامه روى عنه أنه قال : قدمت المدينة و لأهلها ضجيح بالبكاء كضجيح الحجيج أهلّوا بالإحرام ، فقلت : مه ؟ فقالوا : توفّى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله ، كما في معجم الادباء لياقوت ( ص 83 ج 11 من طبع مصر ) . ( الجمل المخشوش ) الّذي جعل في أنفه الخشاش و هو عويد يجعل في أنف البعير و نحوه يشدّ به الزمام ليكون أسرع لانقياده ، مشتقّ من خشّ في الشي‏ء إذا دخل فيه لأنّه يدخل في أنف البعير . ( الغضاضة ) : الذلّة و المنقصة ، ( المعوّقين ) أى المانعين عن القيام بنصرة الإسلام ( فربّ ملوم لا ذنب له ) مثل ، قال الميدانى في فصل الراء المضمومة من مجمع الأمثال : هذا من قول اكثم بن صيفي ، يقول : قد ظهر للناس منه أمر أنكروه عليه و هم لا يعرفون حجّته فهو يلام عليه و ذكروا أنّ رجلا في مجلس الأحنف بن قيس قال : لا شي‏ء أبغض إلىّ من التمر و الزبد فقال الأحنف : ربّ ملوم لا ذنب له انتهى كلام الميداني . ( الظّنّة ) بالكسر : التهمة ( المتنصّح ) أى المتكلّف بنصح من لا يقبل النصيحة و المبالغ فيه له . و قد يستفيد الظّنّة المتنصّح ، مصراع بيت صدره : و كم سقت من آثاركم من نصيحة ، ( استعبار ) استعبر : جرت عبرته أى بكى . ( لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل ) هذا المثل قريب من قولهم : لبّث رويدا يلحق الداريّون ، و حمل بالتحريك هو ابن بدر رجل من قشير و فيه يقول قيس ابن زهير العبسى : [ 101 ] و لكنّ الفتى حمل بن بدر بغى و البغى مرتعه وخيم و هذا البيت للعبسى من أبيات الحماسة ( الحماسة 147 من شرح المرزوقى ) و من أبيات الأمالي للقالى ص 261 ج 1 ، و في السيرة النّبوية لابن هشام ص 287 ج 1 . و قول حمل يضرب به مثلا للتهديد بالحرب . و روى الميدانى في مجمع الأمثال في فصل الضاد المفتوحة هكذا : ضحّ رويدا يدرك الهيجا حمل ، و قال : ضحّ رويدا هذا أمر من التضحية أى لا تعجل في ذبحها ثمّ استعير في النهى عن العجلة في الأمر ، و يقال : ضحّ رويدا لم ترع أى لم تفزع و يقال ضحّ رويدا يدرك الهيجا حمل ، يعنى حمل بن بدر ، قال زيد الخيل : فلو أنّ نصرا أصلحت ذات بينها لضحّت رويدا عن مطالبها عمرو و لكنّ نصرا ارتعت و تخاذلت و كانت قديما من خلايقها الغفر أى المغفرة ، نصر و عمروا بناقعين و هما حيّان من بني أسد ، انتهى قول الميداني . و في الباب الثالث و العشرين فى ما جاء من الأمثال من أوّله لام من جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكرى : لبّث رويدا يلحق الهيجا حمل ، أى انتظر حتّى يتلاقى الشّبان ، و الهيجا يقصر و يمدّ ، و حمل اسم رجل ، انتهى كلام أبي هلال . و كما اختلف في ضبط هذا المثل على ما قدّمنا كذا اختلف في حمل فذهب غير واحد إلى أنه ابن بدر كما دريت و في الإصابة و اسد الغابة أنه حمل ابن سعدانة قال في الأوّل : حمل بن سعدانة بن حارثة الكلبي وفد على النّبي صلى اللَّه عليه و آله و عقد له لواء و هو القائل : لبّث قليلا يدرك الهيجا حمل ، و شهد مع خالد مشاهده كلّها و قد تمثّل بقوله سعد بن معاذ يوم الخندق حيث قال : لبّث قيلا يدرك الهيجا حمل ما أحسن الموت إذا حان الأجل و في اسد الغابة : البث قليلا الخ و قال : شهد صفّين مع معاوية ، و اللَّه تعالى أعلم . [ 102 ] ثمّ إنّ الهيجاء في نسختنا الّتي قوبلت على نسخة الرضى ممدودة ، و يجب أن تقرأ في البيت مقصورة ليستقيم الوزن . ( مرقل ) أى مسرع ، و الارقال ضرب من السير السريع ، ( جحفل ) أى جيش عظيم ، ( قتامهم ) أى غبارهم ، ( ساطع ) اى منتشر ، ( نصالها ) قال في القاموس : النّصل و النصلان حديدة السهم و الرمح و السيف ما لم يكن له مقبض جمعه أنصل و نصول و نصال ، و نصل السهم فيه : ثبت ، و في بعض النسخ نضالها بالمعجمة يقال ناضل عنه إذا دفع و لكن الصحيح ههنا بالمهملة و في صدر الكتاب بالمعجمة كما في نسخة الرضى رضوان اللَّه عليه ، قال أبو العيال الهذلى في أبيات لما حصر هو و أصحابه ببلاد الروم في زمن معاوية كتبها إلى معاوية فقرأه معاوية على الناس كما في ديوان الهذليين ( ص 255 من طبع مصر ) : فترى النّبال تعير في أقطارنا شمسا كأنّ نصالهنّ السنبل و ترى الرّماح كأنّما هي بيننا أشطان بئر يوغلون و نوغل الاعراب ( و ما أنت و الفاضل و المفضول و السائس و المسوس ) الفاضل و أترابه التالية على نسخة الرضى مشكولة بالنصب ، كما أنّ في الجملة الّتي بعدها أعنى و ما للطلقاء و ابناء الطلقاء و التمييز الخ التمييز و ترتيب و تعريف منصوبة أيضا و قد قرئت الجملة الاولى بالنصب و الرفع معا كما في نسخة مخطوطة مشكولة مقروة عندنا ، و احتمل بعضهم الرفع في الجملة الثانية أيضا . أفاد الفاضل الشارح المعتزلى بقوله : و ما أنت و الفاضل و المفضول الرواية المشهورة بالرفع و قد رواها قوم بالنصب فمن رفع احتجّ بقوله : و ما أنت و بيت أبيك و الفخر ، و بقوله : فما القيسى بعدك و الفحار ، و من نصب فعلى تأويل مالك و الفاضل و في ذلك معنى الفعل أى ما تصنع لأنّ هذا الباب لا بدّ أن يتضمّن الكلام فيه فعلا أو معنى فعل و أنشدوا : فما أنت و السير في متلف ، و الرفع عند النحويين [ 103 ] أولى ، و ما للطلقاء و ابناء الطلقاء و التمييز النصب ههنا لا غير لأجل اللاّم في الطلقاء . ( حنّ قدح ليس منها ) الضمير المجرور راجع إلى القداح كما مرّ ، ( فيها من عليه الحكم لها ) الهاء في الطرفين راجعة إلى الطبقات أو الجماعة أو القضية أو نحوها غير مخبّر منصوب على الحالية لضمير أحدث ، و مخبّر على نسخة الرضى كان بتشديد الباء من التخبير و في غير واحد من نسخ اخرى بكسر الباء المخففة من لإخبار و كلاهما بمعنى واحد كما مرّ في شرح اللغات ، ( أنّ قوما ) مفعول ترى ( الرميّة ) فعيلة بمعنى مفعولة و أنثت لأنّها جعلت اسما لا نعتا و المراد بها الدّنيا أى دع من مال إلى الدّنيا و مالت به أى أمالته إليها ، ( فعل الاكفاء ) منصوب على المصدر ، ( و لستم هناك ) الواو للحال و العامل فيه خلطناكم ، ( على قومك ) متعلق بقوله طولنا أى فضلنا عليهم ، و جملة أن خلطناكم فاعل لقوله لم يمنعنا ، و كلمتا قديم و عادى منصوبتان على المفعولية ، و في نسخة الرضىّ ره و هي الصّواب مرفوعتان على الفاعلية و جملة خلطناكم على هذا الوجه منصوبة على المفعوليّة ، أفاد الفاضل الشارح المعتزلى بقوله : فان قلت : فبماذا يتعلّق في قوله في كثير ؟ قلت : بمحذوف تقديره هذا الكلام داخل في جملة كلام كثير يتضمّن مالنا و عليكم . ( الفلج به ) الضمير المجرور يرجع إلى الرسول ( قصدها ) الضمير يرجع إلى الحجّة و إلى غيرك خبر قدّم على القصد أى هذه حجّتى قصدها إلى غيرك . ( يلحق الهيجا حمل ) قرى‏ء الفعل و حمل على وجهين : على تأنيث الفعل و نصب حمل فالهيجاء فاعل ، و على تذكير الفعل و رفع حمل فالهيجاء مفعول ( متسربلين ) منصوب على الحال . المصدر قد مرّ في ذكر مآخذ الكتاب التاسع ( ص 326 ج 17 ) نقل كتابه عليه السّلام إلى معاوية جوابا عن كتابه إليه و قد نقلنا هما من كتاب صفّين لنصر بن مزاحم و قد نقله ابن عبد ربّه في العقد الفريد أيضا ( ص 334 ج 4 من طبع مصر ) و أمّا كتابه [ 104 ] هذا فقد نقله أعثم الكوفي في الفتوح ( ص 157 من ترجمة الهروي طبع بمبئي ) و أبو العبّاس أحمد بن عليّ القلقشندى في صبح الأعشى ( ص 229 ج 1 من طبع مصر ) و شهاب الدين أحمد بن عبد الوهّاب النويرىّ في نهاية الأرب ( ص 233 ج 7 ) و يطلب من باب كتبه عليه السّلام إلى معاوية و احتجاجاته عليه من ثامن البحار ( ص 534 ج 8 من الطبع الكمبانى ) ، و كتابه هذا يوهم أنّه قريب من التاسع و أنّهما واحد و الاختلاف في النسخ أو الروايات حتّى أنّ الشارح البحرانى مال ههنا أنّ هذا الكتاب ملتقط من كتاب ذكر السيّد منه فصلا سابقا و هو قوله : فأراد قومنا اهلاك نبيّنا و قد ذكرنا كتاب معاوية الذي هذا الكتاب جواب له و ذكرنا الكتاب له بأسره هناك و إن كان فيه اختلاف ألفاظ يسيرة بين الروايات انتهى قوله . أقول : قد وجدنا الكتابين في مآخذ عديدة و نرى بينهما اختلافا يمنعنا من اعتقادهما واحدا ، على أنّ دأب الشريف الرضى رضوان اللَّه عليه كان إذا نقل كلامه برواية اخرى أن ينبّه بتقديمه على صورة اخرى : قال في المختار 227 من باب الخطب أوله : بسطتم يدي فكففتها و من كلام له عليه السّلام في وصف بيعته بالخلافة و قد تقدّم مثله بألفاظ مختلفة . و قال في المختار 23 من باب الكتب أوله : وصيتى لكم أن لا تشركوا باللَّه شيئا : أقول : و قد مضى بعض هذا الكلام فيما تقدّم من الخطب إلاّ أنّ فيه زيادة أوجبت تكريره . و قال في المختار 66 من هذا الباب أوّله : أما بعد فانّ المرء ليفرح بالشي‏ء الّذي لم يكن ليفوته : و قد تقدّم ذكره بخلاف هذه الرّواية . و نحوها في عدّة مواضع اخرى فلو كان الكتابان واحدا لكان يتعرّض عليه كما تعرّض فيها ، و بعد الغمض عن ذلك نقول : إنّ الروايات قائلة بأنّ معاوية كتب إلى عليّ عليه السّلام كتابا أنفذه إليه مع أبي أمامة الباهلىّ فكتب إليه عليّ عليه السّلام هذا الكتاب ، و كتب إليه كتابا أنفذه إليه مع أبي مسلم الخولانى فكتب عليه السّلام في جوابه ذلك الكتاب المقدّم في المختار التاسع و كان صدره : فإنّ أخا خولان قدم عليّ بكتاب الخ . [ 105 ] و قد أقبل على الفاضل الشارح المعتزلى هذا السئوال أيضا و أورده على النقيب أبي جعفر فأجابه بما لا يخلو ذكره من فائدة قال : سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن زيد فقلت : أرى هذا الجواب منطبقا على كتاب معاوية الذي بعثه مع أبي مسلم الخولانى إلى عليّ عليه السّلام فإن كان هذا هو الجواب فالجواب الّذي ذكره أرباب السيرة و أورده نصر بن مزاحم في كتاب صفّين إذا غير صحيح ، و إن كان ذلك الجواب فهذا الجواب إذن غير صحيح و لا ثابت ؟ . قال : فقال لي : بل كلاهما ثابت مروى و كلاهما كلام أمير المؤمنين عليه السّلام و ألفاظه ، ثمّ أمرنى أن أكتب ما يمليه علىّ فكتبته قال : كان معاوية يتسقط عليا و ينعى عليه ما عساه يذكره من حال أبي بكر و عمر و أنّهما غصباه حقّه و لا يزال يكيده بالكتاب يكتبه و الرسالة يبعثها يطلب غرّته لينفث بما في صدره من حال أبي بكر و عمر إمّا مكاتبة أو مراسلة فيجعل ذلك حجّة عليه عند أهل الشام و يضيفه إلى ما قرّره في أنفسهم من ذنوبه زعم فقد كان غمصه عندهم بأنه قتل عثمان أو مالأ على قتله ، و أنّه قتل طلحة و الزبير ، و أسر عائشة ، و أراق دماء أهل البصرة و بقيت خصلة واحدة و هو أن يثبت عندهم أنّه يتبرأ من أبي بكر و عمر و ينسبهما إلى الظلم و مخالفة الرسول في أمر الخلافة و أنهما وثبا عليه غلبة و غصباه إيّاها فكانت هذه الطامة الكبرى ليست مقصرة على فساد أهل الشام عليه بل و أهل العراق الّذين هم جنده و بطانته و أنصاره لأنّهم كانوا يعتقدون إمامة الشيخين إلاّ القليل الشاذّ من خواصّ الشيعة . فلمّا كتب ذلك الكتب مع أبي مسلم الخولانى قصد أن يغضب عليا و يحرجه و يحوجه إذا قرأ ذكر أبا بكر و أنه أفضل المسلمين إلى أن يرهن خطه في الجواب بكلمة تقتضى طعنا في أبي بكر فكان الجواب مجمحا غير بيّن فيه تصريح بالتظليم لهما و لا التصريح ببرائتهما و تارة يترّحم عليهما و تارة يقول أخذ حقّى و قد تركته لهما فأشار عمرو بن العاص على معاوية أن يكتب كتابا ثانيا مناسبا للكتاب الأوّل ليستفزا فيه عليا عليه السّلام و يستخفّاه و يحمله الغضب منه أن يكتب كلاما يتعلّقان به [ 106 ] في تقبيح حاله و تهجين مذهبه ، و قال له عمرو : إنّ عليا رجل نزق تيّاه و ما استطمعت منه الكلام بمثل تقريظ أبي بكر و عمر فاكتب فكتب كتابا أنفذه إليه مع أبي امامة الباهلى و هو من الصحابة بعد أن عزم على بعثه مع أبي الدرداء و نسخة الكتاب : من عبد اللَّه معاوية بن أبي سفيان إلى عليّ بن أبي طالب أما بعد فان اللَّه تعالى جدّه إلى آخر ما ننقله بعيد هذا في ذكر المعنى . ثمّ قال : قال النقيب أبو جعفر : فلمّا وصل هذا الكتاب إلى عليّ عليه السّلام مع أبي امامة الباهلى كلّم أبا امامة بنحو ممّا كلّم به أبا مسلم الخولانى و كتب معه هذا الجواب . قال : قال النقيب : و في كتاب معاوية هذا ذكر لفظ الجمل المخشوش أو الفحل المخشوش لا في الكتاب الواصل مع أبي مسلم و ليس في ذلك هذه اللفظة و إنما فيه حسدت الخلفاء و بغيت عليهم عرفنا ذلك من نظرك الشزر و قولك الهجر و تنفسك الصعداء و إبطاؤك عن الخلفاء . قال : قال : و إنما كثير من الناس لا يعرفون الكتابين و المشهور عندهم كتاب أبي مسلم فيجعلون هذه اللفظة فيه و الصحيح أنّها في كتاب أبي امامة ألا تراها عادت في جوابه و لو كانت في كتاب أبي مسلم لعادت في جوابه انتهى كلام النقيب أبي جعفر من شرح الفاضل الشارح المعتزلى . أقول : و هذا تحقيق خبرى دقيق و بحث روانى عميق فإنّ المجاميع في الفنون العديدة و الجوامع الروائية يفيد أنهما كتابان كما دريت ، و قد مال إليه الفاضل المورخ الفنّان محمّد تقى سپهر في ناسخ التواريخ ( ص 164 ج 2 من الطبع الناصرى ) فانّه بعد ما نقل كتاب معاوية مع أبي مسلم الخولانى و كتاب أمير المؤمنين عليه السّلام في جوابه على ما مرّ نقلهما في ذكر مآخذ الكتاب التاسع قال ما هذا هو لفظه بالفارسية و كأنّه ترجمة ما أفاده النقيب . معاوية مكتوب را قرائت كرد و عمرو عاص را نيز بنمود ، عمرو نگريست كه علي عليه السّلام در جواب معاوية آنجا كه أبو بكر را بر تمامت مسلمانان تفضيل [ 107 ] نهاده كلمه كه تصريح بر تقبيح أبو بكر و تشنيع أعمال او باشد رقم نكرده إلاّ آنكه نگاشته است حق مرا مأخوذ داشته‏اند و من تفويض كردم ، با معاوية گفت بر قانون كتاب أوّل علي مكتوب كن و همچنان فصلى در فضل أبو بكر و عمر و عثمان رقم كن ، چون على ايشانرا غاصب حق خويش داند و در نزد خدا و رسول عاصى و بزه‏كار ميخواند بعيد نباشد كه در فضيحت عقيدت ايشان و ظلم و طغيان ايشان چيزى رقم كند آنگاه ما مكتوب او را بر فساد مذهب او حجّت كنيم و بر مردم شام و صناديد قبايل عرضه داريم و تمامت عربرا بر او بر شورانيم و بر گردن آرزو سوار شويم ، معاويه را كلمات او پسنده افتاد و هميخواست تا بصحبت أبو دردا چيزى نگارد هم از اين انديشه باز نشست و اين مكتوبرا بدست أبو امامه باهلى كه در شمار أصحاب رسول خدا است انفاذ داشت : من عبد اللَّه معاوية بن أبي سفيان إلى آخر كتابه الاتى عن قريب إلى أن قال : بالجملة أبو امامه باهلى اين نامه بگرفت و راه در نوشت و در كوفه حاضر حضرت أمير المؤمنين عليه السّلام شده تسليم داد أمير المؤمنين بعد از قرائت آن مكتوب بدينگونه پاسخ نگاشت : أما بعد فقد بلغنى كتابك تذكر فيه اصطفاء اللَّه تعالى الخ . و بالجملة أنّ الظنّ المتاخم بالعلم من التتبّع و الفحص حاصل بأنّ كلّ واحد منهما كتاب على حياله فلنرجع إلى تفسير الكتاب . المعنى لما كان الأمير عليه السّلام في هذا الكتاب يردّ الأباطيل الّتي نسجتها عنكبوت أوهام معاوية و أهواء شيطانه عمرو العاصى فلا بدّ لنا من نقل كتاب معاوية ليتّضح الجواب ، كتب معاوية إليه بعد كتابه الّذي أنفذه إليه مع الخولانى على ما مرّ آنفا : من عبد اللَّه معاوية بن أبي سفيان إلى عليّ بن أبي طالب : أما بعد فإنّ اللَّه تعالى جدّه اصطفى محمّدا عليه الصّلاة و السّلام لرسالته ، و اختصّه بوحيه و تأدية شريعته [ 108 ] فأنقذ به من العماية ، و هدى به من الغواية ، ثمّ قبضه إليه رشيدا حميدا قد بلّغ الشرع ، و محق الشرك ، و أخمد نار الإفك ، فأحسن اللَّه جزاءه ، و ضاعف عليه نعمه و آلاءه . ثمّ إنّ اللَّه سبحانه اختصّ محمّدا عليه الصّلاة و السّلام بأصحاب أيّدوه و نصروه و كانوا كما قال اللَّه سبحانه لهم : « أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم » فكان أفضلهم مرتبة ، و أعلاهم عند اللَّه و المسلمين منزلة الخليفة الأوّل الذي جمع الكلمة و لمّ الدّعوة و قاتل أهل الرّدّة ، ثمّ الخليفة الثانى الّذي فتح الفتوح ، و مصّر الأمصار و أذلّ رقاب المشركين ، ثمّ الخليفة الثالث المظلوم الّذي نشر الملّة و طبّق الافاق بالكلمة الحنيفيّة . فلمّا استوثق الإسلام و ضرب بجرانه عدوت عليه ، فبغيته الغوائل و نصبت له المكائد و ضربت له بطن الأمر و ظهره و دسست عليه و أغريت به و قعدت حيث استنصرك عن نصره ، و سألك أن تدركه قبل أن يمزّق فما أدركته ، و ما يوم المسلمين منك بواحد : لقد حسدت أبا بكر و التويت عليه و رمت إفساد أمره و قعدت في بيتك ، و استغويت عصابة من الناس حتّى تأخّروا عن بيعته ، ثمّ كرهت خلافة عمر و حسدته ، و استطلت مدته و سررت بقتله ، و أظهرت الشماتة بمصابه حتّى أنك حاولت قتل ولده لأنّه قتل قاتل أبيه . ثمّ لم تكن أشدّ منك حسدا لابن عمك عثمان نشرت مقابحه ، و طويت محاسنه ، و طعنت في فقهه ، ثمّ في دينه ثمّ في سيرته ، ثمّ في عقله و أغريت به السّفهاء من أصحابك و شيعتك حتّى قتلوه بمحضر منك ، لا تدفع عنه بلسان و لا يد ، و ما من هؤلاء إلاّ من بغيت عليه ، و تلكّأت في بيعته حتّى حملت عليه قهرا تساق بحزائم الاقتسار كما يساق الفحل المخشوش ، ثمّ نهضت الان تطلب الخلافة و قتلة عثمان خلصاؤك و سجراؤك و المحدقون بك ، و تلك من أمانى النفوس و ضلالات الهواء . فدع اللجاج و العبث جانبا ، و ادفع إلينا قتلة عثمان ، و أعد الأمر شورى [ 109 ] بين المسلمين ليتّفقوا على من هو للَّه رضا ، فلا بيعة لك في أعناقنا ، و لا طاعة لك علينا و لا عتبي لك عندنا ، و ليس لك و لأصحابك عندى إلاّ السيف و الّذي لا إله إلاّ هو لأطلبنّ قتلة عثمان أين كانوا و حيث كانوا حتّى أقتلهم أو تلحق روحى باللَّه . فأمّا ما لا تزل تمنّ به من سابقتك و جهادك فإنّى وجدت اللَّه سبحانه يقول : « يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا علىّ إسلامكم بل اللَّه يمنّ عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين » و لو نظرت في حال نفسك لوجدتها أشدّ الأنفس امتنانا على اللَّه بعملها و إذا كان الإمتنان على السائل يبطل أجر الصّدقة فالإمتنان على اللَّه يبطل أجر الجهاد و يجعله « كصفوان عليه تراب فأصابه و ابل فتركه صلدا لا يقدرون على شي‏ء ممّا كسبوا و اللَّه لا يهدي القوم الكافرين » انتهى كتاب معاوية . و معنى كلامه : فلمّا استوثق الإسلام و ضرب بجرانه ، أنّ الإسلام لمّا استقام و قرّ في قراره تشبيها بالبعير إذا برك و استراح مدّجرانه على الأرض ، و جران البعير هو مقدّم عنقه من مذبحه إلى منحره . و قوله : حتّى أنك حاولت قتل ولده لأنّه قتل قاتل أبيه ، يشير إلى عبيد اللَّه ابن عمر و قتله أبا لؤلؤة فيروز قاتل عمر و قد تقدّم كلامنا في شرح المختار 236 من باب الخطب ( ص 244 ج 15 ) و في شرح المختار الأوّل من باب الكتب ( ص 238 ج 16 ) . قوله : تلكأت في بيعته ، تلكأ عن الأمر اى أبطأ و توقف ، فالصّواب أن يقال تلكأت عن بيعته فكلمة في بمعنى عن إن لم يتطّرق فيها تحريف ، قوله سجراؤك هو بالسين المهملة جمع سجير ككريم أى الخليل الصفى . فكتب أمير المؤمنين علي عليه السّلام في جوابه : أما بعد فقد أتانى كتابك تذكر اصطفاء اللَّه محمّدا صلى اللَّه عليه و آله الخ فحان لنا الان شرح كتابه عليه السّلام : قوله عليه السّلام : ( أما بعد فقد أتانى إلى قوله : إلى النضال ) هذا الكتاب يشتمل على فصول تجيب عن فصول من الأباطيل المموّهة الّتي توغّل فيها معاوية و هذا القسم من الكتاب جواب عن قوله : فانّ اللَّه تعالى جدّه إلى قوله : فكان [ 110 ] أفضلهم مرتبة . و بيان الجواب على الإجمال أنّ أمير المؤمنين عليا عليه السّلام كان بما أخبره معاوية أعلم من غيره لأنّه لم يكن أحد كمثله في حماية الدين و الذّب عن حوزته عن ابتداء دعوة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله إلى زمان ارتحاله من الدّنيا و إخبار معاوية عليا عليه السّلام بذلك كسفيه استبضع تمرا إلى هجر ، أو كغبىّ دعى من علّمه الرماية إلى المراماة ، و أما بيانه على التفصيل فقد مرّ في شرح المختار التاسع من باب الكتب ( ص 336 348 ج 17 ) و في شرح المختار السابع عشر منه فراجع . قوله : عليه السّلام : ( و زعمت أنّ أفضل الناس فلان إلى قوله : فالأنصار على دعويهم ) هذا الفصل جواب عن قول معاوية : فكان أفضلهم مرتبة إلى قوله : و طبق الافاق بالكلمة الحنيفية ، كان معاوية ذكر في كتابه الأفضل فالأفضل من الأصحاب على زعمه ، و فضّلهم على أمير المؤمنين عليه السّلام تعريضا على حقده حيث قال : و أعلاهم الأوّل و الثانى و الثالث فأجابه بأنّ ما ذكرت فيهم إمّا أن يتمّ و يصحّ أولا فإن تمّ اعتزلك كلّه لأنّه كان من تلك الفضائل في معزل ، و على الثانى لم يلحقك عيبه و نقصه لأنّه لم يكن منهم فعلى كلا الوجهين كان معاوية خائضا في ما لا يعنيه . ثمّ بيّن عليه السّلام عدم لياقة معاوية لتمييز الفاضل و المفضول منهم و ترتيب درجاتهم و تعريف طبقاتهم بقوله : و ما أنت و الفاضل و المفضول الخ ، و من الطلقاء أبو سفيان و من أبنائهم معاوية كما مضى بيان ذلك تفصيلا من شرح المختار السابع عشر من باب الكتب عند حديث أهل مكّة و أنّ أهل مكّة هم الطلقاء ( ص 281 ج 18 ) . و كأنّ قوله : عليه السّلام بين المهاجرين الأوّلين يشير إلى قوله تعالى : و السّابقون الأوّلون من المهاجرين و الأنصار و الّذين اتّبعوهم باحسان رضى اللَّه عنهم و رضوا عنه و أعدّ لهم جنّات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ( التوبة : 100 ) و كان معاوية و أبوه في زمان الهجرة مشركين و لمّا رفع اللَّه الكلمة العليا و كان النّاس يدخلون في دين اللَّه أفواجا استسلما و ما أسلما كما قال أمير المؤمنين علي عليه السّلام : فو الّذي فلق الحبّة و برأ النسمة ما أسلموا و لكن [ 111 ] استسلموا و أسرّوا الكفر فلمّا وجدوا أعوانا عليه أظهروه ( المختار 16 من باب الكتب ص 224 ج 18 ) و راجع أيضا إلى ( ص 370 ج 15 و الى ص 53 ج 18 ) . و قال الطبرسي ره في التفسير : في هذه الاية دلالة على فضل السابقين و مزيتهم على غيرهم لما لحقهم من أنواع المشقة في نصرة الدّين فمنها مفارقة العشائر و الأقربين ، و منها مباينة المألوف من الدين ، و منها نصرة الإسلام و قلّة العدد و كثرة العدوّ ، و منها السبق إلى الإيمان و الدّعاء إليه إلى أن قال : و روى الحاكم أبو القاسم الحسكانى باسناده مرفوعا إلى عبد الرحمن بن عوف في قوله سبحانه : و السّابقون الأوّلون قال : هم عشرة من قريش أوّلهم إسلاما علي بن أبي طالب . و بالجملة أنّ معاوية و أترابه شأنهم و قدرهم دون أن يدخلوا في التمييز بين هؤلاء و نحوه و ليسوا بأهل لذلك و نعم ما قيل : خلق اللّه للحروب رجالا و رجالا لقصعة و ثريد ثمّ أتى أمير المؤمنين عليه السّلام في ذلك بمثلين كما أتى في الأمر المقدّم بالمثلين فقال عليه السّلام : ( هيهات لقد حنّ قدح ليس منها ) و قد علمت في تفسير اللّغة أنه يضرب للرجل يفتخر بقبيلة ليس منها أو يتمدح بما لا يوجد فيه ، و قريب منه ما يقال في الفارسية : من آنم كه رستم جوانمرد بود ، و الثانى قوله عليه السّلام : ( و طفق يحكم فيها من عليه الحكم لها ) أى طفق يحكم في هذه الجماعة أو القضيّة أو نحوهما من عليه الحكم لها ، يعني ليس له أن يحكم فيها و قدره دون ذلك بل يجب عليه قبول الحكم الصادر من أهله فيها . ثمّ نبّهه على ضعفه و قصور ذرعه عن البلوغ إلى تلك المراتب السامية و أنّى للأعراج العروج إلى قلل شامخة ، فقال : ( ألا تربع الخ ) ، استفهام على سبيل الاسترحام أو الاستحقار و التقريع ، و قد عرفت أنّ الظلع هو العرج و الغمز ، و هل للظالع أن يحمل حملا ثقيلا ؟ أى ألا ترفق بنفسك أيّها الظالع حتّى لا تحمل عليها ما لا تطيقه ؟ و ألا تعرف قصور ذرعك و عدم قدرتك و استطاعتك عن البلوغ إلى درجة السابقين ؟ و ألا تتأخّر حيث أخّرك قدر اللّه و تضع نفسك حيث وضعها اللّه ؟ . [ 112 ] ثمّ قال عليه السّلام : ( فما عليك غلبة المغلوب و لا لك ظفر الظافر ) أتى بفاء التفريع على هذه الجملة ، أي إذا كنت بمعزل عنهم و أجنبيّا عن هؤلاء المهاجرين الأوّلين و السّابقين في الإسلام ، فما عليك غلبة المغلوب أي لا تضرّك ، و لا لك ظفر الظافر أي لا ينفعك فدخل معاوية فيما لا يعنيه . ثمّ قال عليه السّلام : ( و انك لذهّاب في التّية روّاغ من القصد ) و ذلك لأنّ من خرج عن زيّه و دخل فيما لا يعنيه ، و تكلّم فوق قدره يعدّ كلامه فضولا ، و صدق عليه مثل : لقد حنّ قدح ليس منها ، فقد ذهب في الضلال و مال عن الاعتدال و ماذا بعد الحقّ إلاّ الضّلال . على أنّ معاوية أنكر الحقّ و عدل عن الصّراط المستقيم حيث خرج مبارزا لمن له الحقّ و لمن هو على الصّراط المستقيم بل لمن هو الحق و الصّراط المستقيم ألا و هو إمام المتّقين و قائد الغرّ المحجلين و خليفة ربّ العالمين و من هو من خاتم النّبيّين بمنزلة موسى من هارون علي أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين فمن عدل عن ذلك القسطاس المستقيم و الميزان القسط ، فهو ذهّاب في التّيه روّاغ عن القصد . نقل سبط ابن الجوزي في التذكرة عن أبي حامد الغزالي حيث قال في كتاب سرّ العالمين و كشف ما في الدّارين بعد نقل طائفة من كلامه في غصب الغاصبين خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام : ثمّ العجب من منازعة معاوية لعلي عليه السّلام الخلافة و قد قطع الرّسول صلّى اللّه عليه و سلّم طمع من طمع فيها بقوله : إذا ولّى خليفتان فاقتلوا الأخير منهما ، و العجب من حقّ واحد كيف ينقسم بين اثنين و الخلافة ليس بجسم و لا عرض فيتجزّى ، قال : و قال أبو حازم : أوّل خلافة [ حكومة خ ل ] تجرى بين العباد في المعاد بين علي عليه السّلام و معاوية فيحكم اللّه تعالى لعلي على معاوية و الباقون تحت المشيّة ، و قال صلّى اللّه عليه و سلّم لعمّار : تقتلك الفئة الباغية ، و لا ينبغي للإمام أن يكون باغيا ، و لأنّ الامامة تضيق عن شخصين ، كما أنّ الرّبوبيّة لا يليق بالهين اثنين إلى أن قال : ثمّ استفاض لعن علي عليه السّلام [ 113 ] على المنابر ألف شهر و كان ذلك بأمر معاوية أتراهم أمرهم بذلك كتاب أو سنّة أو إجماع ؟ هذا صورة كلام الغزالي . ( ص 37 من التّذكرة الرّحلي المطبوع على الحجر و المقابلة الرابعة من سرّ العالمين ص 22 من طبع النجف ) . ثم أخذ أمير المؤمنين عليه السّلام بتذكير معاوية و تنبيهه على أفضليّته و أفضليّة من هو من بيته و نسبه من بني هاشم حيث قال : ( ألا ترى غير مخبر لك لكن بنعمة اللّه احدّث أنّ قوما الخ ) . يعني بقوله غير مخبر لك أنك لست بأهل أن يخاطبك مثلي كما يستفاد من سياق الكلام ، و يحتمل بعيدا أن يفسّر بأنّ معاوية لما كان واقفا على ذلك قال الأمير عليه السّلام : غير مخبر لك ، و قوله عليه السّلام : لكن بنعمة اللّه احدّث يشير إلى قوله تعالى في سورة الضّحى : و أمّا بنعمة ربّك فحدّث . ثمّ قال عليه السّلام : ( قيل : سيّد الشّهداء ) يعني بسيّد الشّهداء عمّه حمزة بن عبد المطلب رضوان اللّه عليه استشهد في احد و القائل هو رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله حيث قال : إنه سيّد الشّهداء و خصّه بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه و مضى الكلام في شهادة حمزة و صلاة الرّسول صلى اللّه عليه و آله و حزنه عليه في المختار التاسع من باب الكتب ( ج 17 ) فراجع . ثمّ قال عليه السّلام : ( إنّ قوما قطعت أيديهم في سبيل اللّه ) يعني به أخاه جعفر بن أبي طالب رضوان اللّه عليه استشهد في غزوة موتة ، و قد تقدّم الكلام في شهادته و فضله في شرح المختار التاسع المقدّم ذكره أيضا فلا فائدة في الإعادة . ثمّ أخذ عليه السّلام بنقل فضائله و لكن أعرض عنه لما نهى اللّه عنه من تزكية المرء نفسه فقال : ( و لو لا ما نهى اللّه . الخ ) و أراد من قوله : ( لذكر ذاكر ) نفسه الشريفة ، ثمّ وصف الفضائل بأنها بلغت في الشهرة و الوضوح مبلغا تعرفها قلوب المؤمنين و لا تمجّها آذان السّامعين فلا ينكرها إلا عميان القلب و فاقد السمع و سياق الكلام يفيد أنّها لوضوحها لا يمكن لأحد إنكارها و إن كان غير مؤمن يثقل عليه سماعها حيث قال عليه السّلام : ( و لا تمجّها آذان السّامعين ) بعد قوله : تعرفها قلوب المؤمنين . [ 114 ] ثمّ قال عليه السّلام : ( فدع عنك من مالت به الرمية ) و في نهاية الأرب : الدنية مكان الرمية و هي الأمر الخسيس ، قيل : انه مثل و أصله أنّ رجلا قصد مكانا و قد عرض عليه في أثناء طريقه صيد فجعل يتبعه ليصطاده فشغله عمّا قصده . انتهى كلامه بترجمة منّا ، و لكنا لم نظفر به ، و الحقّ ما قاله آخر من أنّه كالمثل . و أمّا معناه : فقال الكيدريّ كما نقل عنه في البحار : ( ص 536 ج 8 ) أراد عليه السّلام أنّه يعني معاوية مطعون في نسبه و حسبه و أنّه أزاله عن مقام التّفاخر و التنافر مطاعن شهرت فيه . انتهى . ثمّ قال المجلسي ره : و كأنّه حمل على الرماية على السهام المرميّة . انتهى . و ذكر المولى صالح القزويني ره في شرحه على النهج بالفارسيّة في معناه ثلاثة أوجه : أوّلها أنّه عليه السّلام أراد بمن نفسه الشريفة أي دعنى يا معاوية و شأني أسكت عنك ، و لم يك قصدي أن افاخرك بمفاخري و لكن تعرّض لي صيد في أثناء الطريق فرميته بسهم . و ثالثها أنّه عليه السّلام أراد بمن معاوية أي دع ما يشغلك عن الحقّ و اترك ما لا يعنيك و دونك و شأنك و لا تكن كالّذي مالت به الرّمية ، و احتمله العالم الشارح البحريني قدّس سرّه أيضا حيث قال : و يحتمل أن تكون الإشارة إليه بعينه على طريقة قولهم : إيّاك أعني و اسمعي يا جارة . قلت : ما ذهب إليه الكيدري ره بعيد عن سياق العبارة و كذا الوجهان المذكوران سيّما الأوّل منهما ، و معنى العبارة المستفاد من سياقها أن أمير المؤمنين عليه السّلام يأمره عن عدم الإلتفات إلى أقوال أبناء الدّنيا كعمرو بن العاص و أضرابه أى دع قوما أمالتهم الدّنيا الدّنية عن سوّى الصراط ، و بعد نفسك عنهم . ثمّ قال عليه السّلام : ( فإنا صنائع ربّنا و الخلق بعد صنائع لنا ) إنما أتى بالفاء لأنّ كلامه هذا في مساق العلّة لقوله عليه السّلام : فدع عنك من مالت به الرّمية ، أي يجب عليك ترك هؤلاء القوم الّذين ضلّوا عن الطريق الحق ، و عليك باتباع سبيلنا لأنّا صنائع ربّنا فمن أعرض عنّا فقد حاد عن الصراط المستقيم . [ 115 ] ثمّ إنّ كلامه هذا فوق كلام البشر ، و فوق ما يحوم حوله العبارة عليه مسحة من العلم الإلهي و لعمري أنّه يجري مجرى التنزيلات السّماويّة ، لما اشتمل عليه من أمر الخلافة الحقّة ، و شأن الحجج الإلهيّة ، و أراه كأنّه موج برز من محيط عظيم ، أو نور سطع من عالم الأمر الحكيم ، لا يتفوّه به إلاّ من اصطنعه الله تعالى لنفسه ، و لا يقدر على الإتيان به إلاّ قائل إنّا لامراء الكلام و فينا تنشّبت عروقه و علينا تهدّلت غصونه ، و لا يليق هذا الإدّعاء إلاّ لنبيّ أو وصي نبيّ ، و لا يصدر نحو هذه الكلمة العليا إلاّ من قلب هو عيبة أسرار اللّه جلّ شأنه ، و بالجملة : آنكس كه ز كوى آشنائيست . داند كه متاع ما كجائيست و قد علمت في تفسير اللّغات أنّ فلانا صنيعي و صنيعتى أى اصطنعته و ربّيته و خرجته و فلان صنيعتك و مصطنعك ، قال عزّ من قائل : فلبثت سنين في أهل مدين ثمّ جئت على قدر يا موسى و اصطنعتك لنفسى ( طه 42 ) أى اصطفيتك و أخلصتك و استخلصتك لنفسى كما قال عزّ من قائل : و اذكر في الكتاب موسى إنّه كان مخلصاً ( مريم 52 ) و قال تعالى : قال يا موسى إنّي اصطفيتك على النّاس برسالاتى و بكلامي ( الاعراف 145 ) ، قال جار اللّه الزّمخشرى في الكشاف : هذا تمثيل لما خوّله من منزلة التقريب و التكريم و التكليم ، مثّل حاله بحال من يراه بعض الملوك لجوامع خصال فيه و خصائص أهلا لئلاّ يكون أحد أقرب منزلة منه إليه و لا يأتمن على مكنون سرّه سواه . انتهى . و قال النيسابورى في التفسير : اصطنعت فلانا لنفسى إذا اصطفيته و خرجته و معناه أحسنت إليه حتّى أنّه يضاف إليه ، و نقل نحوه عن القفّال أيضا ، ففيه غاية التشريف و التكريم . و إذا تأمّلت حقّ التأمل بما أهدينا إليك في الصنيعة تجدها تجري مجري الإصطفاء و الإجتباء و الإخلاص و الاستخلاص فتدبّر في قوله تعالى : و اذكر عبادنا إبراهيم و إسحاق و يعقوب اولى الأيدى و الأبصار . إنا أخلصناهم بخالصة . ذكرى الدار . و انهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ( ص : 48 ) . [ 116 ] و قوله تعالى : و الذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحقّ مصدّقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير . ثم أورثنا الكتاب الّذين اصطفينا من عبادنا ( فاطر : 32 ) . و قوله تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلا و من الناس إن الله سميع بصير ( الحج : 76 ) . و قوله تعالى : و تلك حجّتنا آتينا إبراهيم على قومه إلى قوله : و إسماعيل و اليسع و يونس و لوطا و كلا فضلنا على العالمين . و من آبائهم و ذريّاتهم و إخوانهم و اجتبيناهم و هديناهم إلى صراط مستقيم . و في قوله تعالى : اولئك الّذي أنعم الله عليهم من النبيّين من ذرية آدم و ممّن حملنا مع نوح و من ذريّة إبراهيم و إسرائيل و ممّن هدينا و اجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرّحمن خرّوا سجّدا و بكيّا ( مريم : 59 ) . و في قوله تعالى : كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء إنّه من عبادنا المخلصين ( يوسف : 25 ) ، و قوله تعالى : و قال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى ( يوسف : 55 ) . ثمّ لا يخفى عليك لطف كلامه عليه السّلام : فانا صنائع ربّنا و الناس بعد صنائع لنا من حيث إتيانه الضمير على هيئة الجمع دون المفرد يعنى أنّ جميع حجج اللّه اصطنعهم اللّه تعالى لنفسه و اصطفيهم بين سائر عباده فهو عليه السّلام ينادى بأعلى صوته بأنّ خليفة اللّه لا بدّ من أن يكون منصوبا من عنده تبارك و تعالى ، كما أفاد بكلامه هذا أعنى : فإنّا صنائع ربّنا أنهم معصومون أيضا و ذلك لأنّ اللّه لا يصطنع لنفسه من لا يكون معصوما و قد مرّ بحثنا عن ذلك مشبعا في الإمام و صفاته في شرح المختار 237 من باب الخطب ( ص 33 إلى 176 من ج 16 ) . و قد مضى كلام ثامن الأئمة عليهم السّلام في ذلك أيضا من أنّ العبد إذا اختاره اللّه عزّ و جلّ لامور عباده شرح صدره لذلك و أودع قلبه ينابيع الحكمة و ألهمه العلم إلهاما فلم يعى بعده بجواب و يحيّر فيه عن الصّواب و هو معصوم مؤيد موفق مسدّد قد أمن الخطايا و الزلل و العثار و خصّه اللّه بذلك ليكون حجّة على عباده و شاهده [ 117 ] على خلقه و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء و اللّه ذو الفضل العظيم . و أفاد عليه السّلام بكلامه : و الناس صنائع لنا ، أنّهم عليهم السّلام وسائط فيض اللّه تعالى بين اللّه المتعال و بين عباده ، و بقوله : إنّا صنائع ربّنا أنه لا واسطة بينهم و بين اللّه تعالى . ثمّ إنّ في سياق العبارة إيماء إلى أنّ من بلغ هذه المرتبة و المنزلة إكراما من الله تعالى حتّى اصطفيه اللّه و اتّخذه صنيعته و جعل النّاس صنائع له فكيف يجعل غيره عدله فضلا عن أن يجعل أفضل منه و إن كان للغير قرب صورى و ظاهرى من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و أنى هذه المنزلة الإعتبارية و من هو ممّن اجتبيه اللّه تعالى و اصطنعه لنفسه . ثمّ قال عليه السّلام : ( لم يمنعنا قديم عزّنا الخ ) معناه على نصب كلمتى قديم و عادىّ حتّى تكونا مفعولين و جملة أن خلطناكم مرفوعة على الفاعلية أنّ المخالطة بيننا و بينكم بالنكاح أى تزوّجنا فيكم و تزوّجكم فينا كفعل الأكفاء لا يمنعنا قديم عزّنا و لا عادى طولنا عليكم و الحال أنكم لستم في مرتبة المماثلة لنا و كيف يكونون الأكفاء لنا و الحال منّا النّبي و منكم المكذّب الخ . و أمّا معناه على رفع الكلمتين كما في نسخة الرضي رضوان اللّه عليه و هو الصّواب فأن يقال : إنّ قديم عزّنا و فضلنا عليكم لم يمنعنا أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا و أنكحنا فعل الأكفاء و الحال أنكم لستم في مرتبة الأكفاء لنا ، كما أنّ بيوت العزّ و الشرف يتأنّفون عن مخالطة من دونهم كذلك . أفاد الفاضل الشارح المعتزلى بقوله : و ينبغي أن يحمل قوله عليه السّلام قديم و عادى على مجازه لا على حقيقته لأنّ بني هاشم و بني امية لم يفترقا في الشرف إلاّ مذ نشأ هاشم بن عبد مناف و عرف بأفعاله و مكارمه و نشأ حينئذ أخوه عبد شمس و عرف بمثل ذلك و صار لهذا بنون و لهذا بنون و ادّعى كلّ من الفريقين أنه أشرف بالفعال من الاخر ثمّ لم يكن المدّة بين نشاء هاشم و اظهار محمّد صلى اللّه عليه و آله الدّعوة إلا نحو تسعين سنة و مثل هذه المدّة القصيرة لا يقال فيها قديم عزّنا و عادىّ طولنا فيجب أن يحمل اللفظ على مجازه لأنّ الأفعال الجميلة كما تكون عادية تكون [ 118 ] بكثرة المناقب و المآثر و المفاخر و إن كانت المدّة قصيرة ، و لفظة قديم ترد و لا يراد بها قدم الزمان بل من قولهم لفلان قدم صدق و قديم أثر أى سابقة حسنة . أقول : و يؤيده رواية صبح الأعشى : لم يمنعنا قديم عزّنا و مديد طولنا ، فان لفظة مديد قرينة على أنّ القديم ليس بمعناه المطابقي ، و يمكن أن يقال : إنّ للقديم توسّعا في المحاوراة كما يقال من قديم الدهر و من زمان قديم و ان لم يمض من الزمان إلاّ نحو تسعين سنة فلا يكون تجوّز على هذا الوجه . و قال العلاّمة المجلسى ره في البحار ( ص 536 ج 8 ) : و قد ظهر لك ممّا سبق أنّ بني اميّة لم يكن لهم نسب صحيح ليشاركوا في الحسب آباءه عليه السّلام ، مع أنّ قديم عزّهم لم ينحصر في النسب بل أنوارهم عليهم السّلام أوّل المخلوقات و من بدأ خلق أنوارهم إلى خلق أجسادهم و ظهور آثارهم كانوا معروفين بالعزّ و الشرف و الكمالات في الأرضين و السماوات يخبّر بفضلهم كلّ سلف خلفا و رفع اللّه ذكرهم في كل امة عزّا و شرفا ، انتهى كلامه ره . و أقول : قد ذكرنا نبذة من خلال بني هاشم و انموزجة من شيم بني امية في شرح المختار السابع عشر من باب الكتب ( من ص 257 إلى ص 270 ج 18 ) ، فراجع . ثمّ أخذ عليه السّلام في بيان عدم كون بني امية في مرتبة المماثلة لبني هاشم و نفي كونهم أهلا للمخالطة بقوله : ( و أنّى يكون ذلك كذلك و منا النبي و منكم المكذّب ) و المكذّب هو أبو سفيان صخر بن حرب كان عدوّ رسول اللّه و المكذّب له و ما أسلم آخر الأمر بل استسلم كما مضى الكلام في استسلام القوم في شرح كلام أمير المؤمنين عليه السّلام : و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة ما أسلموا و لكن استسلموا و أسرّوا الكفر فلمّا وجدوا أعوانا عليه أظهروه . ( المختار 16 من باب الكتب ص 190 ج 18 ) . و كان أبو سفيان أصل الشجرة الملعونة و ما من فتنة ظهرت من قريش على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و المسلمين إلاّ كان له قدم راسخ و سعي بالغ فيها ثمّ استسلم عام الفتح [ 119 ] إمّا رغبة و إمّا رهبة كما قال أمير المؤمنين علي عليه السّلام في المختار السابع عشر من هذا الباب ( ص 228 ج 18 ) : و لمّا أدخل اللّه العرب في دينه أفواجا و أسلمت له هذه الامة طوعا و كرها كنتم ممّن دخل في الدين إمّا رغبة و إمّا رهبة و راجع في ذلك إلى ص 224 من ج 18 أيضا ، و مات أبو سفيان في سنة 31 ه منافقا أعمى القلب و العينين ، و تقدم طائفة من رذائل شيمه في تفسير المختار السابع عشر من باب الكتب ( ص 265 ج 18 فراجع ) . قال الواقدى في المغازى ( ص 90 طبع مصر ) : و لما رجعت قريش إلى مكّة يعنى من غزوة بدر منهزمين قام فيهم أبو سفيان بن حرب فقال : يا معشر قريش لا تبكوا على قتلاكم و لا تنوح عليهم نائحة و لا يبكيهم شاعر و أظهروا الجلد و العزاء فإنكم إذا نحتم عليهم و بكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم ، فأكلكم ذلك عن عداوة محمّد و أصحابه ، مع أنّه إن بلغ محمّدا و أصحابه شمتوا بكم فيكون أعظم المصيبتين شماتتهم ، و لعلّكم تدركون ثاركم فالدّهن و النساء علىّ حرام حتّى أغزو محمّدا ، فمكثت قريش شهرا لا يبكيهم شاعر و لا تنوح عليهم نائحة . و قال غير واحد من شرّاح النهج : المكذّب هو أبو جهل ، كان أشدّ الناس عداوة للنّبي صلى اللّه عليه و آله ، قتل يوم بدر كافرا و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في حقّه لمّا قتل : إنّ هذا أعتى على اللّه من فرعون إنّ فرعون لمّا أيقن بالهلاك وحّد اللّه و إنّ هذا لمّا أيقن بالهلاك دعا بالّلات و العزّى . و قال الشارح البحرانى قدّس سرّه : المكذّب هو أبو جهل بن هشام و إليه الاشارة بقوله : و ذرنى و المكذبين الاية ( المزمل : 11 ) قيل نزلت في المطيبين ببدر و كانوا عشرة و هم : أبو جهل و عتبة و شيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس و نبيه و منبّه ابنا الحجّاج و أبو البخترى بن هشام و النّضر بن الحارث و الحارث بن عامر و أبيّ بن خلف و زمعة بن الأسود فذكر عليه السّلام النّبي صلى اللّه عليه و آله بفضيلته و هي النّبوة و ذكر أبا جهل برذيلته و هي تكذيبه ، انتهى كلامه ره . قلت : و سيأتي البيان في المطيّبين و حلفهم و حلف الفضول بعيد هذا . [ 120 ] قال ابن هشام في السيرة النّبوية ( ص 362 ج 1 ) في أبي جهل و ما أنزل اللّه تعالى فيه : و أبو جهل بن هشام لمّا ذكر اللّه عزّ و جل شجرة الزّقوم تخويفا بها لهم قال : يا معشر قريش ، هل تدرون ما شجرة الزّقوم الّتي يخوّفكم بها محمّد ؟ قالوا : لا ، قال : عجوة يثرب بالزّبد ، و اللّه لئن استمكنا منها لنتزقمنّها تزّقما فأنزل اللّه تعالى فيه : إن شجرة الزّقوم طعام الأثيم . كالمهل يغلى في البطون كغلى الحميم ، أى ليس كما يقول ، انتهى . أقول : المراد من التقابل بين منّا و منكم في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام هو التقابل بين بني هاشم و بني اميّة كما لا يخفى ، و أبو جهل لعنه اللّه تعالى و إن كان أعدا عدوّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و ألدّ خصامه و المكذّبين له لكنّه هو أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي من بني مخزوم بن مرّة من قريش فهو ليس من بني اميّة فلا يصحّ أن يفسّر قول أمير المؤمنين عليه السّلام و منكم المكذّب بأبي جهل لعنه اللّه تعالى و أىّ عار يلزم معاوية من هذا التفسير ؟ . ثمّ قال عليه السّلام : ( و منّا أسد اللّه و منكم أسد الأحلاف ) عنى بأسد اللّه حمزة بن عبد المطلب بن هاشم عمّ النّبي صلى اللّه عليه و آله سمّاه رسول اللّه بذلك لشجاعته و ذّبه عن دين اللّه . و في الاصابة لابن حجر : أسلم حمزة عليه السّلام في السنة الثانية من البعثة و لازم نصر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و هاجر معه ، شهد بدرا و أبلى في ذلك و قتل شيبة بن ربيعة و شارك في قتل عتبة بن ربيعة أو بالعكس ، و قتل طعيمة بن عدى و عقد له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لواء و أرسله فى سرّية فكان ذلك أوّل لواء عقد في الإسلام في قول المدائنى و استشهد باحد و كان ذلك في النصف من شوّال سنة ثلاث من الهجرة فعاش دون ستين ، و يقال إنه قتل باحد قبل أن يقتل أكثر من ثلاثين نفسا ، و لقبه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أسد اللّه و سمّاه سيّد الشهداء انتهى ما أردنا نقله منها . و في اسد الغابة : لمّا أسلم حمزة عرفت قريش أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قد عزّ و امتنع و أنّ حمزة سيمنعه فكفّوا عن بعض ما كانوا يتناولون منه ثمّ هاجر إلى [ 121 ] المدينة و شهد بدرا و أبلى فيها بلاء عظيما مشهورا إلى أن قال : و كان حمزة يعلم في الحرب بريشة نعامة ، و قاتل يوم بدر بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بسيفين و قال بعض اسارى الكفّار : من الرجل المعلم بريشة نعامة ؟ قالوا : حمزة ، قال : ذاك فعل بنا الأفاعيل ، و شهد احدا فقتل بها يوم السبت النصف من شوّال و كان قتل من المشركين قبل أن يقتل أحدا و ثلاثين نفسا منهم سباع الخزاعى قال له حمزة : هلم إلىّ يا ابن مقطعة البظور و كانت امّه ختّانة فقتله . قال : قال ابن إسحاق : كان حمزة يقاتل يومئذ بسيفين فقال قائل أىّ أسد هو حمزة فبينما هو كذلك إذ عثر عثرة وقع منها على ظهره فانكشف الدرع عن بطنه فزرقه وحشى الحبشى مولى جبير بن مطعم بحربة فقتله و مثّل به المشركون إلى أن قال : و روى جابر قال : لمّا رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله حمزة قتيلا بكى فلمّا رأى ما مثّل به شهق و قال : لو لا أن تجد صفيّة لتركته حتّى يحشر من بطون الطير و السباع ، وصفية هي امّ الزّبير و هي اخته ، انتهى ما أردنا من نقل كلامه . و أمّا اسد الأحلاف ، فقال بعض الشراح : هو أبو سفيان و قيل لأبي سفيان أسد الأحلاف لأنّه حالف الأحزاب على قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله حول المدينة و زلزل المؤمنون بمكانهم زلزالا شديدا إلى أن فرّق اللّه تعالى جمعهم كما حكاه في قوله : فأرسلنا عليهم ريحا و جنودا لم تروها . و تبعه الفاضل الشّيخ محمّد عبده قال : أسد اللّه حمزة ، و أسد الأحلاف أبو سفيان لأنّه حزب الأحزاب و حالفهم على قتال النبي في غزوة الخندق ، انتهى كلامه . قلت : هذا تفسير وجيه ملائم غير أنّ اسلوب الكلام يوجب أن يكون أسد الأحلاف ههنا غيره لما دريت أنّ أبا سفيان كان المكذّب فأسد الأحلاف غيره . و قال العالم الشارح البحراني : هو أسد بن عبد العزّي و الأحلاف هم عبد مناف و زهره و أسد و تيم و الحارث بن فهر و سمّوا الأحلاف لأنّ بني قصى أرادوا أن ينتزعوا بعض ما كان بأيدى بني عبد الدار من اللواء و الندوة و الحجابة و الرفادة [ 122 ] و هي كلّ شي‏ء كان فرضه قصى على قريش لطعام الحاج في كلّ سنة و لم يكن لهم إلاّ السقاتة فتحالفوا على حربهم و أعدوا للقتال ثمّ رجعوا عن ذلك ناكصين و أقرّوا ما كان بأيديهم ، انتهى كلامه . قلت : أسد بن عبد العزّى هو جدّ خديجة زوجة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لأنّها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصىّ بن كلاب بن مرّة بن كعب ابن لؤىّ بن غالب بن فهر ، كما في السيرة النّبوية لابن هشام ( ص 189 ج 1 من طبع مصر 1375 ه ) . و الرفادة على التفصيل مذكورة في السيرة النّبوية لابن هشام أيضا ( ص 130 ج 1 ) و قد نقلنا نبذة من الكلام في السقاية و الرفادة في شرح المختار السابع عشر من باب الكتب ( ص 264 ج 18 ) . ثمّ ذكر ابن هشام بعد الكلام في الرفادة حلف المطيّبين ثمّ حلف الفضول قال : قال ابن إسحاق ثمّ إنّ قصىّ بن كلاب هلك فأقام أمره في قومه و في غيرهم بنوه من بعده فاختطّوا مكّة رباعا ، بعد الذي كان قطع لقومه بها ، فكانوا يقطعونها في قومهم و في غيرهم من حلفائهم و يبيعونها فأقامت على ذلك قريش معهم ليس اختلاف و لا تنازع . ثمّ إنّ بنى عبد مناف ابن قصىّ : عبد شمس و هاشما و المطلب و نوفلا أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيدى بني عبد الدار بن قصىّ ممّا كان قصى جعل إلى عبد الدار من الحجابة و اللواء و السقاية و الرفادة و رأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم ، و فضلهم في قومهم فتفرّقت عند ذلك قريش ، فكانت طائفة مع بني عبد مناف على رأيهم يرون أنهم أحقّ به من بني عبد الدار لمكانهم في قومهم ، و كانت طائفة مع بني عبد الدار يرون أن لا ينزع منهم ما كان قصىّ جعل إليهم . فكان صاحب أمر بنى عبد مناف عبد شمس بن عبد مناف و ذلك أنّه كان أسنّ بنى عبد مناف و كان صاحب أمر بنى عبد الدار عامر بن هاشم بن عبد مناف ابن عبد الدار ، فكان بنو أسد بن عبد العزّي بن قصىّ ، و بنو زهرة بن كلاب [ 123 ] و بنو تيم بن مرّة بن كعب ، و بنو الحارث بن فهر بن النّضر ، مع بنى عبد مناف . و كان بنو مخزوم بن يقظة بن مرّة ، و بنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب و بنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب ، و بنو عدىّ بن كعب مع بني عبد الدار و خرجت عامر بن لؤىّ و محارب بن فهر فلم يكونوا مع واحد من القريقين . فعقد كلّ قوم على أمرهم حلفا مؤكّدا ، على أن لا يتخاذلوا و لا يسلم بعضهم بعضا ما بلّ بحرصوفة يريد إلى الأبد ، و صوف البحر : شي‏ء على شكل الصوف الحيواني ، واحدته : صوفة ، يقال : لا آتيك ما بلّ بحرصوفة ، أو ما بلّ البحرصوفة يريد لا آتيك أبدا . فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فيزعمون أنّ بعض نساء بني عبد مناف أخرجتها لهم فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة ، ثمّ غمس القوم أيديهم فيها فتعاقدوا و تعاهدوا هم و حلفاؤهم ، ثمّ مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم فسمّو المطيّبين . و تعاقد بنو عبد الدار و تعاهدوا هم و حلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكّدا على أن لا يتخاذلوا ، و لا يسلم بعضهم بعضا فسمّوا الأحلاف . ثمّ سوند بين القبائل و لزّ بعضها ببعض فعبيت بنو عبد مناف لبني سهم ، و عبيت بنو أسد لبني عبد الدّار ، و عبيت زهرة لبني جمح ، و عبيت بنو تميم لبني مخزوم و عبيت بنو الحارث بن فهر لبني عدي بن كعب . ثمّ قالوا : لتفن كلّ قبيلة من اسند إليها . فبينا النّاس على ذلك قد أجمعوا للحرب إذ تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية و الرفادة ، و أن تكون الحجابة و اللّواء و الندوة لبني عبد الدّار كما كانت ، ففعلوا و رضى كلّ واحد من الفريقين بذلك و تحاجز النّاس عن الحرب ، و ثبت كلّ قوم مع من حالفوا ، فلم يزالوا على ذلك حتّى جاء اللّه تعالى بالإسلام ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : ما كان من حلف في الجاهلية فإنّ الإسلام لم يزده إلاّ شدّة . [ 124 ] حلف الفضول و سبب تسميته كذلك قال ابن هشام : و أمّا حلف الفضول : فحدّثني زياد بن عبد اللّه البكائي ، عن محمّد بن إسحاق قال : تداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد اللّه بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤى ، لشرفه و سنّه فكان حلفهم عنده ، بنو هاشم ، و بنوا المطّلب ، و أسد بن عبد العزّى ، و زهرة بن كلاب ، و تيم بن مرّة فتعاقدوا و تعاهدوا على أن لا يجدوا بمكّة مظلوما من أهلها و غيرهم ممّن دخلها من سائر النّاس إلاّ قاموا معه ، و كانوا على من ظلمه حتّى تردّ عليه مظلمة فسمّت قريش ذلك الحلف حلف الفضول . قال : قال ابن إسحاق : و حدّثني محمّد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيميّ أنه سمع طلحة بن عبد اللّه بن عوف الزّهري يقول : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : لقد شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلفا ما احبّ أنّ لي به حمر النّعم و لو ادعى به في الإسلام لأجبت . قال : قال ابن إسحاق : و حدّثني يزيد بن عبد اللّه بن اسامة بن الهادي اللّيثيّ : أنّ محمّد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ حدّثه : أنّه كان بين الحسين ابن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام ، و بين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، و الوليد يومئذ أمير على المدينة أمّره عليها عمّه معاوية بن سفيان منازعة في مال كان بينهما بذي المروة ، فكان الوليد تحامل على الحسين عليه السّلام في حقّه لسلطانه ، فقال له الحسين : احلف باللّه لتنصفنّي من حقّي أو لاخذنّ سيفي ، ثمّ لأقومنّ في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ثمّ لأدعونّ بحلف الفضول . قال : فقال عبد اللّه بن الزبير و هو عند الوليد حين قال الحسين عليه السّلام ما قال : و أنا أحلف باللّه لئن دعا به لاخذنّ سيفي ثمّ لأقومنّ معه حتّى ينصف من حقّه أو نموت جميعا ، قال : فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهريّ فقال مثل ذلك و بلغت عبد الرّحمن بن عثمان بن عبيد اللّه التّيمي فقال مثل ذلك فلمّا بلغ ذلك [ 125 ] الوليد بن عتبة أنصف الحسين عليه السّلام من حقّه حتّى رضى . قال : قال ابن إسحاق : و حدّثني يزيد بن عبد الله بن اسامة بن الهادي اللّيثي عن محمّد بن إبراهيم بن الحارث التّيمي ، قال : قدم محمّد بن جبير بن مطعم بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف و كان محمّد بن جبير أعلم قريش على عبد الملك ابن مروان بن الحكم حين قتل ابن الزبير و اجتمع النّاس على عبد الملك ، فلمّا دخل عليه قال له : يا أبا سعيد أ لم نكن نحن و أنتم ، يعنى بني عبد شمس ابن عبد مناف ، و بني نوفل بن عبد مناف ، في حلف الفضول ؟ قال : أنت أعلم ، قال عبد الملك : لتخبرنى يا أبا سعيد بالحقّ من ذلك فقال : لا و اللّه ، لقد خرجنا نحن و أنتم منه قال : صدقت ، تمّ خبر حلف الفضول . و المنقول عن الروض الأنف في سبب تسمية هذا الحلف بهذا الاسم أنّ جرهما في الزمن الأوّل ، قد سبقت قريشا إلى مثل هذا الحلف فتحالف منهم ثلاثة هم و من تبعهم أحدهم : الفضل بن فضالة ، و الثانى : الفضل بن وداعة ، و الثالث : فضيل بن الحارث و قيل : بل هم : الفضيل بن شراعة ، و الفضل بن وداعة ، و الفضل بن قضاعة ، فلمّا أشبه حلف قريش هذا حلف هولاء الجرهميين سمّى حلف الفضول . و قيل : بل سمّى كذلك لأنهم تحالفوا أن تردّ الفضول على أهلها ، و ألا يغزو ظالم مظلوما . و كان حلف الفضول هذا قبل البعث بعشرين سنة ، و كان أكرم حلف و أشرفه و أوّل من تكلّم به و دعا إليه الزبير بن عبد المطّلب ، و كان سببه أنّ رجلا من زبيد قدم مكّة ببضاعة ، فاشتراها منه العاصى بن وائل ، و كان ذا قدر بمكّة و شرف فحبس عنه حقّه ، فاستعدى عليه الزبيدى الأحلاف : عبد الدار ، و مخزوما ، و جمح و سهما ، و عدىّ بن كعب ، فأبوا أن يعينوه على العاصى ، و زبروه ، فلمّا رأى الزبيدى الشرّ ، أوفى على أبى قبيس عند طلوع الشمس ، و قريش في أنديتهم حول الكعبة فصاح بأعلى صوته : [ 126 ] يا آل فهر لمظلوم بضاعته ببطن مكّة نائى الدار و النفر و محرم أشعث لم يقض عمرته يا للرجال و بين الحجر و الحجر إنّ الحرام لمن تمت كرامته و لا حرام لثوب الفاجر الغدر فقام في ذلك الزبير بن عبد المطّلب ، و قال : ما لهذا مترك ، فاجتمعت هاشم و زهرة ، و تيم بن مرّة ، في دار ابن جدعان ، فصنع لهم طعاما و تعاقدوا ، و كان حلف الفضول ، و كان بعدها أن أنصفوا الزبيدى من العاصى ، انتهى ما عن الروض الأنف . و الغرض من نقل حلف المطيّبين و حلف الفضول من السيرة أن يعلم أنّ تفسير أسد الأحلاف بأسد بن عبد العزّي ليس بصواب و كأنّ الشارح البحراني تبع في هذا التفسير قطب الدّين الراوندي رضوان اللّه عليه ، و قد نقل كلامه ابن أبي الحديد في شرحه على النهج ثمّ خطّاه و الحقّ مع ابن أبي الحديد في المقام ، قال : قال الراوندي : المكذّب من كان يكذّب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله عنادا من قريش و أسد الأحلاف أسد بن عبد العزّى قال : لأنّ بني أسد بن عبد العزّى كانوا أحد البطون الّذين اجتمعوا في حلف المطيّبين و هم بنو أسد بن عبد العزّي ، و بنو عبد مناف ، و بنو تميم بن مرة ، و بنو زهرة ، و بنو الحارث بن فهر . ثمّ قال ابن أبي الحديد : هذا كلام طريف جدّا لأنّه لم يلحظ أنه يجب أن يجعل بازاء النّبي صلى اللّه عليه و آله مكذّب من بنى عبد شمس فقال : المكذّب من كذّب النّبي صلى اللّه عليه و آله من قريش عنادا و ليس كلّ من كذّبه صلى اللّه عليه و آله من قريش أن يعيّر معاوية به ، ثمّ قال : أسد الأحلاف أسد بن عبد العزّي و أىّ عار يلزم معاوية من ذلك ؟ ثمّ إنّ بنى عبد مناف كانوا في هذا الحلف و على و معاوية من بني عبد مناف و لكنّ الراوندي يظلم نفسه بتعرّضه لما لا يعلمه ، انتهى كلام ابن أبي الحديد . و الصواب أنّ أسد الأحلاف هو عتبة بن ربيعة ، قال الواقدي في الجزء الثالث من غزوة بدر من كتابه في مغازى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ( ص 49 من طبع مصر 1367 ه ) : [ 127 ] و المشركون ينظرون على صفوفهم و هم يرون أنهم ظاهرون ، فدنا النّاس بعضهم من بعض فخرج عتبة و شيبة و الوليد حتّى فصلوا من الصف ثمّ دعوا إلى المبارزة ، خرج إليهم فتيان ثلاثة من الأنصار و هم بنو عفراء معاذ و معوذ و عوف بنو الحارث ، و يقال ثالثهم عبد اللّه بن رواحة ، و الثبت عندنا أنهم بنو عفراء فاستحيى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله من ذلك ، و كره أن يكون أوّل قتال لقى المسلمون فيه المشركين في الأنصار و أحبّ أن تكون الشوكة لبني عمّه و قومه ، فأمرهم فرجعوا إلى مصافّهم و قال لهم خيرا . ثمّ نادى منادي المشركين : يا محميد أخرج لنا الأكفاء من قومنا ، فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : يا بني هاشم قوموا فقاتلوا بحقّكم الّذي بعث اللّه به نبيّكم إذ جاؤا بباطلهم ليطفئوا نور اللّه . فقام حمزة بن عبد المطّلب ، و علي بن أبي طالب ، و عبيدة بن الحارث بن المطّلب بن عبد مناف فمشوا إليهم . فقال عتبة : تكلموا نعرفكم و كان عليهم البيض فأنكروهم فإن كنتم أكفاء قاتلناكم . فقال حمزة بن عبد المطّلب : أسد اللّه و أسد رسوله . قال عتبة : كفؤ كريم . ثمّ قال عتبة : و أنا أسد الحلفاء ، و من هذان معك ؟ قال : عليّ بن أبي طالب ، و عبيدة بن الحارث ، قال : كفؤان كريمان . ثمّ قال الواقديّ : قال ابن أبي الزناد ، عن أبيه قال : لم أسمع لعتبة كلمة قطّ أوهن من قوله : أنا أسد الحلفاء يعني حلفاء الأجمة . ثمّ قال عتبة لابنه : قم يا وليد ، فقام الوليد ، و قام إليه علىّ عليه السّلام و كان أصغر النفر فقتله على عليه السّلام ، ثمّ قام عتبة ، و قام إليه حمزة فاختلفا ضربتين فقتله حمزة رضي اللّه عنه ، ثمّ قام شيبة و قام إليه عبيدة بن الحارث و هو يومئذ أسنّ أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فضرب شيبة رجل عبيدة بذباب السيف فأصاب عضلة ساقه فقطعها ، و كرّ حمزة و علىّ على شيبة فقتلاه ، و احتملا عبيدة فحازاده إلى الصفّ و مخّ ساقه [ 128 ] يسيل فقال عبيدة : يا رسول اللّه ألست شهيدا ؟ قال : بلى ، قال : أما و اللّه لو كان أبو طالب حيّا لعلم أنا أحقّ بما قال منه حين يقول : كذبتم و بيت اللّه نخلى محمّدا و لمّا نطاعن دونه و نناضل و نسلمه حتّى نصرع حوله و نذهل عن أبنائنا و الحلائل إلى آخر ما ذكره الواقدي في المغازي . و عتبة هذا هو جدّ معاوية من قبل امّه فانّ هندا امّ معاوية هي بنت عتبة ابن ربيعة بن عبد شمس ، ففي المقابلة في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام : منّا أسد اللّه و منكم أسد الأحلاف بحمزة من بني هاشم و عتبة من بني اميّة جدّ معاوية ممّا لا ينبغى أن يرتاب فيه و هذا هو التفسير الصّحيح بلا مدافع . و الحلفاء في قول عتبة هل هو مفرد أو جمع ، فذهب أبو الزناد إلى أنّه مفرد فهي بفتح الحاء و سكون اللاّم ففى أقرب الموارد : الحلفاء نبت أطرافه محدّدة كأنّها أطراف سعف النخل و الخوص ينبت في مغايض الماء و النزوز الواحدة حلفة مثل قصبة و قصباء ، و طرفة و طرفاء ، و قيل : واحدته حلفاء ، قال سيبويه : الحلفاء واحد و جميع و كذلك طرفاء و بهمى و شكاعى واحدة و جميع ، و من ذلك أنا الّذي في الحلفاء ، أراد أنا الأسد لأنّ مأوى الأسد الاجام و منابت الحلفاء . انتهى . و في منتهى الأرب ، حلفاء كحمراء و حلف محرّكة : كياه دوخ ، و هذا هو المراد من قوله : يعنى حلفاء الأجمة . و أمّا على الجمع فهي جمع الحليف أي المحالف قال أبو ذؤيب : فسوف تقول إن هي لم تجدنى أخان العهد أم أثم الحليف قال ابن أبي الحديد بعد نقل ما نقلناه عن الواقدي : قلت : قد روى هذه الكلمة على صيغة اخرى : و أنا أسد الحلفاء ، و روى أنا أسد الأحلاف . ثمّ قال : قالوا في تفسيرهما : أراد أنا سيّد أهل الحلف المطيّبين ، و كان الّذين حضروه بني عبد مناف و بني أسد بن عبد العزّى و بني تيم و بني زهرة و بني الحارث [ 129 ] ابن فهر خمس قبائل . قال : و ردّ قوم هذا التأويل فقالوا : إنّ المطيّبين لم يكن يقال لهم الحلفاء و لا الأحلاف و إنّما ذلك لقب خصومهم و أعدائهم الّذين وقع التحالف لأجلهم و هم بنو عبد الدار و بنو مخزوم و بنو سهم و بنو جمح و بنو عدىّ بن كعب خمس قبائل . قال : و قال قوم في تفسيرهما : إنّما عنى حلف الفضول و كان بعد حلف المطيّبين بزمان و شهد حلف الفضول رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و هو صغير في دار ابن جدعان ثمّ نقل قصّة حلف الفضول فقال : و هذا التفسير أيضا غير صحيح لأنّ بني عبد الشمس لم يكونوا في حلف الفضول فقد بان أنّ ما ذكره الواقدى أصحّ و أثبت انتهى كلامه . و قد نقلنا كلام ابن أبي الحديد من الجزء الرابع عشر من شرحه على الكتاب التاسع من النهج أوّله : و من كتاب له عليه السّلام إلى معاوية : فأراد قومنا قتل نبيّنا و اجتياح أصلنا الخ ( ص 178 ج 2 من الطبع على الحجر ) . قلت : ما قال ابن الحديد من أنه روى هذه الكلمة على صيغة اخرى فالاولى منهما أعنى و أنا أسد الحلفاء على صيغة الجمع و مفرده حليف ، و الثانية منهما أعنى أنا أسد الأحلاف مطابق لما في نهج البلاغة و لا بعد أن يقال : إذا دار الأمر بين ما اختاره الرّضي و بين ما في النسخ الاخرى فما اختاره الرّضى فهو الأقوى لأنّه رضوان اللّه عليه متضلّع في البلاغة و خرّيت هذه الصناعة فينبغي أن يختار صيغة أسد الأحلاف كما اختارها . و يبقي الكلام حينئذ في تفسير أسد الأحلاف أعنى بيان المراد منه في المقام فانّ تفسيره بالوجهين السّابقين أعنى بحلف المطيّبين و حلف الفضول كما نقلهما ابن أبي الحديد عن القوم ليس على ما ينبغي ، و أرى أنّ الصواب في تفسيره المناسب للمقام هو ما أفاده الفاضل أحمد زكى صفوت في جمهرة رسائل العرب ( ص 450 ج 1 ) حيث قال بعد نقل كلام ابن أبي الحديد المذكور آنفا : غير أنّ ابن أبي الحديد مع ما ذكره من تفنيد هذين التفسيرين ، لم يبيّن [ 130 ] المراد بالأحلاف أو الحلفاء في رواية من روى « أنا أسد الأحلاف » و « أنا أسد الحلفاء جمعا » و أقول : إنّنا إذا بحثنا عمّن قتلوا من مشركى قريش يوم بدر وجدناهم : من بني عبد شمس بن عبد مناف ، و من بنى نوفل بن عبد مناف ، و من بني أسد بن عبد العزّى ابن قصىّ ، و من بنى عبد الدار بن قصىّ ، و من بني تيم بن مرّة بن كعب بن لؤى و من بنى مخزوم بن يقظة بن مرّة ، و من بني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب ابن لؤى ، و من بني سهم بن عمرو بن هصيص ، و من بنى عامر بن لؤى ، ( راجع كتب السيرة ) أى انّ هذه البطون من قريش كانت قد تآزرت و اتّفقت كلمتها على حرب محمّد صلى اللّه عليه و آله و إن شئت فقل إنّهم قد تحالفوا على قتاله و إن لم ينقل إلينا التاريخ أنّهم قد عقدوا بينهم على ذلك حلفا بمعناه الأخصّ ثمّ و لوا أمرهم عتبة ابن ربيعة فكان قائدهم و صاحب حربهم ، فهو إذ يقول : « أنا أسد الأحلاف » يبغي أن يقول أنّه أسد هذه البطون القرشية المتناصرة على قتال المسلمين انتهى كلامه . قلت : و يؤيده ما نقله الواقدي في المغازى ( ص 45 ) بعد نقل واقعة : أنّ حكيم بن حزام أتى عتبة بن ربيعة فقال : يا أبا الوليد أنت كبير قريش و سيّدها و المطاع فيها فهل لك أن لا تزال منها بخير آخر الدّهر مع ما فعلت يوم عكاظ و عتبة يومئذ رئيس الناس إلى أن قال : ثمّ جلس عتبة على جمله فسار في المشركين من قريش يقول : يا قوم أطيعونى ، الخ . و روى البخارى في صحيحه بعدّة طرق عن أبي مجلز ، عن قيس بن عباد عن أبي ذرّ رضوان اللّه عليه قال : نزلت « هذان خصمان اختصموا في ربّهم » في ستّة من قريش برزوا يوم بدر : عليّ عليه السّلام و حمزة و عبيدة بن الحارث ، و شيبة و عتبة ابنى ربيعة و الوليد بن عتبة ، فراجع إلى ( ص 95 ) من الجزء الخامس منه . ثمّ قال عليه السّلام : ( و منّا سيّدا شباب أهل الجنّة و منكم صبية أهل النار ) سيّدا شباب أهل الجنّة هما الحسن و الحسين عليهما السّلام كما نصّ جدهما رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بذلك و قد أغنانا شهرته و استفاضته بين الفريقين إن لم نقل ببلوغه إلى حدّ التواتر عن نقل [ 131 ] الروايات الواردة في ذلك و إن أبيت إلاّ نقلها فنقول : كفى كلام أبيهما أمير المؤمنين علي عليه السّلام في ذلك حجّة أوّلا . و ثانيا قد روى أحمد في المسند قال : حدّثنا أبو نعيم ، قال : حدّثنا أبو نعيم قال : حدّثنا سفيان عن يزيد بن أبي زياد ، عن أبي نعيم ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ، و قد أخرجه الترمذي أيضا ، و قال : هذا حديث حسن صحيح . ( نقله سبط ابن الجوزى في التذكرة ، ص 133 من الطبع الرحلي ) . و في مطالب السؤل في مناقب آل الرسول لابن طلحة الشافعي : و منها ما رواه الترمذي بسنده عن أبي سعيد قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة . ( ص 65 من الطبع الرحلي ) . و فيه أيضا ( ص 71 ) و منه حديث حذيفة بن اليمان رض أخرجه الترمذي في صحيحه يرويه عنه بسنده ، و قد تقدّم طرف منه في فضائل فاطمة عليها السّلام أنّ حذيفة قال لامّه : دعيني آت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فاصلّى معه و أسئله أن يستغفر لي ذلك ، فأتيته فصلّيت معه المغرب ، ثمّ قام فصلّى حتّى صلّى العشاء ، ثمّ انفتل فأتبعته فسمع صوتي فقال : من هذا حذيفة ؟ قلت : نعم ، قال : ما حاجتك غفر اللّه لك و لامّك ؟ إنّ هذا ملك لم ينزل إلى الأرض قطّ قبل هذه اللّيلة استأذن ربّه أن يسلّم علىّ و يبشرني أنّ فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة ، و أنّ الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة . إلى أن قال : و منه ما نقله الامام محمّد بن إسماعيل البخاري و الترمذي رضى اللّه عنهما بسندهما كلّ منهما في صحيحه عن ابن عمر و سئله رجل عن دم البعوض ، فقال : ممّن أنت ؟ فقال : من أهل العراق ، فقال : انظروا إلى هذا يسئلني عن دم البعوض و قد قتلوا ابنى النّبيّ صلى اللّه عليه و آله و سمعت النّبيّ صلى اللّه عليه و آله يقول : هما ريحانتاي من الدّنيا . و روي أنّه سئله عن المحرم يقتل الذّباب ، فقال : يا أهل العراق تسألونا [ 132 ] عن قتل الذّباب و قد قتلتم ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، و ذكر الحديث و في آخره : و هما سيّدا شباب أهل الجنّة . و في الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي : أخرج الترمذي و الحاكم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ( ص 82 من طبع مصر ) . قال ابن الأثير في اسد الغابة ( ص 11 ج 2 ) في معرفة الإمام المجتبى الحسن بن عليّ عليهما السّلام : أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن أحمد الأنماطي أخبرنا أبو طاهر محمّد بن عبد الرّحمن المخلص ، أخبرنا عبد اللّه بن محمّد البغوي ، أخبرنا داود بن رشيد ، أخبرنا مروان ، أخبرنا الحكم بن عبد الرّحمن بن أبي نعيم البجلي عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة الخبر . و قال أبو جعفر الطبري في التاريخ ( ص 328 ج 7 من طبع ليدن ) : قال أبو مخنف : حدّثني عبد اللّه بن عاصم قال : حدّثني الضحّاك المشرقي ، لمّا دنا منه يعني من أبي عبد اللّه أحد سيّدي شباب أهل الجنّة الحسين بن عليّ عليه السّلام في واقعة الطف القوم دعا براحلته فركبها ثمّ نادى بأعلى صوته بصوت عال دعاء يسمع جلّ النّاس : أيّها النّاس اسمعوا قولى و لا تعجلوني حتّى أعظكم بما لحقّ لكم علي و حتّى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم فإن قبلتم عذري و صدّقتم قولي و أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد ، و لم يكن لكم علىّ سبيل ، و إن لم تقبلوا منّى العذر و لم تعطوا النصف من أنفسكم « فأجمعوا أمركم و شركاء كم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ثمّ اقضوا إلىّ و لا تنظرون . إنّ ولي اللّه الّذي نزّل الكتاب و هو يتولّى الصّالحين » . قال : فلمّا سمع أخواته كلامه هذا صحن و بكين و بكى بناته فارتفعت أصواتهنّ فأرسل إليهنّ أخاه العبّاس بن علي و عليّا ابنه ، و قال لهما : اسكتاهنّ [ 133 ] فلعمري ليكثرنّ بكاؤهنّ . قال : فلمّا ذهبا ليسكتاهنّ قال : لا يبعد ابن عبّاس ، قال : فظننا انّه إنما قالها حين سمع بكاؤهنّ لأنه قد كان نهاه أن يخرج بهنّ ، فلمّا سكتن حمد اللّه و أثنى عليه و ذكر اللّه بما هو أهله و صلّى على محمّد صلى اللّه عليه و آله و على ملائكته و أنبيائه و ذكر من ذلك ما اللّه أعلم و ما لا يحصى ذكره ، قال : فو اللّه ما سمعت متكلّما قطّ قبله و لا بعده أبلغ في منطق منه ، ثمّ قال : أمّا بعد فانسبوني فانظروا من أنا ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم و عاتبوها فانظروا هل يحلّ لكم قتلى و انتهاك حرمتي ؟ أ لست ابن بنت نبيكم صلى اللّه عليه و آله و ابن وصيّه و ابن عمّه و أوّل المؤمنين باللّه و المصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه ؟ أو ليس حمزة سيّد الشّهداء عمّ أبي ؟ أو ليس جعفر الشّهيد الطيار ذو الجناحين عمّي ؟ أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال لي و لأخي : هذان سيّدا شباب أهل الجنّة فان صدّقتموني بما أقول و هو الحقّ ، و اللّه ما تعمّدت كذبا مذ علمت أنّ اللّه يمقت عليه و يضرّ به من اختلقه ، فإن كذّبتموني فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم سلوا جابر بن عبد اللّه الأنصاري ، أو أبا سعيد الخدري ، أو سهل بن سعد الساعدي ، أو زيد بن أرقم ، أو أنس بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لي و لأخي ، أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي الخبر . قلت : قوله عليه السّلام : ابن وصيّه ينادى بأعلى صوته بأنّ أباه أمير المؤمنين عليّا عليه السّلام يعرف بالوصي ، و قد مضى كلامنا و نقل الأشعار من سنام الصحابة و المسلمين في شرح المختار 236 من باب الخطب ( ص 19 ج 17 ) فراجع . قوله عليه السّلام : و أوّل المؤمنين به و المصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه و قد مضى كلامنا أنه عليه السّلام كان أوّل النّاس إسلاما في شرح المختار التاسع من باب الكتب ( ص 345 ج 17 ) . ثمّ إنّه صلى اللّه عليه و آله قال : إنهما سيّدا شباب أهل الجنّة لأنّ أهل الجنّة كلّهم شبّان [ 134 ] و ذلك لأنّها من عالم الأمر و لا يتطرق إليها أحكام عالم الخلق من الهرم و الوهن و نحوهما ألا ترى أنّ اللّه تعالى قال : و من نعمره ننكّسه في الخلق أفلا يعقلون ( يس : 69 ) ، و كأنّ التعبير بالشباب من حيث انّ الدار الاخرة لهى الحيوان ، و أنّها أقوى وجودا من الدار الاولى و آثار الوجود فيها أشدّ و أكثر ، نظير ما رواه ثقة الإسلام الكليني قدس سرّه في الكافي عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام قال لرجل ما الفتى عندكم ؟ فقال له : الشابّ ، فقال : لا ، الفتى المؤمن إنّ أصحاب الكهف كانوا شيوخا فسمّاهم اللّه عزّ و جل فتية بايمانهم ( الوافي ص 39 ج 3 ) . و قد روى عن النّبي صلى اللّه عليه و آله : أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم و لا تبلى ثيابهم ، أتى به السيوطي في الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير . و جاء في الأثر أنّ عجوزا من الأنصار قالت : يا رسول اللّه ادع اللّه بالمغفرة فقال لها : أما علمت أنّ الجنة لا تدخلها العجائز فصرخت فتبسّم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و قال لها : أما قرأت قول اللّه تعالى : إنّا أنشأناهنّ إنشاء . فجعلناهنّ أبكارا . عربا أترابا . و يناسب المقام نقل احتجاج مروىّ في كتاب الاحتجاج للطبرسي ره رواه في باب احتجاج أبي جعفر محمّد بن على الثاني عليهما السّلام قال : و روى أنّ المأمون بعد ما زوّج ابنته امّ الفضل أبا جعفر عليه السّلام كان في مجلس و عنده أبو جعفر عليه السّلام و يحيى بن أكثم و جماعة كثيرة فقال له يحيى بن أكثم : ما تقول يا ابن رسول اللّه في الخبر الذي روى أنّه نزل جبرئيل عليه السّلام على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و قال : يا محمّد إنّ اللّه عزّ و جلّ يقرئك السلام و يقول لك : سل أبا بكر هل هو عنّى راض فإنّى عنه راض . فقال أبو جعفر عليه السّلام : لست بمنكر فضل أبي بكر و لكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الّذي قاله رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في حجّة الوداع : قد كثرت علىّ الكذّابة و ستكثر فمن كذب علىّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النّار فاذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله عزّ و جلّ و سنّتى فما وافق كتاب اللّه [ 135 ] و سنّتى فخذوا به و ما خالف كتاب اللّه و سنّتى فلا تأخذوا به ، و ليس يوافق هذا الخبر كتاب اللّه تعالى قال اللّه تعالى : و لقد خلقنا الانسان و نعلم ما توسوس به نفسه و نحن أقرب إليه من حبل الوريد فاللّه عزّ و جل خفى عليه رضا أبي بكر من سخطه حتّى سأل عن مكنون سرّه هذا مستحيل في العقول . ثمّ قال يحيى بن أكثم : و قد روى أنّ مثل أبي بكر و عمر في الأرض كمثل جبرئيل و ميكائيل في السماء . فقال عليه السّلام : و هذا أيضا يجب أن ينظر فيه لأنّ جبرئيل و ميكائيل ملكان للّه مقرّبان لم يعصيا اللّه قط و لم يفارقا طاعته لحظة واحدة ، و هما قد أشركا باللّه عزّ و جل و إن أسلما بعد الشرك فكان أكثر أيّامهما الشرك باللّه فمحال أن يشبها بهما . قال يحيى : و قد روى أيضا أنهما سيّدا كهول أهل الجنّة فما تقول فيه ؟ . فقال عليه السّلام : و هذا الخبر محال أيضا لأنّ أهل الجنّة كلهم يكونون شابا و لا يكون فيهم كهل ، و هذا الخبر وضعه بنو اميّة لمضادّة الخبر الّذي قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في الحسن و الحسين : بأنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة . فقال يحيى بن أكثم : و روى أنّ عمر بن الخطّاب سراج أهل الجنّة . فقال عليه السّلام : و هذا أيضا محال لأنّ في الجنّة ملائكة اللّه المقرّبين و آدم و محمّد و جميع الأنبياء و المرسلين لا تضي‏ء بأنوارهم حتّى تضي‏ء بنور عمر . فقال يحيى : و قد روى أنّ السكينة تنطق على لسان عمر . فقال عليه السّلام : لست بمنكر فضل عمر و لكن أبا بكر أفضل من عمر ، فقال على رأس المنبر : إنّ لي شيطانا يعترينى فاذا ملت فسدّونى . فقال يحيى : قد روى أنّ النّبي صلى اللّه عليه و آله قال : لو لم ابعث لبعث عمر . فقال عليه السّلام : كتاب اللّه أصدق من هذا الحديث يقول اللّه في كتابه : و إذ أخذنا من النبيّين ميثاقهم و منك و من نوح قد أخذ اللّه ميثاق النبيّين فكيف يمكن أن يبدّل ميثاقه و كلّ الأنبياء عليهم السّلام لم يشركوا طرفة عين فكيف يبعث بالنّبوة من أشرك و كان أكثر أيّامه مع الشرك باللّه ، و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : نبّئت و آدم [ 136 ] بين الروح و الجسد . فقال يحيى بن أكثم : و قد روى أيضا أنّ النّبي صلى اللّه عليه و آله قال : ما احتبس عنى الوحى قط إلاّ ظننته قد نزل على آل الخطّاب . فقال عليه السّلام : و هذا محال أيضا لأنّه لا يجوز أن يشكّ النّبي في نبوّته قال اللّه تعالى : الله يصطفى من الملئكة رسلا و من النّاس فكيف يمكن أن ينتقل النبوّة ممّن اصطفاه الله تعالى إلى من أشرك به . قال يحيى : روى أنّ النّبي صلى اللّه عليه و آله قال : لو نزل العذاب لما نجا منه إلاّ عمر فقال عليه السّلام : و هذا محال أيضا لأنّ اللّه تعالى يقول : و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذّبهم و هم يستغفرون فأخبر سبحانه أنّه لا يعذّب أحدا ما دام فيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، و ما داموا يستغفرون اللّه ، انتهى . قلت : و قد وضع بنو اميّة في عمرو بن العاص ما تضحك به الثكلى فإنّ محمّد ابن سعد روى في الطبقات الكبرى عن عبد اللّه بن عمرو أنّه حدّثه أنّ أباه أوصاه قال : يا بنى إذا متّ فاغسلنى غسلة بالماء ثمّ جفّفنى في ثوب ، ثمّ اغسلنى الثانية بماء قراح ثمّ جفّفنى في ثوب ، ثمّ اغسلنى الثالثة بماء فيه شي‏ء من كافور ثمّ جفّفنى في ثوب ، ثمّ إذا ألبستنى الثياب فأزرّ علىّ فانّى مخاصم ، ثمّ إذا أنت حملتنى على السرير فامش بي مشيا بين المشيتين و كن خلف جنازة فإنّ مقدّمها للملائكة خلفها لبني آدم ، فاذا أنت وضعتنى في القبر فسنّ علىّ التراب سنّا ، ( ص 260 ج 4 من طبع بيروت ) . و هذا الخبر كما تراه كذب محض وضعه بنو اميّة و أتباعهم من أشباه الرّجال اقتراف الدّنيا و زخارفها و أنّى لعمرو بن العاص العاصى المتوغّل في قاذورات الشهوات النفسانيّة أن ينال تلك المنزلة العظمى و الرتبة العليا ، و هل هذا إلاّ اختلاق . و كيف له أن يتفوّه بذلك و قد نقل غير واحد من نقلة الأخبار و حملة الاثار أنّ عمرو بن العاص لمّا حضرته الوفاة قال لابنه لودّ أبوك أنّه كان في غزاة ذات السلاسل إنّى قد دخلت في امور لا أدرى ما حجّتى عند اللّه فيها ، ثمّ نظر إلى [ 137 ] ماله فرأى كثرته فقال : يا ليته كان بعرا يا ليتنى متّ قبل هذا اليوم بثلاثين سنة أصلحت لمعاوية دنياه و أفسدت دينى آثرت دنياى و تركت آخرتى ، عمى على رشدى حتّى حضرنى أجلى ، كأنّى بمعاوية قد حوى مالى و أساء فيكم خلافتى فراجع إلى تاريخ اليعقوبى ، و حيوة الحيوان للدميرى . و أنّى لعمرو أن يدّعى نزول الملائكة عليه و حملهم سريره و قد قال فيه وصىّ خاتم النبيّين عليه السّلام : إنّه ليقول فيكذب ، يعد فيخلف ، و يسأل فيحلف ، و يسأل فيبخل ، و يخون العهد ، و يقطع الإلّ ، فراجع إلى المختار 82 من باب الخطب من النهج . نعم إنّ تلك الفضيلة لمن كانت الملائكة أعوانه في الامور ألا و هو علىّ أمير المؤمنين عليه السّلام فقد قال عليه السّلام : و لقد وليت غسله صلى اللّه عليه و آله و الملائكة أعوانى فراجع إلى المختار 195 من باب الخطب من النهج أيضا . و لمّا مات عليه السّلام قام ابنه ريحانة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و أحد سيّدى شباب أهل الجنّة الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام خطيبا فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النبي صلى اللّه عليه و آله : ثمّ قال : ألا إنّه قد مضى في هذه اللّيلة رجل لم يدركه الأوّلون و لن يري مثله الاخرون من كان يقاتل و جبريل عن يمينه و ميكائيل عن شماله فراجع إلى الكافي للكليني قدّس سرّه و تاريخ اليعقوبي ( ص 190 ج 2 ) . و قد جاء في الأثر أنّ أمير المؤمنين عليّا عليه السّلام أوصى بذلك ابنه أبا محمّد الحسن المجتبى عليه السّلام حيث قال : فاذا أنا متّ يا أبا محمّد فغسّلنى و كفّنى و حنّطنى ببقيّة حنوط جدّك رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فإنّه من كافور الجنّة جاء به جبرئيل عليه السّلام إليه ثمّ ضعنى على سريرى و لا يتقدّم أحد منكم مقدّم السرير و احملوا مؤخّره و اتّبعوا مقدّمه فأىّ موضع وضع المقدّم فضعوا المؤخّر فحيث قام سريري فهو موضع قبرى الخ ، فراجع إلى باب كيفية شهادته عليه السّلام و وصيّته و غسله و الصّلاة عليه و دفنه من المجلّد التاسع من البحار ( ص 674 من طبع الكمبانى ) . فانظر إلى تصرّف بنى اميّة في الأخبار كيف سرقوها من محلّها [ 138 ] و أسندوها إلى غير أهلها ، و كم لما نقلناها من نظير و لو لا خوف الإطناب لأتينا بطائفة منها في الكتاب . ثمّ إنّ بني اميّة ما تصرّفوا في الأخبار فقط بل تجاوزوا إلى القرآن و حرّفوا كلام اللّه عن مواضعه . قال الشارح الفاضل المعتزلي في الجزء الرابع من شرحه على النهج ( ص 23 من الطبع الرّحلي ) : قال أبو جعفر : و قد روي أنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتّى يروى أنّ هذه الاية انزلت في عليّ عليه السّلام : « و من النّاس من يعجبك قوله في الحيوة الدّنيا و يشهد اللّه على ما في قلبه و هو ألدّ الخصام . و إذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل و اللّه لا يحبّ الفساد و أنّ الاية الثانية نزل في ابن ملجم و هي قوله تعالى : و من النّاس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله فلم يقبل فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل فبذل له أربع مائة ألف فقبل و روى ذلك . انتهى ما أردنا من نقل كلامه . وصبية أهل النار : هم صبية عقبة بن أبي معيط ، لما قد روى الواقدي في غزوة بدر من كتابه في مغازي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ( ص 84 من طبع مصر ) من أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أقبل بالأسرى حتّى إذا كان بعرق الظبية أمر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط و كان أسره عبد اللّه بن سلمة العجلاني فجعل عقبة يقول : يا ويلي علام أقتل يا معشر قريش من بين من ههنا ؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : لعداوتك للّه و رسوله . قال : يا محمّد منّك أفضل فاجعلني كرجل من قومي إن قتلتهم قتلتني و إن مننت عليهم مننت علي ، و إن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم يا محمّد من للصبية ؟ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : النار قدّمه يا عاصم فاضرب عنقه ، فقدّمه عاصم فضرب عنقه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : بئس الرجل كنت و اللّه ما علمت كافرا باللّه و برسوله و بكتابه مؤذيا لنبيّه [ منك ] فأحمد اللّه الّذي هو قتلك و أقرّ عيني منك . ثمّ قال عليه السّلام : ( و منّا خير نساء العالمين و منكم حمّالة الحطب ) يعني بخير [ 139 ] نساء العالمين فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله المعصومة الّتي أذهب اللّه عنها الرّجس و طهّرها تطهيرا ، فقد روى أبو الحسين مسلم بن الحجّاج في جامعه المعروف بصحيح مسلم ( الباب التاسع من كتاب الفضائل في فضائل أهل بيت النّبي صلى اللّه عليه و آله ص 1883 ج 4 من طبع مصر ) بإسناده عن أبي بكر بن أبي شيبة و محمّد بن عبد اللّه بن نمير ، عن محمّد بن بشير ، عن زكريّا ، عن مصعب بن شيبة ، عن صفيّة بنت شيبة قالت : قالت عائشة : خرج النّبيّ صلى اللّه عليه و آله غداة و عليه مرط مرحّل من شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثمّ جاء الحسين فدخل معه ، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ، ثمّ جاء علي فأدخله ، ثمّ قال : إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا . و في الباب الخامس و الخمسين من ينابيع المودّة للفاضل الشّيخ سليمان النقشبنديّ الحنفي ( ص 148 من الطبع الناصري ) : و في جمع الفوائد ، عائشة : كنّ أزواج النّبيّ صلى اللّه عليه و آله عنده لا يغادر منهنّ واحدة فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطي مشيتها من مشية النّبيّ صلى اللّه عليه و آله شيئا فلمّا رآها رحب بها ، و قال : مرحبا يا بنتي ثمّ أجلسها عن يمينه أو عن شماله ، ثمّ سارّها فبكت بكاء شديدا ، فلمّا رأى جزعها سارّ الثانية فضحكت فلمّا قام سئلتها ما قال لك أبوك ؟ قالت : ما كنت لأفشى على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله سرّه فلمّا توفّى ، قلت : عزمت عليك بما لى عليك من الحقّ حدّثني ما قال لك أبوك صلى اللّه عليه و آله ؟ قالت : أمّا الان فنعم . أمّا حين سارّني في المرّة الاولى فأخبرني أنّ جبرائيل كان يعارضني القرآن في كلّ سنة مرّة و عارضه الان مرّتين و إنّى لا أرى الأجل إلاّ قد اقترب فاتّقي اللّه و اصبر [ ى ] فانّه نعم السلف أنا لك ، فبكيت بكائي الّذي رأيت ، فلمّا رأى جزعي سارّني في الثانية فقال : يا فاطمة أما ترضين أن تكون سيّدة نساء المؤمنين أو سيّدة نساء هذه الامّة فضحكت ضحك الّذي رأيت . و في رواية : ثمّ سارّني أنّي أوّل أهله يتبعه فضحكت و في اخرى قال : أما ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة و أنّك أوّل أهلي لحوقا بي فضحكت ، للشّيخين و الترمذي . [ 140 ] و قال : و في صحيح البخاري : قال النّبي صلى اللّه عليه و آله : فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة . و قال أيضا : و في جمع الفوائد : أنس رفعه حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران ، و خديجة بنت خويلد ، و فاطمة بنت محمّد ، و آسية امرأة فرعون للترمذي . انتهى . قلت : رواية البخاري مذكورة في باب مناقب فاطمة عليها السّلام ( ص 36 من الجزء الخامس من صحيح البخاري المشكول ) . و في الدر المنثور في التفسير بالمأثور في قوله تعالى : إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفيك و طهّرك و اصطفيك على نساء العالمين ( آل عمران : 43 ) : أخرج الحاكم و صحّحه عن ابن عبّاس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : أفضل نساء العالمين خديجة ، و فاطمة ، و مريم ، و آسية امرأة فرعون . و أخرج ابن مردويه عن أنس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله إنّ اللّه اصطفى على نساء العالمين أربعة : آسية بنت مزاحم ، و مريم بنت عمران ، و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمّد صلى اللّه عليه و آله . و أخرج أحمد و الترمذي و صحّحه و ابن المنذر و ابن حبّان و الحاكم عن أنس : أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال : حسبك من نساء العالمين ، مريم بنت عمران و خديجة بنت خويلد ، و فاطمة بنت محمّد صلى اللّه عليه و آله ، و آسية امرأة فرعون ، و أخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلا . و أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير عن فاطمة عليها السّلام : قالت : قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : أنت سيّدة نساء أهل الجنّة لا مريم البتول . و أخرج ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحّاك ، عن ابن عبّاس ، عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله قال : أربع نسوة سادات عالمهنّ : مريم بنت عمران ، و آسية بنت مزاحم ، و خديجة بنت خويلد ، و فاطمة بنت محمّد صلى اللّه عليه و آله ، و أفضلهنّ عالما فاطمة . انتهى ما أردنا من نقل ما في الدّر المنثور . [ 141 ] أقول : و نزل في آسية امرأة فرعون و في مريم قوله تعالى : و ضرب الله مثلا للّذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربّ ابن لي عندك بيتا في الجنّة و نجّني من فرعون و عمله و نجّني من القوم الظالمين . و مريم ابنة عمران الّتي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا و صدّقت بكلمات ربّها و كتبه و كانت من القانتين . ثمّ لمّا كانت فاطمة عليها السّلام بضعة من أبيها خاتم النبيّين سيّد ولد آدم كما رواها الفريقان في جوامعهم الروائية فهي عليها السّلام سيّدة نساء العالمين مطلقا فقوله تعالى في مريم عليها السّلام و اصطفيك على نساء العالمين محمول على أنها مصطفاة عليهنّ لا مطلقا بل على بعض الوجوه ، فليتأمّل في قول الإمام أبي جعفر عليه السّلام في معنى الاية : اصطفاك لذرية الأنبياء و طهّرك من السفاح و اصطفيك لولادة عيسى من غير فحل . و في قوله تعالى : إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين . ذرية بعضها من بعض و الله سميع عليم ( آل عمران : 34 ) . و في قوله تعالى : و لقد نجّينا بني إسرائيل من العذاب المهين . من فرعون . إنّه كان عاليا من المسرفين . و لقد اخترناهم على علم على العالمين ( الدخان : 33 ) . و في قوله تعالى : و لقد آتينا بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوّة و رزقناهم من الطيبات و فضّلناهم على العالمين ( الجاثية : 17 ) . و في قوله تعالى : إذ قالت الملئكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا و الاخرة و من المقرّبين ( آل عمران : 46 ) . و في قوله تعالى : و الّتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا و جعلناها و ابنها آية للعالمين ( الأنبياء : 92 ) . و في قوله تعالى : و مريم ابنت عمران الّتي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا و صدّقت بكلمات ربّها و كتبه و كانت من القانتين ( آخر التحريم ) . فإمّا أن يكون المراد من العالمين في قوله تعالى : و اصطفيك على نساء العالمين [ 142 ] نساء عالمي زمانها كما مال إليه غير واحد من المفسّرين ، و أمكن أن يؤيّد هذا المعنى بآيتي الدّخان و الجاثية ، و لكنّ الإعراض عن اطلاق سياق الاية لا يخلو من دغدغة . و إمّا أنّ المراد من اصطفائها على نساء العالمين اصطفائها عليهنّ من حيث إنّها آية عجيبة إلهيّة كما بيّنه أبو جعفر عليه السّلام في الخبر المذكور بقوله : و اصطفيك لولادة عيسى من غير فحل ، و يستفاد هذا المعنى من آيتي الأنبياء و التحريم و يؤيّد بهما فلا تختصّ من هذه الجهة بنساء عالمى زمانها ، و هذا الوجه الأخير كأنّه الصّواب أو هو متعيّن . قال الشارح الفاضل المعتزلي في شرح قوله عليه السّلام : و منّا خير نساء العالمين : يعني فاطمة عليها السّلام نصّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله على ذلك لا خلاف فيه . انتهى . حمالة الحطب هي العوراء امّ جميل امرأة عبد العزّى المكنّى بأبي لهب بنت حرب اخت أبي سفيان عمّة معاوية الّتي ورد فيها و في زوجها قوله تعالى : تبّت يدا أبي لهب و تبّ . ما أغني عنه ماله و ما كسب . سيصلى نارا ذات لهب . و امرأته حمّالة الحطب . في جيدها حبل من مسد . و في تفسير الدّر المنثور و أخرج ابن جرير عن ابن زيد أنّ امرأة أبي لهب كانت تلقى في طريق النّبيّ صلى اللّه عليه و آله الشوك فنزلت تبّت يدا أبي لهب و امرأته حمّالة الحطب . و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن زيد و امرأته حمّالة الحطب قال : كانت تأتي بأغصان الشوك تطرحها بالليل في طريق رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله . و أخرج ابن أبي الدّنيا في ذمّ الغيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد و امرأته حمّالة الحطب قال : كانت تمشى بالنميمة في جيدها حبل من مسد من نار . و أخرج ابن أبي جرير و ابن أبي حاتم عن قتادة و امرأته حمّالة الحطب قال : [ 143 ] كانت تنقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض « في جيدها حبل » قال : عنقها . و أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن « حمّالة الحطب » قال : كانت تحمل النميمة فتأتي بها بطون قريش . و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن الأنباري في المصاحف عن عروة بن الزبير « في جيدها حبل من مسد » قال : سلسلة من حديد من نار ذرعها سبعون ذراعا . و في التفسير الصّافي نقلا من قرب الأسناد عن الكاظم عليه السّلام في حديث آيات النّبي صلى اللّه عليه و آله قال : و من ذلك أنّ امّ جميل امرأة أبي لهب أتته حين نزلت سورة تبّت و مع النّبي أبو بكر بن أبي قحافة فقال : يا رسول اللّه هذا ام جميل محفظة أم مغضبة تريدك و معها حجر تريد أن ترميك به فقال صلى اللّه عليه و آله : إنّها لا ترانى ، فقالت لأبي بكر : أين صاحبك ؟ قال : حيث شاء اللّه ، قالت : لقد جئته و لو أراه لرميته فإنّه هجانى و اللاّت و العزّى إنّى لشاعرة ، فقال أبو بكر : يا رسول اللّه لم ترك ؟ قال : لا ، ضرب اللّه بينى و بينها حجابا . و قال معاوية يوما و عنده عمرو بن العاص و قد أقبل عقيل : لأضحكنّك من عقيل فلمّا سلم قال معاوية : مرحبا برجل عمّه أبو لهب ، فقال عقيل : و أهلا برجل عمّته حمّالة الحطب في جيدها حبل من مسد ، قال معاوية : يا أبا يزيد ما ظنّك بعمّك أبي لهب ؟ قال : إذا دخلت النار فخذ على يسارك تجده مفترشا عمّتك حمّالة الحطب أ فناكح في النار خير أم منكوح ؟ قال : كلا شرّ و اللّه ، نقله الشارح المعتزلى في الجزء الرّابع من شرحه على النهج ( 27 من الطبع الرحلى ) . و نقل الشّيخ الأجل المفيد قدس سرّه في الإرشاد ( ص 173 طبع طهران 1377 ه ) : بعد السبب في قبول الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام الهدنة و الصلح من معاوية ما هذا لفظه : فتوثق عليه السّلام لنفسه من معاوية بتوكيد الحجّة عليه و الإعذار فيما بينه و بينه عند اللّه تعالى و عند كافة المسلمين و اشترط عليه ترك سبّ أمير المؤمنين عليه السّلام و العدول عن القنوت عليه في الصّلاة ، و أن يؤمّن شيعته رضى اللّه عنهم و لا يتعرّض لأحد منهم بسوء و يوصل إلى كلّ ذي حقّ منهم حقّه . [ 144 ] فأجابه معاوية إلى ذلك كلّه و عاهده عليه و حلف له بالوفاء به فلمّا استتمّت الهدنة على ذلك سار معاوية حتّى نزل بالنخيلة و كان ذلك يوم الجمعة فصلى بالناس ضحى النهار فخطبهم و قال في خطبته : و اللّه ما قاتلتكم لتصلّوا و لا لتصوموا و لا لتحجوا و لا لتزكّوا انكم لتفعلون ذلك و لكنّى قاتلتكم لأتامّر عليكم و قد أعطانى اللّه ذلك و أنتم له كارهون ، ألا و إنّى كنت منّيت الحسن عليه السّلام أشياء و أعطيته أشياء و جميعها تحت قدمي لا أفي بشي‏ء منها له . ثمّ سار حتّى دخل الكوفة فأقام بها أيّاما فلمّا استتمّت البيعة له من أهلها صعد المنبر فخطب الناس و ذكر أمير المؤمنين عليه السّلام و نال منه و نال من الحسن عليه السّلام ما نال و كان الحسن و الحسين عليهما السّلام حاضرين فقام الحسين عليه السّلام ليردّ عليه فأخذ بيده الحسن عليه السّلام و أجلسه ، ثمّ قام فقال : أيّها الذاكر عليّا أنا الحسن و أبي عليّ و أنت معاوية و أبوك صخر و امّي فاطمة و امّك هند و جدّي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و جدّك حرب و جدّتى خديجة و جدّتك فتيلة ، فلعن اللّه أخملنا ذكرا و ألأمنا حسبا و شرّنا قدما و أقدمنا كفرا و نفاقا ، فقالت طوائف من أهل المسجد : آمين آمين ، انتهى قوله قدّس سره . و روى قريبا منه المحدّث القمّي رضوان اللّه عليه في مادّة حسن من سفينة البحار عن الشعبى ، و قال الفاضل الشارح المعتزلي : إنّ هذا الحديث نقله الفضل بن الحسن المصرى عن يحيى بن معين قال و قال الفضل : قال يحيى : آمين ، و قال الفضل : أنا أقول آمين ، و قال عليّ بن الحسين الاصفهانى آمين ، و قال الشارح المذكور أنا أقول آمين ، و كذلك كاتب هذه الأحرف الحسن بن عبد اللّه الطبري الاملى يقول آمين آمين و يرحم اللّه تعالى عبدا قال آمين . تمّ قال عليه السّلام : ( في كثير ممّا لنا و عليكم ) أى ما ذكرناه من فضائلنا و رذائلكم قليل في كثير ممّا لنا من الفضائل و عليكم من الرذائل و قد تقدّم الكلام في رؤية النّبي صلى اللّه عليه و آله بني اميّة في المنام على صور قرود تصعد منبره و تردّ الناس عن الإسلام القهقرى ، فراجع إلى شرح المختار العاشر من هذا الباب ( ص 47 ج 18 ) . [ 145 ] و قد سئل عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام عن بني هاشم و بني اميّة فقال عليه السّلام : نحن أمجد و أنجد و أجود ، و هم أغدر و أمكر و أنكر ( المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء ص 224 ج 4 ) . ثمّ قال عليه السّلام : ( فاسلامنا ما قد سمعتم ، و جاهليّتنا لا تدفع ) يريد أنّ فضائل بني هاشم لا تختصّ بهم في الإسلام فقط بل لهم تلك الفضائل في زمن الجاهلية أيضا لا مدافع لهم في ذلك ، أى أنّهم كانوا من بيت شرف و مجد حيث كان الناس في الجاهليّة الجهلاء ، و قد مضى نقل طائفة منها في شرح المختار التاسع من باب الكتب ( ج 17 ) و في شرح المختار السابع عشر من ذلك الباب أيضا ( ج 18 ) فراجع . و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع احتجاجات أتى بها نقلة الاثار في أسفارهم : قال الشّيخ إبراهيم بن محمّد البيهقى في كتاب المحاسن و المساوى : قيل و أتى الحسن بن عليّ عليهما السّلام معاوية بن أبي سفيان و قد سبقه ابن عباس فأمر معاوية فأنزل فبينا معاوية مع عمرو بن العاص و مروان بن الحكم و زياد بن أبي سفيان يتحاورون في قديمهم و حديثهم و مجدهم فقال معاوية : أكثرتم الفخر فلو حضركم الحسن بن عليّ و عبد اللّه بن العبّاس لقصرا من أعنّتكما ما طال ، فقال زياد : و كيف ذلك يا أمير المؤمنين ما يقومان لمروان بن الحكم في غرب منطقه و لا لنا في بواذخنا ؟ فابعث إليهما في غد حتّى نسمع كلامهما . فقال معاوية لعمرو : ما تقول ؟ قال هذا ، فابعث إليهما في غد بعث إليهما معاوية ابنه يزيد ، فأتياه و دخلا عليه و بدأ معاوية فقال : إنّي اجلّكما و أرفع قدر كما عن المسامرة بالليل و لا سيّما أنت يا أبا محمّد فانّك ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سيّد شباب أهل الجنّة فشكّرا له ، فلمّا استويا في مجلسهما و علم عمرو أنّ الحدّة ستقع به قال : و اللّه لا بدّ أن أقول فإن قهرت فسبيل ذلك و إن قهرت أكون قد ابتدأت . فقال : يا حسن إنّا تفاوضنا فقلنا : إنّ رجال بني اميّة أصبر عند اللقاء و أمضى في الوغى ، و أوفى عهدا ، و أكرم خيما ، و أمنع لماوراء ظهورهم من بني عبد المطّلب . [ 146 ] ثمّ تكلّم مروان فقال : و كيف لا تكون كذلك و قد قارعناكم فغلبناكم و حاربناكم فملكناكم ، فإن شئنا عفونا و إن شئنا بطشنا . ثمّ تكلّم زياد فقال : ما ينبغي لهم أن ينكروا الفضل لأهله و يجحدوا الخير فى مظانّه ، نحن أهل الحملة في الحروب و لنا الفضل على سائر الناس قديما و حديثا . فتكلّم الحسن عليه السّلام فقال : ليس من العجز أن يصمت الرجل عند ايراد الحجّة ، و لكن من الإفك أن ينطق الرجل بالخنا و يصوّر الباطل بصورة الحقّ يا عمرو افتخارا بالكذب و جرأة على الإفك ما زلت أعرف مثالبك الخبيثة أبديها مرّة و أمسك عنها اخرى فتأبي إلاّ انهما كا في الضلالة ، أتذكر مصابيح الدّجى و أعلام الهدى و فرسان الطراد و حتوف الأقران و أبناء الطعان و ربيع الضيفان و معدن النبوّة و مهبط العلم و زعمتم أنكم أحمى لما وراء ظهوركم و قد تبيّن ذلك يوم بدر حين نكصت الأبطال و تساورت الأقران و اقتحمت الليوث و اعتركت المنيّة و قامت رحاؤها على قطبها و فرّت عن نابها و طار شرار الحرب فقتلنا رجالكم و منّ النبي صلى اللّه عليه و آله على ذراريكم فكنتم لعمري في هذا اليوم غير مانعين لماوراء ظهوركم من بني عبد المطّلب ثمّ قال : و أمّا أنت يا مروان فما أنت و الإكثار في قريش و أنت طليق و أبوك طريد يتقلّب من خزاية إلى سوءة و لقد جي‏ء بك إلى أمير المؤمنين فلمّا رأيت الضرغام قد دميت براثنه و اشتبكت أنيابه كنت كما قال : ليث إذا سمع اللّيوث زئيره بصبصن ثمّ قذفن بالأبعار و يروى رمين بالأبعار . فلمّا منّ عليك بالعفو و أرخى خناقك بعد ما ضاق عليك و غصصت بريقك لا تقعد معنا مقعد أهل الشكر و لكن تساوينا و تجارينا و نحن ممّن لا يدركنا عار و لا يلحقنا خزاية . ثمّ التفت إلى زياد فقال : و ما أنت يا زياد و قريشا لا أعرف لك فيها أديما صحيحا و لا فرعا نابتا و لا قديما ثابتا و لا منبتا كريما بل كانت امّك بغيّا تداولها رجال [ 147 ] قريش و فجّار العرب فلمّا ولدت لم تعرف لك العرب والدا فادّعاك هذا يعني معاوية بعد ممات أبيه ، مالك افتخار تكفيك سميّة و يكفينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، و أبي عليّ بن أبي طالب سيّد المؤمنين الّذي لم يرتدّ على عقبيه ، و عمّي حمزة سيّد الشهداء و جعفر الطيار و أنا و أخى سيّدا شباب أهل الجنّة ثمّ التفت إلى ابن عبّاس فقال : يا ابن العمّ إنّما هي بغاث الطير انقضّ عليها أجدل ، فأراد ابن عبّاس أن يتكلّم فأقسم عليه معاوية أن يكفّ فكفّ ثمّ خرجا . فقال معاوية : أجاد عمرو الكلام لو لا أنّ حجّته دحضت و تكلّم مروان لو لا أنّه نكص . ثمّ التفت إلى زياد و قال : ما دعاك إلى محاورته ؟ ما كنت إلاّ كالحجل في كفّ البازى ، فقال أفاخر رجلا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله جدّه و هو سيّد من مضى و من بقي و امّه فاطمة الزّهراء السّواء ، فقال عمرو : لقد أبقي عليك و لكنه طحن مروان طحن الرّحى بثفالها يأبى إلاّ الإغراء بيننا و بينهم ، لا جرم و اللّه لا شهدت مجلسا يكونان فيه إلاّ كنت معهما على من فاخرهما . فخلا ابن عبّاس بالحسن فقبّل بين عينيه و قال : افديك يا ابن عم ، و اللّه ما زال بحرك يزخر و أنت تصول حتّى شفيتني من أولاد البغايا . ثم ان الحسن عليه السّلام غاب أيّاما ثمّ رجع حتى دخل على معاوية و عنده عبد اللّه بن الزبير ، فقال معاوية : يا أبا محمّد انّي أظنك تعبا نصبا فأت المنزل فأرح نفسك فيه ، فقام الحسن عليه السّلام فلمّا خرج قال معاوية لعبد اللّه بن الزبير : لو افتخرت على الحسن فانك ابن حواريّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و ابن عمّته ، و لأبيك في الإسلام نصيب وافر ، فقال ابن الزبير : أناله فرجع و هو يطلب ليلته الحجج فلمّا أصبح دخل على معاوية و جاء الحسن عليه السّلام فحيّاه معاوية و سأله عن مبيته ، فقال : خير مبيت و أكرم مستفاض ، فلمّا استوى في مجلسه قال ابن الزبير : لولا أنّك خوّار في الحرب غير مقدام ما سلّمت لمعاوية الأمر و كنت لا تحتاج إلى اختراق السهوب و قطع المفاوز تطلب معروفه و تقوم ببابه ، و كنت [ 148 ] حريّا أن لا تفعل ذلك و أنت ابن عليّ في بأسه و نجدته ، فما أدرى ما الّذي حملك على ذلك أضعف رأى أم وهن نحيزة ، فما أظنّ لك مخرجا من هاتين الخلّتين ، أما و اللّه لو استجمع لي ما استجمع لك لعلمت أنّى ابن الزبير و أنّي لا أنكص عن الأبطال و كيف لا أكون كذلك و جدّتي صفيّة بنت عبد المطّلب ، و أبي الزبير حواريّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و أشدّ النّاس بأسا و أكرمهم حسبا في الجاهليّة و أطوعهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله . فالتفت إليه الحسن عليه السّلام و قال : أما و اللّه لو لا أنّ بني اميّة تنسبني إلى العجز عن المقال لكففت عنك تهاونا ، و لكن سابيّن ذلك لك لتعلم أنّي لست بالعىّ و لا كليل اللّسان ، إيّاى تعيّر و عليّ تفتخر و لم يكن لجدّك بيت في الجاهليّة و لا مكرمة فزوّجته جدّتي صفيّة بنت عبد المطلب ، فبذخ على جميع العرب بها و شرف بمكانها ، فكيف تفاخر من هو من القلادة و اسطتها و من الأشراف سادتها نحن أكرم أهل الأرض زندا ، لنا الشرف الثاقب و الكرم الغالب . ثمّ تزعم أنّي سلمت الأمر لمعاوية فكيف يكون ذلك ويحك كذلك و أنا ابن أشجع العرب ، و قد ولدتني فاطمة سيّدة نساء العالمين و خير الإماء ؟ لم أفعل ذلك ويحك جبنا و لا ضعفا و لكنّه بايعني مثلك و هو يطلبني ببرّه و يداجيني المودّة و لم أثق بنصرته لأنكم أهل بيت غدر ، و كيف لا يكون كما أقول ، و قد بايع أبوك أمير المؤمنين ثمّ نكث بيعته و نكص على عقبيه و اختدع حشيّة من حشايا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ليضلّ بها النّاس ، فلمّا دلف نحو الأعنّة و رأى بربق الأسنّة قتل مضيعة لا ناصر له و اتي بك أسيرا قد وطئتك الكماة بأظلافها و الخيل بسنابكها و اعتلاك الأشتر فغصصت بريقك و أقعيت على عقبيك كالكلب إذا احتوشته اللّيوث ، فنحن ويحك نور البلاد و أملاكها و بنا تفخر الامّة و إلينا تلقى مقاليد الأزمة ، أنصول و أنت تختدع النّساء ثمّ تفتخر على بنى الأنبياء ؟ لم تزل الأقاويل منا مقبولة و عليك و على أبيك مردودة ، دخل النّاس في دين جدّي طائعين و كارهين ، ثمّ بايعوا أمير المؤمنين عليه السّلام فسار إلى أبيك و طلحة حين نكثا البيعة و خدعا عرس [ 149 ] رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقتل أبوك و طلحة و اتى بك أسيرا ، فبصبصت بذنبك و ناشدته الرحم أن لا يقتلك فعفا عنك ، فأنت عتاقة أبي و أنا سيّدك و سيّد أبيك ، فذق و بال أمرك . فقال ابن الزبير : اعذر يا أبا محمّد فانّما حملني على محاورتك هذا و أحبّ الإغراء بيننا فهلاّ إذا جهلت أمسكت عنّي فإنّكم أهل بيت سجيّتكم الحلم و العفو . فقال الحسن عليه السّلام : يا معاوية انظر هل أكيع عن محاورة أحد ؟ ويحك أتدرى من أىّ شجرة أنا و إلى من أنتمى ؟ انته قبل أن أسمك بميسم تتحدّث به الركبان في الافاق و البلدان . فقال ابن الزبير : هو لذلك أهل ، فقال معاوية : أما انّه قد شفى بلا بل صدرى منك و رمي مقتلك فصرت كالحجل في كفّ البازى يتلاعب بك كيف أراد فلا أراك تفتخر على أحد بعدها . و ذكروا أنّ الحسن بن عليّ عليه السّلام دخل على معاوية فقال متمثلا : فيم الكلام و قد سبقت مبرّزا سبق الجواد من المدى و المقيس فقال معاوية : إيّاى تعنى ؟ أما و اللّه لانبئنّك بما يعرفه قلبك و لا ينكره جلساؤك : أنا ابن بطحاء مكة ، انا ابن أجودها جودا و أكرمها جدودا و أوفاها عهودا ، أنا ابن من ساد قريشا ناشئا و كهلا . فقال الحسن عليه السّلام : أجل إيّاك أعنى أفعلىّ تفتخر يا معاوية ؟ أنا ابن ماء السماء و عروق الثّرى و ابن من ساد أهل الدّنيا بالحسب الثابت و الشرف الفائق و القديم السابق ، أنا ابن من رضاه رضى الرّحمن و سخطه سخط الرّحمن ، فهل لك أب كأبي و قديم كقديمى ؟ فان قلت : لا تغلب ، و إن قلت : نعم تكذب . فقال معاوية : أقول لا تصديقا لقولك ، فقال الحسن : الحقّ أبلج ما تخون سبيله و الصدق يعرفه ذوو الألباب و قال معاوية ذات يوم و عنده أشراف الناس من قريش و غيرهم : أخبروني بخير الناس أبا و امّا و عمّا و عمّة و خالا و خالة و جدّا و جدّة ، فقام مالك بن [ 150 ] العجلان فأومأ إلى الحسن فقال : هاهوذا أبوه عليّ بن أبي طالب رضوان اللّه عليهم و امه فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، و عمّه جعفر الطيار في الجنان ، و عمّته امّ هانى‏ء بنت أبي طالب ، و خاله القاسم ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، و خالته بنت رسول اللّه زينب و جدّه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، و جدّته خديجة بنت خويلد . فسكت القوم و نهض الحسن ، فأقبل عمرو بن العاص على مالك فقال : أحبّ بني هاشم حملك على أن تكلّمت بالباطل ؟ فقال ابن العجلان : ما قلت إلاّ حقّا و ما أحد من الناس يطلب مرضاة مخلوق بمعصية الخالق إلاّ لم يعط أمنيّته في دنياه و ختم له بالشقاء في آخرته ، بنو هاشم أنضرهم عودا و أوراهم زندا ، كذلك يا معاوية ؟ قال : اللهمّ نعم . قيل : و استاذن الحسن بن عليّ عليه السّلام على معاوية و عنده عبد اللّه بن جعفر و عمرو ابن العاص ، فأذن له ، فلمّا أقبل قال عمرو : قد جاءكم الأفّه العيّى الّذي كان بين لحيية عبلة ، فقال عبد اللّه بن جعفر : مه فو اللّه لقد رمت صخرة ململمة تنحطّ عنها السيول و تقصر دونها الوعول و لا تبلغها السهام ، فإياك و الحسن إيّاك ، فانّك لا تزال راتعا في لحم رجل من قريش و لقد رميت فما برح سهمك و قدحت فما أورى زندك . فسمع الحسن الكلام فلمّا أخذ الناس مجالسهم قال : يا معاوية لا يزال عندك عبد راتعا في لحوم الناس ، أما و اللّه لو شئت ليكونن بيننا ما تتفاقم فيه الامور و تحرّج منه الصدور ثمّ أنشأ يقول : أتأمر يا معاوى عبد سهم بشتمي و الملا منّا شهود إذا أخذت مجالسها قريش فقد علمت قريش ما تريد قصدت إلىّ تشتمنى سفاها لضغن ما يزول و ما يبيد فما لك من أب كأبي تسامي به من قد تسامي أو تكيد و لا جدّ كجدّي يا ابن هند رسول اللّه إن ذكر الجدود و لا امّ كامّي من قريش إذا ما يحصل الحسب التليد [ 151 ] فما مثلي تهكّم يا ابن هند و لا مثلي تجاريه العبيد فمهلا لا تهج منّا امورا يشيب لها معاوية الوليد و ذكروا أنّ عمرو بن العاص قال لمعاوية ذات يوم : ابعث إلى الحسن بن علي فمره أن يخطب على المنبر فلعلّه يحصر فيكون ذلك ممّا نعيّره به ، فبعث إليه معاوية فأصعده المنبر و قد جمع له الناس فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال : يا أيّها الناس من عرفنى فأنا الّذي يعرف و من لم يعرفنى فانا الحسن بن عليّ بن أبي طالب ابن عمّ النّبي صلى اللّه عليه و آله ، أنا ابن البشير النذير السراج المنير أنا ابن من بعث رحمة للعالمين و سخطا للكافرين ، أنا ابن من بعث إلى الجنّ و الإنس ، أنا المستجاب الدّعوة ، أنا ابن الشفيع المطاع ، أنا ابن أوّل من ينفض رأسه من التراب ، أنا ابن أوّل من يقرع باب الجنّة ، أنا ابن من قاتلت معه الملائكة و نصر بالرّعب من مسيرة شهر ، فافتنّ في هذا الكلام و لم يزل حتّى أظلمت الدّنيا على معاوية فقال : يا حسن قد كنت ترجو أن تكون خليفة و لست هناك . فقال الحسن : انما الخليفة من سار بسيرة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و عمل بطاعة اللّه و ليس الخليفة من دان بالجور و عطّل السنن و اتّخذ الدّنيا أبا و امّا ، و لكنّ ذاك ملك أصاب ملكا يمتّع به قليلا و كان قد انقطع عنه و استعجل لذّته و بقيت عليه تبعته فكان كما قال اللّه عزّ و جل : و إن أدري لعلّه فتنة لكم و متاع إلى حين ثمّ انصرف . فقال معاوية لعمرو : و اللّه ما أردت إلاّ هتكى ، ما كان أهل الشام يرون أنّ أحدا مثلى حتّى سمعوا من الحسن ما سمعوا . قيل : و قدم الحسن بن عليّ رضوان اللّه عليه على معاوية فلمّا دخل عليه وجد عنده عمرو بن العاص و مروان بن الحكم و المغيرة بن شعبة و صناديد قومه و وجوه اليمن و أهل الشام : فلمّا نظر إليه معاوية أقعده على سريره و أقبل عليه بوجهه يريه السرور بمقدمه ، فلمّا نظر مروان إلى ذلك حسده و كان معاوية قال [ 152 ] لهم : لا تحاوروا هذين الرجلين فلقد قلّداكم العار و فضحاكم عند أهل الشام يعني الحسين بن على عليهما السّلام ، و عبد اللّه بن العبّاس . فقال مروان : يا حسن لو لا حلم أمير المؤمنين و ما قد بني له آباؤه الكرام من المجد و العلاء ما أقعدك هذا المقعد و لقتلك و أنت له مستوجب بقودك الجماهير فلمّا أحسست بنا و علمت أن لا طاقة لك بفرسان أهل الشام و صناديد بني اميّة أذعنت بالطاعة و احتجرت بالبيعة و بعثت تطلب الأمان ، أما و اللّه لو لا ذلك لاريق دمك ، و علمت أنّا نعطى السيوف حقّها عند الوغى ، فاحمد اللّه إذا بتلاك بمعاوية فعفا عنك بحلمه ثمّ صنع بك ما ترى . فنظر إليه الحسن فقال : ويحك يا مروان لقد تقلّدت مقاليد العارفي الحروب عند مشاهدتها و المخاذلة عند مخالطتها ، نحن هبلتك الهوابل لنا الحجج البوالغ و لنا إن شكرتم عليكم النعم السوابغ ، ندعوكم إلى النجاة و تدعوننا إلى النّار فشتّان ما بين المنزلتين ، تفخر ببنى اميّة و تزعم أنّهم صبّر في الحروب أسد عند اللقاء ثكلتك امّك اولئك البهاليل السادة و الحماة الذادة و الكرام القادة بنو عبد المطلب ، أما و الله لقد رأيتهم و جميع من في هذا البيت ما هالتهم الأهوال و لم يحيدوا عن الأبطال كاللّيوث الضارية الباسلة الحنقة ، فعندها ولّيت هاربا و اخذت أسيرا فقلدت قومك العار لأنّك في الحروب خوّار ، أيراق دمي زعمت ؟ أفلا أرقت دم من وثب على عثمان في الدار فذبحه كما يذبح الجمل و أنت تثغو ثغاء النعجة و تنادى بالويل و الثبور كالأمة اللّكعاء ، ألا دفعت عنه بيد أو ناضلت عنه بسهم ؟ لقد ارتعدت فرائصك و غشى بصرك فاستغثت بي كما يستغيث العبد بربّه ، فانجيتك من القتل و منعتك منه ثمّ تحثّ معاوية على قتلى و لو رام ذلك معك لذبح كما ذبح ابن عفّان ، أنت معه أقصر يدا و أضيق باعا أجبن قلبا من أن تجسر على ذلك ، ثمّ تزعم أنّى ابتليت بحلم معاوية أما و اللّه لهو أعرف بشأنه و أشكر لما ولّيناه هذا الأمر فمتى بداله فلا يغضينّ جفنه على القذي معك ، فو اللّه لأثخننّ أهل الشام بجيش يضيق عنها فضاؤها ، و يستأصل [ 153 ] فرسانها ثمّ لا ينفعك عند ذلك الهرب و الرّوغان و لا يردّ عنك الطلب تدريجك الكلام فنحن ممّن لا يجهل آباؤنا القدماء الأكابر و فروعنا السادة الأخيار ، انطق إن كنت صادقا . فقال عمرو : ينطق بالخنى و تنطق بالصدق ثمّ أنشأ يقول : قد يضرط العير و المكواة تأخذه لا يضرط العير و المكواة في النار ذق و بال أمرك يا مروان ، و أقبل عليه معاوية فقال : قد نهيتك عن هذا الرجل و أنت تأبي إلاّ انهماكا فيما لا يعنيك ، اربع على نفسك فليس أبوك كأبيه و لا أنت مثله ، أنت ابن الطريد الشريد و هو ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله الكريم و لكن ربّ باحث عن حتفه و حافر عن مديته ، فقال مروان : ارم من دون بيضتك و قم بحجّة عشيرتك ، ثمّ قال لعمرو : طعنك أبوه فوقيت نفسك بخصييك فلذلك تحذّره و قام مغضبا فقال معاوية : لا تجار البحور فتغمرك ، و لا الجبال فتبهرك و استرح من الاعتذار . قيل : و لقى عمرو بن العاص الحسن بن علي عليه السّلام في الطّواف فقال : يا حسن أزعمت أنّ الدّين لا يقوم إلاّ بك و بأبيك ؟ فقد رأيت اللّه جلّ و عزّ أقامه بمعاوية فجعله راسيا بعد ميله و بيّنا بعد خفائه ، أفرضى اللّه قتل عثمان أم من الحقّ أن تدور بالبيت كما يدور الجمل بالطّحين ؟ عليك ثياب كغرقي‏ء البيض و أنت قاتل عثمان ، و اللّه إنّه لألمّ للشعث و أسهل للوعث أن يوردك معاوية حياض أبيك . فقال الحسن عليه السّلام : إنّ لأهل النّار علامات يعرفون بها و هي الإلحاد لأولياء اللّه و الموالاة لأعداء اللّه ، و اللّه إنّك لتعلم أنّ عليّا عليه السّلام لم يترتب في الأمر و لم يشكّ في اللّه طرفة عين ، و أيم اللّه لتنتهينّ يا ابن امّ عمرو أو لأقرعنّ جبينك بكلام تبقى سمته عليك ما حييت ، فإيّاك و الإبراز علي فإنّي من قد عرفت لست بضعيف الغمزة ، و لا بهشّ المشاشة ، و لا بمري‏ء المأكلة ، و إنّي من قريش كأوسط القلادة ، يعرف حسبي و لا ادعى لغير أبى ، و قد تحاكمت فيك رجال قريش فغلب عليك ألأمهم نسبا و أظهرهم لعنة ، فإياك عنّي فانك رجس ، و إنما [ 154 ] نحن بيت الطّهارة ، أذهب اللّه عنّا الرجس و طهّرنا تطهيرا . قيل : و اجتمع الحسن بن عليّ عليه السّلام و عمرو بن العاص ، فقال الحسن عليه السّلام : قد علمت قريش بأسرها أنّي منها في عزّ أرومتها لم اطبع على ضعف و لم اعكس على خسف ، اعرف بشبهي و ادعى لأبي . فقال عمرو : قد علمت قريش أنّك من أقلّها عقلا و أكثرها جهلا ، و انّ فيك خصالا لو لم يكن فيك إلاّ واحدة منهنّ لشملك خزيها كما شمل البياض الحالك ، لعمر اللّه لتنتهينّ عمّا أراك تصنع أو لأكبسنّ لك حافة كجلد العائط أرميك من خللها بأحرّ من وقع الأثافي أعرك منها أديمك عرك السلعة ، فانّك طالما ركبت صعب المنحدر و نزلت في اعراض الوعر التماسا للفرقة و إرصادا للفتنة و لن يزيدك اللّه فيها إلاّ فظاعة . فقال الحسن عليه السّلام : أما و اللّه لو كنت تسمو بحسبك و تعمل برأيك ما سلكت فجّ قصد و لا حللت رابية مجد ، و أيم اللّه لو أطاعني معاوية لجعلك بمنزلة العدوّ الكاشح فانّه طالما طويت على هذا كشحك و أخفيته في صدرك و طمح بك الرجاء إلى الغاية القصوى الّتي لا يورق بها غصنك و لا يخضرّ لها مرعاك ، أما و اللّه ليوشكنّ يا ابن العاص أن تقع بين لحيى ضرغام من قريش قويّ متمنّع فروس ذي لبد يضغطك ضغط الرحى للحبّ لا ينجيك منه الروغان إذا التقت حلقتا البطان . انتهى ما أتى به البيهقي في المحاسن و المساوي في المقام . و فى محاسن البرقي : قال عمرو بن العاص للحسين عليه السّلام : ما بال أولادنا أكثر من أولادكم ؟ فقال عليه السّلام : بغاث الطير أكثرها فراخا و امّ الصقر مقلاة نزور فقال : ما بال الشيب إلى شواربنا أسرع منه إلى شواربكم ؟ فقال عليه السّلام : إنّ نساءكم نساء بخرة فاذا دنا أحدكم من امرأته نهكته في وجهه فشاب منه شاربه فقال : ما بال لحاكم أوفر من لحائنا ؟ فقال عليه السّلام : و البلد الطيّب يخرج نباته باذن ربّه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا ، فقال معاوية : بحقّي عليك إلاّ سكتّ [ 155 ] فانّه ابن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ، فقال عليه السّلام : إن عادت العقرب عدنا له و كانت النعل لها حاضرة قد علم العقرب و استيقنت أن لا لها دنيا و لا آخرة و روى ابن شهرآشوب و غيره عن أبان الأحمر أنّ شريك بن الأعور دخل على معاوية ، فقال له معاوية : و اللّه إنك لشريك و ليس للّه لشريك و أنك لابن الأعور و البصير خير من الأعور ، و أنك لدميم ، و الجيد خير من الدميم فكيف سدت قومك ؟ فقال له شريك : إنّك لمعاوية و ما معاوية إلاّ كلبة عوت و استعوت الكلاب ، و انّك لابن صخر و السهل خير من الصخر ، و انّك لابن حرب و السلم خير من الحرب و انّك لابن اميّة و ما اميّة إلاّ أمة صغرت فاستصغرت فكيف صرت أمير المؤمنين ؟ فغضب معاوية و خرج شريك و هو يقول : أيشتمني معاوية بن صخر و سيفي صارم و معى لساني فلا تبسط علينا يا ابن هند لسانك إن بلغت ذرى الأماني و إن تك للشقاء لنا أميرا فإنّا لا نقرّ على الهوان و إن تك في اميّة من ذراها فانا في ذرى عبد المدان و روى أنّ معاوية أرسل إليه هدية منها حلواء ، يريد بذلك استمالته و صرفه عن حبّ علي بن أبي طالب عليه السّلام ، فدخلت ابنة صغيرة له خماسي أو سداسي عليه فأخذت لقمة من تلك الحلواء و جعلتها في فمها ، فقال لها أبو الأسود يا بنتي ألقيه فإنّه سمّ هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنين عليه السّلام و يردّنا عن محبّة أهل البيت ، فقالت الصبيّة : قبّحه اللّه يخدعنا عن السيّد المطهّر بالشّهد المزعفر تبّا لمرسله و آكله فعالجت نفسها حتّى قاءت ما أكلتها ثمّ قالت : أبا لشهد المزعفر يا ابن هند نبيع عليك أحسابا و دينا معاذ اللّه كيف يكون هذا و مولانا أمير المؤمنينا و يشبه هذا ما روي أنه دخل أبو أمامة الباهلي على معاوية فقرّبه و أدناه ثمّ دعى بالطعام فجعل يطعم أبا أمامة بيده ، ثمّ أوسع رأسه و لحيته طيبا بيده و أمر له [ 156 ] ببدرة من دنانير فدفعها إليه ، ثمّ قال : يا أبا أمامة باللّه أنا خير أم عليّ بن أبي طالب ؟ فقال أبو أمامة : نعم و لا كذب و لو بغير اللّه سألتني لصدقت عليّ و اللّه خير منك و أكرم و أقدم إسلاما و أقرب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قرابة و أشدّ في المشركين نكاية و أعظم عند الامّة عناء ، أتدري من عليّ يا معاوية ؟ ابن عمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، و زوج ابنته سيّدة نساء العالمين ، و أبو الحسن و الحسين سيّدي شباب أهل الجنّة ، و ابن أخي حمزة سيّد الشهداء ، و أخو جعفر ذى الجناحين ، فأين تقع أنت من هذا يا معاوية ؟ أظننت أنّي سأختيرك على عليّ عليه السّلام بألطافك و طعامك و عطائك فأدخل إليك مؤمنا ، و أخرج منك كافرا بئسما سوّلت لك نفسك يا معاوية ثمّ نهض و خرج من عنده فأتبعه بالمال ، فقال : لا و اللّه لا أقبل منك دينارا واحدا . قال تقي الدّين أبو بكر بن علي الحموى في ثمرات الأوراق في المحاضرات : قلت : و أما الأجوبة الهاشميّة و بلاغتها فهى في المحل الأرفع ، فمن ذلك أنه اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص و الوليد بن عقبة و عتبة بن أبي سفيان و المغيرة بن شعبة فقالوا : يا أمير المؤمنين ابعث لنا إلى الحسن بن علي فقال لهم : فيم ؟ فقالوا : كى نوبّخه و تعرفه أنّ أباه قتل عثمان فقال لهم : إنّكم لا تنتصفون منه و لا تقولون شيئا إلاّ كذبكم الناس ، و لا يقول لكم شيئا ببلاغته إلاّ صدّقه الناس فقالوا : أرسل إليه فإنا سنكفيك أمره فأرسل إليه معاوية فلمّا حضر قال : يا حسن إنّي لم ارسل إليك و لكن هؤلاء أرسلوا إليك فاسمع مقالتهم و أجب و لا تحرمني . فقال الحسن عليه السّلام فليتكلّموا و نسمع ، فقام عمرو بن العاص فحمد اللّه و أثنى عليه قال : هل تعلم يا حسن أنّ أباك أوّل من أثار الفتنة و طلب الملك فكيف رأيت صنع اللّه به ؟ . ثمّ قام الوليد بن عقبة بن أبي معيط فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال : يا بني هاشم كنتم أصهار عثمان بن عفان فنعم الصهر كان يفضّلكم و يقرّبكم ثمّ بغيتم عليه فقتلتموه و لقد أردنا يا حسن قتل أبيك فأنقذنا اللّه منه و لو قتلناه بعثمان ما كان علينا من اللّه ذنب . [ 157 ] ثمّ قام عتبة فقال : تعلم يا حسن أنّ أباك بغي على عثمان فقتله حسدا على الملك و الدّنيا فسلبها ، و لقد أردنا قتل أبيك حتّى قتله اللّه تعالى . ثمّ قام المغيرة بن شعبة فكان كلامه كلّه سبّا لعلي و تعظيما لعثمان . فقام الحسن عليه السّلام فحمد اللّه تعالى و أثنى عليه و قال : بك أبدأ يا معاوية لم يشتمني هؤلاء ، و لكن أنت تشتمني بغضا و عداوة و خلافا لجدّي صلى اللّه عليه و آله ، ثمّ التفت إلى الناس و قال : انشدكم الله أتعلمون أنّ الرجل الّذي شتمه هؤلاء كان أوّل من آمن باللّه و صلّى القبلتين ، و أنت يا معاوية يومئذ كافر تشرك باللّه ، و كان معه لواء النّبيّ صلى اللّه عليه و آله يوم بدر ، و مع معاوية و أبيه لواء المشركين . ثمّ قال : أنشدكم اللّه و الإسلام ، أتعلمون أنّ معاوية كان يكتب الرسائل لجدّي صلى اللّه عليه و آله فأرسل إليه يوما فرجع الرسول و قال : هو يأكل ، فردّ الرسول إليه ثلاث مرّات كلّ ذلك و هو يقول : هو يأكل ، فقال النّبي صلى اللّه عليه و آله : لا أشبع اللّه بطنه ، أما تعرف ذلك في بطنك أما تعرف ذلك في بطنك يا معاوية ؟ ثمّ قال : و أنشدكم اللّه ، أتعلمون أنّ معاوية كان يقود بأبيه على جمل و أخوه هذا يسوقه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : لعن اللّه الجمل و قائده و راكبه و سائقه هذا كلّه لك يا معاوية . و أمّا أنت يا عمرو فتنازع فيك خمسة من قريش فغلب عليك شبه ألأمهم حسبا و شرّهم منصبا ثمّ قمت وسط قريش فقلت : أتى شاني‏ء محمّد فأنزل اللّه على نبيّه صلى اللّه عليه و آله : إنّ شانئك هو الأبتر ، ثمّ هجوت محمّدا صلى اللّه عليه و آله بثلاثين بيتا من الشعر فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : اللهمّ إنّي لا أحسن الشعر و لكن العن عمرو بن العاص بكلّ بيت لعنة ثمّ انطلقت إلى النجاشي بما عملت و عملت فأكذبك اللّه و ردّك خائبا فأنت عدوّ بني هاشم في الجاهليّة و الإسلام فلم نلمك على بغضك . و أمّا أنت يا ابن أبي معيط ، فكيف ألومك على سبّك لعلي و قد جلد ظهرك في الخمر ثمانين سوطا ، و قتل أباك صبرا بأمر جدّي ، و قتله جدّي بأمر ربّي ، و لمّا قدمه للقتل قال : من للصبية يا محمّد ، فقال : لهم النار فلم يكن لكم عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله [ 158 ] إلاّ النّار ، و لم يكن لكم عند عليّ غير السيف و السوط . و أمّا أنت يا عتبة فكيف تعد أحدا بالقتل لم لا قتلت الّذي وجدته في فراشك مضاجعا لزوجتك ثمّ أمسكتها بعد أن بغت . و أمّا أنت يا أعور ثقيف ففي أىّ ثلاث تسبّ عليّا ؟ أفي بعده من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ أم في حكم جائر ؟ أم في رغبة في الدّنيا ؟ فإن قلت شيئا من ذلك فقد كذبت أكذبك الناس ، و إن زعمت أنّ عليّا قتل عثمان فقد كذبت و أكذبك الناس ، و أمّا وعيدك فانما مثلك كمثل بعوضة وقفت على نخلة ، فقالت لها : استمسكي فاني اريد أن أطير ، فقالت لها النخلة : ما عملت بوقوفك فكيف يشقّ علىّ طيرانك و أنت فما شعرنا بعداوتك فكيف يشق علينا سبّك ، ثمّ نفض ثيابه و قام ، فقال لهم معاوية : ألم أقل لكم إنكم لا تنتصفون منه ، فو اللّه لقد أظلم علي البيت حتّى قام فليس فيكم بعد اليوم خير . انتهى . قال سبط ابن الجوزى في التذكرة : قال أهل السير : و لمّا سلم الحسن الأمر إلى معاوية أقام يتجهّز إلى المدينة فاجتمع إلى معاوية رهط من شيعته منهم عمرو ابن العاص و الوليد بن عقبة و هو أخو عثمان بن عفّان لامّه و كان عليّ عليه السّلام قد جلّده في الخمر ، و عتبة و قالوا : نريد أن تحضر الحسن علي سبيل الزيارة لنخجّله قبل مسيره إلى المدينة فنهاهم معاوية و قال : إنّه ألسن بني هاشم فألحّوا عليه فارسل [ إلى ] الحسن فاستزاره فلمّا حضر شرعوا فتناولوا عليّا عليه السّلام و الحسن ساكت فلمّا فرغوا حمد الحسن اللّه و أثنى عليه و صلّى على رسوله محمد صلى اللّه عليه و آله قال : إنّ الّذي أشرتم إليه قد صلّى إلى القبلتين و بايع البيعتين و أنتم بالجميع مشركون و بما أنزل اللّه على نبيّه كافرون ، و أنّه حرّم على نفسه الشهوات و امتنع على اللّذات حتى أنزل اللّه فيه « يا أيها الّذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ اللّه لكم » و أنت يا معاوية ممّن قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في حقّه : اللهمّ لا تشبعه أو لا أشبع اللّه بطنك ، أخرجه مسلم عن ابن عبّاس . و بات أمير المؤمنين يحرس رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله من المشركين ، و فداه بنفسه [ 159 ] ليلة الهجرة حتّى أنزل اللّه فيه « و من النّاس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات اللّه » و وصفه بالإيمان فقال « إنما وليّكم اللّه و رسوله و الّذين آمنوا » و المراد به أمير المؤمنين و قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : أنت منّى بمنزلة هارون من موسى و أنت أخى في الدّنيا و الاخرة ، و أنت يا معاوية نظر النّبي صلى اللّه عليه و آله إليك يوم الأحزاب فرأى أباك على جمل يحرّض النّاس على قتاله و أخوك يقود الجمل و أنت تسوقه فقال : لعن اللّه الراكب و القائد و السائق ، و ما قابله أبوك في موطن إلاّ و لعنه و كنت معه ، ولاّك عمر الشام فخنته ، ثمّ ولاّك عثمان فترّبصت عليه و أنت الّذي كنت تنهى أباك عن الإسلام حتّى قلت مخاطبا له : يا صخر لا تسلمن طوعا فتفضحنا بعد الّذين ببدر أصبحوا مزقا لا تركننّ إلى أمر تقلّدنا و الرّاقصات بنعمان به الحرقا و كنت يوم بدر و احد و الخندق و المشاهد كلّها تقاتل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و قد علمت الفراش الّذي ولدت عليه . ثمّ التفت إلى عمرو بن العاص و قال : أما أنت يا ابن النابغة فادّعاك خمسة من قريش غلب عليك ألأمهم و هو العاص و ولدت على فراش مشترك و فيك نزل إنّ شانئك هو الأبتر و كنت عدوّ اللّه و عدوّ رسوله و عدوّ المسلمين و كنت أضرّ عليهم من كلّ مشرك و أنت القائل : و لا أنثنى عن بني هاشم بما اسطعت في الغيب و المحضر و عن عائب اللاّت لا أنثنى و لو لا رضى اللاّت لم تمطر و أمّا أنت يا وليد فلا ألومك على بغض أمير المؤمنين فإنّه قتل أباك صبرا و جلّدك في الخمر لمّا صلّيت بالمسلمين الفجر سكرانا و قلت أزيدكم و فيك يقول الحطيئة : شهد الحطيئة حين يلقى ربّه أنّ الوليد أحقّ بالعذر نادى و قد تمّت صلاتهم أ أزيدكم سكرا و ما يدرى ليزيدهم اخرى و لو قبلوا لأتت صلاتهم على العشر [ 160 ] فأتوا أبا وهب و لو قبلوا لقرنت بين الشفع و الوتر حبسوا عنانك اذجريت و لو تركوا عنانك لم تزل تجرى و سمّاك الله في كتابه فاسقا ، و سمّى أمير المؤمنين مؤمنا في قوله : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون و فيك يقول حسان بن ثابت و في أمير المؤمنين : أنزل اللّه ذو الجلال علينا في عليّ و في الوليد قرانا ليس من كان مؤمنا عمرك اللّه كمن كان فاسقا خوّانا سوف يدعى الوليد بعد قليل و عليّ إلى الجزاء عيانا فعلىّ يجزى هناك جنانا و وليد يجزى هناك هوانا و أمّا أنت يا عتبة فلا ألومك في أمير المؤمنين فإنّه قتل أباك يوم بدر و اشترك في دم ابن عمّك شيبة ، و هلاّ أنكرت على من غلب على فراشك و وجدته نائما مع عرسك حتّى قال فيك نصر بن حجّاج : نبّئت عتبة هيّأته عرسه لصداقة الهذلى من الحيّان ألقاه معها في الفراش فلم يكن فحلا و أمسك خشية النسوان لا تعتبن يا عتب نفسك حبّها إنّ النساء حبائل الشيطان ثمّ نفض الحسن ثوبه و قام فقال معاوية : أمرتكم أمرا فلم تسمعوا له و قلت لكم لا تبعثنّ إلى الحسن فجاء و ربّ الرّاقصات عشيّة بركبانها يهوين من سرّة اليمن أخاف عليكم منه طول لسانه و بعد مداه حين اجراره الرسن فلمّا أبيتم كنت فيكم كبعضكم و كان خطابى فيه غبنا من الغبن فحسبكم ما قال ممّا علمتم و حسبى بما ألقاه في القبر و الكفن ثمّ قال سبط ابن الجوزىّ : تفسير غريب هذه الواقعة : قال الأصمعي و هشام ابن محمّد الكلبي في كتابه المسمّى بالمثالب : و قد وقفت عليه معنى قول الحسن لمعاوية : قد علمت الفراش الّذي ولدت عليه أنّ معاوية كان يقال إنه من أربعة من قريش : عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي ، و مسافر بن أبي عمرو و أبي سفيان [ 161 ] و العبّاس بن عبد المطّلب و هؤلاء كانوا ندماء أبي سفيان و كان كلّ منهم يتّهم بهند . فأمّا عمارة بن الوليد كان من أجمل رجالات قريش و هو الّذي وشى به عمرو بن العاص إلى النّجاشي فدعى الساحر فنفث في احليله فهام مع الوحش و كانت امرأة النّجاشي قد عشقته . و أمّا مسافر بن أبي عمرو فقال الكلبي : عامة الناس على أنّ معاوية منه لأنّه كان أشدّ الناس حبّا لهند فلمّا حملت هند بمعاوية خاف مسافر أن يظهر أنّه منه فهرب إلى ملك الحيرة و هو هند بن عمرو فأقام عنده ، ثمّ إنّ أبا سفيان قدم الحيرة فلقيه مسافر و هو مريض من عشقه لهند و قد سقى بطنه فسأله عن أهل مكّة فأخبره و قيل : إنّ أبا سفيان تزوّج هندا بعد انفصال مسافر عن مكّة فقال أبو سفيان انّي تزوجت هندا بعدك فازداد مرضه و جعل يذوب فوصف الكىّ فاحضروا المكاوىّ و الحجّام فبينا الحجّام يكويه إذ حبق الحجّام فقال مسافر : قد يحبق ( قد يضرط خ ل ) العير و المكواة في النّار فسارت مثلا ثمّ مات مسافر من عشقه لهند . و ذكر هشام بن محمّد الكلبي أيضا في كتاب المثالب و قال : كانت هند من المغيلمات و كانت تميل إلى السودان من الرجال فكانت إذا ولدت ولدا أسود قتلته قال : و جرى بين يزيد بن معاوية و بين إسحاق بن طابة بن عبيد كلام بين يدي معاوية و هو خليفة فقال يزيد لاسحاق إن خيرا لك أن يدخل بنو حرب كلّهم الجنّة أشار يزيد إلى انّ امّ إسحاق كانت تتّهم ببعض بني حرب فقال له إسحاق انّ خيرا لك ان يدخل بنو العبّاس كلهم الجنّة فلم يفهم يزيد قوله و فهم معاوية فلمّا قام إسحاق قال معاوية ليزيد : كيف تشاتم الرجال قبل أن تعلم ما يقال فيك قال : قصدت شين إسحاق قال : و هو كذلك أيضا قال : و كيف ؟ قال : أما علمت أنّ بعض قريش في الجاهلية يزعمون أنّى للعبّاس فسقط في يدى يزيد . و قال الشعبي : و قد أشار رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله إلى هند يوم فتح مكّة بشي‏ء من هذا فانّها لما جاءت تبايعه و كان قد أهدر دمها فقالت : على ما ابايعك ؟ فقال : على أن لا تزنين ، فقالت : و هل تزنى الحرّة ؟ فعرفها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فنظر إلى [ 162 ] عمر فتبسم . و أمّا قول الحسن عليه السّلام لعمرو بن العاص : ولدت على فراش مشترك فذكر الكلبى أيضا في المثالب قال : كانت النابغة ام عمرو بن العاص من البغايا أصحاب الرايات بمكّة فوقع عليها العاص بن الوائل في عدّة من قريش منهم أبو لهب و اميّة بن خلف و هشام بن المغيرة و أبو سفيان بن حرب في طهر واحد . قال ابن الكلبي : و كان الزّناة الّذين اشتهروا بمكّة جماعة منهم هؤلاء المذكورون ، و اميّة بن عبد الشمس ، و عبد الرّحمن بن الحكم بن أبي العاص أخو مروان بن الحكم ، و عتبة بن أبي سفيان أخو معاوية ، و عقبة بن أبي معيط فلمّا حملت النابغة بعمرو تكلّموا فيه فلمّا وضعته اختصم فيه الخمسة الّذين ذكرناهم كلّ واحد يزعم أنّه ولده و ألّب عليه العاص بن وائل و أبو سفيان بن حرب كلّ واحد يقول : و اللّه إنّه منّي فحكّما النابغة فاختارت العاص فقالت : هو منه ، فقيل لها ما حملك على هذا و أبو سفيان أشرف من العاص ؟ فقالت : هو كما قلتم إلا انّه رجل شحيح ، و العاص جواد ينفق على بناتي ، و أبو سفيان لا ينفق عليهنّ و كان لها بنات . و أمّا قول الحسن عليه السّلام للوليد بن عقبة : و جلدك عليّ في الخمر ، فذكر أرباب السّير قاطبة : أنّ عثمان بن عفّان ولّى الوليد بن عقبة الكوفة سنة ستّ و عشرين و كان الوليد مدمنا على شرب الخمر و كان يجلس على الشراب و عنده ندماؤه و مغنّوه طول الليل إلى الفجر فإذا أذنه المؤذّن بصلاة الفجر خرج سكرانا فصلّى بهم فخرج يوما في غلالة لا يدرى أين هو فتقدّم إلى المحراب فصلّى بهم الفجر أربعا و قال : أزيدكم ؟ فقال له عبد اللّه بن مسعود : مازلنا معك في زيادة منذ اليوم ، و لما سجد قال في سجوده : اشرب و اسقني ، فناداه عتاب بن غيلان الثقفي : سقاك اللّه المهل و من بعثك أميرا علينا ، ثمّ حصبه و حصبه أهل المسجد ، فدخل الوليد القصر و هو يترنّح فنام في سريره ، فهجم عليه جماعة منهم أبو جندب بن زهير الأسديّ و ابن عوف الأزديّ و غيرهما و هو سكران لا يعي فأيقظوه فلم يتنبه ، ثمّ قاء عليهم [ 163 ] الخمر فنزعوا خاتمه من يده و خرجوا من فورهم إلى المدينة ، فدخلوا على عثمان فشهدوا على الوليد أنّه شرب الخمر ، فقال : و ما يدريكم أنّه شرب خمرا ؟ قالوا : شرب الخمر الّذي كنّا نشر به في الجاهليّة فزبرهما و نال منهما فخرجا من عنده فدخلا على عليّ عليه السّلام و أخبراه بالقصّة ، فدخل على عثمان فقال له : دفعت الشهود و أبطلت الحدود ، قال له : فما ترى ؟ فقال : تبعث إلى الفاسق فتحضره فان قامت عليه البيّنة حددته فأرسل إلى الوليد فأحضره فشهدوا عليه و لم يكن له حجّة فرمى عثمان السّوط إلى عليّ عليه السّلام و قال له : حدّه ، فقال عليّ لولده الحسن : قم فحدّه ، فامتنع الحسن عليه السّلام و قال : يتولّى حارّها من تولّى قارّها و القرّ البرد و معناه يتولاّه و الى الأمر ، فقال لعبد اللّه بن جعفر : قم فاجلده فامتنع فلمّا رآهم لا يفعلون توقّيا لعثمان أخذ السوط و دني من الوليد فسبّه الوليد فقال له عقيل بن أبي طالب : يا فاسق ما تعلم من أنت أ لست علجا من أهل صفوريّة قرية بين عكّا و اللّجون من أعمال الاردن كان أبوك يهوديّا منها فجعل الوليد يحيد عن عليّ فأخذه فضرب به الأرض فقال له عثمان : ليس لك ذلك فقال : بلى و شرّ من ذلك إذ فسق ثمّ يمتنع أن يؤخذ منه حقّ اللّه تعالى ثمّ جلده أربعين . و قد أخرج أحمد في المسند معنى هذا فقال : حدّثنا يزيد بن هارون ، ثنا سعيد بن أبي عرونة ، عن عبد اللّه بن الدّاناج ، عن حصين بن المنذر بن الحرث بن و علة قال : لمّا قال عليّ عليه السّلام للحسن : قم فاجلده ، قال : و فيم أنت و ذاك فقال عليّ عليه السّلام : بل عجزت و وهنت قم يا عبد اللّه بن جعفر فاجلده ، فقام فجلده و عليّ عليه السّلام يعدّ حتّى بلغ أربعين ، قال : أمسك ، ثمّ قال : جلد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في الخمر أربعين ، و ضرب أبو بكر أربعين ، و ضربها عمر صدرا من خلافته ، ثمّ أتمّ ثمانين و كلّ سنّة . فان قيل : فقد روى أحمد في المسند أيضا عن عليّ عليه السّلام انه قال : ما من رجل أقمت عليه حدّا فمات فأجد في نفسي منه إلاّ صاحب الخمر فانّه لو مات لوديته لأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يسنّه و أخرجاه في الصحيحين فكيف تقول : و كلّ سنّة ؟ [ 164 ] قلنا : لا خلاف أنّ النّبيّ صلى اللّه عليه و آله ضرب في الخمر فالضرب في الجملة سنّة و العدد ثبت باجماع الصحابة . قال السبط : و قيل : هذه القصّة إنّما جرت للحسن عليه السّلام مع معاوية و الوليد و من سميناهم بالشام لأنّ الحسن كان يعد علي معاوية كلّ حين و معه الحسين ، قلت : و قد دعى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله على الوليد بن عقبة لمّا ردّ أمانه ، فقال أحمد في المسند حدّثنا عبيد اللّه بن عمر ، ثنا عبد اللّه بن داود ، ثنا نعيم بن حكيم ، عن ابن أبي مريم عن عليّ عليه السّلام قال : جاءت امرأة الوليد بن عقبة تشكوه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و قالت : يا رسول اللّه إنّ الوليد يضربني فقال : اذهبي إليه و قولي له : قد أجارني رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فلم تلبث إلاّ يسيرا ، حتّى جاءت فقالت : ما زادني إلاّ ضربا ، فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله هدبة من ثوبه فدفعها إليها و قال لها : قولي هذا أماني من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فلم تلبث إلاّ يسيرا حتّى جاءت فقالت : يا رسول اللّه ما زادني إلاّ ضربا ، فرفع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يديه و قال : اللهمّ عليك بالوليد ، و في رواية عليك بالفاسق . و اختلفوا في معنى تسميته بالفاسق على قولين : أحدهما أنّ الوليد قال يوما لعلى عليه السّلام : ألست أبسط منك لسانا و أحدّ سنانا ، فنزلت : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستون ذكره ابن عبّاس . و الثاني أنّ النّبيّ صلى اللّه عليه و آله بعثه سنة ثمان من الهجرة إلى بني المصطلق يصدقهم و كانوا قد أسلموا و بنوا المساجد ، فلما بلغهم قدوم الوليد خرجوا يتلقّونه بالهدايا و السلاح فرحا به ، فلمّا رآهم ولّى راجعا إلى المدينة ، فقال : يا رسول اللّه قد منعوا الزكاة و قاموا إلىّ بالسّلاح فابعث إليهم البعوث ، فقدم الحارث بن عباد على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقال له : يا حارث أردت قتل رسولى و منعت الزكاة ؟ فقال : و الّذي بعثك بالحق ما وصل إلينا و إنّما رجع من الطريق ، و لقد كذب فأنزل اللّه : يا أيّها الّذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنباء فتبيّنوا الاية . و ذكر هشام بن محمّد الكلبي عن محمّد بن إسحاق قال : بعث مروان بن الحكم و كان واليا على المدينة رسولا إلى الحسن عليه السّلام فقال له : يقول لك مروان : أبوك الّذي فرّق الجماعة و قتل أمير المؤمنين عثمان و أباد العلماء و الزّهاد يعني الخوارج [ 165 ] و أنت تفخر بغيرك ، فاذا قيل لك من أبوك تقول : خالى الفرس . فجاء الرسول إلى الحسن فقال له : يا أبا محمّد إنّي أتيتك برسالة ممن يخاف سطوته و يحذر سيفه فإن كرهت لم أبلغك إيّاها و وقيتك بنفسي ، فقال الحسن : لا بل تؤدّيها و نستعين عليه باللّه فأدّاها فقال له : تقول لمروان : إن كنت صادقا فاللّه يجزيك بصدقك ، و إن كنت كاذبا فاللّه أشدّ نقمة ، فخرج الرسول من عنده فلقيه الحسين فقال : من أين أقبلت ؟ فقال : من عند أخيك الحسن ، فقال : و ما كنت تصنع ؟ قال : أتيت برسالة من عند مروان ، فقال : و ما هي ؟ فامتنع الرسول من أدائها ، فقال : لتخبرني أو لأقتلنّك فسمع الحسن فخرج و قال لأخيه : خلّ عن الرجل ، فقال : لا و اللّه حتى أسمعها فأعادها الرسول عليه فقال له : قل له : يقول لك الحسين بن عليّ و فاطمة : يا ابن الزرقاء الداعية إلى نفسها بسوق ذى المجاز ، صاحبة الراية بسوق عكاظ ، و يا ابن طريد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و لعينه ، اعرف من أنت و من امّك و من أبوك . فجاء الرسول إلى مروان فأعاد عليه ما قالا . فقال له : ارجع إلى الحسن و قل له : أشهد انك ابن رسول اللّه و قل للحسين : أشهد أنك ابن عليّ بن أبي طالب فقال للرسول قل له كلاهما لى و رغما . قال قال الأصمعي : أما قول الحسين : يا ابن الداعية إلى نفسها فذكر ابن إسحاق أنّ امّ مروان اسمها اميّة و كانت من البغايا في الجاهليّة و كان لها راية مثل راية البيطار تعرف بها و كانت تسمي ام حتبل الزرقاء و كان مروان لا يعرف له أب و إنما نسب إلى الحكم كما نسب عمرو إلى العاص . و أما قوله : يا ابن طريد رسول اللّه يشير إلى الحكم بن أبي العاص بن اميّة ابن عبد شمس ، أسلم الحكم يوم الفتح و سكن المدينة و كان ينقل أخبار رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله إلى الكفّار من الأعراب و غيرهم و يتجسّس عليه ، قال الشعبي : و ما أسلم إلاّ لهذا و لم يحسن إسلامه و رآه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يوما و هو يمشي و يتخلّج في مشيته يحاكي رسول اللّه فقال له : كن كذلك فما زال يمشى كأنه يقع على وجهه و نفاه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله إلى الطائف و لعنه فلمّا توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله كلّم عثمان أبا بكر [ 166 ] أن يردّه لأنه كان عمّ عثمان فقال أبو بكر : هيهات شي‏ء فعله رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و اللّه لا اخالفه أبدا فلمّا مات أبو بكر و ولى عمر كلمه فيه فقال : يا عثمان أما تستحى من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و من أبي بكر تردّ عدوّ اللّه و عدوّ رسوله إلى المدينة ؟ و اللّه لا كان هذا أبدا فلمّا مات عمرو ولّى عثمان ردّه في اليوم الّذي ولّى فيه و قرّبه و أدناه و دفع له مالا عظيما و رفع منزلته فقام المسلمون على عثمان و أنكروا عليه و هو أوّل ما أنكروا عليه و قالوا : رددت عدوّ اللّه و رسوله و خالفت اللّه و رسوله فقال : إنّ رسول اللّه وعدني بردّه فامتنع جماعة من الصحابة عن الصّلاة خلف عثمان لذلك . ثمّ توفي الحكم في خلافته فصلّى عليه و مشي خلفه فشقّ ذلك على المسلمين و قالوا : ما كفاك ما فعلت حتّى تصلّى على منافق ملعون لعنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و نفاه فخلعوه و قتلوه و اعطى ابنه مروان خمس غنائم افريقيّة خمسمائة ألف دينار ، و لمّا بلغ عايشة أرسلت إلى عثمان أما كفاك أنك رددت المنافق حتّى تعطيه أموال المسلمين و تصلّى عليه و تشيّعه بهذا السبب ؟ قالت : اقتلوا نعثلا قتله اللّه فقد كفر ، و لمّا بلغ مروان انكارها جاء إليها يعاتبها فقالت : اخرج يا ابن الزرقاء انّى أشهد على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله أنه لعن أباك و أنت في صلبه . قال الشعبي : إنّ مروان ولد سنة اثنتين من الهجرة و أبوه إنّما أسلم يوم الفتح و نفاه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بعد ذلك ، قلت : و قد ذكر ابن سعد في الطبقات معنى الحكاية الّتي حكيناها عن ابن إسحاق و رسالة مروان إلى الحسن . انتهى ما أردنا من نقل كلام سبط ابن الجوزي في التذكرة . و أقول : سيأتي توضيح كلام الإمام المجتبى عليه السّلام في عمرو بن العاص العاصي : فادّعاك خمسة من قريش في تفسير كتاب أمير المؤمنين عليه السّلام إلى عمرو بن العاص . و أمّا قول الكلبي و الأصمعي أنّ معاوية كان من أربعة من قريش فقد روى الزمخشرى في كتاب ربيع الأبرار أيضا أنّ معاوية كان يعزى إلى أربعة : إلى عمرو بن مسافر ، و إلى عمارة بن الوليد ، و إلى العبّاس بن عبد المطّلب [ 167 ] و إلى الصباح مغنّ أسود كان لعمارة ، قال قالوا : كان أبو سفيان و سيما قصيرا ، و كان الصباح عسيفا لأبي سفيان شابّا و سيما فدعته هند إلى نفسها ، و قالوا : إنّ عتبة بن أبي سفيان من الصباح أيضا و انّها كرهت أن تضعه في منزلها فخرجت إلى أجياد فوضعته هناك و في ذلك قال حسان بن ثابت : لمن الصبى بجانب البطحاء في الأرض ملقى غير ذى مهد بخلت به بيضاء آنسة من عبد شمس صلتة الخدّ و أقول : هذان البيتان من أبيات توجد في آخر ديوان حسّان على ما في نسخة مخطوطة من ديوانه في مكتبتنا ، و الأبيات معنونة بهذا العنوان : و قال حسّان لهند بنت عتبة بن أبي ربيعة ، و بعد البيتين : تسعى الصباح معولة يا هند انك صلبة الحرد فإذا تشادعت بمقطرة تذكى لها بالودّة الهند غلبت على شبه الغلام و قد بان السواد لحالك جعد أشرت لكاع و كان عادتها دقّ المشاش بناجذ جلد فحرّى لمعاوية أن يباهي و يفتخر قائلا : اولئك آبائى فجئنى بمثلهم . و أمّا قوله : إذ حبق الحجّام فقال مسافر : قد يحبق ( يضرط خ ل ) العير و المكواة في النار فقال الميدانى في مجمع الأمثال : و يقال : إنّ أوّل من قاله مسافر ابن أبي عمرو بن اميّة و ذلك أنّه كان يهوى بنت عتبة و كانت تهواه فقالت : إنّ أهلى لا يزوّجوننى منك انك معسر ، فلو قد وفدت إلى بعض الملوك لعلك تصيب مالا فتتزوّجنى ، فرحل إلى الحيرة وافدا إلى النعمان فبيناهم مقيم عنده إذ قدم عليه قادم من مكّة فسأله عن خبر أهل مكّة بعده فأخبره بأشياء و كان منها أنّ أبا سفيان تزوّج هندا فطعن مسافر من الغمّ فأمر النعمان أن يكوى فأتاه الطبيب بمكاويه فجعلها في النار ثمّ وضع مكواة منها عليه و علج من علوج النعمان واقف فلمّا رآه يكوى ضرط فقال مسافر : قد يضرط العير و يقال : إنّ الطبيب ضرط . [ 168 ] و أمّا ما نقل السبط من قول أمير المؤمنين علي عليه السّلام لولده الحسن عليه السّلام : قم فحدّه فامتنع الحسن ، و ما روى أحمد في المسند من أنّ عليّا عليه السّلام لما قال للحسن عليه السّلام قم فاجلده قال الحسن عليه السّلام و فيم أنت و ذاك ، ففيهما كلام لأنّ امتناع الإمام المجتبى عليه السّلام عمّا أمره به أبوه أمير المؤمنين عليه السّلام فدونه خرط القتاد . و أمّا ما نقله من حدّ شارب الخمر و من أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام جلد الوليد أربعين فالبحث عنه يوجب الإسهاب فانّه يؤدّى إلى شعب كثيرة من مسائل فقهية و غيرها و لذلك نكتفى على نقل ما أتى به صاحب الجواهر في شرح كتاب الحدود من كتاب الشرائع قال ره : حدّ المسكر ثمانون جلدة بلا خلاف أجده فيه بل الاجماع بقسميه عليه بل المحكى منهما مستفيض أو متواتر كالنصوص ، لكن في حسن الحلبى سئل الصّادق عليه السّلام أرأيت النبيّ صلى اللّه عليه و آله كيف يضرب بالخمر ؟ قال : كان يضرب بالنعال و يزيد إذا أتى بالشارب ثمّ لم يزل الناس يزيدون حتّى وقف ذلك على ثمانين أشار بذلك عليّ عليه السّلام على عمر . و نحوه خبر أبي بصير عنه عن أمير المؤمنين عليه السّلام معلّلا بأنه إذا شرب سكر و إذا سكر هذى و إذا هذى افترى فاذا فعل ذلك فاجلدوه حدّى المفترى ثمانين . بل في المسالك روى العامة و الخاصّة أنّ النّبي صلى اللّه عليه و آله كان يضرب الشارب بالأيدي و النعال و لم يقدّره بعدد فلمّا كان في زمن عمر استشار أمير المؤمنين عليه السّلام في حدّه فأشار عليه أن يضربه ثمانين معلّلا له بأنه إذا شرب سكر و إذا سكر هذى و إذا هذى افترى فجلده عمر ثمانين و عمل بمضمونه أكثر العامّة . و ذهب بعضهم إلى أربعين مطلقا لما روى أنّ صحابة قد رووا ما فعل في زمانه صلّى اللّه عليه و آله بأربعين و كان التقدير المزبور عن أمير المؤمنين عليه السّلام من التفويض الجائز لهم . و من الغريب ما في كتاب الإستغاثة في بدع الثلاثة من أنّ حدّ الشارب [ 169 ] الثمانين من بدع الثانى ، و أنّ الرسول صلى اللّه عليه و آله جعل حدّه أربعين بالنعال العرين و جرائد النخل باجماع أهل الرواية ، و انّ الثانى قال : إذا سكر افترى و انه افترى حدّ حدّ المفترى ، و في كشف اللثام و لعلّه أراد إلزامهم باعترافهم كما في الطرائف من قوله و من طريف ما شهدوا به أيضا على خليفتهم عمر من تغييره لشريعة نبيّهم صلى اللّه عليه و آله و قلّة معرفته بمقام الأنبياء و خلفائهم ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين من مسند أنس بن مالك في الحديث الحادى و التسعين من المتفق عليه انّ النّبي ضرب في الخمر بالجرائد و النعال و جلد أبو بكر أربعين فلمّا كان عمر استشار الناس فقال عبد الرّحمن أخفّ الحدود ثمانون فأمر به عمر . و ذكر الحميدي أيضا في كتاب الجمع بين الصحيحين في مسند السائب بن يزيد في الحديث الرابع من أفراد البخاري قال : كنّا نؤتى بالشارب على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و إمرة أبي بكر و شطر من خلافة عمر فنتقدّم إليه بأيدينا و نعالنا و ارديتنا حتّى كان آخر امرة عمر فجلد أربعين حتّى إذا عتوا و فسقوا جلد ثمانين . ثمّ إنّ ظاهر النصّ و الفتوى اعتبار الثمانين مترتبة لكن في خبر زرارة سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول : إنّ الوليد بن عقبة حين شهد عليه بشرب الخمر قال عثمان لعليّ عليه السّلام : اقض بينه و بين هؤلاء الّذين زعموا أنه شرب الخمر ، قال : فأمر عليّ عليه السّلام فجلد بسوط له شعبتان أربعين جلدة فصارت ثمانين . و في خبره الاخر سمعته أيضا يقول : اقيم عبيد بن عمر و قد شرب الخمر فأمر عمر أن يضرب فلم يتقدّم عليه أحد يضربه حتّى قام عليّ عليه السّلام بنسعة مثنية لها طرفان فضربه أربعين ، و يمكن حملهما على جواز ذلك لمصلحة و اللّه العالم ، و كيف كان فالمشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة كادت تكون اجماعا أنه لا فرق في الثمانين رجلا كان الشارب أو امرأة حرّا كان أو عبدا بل عن صريح الغنية و ظاهر غيرها الإجماع عليه ، انتهى ما أردنا من نقل كلامه طيّب اللّه رمسه . ثمّ قال عليه السّلام : ( و كتاب اللّه يجمع لنا إلى قوله : أولى بالطاعة ) احتجّ عليه السّلام بآيتين من القرآن الكريم على أولويّته من غيره في أمر الخلافة و استنتج من [ 170 ] الاولى أولويّته بالخلافة بقرابته إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، و من الثانية أولويّته بالخلافة بطاعة الرسول و لا يخفى على اولى الألباب حسن استنباطه عليه السّلام هذا المعنى من القرآن الكريم . كما لا يخفى عليهم أنّه عليه السّلام كان من أخصّ اولى الأرحام بالرسول صلى اللّه عليه و آله ، و كان أقرب الخلق إلى اتباعه و ناهيك في المقام قوله عليه السّلام : و لقد قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و انّ رأسه لعلى صدري و لقد سالت نفسه في كفّى فأمر رتها على وجهى و لقد وليت غسله صلى اللّه عليه و آله و الملائكة أعوانى فضجّت الدار و الأفنية ملأ يهبط و ملأ يعرج و ما فارقت سمعى هنيمة منهم يصلّون حتّى و اريناه في ضريحه فمن ذا أحقّ به منّى حيّا و ميّتا ؟ ، كما مضى في المختار 195 من باب الخطب ، و قد مضت طائفة من كلامنا في الإمام و صفاته في شرح المختار 237 من باب الخطب فراجع ( ص 35 176 ج 16 ) . ثمّ إنّه عليه السّلام أتى بعد آية اولى الأرحام بالآية الثانية لأنّ الأمر الأهمّ هو الإتباع و لولاه لا ينفع القرابة ألا ترى قوله عزّ و جلّ خطابا لنوح عليه السّلام في أمر ولده : « انه ليس من أهلك انه عمل غير صالح » . ثمّ قال عليه السّلام : ( و لمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة إلى قوله : على دعويهم ) ثمّ احتجّ عليه السّلام على معاوية بما ظفر المهاجرون يوم السقيفة على الأنصار و ذلك أنّه قالت الأنصار يوم السقيفة للمهاجرين : منّا أمير و من قريش أمير و قال المهاجرون : نحن شجرة الرسول و عشيرته و رووا عنه صلى اللّه عليه و آله الأئمة من قريش فغلبوا بذلك على الأنصار ( ص 1838 من تاريخ الطبرى ) فاحتجّ أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام على معاوية بأنّ ظفرهم على الأنصار إن كان لقربهم منه صلى اللّه عليه و آله فالحقّ لنا ، أى فالحقّ لأهل بيته ، و من كان من أخصّ اولى الأرحام بالرسول و أقربهم إليه أولى بذلك الحقّ ، و إن كان بغيره فالأنصار على دعويهم أى لم يتمّ حجّة المهاجرين عليهم فلم يتحقّق إجماع الصحابة على خلافة من جعل خليفة المسلمين منذ قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سيأتي عن قريب في شرح هذا [ 171 ] الكتاب نحو احتجاجه هذا لمّا أتي به إلى أبي بكر للبيعة المنقول من كتاب الامامة و السياسة للدينورى . و بالجملة أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام احتجّ على معاوية بالكتاب العزيز أوّلا بأنّه مرّة أولى بالخلافة بقرابة الرسول صلى اللّه عليه و آله و تارة أولى بها بالطاعة ، ثمّ احتجّ عليه بما غلب المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة بأنّ ظفر المهاجرين عليهم إن كان لقربهم من الرّسول صلى اللّه عليه و آله فهو عليه السّلام أولى بالخلافة من غيره لقربه من الرسول بمادريت ، و إن كان لغير القرابة فلم يتمّ أمر الخلافة في الخلفاء الثلاث فما كتب معاوية في كتابه المنقول آنفا ليس بصحيح لأنّه قال في ذلك الكتاب : فكان أفضلهم مرتبة و أعلاهم عند اللّه و المسلمين منزلة الخليفة الأوّل الّذي جمع الكلمة ثمّ الخليفة الثانى الّذي فتح الفتوح ثمّ الخليفة الثالث المظلوم الّذي نشر الملّة الخ فاذا كان الأنصار على دعويهم لم يتحقّق إجماع على خلافة هؤلاء . على أنّ معاوية كان أجنبيّا من النّبي صلى اللّه عليه و آله و الأنصار كليهما بلا كلام فلا يجوز له دعوى الخلافة فليس لمثله حقّ فيها . و قد مضى نحو كلامه عليه السّلام هذا في المختار التاسع ( ص 330 ج 17 ) حيث قال عليه السّلام : لأنّ اللّه جلّ ذكره لمّا قبض نبيّه صلى اللّه عليه و آله قالت قريش : منّا أمير و قالت الأنصار : منّا أمير فقالت قريش : منّا محمّد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فنحن أحقّ بذلك الأمر فعرفت ذلك الأنصار فسلمت لهم الولاية السلطان فاذا استحقّوها بمحمّد صلى اللّه عليه و آله دون الأنصار فانّ أولى النّاس بمحمّد صلى اللّه عليه و آله أحقّ بها منهم و إلاّ فانّ الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا فلا أدرى أصحابي سلموا من أن يكونوا حقّي أخذوا أو الأنصار ظلموا عرفت أنّ حقّي هو المأخوذ الخ . قلت : و من كلامه هذا يستفاد حمل قوله : و إن يكن بغيره فالأنصار على دعويهم ، على أنّ دعويهم منّا أمير و منكم أمير بحالها ، فانّهم أعظم العرب فيها نصيبا فهم منعوا عن حقّهم ظلما ، و هذا وجه آخر فهم من كلامه هذا بقرينة كلامه ذلك ، و إن كان يستلزم هذا الوجه المعنى الأوّل أيضا . [ 172 ] قال المسعودي في مروج الذّهب : بايع النّاس أبا بكر في سقيفة بني ساعدة ابن كعب بن الخزرج الأنصاري في يوم الاثنين الّذي توفّى فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و لمّا بويع أبو بكر في يوم السقيفة و جددت البيعة له يوم الثلاثاء ، خرج عليّ عليه السّلام فقال : أفسدت علينا امورنا و لم تستشر و لم ترع لنا حقّا ، فقال أبو بكر : بلى ، و لكن خشيت الفتنة ، و كان للمهاجرين و الأنصار يوم السقيفة خطب طويل و محادثة في الإمامة ، و خرج سعد بن عبادة و لم يبايع ، و لم يبايع أبا بكر أحد من بني هاشم حتّى ماتت فاطمة عليها السّلام . قال : و لما احتضر أبو بكر قال : ما أنا إلاّ على ثلاث فعلتها وددت أنّي تركتها ، و ثلاث تركتها وددت أنّي فعلتها ، و ثلاث وددت أنّي سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فأمّا الثلاث الّتي فعلتها و وددت أنّي تركتها فوددت أنّي لم أكن فتشت بيت فاطمة و ذكر في ذلك كلاما كثيرا ، و وددت أنّي أكن حرقت الفجاءة و أطلقته نجيحا أو قتلته صريحا ، و وددت أنّي يوم سقيفة بني ساعدة قد رميت الأمر في عنق أحد الرجلين فكان أميرا و كنت وزيرا ، الخ . قلت : قد ذكر نحو كلام المسعودي في مروج الذهب ابن عبد البرّ في كتاب الاستيعاب حيث قال في ترجمة أبي بكر : أنه بويع له بالخلاقة اليوم الّذي قبض فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في سقيفة بني ساعدة ، ثمّ بويع البيعة العامّة يوم الثلثاء من غد ذلك اليوم و تخلّف عن بيعته سعد بن عبادة ، و طائفة من الخزرج ، و فرقة من قريش . انتهى . و نقل نحوهما غير واحد من حملة الأخبار غيرهما و فيه دليل بيّن على اختلاف القوم في بيعته و عدم توافقهم في خلافته . و قال اليعقوبي في تاريخه : اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة يوم توفّى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و هو بعد لم يغسل إلى أن قال : و قام المنذر بن الأرقم فقال : إنّ فيهم رجلا لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد قال : يعني عليّ بن أبي طالب و جاء البراء بن عازب فضرب الباب على بني هاشم و قال : يا معشر بني هاشم بويع أبو بكر ، فقال بعضهم : ما كان المسلمون يحدّثون حدثا نغيب عنه و نحن أولى [ 173 ] بمحمّد صلى اللّه عليه و آله ، فقال العبّاس : فعلوها و ربّ الكعبة . قال : و كان المهاجرون و الأنصار لا يشكّون في عليّ عليه السّلام فلما خرجوا من الدار ، قام الفضل بن العبّاس و كان لسان قريش فقال : يا معشر قريش إنّه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه و نحن أهلها دونكم و صاحبنا أولى بها منكم ، و قام عتبة ابن أبي لهب فقال : ما كنت أحسب أنّ الأمر منصرف عن هاشم ثمّ منها عن أبي الحسن عن أوّل النّاس إيمانا و سابقة و أعلم النّاس بالقرآن و السنن و آخر النّاس عهدا بالنبيّ و من جبريل عون له بالغسل و الكفن من فيه ما فيهم لا يمترون به و ليس في القوم ما فيه من الحسن فبعث إليه عليّ عليه السّلام فنهاه ، و تخلّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين و الأنصار و مالوا مع عليّ بن أبي طالب منهم العبّاس بن عبد المطّلب ، و الفضل بن العبّاس ، و الزبير بن العوام بن العاص ، و خالد بن سعيد ، و المقداد بن عمرو ، و سلمان الفارسيّ ، و أبو ذرّ الغفاريّ ، و عمّار بن ياسر ، و البراء بن عازب ، و ابيّ ابن كعب . انتهى كلامه . قلت : و من هنا سمّيت الطّائفة الحقّة الاثنا عشريّة بالرافضة كما قال شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي قدّس سرّه : من أنّ سبعة عشر رجلا من الصّحابة و مع عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام ثمانية عشر أبوا عن بيعة أبي بكر ، فقال غيرهم ممّن بايعوا أبا بكر في هؤلاء : رفضونا أى تركونا و لم يوافقونا في البيعة . و كان فيمن تخلّف عن بيعة أبي بكر أبو سفيان بن حرب ، و قال : أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلى هذا الأمر عليكم غيركم ، و قال لعليّ عليه السّلام : امدد يدك ابايعك ، و مضى كلام أمير المؤمنين عليه السّلام لمعاوية : و قد كان أبوك أتانى حين ولى النّاس أبا بكر فقال : أنت أحقّ بعد محمّد صلى اللّه عليه و آله بهذا الأمر و أنا زعيم لك بذلك على من خالف عليك ابسط يدك ابايعك فلم أفعل ، فراجع إلى شرح المختار التاسع ( ص 331 ج 17 و ص 7 ج 18 ) . [ 174 ] قوله عليه السّلام : ( و زعمت أنّى لكلّ الخلفاء حسدت و على كلّهم بغيت إلى قوله : ظاهر عنك عارها ) هذا الفصل جواب عن قول معاوية : لقد حسدت أبا بكر و التويت عليه ، إلى قوله : ثمّ كرهت خلافة عمر و حسدته ، إلى قوله : لم تكن أشدّ منك حسدا لابن عمّك عثمان إلى قوله : و ما من هؤلاء إلاّ من بغيت عليه و قال عليه السّلام فإن يكن ذلك كذلك أى لا نسلّم أوّلا على أنّى حسدت هؤلاء و أنت كاذب في دعواك هذه . أقول : قد مرّ تحقيق ذلك في المختار 237 من باب الخطب في البحث عن الامامة من أنّ جميع الذّنوب أربعة أوجه لا خامس لها : الحرص و الحسد و الغضب و الشهوة فهذه منفية عن الامام ( فراجع إلى ص 44 ج 16 ) . و ثانيا على فرض التسليم و المماشاة معكم في تلك الدعوى بأن تكون صادقا فيها فليس الجناية عليك حتّى أعتذر إليك و ذلك لما مرّ غير مرّة من أنّ معاوية لم يكن ولىّ دم عثمان كي يطلب دمه بل كلامه في ذلك من الفضول و خوض فيما لا يعنيه ، على أنّ أمير المؤمنين عليّا عليه السّلام كان يذبّ عنه حتّى قال عليه السّلام : ما زلت أذبّ عن عثمان حتّى أنّى لأستحى ، و قد دريت أنّ عثمان قتل نفسه بأحداثه الّتي أحدثها ممّا نقمها الناس منه و طعنوا بها عليه فراجع إلى شرحنا على المختار التاسع من باب الكتب ( ص 395 ج 17 ) ، و قد تمثّل عليه السّلام تأكيدا لكلامه ليس الجناية عليك فيكون العذر إليك بقول أبي ذؤيب الهذلى و قد تقدّم بيانه في شرح اللغات على التفصيل . ثمّ قد مضى نحو كلامه هذا في المختار التّاسع من باب الكتب حيث قال عليه السّلام : و ذكرت حسدي الخلفاء و إبطائى عنهم و بغيي عليهم فأما البغي فمعاذ اللّه أن يكون ، و أمّا الإبطاء عنهم و الكراهة لأمرهم فلست أعتذر منه إلى الناس الخ ( ص 330 ج 17 ) . قوله عليه السّلام : ( و قلت : إنّي كنت اقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتّى ابايع إلى قوله : بقدر ما سنح من ذكرها ) هذا الفصل جواب عن قول معاوية : و تلكّأت [ 175 ] في بيعته حتّى حملت عليه قهرا تساق بحزائم الاقتسار كما يساق الفحل المخشوش . و كان كلام معاوية في كتابه المنقول في شرح المختار التاسع ( ص 327 ج 17 ) إلى أمير المؤمنين عليه السّلام : فكان أفضلهم في إسلامه و أنصحهم للّه و لرسوله الخليفة من بعده و خليفة خليفته ، و الثالث الخليفة المظلوم عثمان فكلّهم حسدت و على كلّهم بغيت ، عرفنا ذلك في نظرك الشزر و في قولك الهجر و في تنفّسك الصعداء و إبطائك عن الخلفاء تقاد إلى كلّ منهم كما يقاد الفحل المخشوش حتّى تبايع و أنت كاره . و إنّما قال عليه السّلام : لقد أردت أن تذمّ فمدحت و أن تفضح فافتضحت ، لأنّ قول معاوية : و تلكأت في بيعته حتّى حملت عليه قهرا تساق بحزائم الاقتسار ، كما يساق الفحل المخشوش ، و كذا قوله : و في إبطائك عن الخلفاء تقاد إلى كلّ منهم كما يقاد الفحل المخشوش حتّى تبايع و أنت كاره ، اعتراف صريح بأنّ أمير المؤمنين عليّا عليه السّلام بايعهم على إجبارهم إيّاه ، فلم يكن إجماع الامّة على خلافة الثلاث فلم يتمّ خلافتهم فاعترف معاوية بظلمهم عليّا عليه السّلام و أنّه عليه السّلام كان مظلوما ، و كان معاوية جعل خلافتهم عرضة لأغراضه الفاسدة سيما الثالث منهم كما لا يخفى فأراد معاوية أن يذمّ أمير المؤمنين عليه السّلام فمدحه ، و أن يفضحه فافتضح هو نفسه بكلامه قال اللّه تبارك و تعالى : « و لا يحيق المكر السّي‏ء إلاّ بأهله » ( فاطر 44 ) . ثمّ إنّ نحو هذا الإحتجاج وقع بين الأمير عليه السّلام و بين أبي بكر و قد أتى به الطبرسي في كتاب الاحتجاج قال : احتجاج أمير المؤمنين عليه السّلام على أبي بكر لمّا كان يعتذر إليه من بيعة الناس له و يظهر الانبساط له ، عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام قال : لمّا كان من أمر أبي بكر و بيعة الناس له و فعلهم بعليّ لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط و يري منه الانقباض فكبر ذلك على أبي بكر و أحبّ لقاءه و استخرج ما عنده و المعذرة إليه ممّا اجتمع الناس عليه و تقليدهم إيّاه أمر الامّة و قلة رغبته في ذلك و زهده فيه ، أتاه في وقت غفلة و طلب منه الخلوة فقال : يا أبا [ 176 ] الحسن و اللّه ما كان هذا الأمر عن مواطاة منّى و لا رغبة فيما وقعت عليه و لا حرص عليه و لا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الامّة و لا قوّة لي بمال و كثرة العشيرة و لا استيشار به دون غيري فما لك تضمّر عليّ ما لم أستحقّه منك ، و تظهر لي الكراهة لما صرت فيه و تنظر إلىّ بعين الشناءة لي ؟ . قال : فقال أمير المؤمنين عليه السّلام : فما حملك عليه إذ لم ترغب فيه و لا حرصت عليه و ثقت بنفسك في القيام به ؟ . قال : فقال أبو بكر : حديث سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله إنّ اللّه لا يجمع امّتى على ضلال و لمّا رأيت إجماعهم اتّبعت قول النّبيّ صلى اللّه عليه و آله و أحلت أن يكون إجماعهم على خلاف الهدى من الضلال فأعطيتهم قود الإجابة و لو علمت أنّ أحدا يتخلّف لامتنعت . فقال عليّ عليه السّلام : أمّا ما ذكرت من قول النّبي صلى اللّه عليه و آله : إنّ اللّه لا يجمع امّتي على ضلال أفكنت من الامّة أم لم أكن ؟ قال : بلى ، قال : و كذلك العصابة الممتنعة عنك من سلمان و عمّار و أبي ذرّ و المقداد و ابن عبادة و من معه من الأنصار ؟ قال : كلّ من الامّة ، قال عليّ عليه السّلام : فكيف تحتجّ بحديث النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أمثال هؤلاء قد تخلّفوا و ليس للامّة فيهم طعن و لا في صحبة الرسول و لصحبته منهم تقصير إلى آخر الاحتجاج . قال القاضي قدّس سرّه في إحقاق الحقّ : إنّ إجماع الامّة بأجمعهم على امامة أبي بكر لم يتحقّق في قت واحد و هذا واضح جدّا مع قطع النظر عن عدم حضور أهل البيت عليهم السّلام و سعد بن عبادة سيّد الأنصار و أولاده و أصحابه و لهذا طوى صاحب المواقف دعوى ثبوت خلافة أبي بكر بالإجماع و اكتفى في إثباته بالبيعة إلى أن قال : فإنّ بني هاشم لم يبايعوا أوّلا ثمّ قهروا فبايعوا بعد ستّة أشهر و امتنع عليّ عليه السّلام و لزم بيته و لم يخرج إليهم في جمعة و لا جماعة إلاّ [ إلى ] أن وقع ما نقله أهل [ 177 ] الأحاديث و الأخبار و اشتهر كالشمس في رابعة النهار حتّى أنّ معاوية بعث إلى عليّ عليه السّلام في كتاب كتبه إليه يقول فيه : انك كنت تقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتّى تبايع ، يعيّره و يؤنّبه بأنّه لم يبايع طوعا و لم يرض ببيعة أبي بكر حتّى استكره عليها خاضعا ذليلا كالجمل إذا لم يعبر على قنطرة و شبهها فانه يكره و يخشّ بالرماح و غيرها ليعبر كرها . فكتب إليه بالجواب عنه ما ذكر في نهج البلاغة المتواتر نقله عنه عليه السّلام و هذا لفظه : و قلت : انّى كنت اقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتّى ابايع ، و لعمر اللّه لقد أردت أن تذمّ فمدحت و أن تفضح فافتضحت و ما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه أو مرتابا في يقينه و هذه حجّتى إلى غيرك . انتهى ما أردنا من نقل كلامه في المقام . ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السّلام : ( و ما على المسلم من غضاضة ) أى ذلة و منقصة ( في أن يكون مظلوما ) أى مغصوبا حقّه و هو الخلافة و الغاصب ظالم ( ما لم يكن ) المسلم المظلوم ( شاكّا في دينه و لا مرتابا بيقينه ) فهو عليه السّلام يشير إلى أنّه كان على يقين و بصيرة في دينه و لا يضرّه و لا يضلّه عدول الناس عن العدل و ميلهم إلى الجور و سيأتي كلامه عليه السّلام في المختار 62 من هذا الباب : انّى و اللّه لو لقيتهم واحدا و هم طلاع الأرض كلّها ما باليت و لا استوحشت و إنّى من ضلالهم الّذي هم فيه و الهدى الّذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسى و يقين من ربّى و إنّى إلى لقاء اللّه و لحسن ثوابه لمنتظر راج الخ . كما مضى نحو كلامه هذا في المختار العاشر من باب الخطب : ألا و إنّ الشيطان قد جمع حزبه و استجلب خيله و رجله و إنّ معى لبصيرتى ما لبّست على بصيرتى نفسى و لا لبّس عليّ الخ ، و كذا في المختار 135 من باب الخطب : و إنّ معى لبصيرتى ما لبّست و لا لبّس عليّ الخ . و في الحديث الثانى عشر من كتاب العقل و الجهل من اصول الكافي للكليني قدّس سرّه روى بإسناد عن هشام بن الحكم قال : قال لي أبو الحسن موسى بن [ 178 ] جعفر عليه السّلام : يا هشام إنّ اللّه تبارك و تعالى بشّر أهل العقل و الفهم في كتابه إلى أن قال عليه السّلام : يا هشام ثمّ ذمّ اللّه الكثرة فقال : « و إن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل اللّه » و قال : « و لئن سألتهم من خلق السموات و الأرض ليقولنّ اللّه قل الحمد للّه بل أكثرهم لا يعلمون » و قال : « و لئن سألتهم من نزّل من السماء ماء فأحيا به الأرض يعد موتها ليقولنّ اللّه قل الحمد للّه بل أكثرهم لا يعقلون » . يا هشام ثمّ مدح القلّة فقال : « و قليل من عبادى الشكور » و قال : « و قليل ما هم » و قال : « و قال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أ تقتلون رجلا أن يقول ربّى اللّه » و قال : « و من آمن و ما آمن معه إلاّ قليل » و قال : « و لكن أكثرهم لا يعلمون » و قال : « و أكثرهم لا يعقلون » و قال : « و أكثرهم لا يشعرون » الحديث . ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السّلام ( و هذه حجّتى إلى غيرك قصدها و لكنّى أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها ) يعنى عليه السّلام أنّ بيعته عليه السّلام الخلفاء على إجبارهم إيّاه و إكراههم إيّاه حجّة عليهم لما دريت من احتجاجه عليه السّلام على أبي بكر المنقول آنفا من كتاب الاحتجاج ، و من احقاق الحقّ ، و لما لم يكن معاوية في أمر الخلافة في شي‏ء كما دريت آنفا من عدم كونه في مظنّة الاستحقاق بل كان غير لائق له رأسا و كان أجنبيّا من النّبي و الأنصار كليهما و لم يكن له حظّ و شأن فيه أصلا قال عليه السّلام : و هذه حجّتى إلى غيرك الخ . و بما قدّمنا و حقّقنا في معنى قوله عليه السّلام : و قلت إنّي كنت اقاد كما يقاد الجمل المخشوش الخ ، تعلم أنّ ما ذهب إليه الشارح البحرانى ليس كما ينبغي تركنا نقل كلامه مخافة التطويل و من شاء فليراجع إلى شرحه . و لنذكر نبذة من كلام ابن قتيبة الدينوري في إكراه القوم عليّا أمير المؤمنين عليه السّلام للبيعة و إبايته البيعة فقال في كتاب الإمامة و السياسة المعروف بتاريخ الخلفاء ( ص 11 من طبع مصر ) : ثمّ إنّ عليّا كرّم اللّه وجهه اتي به إلى أبي بكر و هو يقول : أنا عبد اللّه ، و أخو رسوله ، فقيل له : بايع أبا بكر فقال : أنا أحقّ بهذا الأمر منكم لا ابايعكم و أنتم [ 179 ] أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، و احتججتم عليهم بالقرابة من النّبي صلى اللّه عليه و آله ، و تأخذونه منّا أهل البيت غصبا ؟ ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمّد منكم فأعطوكم المقادة ، و سلّموا إليكم الإمارة و أنا احتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله حيّا و ميّتا ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون و إلاّ فبوءوا بالظلم و أنتم تعلمون . فقال له عمر : إنك لست متروكا حتّى تبايع ، فقال له عليّ : احلب حلبا لك شطره و اشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا ، ثمّ قال : و اللّه يا عمر لا أقبل قولك و لا ابايعه ، فقال له أبو بكر : فإن لم تبايع فلا أكرهك ، فقال أبو عبيدة ابن الجرّاح لعلي كرّم اللّه وجهه : يا ابن عمّ إنّك حديث السنّ و هؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم و معرفتهم بالامور و لا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك و أشدّ احتمالا و اضطلاعا به ، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر ، فانّك إن تعش و يطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق و به حقيق في فضلك و دينك و علمك و فهمك و سابقتك و نسبك و صهرك . فقال عليّ كرّم اللّه وجهه : اللّه اللّه يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره و قعر بيعته إلى دوركم و قعور بيوتكم ، و لا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس و حقّه فو اللّه يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ النّاس به لأنا أهل البيت و نحن أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا القاري‏ء لكتاب اللّه الفقيه في دين اللّه العالم بسنن رسول اللّه ، المضطلع بأمر الرعيّة ، المدافع عنهم الامور السّيئة القاسم بينهم بالسوية و اللّه إنّه لفينا ، فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل اللّه فتزدادوا من الحقّ بعدا . فقال بشير بن سعد الأنصاري : لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا عليّ قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان . قال : و خرج عليّ كرّم اللّه وجهه يحمل فاطمه بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله على دابّة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة فكانوا يقولون : يا بنت رسول اللّه قد [ 180 ] مضت بيعتنا لهذا الرجل و لو أنّ زوجك و ابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به ، فيقول عليّ كرّم اللّه وجهه : أفكنت أدع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في بيته لم أدفنه و أخرج انازع الناس سلطانه ؟ فقالت فاطمة : ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له و لقد صنعوا ما اللّه حسيبهم و طالبهم . قال : و إنّ أبا بكر تفقد قوما تخلّفوا عن بيعته عند عليّ ، فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم و هم في دار عليّ فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب و قال : و الّذي نفس عمر بيده : لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها ، فقيل له : يا أبا حفص إنّ فيها فاطمة ، فقال : و إن . فخرجوا فبايعوا إلاّ عليّا فانّه زعمّ أنّه قال : حلفت أن لا أخرج و لا أضع ثوبى على عاتقى حتّى أجمع القرآن فوقفت فاطمة على بابها فقالت : لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم تركتم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله جنازة بين أيدينا و قطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا و لم تردّوا لنا حقا . فأتى عمر أبا بكر فقال له : ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة ؟ فقال أبو بكر لقنفذ و هو مولى له : اذهب فادع لي عليّا ، فذهب إلى عليّ فقال له : ما حاجتك ؟ فقال : يدعوك خليفة رسول اللّه ، فقال عليّ : لسريع ما كذبتم على رسول اللّه فرجع فأبلغ الرسالة فبكى أبو بكر طويلا فقال عمر الثانية : لا تمهل هذا المتخلّف عنك بالبيعة ، فقال أبو بكر لقنفذ : عد إليه فقل له : أمير المؤمنين يدعوك لتبايع ، فجاءه قنفذ فأدّى ما امر به فرفع عليّ صوته فقال : سبحان اللّه لقد ادّعى ما ليس له فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة فبكى أبو بكر طويلا ثمّ قام عمر فمشى معه جماعة حتّى أتوا باب فاطمة فدّقوا الباب فلمّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها : يا أبت يا رسول اللّه ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب و ابن أبي قحافة . فلمّا سمع القوم صوتها و بكاءها انصرفوا باكين و كادت قلوبهم تنصدع و أكبادهم تنفطر و بقي عمر و معه قوم فأخرجوا عليّا فمضوا به إلى أبي بكر فقالوا له : بايع ، فقال : إن أنا لم أفعل فمه ؟ قالوا : إذا و للّه الّذي لا إله إلاّ هو [ 181 ] تضرب عنقك ، قال : إذا تقتلون عبد اللّه و أخا رسوله ، قال عمر : أمّا عبد اللّه فنعم و أمّا أخو رسوله فلا ، و أبو بكر ساكت لا يتكلّم ، فقال له عمر : ألا تأمرك فيه بأمرك ، فقال : لا أكرهه على شي‏ء ما كانت فاطمة إلى جنبه ، فلحق عليّ بقبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يصيح و يبكي و ينادي يا ابن امّ إنّ القوم استضعفونى و كادوا يقتلوننى . قال فقال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلى فاطمة فانا قد أغضبناها فانطلقا جميعا فاستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما فأتيا عليّا فكلّماه فأدخلهما عليها فلمّا قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط فسلّما عليها فلم تردّ عليهما السلام فتكلّم أبو بكر فقال : يا حبيبة رسول اللّه و اللّه إنّ قرابة رسول اللّه أحبّ إلىّ من قرابتى ، و إنك لأحبّ إلىّ من عائشة ابنتى ، و لوددت يوم مات أبوك أنّى متّ و لا أبقي بعده أفترانى أعرفك و أعرف فضلك و شرفك و أمنعك حقك و ميراثك من رسول اللّه إلاّ أنّى سمعت أباك رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يقول : لا نورث ما تركنا فهو صدقة فقالت : أرأيتكما إن حدّثتكما حديثا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله تعرفانه و تفعلان به ؟ قالا : نعم ، فقالت : نشدتكما اللّه ألم تسمعا رسول اللّه يقول : رضا فاطمة من رضاى ، و سخط فاطمة من سخطي ، فمن أحبّ فاطمة ابنتى فقد أحبّنى ، و من أرضى فاطمة فقد أرضانى ، و من أسخط فاطمة فقد أسخطني ؟ قالا : نعم سمعناه من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، قالت : فإنّي اشهد اللّه و ملائكته أنكما أسخطتماني و ما أرضيتماني ، و لئن لقيت النّبي لأشكونكما إليه ، إلى أن قال ابن قتيبة : فلم يبايع عليّ كرّم اللّه وجهه حتّى ماتت فاطمة رضي اللّه عنها و لم تمكث بعد أبيها إلاّ خمسا و سبعين ليلة الخ . قلت : إنّ كلام الأمير عليه السّلام يا ابن امّ إنّ القوم استضعفونى و كادوا يقتلوننى ، اقتباس من قول اللّه عزّ و جلّ فيما جرى بين موسى كليم اللّه عليه السّلام و أخيه هارون و بين قومه الظالمين حيث قال عزّ من قائل : « و اتّخذ قوم موسى من بعده من حلّيهم عجلاً جسداً له خوار ألم يروا أنّه لا يكلّمهم و لا يهديهم سبيلا اتّخذوه و كانوا ظالمين . و لمّا سقط في أيديهم و رأوا أنّهم قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمنا ربّنا و يغفر لنا [ 182 ] لنكوننّ من الخاسرين . و لمّا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال بئسما خلّفتمونى من بعدى أعجلتم أمر ربّكم و ألقي الألواح و أخذ برأس أخيه يجرّه إليه قال ابن امّ إنّ القوم استضعفونى و كادوا يقتلوننى فلا تشمت بي الأعداء و لا تجعلني مع القوم الظالمين . قال ربّ اغفر لى و لأخى و أدخلنا في رحمتك و أنت أرحم الرّاحمين . انَّ الّذين اتّخذوا العجل سينالهم غضب من ربّهم و ذلّة في الحيوة الدُّنيا و كذلك نجزي المفترين » ( الأعراف : 149 153 ) . و انّما تذكّر عليه السّلام في التجائه بقبر النّبي صلى اللّه عليه و آله بهذه الاية لأنّه عليه السّلام كان من النّبيّ بمنزلة هارون من موسى كما رواها الفريقان في جوامعهم الروائية و حديث المنزلة من الأحاديث المتواترة و قد نقل المحدّث الخبير الرّباني السيّد هاشم البحراني طيّب اللّه رمسه و أعلى مقامه في الباب العشرين من كتابه القيّم الموسوم بغاية المرام و حجّة الخصام في تعيين الإمام من طريق الخاص و العامّ مائة حديث من طريق العامّة في قول النّبي صلى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدى ، و في الباب الحادي و العشرين منه سبعين حديثا من طريق الخاصّة في ذلك . فاذا كان لأمير المؤمنين عليّ عليه السّلام تلك المنزلة السامية ففي استشهاده بالاية يظهر مطالب لاولى الدراية فتأمّل فيما تلوناه عليك من الايات القرآنية . ثمّ إنّ كلام أبي بكر لفاطمة عليها سلام اللّه المتعال : انّى سمعت أباك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول : لا نورث الخ ، فيظهر ما فيه بالتأمّل في ما أفاده العلاّمة الحلّى قدس سرّه في كتابه الموسوم بكشف الحقّ حيث قال : و من المطاعن الّتي رواها السنّة في أبي بكر أنّه منع فاطمة ارثها فقالت له : يا ابن أبي قحافة أترث أباك و لا أرث أبي ، و احتجّ عليها برواية تفرّد بها هو عن جميع المسلمين مع قلّة رواياته و قلّة علمه و كونه الغريم لأنّ الصدقة يحلّ عليه فقال لها : إنّ النّبي صلى اللّه عليه و آله قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ، و القرآن مخالف لذلك فإنّ صريحه يقتضى دخول النّبى صلى اللّه عليه و آله فيه بقوله تعالى : « يوصيكم اللَّه [ 183 ] في أولادكم » و قد نصّ على أنّ الأنبياء يورثون فقال اللّه تعالى « و ورث سليمان داود » و قال عن زكريّا « و إنّي خفت الموالى من ورائى و كانت امرأتى عاقراً فهب لي من لدنك وليّاً يرثنى و يرث من آل يعقوب » . و ناقض فعله أيضا بهذه الرواية لأنّ أمير المؤمنين و العبّاس اختلفا في بغلة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سيفه و عمامته و حكم بها ميراثا لأمير المؤمنين عليه السّلام و لو كانت صدقة على عليّ عليه السّلام كان يجب على أبي بكر انتزاعها منه ، و لكان أهل البيت الّذين حكى اللّه تعالى عنهم بأنه طهّرهم تطهيرا مرتكبين ما لا يجوز ، نعوذ باللّه من هذه المقالات الردّية و الإعتقادات الفاسدة . و أخذ فدك من فاطمة و قد وهبها أباها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فلم يصدّقها مع أنّ اللّه تعالى طهّرها و زكّاها و استعان بها النّبي صلى اللّه عليه و آله في الدّعاء على الكفّار على ما حكى اللّه تعالى و أمره بذلك فقال له : « قل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم » فكيف يأمره اللّه تعالى بالاستعانة و هو سيّد المرسلين بابنته و هي كاذبة في دعواها غاصبة لمال غيرها نعوذ باللّه من ذلك . فجاءت بأمير المؤمنين عليه السّلام و شهد لها فلم يقبل شهادته قال : إنّه يجرّ إلى نفسه و هذا من قلّة معرفته بالأحكام ، و مع أنّ اللّه تعالى قد نصّ في آية المباهلة أنه نفس رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فكيف يليق بمن هو بهذه المنزلة و استعان به رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بأمر اللّه تعالى في الدّعاء يوم المباهلة أن يشهد بالباطل و يكذب و يغصب المسلمين أموالهم نعوذ باللّه من هذه المقالة . و شهد لها الحسنان عليهما السّلام فردّ شهادتهما و قال : هذان ابناك لا أقبل شهادتهما لأنهما يجرّ ان نفعا بشهادتهما ، و هذا من قلّة معرفته بالأحكام مع أنّ اللّه تعالى قد أمر النّبيّ صلى اللّه عليه و آله بالاستعانة بدعائهما يوم المباهلة فقال : « أبناءنا و أبناءكم » و حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بأنهما سيّدا شباب أهل الجنّة فكيف يجامع هذا شهادتهما بالزور و الكذب و غصب المسلمين حقّهم نعوذ باللّه من ذلك . ثمّ جاءت بامّ أيمن فقال : امرأة لا يقبل قولها : مع أنّ النّبي صلى اللّه عليه و آله قال : امّ [ 184 ] أيمن امرأة من أهل الجنّة فعند ذلك غضبت عليه و على صاحبه و حلفت أن لا تكلّمه و لا صاحبه حتّى تلقا أباها و تشكوله فلمّا حضرتها الوفاة أوصت أن تدفن ليلا و لا يدع أحدا منهم يصلّى عليها و قد رووا جميعا أنّ النّبي صلى اللّه عليه و آله قال : يا فاطمة إنّ اللّه يغضب لغضبك و يرضى لرضاك ، انتهى كلامه قدس سرّه في المقام . قوله عليه السّلام : ( ثمّ ذكرت ما كان من أمرى و أمر عثمان إلى قوله عليه السّلام : و ما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكّلت ) هذا الفصل جواب عن قول معاوية : ثمّ لم تكن أشدّ منك حسدا لابن عمك عثمان إلى قوله : و تلك من أماني النّقوس و ضلالات الهواء . و اعلم أنّ احتجاجه هذا على معاوية في أمر عثمان يتّضح لك بعد استحضارك ما قدّمنا من الطبري و غيره من قوله عليه السّلام : ما زلت أذبّ عن عثمان حتّى أنّى لأستحي ، و قوله عليه السّلام : و اللّه لقد دفعت عنه حتّى خشيت أن أكون آثما ، و ما قدّمنا من نصح أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام عثمان و طلبه قعوده في البيت ، فراجع إلى ص 183 و ص 203 و ص 311 و ص 325 من ج 16 . و ص 395 من ج 17 ، و ص 3 من ج 18 . قوله عليه السّلام : ( حتّى أتى قدره عليه ) أى حتّى أتى قتله المقدّر له . و قوله عليه السّلام : ( كلاّ و اللّه لقد علم اللّه المعوّقين منكم الخ ) إشارة إلى قوله عزّ و جلّ في أوائل سورة الأحزاب : « قد يعلم اللَّه المعوّقين منكم و القائلين لإخوانهم هلمّ إلينا و لا يأتون البأس إلاّ قليلا أشحّة عليكم فاذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالّذي يغشى عليه من الموت فاذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حدادٍ أشحّة على الخير اولئك لم يؤمنوا فأحبط اللَّه أعمالهم و كان ذلك على اللَّه يسيراً » . و هي من الايات الّتي نزلت في الأحزاب الّذين حاربوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في غزوة الخندق و كان من الأحزاب قريش و كان فائدهم أبو سفيان بن حرب كما نصّ به حملة الأخبار منهم أبو جعفر الطبري في التاريخ ( ص 1465 ج 3 من [ 185 ] طبع ليدن ) و ابن هشام في السيرة النّبوية ( ص 215 ج 2 ) ، و كاتب الواقدي محمّد ابن سعد في الطبقات الكبرى ( ص 66 ج 2 من طبع مصر ) حيث قال : فكان جميع القوم الّذين وافوا الخندق ممّن ذكر من القبائل عشرة آلاف و هم الأحزاب و كانوا ثلاثة عساكر و عناج الأمر إلى أبي سفيان بن حرب إلى آخر ما قال . و المعوّقون هم الّذين يعوّقون أى يمنعون غيرهم عن الجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و غزوة الأحزاب أى غزوة الخندق مذكورة في كتب التفاسير في سورة الأحزاب ، و في كتب المغازي و السير فراجع إلى مغازي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله للواقدي ( ص 290 من طبع مصر ) و إلى السيرة النّبوية لابن هشام ( ص 214 ج 2 من طبع مصر ) و إلى تاريخ الطبري ، و الطبقات الكبرى لابن سعد ، حتّى يتبيّن لك ما فعلت الشجرة الملعونة بنو اميّة بالإسلام و المسلمين . قوله عليه السّلام : ( و ذكرت أنه ليس لي و لا لأصحابى إلاّ السيف الخ ) هذا الفصل جواب عن قول معاوية : و ليس لك و لأصحابك عندي إلاّ السيف الخ . و قد مضى نحوه في الكتاب التاسع ، فأجابه بقوله ( فلقد أضحكت بعد استعبار ) و ذلك أنّ تهديد معاوية لمّا كان في غير محلّه لأنّ مثل تخويفه أمير المؤمنين عليه السّلام بالسيف كصبيّ يخوّف بطلا محاميا قال عليه السّلام : لقد أضحكت ، أى أضحكت غيرك من المؤمنين بتخويفك ، و لمّا كان تصرّفه في امور الدّين ممّا يبكي المؤمنين قال عليه السّلام : بعد استعبار ، أى بعد استعبارك أهل الدّين بما يرون منك في دين اللّه . و قوله عليه السّلام : ( من المهاجرين و الأنصار و التابعين باحسان ) اقتباس من قول اللّه عزّ و جلّ : « و السابقون الأوَّلون من المهاجرين و الأنصار و الّذين اتّبعوهم باحسان رضي اللَّه عنهم و رضوا عنه و أعدَّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم » ( التوبة : 100 ) . و ذرّية بدريّة أي الّذين هم من ذراري أهل بدر ، و أخو معاوية ، هو حنظلة ابن أبي سفيان و خاله وليد بن عتبة و جدّه عتبة بن ربيعة و أهله أتباعه ، و مضى نحو كلامه هذا في الكتاب العاشر : فأنا أبو حسن قاتل جدّك و خالك و أخيك شدخا [ 186 ] يوم بدر و ذلك السيف معي و بذلك القلب ألقى عدوّي ، و سيأتي نحوه في الكتاب الرابع و الستّين : و عندي السيف الّذي أعضضته بجدّك و خالك و أخيك في مقام واحد . قوله عليه السّلام : ( و ما هي من الظالمين ببعيد ) أراد بالظالمين معاوية و أتباعه ، و هو بعض آية من قوله تعالى في قصّة قوم لوط : « فلمّا جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها و أمطرنا عليها حجارة من سجّيل منضود مسوّمة عند ربّك و ما هي من الظالمين ببعيد » ( هود : 84 ) و هو عليه السّلام ذكر في هذا الكتاب عدّة آيات لا يخفى مناسبة كلّ واحدة منها لموردها . و معنى سائر الجمل واضح إلاّ أنّه عليه السّلام أخبر عن نفسه و عن الجحفل من المهاجرين و الأنصار و التابعين بأنّ أحبّ اللقاء إليهم لقاء ربّهم و إنّما يليق في المقام أن نبحث عن لقاء اللّه تعالى ، و لنا بفضله سبحانه رسالة منفردة في لقاء اللّه أرى الاتيان بها ههنا و درجها في هذا الشرح أولى من أن تطبع و تنشر على حدة فاطلبها بعد الترجمة . الترجمة اين يكى از نامه‏هاى بسيار خوب أمير عليه السّلام است كه بمعاويه نوشت : أمّا بعد : نامه‏ات بمن رسيده در آن گفتى : خداى تعالى پيمبر را براى دينش برگزيد و ياورانش را يارى كرد ، روزگار أمر شگفتى از تو بر ما پوشيده داشت كه آزمون خدا را و نعمت وجود پيمبر را بما گزارش ميدهى ، در اينكار برنده خرما به هجرى ، يا آنكه استاد تيراندازيش را به كارزار بخواند مانى . پنداشتى كه برترين مردم در اسلام فلانى و فلانى است ، اگر راست است بتو چه ، و اگر نه عيب آن دامن‏گيرت نشود ، تو را با فراتر و فروتر ، و با تدبير و بى‏تدبير چه كار ، آزادشدگان و فرزندانشان را چه رسد به تميز ميان مهاجرين أوّل ، و ترتيب درجات و تعريف طبقاتشان ، تيرى رها شد كه از جنس تيرهاى ديگر نبود ، حرف بيجائى از دهن نا أهل در آمد ، و در آن امور كسى دارد زبان [ 187 ] درازى ميكند كه دستور او فرمان بردن است . آيا بر لنگى خود ايست نميكنى ، و آرام نميگيرى ، و كوتاه دستيت را نميدانى كه در حدّ خود باشى و تجاوز نكنى ، شكست و پيروزى اين و آن بتو چه تو در گمراهى بسر ميبرى و از راستى بدرى . نميخواهم كه بتو خبر دهم و با تو سخن بگويم ولى نعمت خداى تعالى را بازگو مى‏كنم كه مى‏گويم : مگر نمى‏بينى كه چون از مهاجرين كسى شهيد ميشد و البتّه براى هر يك فضلى است يكى سيّد الشهداء بود كه پيغمبر صلى اللّه عليه و آله بر جنازه‏اش هفتاد تكبير بگفت ؟ و ديگرى كه دستهايش بريده شد او را طيّار گفتند كه با دو بال در بهشت پرواز مى‏كرد ، و اگر خداى تعالى از خودستائى باز نمى‏داشت هر آينه فضائل كسى را مى‏شنيدى كه دلهاي با إيمان بدانها آشنايند و شنونده‏اى انكار آنها نتواند كرد . دست بردار از كسانى كه گول دنيا خورده‏اند و از راه راست بدر رفتند ما برگزيدگان خداى خوديم و مردم برگزيدگان ما ، آميزش در زندگى با شما ما را از عزّت ديرين باز نداشته و شما را بزرگ نكرده ، چه پيمبر از ما است ، و أبو سفيان مكذّب از شما ، حمزه أسد اللّه از ما است ، و أسد الأحلاف كسانى كه هم پيمان شدند براى كشتن پيمبر در جنگ بدر از شما ، حسن و حسين بزرگان جوانان أهل بهشت از ما ، و عقبة بن أبي معيط پدر فرزندان دوزخى از شما ، بهترين زنان روزگار فاطمه از ما است ، و حمّالة الحطب زن أبو لهب از شما ، و ديگر خوبيها و نكوئى‏ها كه ما را است ، و بديها و زشتيها كه شما را . از اسلام ما كه شنيديد و آگاهيد ، در زمان جاهليّت هم روزگار ما را نيالود ، و مهتر و بهتر همه بوديم ، و كتاب خدا اين پايه را بما داده كه با پيمبرش به كريمه اولو الأرحام وابسته ، و به آيت إنّ أولى النّاس نزديكيم ، پس ما بحكم آيه نخستين بقرابت به پيمبر سزاواريم ، و بآيه دوّم بطاعت . چون مهاجرين در روز سقيفه به رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بر أنصار احتجاج كردند بر آن پيروز شدند ، پس اگر به پيمبر پيروز شدند حق با ما است نه با شما ، و اگر نه كه [ 188 ] أنصار بر دعواى خود باقيند . پنداشتى كه من بر خلفا حسد بردم ، و بر آنان ستم كردم ، اگر اينطور است به تو چه ، دخل و ربطى به تو ندارد كه از آنان بيگانه‏اى . و گفتى : مرا چون شتر مهار كرده براى بيعت بردند ، خواستى از اين گفتارت مرا نكوهش كنى ستودى ، و خواستى رسوايم كنى رسوا شدى ، خوارى براى مسلمانى كه مظلوم گردد ولى در دينش و در يقينش دو دل نباشد نيست . اين سخنانم حجّت بر ديگرانست ، روى سخنم با تو نيست ، پاره از آنها پيش آمد و گفتم . سپس در كار من و عثمان حرف بميان آوردى تو بايد از جانب او در اين باره پاسخ گوئى ، پس بنگر كه كدام يك از من و تو به كشتن او اقدام و راهنمائى كرديم آيا آنكسى كه دستش را مى‏گرفت و ياريش مى‏كرد ، و از بدعتها و بديهايش بازش ميداشت ؟ يا آنكه عثمان چون ويرا بياريش خواست سر باز زد ، و ديگرانرا بر او بشورانيد ؟ نه بخدا كه خداى متعال از خوددارى كنندگان شما و كسانى كه به برادرانشان گفتند بيائيد بسوى ما و به كارزار نرفتند مگر أندكى ، دانا است . عذرخواهى نميكنم از اينكه عثمان را از بدعتهايش باز مى‏داشتم و كارهاى ناروايش را تقبيح مى‏كردم ، حال اگر هدايت و إرشاد گناه است و موجب سرزنش ميشود چه بسا سرزنش شده بيگناه است ، و آنكه نخواهد نپذيرد از گفتار ناصح گمان بد ميبرد ، و من تا آنجا كه در قدرتم بود جز اصلاح نخواستم و توفيق از خدا خواهم و بس ، و توكّلم با او است . ديگر اينكه از شمشير بيم داده‏اى ، از اين سخنت گريانرا بخنده آوردى كى فرزندان عبد المطّلب از دشمن روى‏گردان بودند و از شمشير ترسان ، أندكى درنگ كن تا حمل شير نر بكارزار در آيد ، كه آنگاه كسى بگيردت كه تو او را مى‏خواستى ، و بتو نزديك مى‏شود مرگى كه از آن دورى ميجستى . و من با لشكرى بزرگ از مهاجر و أنصار و تابعين باحسان شتابان بسوى تو [ 189 ] رهسپاريم ، لشكر سخت أنبوهى كه گرد سوارانش فضا را فرا گرفت و خود لباس مرگ در بر كرده‏اند بهترين ديدارشان ديدار خدايشان است ، با آنان فرزندان و دودمان سربازان سلحشور و جنگاور روز بدرند ، در دست آن پهلوانان شمشير بني‏هاشم است همان شمشيرهائى كه در جنگ بدر بر سر برادر و دائى و جدّ و دودمانت فرود آمد ، كه آماده‏اند بر سر ستمكاران ديگر فرود آيند . بسم اللّه الرحمن الرحيم حمدا لك يا من شرّف أولياءه بلقائه ، و كرّم أحبّاءه بالعكوف على فنائه سبحانك يا من انتجب أسرار أهله لرؤية جماله ، و احتجب عن أبصار خليقته بحجاب جلاله ، صلّ اللّهمّ على مظهرك الأتم ، و جامع الكلم و الحكم ، المنزل عليه ما يهدي للّتي هي أقوم ، و آله خير الورى و أعلام الهدى و من اتّبع هديهم من اولى النّهى . و بعد فيقول العبد الراجى لقاء ربّه الكريم نجم الدّين حسن بن عبد اللّه الطبري المدعوّ بحسن زاده الاملي بلغه اللّه و جميع المؤمنين إلى آمالهم ، و رزقهم نعمة لقائه : يا أهل الوداد و السّداد و طالبى الهداية و الرشاد ، يا إخوان الصفاء و خلاّن الوفاء ، إلى متى و حتّى متى جاز لنا الحرمان عن حرم الحبّ ، و الخذلان في غيابة الجبّ ؟ و ما لنا ألاّ نسير إلى نواحى القدس ؟ و لا نطير إلى رياض الانس ؟ أو ترون أنّا خلقنا عبثا ، أو تركنا سدى ؟ نأكل و نتمتّع كالأنعام السائمة ، غافلين عن لقاء اللّه عزّ و جلّ إلى أن يدركنا الأجل ، و يلهينا الأمل ؟ كلاّ و حاشاكم عن هذا الظنّ و إنّ بعض الظنّ إثم « و اذكر ربّك في نفسك تضرّعا و خيفة و دون الجهر من القول بالغدوّ و الاصال و لا تكن من الغافلين إنّ الّذين عند ربّك لا يستكبرون عن عبادته و يسبّحونه و له يسجدون » . خليلىّ نحن نيام في فراش الغفلة ، و قد أدبرت العاجلة و أقبلت الاخرة إنّ هؤلاء يحبّون العاجلة و يذرون ورائهم يوما ثقيلا ، يوما عبوسا قمطريرا ، يوما [ 190 ] كان شرّه مستطيرا . قد أتى يوم تبلى فيه السرائر ، و ما زرع في الأوّل يحصد في الاخر ، فانظروا بما أسلفتم في الأيّام الخالية ، و اقرأوا ألواح أنفسكم تخبركم عن غدكم و أمسكم و رمسكم . و استمع ماذا يقول برهان السالكين و إمام المتقين و قائد الغرّ المحجّلين عليّ أمير المؤمنين : احذروا عباد اللّه الموت و نزوله ، و خذوا له فإنّه يدخل بأمر عظيم خير لا يكون معه شرّ أبدا ، و شرّ لا يكون معه خير أبدا ، فمن أقرب إلى الجنّة من عاملها ، و من أقرب إلى النار من عاملها . ليس أحد من النّاس تفارق روحه جسده حتّى يعلم إلى أىّ المنزلتين يصير إلى الجنّة أم إلى النّار ؟ أعدوّ هو للّه أم ولىّ له ؟ فإن كان وليا فتحت له أبواب الجنّة و شرع له طريقها ، و نظر إلى ما أعدّ اللّه عزّ و جلّ لأوليائه فيها فرغ من كلّ شغل ، و وضع عنه كلّ ثقل ، و إن كان عدوّا فتحت له أبواب النّار و سهّل له طريقها و نظر إلى ما أعدّ اللّه لأهلها و استقبل كلّ مكروه . و اعلموا عباد اللّه أنّ ما بعد اليوم أشدّ و أدهى : نار قعرها بعيد ، و حرّها شديد ، و عذابها جديد ، و مقامعها حديد ، و شرابها صديد ، لا يفتر عذابها ، و لا يموت ساكنها ، دار ليس للّه سبحانه فيها رحمة ، و لا يسمع فيها دعوة . فطوبى لمن انتبه عن النّوم و تشمّر الذيل لتدارك اليوم ، ثمّ طوبى لمن راقب سرّه عمّا سوى اللّه و ما طالب إلاّ القرب منه و لقاءه و رضاه ، فإنّا امرنا ألاّ نعبد إلاّ إيّاه و لا نطلب إلاّ إيّاه ، فوحّد اللّه سبحانه بصدق السريرة حتّى ترى بعين البصيرة أن لا هو إلاّ هو و لا إله إلاّ هو ، فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه ، و هو الأوّل و الاخر و الظاهر و الباطن ، و هو معكم أينما كنتم . خليليّ إنّي لأستحيى من نفسي فضلا عن غيرى بأن أقول : هذه رسالة عملتها يداى في لقاء اللّه تعالى ، كيف لا و أنّى لهذا المطرود عن صفّ النعال ، بل المردود عن الباب أن يأتي فيه بكتاب ؟ و هل هذا إلاّ الخروج عن الزّىّ ؟ و لا يخرج [ 191 ] عنه إلاّ البذىّ . قال أفلاطن الالهىّ : إنّ شاهق المعرفة أشمخ من أن يطير إليه كلّ طائر و سرادق البصيرة أحجب من أن يحوم حوله كلّ سائر ، ( الفصل الرابع من شرح رسالة زينون الكبير اليونانى تلميذ ارسطاطاليس ، للمعلم الثانى أبي نصر الفارابى ص 8 من طبع حيدرآباد الدكن ) . و قال الشّيخ الرئيس أبو علي سينا في آخر النمط التاسع من الإشارات في مقامات العارفين : جلّ جناب الحقّ عن أن يكون شريعة لكلّ وارد أو يطّلع عليه إلاّ واحد بعد واحد . و قال أبو الفتح يحيى بن حبش بن أميرك الملقّب شهاب الدّين السهروردي الحكيم المقتول : الفكر في صورة قدسيّة يتلطف بها طالب الأريحيّة ، و نواحى القدس دار لا يطأها القوم الجاهلون و حرام على الأجساد المظلمة أن تلج ملكوت السماوات فوحّد اللّه و أنت بتعظيمه ملان ، و اذكره و أنت من ملابس الأكوان عريان ، و لو كان في الوجود شمسان لا نطمست الأركان و أبى النظام أن يكون غير ما كان ( نقلنا كلامه من تاريخ ابن خلّكان ) و قال العارف السنائى : بار توحيد هر كسى نكشد طعم توحيد هر خسي نچشد و قال العارف الرومى : ياد او اندر خور هر هوش نيست حلقه او سخره هر گوش نيست و بالجملة هذا المحروم بقصور باعه مقرّ ، في إقراره مصرّ ، و على نفسه بصير ، و بأمره خبير ، يفوه من شدّة الخجل أخفى من الهمس ، و يبوه من كثرة الوجل كعليل دان حلوله في الرّمس و يقول : جز تو ما را هواى ديگر نيست جز لقاى تو هيچ در سر نيست اين ره است و دگر دوم ره نيست اين در است و دگر دوم در نيست دلگشاتر ز محضر قدست محضر هيچ نيك محضر نيست جانفزاتر ز نفحه انست نفحه مشك و عود و عنبر نيست [ 192 ] خوشتر از گفته تو گفتارى بهتر از دفتر تو دفتر نيست دفترى بيكرانه دريائى كاندرو هر خسى شناور نيست نرسد تا بسرّ گفتارت دست جانى اگر مطهّر نيست بهر وصف صفات نيكويت در همه دهر يك سخنور نيست آنچه را گفته‏اند و ميگويند از هزاران يكى مقرّر نيست كرمك شب فروز بى پا را قدرت وصف مهر خاور نيست هر چه و هر كه را كه مى‏بينم در حريم تو جز كه مضطر نيست نبود ذرّه‏اى كه در كارش تحت فرمان تو مسخّر نيست آنچه از صنع تو پديد آمد خير محض است و خردلى شر نيست در همه نقش بو العجب كه بود وين عجب نقطه‏اى مكرر نيست يار و دلدار و شاهد و معشوق هر چه گويند جز تو دلبر نيست ره نيابد بسويت آنكه درو تير عشقت نشسته تا پر نيست بسرى شور عشقت ار نبود بحقيقت دم است و آن سر نيست دل كه از نور تو نديده فروغ تيره جانى بود منوّر نيست برضاى تو سالك صادق هر چه پيش آيدش مكدّر نيست كانچه آمد مقدّر است همان و آنچه كو نامده مقدّر نيست سالك راه را ره آوردى جز خموشى و فكر آخر نيست عاشق تشنه وصالت را خبر از هر چه هست يكسر نيست بهر راز و نياز درگاهت تن او را نياز بستر نيست با تو محشور هم در امروز است انتظارش بروز محشر نيست آتشى كو فتاده در جانش عين نار اللّه است و أخگر نيست عاشقى كار شير مردانست سخره كودكان معبر نيست اوفتادن در آتش سوزان جز كه در عهده سمندر نيست آنچه عاشق كند تماشايش اى برادر به ديده سر نيست [ 193 ] لذّة خلوت شبانه او در گل قند و شهد و شكّر نيست مزه باده حضورش در چشمه سلسبيل و كوثر نيست آنچه اندر حضور مى‏يابد خامه در شرح او توانگر نيست عوض گريه سحرگاهش گر بگويد اميد باور نيست لاجرم آن سعيد فرزانه در پى تاج و تخت و افسر نيست هست ايمان باللّهش سدّى كه چنو صد سد سكندر نيست بهتر از لا إله إلاّ اللّه هيچ حصنى و برج و سنگر نيست اندرين كشور بزرگ جهان جز خداى بزرگ داور نيست كشتى ممكنات عالم را جز كه نام خداى لنگر نيست آنچه پنهان و آشكار بود جز كه مجلاى يار و مظهر نيست نيست جز او زدار و من في الدّار نى كه همسنگ او و همسر نيست قائل و قيل و قولى و قالا جز كه اطوار قول مصدر نيست زين مثل آنچه بايدش گفتن گفتم و بيش ازين ميسّر نيست اى كه دورى ز گلشن عشّاق جانت از بوى خوش معطّر نيست اى كه غافل ز حال خويشتنى گويمت چون تو كورى و كر نيست گر بدى كرده‏اى ز خود ميدان گنه مهر و ماه و أختر نيست تو بهشت خودى و دوزخ خود جز كه نفس تو مار و أژدر نيست مسلم همدم هوا و هوس مشركست و باسم كافر نيست آن شكم‏پرور است حيوانى گر چه نامش حمار و أستر نيست اى كه خو كرده‏اى به نادانى اين ره مردمان بافر نيست آدمى را درين سراى سپنج جز بدانش جمال و زيور نيست علم آب حيات جان باشد بهر تحصيل سيم يا زر نيست رو پى مصطفى شوى بوذر فيض حقّ وقف خاص بوذر نيست تو درآ از حجاب نفسانى تا كه بينى هر آنچه مبصر نيست [ 194 ] آخر ايدوستان بخود رحمى كآفرينش به لاف و تسخر نيست حسن نجم آملي طبعش چشمه حكمت است و ديگر نيست ثمّ أقول : لا ريب أنّ الإقتحام في ذلك المشهد العظيم فوق شأن هذا المسكين الّذي لم يذق حلاوة ذكر اللّه و لم يتنعّم بنعمة المراقبة و الحضور و لم يخرج من سجن الدّنيا الدنيّة و من ظلمة دار الغرور ، إلى عالم النور و السرور ، يا حسرتى على ما فرّطت في جنب اللّه ، و للّه درّ الشاعر قائلا : خلق اللّه للحروب رجالا و رجالا لقصعة و تريد و لكن كما قيل : ألق في الدّلاء دلوك نشير إلى عدّة آيات و روايات و أدعية و أذكار و مطالب رشيقة أنيقة من كبار تنبيها للغافلين و أنا منهم ، و تذكرة للمستبصرين ، فنقول : قد بحثنا عن رؤيته تعالى في شرحنا على المختار الثامن من كتب أمير المؤمنين عليه السّلام من النهج ( ص 242 إلى 323 ج 17 ) لكنّ ذلك البحث كان طورا ، و هذا البحث طور آخر ، و إن كان أحدهما يعاضد الاخر ، و قد أشرنا هنا لك إلى هذا المطلب الأسنى أعنى البحث عن لقاء اللّه أيضا إجمالا فإن شئت قلت إنّ هذا البحث مكمّل ذلك . اعلم أنّ القرآن الكريم قد نطق في مواضع كثيرة بلقائه تعالى فنأتي بها لأنّها شفاء و رحمة للمؤمنين : 1 « فمن كان يرجوا لقاء ربّه فليعمل عملاً صالحاً و لا يشرك بعبادة ربّه أحداً » ( آخر الكهف ) . 2 « قد خسر الّذين كذّبوا بلقاء اللَّه حتّى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرّطنا فيها و هم يعملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون » ( الأنعام : 32 ) . 3 « ثمَّ آتينا موسى الكتاب تماماً على الّذي أحسن و تفصيلاً لكلّ شي‏ء و هدىً و رحمةً لعلّهم بلقاء ربّهم يؤمنون » ( الأنعام : 155 ) . [ 195 ] 4 « انَّ الّذين لا يرجون لقاءنا و رضوا بالحيوة الدُّنيا و اطمأنّوا بها و الّذين هم عن آياتنا غافلون اولئك مأويهم النّار بما كانوا يكسبون » ( يونس : 8 ) . 5 « اللَّه الّذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثمَّ استوى على العرش و سخّر الشمس و القمر كلّ يجري لأجل مسمّى يدبّر الأمر يفصّل الايات لعلّكم بلقاء ربّكم توقنون » ( الرعد : 3 ) . 6 « من كان يرجوا لقاء اللَّه فإنّ أجل اللَّه لات و هو السميع العليم » ( العنكبوت : 6 ) . 7 « أ و لم يتفكّروا في أنفسهم ما خلق اللَّه السموات و الأرض و ما بينهما إلاّ بالحقّ و أجلٍ مسمّى و إنَّ كثيراً من النّاس بلقاء ربّهم لكافرون » ( الروم : 9 ) . 8 « الّذي أحسن كلّ شي‏ء خلقه و بدأ خلق الإنسان من طين ثمَّ جعل نسله من سلالة من ماءٍ مهين ثمَّ سوّيه و نفخ فيه من روحه و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة قليلاً ما تشكرون و قالوا ء إذا ضللنا في الأرض ء إنّا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربّهم كافرون » ( الم السجدة : 8 11 ) . 9 « سنريهم آياتنا في الافاق و فى أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ أ و لم يكف بربك أنّه على كلّ شي‏ء شهيد ألا إنّهم في مرية من لقاء ربّهم ألا إنّه بكلّ شي‏ء محيط » ( آخر فصّلت ، حم السجدة ) . 10 و 11 « إنّ الّذين لا يرجون لقاءنا و رضوا بالحيوة الدُّنيا و اطمأنّوا بها و الّذين هم عن آياتنا غافلون اولئك مأويهم النّار بما كانوا يكسبون انَّ الّذين آمنوا و عملوا الصالحات يهديهم ربّهم بايمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنّات النعيم دعويهم فيها سبحانك اللهمَّ و تحيّتهم فيها سلام و آخر دعويهم أن الحمد للَّه ربّ العالمين و لو يعجّل اللَّه للنّاس الشرّ استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم فنذر الّذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون » ( يونس : 8 12 ) . 12 « و إذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات قال الّذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّ له قل ما يكون لي أن ابدّ له من تلقاء نفسي إن أتّبع إلاّ ما يوحى [ 196 ] إلىّ إنّي أخاف إن عصيت ربّى عذاب يوم عظيم » ( يونس : 16 ) . 13 « و قال الّذين لا يرون لقاءنا لو لا انزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا لقد استكبروا في أنفسهم و عتوا عتوّاً كبيراً » ( الفرقان : 22 ) . 14 « قل هل ننبّئكم بالأخسرين أعمالاً الّذين ضلّ سعيهم في الحيوة الدُّنيا و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً اولئك الّذين كفروا بآيات ربّهم و لقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيمة وزناً » ( الكهف : 106 ) . 15 « و الّذين كفروا بآيات اللَّه و لقائه اولئك يئسوا من رحمتى و اولئك لهم عذاب أليم » ( العنكبوت : 24 ) . 16 « و استعينوا بالصبر و الصّلاة و إنها لكبيرة إلاّ على الخاشعين الّذين يظنّون أنّهم ملاقوا ربّهم و أنّهم إليه راجعون » ( البقرة : 47 ) . 17 « قال الّذين يظنّون أنّهم ملاقوا اللَّه كم من فئة قليلة غلبت فئةً كثيرة باذن اللَّه و اللَّه مع الصابرين » ( البقرة : 250 ) . 18 « و لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إنّي لكم نذير مبين إلى قوله : و يا قوم لا أسئلكم عليه مالاً إن أجري إلاّ على اللَّه و ما أنا بطارد الّذين آمنوا إنّهم ملاقوا ربّهم و لكنّى أريكم قوماً تجهلون » ( هود : 30 ) . 19 « يا ايها الّذين آمنوا اذكروا اللَّه ذكراً كثيراً و سبّحوه بكرة و أصيلاً هو الّذي يصلّى عليكم و ملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور و كان بالمؤمنين رحيماً تحيّتهم يوم يلقونه سلام و أعدّ لهم أجراً كريماً » ( الأحزاب : 45 ) . 20 « يا ايها الإنسان إنك كادح إلى ربّك كدحاً فملاقيه » ( الإنشقاق : 7 ) . 21 « رفيع الدرجات ذو العرش يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على اللَّه منهم شي‏ء لمن الملك اليوم للَّه الواحد القهّار » ( المؤمن ، غافر : 18 ) . 22 « وجوه يومئذ ناضرة إلى ربّها ناظرة » ( القيامة : 24 ) . 23 « و لا تطرد الّذين يدعون ربّهم بالغدوة و العشىِّ يريدون وجهه ما عليك [ 197 ] من حسابهم من شي‏ء و ما من حسابك عليهم من شي‏ء فتطردهم فتكون من الظالمين » ( الأنعام : 53 ) . 24 « و اصبر نفسك مع الّذين يدعون ربّهم بالغدوة و العشىِّ يريدون وجهه و لا تعد عيناك عنهم » الاية ( الكهف : 29 ) . 25 « و الّذين صبروا ابتغاء وجه ربّهم و أقاموا الصّلاة » الاية ( الرعد : 23 ) . 26 و 27 « فآت ذا القربى حقّه و المسكين و ابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه اللَّه » الاية ، « و ما آتيتم من زكوة تريدون وجه اللَّه فاولئك هم المضعفون » ( 39 و 40 الروم ) . 28 « فأنذرتكم ناراً تلظّى لا يصليها إلاّ الأشقى الّذي كذّب و تولّى سيجنّبها الأتقي الّذي يؤتي ماله يتزكّى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلاّ ابتغاء وجه ربّه الأعلى و لسوف يرضى » ، ( آخر سورة الليل ) . و اعلم أنّ غير واحد من المفسّرين ذهبوا في تفسير لقاء اللّه إلى لقاء العبد ثواب أعماله أو عقابها و نحوهما ، و هذا الرأى كأنّما نشأ من توهّم القوم اللقاء بمعنى الرؤية بالأبصار و لا يدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير ، فلمّا فهموا من اللقاء هذا المعنى احتاجوا إلى تقدير الثواب أو العقاب ، أو حمل اللّقاء على معنى آخر يناسب ما توّهموه ، و لكن ما مالوا إليه و هم و ليس اللقاء إلاّ الرؤية القلبيّة كما قال أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام في جواب حبر قال له : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته ؟ فقال عليه السّلام : ويلك ما كنت أعبد ربّا لم أره ، قال : و كيف رأيته ؟ قال : ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، و قال علم الهدى في الغرر و الدّرر ( ص 150 ج 1 ) : أتى أعرابىّ أبا جعفر محمّد بن علي عليه السّلام فقال له : هل رأيت ربّك حين عبدته ، نحو الخبر المذكور إلى آخره . و قد فسّرنا هذا الحديث في شرحنا على المختار الثامن من باب الكتب من النهج و قد بيّنّا هناك أنّ ما يتبادر إلى الأذهان من معنى الرؤية و نحوها هو [ 198 ] الرؤية بالعين و ذلك للالف بالمحسوسات و الحشر معها ، و أمّا السير إلى باطن هذه النشأة و السفر إليه و ادراك ما عبّى في كلام اللّه المتعال و سفرائه و وجدانها من الدقائق و اللطائف فلا يتيسّر إلاّ لواحد بعد واحد . كما دريت أيضا أنّ الرؤية القلبيّة به تعالى هي الكشف الحضورىّ و شهوده تعالى للعبد على مقدار تقرّبه منه تعالى بقدم المعرفة و درج معارف العقل ، فراجع إلى المجلّد السابع عشر من ص 308 ، إلى 323 . قلوب العارفين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرونا و قلت في قصيدتي التوحيديّة : آنچه عاشق كند تماشايش اى برادر بديده سر نيست و لا نعنى من اللّقاء الرؤية بكنهه تعالى فإنّ معرفته بالإكتناه لا يتيسّر لما سواه و ذلك لأنّ المعلول لا يرى علّته إلاّ بمقدار سعة وجوده ، و المعلول ظلّ علّته و عكسها و الظلّ مرتبة ضعيفة من ذيه و لذا قالوا إنّ العلم بالعلّة من العلم بالمعلوم علم بها من وجه يعنى أنّه علم ناقص بالعلّة بقدر ظرف المعلول سعة و ضيقا ، لا يحيطون به علما و عنت الوجوه للحىّ القيّوم . و قد أفاد في ذلك فيلسوف العرب يعقوب بن إسحاق الكندى رحمة اللّه عليه بقوله : إذا كانت العلّة الاولى متّصلة بنا لفيضه علينا و كنّا غير متّصلين به إلاّ من جهته فقد يمكن فينا ملاحظته على قدر ما يمكن للمفاض عليه أن يلاحظ المفيض فيجب أن لا ينسب قدر إحاطته بنا إلى قدر ملاحظتنا له لأنّها أغزر و أوفر و أشدّ استغراقا . و نعم ما أفاد ، للّه درّه ، و لا يخفى على اولى النّهى أنّ هذا الكلام سام بعيد الغور . و ما أجاد قول المحقّق العارف أفضل الدّين الكاشي في المقام : گفتم همه ملك حسن سرمايه تست خورشيد فلك چو ذرّه در سايه تست گفتا غلطى ز ما نشان نتوان يافت از ما تو هر آنچه ديده‏اى پايه تست [ 199 ] و تبصّر ممّا قدّمنا أنّه ما من موجود إلاّ و هو علم الحقّ تعالى لأنّ علمه بما سواه حضوري إشراقي ، لم يعزب عن علمه مثقال ذرّة . و أفاد العلامة الشّيخ البهائى في شرح الحديث الثانى من كتابه الأربعين : المراد بمعرفة اللّه تعالى الإطّلاع على نعوته و صفاته الجلالية و الجماليّة بقدر الطاقة البشرية ، و أما الإطّلاع على حقيقة الذات المقدّسة فممّا لا مطمع فيه للملائكة المقرّبين و الأنبياء المرسلين فضلا عن غيرهم ، و كفى في ذلك قول سيّد البشر صلى اللّه عليه و آله : ما عرفناك حقّ معرفتك ، و في الحديث إنّ اللّه احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار و إنّ الملاء الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم . فلا تلتفت إلى من يزعم أنّه قد وصل إلى كنه الحقيقة المقدّسة بل احث التراب في فيه فقد ضلّ و غوى و كذب و افترى فإنّ الأمر أرفع و أطهر من أن يتلوّث بخواطر البشر ، و كلّما تصوّره العالم الراسخ فهو عن حرم الكبرياء بفراسخ ، و أقصى ما وصل إليه الفكر العميق فهو غاية مبلغه من التدقيق و ما أحسن ما قال : آنچه پيش تو غير از آن ره نيست غايت فهم تست اللّه نيست بل الصفات الّتي تثبتها له سبحانه إنّما هي على حسب أو هامنا و قدر أفهامنا فإنّا نعتقد اتّصافه سبحانه بأشرف طرفي النقيض بالنظر إلى عقولنا القاصرة و هو تعالى أرفع و أجلّ من جميع ما نصفه به . و في كلام الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام إشارة إلى هذا المعنى حيث قال : كلّما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم و لعل النّمل الصغار تتوهّم أنّ للّه تعالى زبانيتين فإنّ ذلك كمالها ، و تتوهّم أنّ عدمهما نقصان لمن لا يتّصف بهما و هكذا حال العقلاء فيما يصفون اللّه تعالى به . انتهى كلامه صلوات اللّه عليه و سلامه . قال بعض المحقّقين يعني به المولى الجلال الدواني : هذا كلام دقيق رشيق أنيق صدر من مصدر التّحقيق و مورد التّدقيق ، و السرّ في ذلك أنّ التكليف [ 200 ] إنّما يتوقّف على معرفة اللّه بحسب الوسع و الطاقة ، و إنّما كلّفوا أن يعرفوه بالصفات الّتي ألفوها و شاهدوها فيهم مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إليهم . و لما كان الإنسان واجبا بغيره عالما قادرا مريدا حيّا متكلّما سميعا بصيرا كلّف بأن يعتقد تلك الصفات في حقّه تعالى مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إلى الإنسان بأن يعتقد أنه تعالى واجب لذاته لا بغيره ، عالم بجميع المعلومات قادر على جميع الممكنات و هكذا في سائر الصفات ، و لم يكلّف باعتقاد صفة له تعالى لا يوجد فيه مثالها و مناسبها ، و لو كلّف به لما أمكنه تعقّله بالحقيقة ، و هذا أحد معانى قوله عليه السّلام : من عرف نفسه فقد عرف ربّه ، انتهى كلامه . و اعلم أنّ تلك المعرفة الّتي يمكن أن تصل إليها أفهام البشر لها مراتب متخالفة و درج متفاوتة ، قال المحقّق الطوسي طاب ثراه في بعض مصنفاته : إنّ مراتبها مثل مراتب معرفة النار مثلا فإنّ أدناها من سمع أنّ في الوجود شيئا يعدم كلّ شي‏ء يلاقيه ، و يظهر أثره في كلّ شي‏ء يحاذيه ، و أىّ شي‏ء اخذ منه لم ينقص منه شي‏ء و يسمّى ذلك الموجود نارا ، و نظير هذه المرتبة في معرفة اللّه تعالى معرفة المقلّدين الّذين صدّقوا بالدين من غير وقوف على الحجّة . و أعلى منها مرتبة من وصل إليه دخان النار و علم أنّه لا بدّ له من مؤثّر فحكم بذات لها أثر هو الدّخان ، و نظير هذه المرتبة في معرفة اللّه تعالى معرفة أهل النظر و الإستدلال الذين حكموا بالبراهين القاطعة على وجود الصانع . و أعلى منها مرتبة من أحسّ بحرارة النار بسبب مجاورتها و شاهد الموجودات بنورها و انتفع بذلك الأثر ، و نظير هذه المرتبة في معرفة اللّه تعالى سبحانه معرفة المؤمنين الخلّص الّذين اطمأنّت قلوبهم باللّه و تيقّنوا أنّ اللّه نور السموات و الأرض كما وصف به نفسه . و أعلى منها مرتبة من احترق بالنّار بكليّته و تلاشى فيها بجملته ، و نظير هذه المرتبة في معرفة اللّه تعالى معرفة أهل الشهود و الفناء في اللّه و هي الدرجة العليا و المرتبة القصوى رزقنا اللّه الوصول إليها و الوقوف عليها بمنّه و كرمه ، انتهى [ 201 ] كلامه أعلى اللّه مقامه ، هذا آخر ما أردنا من نقل ما أتى به العلاّمة الشّيخ البهائى طاب ثراه في المقام . و معنى قوله ره : « فإنّا نعتقد اتّصافه سبحانه بأشرف طرفي النقيض بالنظر إلى عقولنا القاصرة » أنّ العقل ينظر إلى الحياة و عدمها و هما نقيضان فيرى أنّ الحياة أشرف من الموت فيعتقد باتّصافه سبحانه بها فيقول : إنّه حىّ ، و ينظر إلى العلم و نقيضه الجهل فيعتقد باتّصافه تعالى بالأشرف منهما فيقول : انه عالم و هكذا . و معنى كلام الدوانى : « و لم يكلّف باعتقاد صفة له تعالى لم يوجد فيه مثالها و مناسبها » يعلم من كلامنا الاتي في أسماء اللّه المستأثرة إنشاء اللّه تعالى . و بالجملة أنّ ما يفهم الناس في مقام خطابهم اللّه تعالى و ندائهم إيّاه هو ما يجده أهل المعرفة و يسمّون ذلك الوجدان بالكشف و الشهود . قال العلامة الشّيخ البهائى قدس سره في الكشكول ( ص 416 من طبع نجم الدولة ) : العارف من أشهده اللّه تعالى صفاته و أسماءه و أفعاله فالمعرفة حال تحدث عن شهود ، و العالم من اطّلعه اللّه على ذلك لا عن شهود بل عن يقين . و من ذاق هذه الحلاوة و التذّ بتلك اللّذة و تنعّم بتلك النعمة فقد فاز فوزا عظيما ، و هذا الوجدان الشهودى الحضوري الحاصل لأهله يدرك و لا يوصف و هو طور وراء طور العقل يتوصّل إليه بالمجاهدات الكشفيّة دون المناظرات العقلية . و لا يقدر أهله أن يقرّره لغيره على النحو الّذي أدركه ، و لا يعدله لذّة و لا ابتهاج ، و انظر إلى قول ولىّ اللّه المتعال الإمام أبي عبد اللّه الصّادق عليه السّلام رواه ثقة الإسلام الكليني في الكافي باسناده عن جميل بن دراج عنه عليه السّلام قال : لو يعلم الناس ما في فضل معرفة اللّه تعالى ما مدّوا أعينهم إلى ما متّع به الأعداء من زهرة الحياة الدّنيا و نعيمها و كانت دنياهم أقلّ عندهم ممّا يطؤونه بأرجلهم ، و لنعموا بمعرفة اللّه تعالى ، و تلذّذوا بها تلذّذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء اللّه ، إنّ معرفة اللّه انس من كلّ وحشة ، و صاحب من كلّ وحدة و نور من كلّ ظلمة ، و قوّة من كلّ ضعف ، و شفاء من كلّ سقم ، قال : قد كان قبلكم [ 202 ] قوم يقتلون و يحرقون و ينشرون بالمناشير ، و تضيق عليم الأرض برحبها فما يردّهم عمّا هم عليه شي‏ء ممّا هم فيه من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم و لا أذي ممّا نقموا منهم إلاّ أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد ، فسلوا ربّكم درجاتهم و اصبروا على نوائب دهركم ، ( باب ثواب العالم و المتعلم من المجلّد الأوّل من الوافي ص 42 ) . ثمّ إنّ التوغّل في عالم الطبيعة الّذي هو عالم الكثرة و الشتات صار حجابا للمتوغّلين فيه و لو خلصوا منه و أقبلوا إلى ما هو الحقّ الأصيل و عرفوا معنى التوحيد و الفناء فيه و صاروا موحّدين على النهج الّذي قال عزّ من قائل : هو الأوّل و الاخر و الظاهر و الباطن ( الحديد : 4 ) بلا تنزيه محض و تشبيه باطل لارتفع الخلاف و النزاع بينهم ، و لما شاجروا أهل المعرفة في ما يجدونه و يرونه قائلين : ما كنّا نعبد ربّا لم نره . كما أنّ من لم يقدر الجمع بين الجمع و التفرقة إذا سمع من الفائزين به ينكره كلّ الإنكار . و إذا تفوّه فان في التوحيد بقوله : ليس في الدّار غيره ديار ، أو ليس الدّار و من في الدّار إلاّ هو ، أو أنّ اللّه كلّ الأشياء أو نحوها من العبارات تقوّل عليه من لم يدرك فهم كلامه بعض الأقاويل و لم يعلم أنّ سببه إنما هو تراكم عروق سبل الجهل المركب الناشئة من التقليدات الراسخة المانعة له عن ذلك الإدراك . بل كثيرا ما نرى أصاغر لا يبالون بما يقولون إذا سمعوا من متألّه أنّ الوجود واحد لا تعدّد فيه و الوجود هو اللّه تعالى أسندوه إلى الكفر و الإلحاد و الزندقة و لم يعلموا أنّ نفي الوجود الحقيقىّ عن الأشياء ليس قولا بأنّ كلّ شي‏ء هو اللّه و ليس قولا بالإتّحاد و قد نقل طود العلم و التّقى العارف المتألّه المولى ميرزا جواد آقا الملكىّ التبريزى أعلى اللّه تعالى درجاته في كتابه القيّم المعمول في لقاء اللّه تعالى حكاية بقوله : حكى أنّ حكيما كان في إصبهان و كان من دأبه أنّه إذا حضر وقت غذائه يرسل خادمه يشترى له و لمن كان عنده كائنا من كان غذاء يأكل معه ، و اتّفق في يوم أن جاءه واحد من طلاّب البلد لحاجة وقت الغذاء ، فقال الحكيم لخادمه : [ 203 ] اشتر لنا غذاء نتغذّى و ذهب الخادم و اشترى لهما غذاء و أحضره ، قال الحكيم للفاضل : بسم اللّه ، تعال ، نتغذي ، قال الشّيخ : أنا لا أتغذّي ، قال : تغذّيت ؟ قال : لا ، قال : لم لا تتغذّي و أنت ما تغذّيت بعد ؟ قال : احتاط أن آكل من غذائكم ، قال : ما وجه احتياطك ؟ قال : سمعت أنّك تقول بوحدة الوجود و هو كفر و لا يجوز لى أن آكل من طعامك معك لأنّه ينجس من ملاقاتك ، قال : ما فرضت أنت معنى وحدة الوجود و حكمت بكفر قائله ؟ قال : من جهة أنّ القائل به قائل بأنّ اللّه كلّ الأشياء و جميع الموجودات هو اللّه ، قال : أخطأت تعال تغذّ لأنّى قائل بوحدة الوجود و لا أقول بأنّ جميع الأشياء هو اللّه لأنّ من جملة الأشياء جنابك و أنا لا أشكّ في كونك بدرجة الحمار أو أخسّ منها فأين القول بإلهيتك ؟ فلا احتياط و لا إشكال تعالى تغذّ انتهى . و قلت : قدر أى حكيم ناسكا جاهلا في يده سبحة يذكر الحكماء واحدا بعد واحد و يلعنهم فقال له : لما ذا تلعنهم و ما أوجب لعنهم ؟ قال : لأنهم قائلون بوحدة واجب الوجود ، فتبسّم الحكيم ضاحكا من قوله فقال له : أنا أيضا قائل بوحدة واجب الوجود فاشتدّ الناسك غضبا فقال : اللهمّ العنه . و اعلم أنّ البحث عن وحدة الوجود تارة يتوهّم أنّ الوجود شخص واحد منحصر بفرد هو الواجب بالذّات و ليس لمفهوم الوجود مصداق آخر ، و غيره من الموجودات كالسماء و الأرض و النبات و الحيوان و النفس و العقل خيالات ذلك الفرد أى ليس سوى ذلك الفرد شي‏ء و هذه الموجودات ليست أشياء اخرى غيره كماء البحر و أمواجه حيث إنّ تلك الأمواج المختلفة في الكبر و الصغر ليست إلاّ ماء البحر ، إلاّ أنّ اختلاف الأمواج و كثرتها يوهم أنّها موجودات بحيالها غير الماء فهذا التوهم مخالف لكثير من القواعد العقليّة الحكميّة الرصينة المباني ، لأنّه يوجب نفي عليّة الحقّ و معلوليّة الممكنات حقيقة و عدم افتقار الممكنات رأسا ، بل يوجب نفيها أصلا ، و بالجملة أنّ مفاسدها كثيرة عقلا و شرعا و لم يتفوّه به أحد من الحكماء المتألهين و العرفاء الشامخين و نسبته إليهم [ 204 ] اختلاق كبير و إفك عظيم . على أنّ الاثار المختلفة المتنوّعة المشهورة من أنواع الموجودات حسّا و عيانا تردّ هذا الوهم و تبطله و تنادى بأعلى صوتها أنّها مولود من فطانة بتراء . قال صدر المتألّهين في مبحث العلّة و المعلول من الأسفار ( الفصل 27 من المرحلة الرابعة في اثبات التكثّر في الحقائق الإمكانية ص 190 ج 1 من الرحلى و ص 318 ج 2 من الطبع الجديد ) : إنّ أكثر الناظرين في كلام العرفاء الالهيّين حيث لم يصلوا إلى مقامهم و لم يحيطوا بكنه مرامهم ظنّوا أنه يلزم من كلامهم في إثبات التوحيد الخاصى في حقيقة الوجود و الموجود بما هو موجود وحدة شخصيّة أنّ هويّات الممكنات امور اعتبارية محضة و حقائقها أوهام و خيالات لا تحصل لها إلاّ بحسب الإعتبار حتّى أنّ هؤلاء الناظرين في كلامهم من غير تحصيل مرامهم صرّحوا بعدميّة الذوات الكريمة القدسيّة و الأشخاص الشريفة الملكوتيّة كالعقل الأوّل و سائر الملائكة المقرّبين و ذوات الأنبياء و الأولياء و الأجرام العظيمة المتعدّدة المختلفة بحركاتها المتعدّدة المختلفة جهة و قدرا و آثارها المتفنّنة و بالجملة النظام المشاهد في هذا العالم المحسوس و العوالم الّتي فوق هذا العالم مع تخالف أشخاص كلّ منها نوعا و تشخّصا و هويّة و عددا و التّضاد الواقع بين كثير من الحقائق أيضا . ثمّ إنّ لكلّ منها آثارا مخصوصة و أحكاما خاصّة و لا نعنى بالحقيقة إلاّ ما يكون مبدأ أثر خارجى و لا نعنى بالكثرة إلاّ ما يوجب تعدّد الأحكام و الاثار فكيف يكون الممكن لا شيئا في الخارج و لا موجودا فيه . و ما يترائى من ظواهر كلمات الصوفيّة أنّ الممكنات امور اعتباريّة أو انتزاعيّة عقليّة ليس معناه ما يفهم منه الجمهور ممّن ليس له قدم راسخ في فقه المعارف و أراد أن يتفطّن بأغراضهم و مقاصدهم بمجرّد مطالعة كتبهم كمن أراد أن يصير من جملة الشعراء بمجرّد تتبّع قوانين العروض من غير سليقة يحكم باستقامة الأوزان او اختلالها عن نهج الوحدة الإعتداليّة . [ 205 ] فانّك إن كنت ممّن له أهليّة التفطّن بالحقائق العرفانيّة لأجل مناسبة ذاتية و استحقاق فطري يمكنك أن تتنبّه ممّا أسلفناه من أنّ كلّ ممكن من الممكنات يكون ذا جهتين : جهة يكون بها موجودا واجبا لغيره من حيث هو موجود و واجب لغيره و هو بهذا الإعتبار يشارك جميع الموجودات في الوجود المطلق من غير تفاوت ، و جهة اخرى بها يتعيّن هويّتها الوجودية و هو اعتبار كونه في أىّ درجة من درجات الوجود قوّة و ضعفا كمالا و نقصا فإنّ ممكنيّة الممكن إنما ينبعث من نزوله عن مرتبة الكمال الواجبي و القوّة الغير المتناهية و القهر الأتم و الجلال الأرفع و باعتبار كلّ درجة من درجات القصور عن الوجود المطلق الّذي لا يشوبه قصور و لا جهة عدميّة و لا حيثيّة امكانيّة يحصل للوجود خصائص عقليّة و تعيّنات ذهنيّة هي المسمّات بالمهيّات و الأعيان الثابتة فكلّ ممكن زوج تركيبى عند التحليل من جهة مطلق الوجود و من جهة كونه في مرتبة معيّنة من القصور ، إلى آخر ما أفاد قدّس سرّه . و قال الحكيم السبزوارى رضوان اللّه عليه في بيانه : المغالطة نشأت من خلط الماهيّة بالهوية و اشتباه الماهيّة من حيث هي بالحقيقة و لم يعلموا أنّ الوجود عندهم أصل فكيف يكون الهويّة و الحقيقة عندهم اعتباريّا ، أم كيف يكون الجهة النورانيّة من كلّ شي‏ء الّتي هي وجه اللّه و ظهوره و قدرته و مشيّته المبينة للفاعل لا للمفعول اعتباريّا ، تعالى ذيل جلاله عن علوق غبار الإعتبار ، فمتى قال العرفاء الأخيار اولوا الأيدى و الأبصار : إنّ الملك و الفلك و الإنسان و الحيوان و غيرها من المخلوقات اعتبارية ، أرادوا شيئيات ماهياتها الغير المتأصّلة عند أهل البرهان و عند أهل الذوق و الوجدان و أهل الإعتبار ذهب أوهامهم إلى ماهياتها الموجودة بما هي موجودة أو إلى وجوداتها حاشاهم عن ذلك بل هذا نظر عامي منزّه ساحة عزّ الفضلاء عن ذلك . نظير ذلك إذا قال : الإنسان مثلا وجوده و عدمه على السّواء أو مسلوب ضرورتى الوجود و العدم أراد بشيئيّة ماهية الإنسان و نحوه أنها كذلك و ظنّ [ 206 ] العامي الجاهل أنه أراد الانسان الموجود في حال الوجود أو بشرط الوجود و لم يعلم أنّه في حال الوجود و بشرطه محفوف بالضرورتين و ليست النسبتان متساويتين و لا جائزتين إذ سلب الشي‏ء عن نفسه محال و ثبوت الشي‏ء لنفسه واجب ، بل لو قيل : بأصالة الماهيّة فالماهيّة المنتسبة إلى حضرة الوجود أصليّة عند هذا القائل لا الماهيّة من حيث هي فإنّها اعتباريّة عند الجميع ، و قول الشّيخ الشبسترى : تعيّنها امور اعتباريست ، ينادى بما ذكرناه . و بما حقّقناه علمت أنّ ما توهّمه بعض من أنّ الوجود مع كونه عين الواجب و غير قابل للتجزّى و الإنقسام قد انبسط على هياكل الموجودات و ظهر فيها فلا يخل منه شي‏ء من الأشياء بل هو حقيقتها و عينها و إنما امتازت و تعيّنت بتقيّدات و تعيّنات و تشخّصات اعتباريّة ، و يمثل ذلك بالبحر و ظهوره في صورة الأمواج المتكثرة مع أنه ليس هناك إلاّ حقيقة البحر فقط ، ليس على ما ينبغي بل وهم ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مراده من قوله : و يمثل ذلك بالبحر و ظهوره في صورة الأمواج المتكثرة ليس محمولا على ظاهره بل المراد شدّة افتقار ما سواه تعالى به فانّ الكلّ قائم به كالأمواج بالبحر مثلا ، أو نحو هذا المعنى . و تارة يعقل من الوحدة الدايرة في ألسنتهم الوحدة السنخيّة لا الوحدة الشخصيّة المذكورة بمعنى أنّ أعلى مرتبة الوجود كالأوّل تعالى متحد مع أدنى مرتبته و أضعف الموجودات كالجسم و الهيولى في سنخ أصل حقيقة الوجود و التفاوت و التمايز إنما في الشدّة و الضعف و النقص و الكمال و عظم درجة الوجود و صغرها و تفاوت شؤون الوجود من الحياة و العلم و القدرة و نحوها ، و بالجملة أنّ ما به الإمتياز عين ما به الإتّفاق و أهل الحكمة يسمّون هذا المعنى بالوحدة السنخيّة ، و الإشتراك المعنوى في الوجود ، و هذا رأى الفهلويين من الحكماء نظمه المتألّه السبزواري قدّس سرّه في غرر الفرائد بقوله : الفهلويون الوجود عندهم حقيقة ذات تشكّك تعم مراتبا غنى و فقرا تختلف كالنور حيثما تقوي و ضعف [ 207 ] و هذا الرأى لا ينافي أمرا من الامور العقليّة ، و لا المباني الشرعيّة ، بل ذهب أكثر المحقّقين إلى أنّ صدور المعلول من العلّة إنّما يصحّ على هذا المبنى ، لأنّ الموجودات لو كانت حقائق متبائنة كما اسند إلى طائفة يستلزم مفاسد كثيرة منها عدم كون ما سوى اللّه تعالى آياته و علاماته لأنّ السنخيّة بين العلّة و المعلول حكم عقلي لا يشوبه ريب ، و ذلك لأنّ الشي‏ء لا يصدر عنه ما يضادّه و لا يثمر ما يباينه و إلاّ يلزم أن لا يكون وجود العلّة حدّا تامّا لوجود معلولها ، و لا وجود المعلول حدّا ناقصا لوجود علّته ، كما يلزم أن لا يكون حينئذ العلم بالعلّة مستلزما للعلم بالمعلول ، و الكلّ كما ترى . و أمّا هؤلاء الطائفة فظاهر الكلام الحكيم المتألّه السبزواري قدّس سرّه الشريف في الغرر هم المشائون كلّهم حيث قال : و الوجود عند طائفة مشّائيّة من الحكماء حقائق تباينت ، و الدائر في ألسنة كثير ممّن عاصرناهم كذلك أيضا ، و لكن صريح كلام ابن تركه في كتاب التمهيد في شرح رسالة قواعد التوحيد : أنّ مذهب المشائين في هذه المسئلة التشكيك ، حيث قال في شرح كلام المصنّف تركة : « ثمّ إنّ الوجود الحاصل للمهيات المختلفة و الطّبايع المتخالفة الخ » : أقول : هذا دليل على بطلان القول بالتشكيك الّذي هو مبنى قواعد المشائين في هذه المسئلة و عمدة عقائدهم . انتهى ما أردنا من نقل كلامه ( ص 48 طبع ايران 1351 ) . و لا يخفى عليك أنّ كلام ابن تركه يبائن كلام السبزوارى ، و لا يبعد أن يقال : إنّ مراده من طائفة مشائية بعضهم و اللّه سبحانه أعلم . و ثالثة يعقل من الوحدة الوحدة الشخصيّة غير الوجه الأوّل الباطل بل بمعنى أنّ الوجود واحد كثير ، أي إنّه مع كونه واحدا بالشخص كثير و تلك الكثرة و التعدّد و اختلاف الأنواع و الاثار لا تنافي وحدته لأنّ الوحدة من غاية سعتها و إحاطتها بما سواها تشمل على جميع الكثرات الواقعية ، و الوجود حقيقة واحدة و لها وحدة لا تقابل الكثرة و هي الوحدة الذاتية ، و كثرة ظهوراتها و صورها لا تقدح [ 208 ] في وحدة ذاتها . و يعبّرون عن هذا المعنى بالوحدة في عين الكثرة ، و الكثرة في عين الوحدة ، و يمثّلونه بالنفس الناطقة الإنسانيّة لأنّ كلّ إنسان شخص واحد بالضرورة ، قال عزّ من قائل : « و ما جعل اللَّه لرجل من قلبين في جوفه » ( الأحزاب : 4 ) و النّفس النّاطقة مع أنّها واحدة بالشخص هي عين جميع قواها الظاهرة و الباطنة و تلك القوى مع كونها كثيرة هي عين النّفس النّاطقة الواحدة بالشخص . فالنّفس بالحقيقة هي العاقلة المتوهّمة المتخيّلة الحسّاسة المحرّكة المتحرّكة و غيرها و هي الأصل المحفوظ في القوى لا قوام لها إلاّ بها ، قال المتألّه السبزواري في بعض تعاليقه على كتابه غرر الفرائد : و الحقّ أنّ وجود النّفس ذا مراتب و أنها الأصل المحفوظ فيها و أنّ كلّ فعل لأيّة قوّة تنسب في الحقيقة فعلها بلا مجاز وجدانيّ ، و هذا ذوق أرباب العرفان ، قال الشّيخ العربي في فتوحاته : النّفس النّاطقة هي العاقلة و المفكّرة و المتخيّلة و الحافظة و المصوّرة و المغذية و المنمية و الجاذبة و الدّافعة و الهاضمة و الماسكة و السامعة و الباصرة و الطاعمة و المستنشقة و اللاّمسة و المدركة لهذه الامور ، فاختلاف هذه القوى و اختلاف الأسماء ليست بشي‏ء زائد عليها ، بل هي عين كلّ صورة هذا كلامه . فأنوار المراتب المسمّاة بالقوى كلّها فانية في نور النّفس النّاطقة ، و التنزيه الّذي يراعيه الحكماء إنّما هو لئلاّ يقف الأذهان في مراتب جسمها و جسمانيّتها كأذهان الطباعيّة و العوام و هو يرجع إلى تنزيه مرتبة منها هي أعلى مراتبها و هي المسمّاة بذاتها ، و البواقي اشراقاتها المتفاضلة ، انتهى كلامه قدّه . قال صدر المتألّهين قدّس سرّه في الأسفار : إنّ النّفس الإنسانيّة ليس لها مقام معلوم في الهويّة و لا لها درجة معيّنة في الوجود كسائر الموجودات الطبيعيّة و النفسيّة و العقليّة الّتي كلّ له مقام معلوم ، بل النّفس الانسانيّة ذات مقامات و درجات متفاوتة ، و لها نشئات سابقة و لاحقة ، و لها في كلّ مقام عالم و صورة اخرى . [ 209 ] و بيان هذا القول المنيع الشريف يطلب من كتابه في المبدء و المعاد حيث قال فيه ( ص 282 ) : الوحدة الشخصيّة في كلّ شي‏ء ليست على وتيرة واحدة و درجة واحدة فإنّ الوحدة الشخصيّة في الجواهر المجرّدة حكمها غير الوحدة الشخصيّة في الجواهر المادّية ، فإنّ في الجسم الواحد الشخصي يستحيل أن يجتمع أوصاف متضادّة و أغراض متقابلة من السواد و البياض و السعادة و الشقاوة و اللذّة و الألم و العلوّ و السفل و الدّنيا و الاخرة و ذلك لضيق حوصلة ذاته و قصر ردائه الوجودي عن الجمع بين الامور المتخالفة بخلاف وجود الجوهر النطقي من الإنسان فإنّها مع وحدتها الشخصيّة جامعة للتجسّم و التجرّد و حاصرة للسعادة و الشقاوة فانها قد يكون في وقت واحد في أعلى علّيّين و ذلك عند تصوّر أمر قدسي ، و قد يكون في أسفل سافلين و ذلك عند تصوّر أمر شهويّ ، و قد يكون ملكا مقرّبا باعتبار و شيطانا مريدا باعتبار . و ذلك لأنّ إدراك كلّ شي‏ء هو بأن ينال حقيقة ذلك الشي‏ء المدرك بما هو مدرك بل بالاتّحاد معه كما رآه طائفة من العرفاء و أكثر المشائين و المحققون و صرّح به الشّيخ أبو نصر فى مواضع من كتبه ، و الشّيخ اعترف به في كتابه المسمّى بالمبدء و المعاد و في موضع من الشفاء حيث قال في الفصل السّادس من المقالة التاسعة من الإلهيّات بهذه العبارة : ثمّ كذلك حتّى يستوفى في النّفس هيئة الوجود كلّه فينقلب عالما معقولا مقبولا موازيا للعالم الموجود كلّه مشاهدا لما هو الحسن المطلق و الخير المطلق و الجمال الحقّ و متّحدة به و منتقشة بمثاله و هيئاته و منخرطة في سلكه و سائرة من جوهره . و ممّا يؤيّد ذلك أنّ المدرك بجمع الإدراكات و الفاعل بجميع الأفاعيل الواقعة من الإنسان هو نفسه الناطقة النازلة إلى مرتبة الحواس و الالات و الأعضاء و الصّاعدة إلى مرتبة العقل المستفاد و العقل الفعال في آن واحد و ذلك لسعة وجودها و بسط جوهريّتها و انتشار نورها في الأكناف و الأطراف بل يتطوّر ذاتها بالشئون [ 210 ] و الأطوار و تجلّيها على الأعضاء و الأرواح ، و تحلّيها بحلية الأجسام و الأشباح مع كونها من سنخ الأنوار و معدن الأسرار . و من هذا الأصل تبيّن و تحقّق ما ادّعيناه من كون شي‏ء واحد ، تارة محتاجا في وجوده إلى عوارض مادّية و لواحق جسميّة و ذلك لضعف وجوده و نقص تجوهره ، و تارة ينفرد بذاته و يتخلّص بوجوده و ذلك لاستكمال ذاته و تقوى انيّته و ما اشتهر بين متقدّمى المشائين أنّ شيئا واحدا لا يكون له إلاّ أحد نحوى الوجود الرابطي و الاستقلالي غير مبرهن عليه بل الحق خلافه ، نعم لو اريد منه أنّ الوجود الواحد من جهة واحدة لا يكون ناعتيّا و غير ناعتيّ لكان صحيحا . انتهى كلامه قدّس سرّه . و يعبّرون عن الوحدة الجمعية الّتي في الحقّ سبحانه بالوحدة الحقّة الحقيقيّة و الّتي في النّفس بالوحدة الحقّة الظلّية ، و من كان عين بصيرته مفتوحة يعرف من هذا سرّ قوله صلى اللّه عليه و آله : من عرف نفسه فقد عرف ربّه ، قال علم الهدى الشريف المرتضى رضوان اللّه عليه في المجلس التاسع عشر من أماليه غرر الفوائد و درر القلائد ( 274 ج 1 ) : روي أنّ بعض أزواج النّبيّ صلى اللّه عليه و آله سألته متى يعرف الإنسان ربّه ؟ فقال : إذا عرف نفسه ، و في ص 329 ج 2 منه روي عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه قال : أعلمكم بنفسه أعلمكم بربّه ، قال العارف الرومي : سايه يزدان بود بنده خدا مرده اين عالم و زنده خدا كيف مدّ الظلّ نقش أوليا است كو دليل نور خورشيد خدا است و تسمّى هذه الكثرة بالكثرة النوريّة ، و هي كلّما كانت أوفر كانت في الوحدة أوغر ، و قد اختار الخواجه لسان الغيب هذا المعنى في قوله : زلف آشفته او موجب جمعيّت ما است چون چنين است پس آشفته‏ترش بايد كرد و في قوله الاخر : از خلاف آمد دوران بطلب كام كه من كسب جمعيّت از آن زلف پريشان كردم و قد اختار صدر المتألّهين المولى صدرا قدّس سرّه الشريف هذا الوجه ، [ 211 ] و شنّع على القسم الأوّل و أبطله في مبحث العلّة و المعلول من الأسفار ، كما دريت و هذا وجه وجيه شريف دقيق يوافقه البرهان و ذوق العرفان و الوجدان و لا ينافي أمرا . و رابعة يعقل معنى الوحدة على وجه أدقّ و ألطف من الوجوه المتقدّمة و أعلى و أرفع منها ، و الإخلاص في العبادة كما ندب إليه العقل و النقل مقدّمة لحصول هذا المقام المنيع الأسنى ، و سلّم للإرتقاء إلى هذا المنظر الرفيع الأعلى ، و من راقب الإخلاص و الحضور يستعدّ للوصول إلى هذه الرتبة العظمى و الجنّة العليا و فيها ما تشتهى الأنفس و تلذّ الأعين فيرى ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر ، و قد سلك إليه العرفاء الشامخون . تقريره : أنه لا شبهة بوجود الكثرة و التعدّد و اختلاف الأنواع و الأصناف و الأفراد ، و اللّه جلّ جلاله في إيجاد الممكنات المختلفة و تكوينها ، قد ظهر و تجلّى بالحياة و القدرة ، و العلم و الإرادة تجلّى المتكلّم الفصيح البليغ في كلامه ، و ظهور عاكس كإنسان مثلا في مرائي متعدّدة مختلفة جنسا و لونا و شكلا وجهة و عظما و صغرا و غيرها من الصفا و الكدرة و لا ريب أنّ ما يرى من عكوسه المختلفة في أنحاء كثيرة في تلك المرائي ظهوره فيها لا وجوده فيها ، و لا حلوله فيها ، و لا اتّحاده معها ، و كذا الكلام في تجلّى المتكلّم في كلامه . فإذا نظر شخص آخر في تلك المرائي و المظاهر يرى عكوس الأوّل المتعدّدة المختلفة فيها ، كما يرى تلك المرائي أيضا ، فمن وقع نظره على العكوس المتفاوتة بالمحالّ و المجالي من غير أن يجعلها عنوانات للعاكس فهو يزعمها أشياء مستقلّة بذواتها ، و قد غاب عن العاكس كما هو مذهب عامّة النّاس . و من جعل نظره في العاكس فقط بحيث إنّ كلّه مشغول بكلّه ، و من فرط العشق به لم يلتفت إلى غيره من الصّور و المرائي ، و لم يشاهد في تلك الكثرات و التعيّنات إلاّ إيّاه ، أعني أصل الصور و صاحبها ، فهذا وحدة الوجود في النظر و فناء في الصورة . [ 212 ] زهر رنگى كه خواهى جامه مى پوش كه من آن قدّ رعنا مى‏شناسم فالموحّد الحقيقي إذا أسقط الإضافات و لم يشاهد أعيان الممكنات و الحقائق الوجوديّة الإمكانيّة و الجهات الكثيرة الخلقيّة ، و لم ينظر إليها و لم ير فيها إلاّ تجلّيه تعالى و ظهور قدرته و صفاته الكماليّة حيث لم تشغله تلك الخليقة عن الوجود الواجبي و لم تنسه عن لقاء اللّه عزّ و جلّ ، و لم تذهله عن وجهه في كلّ شي‏ء فهو فان في اللّه مرزوق عنده و لا يرى إلاّ إيّاه و لا يرزق التوحيد بهذا المعنى إلاّ الأوحديّ من أهل اللّه ، الفائز بنعمة لقائه العظمى . لقد ظهرت فلا تخفى على أحد إلاّ على أكمه لا يعرف القمرا و الموحّد في ذلك المشهد يرى ما سواه من الأرض و السماء و الغيب و الشهادة مرتبطا بعضها ببعض و لا يرى فصلا بينها كارتباط أجزاء بدن واحد بعضها ببعض ، و بهذا المعنى قد جعل وحدة العالم دليلا على توحيده تبارك و تعالى ، و إن كان كلّ شي‏ء بحياله يدلّ على وحدانيّته تعالى كما قرّر في محلّه . و في كلّ شي‏ء له آية تدلّ على أنّه واحد هر گياهى كه از زمين رويد وحده لا شريك له گويد و روى الصّدوق في باب الردّ على الثنوية و الزنادقة من التوحيد ص 254 باسناده عن هشام بن الحكم قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام : ما الدّليل على أنّ اللّه واحد ؟ قال : اتّصال التّدبير و تمام الصنع ، كما قال عزّ و جلّ : « لو كان فيهما آلهة إلاّ اللَّه لفسدتا » . و إذا نال الموحّد هذا المقام العظيم يجد سلطان اللّه تعالى على ما سواه و يرى أنّه « ما من دابّة إلاّ هو آخذ بناصيتها » ، و يقول : « لمن الملك اليوم للّه الواحد القهّار » و يصل إلى سرّ قول إمام الموحّدين أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام : « مع كلّ شي‏ء لا بمقارنة و غير كلّ شي‏ء لا بمزايلة » . قال القصيري في شرح الفصّ الإدريسي من فصوص الحكم : انظر أيّها السالك طريق الحقّ ما ذا ترى من الوحدة و الكثرة جمعا و فرادى ؟ فإن كنت [ 213 ] ترى الوحدة فقط فأنت مع الحقّ وحده لارتفاع الإثنينيّة ، و إن كنت ترى الكثرة فقط فأنت مع الخلق وحده ، و إن كنت ترى الوحدة في الكثرة محتجبة ، و الكثرة في الوحدة مستهلكة ، فقد جمعت بين الكمالين و فزت بمقام الحسنيين . انتهى كلامه . و بما قرّرنا علم سرّ قول كاشف الحقائق الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السّلام : « و اللّه لقد تجلّى اللّه عزّ و جلّ لخلقه في كلامه و لكن لا يبصرون » رواه عنه عليه السّلام العارف الربّاني مولانا عبد الرزّاق القاساني في تأويلاته كما في آخر كشكول العلاّمة البهائي ص 625 من طبع نجم الدولة ، و كذا الشّيخ الأكبر محيى الدّين في مقدّمة تفسيره ( ص 4 ج 1 ) ، كذا رواه عنه عليه السّلام أبو طالب محمّد بن علىّ الحارثي المكّي في قوّة القلوب ( ص 100 ، ج 1 من طبع مصر 1381 ه ) و قد روى قريبا منه ثقة الإسلام الكلينيّ في روضة الكافي ( 271 من الطبع الرّحلي ) عن مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام في خطبة خطب بها في ذى قار حيث قال عليه السّلام : فتجلّى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه ، و أتى بها الفيض المقدّس في الوافي ص 22 م 14 ، و قد نقلناها في شرح المختار 229 من الخطب ، فراجع إلى ص 19 من ج 15 . و بعد اللّتيّا و الّتي نقول : و للّه المثل الأعلى ، و التوحيد على الوجه الرابع أدقّ من التمثيل المذكور أعني مثل صور عاكس في المرايا ، و نعم ما قاله الشّيخ العارف محيى الدّين العربي في الباب الثالث و الستّين من كتاب الفتوحات المكّية كما في الأسفار : إذا أدرك الإنسان صورته في المرآة يعلم قطعا أنه أدرك صورته بوجه و أنه ما أدرك صورته بوجه لما يراه في غاية الصغر لصغر جرم المرآة أو الكبر لعظمه و لا يقدر أن ينكر أنّه رأى صورته و يعلم أنّه ليس في المرآة صورته و لا هي بينه و بين المرآة فليس بصادق و لا كاذب في قوله رأى صورته و ما رأى صورته فما تلك الصورة المرئيّة ، و أين محلّها و ما شأنها فهي منتفية ثابتة موجودة معدومة معلومة مجهولة أظهر سبحانه هذه الحقيقة لعبده ضرب المثال ليعلم و يتحقّق أنه إذا عجز و حار في درك حقيقة هذا و هو من العالم و لم يحصل علما بحقيقته فهو بخالقها إذن [ 214 ] أعجز و أجهل و أشدّ حيرة . انتهى . قال الغزالي في الإحياء في بيان الوجه الأخير من التوحيد : هو أن لا يرى في الموجود إلاّ واحدا و هو مشاهدة الصدّيقين و يسمّيه الصوفيّة الفناء في التوحيد لأنّه من حيث لا يرى إلاّ واحدا لا يرى نفسه أيضا بمعنى أنّه فنى عن رؤية نفسه . فإن قلت : كيف يتصوّر أن لا يشاهد إلاّ واحدا و هو يشاهد السّماء و الأرض و سائر الأجسام المحسوسة و هي كثيرة ؟ فاعلم أنّ هذا غاية علوم المكاشفات و أنّ الموجود الحقيقي واحد ، و أنّ الكثرة فيه في حقّ من يفرق نظره ، و الموحّد لا يفرق نظر رؤية السماء و الأرض و سائر الموجودات بل يرى الكلّ في حكم الشي‏ء الواحد ، و أسرار علوم المكاشفات لا يسطر في كتاب ، نعم ذكر ما يكسر سورة استبعادك ممكن و هو أنّ الشي‏ء قد يكون كثيرا بنوع مشاهدة و اعتبار ، و يكون بنوع آخر من المشاهدة و الاعتبار واحدا كما أنّ الإنسان كثير إذا نظر إلى روحه و جسده و سائر أعضائه و هو باعتبار آخر و مشاهدة اخرى واحد إذ نقول إنّه إنسان واحد فهو بالإضافة إلى الإنسانيّة واحد ، و كم من شخص يشاهد إنسانا و لا يخطر بباله كثرة أجزائه و أعضائه و تفصيل روحه و جسده ، و الفرق بينهما و هو في حالة الإستغراق و الاستهتار مستغرق واحد ليس فيه تفرّق و كأنّه في عين الجمع و الملتفت إلى الكثرة في تفرقة . و كذلك كلّ ما في الوجود له اعتبارات و مشاهدات كثيرة مختلفة و هو باعتبار واحد من الاعتبارات واحد و باعتبار آخر سواه كثير بعضه أشدّ كثرة من بعض . و مثال الانسان و إن كان لا يطابق الغرض و لكن ينبّه في الجملة على كشف الكثير و يستفيد معا من هذا الكلام بترك الإنكار و الجحود بمقام لم تبلغه و تؤمن به إيمان تصديق فيكون لك من حيث إنك مؤمن بهذا التوحيد نصيب منه ، و إن لم يكن ما آمنت به صفتك كما أنّك إذا آمنت بالنّبوّة كان لك نصيب منه ، و إن لم يكن بيّنا و هذه المشاهدة الّتي لا يظهر فيها إلاّ الواحد الحقّ سبحانه تارة يدوم [ 215 ] و تارة يطرأ كالبرق الخاطف و هو أكثر و الدوام نادر عزيز جدّا . و قال في موضع آخر من الكتاب : و أمّا من قويت بصيرته و لم يضعف نيّته فانّه في حال اعتدال أمره لا يرى إلاّ اللّه و لا يعرف غيره ، و يعلم أنّه ليس في الوجود إلاّ اللّه تعالى و أفعاله أثر من آثار قدرته فهي تابعة له فلا وجود لها بالحقيقة و إنّما الوجود للواحد الحقّ الّذي به وجود الأفعال كلّها ، و من هذا حاله فلا ينظر في شي‏ء من الأفعال إلاّ و يرى فيه الفاعل و يذهل عن الفعل من حيث إنّه سماء و أرض و حيوان و شجر بل ينظر فيه من حيث إنّه صنع فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره كمن نظر في شعر إنسان أو خطّه أو تصنيفه ، فرأى فيه الشاعر و المصنّف و رأى آثاره من حيث إنّه آثاره لا من حيث إنه حبر و عفص و زاج مرقوم على بياض ، فلا يكون قد نظر إلى غير المصنّف و كلّ العالم تصنيف اللّه فمن نظر إليها من حيث إنّها فعل اللّه و أحبّها من حيث إنّها فعل اللّه لم يكن ناظرا إلاّ في اللّه ، و لا عارفا إلاّ باللّه ، و لا محبّا إلاّ اللّه ، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه بل من حيث إنّه عبد اللّه فهذا الّذي يقال إنّه فنى في التوحيد ، و إنّه فنى في نفسه و إليه الإشارة بقول من قال : كنّا بنا فغبنا عنّا فبقينا بلا نحن ، فهذه امور معلومة عند ذوى البصائر اشكلت لضعف الأفهام عن دركها ، و قصور قدر العلماء بها عن إيضاحها و بيانها بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الأفهام ، أو باشتغالهم بأنفسهم و اعتقادهم أنّ بيان ذلك لغيرهم ممّا لا يغنيهم . انتهى كلامه . قلت : قد رأيت ليلة الاثنين الثالثة و العشرين من ربيع الأوّل من شهور السنّة السّابعة و الثمانين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة بعض مشايخى متّع اللّه المسلمين بطول بقائه في منامي ، قد ناولني رسالة في السير و السلوك إلى اللّه تبارك و تعالى ، ثمّ قال لي : « التوحيد أن تنسى غير اللّه » و لمّا قصصت عليه الرؤيا ، قال مدّ ظلّه العالي : نشانى داده‏اندت از خرابات كه التوحيد إسقاط الإضافات و البيت من گلشن راز للشبستري قدّس سرّه . [ 216 ] و خامسة يعني بالوحدة ما يفوه به من يبوح قائلا من عرّف سرّ القدر فقد ألحد . فبما قدّمنا علمت أنّ المراد من وحدة الوجود ليس ما توهّمه أوهام من لم يصل إلى مغزا مرامهم و سرّ كلامهم ، و أنّ لقاء اللّه تعالى الحاصل لأهله ليس كما يتصوّره الجهّال الّذين لم يجمعوا بين الجمع و التفرقة ، و قد جاء حديث عن معدن الحقائق الإمام أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصّادق صلوات اللّه تعالى عليه : « إنّ الجمع بلا تفرقة زندقة ، و التفرقة بدون الجمع تعطيل ، و الجمع بينهما توحيد » . و قال المولى الحكيم العارف المتألّه ميرزا محمّد رضا القمشي قدّس سرّه في تعاليقه على تمهيد القواعد لابن تركه في شرح قواعد التوحيد لتركه في بيان الحديث : ذهبت طائفة من المتصوّفة إلى أنّ الوجود حقيقة واحدة لا تكثّر فيها و لا تشأن لها و ما يرى من الممكنات المكثّرة امور موهومة باطلة الذوات كثانى ما يراه الأحول ، و هذا زندقة و جحود و نفى له تعالى لأنّ نفى الممكنات يستلزم نفى فاعليّته تعالى ، و لمّا كان فاعليّته تعالى نفس ذاته فنفى فاعليّته يستلزم نفى ذاته و إليه أشار عليه السّلام بقوله : إنّ الجمع بلا تفرقة زندقة . و ذهبت طائفة اخرى منهم إلى أنّ الممكنات موجودة مكثرة و لا جاعل و لا فاعل لها خارجا عنها ، و الوجود المطلق متّحد بها بل هو عينها و هذا إبطال لها و تعطيل لها في وجودها فإنّه حينئذ لا معطى لوجودها لأنّ المفروض أن لا واجب خارجا عنها و الشي‏ء لا يعطى نفسها و لا يوصف الممكن بالوجوب الذاتي ، و إليه أشار عليه السّلام بقوله : و التفرقة بدون الجمع تعطيل ، و يظهر من ذلك البيان أنّ كلا القولين يشتمل على التناقض لأنّ الجمع بلا تفرقة يستلزم نفى الجمع ، و التفرقة بدون الجمع يستلزم نفى التفرقة . انتهى كلامه رفع مقامه . و إن شئت تقرير ذلك المطلب الأسنى على اسلوب آخر أبين و أوضح ممّا تقدّم ، فاعلم أنّ ما يخبر عنه و يصدر عنه أثر هو الوجود لا غير و سواه ليس محض و عدم [ 217 ] صرف و باطل بالذات و ما ليس بشي‏ء ليس بشي‏ء حتّى يكون ذا أثر ، و إذا تأمّلت في الأشياء الممكنة تجدها أنّ ظهورها بالوجود ، و لولاه لم يكن لها ظهور فضلا عن أن يكون لها أثر فاذا تحقّق الوجود في موطن يتبعه أثر لائق بذلك الموطن . و تجد أنّ لها اعتبارين : أحدهما وجودها و الاخر حدودها فتصير وجودات مقيّدة محدودة ، فبالقيد و الحدّ تسمّى بأسماء لفظية ، فيقال : هذه أرض ، و تلك شمس و ذلك قمر و فلك و ملك و هكذا ، و تلك الحدود يعبّر عنها في الكتب الحكميّة بل في الجوامع الروائيّة بالماهيّة ، و لمّا لم يكن للأوّل تعالى حدّ لم تعلم له ماهيّة ، و في دعاء اليماني لإمام الموحّدين عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام رواه السيّد الأجلّ ابن طاووس عليه رحمة الملك القدّوس ، مسندا في مهج الدعوات ( ص 105 ) : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم اللهمّ أنت الملك الحقّ الّذي لا إله إلاّ أنت إلى أن قال بعد سطور : لم تعن في قدرتك ، و لم تشارك في إلهيّتك ، و لم تعلم لك مائيّة فتكون للأشياء المختلفة مجانسا ، الخ . و في باب نفي الجسم و الصورة و التشبيه من ثاني البحار نقلا عن روضة الواعظين : روى عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال له رجل : اين المعبود ؟ فقال عليه السّلام : لا يقال له أين لأنّه أيّن الأينيّة ، و لا يقال له كيف لأنّه كيّف الكيفيّة ، و لا يقال له ما هو لأنّه خلق الماهيّة الحديث . و الماهيّة و المائيّة بمعنى واحد و هي مشتقّة عن ما هو ، كما هو صريح رواية أمير المؤمنين عليه السّلام ، و كما صرّح به المحقّق الخواجه نصير الدّين الطوسي قدّس سرّه في أوّل الفصل الثاني من المقصد الأوّل من التجريد ، و المتألّه السبزواري في أوّل الفريدة الخامسة من غرر الفرائد ، و تعبير الماهيّة بالمائيّة في كتب القدماء بل في الروايات كثيرة جدّا ، و قد كان فيلسوف العرب الكندي يعبّرها في رسائله بالمائيّة ، كما ترى في رسائله الفلسفيّة المطبوعة في مصر ، و قد روى الشّيخ الجليل الصّدوق في باب تفسير « قل هو اللّه أحد » من كتاب التوحيد بإسناده عن وهب بن وهب القرشي قال : سمعت الصادق عليه السّلام يقول : قدم وفد من أهل فلسطين على [ 218 ] الباقر عليه السّلام فسألوه عن مسائل فأجابهم ، ثمّ سألوه عن الصمد ، فقال : تفسيره فيه ، الصمد خمسة أحرف : فالألف دليل على انّيته ، و هو قوله عزّ و جلّ « شهد اللَّه أنه لا إله إلاّ هو » و ذلك تنبيه و إشارة إلى الغائب عن درك الحواس ، و اللام دليل على إلهيّته بأنّه هو اللّه إلى أن قال : لأنّ تفسير الإله هو الّذي أله الخلق عن درك مائيّته و كيفيّته بحسّ أو وهم إلى أن قال : فمتى تفكّر العبد في مائيّة الباري و كيفيّته أله فيه و تحيّر الخ ، و الإنيّة مشتقّة من الإنّ ، كما قال الإمام عليه السّلام من حسن صنيعته : و هو قوله عزّ و جلّ : « شهد اللَّه أنّه لا إله إلاّ هو » و التعبير عن تحقّق الشي‏ء و وجوده بالإنيّة و عن حدوده بالماهيّة أو المائيّة غير عزيز في ألسنة أهل اللّه . و الماهيّات بأسرها ظاهرة بالوجود فهي ليست نوري الذّات بل بذاتها ليس محض و ظلمة و إنّما أيسها و نورها بغيرها و هو الوجود ، و لما لم يكن للّه جلّ جلاله حدّ و نهاية فلا يتصوّر فيه ماهيّة تعالى عن أن يكون مجانسا لمخلوقاته و في الحديث : ربّنا نورى الذّات ، حيّ الذات ، قادر الذّات ، عالم الذّات ، من قال أنه قادر بقدرة ، عالم بعلم ، حيّ بحياة ، فقد اتّخذ مع اللّه آلهة اخرى و ليس على ولايتنا من شي‏ء . و في التوحيد عن جابر الجعفي ، عن أبي جعفر عليه السّلام قال : سمعته يقول : إنّ اللّه نور لا ظلمة فيه ، و علم لا جهل فيه ، و حياة لا موت فيه . و فيه بإسناده عن هشام بن سالم قال : دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال لي : أتنعت اللّه ؟ قلت : نعم ، قال عليه السّلام : هات ، فقلت : هو السميع البصير ، قال عليه السّلام هذه صفة يشترك فيها المخلوقون ، قلت : و كيف ننعته ؟ فقال عليه السّلام : هو نور لا ظلمة فيه ، و حياة لا موت فيه ، و علم لا جهل فيه ، و حقّ لا باطل فيه ، فخرجت من عنده و أنا أعلم الناس بالتوحيد . و لمّا كان النور ظاهرا بذاته و مظهرا لغيره كما ترى الأنوار المحسوسة [ 219 ] من نور القمر و الكواكب و ضياء الشمس و غيرها ، و يطلق عليها النور من هذه الحيثيّة كما أنّ النّور يطلق على العلم من حيث ظهوره للعالم ، كذلك فقد جاء في الخبر عن سيّد المرسلين صلى اللّه عليه و آله : العلم نور و ضياء يقذفه اللّه في قلوب أوليائه كما في جامع الأسرار للسيّد المتألّه حيدر الاملي قدّس سرّه ( ص 513 ) و في خبر آخر عنه صلى اللّه عليه و آله : ليس العلم بكثرة التعلّم إنّما هو نور يقذفه اللّه في قلب من يريد أن يهديه ، كما في قرّة العيون للفيض المقدّس رضوان اللّه عليه ( ص 220 ) و في الحديث الاتي عن عنوان البصري عن الإمام الصّادق عليه السّلام اطلق على شمس الوجود المضيئة لغيرها من ماهيّات القوالب و الهياكل الإمكانيّة بل مخرجها من اللّيس إلى الايس اسم النور أيضا بل هو النور حقيقة و يستنير سائر الأنوار الحسّية به لما دريت من أنّ ظهور كلّ شي‏ء به ، فالوجود ظاهر بذاته و مظهر لغيره من أشباح الماهيات و هياكلها ، كما يرشدك إليه قوله عزّ و جلّ : « اللَّه نور السموات و الأرض » الاية . و قد روى الشّيخ الجليل الصّدوق في أوّل باب تفسير قول اللّه عزّ و جلّ : « اللَّه نور السّموات و الأرض » إلى آخر الاية بإسناده عن العبّاس بن هلال قال : سألت الرّضا عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : « اللَّه نور السّموات و الأرض » فقال : هاد لأهل السّماء و هاد لأهل الأرض ، قال : و في رواية البرقي : هدى من في السّماوات و هدى من في الأرض . و ذلك لأنّ كلّ من هدى إلى حقيقة فإنّما هدى بنور الوجود و لولاه لكانت الظلمات غالبة فالنور أي الوجود هو الهادي فليس إلاّ ، صدق وليّ اللّه الأعظم في قوله حيث فسّر النور بالهادي . فان قلت : قد جاءت في عدّة آيات و كثير من أدعيّة و روايات أنه تعالى مضلّ أيضا كقوله تعالى : « من يشإ اللَّه يضلله و من يشأ يجعله على صراط مستقيم » ( الأنعام : 40 ) ، و قوله تعالى : « فانَّ اللَّه يضلّ من يشاء و يهدي من يشاء » ( فاطر : 8 ) و نحوهما فكيف التوفيق ؟ [ 220 ] قلت : الإضلال : إخراج الغير عن الطريق من دواع نفسانيّة و أغراض شخصيّة من إعمال حقد و حسد و نحوهما حتّى يحصل التشفّى للمضلّ بإضلاله الغير ، و لا يخفى عليك أنّ إسناد الاضلال إليه تعالى قبيح عقلا لعدم تجويز العقل إسناده إليه فليس الإضلال بمعناه الحقيقي مسندا إليه تعالى من غير التوسّل بوسط . فنقول : لا كلام أنّه تعالى مضلّ ، من يشإ اللّه يضلله ، و لكن تحت هذا سرّ و يتّضح لك بإيراد مثال و هو أن نقول : لو كان لك أولاد و لم تأمرهم بعمل و دستور لا يصحّ أن يقال : إنّ فلانا أطاع أباه ، و فلانا عصاه ، و أمّا إذا جعلت لهم دستورا يأمرهم بالخير قبله بعض و أبى بعض آخر ، فحينئذ يقال للأوّل : المطيع ، و للثاني : العاصي ، ثمّ لمّا كان ذلك الدستور حاويا لما فيه صلاحهم و رشادهم ، فأنت هاد للبعض الأوّل ، و حيث إنّ الثاني ظلم نفسه و أعرض عن الدستور ، فحينئذ يقال له : هو ضالّ و أنت مضلّ له ، بمعنى أنّه لو لم يكن جعل هذا الدستور لم يتميّز الهداية من الضلالة ، و لم يصحّ قبل تعيين الطريق ، أن يقال : فلان اهتدى و فلان ضلّ ، فبالحقيقة أنّ الثاني إنّما ضلّ عن دستورك و طريقك فأنت مضلّ له بهذا المعنى الدقيق اللّطيف . فإذا فهمت المثال فهمت جواب السؤال و ذلك لأنّه لو لا إرسال الرسل و إنزال الكتب لما يتميّز الخبيث عن الطيّب و لم يصحّ أن يقال : فلان هدى إلى الصراط المستقيم فأفلح ، و فلان ضلّ فعصى و غوى ، و حيث إنّ الدستور هو القرآن و هو الصراط و المعيار و الميزان و إنّ اللّه تعالى أنزله هداية للعباد فمن استكبر و أبى فقد ضلّ و ظلم نفسه ، و بهذا المعنى يقال : إنّ اللّه أضلّه أو هو مضلّ و نحوهما ، ألا ترى أنّ الإضلال يضاف إلى الظّالمين و الخاسرين و الكافرين و نحوها ، نحو قوله تعالى : « و يضلّ اللَّه الظالمين » ( إبراهيم : 27 ) ، و قوله تعالى : « و من يضلل فاولئك هم الخاسرون » ( الأعراف : 178 ) و قوله : « كذلك يضلُّ اللَّه الكافرين » و أمثالها ، فتبصّر و خذه و اغتنم . [ 221 ] قال القيصري في مقدّمته على شرح الفصوص : و الوجود خير محض و كلّ ما هو خير فهو منه و به و قوامه بذاته لذاته ، إذ لا يحتاج في تحقّقه إلى أمر خارج عن ذاته فهو القيّوم الثابت بذاته و المثبت لغيره . و ليس له ابتداء و إلاّ لكان محتاجا إلى علّة موجودة لإمكانه حينئذ ، و لا له انتهاء و إلاّ لكان معروضا للعدم فيوصف بضدّه أو الإنقلاب فهو أزلي و أبدي فهو الأوّل و الاخر و الظاهر و الباطن لرجوع كلّ ما ظهر في الشهادة أو بطن في الغيب إليه ، و هو بكلّ شي‏ء عليم لإحاطته بالأشياء بذاته و حصول العلم لكلّ عالم إنّما هو بواسطته فهو أولى بذلك بل هو الّذي يلزمه جميع الكمالات و به تقوم كلّ من الصّفات كالحياة و العلم و الإرادة و القدرة و السمع و البصر و غير ذلك فهو الحيّ العليم المريد القادر السميع البصير بذاته لا بواسطة شي‏ء آخر إذ به يلحق الأشياء كلّها كمالاتها بل هو الّذي يظهر بتجلّيه و تحوّله في صورة مختلفة بصور تلك الكمالات فيصير تابعا للذوات لأنّها أيضا وجودات خاصّة مستهلكة في مرتبة أحديّته ظاهرة في واحديّته . و هو حقيقة واحدة لا تكثّر فيها و كثرة ظهوراتها و صورها لا يقدح في وحدة ذاتها و تعيّنها ، و امتيازها بذاتها لا بتعيّن زائد عليها إذ ليس في الوجود ما يغايره ليشترك معه في شي‏ء و يتميّز عنه بشي‏ء و ذلك لا ينافي ظهورها في مراتبها المتعيّنة بل هو أصل جميع التعيّنات الصفاتيّة و الأسمائيّة و المظاهر العلميّة و العينيّة . و لها وحدة لا يقابل الكثرة هي أصل الوحدة المقابلة لها و هي عين ذاتها الأحديّة ، و الوحدة الأسمائيّة المقابلة للكثرة الّتي هي ظلّ تلك الوحدة الأصليّة الذاتيّة أيضا عينها من وجه . و هو نور محض إذ به يدرك الأشياء كلّها و لأنّه ظاهر بذاته و مظهر لغيره و منوّر سماوات الغيوب و الأرواح و أرض الأجسام لأنّها به توجد ، و تتحقّق و منبع جميع الأنوار الروحانيّة و الجسمانيّة ، و حقيقته غير معلومة لما سواه ، و ليست عبارة عن الكون و لا عن الحصول و التحقّق و الثبوت ، إن اريد بها المصدر [ 222 ] لأنّ كلاّ منها عرض حينئذ ضرورة ، و إن اريد بها ما يراد بلفظ الوجود فلا نزاع كما أراد أهل اللّه بالكون وجود العالم ، و حينئذ لا يكون شي‏ء منها جوهرا و لا عرضا و لا معلوما بحسب حقيقته ، و إن كان معلوما بحسب انّيته ، و التعريف اللّفظي لا بدّ أن يكون بالأشهر ليفيد العلم و الوجود أشهر من الكون و غيره ضرورة . و الوجود العام المنبسط على الأعيان في العلم ظلّ من أظلاله لتقيّده بعمومه و كذلك الوجود الذهني و الوجود الخارجي ظلاّن لذلك الظلّ لتضاعف التقييد و إليه الإشارة بقوله تعالى : « ألم تر إلى ربّك كيف مدّ الظلّ و لو شاء لجعله ساكناً » فهو الواجب الوجود الحقّ سبحانه و تعالى الثابت بذاته المثبت لغيره الموصوف بالأسماء الإلهيّة المنعوت بالنعوت الربّانيّة المدعوّ بلسان الأنبياء و الأولياء الهادي خلقه إلى ذاته الداعي مظاهره بأنبيائه إلى عين جمعه و مرتبة الوهيّته أخبر بلسانهم أنّه بهويّته مع كلّ شي‏ء ، و بحقيقته مع كلّ حىّ ، و نبّه أيضا أنّه عين الأشياء ، بقوله : « هو الأوّل و الاخر و الظاهر و الباطن و هو بكلّ شي‏ء عليم » فكونه عين الأشياء بظهوره في ملابس أسمائه و صفاته في عالمى العلم و العين و كونه غيرها باختفائه في ذاته و استعلائه بصفاته عمّا يوجب النقص و الشين و تنزّهه عن الحصر و التعيين و تقدّسه عن سمات الحدوث و التكوين . و إيجاده للأشياء اختفاؤه فيها مع اظهاره إيّاها ، و إعدامه لها في القيامة الكبرى ظهوره بوحدته و قهره إيّاها بازالة تعيّناتها و سماتها و جعلها متلاشية ، كما قال : « لمن الملك اليوم للَّه الواحد القهّار » « و كلّ شي‏ء هالك إلاّ وجهه » و في الصغرى تحوّله من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، أو من صورة إلى صورة في عالم واحد ، فالمهيّات صور كمالاته و مظاهر أسمائه و صفاته ظهرت أوّلا في العلم ثمّ في العين بحسب حبّه إظهار آياته و رفع أعلامه و راياته فتكثر بحسب الصّور و هو على وحدته الحقيقيّة و كمالاته السرمديّة و هو يدرك حقائق الأشياء بما يدرك حقيقة ذاته لا بأمر آخر كالعقل الأوّل و غيره لأنّ تلك الحقائق أيضا عين ذاته حقيقة و إن كانت غيرها تعيّنا . [ 223 ] و لا يدركه غيره كما قال : « لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار » « و لا يحيطون به علماً » « و ما قدروا اللَّه حقّ قدره » « و يحذّركم اللَّه نفسه و اللَّه رؤف بالعباد » نبّه عبّاده تعطّفا منه و رحمة لئلاّ يضيّعوا أعمارهم فيما لا يمكن حصوله . و إذا علمت أنّ الوجود هو الحق علمت سرّ قوله : « و هو معكم أينما كنتم » « و نحن أقرب إليه منكم و لكن لا تبصرون » « و في أنفسكم أفلا تبصرون » « و هو الّذي في السماء إله و في الأرض إله » و قوله : « اللَّه نور السّموات و الأرض و اللَّه بكلّ شي‏ء محيط » و كنت سمعه و بصره ، و سرّ قوله عليه السّلام : لو دليتم بحبل لهبط على اللّه و أمثال ذلك من الأسرار المنبّهة للتوحيد بلسان الإشارة . انتهى ما أردنا من نقل كلام القيصري . و لمّا كان حكم السنخيّة بين العلّة و المعلول ممّا لا يتطرّق إليه شكّ و شبهة فكلّ واحد ممّا سواه تعالى آية و علامة له و آية الشي‏ء تحاكى عنه من وجه و لا تباينه من جميع الوجوه و نسبتها إليه كظلّ إلى ذيه ، و لو لا حكم السنخيّة لما يصحّ كون الموجودات الافاقيّة و الأنفسيّة أعني ما سواه آيات له و تأمّل في ألفاظ الاية و أخواتها المذكورة في القرآن الكريم ترشدك إلى الصواب . قال تعالى : « إنَّ في خلق السّموات و الأرض و اختلاف اللّيل و النّهار و الفلك الّتي تجري في البحر بما ينفع النّاس و ما أنزل اللَّه من السّماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها و بثّ فيها من كلّ دابّة و تصريف الرّياح و السّحاب المسخّر بين السّماء و الأرض لايات لقوم يعقلون » ( البقرة : 165 ) . و قال تعالى : « إنَّ في خلق السّموات و الأرض و اختلاف اللّيل و النّهار لايات لاولى الألباب » إلى آخر الايات الخمس ( آل عمران : 00 ) قال في المجمع : و قد اشتهرت الرواية عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله أنّه لما نزلت هذه الايات قال : ويل لمن لاكها بين فكّيه و لم يتأمّل ما فيها . و قد روى ثقة الإسلام الكليني قدّس سرّه في كتاب فضل القرآن من اصول الكافي ( ص 446 ج 2 من المعرب ) بإسناده عن حفص بن غياث ، عن الزّهري قال : [ 224 ] سمعت عليّ بن الحسين عليهما السّلام يقول : آيات القرآن خزائن فكلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها . و هذه اللّفظة أعني الاية و أخواتها تنادى بأعلى صوتها أنّ الوجود أصل و أنّ ما سواه تعالى علامة و في‏ء له تعالى ، و لو لا الوجود لما كان عن الأشياء عين و أثر ، و لمّا كان الوجود نورا فما صدر عنه تعالى نور أيضا لحكم السنخيّة بين العلّة و معلولها . و في المجلّد الأوّل من البحار نقلا عن كتاب علل الشرائع في سؤالات الشامي عن أمير المؤمنين عليه السّلام عن أوّل ما خلق اللّه تبارك و تعالى ؟ فقال عليه السّلام : النّور . و في التاسع عشر من البحار ص 183 في دعاء عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : اللهمّ إنّي أسئلك يا من احتجب بشعاع نوره عن نواظر خلقه . ففيه دلالة على أنّه لا حجاب مضروب بينه و بين خلقه إلاّ شدّة ظهوره و قصور بصائرنا فضلا عن أبصارنا عن اكتناه نوره كما تقدّم آنفا بيانه . جمالك فى كلّ الحقائق سائر و ليس له إلاّ جمالك ساتر حجاب روى تو هم روى تست در همه حال نهانى از همه عالم ز بس كه پيدائى و هذا الدّعاء معروف بدعاء احتجاب ، نقله الشّيخ العلاّمة البهائي قدّس سرّه في الكشكول أيضا ( ص 303 من طبع نجم الدولة ) و رواه السيّد الأجلّ ابن طاووس ره عن أمير المؤمنين عليه السّلام عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في مهج الدعوات ( ص 75 ) . و تأمّل في حرز مولانا و إمامنا محمّد بن عليّ الجواد عليهما السّلام ، رواه السيّد الأجلّ ابن طاووس رفع اللّه تعالى درجاته في مهج الدّعوات ( ص 36 ) و في ذلك الحرز : و أسألك يا نور النّهار و يا نور اللّيل و يا نور السّماء و الأرض و نور النّور و نورا يضي‏ء به كلّ نور إلى أن قال عليه السّلام ، و ملأ كلّ شي‏ء نورك . و في قوله عليه السّلام : « ملأ » دقيقة و هي أنّ ذلك النور لم يترك مكانا لغيره حتّى يوجد شي‏ء مؤلّف منه و من غيره بل كلّ شي‏ء ليس إلاّ ذلك النّور فقط [ 225 ] و حدودها أعدام ذهنيّة اعتباريّة . غيرتش غير در جهان نگذاشت لا جرم عين جمله أشيا شد و في دعاء إدريس عليه السّلام نقله السيّد الجليل المذكور قدّس سرّه في المهج أيضا ( ص 305 ) : يا نور كلّ شي‏ء و هداه أنت الّذي فلق الظلمات نوره . و في دعاء إبراهيم خليل الرحمن صلوات اللّه عليه ( المهج ص 306 ) : يا اللّه يا نور النّور قد استضاء بنورك أهل سماواتك و أرضك . و في دعاء لنبيّنا صلى اللّه عليه و آله : فيا نور النّور و يا نور كلّ نور الخ ، رواه السيّد قدّس سرّه في الاقبال ( ص 126 ) . و في المهج أيضا ( ص 88 ) و من ذلك دعاء آخر علّمه جبرائيل عليه السّلام النّبيّ صلى اللّه عليه و آله أيضا : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يا نور السّماوات و الأرض يا جمال السّماوات و الأرض الخ . و في دعاء السحر لإمامنا محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام : اللهمّ إنّي أسألك من نورك بأنوره و كلّ نورك نيّر اللهمّ إنّي أسئلك بنورك كلّه ، و نحوها من الأذكار و الأدعيّة المأثورة عن حجج اللّه تعالى كثير جدّا و إنّما نقلنا طائفة منها ضياء و نورا للمستضيئين ، و ليعلم أنّ المعارف كلّها عند خزنة علم اللّه جلّ و علا . از رهگذر خاك سر كوى شما بود هر نافه كه در دست نسيم سحر افتاد و ذلك النور الّذي ملأ كلّ شي‏ء هو وجهه تعالى « كلّ من عليها فان و يبقى وجه ربّك ذو الجلال و الإكرام » « كلّ شي‏ء هالك إلاّ وجهه » « و للَّه المشرق و المغرب أينما تولّوا فثمّ وجه اللَّه » . قال العارف المتألّه السيّد حيدر الاملي قدّس سرّه في جامع الأسرار ( ص 210 ) : حكى أنّ جماعة من الرّهبانيّين و ردوا المدينة في عهد خلافة أبي بكر و دخلوا عليه و سألوه عن النّبي و كتابه ، فقال لهم أبو بكر : نعم جاء نبيّنا و معه كتاب ، فقالوا له : و هل في كتابه وجه اللّه ؟ قال : نعم ، قالوا : و ما تفسيره ؟ قال أبو بكر : هذا السّؤال منهيّ عنه في ديننا ، و ما فسّره نبيّنا بشي‏ء ، فضحك الرهبانيّون كلّهم و قالوا : [ 226 ] و اللّه ما كان نبيّكم إلاّ كذّابا و ما كان كتابكم إلاّ زورا و بهتانا . و خرجوا من عنده فعرف بذلك سلمان فدعاهم إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و قال لهم : إنّ هذا خليفته الحقيقي و ابن عمّه فاسألوه ، فسألوا عن السؤال بعينه أمير المؤمنين عليه السّلام فقال لهم : ما نقول جوابكم بالقول بل بالفعل فأمر باحضار شي‏ء من الفحم و باشعاله فلمّا اشتعل و صار كلّه نارا ، سأل عليه السّلام الرّهبان و قال : يا رهبان ما وجه النّار ؟ فقال الرّهبان هذا كلّه وجه النّار ، فقال عليه السّلام : فهذا الوجود كلّه وجه اللّه ، و قرأ « فأينما تولّوا فثمَّ وجه اللَّه » « كلّ شي‏ء هالك إلاّ وجهه له الحكم و إليه ترجعون » فأسلم الرّهبانيّون كلّهم بذلك على يده و صاروا موحّدين عارفين . و قال رضوان اللّه عليه : و حكى أيضا أنّ حيتان البحر اجتمعوا يوما عند كبيرهم و قالوا له : يا فلان نحن عزمنا على التوجّه إلى البحر الّذي نحن به موجودون و بدونه معدومون فلا بدّ من أن تعلّمنا جهته و تعرّفنا طريقه حتّى نتوجّه إليه و نصل إلى حضرته لأنّا بقينا مدّة متطاولة نسمع به و ما نعرفه و لا نعرف مكانه و لا جهته . فقال لهم كبيرهم : يا أصحابي و إخواني ليس هذا الكلام يليق بكم و لا بأمثالكم لأنّ البحر أعظم من أن يصل إليه أحد و هذا ليس بشغلكم و لا هو من مقامكم ، فاسكتوا عنه و لا تتكلّموا بعد ذلك بمثل هذا الكلام بل يكفيكم أنكم تعتقدون أنكم موجودون بوجوده و معدومون بدونه . فقالوا له : هذا الكلام ما ينفعنا و لا هذا المنع يدفعنا ، لا بدّ لنا من التوجّه إليه و لا بدّ لك من إرشادنا إلى معرفته و دلالتنا إلى وجوده . فلمّا عرف الكبير صورة الحال و أنّ المنع لا يفيد شرع لهم في البيان و قال : يا اخواني البحر الّذي أنتم تطلبونه و تريدون التوجّه إليه هو معكم و أنتم معه ، و هو محيط بكم و أنتم محاطون به ، و المحيط لا ينفكّ عن المحاط به ، و البحر عبارة عن الّذي أنتم فيه فأينما توجّهتم في الجهات فهو البحر و ليس غير البحر عندكم شي‏ء [ 227 ] فالبحر معكم و أنتم مع البحر ، و أنتم في البحر و البحر فيكم ، و هو ليس بغائب عنكم ، و لا أنتم بغائبين عنه ، و هو أقرب إليكم من أنفسكم . فحين سمعوا هذا الكلام منه قاموا كلّهم إليه و قصدوه حتّى يقتلوه ، فقال لهم : لم تقتلوني و لأيّ ذنب أستحقّ هذا ؟ فقالوا له : لأنّك قلت البحر الّذي نحن نطلبه هو الّذي نحن فيه و الّذي نحن فيه هو الماء فقط ، و أين الماء من البحر فما أردت بهذا إلاّ إضلالنا عن طريقه وحيداننا عنه . فقال كبيرهم : و اللّه ما كان كذلك و ما قلت إلاّ الحقّ و الواقع في نفس الأمر لأنّ البحر و الماء شي‏ء واحد في الحقيقة و ليس بينهما مغايرة أصلا ، فالماء اسم للبحر بحسب الحقيقة و الوجود ، و البحر اسم له بحسب الكمالات و الخصوصيّات و الإنبساط و الانتشار على المظاهر كلّها . فعرف ذلك بعضهم و صار عارفا بالبحر و سكت عنه ، و أنكر البعض الاخر و كفر بذلك و رجع عنه مطرودا محجوبا . و الّذي حكيت عن لسان الحيتان لو حكيته عن لسان الأمواج لكان أيضا صحيحا و كلاهما جائز ، و إذا تحقّق هذا فكذلك شأن الخلق في طلب الحقّ فإنّهم إذا اجتمعوا عند نبيّ أو إمام أو عارف و سألوا عن الحقّ ، فقال هذا النّبيّ أو الإمام أو العارف : إنّ الحقّ الّذي تسألون عنه و تطلبونه هو معكم و أنتم معه ، و هو محيط بكم و أنتم محاطون به ، و المحيط لا ينفكّ عن المحاط ، و هو معكم أينما كنتم ، و هو أقرب إليكم من حبل وريدكم « ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم و لا خمسة إلاّ هو سادسهم و لا أدنى من ذلك و لا أكثر إلاّ هو معهم أينما كانوا » « و هو الأوّل و الاخر و الظاهر و الباطن و هو بكلِّ شي‏ء عليم » « أينما تولّوا فثمّ وجه اللَّه » « كلّ شي‏ء هالك إلاّ وجهه له الحكم و إليه ترجعون » و هو ليس بغائب عنكم و لا أنتم بغائبين عنه ، أينما توجّهتم فثمّ ذاته و وجهه و وجوده و هو مع كلّ شي‏ء و هو عين كلّ شي‏ء ، بل هو كلّ شي‏ء و كلّ شي‏ء به قائم و بدونه زائل ، و ليس لغيره وجود أصلا ، لا ذهنا و لا خارجا ، و هو الأوّل بذاته ، و الاخر [ 228 ] بكمالاته ، الظاهر بصفاته ، و الباطن بوجوده ، و إنّه للكلّ مكان ، في كلّ حين و أوان ، و مع كلّ إنس و جان . فلمّا سمع الخلق ذلك قاموا إليه كلّهم و قصدوه ليقتلوه ، فقال لهم لم تقتلوني و لأيّ ذنب أستحقّ هذا ؟ . فقالوا له : لأنّك قلت الحقّ معكم و أنتم معه ، و ليس في الوجود إلاّ هو ، و ليس لغيره وجود لا ذهنا و لا خارجا ، و نحن نعرف بالحقيقة أنّ هناك موجودات غيره من العقل و النّفس و الأفلاك و الأجرام و الملك و الجنّ و غير ذلك ، فما أنت إلاّ كافر ملحد زنديق ، و ما أردت بذلك إلاّ إغواءنا و إضلالنا عن الحقّ و طريقه . فقال لهم : لا و اللّه ما قلت لكم غير الحق و لا غير الواقع ، و ما أردت بذلك إضلالكم و إغواءكم ، بل قلت ما قال هو بنفسه ، و أخبركم إيّاه على لسان نبيّه ، و إلاّ فأيّ شي‏ء معنى قوله : « سنريهم آياتنا في الافاق » الاية ، و معنى قوله : « اللَّه نور السموات و الأرض » الاية ، و معنى قوله : « هو الأوَّل و الاخر و الظاهر و الباطن » و لأيّ شي‏ء قال : « ما تعبدون من دونه إلاّ أسماءً سمّيتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل اللَّه بها من سلطان إن الحكم إلاّ للَّه أمر أن لا تعبدوا إلاّ إيّاه ، ذلك الدّين القيّم و لكنَّ أكثر النّاس لا يعلمون » ؟ ، و لم قال : « ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء و اللَّه ذو الفضل العظيم » ؟ لأنّه يعرف أنّ كلّ واحد ما يعرف ذلك و لا بقدر عليه ، كما قال أيضا : « إنَّ في ذلك لايات لأولى النّهى » « و إنّ في ذلك لآيات لأولى الألباب » « و إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السّمع و هو شهيد » . فعرف ذلك بعضهم و قبل منه و صار عارفا موحّدا ، و أنكر ذلك بعضهم ، و رجع عنه محجوبا مطرودا ملعونا نعوذ باللّه منه و من أمثاله ، هذا آخر الأمثلة المضروبة في هذا الباب ، و اللّه أعلم بالصواب و إليه المرجع و المآب « و لقد ضربنا للنّاس في هذا القرآن من كلّ مثل لعلّهم يتذكّرون » « و تلك الأمثال نضربها للنّاس و ما يعقلها إلاّ العالمون » ، انتهى ما أردنا من نقل كلامه رحمة اللّه عليه في المقام . و لمّا لم يكن للمهيّات أصالة ، و لم يكن لها أثر و ظهور إلاّ بنور الوجود ، و لم [ 229 ] يكن الوجود إلاّ ذاته سبحانه و شؤنه و دريت أنّه ملأ كلّ شي‏ء و فتق ظلمات الماهيّات نوره فأوّل ما يرى و يدرك و يعلم في دار الوجود هو الوجود ليس إلاّ فهو ظاهر بذاته لا يحتاج إلى معرّف و دليل يدلّ عليه لأنّ ذلك الدّليل إمّا وجود أو غيره و الوجود وجود ، و الغير عدم و العدم لا شي‏ء محض و ما ليس بشي‏ء رأسا كيف يدلّ على ما هو شي‏ء و موجود ، نعم إنّ غير الوجود من ماهيّات أشباح الموجودات الممكنة بأسرها يعرف به ، و قد سئل نبيّنا صلى اللّه عليه و آله بما ذا عرفت ربّك ؟ قال صلى اللّه عليه و آله : باللّه عرفت الأشياء ، و قال مولانا عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام : اعرفوا اللَّه باللّه . و روى ثقة الإسلام الكليني بإسناده عن عبد الأعلى ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : اسم اللّه غيره و كلّ شي‏ء وقع عليه اسم شي‏ء فهو مخلوق ما خلا اللّه إلى أن قال عليه السّلام : من زعم أنّه يعرف اللّه بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لأنّ حجابه و مثاله و صورته غيره و إنّما هو واحد موحّد فكيف يوحّده من زعم أنه عرفه بغيره ، و إنّما عرف اللّه من عرفه باللّه ، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنّما يعرف غيره ليس بين الخالق و المخلوق شي‏ء الحديث ( حديث 4 من باب حدوث الأسماء من اصول الكافي ج 1 ص 88 من المعرب ) . و في التوحيد ( ص 494 ) عن منصور بن حازم قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام : إنّي ناظرت قوما فقلت لهم : إنّ اللّه أجلّ و أكرم من أن يعرف بخلقه بل العباد يعرفون باللّه ، فقال عليه السّلام : رحمك اللّه . و في دعاء عرفة لسيّد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام : كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك ، كما تقدّم آنفا ، و لا يخفى لطف كلامه عليه السّلام « في وجوده » فإن لهذا الكلام شأنا من الشأن . و ممّا يرشدك أيضا إلى أنّ ما سواه تعالى شؤنه و مجالى ذاته و مظاهر أسمائه و صفاته كلمة فاطر ، و فطر و أخواتهما في القرآن الكريم نحو قوله عزّ من قائل : « أ في اللَّه شكّ فاطر السّموات و الأرض » ( إبراهيم : 11 ) و قوله تعالى : « إنّي [ 230 ] وجّهت وجهي للّذي فطر السّموات و الأرض حنيفاً » ( الأنعام : 80 ) و كذا في عدّة آيات اخر ، لأنّ أصل الفطر الشقّ ، يقال : تفطّر الشّجر بالورق و الورد إذا أظهرهما ، كما في غرائب القرآن للنيسابوري . قال الراغب : أصل الفطر : الشقّ طولا ، يقال : فطر فلان كذا فطرا و أفطر هو فطورا و انفطر انفطارا ، و فطرت الشاة حلبتها باصبعين ، و فطرت العجين إذا عجنته فخبزته من وقته ، و منه الفطرة ، و فطر اللّه الخلق و هو أيجاده الشي‏ء و إبداعه على هيئة مترشّحة لفعل من الأفعال ، فقوله : فطرة اللّه الّتي فطر النّاس عليها فإشارة منه تعالى إلى ما فطر ، أي أبدع و ركز في الناس من معرفته تعالى ، و فطره اللّه هي ما ركز فيه من قوّته على معرفة الإيمان و هو المشار إليه بقوله : « و لئن سألتهم من خلقهم ليقولنَّ اللَّه » و قال : « الحمد للَّه فاطر السّموات و الأرض » و قال : « الّذي فطرهنَّ و الّذي فطرنا » أي أبدعنا و أوجدنا ، يصحّ أن يكون الإنفطار في قوله : « السّماء منفطر به » إشارة إلى قبول ما أبدعها و أفاضه علينا منه . انتهى . و كلمة فطر و مشتقّاتها تنبئك أنّ ما سواه تعالى تفطّر منه و كلّ واحد منهم على حياله مشتقّ منه و منشقّ عنه و صورة و آية له ، و من دعاء سيّد السّاجدين عليه السّلام في الصّلاة على آدم عليه السّلام ، كما فى ملحقات الصّحيفة : اللهمّ صلّ على آدم و آدم بديع فطرتك الخ . و لمّا اتّصف كلّ واحد منهم بالوجود ، اتّصف على قدر قابليّته و سعته و ضيقه بالأسماء و الصّفات اللاّزمة للوجود أيضا ، و في أيّ موطن ظهر منك الوجود ظهر معه أتباعه من الأسماء و الصفات اللاّئقة به إلاّ الأسماء المستأثرة كالوجوب الذّاتي فانّها صفايا الملك الواحد القّهار ، أسماء مخزونة عنده تعالى لا يمكن لغيره أن يتّصف به و لا يسع غيره أن يطلبها منه و يتعب نفسه لإدراكها . و في حرز مولانا محمّد بن عليّ الجواد عليه السّلام : و بأسمائك المقدّسات المكرّمات المخزونات في علم الغيب عندك ، رواه السيّد الأجلّ ابن طاووس قدّس سرّه في [ 231 ] مهج الدّعوات ( ص 36 ) . و في أعمال ليلة عيد الفطر : أسألك بكلّ اسم في مخزون الغيب عندك ، رواه السيّد المذكور قدّس سرّه في الإقبال ( 273 ) . و في دعاء مولانا و إمامنا موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام أتى به الشّيخ الكفعمي نوّر اللّه مضجعه في البلد الأمين ( ص 521 ) : و بالإسم الّذي حجبت عن خلقك فلم يخرج منك إلاّ إليك . و في آخر دعاء مرويّ عن مولانا الحسين بن عليّ عليهما السّلام الدعاء المعروف بدعاء الشابّ المأخوذ بذنبه ، رواه السيّد الجليل ابن طاووس قدّس سرّه في مهج الدّعوات ( ص 151 ) : أسألك بكلّ اسم سمّيت به نفسك ، أو أنزلته في شي‏ء من كتبك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك . الخ . و في الدّعاء الخمسين من الصحيفة السجّادية : فأسألك اللهمّ بالمخزون من أسمائك . و في رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد السّاجدين للعالم الربّاني صدر الدّين عليّ بن أحمد نظام الدّين الحسيني المدعوّ بالسيّد علي خان قدّس سرّه ( 565 ) : روى عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال : إنّ للّه تعالى أربعة آلاف اسم : ألف لا يعلمها إلاّ اللّه ، و ألف لا يعلمها إلاّ اللّه و الملائكة ، و ألف لا يعلمها إلاّ اللّه و الملائكة و النّبيّون ، و أمّا الألف الرابع فالمؤمنون يعلمونه ، فثلاثمائة في التوراة ، و ثلاثمائة في الإنجيل ، و ثلاثمائة في الزبور ، و مائة في القرآن ، تسعة و تسعون ظاهرة و واحد منها مكتوم من أحصاها دخل الجنّة . و روى ثقة الإسلام الكلينيّ نوّر اللّه مضجعه في الحديث الأوّل من باب حدوث الأسماء من اصول الكافي ( ص 87 ج 1 من المعرب ) بإسناده عن إبراهيم ابن عمر ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : إنّ اللّه تبارك و تعالى خلق اسما بالحروف غير متصوّت و باللّفظ غير منطق و بالشخص غير مجسّد و بالتشبيه غير موصوف و باللّون غير مصبوغ منفىّ عنه الأقطار ، مبعّد عنه الحدود ، محجوب عنه حسّ كلّ متوهّم [ 232 ] مستتر غير مستور ، فجعله كلمة تامّة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل الاخر فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها و حجب منها واحدا و هو الاسم المكنون المخزون الحديث . و رواه رئيس المحدّثين الشّيخ الصّدوق رضوان اللّه عليه أيضا في باب أسماء اللّه تعالى ، و الفرق بين معانيها و بين معانى أسماء المخلوقين من كتاب التوحيد ص 183 من طبع ايران 1321 ه . و روى الكليني في الحديث الأوّل من باب ما أعطى الأئمّة عليهم السّلام من اسم اللّه الأعظم من اصول الكافي ( ص 179 ج 1 من المعرب ) بإسناده عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السّلام قال : إنّ اسم اللّه الأعظم على ثلاثة و سبعين حرفا و إنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلّم به فخسف بالأرض ما بينه و بين سرير بلقيس حتّى تناول السرير بيده ، ثمّ عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة العين ، و نحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان و سبعون حرفا ، و حرف واحد عند اللّه تعالى استأثر به في علم الغيب عنده و لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم . و في الحديث الثاني منه : و إنّ اسم اللّه الأعظم ثلاثة و سبعون حرفا اعطى محمّد صلى اللّه عليه و آله اثنين و سبعين حرفا و حجب عنه حرف واحد . و في الثالث منه : و عندنا منه اثنان و سبعون حرفا و حرف عند اللّه مستأثر به في علم الغيب . و في الحديث السادس عشر من باب الدّعاء للكرب و الهمّ و الحزن و الخوف من كتاب الدّعاء من الكافي ( ص 408 ج 2 من المعرب ) عن أبي عبد اللّه عليه السّلام : اللهمّ إنّي أسألك بكلّ اسم هو لك أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت في علم الغيب عندك الحديث . و الأخبار و الأدعيّة في ذلك كثيرة جدّا ، و للحكيم المتألّه المولى الصالح المازندراني السروي قدّس سرّه في شرح الأبواب المذكورة من الكافي ، و كذا لاستاذنا العلاّمة ميرزا أبي الحسن الشعراني متّع اللّه علماء المسلمين بطول بقائه [ 233 ] معارف حقّة إلهيّة في بيان تلك الأسرار الصادرة عن خزنة علم اللّه تعالى فعليك بطلبها في مظانّها . و بالجملة إنّ الوجود إذا ظهر أينما كان لا ينفكّ عنه توابعه النوريّة و صفاته العليا بحكم السنخيّة المستفاد من الفطر أيضا ، و إنّما التفاوت بحسب قرب الأشياء من مبدئها و بعدها عنها طولا فكلّما كان أقرب كان سعة وجوده أكثر و آثاره الوجوديّة أشدّ و أوفر فتنتهى كلّها إلى من واجب وجوده ، و لا ينقطع جوده طرفة عين ، و ليس ما سواه إلاّ فيضه القائم به و هو قيامه ، فإذا جميع الصّفات الكمالية ينتهى إليه أيضا و لا يتصوّر فوقه وجود و لا كمال ، قال عزّ من قائل : « أ و لم يروا أنَّ اللَّه الّذي خلقهم هو أشدّ منهم قوّة » و قال تعالى : « إن من شي‏ء إلاّ عندنا خزائنه و ما ننزله إلاّ بقدر معلوم » و قال جلّ و علا : « كلّ يوم هو في شأن » و قال جلّت عظمته : « يا أيّها النّاس أنتم الفقراء إلى اللَّه و اللَّه هو الغنيُّ » و قال تبارك و تعالى : « قل كلّ يعمل على شاكلته » و قال تعالى : « إنَّ اللَّه يمسك السّموات و الأرض أن تزولا » و قال تعالى : « و اللَّه بكلّ شي‏ء محيط » و قال تعالى « إن كلّ من في السموات و الأرض إلاّ آتى الرَّحمن عبداً » و قال تعالى : « و عنت الوجوه للحىّ القيّوم » . و ممّا يتفرّع على هذه الدقيقة أنّه ما من موجود إلاّ و له ملكوت ناطق بالحقّ بلسان يليق به ، قال اللّه تعالى : « و إن من شي‏ء إلاّ يسبّح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم » ( الاسراء : 45 ) و قال تعالى : « و النّجم و الشّجر يسجدان » ( الرّحمن : 7 ) . و قال تبارك و تعالى : « قالوا أنطقنا اللّه الّذي أنطق كلّ شي‏ء » ( فصّلت ، حم السجدة : 22 ) . و قال تعالى : « فلمّا أتيها نودى من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشّجرة أن يا موسى إنّي أنا اللَّه ربّ العالمين » ( قصص 31 ) . [ 234 ] و قال تعالى : « و ورث سليمان داود و قال يا أيّها النّاس علّمنا منطق الطير و اوتينا من كلّ شي‏ء » ( النمل : 17 ) . و قال تعالى : « و حشر لسليمان جنوده من الجنّ و الإنس و الطّير فهم يوزعون حتّى إذا أتوا على واد النّمل قالت نملة يا أيّها النّمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان و جنوده و هم لا يشعرون فتبسّم ضاحكاً من قولها الخ » ( النمل : 19 » . و قال تعالى : « و تفقّد الطير فقال ما لى لا أرى الهدهد إلى قوله : فقال أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبأ بنبأ يقين إلى آخر الايات » ( النمل : 22 ) . و قال تعالى في سورة يس : « اليوم نختم على أفواههم و تكلّمنا أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون » ، و غيرها من الايات القرآنية . و أمّا الأخبار في تكلّم الحيوانات بل الجمادات لحجج اللّه تعالى و أوليائه فكثيرة جدّا . قال العلاّمة البهائى قدّس سرّه في أوائل المجلّد الثاني من الكشكول : العالم بأجزائه حيّ ناطق و إن من شي‏ء إلاّ يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم ، لكن نطق البعض يسمع و يفهم ككلام الاثنين المتّفقين في اللّغة إذا سمع كلّ منهما كلام الاخر و فهمه ، و نطق البعض يسمع و لا يفهم كالاثنين المختلفى اللّغة و منه سماعنا أصوات الحيوانات و سماع الحيوانات أصواتنا ، و منه ما لا يسمع و لا يفهم كغير ذلك ، و هذا بالنسبة الى المحجوبين ، و أمّا غيرهم فيسمعون كلام كلّ شي‏ء . و قال في آخر الكشكول ( ص 625 من طبع نجم الدولة ) : روى العارف الربّاني المولا عبد الرزاق القاساني في تأويلاته : أنّ الصادق جعفر بن محمّد عليه السّلام خرّ مغشيّا عليه في الصّلاة فسئل عن ذلك فقال : ما زلت اردّد الاية حتّى سمعتها من المتكلّم بها ، ثمّ قال : نقل الفاضل الميبدي في شرح الديوان عن الشّيخ السهروردي أنّه قال بعد نقل هذه الحكاية عن الصادق عليه السّلام : أنّ لسان الإمام في ذلك الوقت كان كشجرة موسى عند قول : « إنّي أنا اللّه » و هو مذكور في الإحياء في تلاوة القرآن . انتهى . [ 235 ] قال الشّيخ العارف محيى الدّين في أوائل الفصّ الهودي : و كلّ ما سوى الحقّ فهو دابّة لأنّه ذو روح و ما ثمّة من يدبّ بنفسه و إنّما يدبّ بغيره فهو يدبّ بحكم التبعيّة للذي هو على الصّراط المستقيم فانّه لا يكون صراطا إلاّ بالمشى عليه . إذا دان لك الخلق فقد دان لك الحق و إن دان لك الحق فقد لا يتبع الخلق فحقّق قولنا فيه فقولي كلّه حقّ فما في الكون موجود تراه ماله نطق و ما خلق تراه العين إلاّ عينه حقّ و لكن مودع فيه لهذا صوره حقّ و قال القيصري في بيان قوله : فما في الكون موجود تراه ماله نطق : أي ليس في الوجود موجود تراه و تشاهده إلاّ و له روح مجرّد ناطق بلسان يليق به ، و قال تعالى : « و إن من شي‏ء إلاّ يسبّح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم » و هذا اللّسان ليس لسان الحال كما يزعم المحجوبون ، قال الشّيخ رضي اللّه عنه في آخر الباب الثاني عشر من الفتوحات : و قد ورد أنّ المؤذّن يشهد له مدى صوته من رطب أو يابس ، و الشرايع و النبوات من هذا القبيل مشحونة و نحن زدنا مع الإيمان بالأخبار الكشف فقد رأينا الأحجار رؤية عين بلسان نطق تسمعه آذاننا منها و تخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال اللّه ممّا ليس يدركه كلّ إنسان ، و إنّما اختفى نطق بعض الموجودات لعدم الإعتدال الموجب لظهور ذلك الفعل فلا يسمعه كلّ أحد فبقى نطقه باطنا و المحجوب يزعم أنّه لا نطق له و الكامل لكونه مرفوع الحجاب لشاهد روحانيّة كلّ شي‏ء ، و يدرك نطق كلّ حىّ باطنا و ظاهرا و الحمد للّه أوّلا و آخرا . و أفاد العارف المولى عبد الرزاق القاساني في المقام بقوله : إذا كان الحقّ هو المتجلّي في كل موجود فلا موجود إلاّ هو ناطق بالحقّ لأنّه لا يتجلّى في مظهر إلاّ في صورة اسم من أسمائه ، و كلّ اسم موصوف بجميع الأسماء لأنّه لا يتجزّى لكن المظاهر متفاوتة في الإعتدال و التسوية ، فإذا كانت التسوية في غاية الإعتدال تجلّي بجميع الأسماء ، و إذا لم يكن و لم يخرج عن هذا الاعتدال الإنساني ظهر النطق و بطن سائر الأسماء و الكمالات و إذا انحطّ عن طور الاعتدال الإنساني بقي النطق في الباطن في الجميع حتّى الجماد ، فإنّ الّتي لم يظهر عليه من الأسماء [ 236 ] الإلهيّة و الصفات كانت باطنة فيه لعدم قابليّة المحلّ لظهوره فلا موجود إلاّ و له نطق ظاهرا أو باطنا ، فمن كوشف ببواطن الوجود سمع كلام الكلّ حتّى الحجر و المدر . انتهى . و قال القيصري في الفصل الرابع من مقدّماته على شرح الفصوص : و لا تظنّ أن مبدأ النطق الّذي هو النفس الناطقة ليس للحيوان لينضمّ معه فيصير الحيوان به إنسانا مع أنّه غير صالح للفصليّة لكونه موجودا مستقلا في الخارج بل هذا المبدء مع كلّ شي‏ء حتّى الجماد أيضا فإنّ لكلّ شي‏ء نصيبا من عالم الملكوت و الجبروت و قد جاء ما يؤيّد ذلك من معدن الرسالة المشاهد للأشياء بحقائقها صلوات اللّه عليه مثل تكلّم الحيوانات و الجمادات معه ، و قال تعالى : « و إن من شي‏ء إلاّ يسبّح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم » و ظهور النطق لكلّ واحد بحسب العادة و السنّة الإلهيّة موقوف على اعتدال المزاج الإنساني ، و أمّا للكمّل فلا لكونهم مطّلعين على بواطن الأشياء مدركين لكلامها ، و ما قال المتأخّرون بأنّ المراد بالنطق هو إدراك الكلّيات لا التكلّم مع كونه مخالفا لوضع اللّغة لا يفيدهم لأنّه موقوف على أنّ الناطقة المجرّدة للإنسان فقط ، و لا دليل لهم على ذلك ، و لا شعور لهم على أنّ الحيوانات ، ليس لهم إدراك كلّي و الجهل بالشي‏ء لا ينافي وجوده ، و امعان النظر فيما يصدر منها من العجائب يوجب أن يكون لها إدراكات كلّيّة ، و أيضا لا يمكن إدراك الجزئي بدون كلّيه إذ الجزئي هو الكلّي مع التشخّص ، و اللّه الهادي . و قال الحكيم المتألّه المولى صدرا قدّس سرّه في شرح الحديث الثالث من باب النسبة من كتاب التوحيد من اصول الكافي : عن عاصم بن حميد قال : قال سئل عليّ بن الحسين عليهما السّلام عن التوحيد ، فقال : إنّ اللّه عزّ و جلّ علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل اللّه تعالى « قل هو اللّه أحد » و الايات من سورة الحديد إلى قوله : « و هو عليم بذات الصّدور » فمن رام وراء ذلك فقد هلك . [ 237 ] ثمّ اعلم أنّ كلّ واحدة من هذه الايات الستّة المشار إليها في هذا الحديث متضمّنة لباب عظيم من علم التوحيد و الإلهيّة محتوية على أمر حكيم من الأحكام الصمديّة و الربوبيّة لو أمهل الزّمان و ساعد الدّهر الخوّان لعارف ربّاني و حكيم إلهيّ أخذ علمه من مشكاة النّبوّة المحمّديّة على صادعها و آله أفضل الصّلاة و التحيّة و اقتبس حكمته عن أحاديث أصحاب العصمة و الطهارة و التزكية سلام اللّه عليهم لكان من حقّه و حقّهما أن يكتب في تفسير كلّ منها ما يثخن به مجلّدا كبيرا بل مجلّدات كثيرة ، و لكن سنذكر في كلّ آية منها ما هو كالشاهد لما ادّعيناه و كالأنموذج لما شاهدناه فنقول : أمّا الاية الالى ففي الأخبار عن تسبيح كلّ ما في السماوات و ما في الأرض من الموجودات حتّى الجماد و النّبات و الأجساد و الموادّ و الأرض الموات و جثث الأموات للّه تعالى ، و معرفة هذا التسبيح الفطري و العرفان الكشفي الوجودي من غوامض العلوم و دقائق الأسرار الّتي عجزت عن إدراكها أذهان جمهور العلماء و أكثر الحكماء فضلا عن غيرهم و ليس عندهم في هذا الباب إلاّ مجرّد التقليد ، إيمانا بالغيب أو حمل التسبيح على ما فيها من الأدلّة الدّالّة على وحدانيّة اللّه و تنزيهه ( تنزّهه خ ل ) عن صفات النقص من التجسّم و التغيّر و التكثّر . و قال بعضهم : إنّ كلمة ما ههنا بمعنى من ، و قيل : معناه كلّ ما يتأتّى منه التسبيح ، هذا تمام كلام الأعلام في هذا المقام ، و لا يخفى عدم ملائمة كلّ من الوجهين الأخيرين ، بل كلّ ما قيل من التأويل و التخصيص لكثير من الايات القرآنيّة و الأخبار النبويّة الدالّة على تسبيح المسمّى بالجماد و النّبات من الشجر و الحجر و الصخر و المدر فضلا عن المسمّى بالحيوان و الطير و البشر . منها قوله تعالى : « أ لم تر أنَّ اللَّه يسبّح له من في السّموات و من في الأرض و الشّمس و القمر و النّجوم و الجبال و الشّجر و الدّوابّ و كثير من الناس » . و منها قوله : « أ و لم يروا إلى ما خلق اللَّه من شي‏ء يتفيّؤ ظلاله عن اليمين و الشّمال سجّداً للَّه و هم داخرون » و كذا نظائرها من الايات الدالّة على وقوع [ 238 ] التسبيح من جميع الموجودات حقيقة . و حكاية تسبيح الحصى في كفّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سماعه و إسماعه مشهور ، و في ألسنة الرواة مذكور ، و ما روى أيضا عن ابن مسعود أنّه قال : كنت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بمكّة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله حجر و لا مدر إلاّ و يقول : السّلام عليك يا رسول اللّه ، و أمثاله كثيرة في الروايات دالّة على أنّ هذا التسبيح و السجود و التسليم واقع على وجه التحقيق . حتّى أنّ كثيرا من المنتسبين إلى الكشف و العرفان ، زعموا أنّ النبات بل الجماد فضلا عن الحيوان له نفس ناطقة كالإنسان ، و ذلك أمر باطل و البراهين ناهضة على خلافه من لزوم التعطيل و المنع عما فطر اللّه طبيعة الشي‏ء عليه و دوام القصر على أفراد النوع و الإبقاء له على القوّة و الإمكان للشي‏ء من غير أن يخرج إلى الفعليّة و الوجدان إلى غير ذلك من المفاسد الشنيعة المصادمة للبرهان و الحكمة . بل هذا تسبيح فطري و سجود ذاتي و عبادة فطرية نشأت عن تجلّ إلهي و انبساط نور وجودي على كافة الخلائق على تفاوت درجاتها و تفاضل مقاماتها في نيل الوجود و درك الشهود و مع هذا التفاوت و التفاضل في القرب و البعد و الشرف و الخسّة فأفراد العالم كلّه كأجزاء شخص واحد تنال من روح الحياة و روح المعرفة ما ناله الكلّ دفعة واحدة فأنطقها اللّه الّذي أنطق كلّ شي‏ء فأحبّته و خضعته و سجدت له بسجود الكلّ و سبّحت له بتسبيحات هي تسبيح الكلّ « كلّ قد علم صلاته و تسبيحه » . و الّذي يمنع عن هذه العبادة الفطريّة الأفكار الوهميّة و التصرّفات النفسانيّة لأكثر الانس الموجبة للخروج عن الفطرة الأصليّة و استحقاقيّة العذاب كما في قوله تعالى : « و كثير حقَّ عليه العذاب » . و بالجملة تحقيق هذا التسبيح الفطري و إثبات هذه العبادة الذاتيّة ممّا يختصّ به الكاملون في الكشف و العرفان الراسخون في العلم و الإيقان ، و أمّا سماع [ 239 ] اللّفظ أو إسماعه كما هو المروي عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله و صحبه فكذلك من باب المعجزة الواقعة نفسه القدسيّة على إنشاء الأصوات و الأشكال على موازنة المعاني و الأحوال انتهى كلامه طيّب اللّه رمسه في المقام . و قلت : الظاهر من كلامه : حتّى أنّ كثيرا من المنتسبين الخ يوهم التناقض بينه و بين كلام القيصري المذكور آنفا حيث قال : « لأنّه موقوف على أنّ النّاطقة المجرّدة للإنسان فقط ، و لا دليل لهم على ذلك » و لكن بعد التأمّل الدقيق في كلامهما يظهر عدم التناقض بينهما و كلاهما يشيران إلى معنى واحد ، و بيان عدم التنافي بينهما يعلم بما قدّمنا من كلام المولى عبد الرزاق القاساني فإنّك إذا أمعنت النظر فيه تدرى أنّ المولى صدرا و القيصري يسلكان ما سلكه القاساني و يفيدان ما أفاده و لا اختلاف و لا تفرقة بينهم ، و قد أجاد العارف صاحب المثنوي بقوله نظما : گر تو را از غيب چشمى باز شد با تو ذرّات جهان همراز شد نطق خاك و نطق آب و نطق گل هست محسوس حواسّ أهل دل هر جمادى با تو مى‏گويد سخن كو ترا آنگوش و چشم أى بو الحسن گر نبودى واقف از حق جان باد فرق كى كردى ميان قوم عاد سنگ أحمد را سلامى مى‏كند كوه يحيى را پيامى مى‏كند جمله ذرات در عالم نهان با تو ميگويند روزان و شبان ما سميعيم و بصير و با هشيم با شما نامحرمان ما خامشيم از جمادى سوى جان جان شويد غلغل أجزاى عالم بشنويد فاش تسبيح جمادات آيدت وسوسه تأويلها بزدايدت چون ندارد جان تو قنديلها بهر بينش كرده‏اى تأويلها فإذا دريت أنّ ما سواه آية له و مشتقّ منه و منفطر منه ، و أنّه إنّ من شي‏ء إلاّ أنّه حاك عنه و مثال و صورة له و للّه المثل الأعلى و أن الوجود لا ينفكّ عن آثاره النّوريّة ، علمت أنّ ما يخاطبنا اللّه جلّ جلاله بكتابه و كلامه و يدعونا إلى [ 240 ] ما فيه خيرنا و سعادتنا كلقائه مثلا ، فلا بدّ من أن يكون فطرتنا مناسبة و متشابهة له و لو بوجه و إلاّ لم يصحّ الخطاب و نزيدك في ذلك بيانا . و نقول : قال محيى الدّين في الفصّ الادمىّ من الفصوص : و لما كان استناده أى استناد الحادث إلى من ظهر عنه لذاته اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كلّ شي‏ء من اسم و صفة ما عدا الوجوب الذاتي فإنّ ذلك لا يصحّ للحادث ، و إن كان واجب الوجود و لكن وجوده بغيره لا بنفسه . و قال القيصري في شرحه : أى اقتضى هذا الاستناد أن يكون الحادث على صورة الواجب ، أى يكون متّصفا بصفاته ، و جميع ما ينسب إليه من الكمالات ما عدا الوجوب الذاتي و إلاّ لزم انقلاب الممكن من حيث هو ممكن واجبا ، و ذلك لأنّه اتّصف بالوجود و الأسماء و الصفات لازمة للوجود ، فوجب أيضا اتّصافه بلوازم الوجود و إلاّ لزم تخلّف اللاّزم عن الملزوم ، و لأنّ المعلول أثر العلّة و الاثار بذاتها و صفاتها دلائل على صفات المؤثّر و ذاته ، و لا بدّ أن يكون في الدليل شي‏ء من المدلول لذلك صار الدليل العقلي أيضا مشتملا على النتيجة ، فإنّ إحدى مقدّمتيه مشتملة على موضوع النتيجة ، و الاخرى على محمولها ، و الأوسط جامع بينهما ، و لأنّ العلّة الغائيّة من إيجاد الحادث عرفان الموجد كما قال تعالى : « و ما خلقت الجنّ و الإنس إلاّ ليعبدون » و العبادة تستلزم معرفة المعبود و لو بوجه ، مع أنّ ابن عبّاس رضي اللّه عنه فسّرها هنا بالمعرفة و لا يعرف الشي‏ء إلاّ بما فيه من غيره لذلك قال عليه السّلام حين سئل بم عرفت اللّه : عرفت الأشياء باللّه ، أى عرفته به أوّلا ثمّ عرفت به غيره و لما كان وجوده من غيره صار أيضا وجوبه بغيره ، و غير الإنسان من الموجودات ، و إن كان متّصفا بالوجود لكن لا صلاحيّة له بظهور جميع الكمالات فيه . انتهى . و قال العارف الجامي في شرحه على الفصوص : قوله : « فيما ينسب إليه من كلّ شي‏ء من اسم و صفة » من اسم و صفة بيان لشي‏ء ، فحاصله أن يكون على صفته تعالى في كلّ اسم و صفة ينسب إليه تعالى يعنى كما أنه ينسب كلّ اسم و صفة إليه [ 241 ] تعالى كذلك ينسب إلى الحادث فإنّه بأحديّة جمعه الأسمائي متجلّ و سار فيه و لذا قيل كلّ موجود متّصف بصفات السبع الكماليّة لكن ظهورها فيه بحسب استعداده و قابليّته . و قال بعض المحشيّين على شرح القيصري : قوله : « لأنّه اتّصف بالوجود » يظهر من هذا أنّ ذات الواجب بصرافة ذاته لا يكون في الممكن و إلاّ يلزم أن يكون الممكن متّصفا بالوجوب الذاتى أيضا بعين هذا الدليل بأن يقال انّ الممكن متصف بالوجود الّذي يكون واجبا لذاته و الوجوب لازم للواجب فوجب اتصاف الممكن بذلك اللازم أيضا ، انتهى ، يعني أنّ الممكن غير متصف بالوجود الصرف الواجب الوجود حتّى يلزم انقلاب الممكن واجبا . و أفاد بعض اساتيذنا و هو العالم المحقّق النحرير محمّد حسين ابن المولى عبد العظيم التونى الشهير بالفاضل التونى تغمّده اللّه بغفرانه في تعليقته على قول القيصري المنقول آنفا « و لا يعرف الشي‏ء إلاّ بما منه في غيره » : لأنّه لا يعرف الغائب إلاّ بالشاهد بمعنى أنه لا يمكن أن يعرف شي‏ء إلاّ أن يكون له مثال في ذات العالم فاذا قيل لك كيف يكون الواجب تعالى عالما بذاته فالجواب كما أنّك تعلم ذاتك فتفهم علمه تعالى بذاته ، و إذا قيل كيف يعلم الواجب تعالى غيره فيقال كما تعلم أنت غيرك ، و إذا قيل كيف يعلم الواجب تعالى بعلم واحد بسيط سائر المعلومات فيقال كما تعلم جواب مسائل دفعة بدون تفصيل ثمّ تنتقل بالتفصيل ، و إذا قيل كيف علمه مبدء لوجود الأشياء فيقال كما يكون توهمك للسقوط عن الجدار مبدء للسقوط و إذا قيل كيف يعلم الأشياء كلّها فيقال كما يعلم المنجم الخسوف أو الكسوف من العلم بأسبابها ، و الحاصل أنّك لا تقدر أن تفهم شيئا من اللّه تعالى إلاّ بالمقايسة إلى شي‏ء من نفسك فإذا لم يكن لشي‏ء نظير في نفسك فلا يمكنك العلم به كالوجوب الذاتي و الوجود بلا مهيّة و لمّا لم يكن لهما نظير في نفسك لم يمكنك العلم بهما فلا تتعب نفسك في العلم بهما و لذا قال تعالى « و يحذّركم اللَّه نفسه و اللّه رؤف بالعباد » انتهى كلامه رفع مقامه و له [ 242 ] قدس سرّه تعليقات أنيقة على شرح الفصوص القيصري من بدو الكتاب إلى ختمه و قد طبع طائفة منها على مقدمات القيصري على شرح الفصوص . فبما قدّمنا علمت معنى قول ثامن الأئمة عليّ بن موسى الرضا عليه آلاف التحيّة و الثناء : « قد علم اولوا الألباب أنّ ما هنالك لا يعلم إلاّ بما ههنا » و هذا الكلام الوجيز بعيد الغور جدّا ، ككلام جدّه باب مدينة العلم أمير المؤمنين علي عليه السّلام في الصورة الإنسانية : « و هي الشاهدة على كلّ غائب » كما في شرح الأسماء للمتأله السبزوارى ص 12 من الطبع الناصرى ، كما علمت أن الإنسان متّصف بحسب استعداده و قابليته بأوصاف وجوديّة تحاكى عن أصلها قال عزّ من قائل : « و علّم آدم الأسماء كلّها » و التفاوت بينها و بين الأصل كتفاوت مرحلتى الوجودين حيث انّ وجود الإنسان كغيره فيض من وجوده تعالى و في‏ء له و قائم به و واجب به و فقير إليه و كذا صفاته المنطبعة في فطرته « فطرت اللَّه الّتى فطر الناس عليها » . و من بحثنا هذا تنتقل إلى أنّ دين الإسلام هو دين الفطرة ماذا ؟ و قد أفاد في ذلك استادنا العلاّمة الطباطبائى البارع في الحكمة الحقّة جزاه اللّه تعالى عنّا أفضل جزاء المعلّمين و أدام أيّام إفاضاته في الجزء السابع من تفسيره القيّم : الميزان ، في قوله تعالى : « إنّي وجّهت وجهى للذي فطر السموات و الأرض حنيفا » ( الأنعام 79 ) بقوله : و في تخصيص فطر السموات و الأرض من بين صفاته تعالى الخاصّة و كذا من بين الألفاظ الدّالة على الخلقة كالبارى و الخالق و البديع إشارة إلى ما يؤثره إبراهيم عليه السّلام من دين الفطرة و قد كرّر وصف هذا الدين في القرآن الكريم بأنّه دين إبراهيم الحنيف و دين الفطرة أى الدين الّذي بنيت معارفه و شرائعه على خلقة الإنسان و نوع وجوده الّذي لا يقبل التبدّل و التغيّر فإنّ الدين هو الطريقة المسلوكة الّتي يقصد بها الوصول إلى السعادة الحقيقيّة و السعادة الحقيقيّة هي الغاية المطلوبة الّتي يطلبها الشي‏ء حسب تركّب وجوده و تجهّزه بوسائل الكمال طلبا خارجيا واقعيّا ، و حاشا أن يسعد الإنسان أو أى شي‏ء آخر [ 243 ] من الخليقة بأمر و لم يتهيّأ بحسب خلقته له أو هيّئ لخلافه كأن يسعد بترك التغذّى أو النكاح أو ترك المعاشرة و الإجتماع و قد جهّز بخلافها ، أو يسعد بالطيران كالطّير أو بالحياة في قعر البحار كالسمك و لم يجهّز بما يوافقه . فالدين الحقّ هو الذي يوافق بنواميسه الفطرة و حاشا ساحة الربوبيّة أن يهدى الإنسان أو أىّ مخلوق آخر مكلّف بالدين إن كان إلى غاية سعيدة مسعدة و لا يوافق الخلقة أو لم يجهّز بما يسلك به إليها فإنّما الدين عند اللّه الإسلام و هو الخضوع للّه بحسب ما يهدى إليه و يدلّ عليه صنعه و إيجاده ، انتهى ما أفاد مدّ ظلّه العالى في المقام . فتبصّر بما قدّمناه أنّ أصل المعرفة فطرىّ للأشياء و قال اللّه تعالى : « و لئن سألتهم من خلق السموات و الأرض ليقولنّ اللَّه » و إنّما ضلّ عنهم المعرفة بالمعرفة و البصيرة بالرؤية ، و أنّ المعرفة و الرؤية القلبيّة ترجعان إلى أمر واحد و إنهما تثمران الايمان على البصيرة ، و لا نعنى من اللقاء إلاّ المعرفة و الرؤية بهذا المعنى ففي التوحيد عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له : أخبرنى عن اللّه عزّ و جلّ هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟ قال عليه السّلام : نعم و قد رأوه قبل يوم القيامة فقلت : متى ؟ قال عليه السّلام : حين قال لهم : ألست بربكم قالوا بلى ، ثمّ سكت ساعة ثمّ قال و انّ المؤمنين ليرونه في الدّنيا قبل يوم القيامة ، ألست تراه في وقتك هذا ؟ قال أبو بصير : فقلت له : جعلت فداك فاحدّث بهذا عنك ؟ فقال عليه السّلام : لا فانك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما نقوله ثمّ قدّر أنّ ذلك تشبيه كفر و ليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين ، تعالى عما يصفه المشبّهون و الملحدون . و في آخر باب نفي المكان و الزمان عنه تعالى من كتاب التوحيد أيضا ص 176 باسناده عن إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور ، عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أنه دخل السوق فإذا هو برجل ( فاذا هو مرّ برجل خ د ) مولّيه ظهره يقول : لا و الّذي احتجب بالسبع قال اللّه يا أمير المؤمنين ، قال أخطأت ثكلتك امّك انّ اللّه عزّ و جلّ ليس بينه و بين خلقه حجاب لأنّه معهم أينما كانوا ، قال : ما كفارة [ 244 ] ما قلت يا أمير المؤمنين ؟ قال : أن تعلم أنّ اللّه معك حيث كنت قال : أطعم المساكين ؟ قال : لا إنما حلفت بغير ربّك . و من سلك هذا المسلك فقد حيى بحياة طيّبة و يدخل في ملك لا يبلي و جنّة الخلد الّتي وعد المتقون ، ففي التوحيد عن الحارث بن المغيرة النضرى قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : « كلُّ شي‏ء هالك إلاّ وجهه ؟ » قال : كلّ شي‏ء هالك إلاّ من أخذ طريق الحقّ . و اعلم أنّ الوجود مع وحدة حقيقتها و كثرة تشأنّها ، كلّ يوم هو شأن له مراتب طوليّة تختلف غنى و فقرا و سعة و ضيقا فتنتهى إلى ذات واجب الوجود الّذي تلك الكثرات مجاليه و مظاهره و مراياه و اللّه تعالى من ورائهم محيط فله تعالى مرتبة متحققة مجرّدة عن المظاهر و المجالى غير متناهية في جميع الصفات النورية أشدّ و أقوى ممّا سواه وجودا ، قال عزّ من قائل : « أ و لم يروا أنّ الّذي خلقهم هو أشدّ منهم قوّة » ( فصّلت 16 ) ، و لا يحيطون به علما لأن الدّانى لا يسعه الإحاطة بالعالى المحيط به ، كما أنّ النفس مع كونها في وحدتها كلّ القوى و كلّها مجاليها و مظاهرها ليست هي بمجموع تلك القوى الظاهرة و الباطنة تعلّقت بالبدن فحسب بل لها مرتبة فوقها أعلى و أشمخ منها رتبة و آثارا و هي جهتها المجرّدة الّتي تلى ربّها ، و إن كانت تلك القوى مراتبها النازلة ، و المرتبة النازلة منها كالواهمة مثلا لا تحيط بالمرتبة العالية كالعاقلة المحيطة بها . قال صدر المتألّهين قدّس سرّه في شرحه للهداية : و الصنف الثالث و هم الراسخون في العلم من الحكماء قائلون بأنّ العالم ليس عبارة عن الممكن الصرف و لا عن الوجود الحقيقى الصرف بل من حيث هو موجود بالوجود الحقيقى له اعتبار و من حيث إنّه ينقسم إلى العقول و النفوس و غيرها له اعتبار آخر فالعالم زوج تركيبي من الممكن و السنخ الباقي الّذي هو بذاته موجود و وجود فليس العالم عبارة عن الذوات المتعدّدة كما حسبه المحجوبون بل ذاته واحد و هو الحقّ الّذي هو الوجود الحقيقى و لا وجود للممكنات إلاّ بارتباطها به لا بأن يفيض [ 245 ] عليها وجودات مغايرة للوجود الحقيقى و برهان ذلك مذكور في كتابنا المسمّى بالأسفار الأربعة . و قال في مبحث العلة و المعلول من الأسفار : ( ص 196 من الرحلى ) تنبيه : إنّ بعض الجهلة من المتصوّفين المقلّدين الّذين لم يحصّلوا طريق العلماء العرفاء و لم يبلغوا مقام العرفان توهّموا لضعف عقولهم و وهن عقيدتهم و غلبة سلطان الوهم على نفوسهم أن لا تحقق بالفعل للذّات الأحديّة المنعوتة بألسنة العرفاء بمقام الأحديّة و غيب الهوية و غيب الغيوب مجرّدة عن المظاهر و المجالى بل المتحقّق هو عالم الصورة و قواها الروحانيّة و الحسيّة و اللّه هو الظاهر المجموع لا بدونه و هو حقيقة الإنسان الكبير و الكتاب المبين الّذي هذا الإنسان الصغير انموزج و نسخة مختصرة عنه ، و ذلك القول كفر فضيح و زندقة صرفة لا يتفوّه به من له أدنى مرتبة من العلم و نسبة هذا الأمر إلى أكابر الصوفيّة و رؤسائهم افتراء محض و افك عظيم يتحاشى عنها أسرارهم و ضمائرهم ، و لا يبعد أن يكون سبب ظنّ الجهلة بهؤلاء الأكابر اطلاق الوجود تارة على ذات الحقّ و تارة على المطلق الشامل و تارة على المعنى العام العقلى فإنّهم كثيرا ما يطلقون الوجود على المعنى الظلّى الكونى فيحملونه على مراتب التعيّنات و الوجودات الخاصّة فيجرى عليه أحكامها . و بما تقدّم من أنّ ما سواه تعالى مظاهر أسمائه و صفاته و مجالى إشراقات نور وجهه و مرايا ظلّ ذاته علمت معنى الإخلاص في التوحيد أعنى التوحيد الذاتى الّذي ينطق به الموحّدون و إمامهم عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام : أوّل الدين معرفته و كمال معرفته التصديق به ، و كمال التصديق به توحيده ، و كمال توحيده الإخلاص له ، و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه و من قرنه فقد ثنّاه و من ثنّاه فقد جزّاه و من جزّاه فقد جهله و من جهله فقد أشار إليه و من أشار إليه فقد حدّه و من حدّ فقد عدّه الخ ( الخطبة الاولى من نهج البلاغة ) . [ 246 ] و لا يخفى عليك أنّ كلامه عليه السّلام يشير إلى التوحيد الذاتى و اخلاصه تمحيض حقيقة الأحديّة عن شائبة الكثرة ، قال العارف السيّد حيدر الاملي في رسالة نقد النقود في معرفة الوجود ( ص 636 ) : و اذا تحقّق هذا و ثبت أنّ الوجود المطلق موجود في الخارج و ليس لغيره وجود أصلا ، و ثبت أنّ هذا الوجود المطلق هو الحقّ تعالى فاعلم أنّ مرادهم بالوجود من حيث هو الوجود ، الوجود الصرف و الذات البحت الخالص بلا اعتبار شي‏ء معه أصلا أعنى تصوّره من حيث هو هو لا بشرط الشي‏ء و لا بشرط اللا شي‏ء أى مجردا عن جميع النسب و الإضافات و القيود و الإعتبارات . و معلوم أنّ كلّ شي‏ء له اعتباران : اعتبار الذات من حيث هي هي ، و اعتبارها من حيث الصفات أى وصفها بصفة مّا أيّة صفة كانت ، فهذا هو اعتبار الذات فقط أعنى اعتبار الذات بقطع النظر عن جميع الاعتبارات و الإضافات المخصوصة بالحضرة الأحديّة و أنّ مرادهم بالمطلق هو الذات المطلقة المنزّهة عن جميع هذه الاعتبارات ، و ليس اطلاق لفظ المطلق على الوجود الصرف إلاّ من هذه الحيثيّة لا من جهة المطلق الّذي هو بازاء المقيد ، و لا من جهة الكلى الّذي هو بازاء الجزئى ، و لا من جهة العام الذي هو بازاء الخاص لأنه أى الوجود الصرف من حيث هو غنىّ عن إطلاق شي‏ء عليه اسما كان أو صفة ، سلبا كان أو ثبوتا ، إطلاقا كان أو تقييدا ، عامّا كان أو خاصّا ، لأنّ كلّ واحد منها اى من هذه الامور المتقابلة يقتضى سلب الاخر ، أو يقتضى التقيّد و التعيّن فيه ، و هو أعنى الوجود المطلق المحض منزّه عن الكلّ حتّى عن الإطلاق و عدم الإطلاق لأنّ الإطلاق تقييد يقيّد الإطلاق ، كما أنّ اللاّ إطلاق قيد بعدم الاطلاق و كذلك التعيّن و اللاّ تعيّن و غير ذلك من الصفات كالوجود و القدم و العلم و القدرة و أمثالها . و عن هذا التنزيه النزيه و التقديس الشريف أخبر مولانا و إمامنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في قوله : أوّل الدين معرفته الخ و الغرض [ 247 ] أنّ كلّ ذلك إشارة إلى إطلاقه و تجرّده و تنزّهه و تقدّسه عن الكثرة الوجوديّة و الإعتباريّة ، لأنّ قوله عليه السّلام و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه إشارة إلى الوجود المطلق المحض و الذات البحت الخالص الّذي لا يمكن وصفه بشي‏ء أصلا و لا يكون قابلا للإشارة أبدا كما أشار إليه عليه السّلام في موضع آخر في قوله : الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة . قلت : قوله عليه السّلام : الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة ، بعض حديث الحقيقة المخاطب به كميل بن زياد رضوان اللّه عليه سأله عليه السّلام عن الحقيقة بقوله : ما الحقيقة ؟ قال عليه السّلام : مالك و الحقيقة ؟ قال : أ و لست صاحب سرّك ؟ قال : بلى ، و لكن يرشح عليك ما يطفح منّى ، قال : أو مثلك يخيّب سائلا ؟ قال : الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة ، قال : زدنى فيه بيانا ، قال : محو الموهوم مع صحو المعلوم ، قال : زدني فيه بيانا ، قال : هتك الستر لغلبة السرّ قال : زدني فيه بيانا ، قال : جذب الأحديّة بصفة التوحيد ، قال : زدني فيه بيانا قال : نور يشرق من صبح الأزل فتلوح على هياكل آثاره ، قال : زدني فيه بيانا قال : أطف السراج فقد طلع الصبح . نقله العارف المذكور في جامع الأسرار ص 170 و شرحه في عدّة مواضع من ذلك الكتاب ، و العلاّمة الشّيخ البهائى في الكشكول و القاضى نور اللّه الشهيد نوّر اللّه مرقده في مجالس المؤمنين و العارف الشّيخ عبد الرزاق اللاّهجى في شرح گلشن راز ، و الخوانسارى في روضات الجنّات ، و المحدّث القمّي في سفينة البحار و غيرهم من أساطين الحكمة و العرفان في صحفهم القيّمة ، و شرحه العلاّمة قطب الدين الشيرازى في رسالة معمولة في ذلك فقط ، و شرحه أيضا بعض أساتيذنا بالنظم الفارسي و لقد أحسن و أجاد ، ألا و هو العارف الرّبانى محيى الدّين مهدى الالهى القمشئى أدام اللّه أيّام إفاضاته . و قال العارف الاملي المذكور في جامع الأسرار في تعريف التوحيد : اعلم أنّ حقيقة التوحيد أعظم من أن يعبّر عنها بعبارة أو يؤمى إلى تعريفها بإشارة [ 248 ] فالعبارة في طريق معرفتها حجاب ، و الإشارة على وجه إشراقها نقاب ، لأنّها يعنى حقيقة التوحيد منزّهة عن أن تصل إلى كنهها العقول و الأفهام ، مقدّسة عن أن تظفر بمعرفتها الأفكار و الأوهام ، شعر : تجول عقول الخلق حول حمائها . و لم يدركوا من برقها غير لمعة و إلى صعوبة إدراكها يعنى حقيقة التوحيد و شدّة خفائها أشار مولانا و إمامنا أمير المؤمنين و يعسوب المسلمين سلطان الأولياء و الوصيين وارث علوم الأنبياء و المرسلين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في قوله : ما وحّده من كيّفه ، و لا حقيقته أصاب من مثّله ، و لا إيّاه عنى من شبّهه ، و لا قصده من أشار إليه و توهّمه . و في قوله : هو الأحد لا بتأويل عدد ، و الخالق لا بمعنى حركة و نصب و السميع لا بأداة ، و البصير لا بتفريق آلة ، و الشاهد لا بمماسّة ، و البائن لا بتراخى مسافة ، و الظاهر لا برؤية ، و الباطن لا بلطافة ، بان من الأشياء بالقهر لها و القدرة عليها ، و بانت الأشياء منه بالخضوع له و الرجوع إليه ، من وصفه فقد حدّه ، و من حدّه فقد عدّه ، و من عدّه فقد أبطل أزله ، و من قال كيف فقد استوصفه ، و من قال أين فقد حيّزه ، عالم إذ لا معلوم ، و ربّ إذ لا مربوب و قادر إذ لا مقدور . و في قوله : أوّل الدين معرفته الخ . و كذلك الشّيخ العارف الشبلى البغدادي رحمة اللّه عليه في قوله : من أجاب عن التوحيد بعبارة فهو ملحد ، و من أشار إليه باشارة فهو زنديق ، و من أومى إليه فهو عابدوثن ، و من نطق فيه فهو غافل ، و من سكت عنه فهو جاهل ، و من وهم أنّه إليه واصل فليس له حاصل ، و من ظنّ أنّه منه قريب فهو عنه بعيد ، و من به تواجد فهو له فاقد ، و كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم و أدركتموه بعقولكم في أتمّ معانيكم فهو مصروف مردود إليكم ، محدث مصنوع مثلكم . و ليس مرادهم من هذه الإشارات الامتناع من حصوله ، و لا اليأس من وصوله بل المراد منها إعلاء أعلام منزلته ، و ارتفاع أركان درجته ، و بيان أنّه ليس [ 249 ] بقابل للإشارة و لا بمحلّ للعبارة ، لأنّه عبارة عن الوجود المطلق المحض و الذات الصرف البحت المسمّى بالحقّ جلّ جلاله الّذي لا يقبل الإشارة أصلا و رأسا و لا العبارة قولا و فعلا و ذلك لا يكون إلاّ عند فناء الطالب في المطلوب و الشاهد في المشهود و حين الاستغراق و الاستهلاك في المطلق المحيط و لا شكّ أنّه لا يبقي مع ذلك لا الإشارة و لا المشير ، و لا من الغير أثر في العقل و الضمير . و إليه أشار الإمام عليه السّلام بقوله أيضا : « الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة » اظهارا بأنّه لا ينكشف الحقّ حقيقة على أحد إلاّ عند ارتفاع الكثرة مطلقا اسما كان أو صفة و لهذا قال سبحات الجلال بدون الجمال لأنّ الجمال مخصوص بالأسماء و الصفات الّتي هي منشأ الكثرة لا الجلال ، انتهى ما أردنا من نقل كلام العارف السيّد حيدر الاملي قدّس سرّه الشريف في التوحيد الذاتي . و الشّيخ العارف المحقّق أبو إسماعيل خواجه عبد اللّه بن إسماعيل الأنصارى الهروي قد ذكر في آخر كتابه الموسوم بمنازل السائرين بابا مفردا في التوحيد و قسمه على ثلاثة أوجه ، و قد بذل الجهد في ذلك جدّا ، و لكنّه موجز يحتاج إلى البيان و قد شرح ذلك الكتاب المولى العارف المحقّق كمال الدّين عبد الرزّاق الكاشاني يفضل ذلك الشرح على سائر الشروح كفضله على سائر الشراح ، و ذلك الباب باب إلى ما كنّا في صدده ، و قد أشار الشارح المذكور إلى المتن بحرف الميم ، و إلى الشرح بحرف الشين فنأتي بالباب على هديه و طريقته من غير تغيير وضعه و اسلوبه و هو مايلى : ( م ) باب التوحيد ، قال اللّه تعالى : « شهد اللَّه أنّه لا إله إلاّ هو » . ( ش ) إنّما خصّ بعض الاية بالذكر لأنّ هذا محض التوحيد الجمعى و هو أن لا يكون معه شي‏ء فلو ذكر و الملائكة و اولو العلم لكان نزولا عن الجميع إلى الفرق فيكون معه غيره فلا يبقي التوحيد المحض فهو الشاهد بنفسه لنفسه فلم يشهد أن لا إله إلاّ هو غيره فمن تحقّق هذا بالذوق فقد شهد التوحيد بالحقيقة . ( م ) التوحيد تنزيه اللّه عزّ و جلّ عن الحدث و إنّما نطق العلماء بما نطقوا به [ 250 ] و أشار المحقّقون بما أشاروا إليه في هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد و ما سواه من حال أو مقام فكلّه مصحوب العلل . ( ش ) قوله : التوحيد تنزيه اللّه عزّ و جل عن الحدث . مجمل يتناول تنزيه العقلاء من الحكماء و المسلمين ، و تنزيه العرفاء الموحّدين لأنّ جميع العقلاء و أهل الفكر يدّعون تنزيه اللّه تعالى مع كونهم مقيّدين لأنّ العقل لا يقول إلاّ بالتقييد و يثبتون الحدث و ينفونه عن الحقّ تعالى و ينزّهونه عنه ، و أما العرفاء المحقّقون فلا يثبتون الحدث أصلا و رأسا فإنّ شهود التوحيد ينفيه عن أصله ثمّ يثبته بعد نفيه بالحقّ بمعنى تجلّى الحقّ مع الايات بوجوهه في الصّور فيكون الحدوث عندهم ظهوره في الصّور المختلفة بالتجلّيات المتعاقبة الغير المتكرّرة . و مراد الشّيخ قدّس اللّه روحه هذا التنزيه و لا يهتدى العقل إلى طريق التوحيد الّذي لا يكون فيه مع الحقّ سواه و لا يرى الحقّ عين الكلّ و لا يرى الحقّ عين الكلّ بحيث لا يكون في الوجود شي‏ء غيره . و إنما نطق العلماء بما نطقوا به و أشار المحقّقون إلى ما أشاروا إليه في هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد أى ما نطقوا و ما أشاروا إلاّ لقصد تصحيح هذا المقام السنّى لأنّه المقصد الأقصى و الموقف الأعلى و ما دون ذلك من الأحوال و المقامات فكلّه مصحوب العلل لا صحّة لها لبقاء الرسوم فيها و لو في الحضرة الواحديّة و التجلّيات الأسمائية هذا ما ذهب إليه خاطرى . و وجه آخر مبنىّ على أنّ « ما » في إنّما نطق موصولة حقها أن تكتب مفصولة على معنى أنّ كلّ ما نطق به العلماء و أشار إليه المحقّقون لقصد تصحيح التوحيد و ما سواه من الأحوال و المقامات فكلّه مصحوب العلل لا يخلو منها يعنى أنّ التوحيد بالعلم لا يخلص عن العلل و كذا إثبات الأحوال و المقامات بطريق العلم و إشارات المحقّقين لا يخلو من العلل فإنّها مواجيد ذوقيّة لا تندرج تحت العبارات و لا يحيط به الإشارات و لا تفى ببيانها الكلمات و العلل هى الجهالات . ( م ) و التوحيد على ثلاثة وجوه : الوجه الأوّل توحيد العامة الّذي يصحّ [ 251 ] بالشواهد ، و الوجه الثانى توحيد الخاصّة و هو الّذي يثبت بالحقائق ، و الوجه الثالث توحيد قائم بالقدم و هو توحيد خاصّة الخاصّة . ( ش ) الشواهد هي الأكوان و المصنوعات الّتي يستدلّ بها على المكوّن الصانع و بالجملة الدلائل الّتي يستدلّ بها العلماء بالنظر و الفكر و براهين العقل فتوحيد العامّة إنّما يصحّ بالإستدلال مثل قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلاّ اللَّه لفسدتا ، و لكن ما فسدتا فليس فيهما آلهة غير اللّه و أمثال ذلك . و أما توحيد الخاصّة و هم المتوسطون فهو الذي يثبت بالحقائق المذكورة في القسم التاسع و هي المكاشفة و المشاهدة و المعاينة و الحياة و القبض و البسط و السكر و الصحو و الإتّصال و الإنفصال . و أما توحيد خاصّة الخاصّة فهو التوحيد القائم بالقدم يعنى توحيد الحقّ لنفسه أزلا و أبدا كما قال : شهد اللّه أنّه لا إله إلاّ هو ، و قيامه بالقدم أزليّة و امتناع قيامه بالحدث و إلاّ كان مثبتا للغير فلم يكن توحيدا و أهل هذا المقام هم المذكورون في الدرجة الثالثة من كل باب من أبواب أقسام النهايات . ( م ) فأما التوحيد الأوّل فهو شهادة أن لا إلاّ اللّه وحده لا شريك له الأحد الصمد الّذي لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد ، هذا هو التوحيد الظاهر الجليّ الّذي نفى الشرك الأعظم و عليه نصبت القبلة ، و به وجبت الذمّة ، و به حقنت الدّماء و الأموال ، و انفصلت دار الإسلام عن دار الكفر ، و صحّت به الملّة العامّة و إن لم يقوموا بحقّ الاستدلال بعد أن سلموا من الشّبهة و الحيرة و الريبة بصدق شهادة صحّحها قبول القلب . ( ش ) هذا ظاهر غنىّ عن الشرح و هو أصل التوحيد التقليدي الّذي صحّت به الملّة للعامّة بصدق شهادة صحّحها في الشرع قبول قلوبهم لها تقليدا و إن لم يقدروا على الاستدلال بعد أن لم تعتورهم الشّبهة و الحيرة و الشك و سلمت قلوبهم من ذلك . ( م ) هذا توحيد العامّة الّذي يصحّ بالشواهد ، و الشواهد هي [ 252 ] الرسالة و الصنايع . ( ش ) أى الأخبار الّتي وردت بها الرسالة و المصنوعات المتقنة المحكمة الدالّة بحسن صنعتها و إتقانها على وجود الصّانع و علمه و حكمته و قدرته . ( م ) يجب بالسمع و يوجد بتبصير الحقّ و ينمو على مشاهدة الشواهد . ( ش ) أى يجب قبول هذا التوحيد بالأدلّة السمعيّة و هي أخبار الكتاب و السنّة الّتي يسمعها من النّبي صلى اللّه عليه و آله كقوله : فاعلم أنّه لا إله إلاّ اللّه . و قوله : و إلهكم إله واحد ، و شهد اللّه ، و سورة الإخلاص و أمثالها ، و لا توجد حقيقته و حلاوته و إدراك معناه إلاّ بتبصير الحقّ إيّاه بنوره المقذوف في قلب المؤمن و يزيد و ينمو بالمواظبة على مشاهدة الشواهد بنظر الإعتبار و التفكّر فيها و مطالعة حكمة صانعها في أحوالها . ( م ) و أمّا التوحيد الثانى الّذي يثبت بالحقائق فهو توحيد الخاصّة و هو إسقاط الأسباب الظاهرة و الصعود عن منازعات العقول و عن التعلّق بالشواهد و هو أن لا تشهد في التوحيد دليلا ، و لا في التوكل سببا ، و لا للنّجاة وسيلة . ( ش ) إسقاط الأسباب الظاهرة هو أن لا يعلّق المسبّبات بالأسباب المعروفة بين الناس و لا يرى لها تأثيرا و لا لغير الحقّ فعلا ، و يشهد بالحقيقة أن لا مؤثّر إلاّ اللّه ، و الصعود عن منازعات العقول هو الترقّي إلى مقام الكشف و التخلّص عن منازعات العقول أحكام الشرع لعماها عن حكمها ، و احتجابها بقياساتها ، و عن منازعات بعض العقول بعضا ، و مجادلاتها في الأحكام لثبوت الأوهام إيّاها ، و معارضاتها في المناظرات باتّهامها في الأحكام ( بإتمامها في الأحكام خ ل ) و تصفية الباطن عن المخالفات و المجادلات مجاوزا طور العقل إلى نور الكشف و عن التعلّق بالشواهد أى الصعود عن طور الاستدلال و التمسّك بالأدلّة استغناء عنها بنور التجلّي و العيان . قوله : « و هو » إشارة إلى الصعود عن التعلق بالشواهد أى و ذلك الصعود أن لا تشهد في التوحيد دليلا فيكون التوحيد عندك أجلى من كلّ دليل فإنّ نور [ 253 ] الحقّ إنما لا يدرك لشدّته و قوّة نوريّته كما قيل ، شعر : خفىّ لإفراط الظهور تعرّضت لإدراكه أبصار قوم أخافش « و لا في التوكّل سببا » أى و أن لا تشهد في التوكّل سببا لقوّة يقينك في أن لا مؤثّر إلاّ اللّه و رؤيتك الأفعال كلّها منه فيتلاشى الأسباب في المسبّب في شهودك لشهودك التّأثير منه دون السبب « و لا للنّجاة وسيلة » أى و أن لا تشهد للنّجاة من العذاب و العقوبة و الطرد وسيلة من الأعمال الصالحة و الحسنات . ( م ) فتكون مشاهدا سبق الحقّ بحكمه و علمه و وضعه الأشياء مواضعها و تعليقه إيّاها بأحايينها ، و إخفائه إيّاها في رسومها و تحقّق معرفة العلل و تسلك سبيل إسقاط الحدث هذا توحيد الخاصّة الّذي يصحّ بعلم الفناء و يصفو في علم الجمع و يجذب إلى توحيد أرباب الجمع . ( ش ) أى فتكون أنت مشاهدا أنّ الحقّ سبق بحكمه على الأشياء بما هي عليه في الأزل فلا تكون إلاّ كما حكم به ، و كذا سبق بعلمه و تقديره الأشياء على ما هي عليه ، و حكمه تعالى على الأشياء تابع لعلمه فتكون الأشياء على مقتضى سابق علمه و قضائه ، « و وضعه الأشياء مواضعها » أى و تكون مشاهدا لوضع الحقّ تعالى كلّ شي‏ء في موضعه بتقديره و حكمته في الأزل ، و كذا تشاهد « تعليقه إيّاها بأحايينها » فلا تقع إلاّ في الوقت الّذي قدر وقوعها فيه ، « و اخفائه إيّاها في رسومها » أى و تكون مشاهدا سبق الحقّ بإخفائه الأشياء في رسومها عن أعين المحجوبين فإنّهم لا يرون أنّها بفعل الحقّ و حكمه و تقديره في القضاء السابق جارية على مجراها فينسبونها إلى أسبابها و مقتضيات رسومها الخلقيّة و طبايعها و أوقاتها ، فيجعلون لكلّ تغيّر حال من أحوالها سببا ، و يحتجبون بها عن التصرّف الالهىّ و التقدير الأزلىّ ، و ذلك هو إخفاؤها في الرسوم . قوله « و تحقّق » عطف على « فتكون » أى فتكون مشاهدا و تحقّق معرفة العلل و هي الوسائط و إسناد أحوالها إلى ما سوى اللّه تعالى من الأسباب و الرسوم الخلقية من الطبايع و اختيار الخلق و إرادتهم و قدرتهم و إلى حركات الأفلاك [ 254 ] و أوضاع الكواكب و أمثالها ، و كلّ ذلك علل يحتجب أهل العادات عن اللّه تعالى و توحيده . و أما العرفاء الموحّدون فهم يعرفون هذه العلل و يسقطون الحدث و يسلكون سبيل علم القدم بإسقاط الحدث فلا يرون إلاّ سابقة حكم الأزل فيكونون مع الحقّ في جريان الأحول و يشهدون تصريفاته للأشياء بفعله على مقتضى حكمه و تقديره و حكمته الأزليّة و قدرته و إرادته الأوليّة فيشاهدون الحقّ و أسماءه و صفاته لا غير . هذا توحيد الخاصّة أى المتوسطين الّذي يصحّ بعلم الفناء لا بنفس الفناء الاتي بعده فإنّ علم الفناء يحصل بالفناء في حضرة الصفات و الأسماء أى الحضرة الواحديّة قبل الفناء في الذات الأحديّة الّتي هي عين الجمع و يصفو بعلم الجمع لا بعين الجمع و اضمحلال الرسوم بل قبله عند فناء علمه في علم الحقّ و يجذب إلى توحيد أرباب الجمع الّذي يأتي في قوله . ( م ) و أما التوحيد الثالث فهو توحيد اختصّه اللّه لنفسه و استحقّه بقدره و ألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته ، و أخرسهم من نعته و أعجزهم عن بثّه . ( ش ) اختصّه اللّه لنفسه أى استأثره اللّه به ليس لغيره منه نصيب و لا فيه قدم لأنّه إنّما يتحقّق بفناء الحقّ كلّهم و بقاء الحقّ وحده فلا يمكن لغيره عنه عبارة و لا إليه إشارة و لا شي‏ء من أحكام الخلق و أوصافهم يصل إليه لحصوله بفنائهم و استحقّه بقدره أى لا يستحقّه بمقدار كنهه و حقيقته إلاّ هو و لا يبلغه غيره و ما قدروا اللّه حقّ قدره ، و ألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته حال البقاء بعد الفناء في عين الجمع لأنّهم حال الفناء قد استغرقوا فيه فانين عن أسرارهم غائبين عنها ، و في حال البقاء ردّوا إلى الخلق باقين به فعرفوا أنّ الحضرة الأحديّة لا نعت لها و كلّ ما ينعت به فهو من الحضرة الواحديّة فأخرسهم اللّه عن نعته لا بمعنى أنهم يعرفون نعته فمنعهم عن التكلّم به بل لأنّهم عرفوا أنّ حضرة النعوت تحت مقام الجمع فهو كقوله : شعر : على لا حب لا يهتدى بمناره ، و كذا معنى قوله : [ 255 ] « و أعجزهم عن بثّه » أى عن إظهار ذلك اللاّئح و الإخبار به لأنّه لا يقبل الإخبار عنه كما لا يقبل النعت . ( م ) و الذي يشار به إليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث و إثبات القدم ، على أنّ هذا الرمز في ذلك التوحيد علّة لا يصحّ ذلك التوحيد إلاّ باسقاطه . ( ش ) « و الّذي يشار به إليه » مبتداء ، خبره « أنّه إسقاط الحدث » أى و أحسن ما يشار به إلى هذا التوحيد و ألطفه هو هذا الكلام المرموز ، مع أنّ هذا الرمز في ذلك التوحيد علّة لا يصحّ ذلك التوحيد إلاّ باسقاطه فانّ الحدث لم يزل ساقطا ، و إنّ القدم لم يزل ثابتا ، فما معنى إسقاط ذلك و إثبات هذا و من المسقط و المثبت و ما ثمّ إلاّ وجه الحقّ تعالى ؟ فهذه علّة و هؤلاء ظنوا أنّهم قد حصّلوا تعريفه و ليسوا في حاصل . ( م ) هذا قطب الإشارة إليه على ألسن علماء هذا الطريق و إن زخرفوا له نعوتا و فصّلوه فصولا فإنّ ذلك التوحيد يزيده العبارة خفاء ، و الصفة نفورا و البسط صعوبة . ( ش ) « هذا » أى قولهم إسقاط الحدث و إثبات القدم قطب مدار الإشارة إلى هذا الطريق و أعظم الإشارات و أحكمها و هو مع ذلك معلول يجب إسقاطه في تصحيح هذا التوحيد و الباقي من المتن ظاهر . ( م ) و إلى هذا التوحيد شخص أهل الرياضة و أرباب الأحوال و المعارف و له قصد أهل التعظيم و إيّاه عنى المتكلّمون في عين الجمع ، و عليه تصطلم الإشارات ثمّ لم ينطق عنه لسان و لم يشر إليه عبارة فإنّ التوحيد وراء ما يشير إليه مكوّن ، أو يتعاطاه حين ، أو يقلّه سبب . ( ش ) « و إلى هذا التوحيد شخص » أى ذهب « أهل الرياضة » السالكون « و عليه تصطلم الإشارات » أى تنقطع و تستأصل « فإنّ التوحيد وراء ما يشير إليه مكوّن » أى مخلوق ، لأنّه لا يصحّ إلاّ بفناء الرسوم كلّها و صفاء الأحديّة عن [ 256 ] الكثيرة العددية فلا مجال للإشارة فيه ، « أو يتعاطاه حين » أى وراء ما يتداوله زمان لأنّه في عين القدم فوق طور الزمان و الحدث ، « أو يقلّه سبب » أى وراء ما يحمله سبب لأنّه قائم بمسبّب الأسباب وحده فكيف يحمله سبب ؟ و كلامه ظاهر لا يحتاج إلى الشرح . ( م ) و قد أجبت في سالف الزمان سائلا سألنى عن توحيد الصوفيّة بهذه القوافي الثلاث : ما وحّد الواحد من واحد إذ كلّ من وحّده جاحد توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد توحيده إيّاه توحيده و نعت من ينعته لاحد ( ش ) يعنى ما وحّد الحقّ تعالى حقّ توحيده الذّاتي أحد إذ كلّ من وحّده أثبت فعله و رسمه بتوحيده فقد جحده باثبات الغير إذ لا توحيد إلاّ بفناء الرسوم و الآثار كلّها « توحيد من ينطق من نعته عارية » إذ لا نعت في الحضرة الأحدية و لا نطق و لا رسم لشي‏ء و النطق و النعت يقتضيان الرسم و كلّ ما يشمّ منه رائحة الوجود فهو للحقّ عارية عند الغير فيجب عليه ردّها إلى مالكها حتّى يصحّ التوحيد و يبقى الحقّ واحدا واحدا فلذلك أبطل الواحد الحقيقي تلك العارية الّتي هي ذلك التوحيد مع بقاء رسم الغير فإنّه باطل في نفسه في الحضرة الأحديّة « توحيده إيّاه توحيده » أى توحيد الحقّ ذاته بذاته هو توحيده الحقيقي « و نعت من ينعته لاحد » أى وصف الّذي يصفه هو أنّه مشرك جائز عن طريق الحقّ مائل عنه لأنّه أثبت النعت و لا نعت ثمّة و أثبت رسمه باثبات النعت و لا رسم لشي‏ء في الحضرة الأحديّة و لا أثر و إلاّ لم تكن أحدية ، انتهى . فإن قلت : إنّ ما استفيد ممّا تقدّم في معنى التوحيد أنّه تعالى أحد لا بتأويل عدد ، كما صرّح به الأمير عليه السّلام في كلامه المذكور آنفا و قد قال سيّد الساجدين و زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السّلام في الدّعاء الثامن و العشرين من الصحيفة السّجاديّة و هو كان من دعائه عليه السّلام متفزعا إلى اللّه عزّ و جلّ : « لك يا [ 257 ] إلهى وحدانيّة العدد ، و ملكة القدرة الصمد ، و فضيلة الحول و القوّة ، و درجة العلوّ و الرّفعة ، و من سواك مرحوم في عمره ، مغلوب على أمره ، مقهور على شأنه ، مختلف الحالات ، متنقل في الصفات ، فتعاليت عن الأشباه و الأضداد و تكبّرت عن الأمثال و الأنداد ، فسبحانك لا إله إلاّ أنت » . فكيف التوفيق بين قوله عليه السّلام : لك يا إلهى وحدانيّة العدد ، و بين ما مرّ من أنّ اللّه تعالى منزّه عن الوحدة العدديّة ؟ . قلت : قد أفاد العالم المحقّق صدر الدّين المعروف بالسيّد علي خان رضوان اللّه عليه في شرحه ما أتلوه عليك أوّلا ثمّ أذكر ما عندى ، قال رحمه اللّه تعالى : تقديم المسند لإفادة قصر المسند إليه عليه ، أى لك وحدانيّة العدد لا تتخطّاك إلى غيرك ، و وحدانيّة الشي‏ء كونه واحدا لأنّ ياء النسب إن الحقت آخر الإسم و بعدها هاء التأنيت أفادت معنى المصدر كالالوهية و الربوبية و الألف و النون مزيدتان للمبالغة . و العدد قيل : هو كثرة الاحاد و هي صورة تنطبع في نفس العادّ من تكرار الاحاد ، و على هذا فالواحد ليس عددا ، و قيل : هو ما يقع جوابا لكم فيكون الواحد عددا . و قد اختلف أقوال الأصحاب في معنى قوله عليه السّلام : لك يا إلهى وحدانيّة العدد ، لمنافاتها ظاهرا وجوب تنزيهه تعالى عن الوحدة العدديّة نقلا و عقلا . أمّا النقل فمستفيض من أخبارهم عليهم السّلام و منه قول أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة له : الواحد بلا تأويل عدد ، و قوله في خطبة اخرى : واحد لا بعدد و دائم لا بأمد . و منه ما رواه رئيس المحدّثين في كتاب التوحيد أنّ أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال يا أمير المؤمنين أتقول انّ اللّه واحد ؟ فحمل الناس عليه و قالوا : يا أعرابى أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسيم القلب ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السّلام : دعوه فإنّ الّذي يريده الأعرابي هو الّذي نريده من القوم [ 258 ] ثم قال : يا أعرابي إنّ القول بأنّ اللّه تعالى واحد على أربعة أقسام فوجهان منها لا يجوزان على اللّه عزّ و جلّ ، و وجهان يثبتان فيه : فأما اللّذان لا يجوزان عليه فقول القائل واحد يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز لأنّ ما لا ثانى له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنّه كفر من قال ثالث ثلاثة ؟ . و قول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز عليه لأنّه تشبيه و جلّ ربّنا عن ذلك و تعالى . و أما الوجهان اللّذان يثبتان فيه فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربّنا ، و قول القائل : إنّه عزّ و جلّ أحدي المعنى يعنى به أنّه لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم كذلك ربّنا عزّ و جلّ . و أما العقل فلأنّ الوحدة العدديّة إنّما تتقوّم بتكرّرها الكثرة العدديّة و يصحّ بحسبها أن يقال إنّ المتصف بها أحد أعداد الوجود أو أحد آحاد الموجودات و عزّ جنابه سبحانه أن يكون كذلك ، بل الوحدة العدديّة و الكثرة العدديّة الّتي هي في مقابلتها جميعا من صنع وحدته المحضة الحقيقيّة الّتي هي نفس ذاته القيّومة و هي وحدة حقّة صرفة وجوبيّة قائمة بالذات لا مقابل لها و من لوازمها نفي الكثرة كما أشار إليه أمير المؤمنين صلوات اللّه و سلامه عليه في الحديث المذكور آنفا أنه أحدى المعنى لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم . إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّ قوله عليه السّلام : لك يا إلهى وحدانيّة العدد ، ليس مرادا به الوحدة العدديّة بل لا بدّ له من معنى آخر يصحّ تخصيصه به تعالى و قصره عليه كما يقتضيه تقديم المسند على المسند إليه . فقال بعضهم : المراد به نفي الوحدة العدديّة عنه تعالى لا إثباتها له ، و هو غير ظاهر . و قيل : معناه انّ لك من جنس العدد صفة لوحدة و هو كونك واحدا لا شريك لك و لا ثانى لك في الربوبيّة . [ 259 ] و قيل : معناه إذا عددت الموجودات كنت أنت المتفرد بالوحدانيّة من بينها . و قيل : اريد به أنّ لك وحدانيّة العدد بالخلق و الإيجاد لها فإنّ الوحدة العدديّة من صنعه و فيض وجوده وجوده و لا يخفى أنه بمعزل عن المقام . و قال بعضهم : أراد بوحدانيّة العدد جهة وحدة الكثرات و أحدية جمعها لا إثبات الوحدة العدديّة له تعالى . و قيل : معناه أنّه لا كثرة فيك أى لا جزء لك و لا صفة لك يزيدان على ذلك و هو أنسب المعانى المذكورة بالمقام ، و توضيح المراد أنّ قوله عليه السّلام لك يا إلهى وحدانيّة العدد يفسّره قوله عليه السّلام : و من سواك مختلف الحالات متنقل في الصفات فإنّه عليه السّلام قابل كلّ فقرة من الفقرات الأربع المتضمّنة للصفات الّتي قصرها عليه سبحانه بفقرة متضمّنة لخلافها فمن سواه على الطريق اللّف و النشر الّذي يسمّيه أرباب البديع معكوس الترتيب و هو أن يذكر متعدد تفصيلا ثمّ تذكر أشياء على عدد ذلك كل واحد يرجع إلى واحد من المتقدم من غير تعيين ثقة بأنّ السامع يرد كلّ واحد إلى ما يليق به و يكون الأوّل من النشر للاخر من اللف و الثانى لما قبله و هكذا على الترتيب كعبارة الدّعاء فإنّ قوله عليه السّلام : مختلف الحالات متنقل في الصفات راجع إلى قوله : لك يا إلهي وحدانيّة العدد ، و قوله : مقهور على شأنه راجع إلى قوله : و ملكة القدرة الصمد ، و قوله : مغلوب على أمره راجع إلى قوله : و فضيلة الحول و القوّة ، قوله : مرحوم في عمره راجع إلى قوله : درجة العلو و الرفعة . إذا علمت ذلك ظهر لك أنّ المراد بوحدانيّة العدد له تعالى معنى يخالف معنى اختلاف الحالات و التنقل في الصفات لغيره سبحانه فيكون المقصود إثبات وحدانية ما تعدّد من صفاته و تكثر من جهاته و أنّ عددها و كثرتها في الإعتبارات و المفهومات لا يقتضى اختلافا في الجهات و الحيثيات و لا تركيبا من الأجزاء بل جميع نعوته و صفاته المتعدّدة موجودة بوجود ذاته ، و حيثية ذاته بعينها حيثية علمه و قدرته و سائر صفاته الإيجابيّة فلا تعدّد و لا تكثر فيها أصلا [ 260 ] بل هي وحدانية العدد موجودة بوجود واحد بسيط من كل وجه إذ كل منها عين ذاته فلو تعددت لزم كون الذات الواحدة ذواتا تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا . و هذا معنى قولهم واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات فجميع صفاته الإيجابيّة عين ذاته من غير لزوم تكثر . فإن قلت : كيف تكون صفاته عين ذاته و مفهوم الصفة غير مفهوم الذات ؟ و أيضا فإنّ مفهوم كلّ صفة غير مفهوم صفة اخرى فكيف تتّحد بالذات ؟ . قلت : قد تكون المفهومات المتعدّدة موجودة بوجود واحد فالصفات بحسب المفهوم و إن كانت غير الذات و بعضها يغاير بعضها إلاّ أنها بحسب الوجود ليست أمرا وراء الذات أعنى أنّ ذاته الأحدية تعالى شأنه هي بعينها صفاته الذاتية بمعنى أنّ ذاته بذاته وجود و علم و قدرة و حياة و سمع و بصر ، و هي أيضا موجود عالم قادر حىّ سميع بصير يترتّب عليها آثار جميع الكمالات و يكون هو من حيث ذاته مبدء لها من غير افتقار إلى معان اخر قائمة به تسمّى صفاتا تكون مصدرا للاثار لمنافاته الوحدة و الغناء الذاتيين و الإختصاص بالقدم فذاته صفاته و صفاته ذاته لا زائدة عليها كصفات غيره من المخلوقين فإنّ العلم مثلا في غيره سبحانه صفة زائدة على ذاته مغايرة للسمع فيه و فيه نفسه تعالى و هو بعينه سمعه و قس على ذلك سائر الصفات الثبوتية . فتبيّن أنّ المراد بقصر وحدانية العدد عليه تعالى هذا المعنى المخالف لصفات من سواه و حالاته فانّها كيفيات نفسانيّة انفعاليّة و حالات متغايرة و معان مختلفة له إذ كان يسمع بغير ما يبصر ، و يبصر بغير ما يسمع إلى غير ذلك من صفاته المتعدّدة المتكثّرة الّتي توجب اختلاف الحالات و التنقل في الصفات و بالجملة فمعنى قصر وحدانية العدد عليه سبحانه نفى التعدّد و التكثّر و الاختلاف عن الذات و الصفات على الاطلاق ، و هذا المعنى مقصور عليه تعالى لا يتجاوزه إلى غيره ، و اللّه أعلم بمقاصد أوليائه ، و في المقام كلام طويل طويناه على عزّه . انتهى كلامه رفع مقامه . [ 261 ] أقول : أوّلا إنّ حديث الأعرابي يوم الجمل قد نقله العلاّمة الشّيخ بهاء الدّين قدّس سرّه أيضا في أوائل المجلّد الثالث من الكشكول ( ص 258 من طبع نجم الدولة ) من كتاب أعلام الدّين تأليف أبي محمّد الحسن بن أبي الحسن الديلمي ، عن مقداد بن شريح البرهاني ، عن أبيه قال : قام رجل يوم الجمل إلى عليّ عليه السّلام الخ ، و ثانيا الحكم في اصول العقائد و المعيار فيها هو العقل فحسب فما حكم به العقل الناصع فهو المتّبع فاذا ورد أمر من أهل بيت الوحى و خزنة أسرار اللّه فإن كان ممّا يدركه العقل ، و إلاّ فإن عجز عن إدراكه فإمّا كان العجز من حيث إنه كلام عال سام لا تبلغه العقول بلا تلطيف سرّ و تدقيق فكر و نور علم فلا بدّ من الورود فيها من أبوابها ، أو من حيث إنّ ظاهره ينافي حكم صريح العقل فلا بدّ من التأمّل فيه حقّ التأمّل لأنّ الكلام حينئذ ليس محمولا على ظاهره قطعا و ذلك للعلم القطعي بأنّ ما صدر عن أولياء اللّه تعالى لا سيّما عن حججه و وسائط فيضه ليس ما ينافي حكم العقل واقعا بل منطقهم عقل ليس إلاّ ، فما يحرى على الفاحص مغزا كلامهم ، و المستفيد من مأدبة مرامهم أن يسأل اللّه تعالى فهم ما أفاضوه ، و نيل ما أفادوه ، فقد روى ثقة الإسلام الكليني في باب فيما جاء أنّ حديثهم صعب مستصعب من كتاب الحجّة من اصول الكافي بإسناده عن جابر قال : قال أبو جعفر عليه السّلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : إنّ حديث آل محمّد صعب مستصعب لا يؤمن به إلاّ ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد امتحن اللّه قلبه للإيمان ، فما ورد عليكم من حديث آل محمّد صلى اللّه عليه و آله فلانت له قلوبكم و عرفتموه فاقبلوه ، و ما اشمأزّت منه قلوبكم و أنكرتموه فردّوه إلى اللّه و إلى الرسول و إلى العالم من آل محمّد صلى اللّه عليه و آله و إنما الهالك أن يحدّث أحدكم بشي‏ء منه لا يحتمله فيقول : و اللّه ما كان هذا ، و اللّه ما كان هذا و الإنكار هو الكفر ( 330 ج 1 من الكافي المشكول ) و قريب منه ما قد أتى به السيّد الرضي عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام في الخطبة 187 من النهج أوّلها : فمن الإيمان ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب . فنقول : العقل حاكم على أنّه تعالى ليس بواحد عدديّ أى شخصيّ لأنّ [ 262 ] ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد و الوحدة العدديّة معروضها هويّات آحاد عالم الإمكان ، على أنّه قد تحقق في محلّه أنّ العدد لا يعرض المفارق العقلي لا بالذات و لا بالعرض و هو عارض للنفوس بواسطة البدن ، بل اللّه تعالى واحد بالوحدة الحقّة الّتي هي حقّ الوحدة إذ لا مهيّة له سوى الوجود البحت البسيط و الوجود هو الوحدة القائمة بذاتها و الوحدة هي الوجود . فاعلم أنّ الوحدة هي ما يقال به لشي‏ء ما واحد ، و العدد هو الكمّية المتألّفة من الوحدات ، كما في صدر المقالة السابعة من اصول أقليدس ، فالوحدة ليست بعدد لأنّ العدد ما فيه انفصال لأنّه كمّ و الكمّ يقبل الانقسام و الوحدة لا تقبله ، و من جعلها عددا أراد بالعدد ما يدخل تحت العدّ ، كما قال العلاّمة الخواجه الطوسي في الصدر المذكور : « و قد يقال لكلّ ما يقع في مراتب العدّ عدد فيقع اسم العدد على الواحد أيضا بهذا الاعتبار » فالنزاع لفظي ، و قد يحدّ العدد بأنّه نصف مجموع حاشيته كالأربعة مثلا حاشيتاها ثلاثة و خمسة و هى نصف مجموعها ، فيخرج الواحد منه أيضا . و الوحدة مبدء العدد المتقوم بها فالحق كما صرّح به العلاّمة الشّيخ البهائى في خلاصة الحساب أنّ الواحد ليس بعدد و إن تألفت منه الأعدد كما أنّ الجوهر الفرد عند مثبتيه ليس بجسم و إن تألّفت منه الأجسام ، مثلا أنّ العشرة متقومة بالواحد عشر مرّات و ليست متقومة بخمسة و خمسة و لا بستّه و أربعة و لا بسبعة و ثلاثة و لا بثمانية و اثنين لأن تركّبها من الخمستين ليس بأولى من تركّبها من الستّة و الأربعة و غيرها من أنواع الأعداد الّتي تحتها و لهذا قال الفيلسوف المقدم ارسطاطاليس كما في الخامس من ثالثة إلهيات الشفاء : لا تحسبنّ أنّ ستّة ثلاثة و ثلاثة بل هو ستّة مرة واحدة . و قال الشّيخ في الفصل المذكور : و حدّ كلّ واحد من الأعداد إن أردت التحقيق هو أن يقال إنّه عدد من اجتماع واحد و واحد و واحد و تذكر الاحاد كلّها و ذلك لأنّه لا يخلو إمّا أن يحدّد العدد من غير أن يشار إلى تركيبه ممّا ركّب منه بل بخاصية من خواصّه فذلك يكون رسم ذلك العدد لا حدّه من [ 263 ] جوهره ، و إمّا أن يشار إلى تركيبه ممّا ركّب منه ، فإن اشير إلى تركيبه من عددين دون الاخر مثلا أن يجعل العشرة من تركيب خمسة و خمسة لم يكن ذلك أولى من تركيب ستة مع أربعة و ليس تعلق هويّتها بأحدهما أولى من الاخر و هو بما هو عشرة مهية واحدة و محال أن تكون مهية واحدة و ما يدلّ على مهية من حيث هي واحدة حدود مختلفة فاذا كان كذلك فحدّه ليس بهذا و لا بذاك بل بما قلنا و يكون إذا كان ذلك كذلك فقد كان له التراكيب من خمسة و خمسة و من ستة و أربعة و من ثلاثة و سبعة لازما لذلك و تابعا فيكون هذه رسوما له . فنقول : كما أنّ الوحدة مبدء العدد و ليست منه و تتألف منه الأعداد بكثرتها و لم تجد في مراتبها المختلفة بعد الفحص و التفتيش غير الوحدة و قد علمت أن مفاهيم الأعداد تتحقّق بتكرّر المفهوم الوحدة لا غير كذلك الوحدة الحقّة الّتي هي حقّ الوحدة مبدء للحقائق و بتكرّر تجلّياته تتحقّق الحقائق بلا تكثر في المتجلّى ، و كأنّ ما في زبور آل محمّد صلى اللّه عليه و آله من أنّ له تعالى وحدانيّة العدد يشير إلى هذا السرّ المكنون و قد سلك أهل السرّ هذا المسلك الأقوم و الطريق الأوسط . فقال السيّد المحقّق الداماد قدّس اللّه روحه معناه : أنّ الوحدة العدديّة ظلّ لوحدة الحقّة الصرفة القيّومية ، و قال مولانا محسن الفيض قدس سرّه : وحدانيّة العدد أى جهة وحدة الكثرات و أحديّة جمعها لأنّ العدديّة منتفية عنه سبحانه تعالى البتّة و إنّما الثابت له معنى الوحدة ليس إلاّ الوحدة الحقيقيّة كما ثبت في محلّه عقلا و نقلا . و قال صدر المتألّهين قدّس سرّه في الشواهد الربوبيّة : و من اللّطائف أنّ العدد مع غاية تباينه عن الوحدة و كون كلّ مرتبة منه حقيقة برأسها موصوفة بخواصّ و لوازم لا توجدان في غيرها إذا فتّشت في حاله و حال مراتبه المختلفة لم تجد فيها غير الوحدة . و قال الحكيم المتألّه السبزوارى رضوان اللّه عليه في الحاشية : فكلّ عدد من [ 264 ] الأعداد الّتي من النسب الأربع فيه التباين مع الاخر ليس أجزاؤه إلاّ الواحد فالإثنان واحد و واحد ، و الثلاثة واحد و واحد و واحد و هكذا فالواحد رسم بتكراره الأعداد المتباينة و لو في غاية التباين ، و تكرار الشي‏ء ليس إلاّ ظهوره ثانيا و ثالثا بالغا ما بلغ ، و ظهورات الشي‏ء ليست مكثرة له فاذا ظهر زيد في البيت مرّة بعد اولى و كرّة غبّ اخرى لم يتعدّد تعدّدا شخصيّا أو نوعيّا ، و هذا الواحد لا بشرط صار باللحاظات الكثيرة أعدادا متباينة لها أحكام و آثار متخالفة ممّا هي مشروحة في علم الحساب و علم الأعداد و غيرهما فمفهوم الواحد في مفاهيم الأعداد كحقيقة الوجود بالنسبة إلى أنحاء الوجودات و لعلّ هذا معنى قول سيّد الساجدين عليّ بن الحسين عليهما السّلام : يا الهى لك وحدانية العدد ، أى لك وحدانية آيتها الوحدانية الّتي هي راسمة الأعداد و علّة قوامها و عادّها و مفنيها ، انتهى . و قد نقلنا بيان هؤلاء العظام من تعليقة الحكيم المتأله البارع الاخوند الهيدجىّ على الفريدة الثالثة من المقصد الأوّل من غرر الفرائد للمتألّه السبزواري قدّس سرّهما . و أنت تعلم أنّ كلامهم مبنىّ على ذلك السرّ المشار إليه و قد بسط القول فيه غير واحد من أجلّة المتالّهين منهم محيى الدّين في الفصّ الإدريسى من كتاب فصوص الحكم ، و منهم المولى صدرا في الفصل الرابع من المرحلة الخامسة من السفر الأوّل من الأسفار الأربعة ، و منهم المولى محسن الفيض في عين اليقين . و نأتي بكلام الأوّلين تتميما للفائدة و تكميلا لها قال أوسطهم : فصل في بعض الأحكام الوحدة و الكثرة ، انّ الوحدة ليست بعدد و إن تألّف منها لأنّ العدد كم يقبل الانقسام و الوحدة لا يقبله و من جعل الوحدة من العدد أراد بالعدد ما يدخل في تحت العدّ فلا نزاع معه لأنّه راجع إلى اللفظ بل هي مبدء للعدد لأنّ العدد لا يمكن تقوّمه إلاّ بالواحدة لا بما دون ذلك العدد من الأعداد فإنّ العشرة لو تقويت بغير الوحدات لزم الترجيح من غير مرجّح فإنّ تقوّمها بخمسة و خمسة ليس أولى من تقوّمها بستة و أربعة ، و لا من تقوّمها بسبعة و ثلاثة [ 265 ] و التقوم بالجميع غير ممكن و إلاّ لزم تكرّر أجزاء المهيّة المستلزم لاستغناء الشي‏ء عمّا هو ذاتي له لأنّ كلاّ منها كان في تقوّمها فيستغنى به عمّا عداه ، و إن أخذ تقويمها باعتبار القدر المشترك بين جميعها لا باعتبار الخصوصيّات كان اعترافا بما هو المقصود إذ القدر المشترك بينها هو الوحدات . و من الشواهد أنّه يمكن تصوّر كل عدد بكنهه مع الغفلة عمّا دونه من الأعداد فلا يكون شي‏ء منها داخلا في حقيقته فالمقوّم لكلّ مرتبة من العدد ليس إلاّ الوحدة المتكرّرة فإذا انضم إلى الوحدة مثلها حصلت الاثنينيّة و هي نوع من العدد و إذا انضم إليها مثلاها حصلت الثلاثة و هكذا يحصل أنواع لا تتناهي بتزايد واحد واحد لا إلى نهاية إذا التزايد لا ينتهى إلى حدّ لا يزاد عليه فلا ينتهى الأنواع إلى نوع لا يكون فوقه نوع آخر . و أمّا كون مراتب العدد متخالفة الحقائق كما هو عند الجمهور فلاختلافها باللوازم و الأوصاف من الصمم و المنطقيّة و التشارك و التباين و العاديّة و المعدودية و التجذير و المالية و التكعّب و أشباهها ، و اختلاف اللوازم يدلّ على اختلاف الملزومات . و هذا ممّا يؤيّد ما ذهبنا إليه في باب الوجود من أنّ الاختلاف بين حقائقها إنّما نشأ من نفس وقوع كلّ حقيقة في مرتبة من المراتب فكما أنّ مجرّد كون العدد واقعا في مرتبة بعد الاثنينيّة هو نفس حقيقة الثلاثة إذ يلزمها خواصّ لا توجد في غيره من المراتب قبلها أو بعدها فكذلك مجرّد كون الوجود واقعا في مرتبة من مراتب الأكوان يلزمه معان لا توجد في غير الوجود الواقع في تلك المرتبة فالوحدة لا بشرط في مثالنا بازاء الوجود المطلق ، و الوحدة المحضة المتقدّمة على جميع المراتب العددية بازاء الوجود الواجبي الّذي هو مبدأ كلّ وجود بلا واسطة و مع واسطة أيضا ، و المحمولات الخاصّة المنتزعة من نفس كلّ مرتبة من العدد بازاء المهيات المتّحدة مع كلّ مرتبة من الوجود ، و كما أنّ الاختلاف بين الأعداد بنفس ما به الاتفاق فكذلك التفاوت بين الوجودات بنفس هويّاتها [ 266 ] المتوافقة في سنخ الموجوديّة . و على ما قرّرنا يمكن القول بالتخالف النوعي بين الأعداد نظرا إلى التخالف الواقع بين المعاني المنتزعة عن نفس ذواتها بذواتها و هي الّتي بازاء المهيات المتخالفة المنتزعة عن نفس الوجودات . و يمكن القول بعدم تخالفها النوعي نظرا إلى أنّ التفاوت بين ذواتها ليس إلاّ بمجرّد القلّة و الكثرة في الوحدات و مجرّد التفاوت بحسب قلّة الأجزاء و كثرتها في شي‏ء لا يوجب الاختلاف النوعي في أفراد ذلك الشي‏ء ، و أمّا كون اختلاف اللوازم دليلا على اختلاف الملزومات فالحق دلالته على القدر المشترك بين التخالف النوعي و التخالف بحسب القوّة و الضعف و الكمال و النقص . انتهى كلامه رفع مقامه . و أمّا ما أفاده في المقام أوّلهم في الفصّ الإدريسي ، فلمّا كان كشف دقائقة على طالبيه مبتنيا على زيادة إيضاح فالحريّ بنا أن نأتي به مع شرح كاشف معضلات كتابه فصوص الحكم داود بن محمود القيصري مشيرا إلى المتن بحرف الميم و إلى الشرح بالشين ، كما يلى : ( م ) فاختلطت الامور و ظهرت الأعداد بالواحد في المراتب المعلومة . ( ش ) أى فاختلطت الامور و اشتبهت بالتكثر الواقع فيها على المحجوب الغير المنفتح عين بصيرته و إن كانت ظاهرة راجعة إلى الواحد الحقيقي عند من رفعت الأستار عن عينه و انكشف الحق إليه بعينه ، و الاختلاط بالتجلّيات المختلفة صار سببا لوجود الكثرة كما ظهرت الأعداد بظهور الواحد في المراتب المعلومة ، و لمّا كان ظهور الواحد في المراتب المتعدّدة مثالا تامّا لظهور الحقّ في مظاهره جعل هذا الكلام توطئة و شرع في تقرير العدد و ظهور الواحد فيه ليستدلّ المحجوب به على الكثرة الواقعة في الوجود المطلق مع عدم خروجه عن كونه واحدا حقيقيّا و قال : ( م ) فأوجد الواحد العدد و فصل العدد الواحد . [ 267 ] ( ش ) أى أوجد الواحد بتكرّره العدد إذ لو لم يتكرّر الواحد لم يكن حصول العدد ، و فصل العدد مراتب الواحد مثل الاثنين و الثلاثة و الأربعة و غير ذلك إلى ما لا يتناهي لأنّ كلّ مرتبة من مراتب الاحاد و العشرات و المآت و الالوف ليس غير الواحد المتجلّي بها لأنّ الاثنين مثلا ليس إلاّ واحدا و واحدا اجتمعا بالهيئة الوحدانيّة فحصل منها الاثنان فمادّته هو الواحد المتكرّر و صورته أيضا واحدة فليس فيه شي‏ء سوى الواحد المتكرّر فهو مرتبة من مراتبه و كذلك البواقي ، فايجاد الواحد بتكراره العدد مثال لإيجاد الحق الخلق بظهوره في الصورة الكونيّة ، و تفصيل العدد مراتب الواحد مثال لإظهار الأعيان أحكام الأسماء الإلهيّة و الصفات الرّبانية و الارتباط بين الواحد و العدد مثال للارتباط بين الحق و الخلق و كون الواحد نصف الاثنين و ثلث الثلاثة و ربع الأربعة و غير ذلك مثال للنسب اللازمة الّتي هي الصفات للحق . ( م ) و ما ظهر حكم العدد إلاّ بالمعدود فالمعدود منه عدم و منه وجود ، فقد يعدم الشي‏ء من حيث الحسّ و هو موجود من حيث العقل . ( ش ) أى العدد لكونه كمّا منفصلا و عرضا غير قائم بنفسه لا بدّ أن يقع في معدود ما سواء كان ذلك المعدود موجودا في الحس أو معدوما فيه موجودا في العقل و ظهور العدد بالمعدود مثال لظهور الأعيان الثابتة في العلم بالموجودات و هي بعضها حسيّة و بعضها غيبيّة كما أنّ بعض المعدود في الحس و بعضه في العقل . ( م ) فلا بدّ من عدد و معدود و لا بدّ من واحد ينشئ ذلك فينشأ بسببه . ( ش ) أى إذا كان لا يظهر حكم العدد إلاّ بالمعدود ، و لا يتبيّن مراتب الواحد إلاّ بالعدد فلا بدّ من عدد و معدود ، و لمّا كان العدد ينشأ بتكرار الواحد فلا بدّ من واحد ينشئ ذلك العدد فينشأ ، أى يظهر الواحد في مراتبه و مقاماته المختلفة بسبب ظهور العدد فالسبب هنا السبب القابلى ، و لا بدّ من واحد ينشئ العدد فينشأ العدد بسبب ذلك الواحد فالسبب السبب الفاعلى و الأوّل أنسب . ( م ) فإن كان كلّ مرتبة من العدد حقيقة واحدة كالتسعة مثلا و العشرة إلى أدنى و أكثر إلى غير نهاية ما هي مجموع و لا ينفكّ عنها اسم جمع الاحاد [ 268 ] فإن الإثنين حقيقة واحدة و الثلاثة حقيقة واحدة بالغا ما بلغت هذه المراتب . ( ش ) و في بعض النسخ فإنّ لكلّ مرتبة من العدد حقيقة و الظاهر أنّه تصرّف ممّن لا يعرف معناه و مقصوده رضي اللّه عنه أن كان كلّ مرتبة حقيقة واحدة أى إن عبرنا في كلّ مرتبة ما به يمتاز العدد المعيّن فيها من غيرها و هو ما به الإثنان اثنان و الثلاثة ثلاثة مثلا فما هي مجموع الاحاد فقط بل ينضم إليها أمر آخر يميّزها عن غيرها و لا ينفكّ عنها اسم جمع الاحاد لأنّه كالجنس لها فلا بدّ منها فإنّ الاثنين حقيقة واحدة ممتازة من الثلاثة و هي أيضا كذلك حقيقة واحدة متميزة عن الاخرى إلى ما لا نهاية له ، فقوله : ما هي مجموع جواب الشرط و الجملة الإسميّة إذا وقعت جواب الشرط يجوز حذف الفاء منه عند الكوفيين كقول الشاعر : من يفعل الحسنات اللّه يجزيها ، و إن لم تعتبر الامور المتميّزة بعضها عن بعضها و تأخذ القدر المشترك بين الكل الّذي هو جمع الاحاد و تعتبره لا يبقى الإمتياز بين كلّ منها كما نعتبر الجنس الّذي بين النوعين كالإنسان و الفرس فيحكم عليهما بأنهما حيوان فكذلك يحكم في الإثنين و الثلاثة و الأربعة بأنها مجموع من الاحاد مع قطع النظر عمّا به يمتاز بعضه عن البعض الاخر و هو المراد بقوله : ( م ) و إن كانت واحدة فما عين واحدة منهنّ عين ما بقي . ( ش ) و هذا الشق يدلّ على ما ذهبنا إليه من أنّ الأصحّ فإن كان كلّ مرتبة من العدد حقيقة أى و إن كانت المراتب كلّها واحدة في كونها جمع الاحاد أو مجموعها فليس عين مرتبة واحدة من تلك المراتب عين ما بقي منها لأنّ كل مرتبة منها حقيقة برأسها موصوفة بخواصّ لا توجد في غيرها ، و يجوز أن يكون ما بمعنى الّذي أى و إن كانت المراتب كلّها واحدة بحسب رجوعها إلى حقيقة واحدة هي جمع الاحاد فالّذي عين واحدة من مراتب الاثنين و الثلاثة و غير ذلك عين ما بقي في كونه عبارة عن جمع الاحاد و هذا أنسب بقوله : ( م ) فالجمع يأخذها فيقول بها منها و يحكم بها عليها . [ 269 ] ( ش ) أي إذا كان لا ينفكّ عنها اسم جمع الاحاد فجمع الاحاد الّذي هو كالجنس لتلك المراتب يأخذها و يجمعها و يتناولها و يصدق عليها صدق الجنس على أنواعه فنقول بتلك المراتب من تلك الحقيقة الجامعة إياها و يحكم بها عليها أى الجامع بين المراتب يحكم عليها بما يعطيه من الأحكام كما يحكم الحقّ على الأعيان بما يعطيه من الأحوال . ( م ) و قد ظهر في هذا القول عشرون مرتبة فقد دخلها التركيب . ( ش ) أى حصل في هذا القول و هو أن كان كل مرتبة حقيقة عشرون مرتبة أولها مرتبة الواحد المنشئ للعدد ، ثمّ مرتبة الاثنين إلى التسعة فصار تسعة ثمّ مرتبة العشرة و العشرين إلى تسعين و هي تسعة اخرى فصار ثمانية عشر ، ثمّ مرتبة المائة و الألف و على الباقي يدخل التركيب و ضمير دخلها يرجع إلى المراتب العشرين . ( م ) فما تنفكّ ثبت عين ما هو منفىّ عندك لذاته . ( ش ) أى لا تزال ثبت في كلّ مرتبة من المراتب عين ما تنفيه في مرتبة اخرى كما ذكر من أنّ الواحد ليس من العدد باتفاق جمهور أهل الحساب مع أنّه عين العدد إذ هو الّذي بتكرّره توجد الأعداد فيلزمه في كلّ مرتبة من مراتب العدد لوازم و خصوصيّات متعدّدة و كذلك نقول لكلّ مرتبة أنها جمع الاحاد و نثبت أنّها ليست غير مجموع الاحاد مع أنّه منفىّ عندك بأنّها ليست مجموع الاحاد فقط . ( م ) و من عرف ما قرّرناه في الأعداد و أنّ نفيها عين ثبتها علم أنّ الحقّ المنزّه هو الخلق المشبّه و إن كان قد تميّز الخلق من الخالق فالأمر الخالق المخلوق و الأمر المخلوق الخالق . ( ش ) أي و من عرف أنّ العدد هو عبارة عن ظهور الواحد في مراتب متعدّدة و ليس من العدد بل هو مقوّمه و مظهره و العدد أيضا في الحقيقة ليس غيره ، و أنّ نفي العدديّة من الواحد عين إثباتها له لأنّ الأعداد ليست إلاّ عين مجموع الاحاد [ 270 ] مادّة و صورة علم أنّ الحق المنزه عن نقائص الإمكان بل عن كمالات الأكوان هو بعينه الخلق المشبّه ، و إن كان قد تميّز الخلق بإمكانه من الخالق فالأمر الخالق أي الشي‏ء الّذي هو الخالق هو المخلوق بعينه ، لكن في مرتبة اخرى غير المرتبة الخالقيّة ، و الأمر المخلوق هو الخالق بعينه لكن باعتبار ظهور الحق فيه . و اعلم أنّ الاثنين مثلا ليس عبارة إلاّ عن ظهور الواحد مرّتين مع الجمع بينهما ، و الظاهر فرادى و مجموعا فيه ليس إلاّ الواحد فما به الاثنان اثنان و تغاير الواحد ليس إلاّ أمر متوهّم لا حقيقة له كذلك شأن الحقّ مع الخلق فإنّه هو الّذي يظهر بصور البسائط ثمّ بصور المركّبات فيظنّ المحجوب أنّها مغايرة بحقائقها و ما يعلم أنّها امور متوهّمة و لا موجود إلاّ هو . ( م ) كلّ ذلك من عين واحدة لا بل هو العين الواحدة و هو العيون الكثيرة . ( ش ) أى كلّ ذلك الوجود الخلقي صادر من الذات الواحدة الإلهيّة ثمّ أضرب عنه لأنّه مشعر بالمغايرة فقال : بل ذلك الوجود الخلقي هو عين تلك العين الواحدة الظاهرة في مراتب متعدّدة و ذلك العين الواحدة الّتي هي الوجود المطلق هي العيون الكثيرة باعتبار المظاهر المتكثّرة ، كما قال : ( م ) سبحان من أظهرنا سوته سرّ سنا لاهوته الثاقب ثمّ بدا في خلقه ظاهرا في صورة الاكل و الشارب فانظر ماذا ترى . ( ش ) أى انظر أيها السالك طريق الحقّ ما ذا ترى من الوحدة و الكثرة جمعا و فرادى ؟ فإن كنت ترى الوحدة فقط فأنت مع الحقّ وحده لارتفاع الإثنينيّة ، و إن كنت ترى الكثرة فقط فأنت مع الخلق وحده ، و إن كنت ترى الوحدة في الكثرة محتجبة و الكثرة في الوحدة مستهلكة فقد جمعت بين الكمالين و فزت بمقام الحسنيين ، هذا آخر ما أفاد هذا الفحل العارف المتأله في المقام . فبما قدّمنا ظهر لك سرّ كلام ولىّ اللّه الأعظم زين العابدين و سيّد [ 271 ] الساجدين عليّ بن الحسين عليهما السّلام : لك يا إلهي وحدانية العدد ، و كلام هؤلاء الأكابر سيما الأخير منهم تفصيل ذلك الكلام الموجز المفاض من صقع الملكوت و قد عرّفه جدّه قدوة المتألّهين و إمام العارفين و برهان السالكين عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله : « إنّا لامراء الكلام ، و فينا تنشبّت عروقه و علينا تهدّلت غصونه » ( المختار 231 من خطب النهج ) ، و بقوله : « هم عيش العلم و موت الجهل الخ » ( المختار 237 من خطب النهج ) فراجع إلى شرحنا عليهما في المجلّدين الأوّل و الثانى من تكملة منهاج البراعة . و حيث انجرّ البحث إلى التوحيد و ساقنا لقاء اللّه إليه فلنشر إلى نبذة ممّا أودع في سورة التوحيد أعنى سورة الإخلاص كي يستقرّ التوحيد على ما شاهده أهله في قلوب مستعدّيه ، و يتّضح معنى اللقاء المبحوث عنه أتمّ إيضاح لمبتغيه على أنّ هذه السورة نسبته تبارك و تعالى و وصفه ، و الحبيب يشتاق ذكر حبيبه و يلتذّ بوصفه كما يحبّ الخلوة معه ، و الانس به ، و آثاره من رسوله و كتابه و أوليائه . ففي آخر الباب الحادى و العشرين من إرشاد القلوب للديلمي قدس سرّه في الذكر و المحافظة عليه : قال الصادق عليه السّلام إنّ النّبي صلى اللّه عليه و آله صلّى على سعد بن معاذ و قال : لقد وافى من الملائكة للصلاة عليه تسعون ألف ملك و فيهم جبرئيل يصلّون عليه فقلت : يا جبرئيل بما استحقّ صلاتكم ؟ قال : يقرأ قل هو اللّه أحد قائما و قاعدا و راكبا و ماشيا و ذاهبا و جائيا . و قد انعقد الشّيخ أبو جعفر الصّدوق رضوان اللّه عليه بابا في كتاب التوحيد في تفسير سورة قل هو اللّه أحد و أتى من أئمة الدين بأحاديث قيّمة فليراجع الطالب إليه و إلى شرح المقتبس من مشكاة الولاية القاضي السعيد القمّي أعلى اللّه درجاته على ذلك الكتاب ، و لكنّا إنّما نكتفى بنقل بعضها ، و بما أفاده العارف المتألّه الميرزا محمّد رضا القمشئى قدّس سرّه في تعليقته على شرح الفصوص للقيصرى ، و الحكيم البارع المولى صدرا قدس سرّه في شرح اصول الكافي في تفسير سورة الإخلاص لأنّ نقل جميع تلك الأحاديث ينجرّ إلى الإطالة لكونها [ 272 ] صعبا مستصعبا جدّا لا بدّ من تفسيرها و كشف معضلاتها . فأمّا ما قال القمشئى رضوان اللّه عليه في تعليقته على الفصل الأوّل من مقدّمات القيصري على شرح الفصوص في الإشارة إلى نبذ ممّا في سورة التوحيد فهو مايلى : اعلم أنّ الوجود لمّا كان حيث ذاته حيث التحقّق و الإنيّة فهو متحقّق بنفس ذاته و لما كان واجبا بذاته و الواجب بالذات مهيّته إنيّته فليس فيه سوى حيث الوجود حيث ، و لما لم يكن فيه سوى حيث الوجود حيث فلم يكن معه شي‏ء فكان اللّه و لم يكن معه شي‏ء و الان كما كان و هذا هو الّذي يوهم أنّه وجود بشرط لا و الأمر كذلك إلاّ أنّ كونه بشرط لا من لوازم ذاته و لا دخل في وجوب ذاته . فإن قلت : فما معنى سريان تلك الحقيقة في الواجب و الممكن ؟ أقول : معنى السريان الظهور فقد يكون ظاهرا بنفس ذاته لذاته و هذا سريانه في الواجب و قد يكون ظاهرا في ملابس الأسماء و الأعيان الثابتة في العلم ، و قد يكون ظاهرا في ملابس أعيان الموجودات في الأعيان و الأذهان ، و هذا السريان في الممكن و الكلّ شئونه الذاتيّة ، فالوجود المأخوذ لا بشرط عين الوجود بشرط بحسب الهويّة و الإختلاف في الاعتبار و إليه اشير في قوله تعالى : « قل هو اللّه أحد » فإنّ لفظة هو ضمير يشير إلى أنّه لا اسم له ، و لفظة اللّه اسم للذات بحسب الظهور الذّاتي ، و لفظة أحد قرينة دالّة على أنّ اسم اللّه هناك للذات فإنّه مشترك بينها و بين الذات الجامعة لجميع الصفات و في الظهور الذاتي لا نعت له و لا صفة بل الصفات منفيّة كما قال عليه السّلام : و كمال التوحيد نفي الصفات عنه تعالى ، أى الغيب المجهول هو الذات الظاهرة بالأحدية ، و لمّا كان لفظة أحد قد يطلق لمعنى سلبى كما في هذا الموضع فإنّه يسلب عنه جمع الأشياء بل الأسماء و الصفات أيضا فيوهم أنّه خال عن الأشياء فاقد لها بل عن النعوت و الكمالات و هو تعالى بوحدته كلّ الأشياء و جميع النعوت و الكمالات فاستدرك بقوله تعالى : « اللَّه الصمد » [ 273 ] فانّ الصمد هو الواحد الجامع ، ثمّ استدل عليه بأنّه لم يلد و لم يولد أى لم يخرج عنه شي‏ء و لم يخرج عن شي‏ء ليكون ناقصا بخروج الشي‏ء عنه أو بخروجه عن شي‏ء فأحديّته بسلب تعيّنات الأشياء عنه ، و صمديّته تثبت باندماج حقائقها فيه . انتهى كلامه . قلت : ما أفاده قدّس سرّه شريف متين جدّا و تجد في تلك المعاني الدقيقة الفائضة من عرش التحقيق إشارات أنيقة من أئمّة الدّين صلوات اللّه عليهم أجمعين و من تأمّل في الجوامع الروائيّة الإماميّة رأى بالعيان أنّ أصل العرفان تنشبّت عروقه فيهم ، و تهدّلت غصونه عليهم إلاّ أنّ الجهلة من المتصوّفة و أشباه العرفاء و لا عرفاء إنّما ردّوا النّاس عن الدّين القهقرى ، و ما سمعت من كلام هذا العارف الجليل في « هو » مأخوذ من خزنة العلم و عيب أسرار اللّه ، فقد روى أبو جعفر الصدوق رضوان اللّه عليه في باب تفسير « قل هو اللّه » من كتابه التوحيد بإسناده عن أبي البختري وهب بن وهب القرشي ، عن أبي عبد اللّه الصّادق جعفر بن محمّد ، عن أبيه محمّد بن عليّ الباقر عليهم السّلام في قول اللّه تبارك و تعالى : « قل هو اللَّه أحد » : قال : « قل » أي أظهر ما أوحينا إليك و نبّأناك به بتأليف الحروف الّتي قرأتها لك ليهتدى بها من ألقى السمع و هو شهيد ، و « هو » اسم مكنّى مشار إلى غائب فالهاء تنبيه على معنى ثابت ، و الواو إشارة إلى الغائب عن الحواس ، كما أنّ قولك : هذا إشارة إلى الشاهد عند الحواسّ ، و ذلك أنّ الكفّار نبّهوا عن آلهتهم بحرف إشارة الشاهد المدرك ، فقالوا : هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار فأشر أنت يا محمّد إلهك الّذي تدعو إليه حتّى نراه و ندركه و لا نأله فيه ، فأنزل اللّه تبارك و تعالى : « قل هو اللَّه أحد » فالهاء تثبيت للثابت ، و الواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار و لمس الحواسّ ، و أنّه تعالى عن ذلك ، بل هو مدرك الأبصار و مبدع الحواس ، حدّثني أبي ، عن أبيه ، عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال : رأيت الخضر عليه السّلام في المنام قبل بدر بليلة ، فقلت له : علّمني شيئا أنصر به على الأعداء ، فقال : قل : يا هو يا من لا هو إلاّ هو ، فلما أصبحت قصصتها على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، فقال لي : يا عليّ علّمت الإسم الأعظم ، فكان على لساني يوم بدر [ 274 ] و أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قرأ « قل هو اللّه أحد » فلمّا فرغ قال : يا هو يا من لا هو إلاّ هو اغفر لي و انصرني على القوم الكافرين ، و كان عليّ عليه السّلام يقول ذلك يوم صفين و هو يطارد ، فقال له عمّار بن ياسر : يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات ؟ قال : اسم اللّه الأعظم و عماد التوحيد للّه لا إله إلاّ هو ، ثمّ قرأ : « شهد اللّه أنّه لا إله إلاّ هو » و آخر الحشر ثمّ نزل فصلّى أربع ركعات قبل الزوال . بيان : قوله : و لا نأله فيه أى لا نتحيّر فيه من أله كفرح أى تحيّر ، و قوله : حدّثني أبي عن أبيه من تتمّة الحديث و القائل هو الإمام محمّد بن عليّ الباقر يقول حدّثني أبي زين العابدين عليّ بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن عليّ ، عن أبيه أمير المؤمنين عليّ عليهم السّلام ، و قوله : قبل بدر بليلة ، يعني قبل غزوة بدر بليلة . و أمّا ما أفاده الحكيم المتألّه مولى صدرا في تفسير السورة ، فقال قدّس سرّه في شرح الحديث الثالث من باب النسبة من كتاب التوحيد من اصول الكافي المذكور من قبل عن سيّد السّاجدين عليه السّلام في سورة التوحيد و الايات من الحديد : أمّا سورة التوحيد ، فلا يخفى لمن تدبّر و تعمّق فيها اشتمالها على غوامض علوم التوحيد و لطائف أسرار التقديس ، فقد علمت نبذا من أسرارها العميقة مع أنّ المذكور يسير من كثير ما علمناه ، نزر حقير في جنب ما ستر فيها من العلوم الأحديّة و الأسرار الصّمديّة . و اعلم أنّ كثرة الأسامي و الألقاب يدلّ على مزيد الفضيلة و الشرف ، كما لا يخفى فأحدها سورة التفريد ، و الثاني سورة التجريد ، و ثالثها سورة التوحيد ، و رابعها سورة الاخلاص ، لأنّه لم يذكر في هذه السورة الصفات السلبيّة الّتي هي صفات الجلال ، و لأنّ من اعتقدها كان مخلصا في دين اللّه ، و لأنّ غاية التنزيه و التفريد و التوحيد يستلزم غاية الدنوّ و القرب المستلزم للمحبّة و الاخلاص في الدّنيا . و خامسها سورة النجاة لأنّها تنجيك من التشبيه و الكفر في الدّنيا ، و عن [ 275 ] النار في الاخرة ، و سادسها سورة الولاية لأنّ من قرأها عارفا بأسرارها صار من أولياء اللّه ، و سابعها سورة النسبة لما روى أنّه ورد جوابا لسؤال من قال : انسب لنا ربّك ، ثامنها سورة المعرفة ، و روى جابر رضى اللّه عنه : أنّ رجلا صلّى فقرأ : « قل هو اللَّه أحد » فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : إنّ هذا عبد عرف ربّه فسمّيت سورة المعرفة لذلك . و تاسعها سورة الجمال لأنّ الجلال غير منفك عن الجمال كما أشرنا إليه ، و لما روى أنّه قال صلى اللّه عليه و آله : إنّ اللّه جميل يحبّ الجمال ، سألوه عن ذلك فقال : أحد صمد لم يلد و لم يولد ، و عاشرها سورة المقشقشة ، يقال : قشقش يقشقش المريض برأ ، فمن عرفها تبرّأ من الشرك و النفاق لأنّ النفاق مرض كما في قلوبهم مرض ، الحاديعشر المعوّذة ، روى أنّه صلى اللّه عليه و آله دخل على عثمان بن مظعون يعوذه بها و باللّتين بعدها ، ثمّ قال : تعوّذ بهنّ فما تعوّذت بخير منها ، و الثاني عشر سورة الصمد ، و الثالث عشر سورة الأساس لما روى أنّه قال : اسّست السماوات السبع و الأرضون السبع على قل هو اللّه أحد ، و ممّا يدلّ عليه أن القول بالثلاثة سبب لخراب السماوات و الأرض بدليل قوله تعالى : « تكاد السموات يتفطّرن منه و تنشقُّ الأرض و تخرّ الجبال هدّاً » فوجب أن يكون التوحيد سببا لعمارة العالم و نظامه . و الرابع عشر سورة المانعة لما روى أنّها تمنع فتاني القبر و نفخات النيران و الخامس عشر سورة المحضرة لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرأت و السادس عشر سورة المنفرة لأنّ الشيطان ينفر عند قرائتها ، السابع عشر البراءة لانها تبرى‏ء من الشرك ، و لما روى أنّه صلى اللّه عليه و آله رأى رجلا يقرأها فقال : أمّا هذا فقد برى‏ء من الشرك ، الثامن عشر سورة المذكرة لأنها يذكر العبد خالص التوحيد التاسع عشر سورة النور لأنّ اللّه نور السموات و الأرض و السورة في بيان معرفته و معرفته النور ، و نوره المعرفة ، و لما روى أنّه صلى اللّه عليه و آله قال : إنّ لكلّ شي‏ء نورا و نور القرآن قل هو اللّه أحد ، و نظيره أنّ نور الإنسان في أصغر أعضائه و هو [ 276 ] الحدقة فصارت السورة للقرآن كالحدقة للإنسان . العشرون سورة الأمان قال صلى اللّه عليه و آله : إذا قال العبد لا إله إلاّ اللّه دخل في حصنى و من دخل في حصنى أمن من عذابي ، فهذه عشرون اسما من أسامى هذه السورة و لها فضائل كثيرة و معانى و نكات غير محصورة ، و ما روى في فضل قرائتها و ثواب الصلاة المشتملة على عدد منها فلا يعدّ و لا يحصى . فمن فضائلها أنّها ثلث القرآن و ذكروا لذلك وجوها أجودها أنّ المقصود الأشرف من جميع الشرايع و العبادات معرفة ذات اللّه ، و معرفة صفات اللّه و معرفة أفعاله و هذه السورة مشتملة على معرفة الذات فكانت معادلة لثلث القرآن . و من فضائلها أيضا أنّ الدلائل و البراهين قائمة على أنّ أعظم درجات العبد و أجلّ سعاداته أن يكون قلبه مستنيرا بنور جلال اللّه و كبريائه و هو إنما يحصل بعرفان هذه السورة فكانت هذه السورة أفضل السور و أعظمها . فإن قيل : صفات اللّه تعالى مذكور في سائر السور ؟ ، قلنا : لكن لهذه السورة خصوصيّة و هي أنّها مع و جازتها مشتملة على عظائم أسرار التوحيد فتبقى محفوظة في القلب معقولة للعقل فيكون ذكر جلال اللّه حاضرا بهذا السبب فلا جرم امتازت عن سائر السور . و أما المعاني و النكات فمنها ما سبق ، و منها وجوه اخرى كثيرة لو ذهبنا إلى تفسير هذه السورة مستقصى لخرجنا عمّا نحن بصدده من شرح الأحاديث و لكن نذكر أنموذجا ينبّه على الكثير لمن هو أهله فنقول : قوله : هو اللّه أحد ثلاثة ألفاظ كل واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات السالكين إليه تعالى : المقام الأوّل للمقرّبين و هم أعلى السائرين إلى اللّه تعالى فهؤلاء رأوا أنّ موجودية المهيّات بالوجود و أنّ أصل حقيقة الوجود بذاته موجود و بنفسه واجب الوجود متعيّن الذات لا بتعيّن زائد فعلموا أنّ كل ذى مهيّة معلول محتاج و أنّه تعالى نفس حقيقة الوجود و الوجوب و التعيّن فلهذا [ 277 ] سمعوا كلمة هو علموا أنّه الحقّ تعالى لأنّ غيره غير موجود بذاته و ما هو غير موجود بذاته فلا إشارة إليه بالذات . و المقام الثانى مقام أصحاب اليمين و هؤلاء شاهدوا الحقّ موجودا و الخلق أيضا موجودا فحصلت كثرة في الموجودات فلا جرم لم يكن هو كافيا في الإشارة إلى الحقّ بل لا بدّ هناك من مميّز يميّز الحقّ عن الخلق فهؤلاء احتاجوا إلى أن يقرن لفظة اللّه بلفظة هو فقيل لأجله هو اللّه لأنّ اللّه هو الموجود الّذي يفتقر إليه ما عداه و هو مستغن عن كلّ ما عداه فيكون أحدىّ الذات لا محالة إذ لو كان مركبّا كان ممكنا محتاجا إلى غيره فلفظة الجلالة دال على الأحديّة من غير اقتران إلى لفظ أحد به . المقام الثالث مقام أصحاب الشمال و هو أدون المقامات و أخسّها و هم الّذين يجوزون كثرة في واجب الوجود أيضا كما في أصل الوجود فقورن لفظ أحد بكلمة اللّه ردّا عليهم و ابطالا لمقالهم فقيل : قل هو اللّه أحد . و ههنا بحث آخر أدق و أشرف و هو أنّا نقول كلّ ماله مهيّة غير انيّته فلا يكون هو هو لذاته و كلّما يكون مهيّته عين هويته و حقيقته نفس تعيّنه فلا اسم و لا حدّ له و لا يمكن شرحه إلاّ بلوازمه الّتي يكون بعضها إضافيّة و بعضها سلبيّة و الأكمل في التعريف ما يجمع ذينك النوعين جميعا و هو كون تلك الهويّة إلها فإنّ الالهيّة يقتضى أن ينسب إليه غيره و لا ينسب هو إلى غيره ، و المعنى الأوّل إضافي ، و الثاني سلبى فلا جرم ذكر اللّه عقيب قوله هو . ثمّ اعلم أنّ الّذي لا سبب له و إن لم يكن تعريفه بالحدّ إلاّ أنّ البسيط الّذي لا سبب له و هو مبدء الأشياء كلّها على سلسلة الترتيب النازل من عنده طولا و عرضا فمن البيّن أنّ ما هو أقرب المجعولات إليه بل اللاّزم الأقرب المنبعث عن حاق الملزوم إذا وقع التعريف كان أشدّ تعريفا من غيره ، و أقرب اللوازم له تعالى كونه واجب الوجود غنيّا عمّا سواه و كونه مبدءا و مفتقرا إليه الجميع و مجموع هذا الأمرين هو معنى الالهيّة فلأجل ذلك وقع قوله اللّه عقيب هو [ 278 ] شرحا و تعريفا له . و لمّا ثبت مطلوب الهليّة البسيطة بقوله هو الدال على أنّه الهو المطلق الّذي لا يتوقف هويته على غيره ، و لأجل ذلك هو البرهان على وجود ذاته و ثبت مطلوب الهليّة البسيطة بقوله فحصلت بمجموع الكلمتين معرفة الإنيّة المهية اريد أن يذكر عقيبهما ما هو كالصفات الجلاليّة و الجماليّة فقوله تعالى : أحد مبالغة في الوحدة ، و الوحدة التامّة ما لا ينقسم و لا يتكثر بوجه من الوجوه أصلا لا بحسب العقل كالإنقسام بالجنس و الفصل ، و لا بحسب العين كالإنقسام من المادّة و الصورة و لا في الحسّ و لا في الوهم كالإنقسام بالأعضاء و الأجزاء و كان الأكمل في الوحدة ما لا كثرة فيه تعالى أصلا فكان اللّه تعالى غاية في الوحدة ، فقوله تعالى أحد دلّ على أنّه واحد من جميع الوجوه و إنما قلنا أنه واحد كذلك لأنّه لو لم يكن كذلك لم يكن إلها لأنّ كل ما هو مركّب فهو مفتقر إلى أجزائه و أجزاؤه غيره فيكون مفتقرا إلى غيره فلم يكن واجب الوجود و لا مبدء الكلّ ثمّ إنّ هذه الصفة و هي الأحدية التامّة الخالصة عن شوب الكثرة كما توجب التنزّه عن الجنس و الفصل و المادة و الصورة ، و عن الجسميّة و المقدارية و الأبعاض و الأعضاء و الألوان و سائر الكيفيّات الحسيّة الانفعاليّة و كلّما يوجب قوّة أو استعدادا أو إمكانا لك يقتضى كل صفة كماليّة من العلم التام و القدرة الكاملة و الحياة السرمدية و الإرادة التامة و الخير المحض و الجود المطلق فإنّ من أمعن النظر و تأمل تأملا كافيا يظهر له أن الأحديّة التامّة منبع الصفات الكماليّة كلّها ، و لو لا مخافة الإطناب لبيّنت استلزامها لواحدة واحدة منها لكنّ اللبيب يدرك صحّة ما ادّعيناه . و قوله تعالى « اللَّه الصمد » قد مرّ أنّ الصمديّة لها تفسيران أحدهما ما لا جوف له ، و الثانى السيّد فمعناه على الأوّل سلبي و هو إشارة إلى نفي المهية فإنّ كل ماله مهيّة كان له جوف و باطن و كان من جهة اعتبار مهيّة قابلا للعدم و كلّ ما لا جهة و لا اعتبار له إلاّ الوجود المحض فهو غير قابل للعدم فواجب الوجود من [ 279 ] كلّ جهة هو الصمد الحقّ ، و على التفسير الثاني يكون معنى إضافيا و هو كونه سيّد الكلّ أى مبدأ الجميع فيكون من الصفات الإضافيّة . و ههنا وجه آخر و هو أنّ الصمد في اللّغة هو المصمت الّذي لا جوف له و إذا استحال هذا في حقّه تعالى فوجب حمله على الفرد المطلق أعنى الواحد المنزّه عن المثل و النظير إما ابتداءا ، أو بعد نقله إلى معنى الأحدية المستلزمة للواحديّة كما مرّ فيكون الصمد إشارة إلى نفي الشريك كما الأحد إلى نفي الإنقسام . فانظر كيف عرّف أوّلا هويّته و إنيّته ، ثمّ عرّف أنه تعالى خالق لهذا العالم ، ثمّ عرّف أنّ الامور الّتي لأجلها افتقر هذا العالم إلى الخالق كالتركيب و الإمكان و المهيّة و العموم و الإشتراك و الإحتياج لا بدّ أن يكون منفيّا عنه تعالى لئلا يلزم الدور أو التسلسل . ثمّ لمّا كان من عادة المحقّقين أن يذكروا أوّلا ما هو الأصل و القاعدة ثمّ يخرجون عليه المسائل فذكر أوّلا كونه موجودا إلها ثمّ توصل به إلى كونه صمدا ثمّ رتّب عليه أحكاما ثلاثة أحدها أنّه « لم يلد » لاستيجاب التوليد للتركيب لأنّه عبارة عن انفصال بعض ناقص من أبعاضه ثمّ يترقّي فيصير مساويا له في الذات و الحقيقة و من البيّن أنّ نقصان البعض يستلزم تركيب الكلّ ، و ثانيها قوله : « و لم يولد » لاستلزامه للحدوث و النقصان و الإفتقار إلى العلل من جهات شتّى كالإعداد و الإحداث و الإبقاء و التربيّة و التكميل ، و ثالثها قوله : « و لم يكن له كفواً أحد » و بيانه أنّا لو فرضنا مكافيا له في رتبة الوجود فذلك المكافي لو كان ممكن الوجود كان محتاجا إليه متأخّرا عنه في الوجود فكيف يكون مكافيا له ؟ و إن كان واجب الوجود و قد علمت أن تعدّده ينافي الأحديّة و أنّه يستلزم التركيب فهذا انموذج من دقائق أسرار التوحيد تحويها هذه السورة ، انتهى كلامه قدّس سرّه الشريف . خاتمة نذكر فيها أمرين لمن أراد أن يتذكّر ، و يسعى إلى لقاء ربّه و يتنعّم به [ 280 ] أحدهما نقل عدّة أذكار و أدعيّة عن خزنة علم اللّه عزّ و جلّ و عيب وحيه الّذين أنعم اللّه عليهم بلقائه و كانوا يناجون بها ربّهم الجليل لأنّها جلاء القلوب عن رين علائقها الدّنياوية ، و إرشاد للطالب إلى لقاء ربّه المتعال ، و ثانيهما نبذة ممّا هي آداب مبتغي اللقاء و الفائزين به . أمّا الأوّل فقد روى السيّد الأجلّ جمال العارفين ابن طاووس قدّس سرّه الشريف في أعمال شعبان من كتابه القيّم الكريم المسمّى بالإقبال ( ص 685 من الطبع الرحلي ) عن ابن خالويه إلى أن قال : إنّها مناجاة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و الأئمّة من ولده عليهم السّلام كانوا يدعون بها في شهر شعبان : اللهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد و اسمع دعائى إذا دعوتك إلى قوله عليه السّلام : إلهي هب لي كمال الإنقطاع إليك و أنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة و تصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك إلى أن قال عليه السّلام : إلهي إن أنا متنى الغفلة عن الاستداد للقائك فقد نبّهتني المعرفة بكرم آلائك إلى أن قال عليه السّلام : و ألحقني بنور عزّك الأبهج فأكون لك عارفا و عن سواك منحرفا و منك خائفا مراقبا يا ذا الجلال و الاكرام ، و رواه العلاّمة المجلسي في البحار أيضا ( ص 89 ج 19 من طبع الكمباني ) . و قال السيّد المذكور في أعمال شهر رجب من ذلك الكتاب ( ص 646 ) : و من الدعوات في كلّ يوم من رجب ما رويناه أيضا عن جدّي أبى جعفر الطوسي رضي اللّه عنه فقال : أخبرني جماعة عن ابن عيّاش قال : ممّا خرج على يد الشّيخ الكبير أبى جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد رضى اللّه عنه من الناحية المقدّسة ما حدّثني به خير بن عبد اللّه قال : كتبته من التوقيع الخارج إليه : بسم الرّحمن الرّحيم ادع في كلّ يوم من أيّام رجب : اللهمّ إنّي أسئلك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك المأمونون على سرّك المستبشرون [ المستسرّون خ ل ] بأمرك الواصفون لقدرتك المعلنون لعظمتك ، و أسألك [ 281 ] بما نطق فيهم من مشيّتك ، فجعلتهم معادن لكلماتك و أركانا لتوحيدك و آياتك و مقاماتك الّتي لا تعطيل لها في كلّ مكان يعرفك بها من عرفك ، لا فرق بينك و بينها إلاّ أنّهم عبادك و خلقك ، فتقها و رتقها بيدك بدؤها منك و عودها إليك . الخ . قلت : هذا التوقيع من أسرار اللّه المكنونة المخزونة ، و الحقائق المودعة فيها تدرك و لا توصف ينالها من كان له قلب و لو تصدّينا لشرحه على قدر باعنا القصيرة و بضاعتنا المزجاة لا نجرّ إلى تأليف كتاب على حدة ، و الضمير المجرور في لها و بها و بينها راجعة إلى المقامات و كذلك الضمير المنصوب في إلاّ أنّهم عبادك و ضميرهم لذوى العقول فالمقامات من ذوى العقول ، و لا بأس بإتيان الضمير ، تارة من غير ذوى العقول و تارة من ذوى العقول ، و ذلك نحو قوله تبارك و تعالى : « و علّم آدم الأسماء كلّها ثمَّ عرضهم على الملئكة » أورد الضمير ثانيا من ذوى العقول إشارة إلى أنّ الأسماء ليست ألفاظا دالّة على معانيها لأنّ معرفة الألفاظ تعدّ من العلوم الأدبيّة و هي لا توجب شرح الصدر و سعة الذات ، بل المراد بها حقائق المخلوقات و مقامات دار الوجود على ما هي عليه . قوله عليه السّلام : لا فرق بينك و بينها إلاّ أنّهم عبادك ، قال القيصري في آخر الإشارة إلى بعض المراتب الكلّية من الفصل الأوّل من مقدّماته على شرح الفصوص ( ص 11 من الطبع الناصري ) : و مرتبة الإنسان الكامل عبارة عن جمع جميع المراتب الإلهية و الكونيّة من العقول و النفوس الكلّية و الجزئية ، و مراتب الطبيعة إلى آخر تنزلات الوجود و يسمّى بالمرتبة العمائية أيضا فهي مضاهية للمرتبة الإلهيّة ، و لا فرق بينهما إلاّ بالربوبيّة و المربوبيّة لذلك صار خليفة اللّه الخ . إنّما نقلنا كلام القيصري في المقام لكى يعلم أنّ أصل ما تفوّه به العرفاء الشامخون مقتبس من مشكاة بيت آل النّبي صلى اللّه عليه و آله ، نعم انهم و اللّه ينابيع الحكمة و المعرفة و العرفان و خزنة الحقائق كلّها . و في دعاء عرفة لمولانا الحسين بن عليّ صلوات اللّه عليهما ، كما أتى به السيّد المذكور في الإقبال أيضا ( ص 348 ) : إلهى تردّدي في الاثار يوجب بعد [ 282 ] المزار فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ؟ متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك ؟ و متى بعدت حتّى تكون الاثار ، هي الّتي توصل إليك ؟ عميت عين لا تراك عليها رقيبا ، و خسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيبا . إلهي أمرت بالرجوع إلى الاثار فارجعني إليك بكسوة الأنوار و هداية الاستبصار حتّى أرجع إليك منها ، كما دخلت إليك منها مصون السرّ عن النظر إليها ، و مرفوع الهمّة عن الاعتماد عليها إنّك على كلّ شي‏ء قدير . إلهي هذا ذلّي ظاهر بين يديك ، و هذا حالي لا يخفى عليك ، منك أطلب الوصول إليك ، و بك أستدلّ عليك ، فاهدني بنورك إليك ، و أقمني بصدق العبودية بين يديك . إلهي علّمني من علمك المخزون ، و صنّي بسرّك [ بسترك خ ل ] المصون . إلهي حقّقني بحقائق أهل القرب ، و اسلك بي مسلك أهل الجذب . و روى ثقة الإسلام الكليني في باب الدّعاء في أدبار الصلوات من الكافي ( ص 399 ج 2 من المعرب ) بإسناده عن محمّد بن الفرج قال : كتب إليّ أبو جعفر ابن الرّضا يعني الإمام الجواد عليه السّلام بهذا الدّعاء و علّمنيه إلى أن قال عليه السّلام : و أسألك الرضا بالقضاء و بركة الموت بعد العيش و برد العيش بعد الموت و لذّة المنظر إلى وجهك و شوقا إلى رؤيتك و لقائك من غير ضرّاء مضرّة و لا فتنة مضلّة . الخ . و في دعاء يوم الاثنين للإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام : و أسألك خشيتك في السرّ و العلانية و العدل في الرضا و الغضب و القصد في الغنى و الفقر و أن تحبّب إلىّ لقاءك في غير ضرّاء مضرّة و لا فتنة مضلّة . الخ . رواه الكفعمي رضوان اللّه عليه في البلد الأمين ( ص 118 ) و في المصباح أيضا ( ص 115 ) . و في الدّعاء السابع و الأربعين من الصحيفة السجاديّة : و أخفني مقامك و شوّقني لقاءك . [ 283 ] و في المناجاة الخمس عشرة لمولانا عليّ بن الحسين صلوات اللّه عليه و قال العلاّمة المجلسي رحمة اللّه عليه في التاسع عشر من البحار ( ص 105 من الطبع الكمباني ) : و قد وجدتها مروية عنه عليه السّلام في بعض كتب الأصحاب رضوان اللّه عليهم . انتهى . و عدّها المحدث الخبير و العالم الجليل الشّيخ حرّ العاملي صاحب الوسائل في الصحيفة الثانية من الأدعيّة السجاديّة عليه السّلام و نسبها إليه من غير ترديد . ففي مناجاة الخائفين : و ليتني علمت أمن أهل السعادة جعلتني و بقربك و جوارك خصصتني فتقرّ بذلك عيني و تطمئنّ له نفسي إلى أن قال عليه السّلام : إلهي لا تغلق على موحّديك أبواب رحمتك و لا تحجب مشتاقيك عن النظر إلى جميل رؤيتك . و في مناجاة الراغبين : إلهي إن كان قلّ زادي في المسير إليك فلقد حسن ظنّي بالتوكّل عليك إلى أن قال عليه السّلام : و إن أنا متنى الغفلة عن الاستعداد للقائك فقد نبّهتني المعرفة [ المغفرة خ ل ] بكرمك و آلائك إلى أن قال عليه السّلام : أسألك بسبحات وجهك و بأنوار قدسك ، و أبتهل إليك بعواطف رحمتك و لطائف برّك أن تحقق ظنّي بما اؤمّله من جزيل إكرامك و جميل إنعامك في القربى منك و الزلفى لديك و التمتع بالنظر إليك . و في مناجاة المطيعين للّه : اللهمّ احملنا في سفن نجاتك و متّعنا بلذيذ مناجاتك و أوردنا حياض حبّك ، و أذقنا حلاوة ودّك و قربك . و في مناجاة المريدين : و لقاؤك قرّة عيني ، و وصلك منى نفسي ، و إليك شوقي و في محبّتك ولهي و إلى هواك صبابتي و رضاك بغيتي ، و رؤيتك حاجتي و جوارك طلبي ، و قربك غاية سؤلي ، و في مناجاتك انسي و راحتي [ روحي خ ل ] . و في مناجاة المحبّين : إلهي من ذا الّذي ذاق حلاوة محبّتك ، فرام منك بدلا ؟ و من ذا الّذي أنس بقربك فابتغى عنك حولا ؟ إلهي فاجعلنا ممّن اصطفيته لقربك و ولايتك ، و أخلصته لودّك و محبّتك ، و شوّقته إلى لقاءك ، و رضّيته [ 284 ] بقضاءك ، و منحته بالنظر إلى وجهك إلى أن قال : و اجتبيته لمشاهدتك . و في مناجاة المتوسّلين : و اجعلني من صفوتك الّذين أحللتهم بحبوحة جنّتك و بوّأتهم دار كرامتك ، و أقررت أعينهم بالنظر إليك يوم لقائك ، و أورثتهم منازل الصدق في جوارك . و في مناجاة المفتقرين : ولوعتى لا يطفيها إلاّ لقاؤك ، و شوقى إليك لا يبلّه إلاّ النظر إلى وجهك . و في مناجاة العارفين : فهم إلى أو كار الأفكار يأوون ، و في رياض القرب و المكاشفة يرتعون إلى أن قال : و قرّت بالنظر إلى محبوبهم أعينهم ، إلى أن قال : ما أطيب طعم حبّك ، و ما أعذب شرب قربك . و في مناجاة الذاكرين : فلا تطمئن القلوب إلاّ بذكراك ، و لا تسكن النفوس إلاّ عند رؤياك إلى أن قال : و أستغفرك من كلّ لذّة بغير ذكرك ، و من كلّ راحة بغير انسك ، و من كلّ سرور بغير قربك . و في مناجاة الزاهدين : و اقرر أعيننا يوم لقائك برؤيتك . فعليك بتلك المناجاة الخمس عشرة سيما مناجاة العارفين و مناجاة المحبّين منها فانّها جلاء للقلوب . و في آخر الدّعاء السابع و الأربعين من الصحيفة و كان من دعائه عليه السّلام في يوم عرفة : و أتحفنى بتحفة من تحفاتك ، و اجعل تجارتي رابحة ، و كرّتي غير خاسرة ، و أخفنى مقامك ، و شوّقنى لقاءك الخ . و في باب في أنه عزّ و جلّ لا يعرف إلاّ به من توحيد الصّدوق رضوان اللّه عليه باسناده عن زياد بن المنذر ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر ، عن أبيه ، عن جدّه عليهم السّلام أنّه قال : إنّ رجلا قام إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و قال : بماذا عرفت ربّك ؟ قال : بفسخ العزم ، و نقض الهمم لما هممت فحيل بيني و بين همّى و عزمت فخالف القضاء عزمي علمت أنّ المدبّر غيرى ، قال : فبماذا شكرت نعماه ؟ قال : نظرت إلى بلاء قد صرفه عنّى و أبلى به غيري فعلمت أنّه قد أنعم عليّ فشكرته ، قال : [ 285 ] فبماذا أحببت لقاه ؟ قال : لما رأيته قد اختارلى من دين ملائكته و رسله و أنبيائه علمت أنّ الّذي أكرمنى بهذا ليس ينساني فأحببت لقاه . روى الكليني في باب الاهتمام بامور المسلمين و النصيحة لهم و نفعهم باسناده عن سفيان بن عيينة قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول : عليك بالنصح للّه في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه . و اعلم أنّ ما تقدّم من التوقيع الشريف الصادر من الناحية المقدّسة و فيه قوله عليه السّلام : لا فرق بينك و بينها إلاّ أنهم عبادك و خلقك ، و ما مرّ في ذيله من كلام القيصري : لا فرق بينهما إلاّ بالربوبيّة و المربوبيّة كأنّما يفيدان وجها خامسا في وحدة الوجود أعلى و أشمخ و أدقّ و أشرف من الأربعة المتقدّمة المبيّنة ، و لعلّ كلام العارف الربّانى الخواجه صائن الدين على تركه اصفهاني يشير إلى هذا الوجه المنيع حيث قال : فهو العابد باعتبار تعيّنه و تقيّده بصورة العبد الّذي هو شأن من شئونه الذاتيّة و هو المعبود باعتبار إطلاقه ، اعلم أنّ الشهود الأتم الأكمل قضى أنّ كلّ ما يسمّى مرآة و مجلي و مظهرا و عينا و نحو ذلك ليس سوى تعينات صور أحوال الحقّ على ما بينها من التفاوت في الحكم و الحقّ من حيث هو باطن هويّته متجلي في عين كل فرد فرد من أحواله المتميّزه الّتي تغيب و ظهرت له انتهى كلامه . و اللّه تعالى أعلم بمراد أوليائه ، اللّهم ارزقنا فهم ما أودعت في كلماتك التامّة ، قال عزّ من قائل : « يحذّركم اللَّه نفسه و اللَّه رؤف بالعباد » . اى برتر از خيال و قياس و گمان و وهم وز آنچه گفته‏اند و شنيديم و خوانده‏ايم مجلس تمام گشت و بآخر رسيد عمر ما همچنان در أوّل وصف تو مانده‏ايم و أما الأمر الثاني فنقول : لا يعرج الإنسان إلى ذي المعارج إلاّ بجناحى العلم و العمل قال عزّ من قائل : و أن ليس للإنسان إلاّ ما سعى و أنَّ سعيه سوف يرى » ( النجم : 40 ) و قال تعالى : « يوم يتذكّر الإنسان ما سعى » ( النازعات : 35 ) ، « و من أراد الاخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكوراً » ( الاسراء : 20 ) [ 286 ] و قال تعالى : « فمن يرجوا لقاء ربّه فليعمل عملاً صالحاً و لا يشرك بعبادة ربّه أحداً » ( آخر الكهف ) . ثمّ تأمّل تأمّلا كاملا في قوله تعالى : « ليس للإنسان إلاّ ما سعى » ، فإن ما هو خارج عن ذاتك ليس لك حقيقة بل له ارتباط مّا إليك فاسع إلى ما هو لك بل هو أنت و أنت هو على الحقيقة لما ثبت بالبراهين العقلية المعاضدة بالأدلة النقلية من اتّحاد العاقل بمعقوله ، و نعم ما أفاده الشّيخ أبو علي الرئيس رضوان اللّه عليه في النمط الثامن من كتاب الإشارات : كمال الجوهر العاقل أن يتمثل فيه جليّة الحقّ الأوّل قدر ما يمكنه أن ينال منه ببهائه الّذي يخصّه ثمّ يتمثل فيه الوجود كلّه على ما هو عليه مجردا عن الشوب مبتدء فيه بعد الحقّ الأوّل بالجواهر العقليّة العالية ثمّ الرّوحانيّة السماوية ثمّ ما بعد ذلك تمثّلا لا يمايز الذات . فاعلم أنّ الخبر ليس كالمعاينة ، و العلم بالشي‏ء غير النيل لوصوله و وجدانه و حصوله ، و لا يبلغ مرتبة علم اليقين مرتبة عين اليقين فضلا عن مرتبة حقّ اليقين بل الأوّل دون الثانى بمراحل و الثاني دون الثالث بمنازل ، قال الشّيخ الرئيس قدّس سرّه في أواخر النمط التاسع من كتاب الإشارات : من أحبّ أن يتعرّفها يعني أن يتعرّف الدرجات الّتي يجدها السالك فليتدرّج إلى أن يصير من أهل المشاهدة دون المشافهة و من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر . و قال الخواجه نصير الدين الطوسي رضوان اللّه عليه في الشرح بعد كلام في الدرجات : و اعلم أنّ العبارة عن هذه الدرجات غير ممكنة لأنّ العبارات موضوعة للمعاني الّتي يتصوّرها أهل اللغات ثمّ يحفظونها ثمّ يتذكرونها ثمّ يتفاهمونها تعليما و تعلّما ، أما الّتي لا يصل إليها إلاّ غائب عن ذاته فضلا عن قوى بدنه فليس يمكن أن يوضع لها ألفاظ فضلا عن أن يعبّر عنها بعبارة ، و كما أنّ المعقولات لا تدرك بالأوهام و الموهومات لا تدرك بالخيالات و المتخيلات لا تدرك بالحواس كذلك ما من شأنه أن يعاين بعين اليقين فلا يمكن أن تدرك بعلم اليقين فالواجب على من يريد ذلك أن يجتهد في الوصول إليه بالعيان دون أن يطلبه بالبرهان . [ 287 ] قلت : قد مضى في ذلك كلامنا آنفا و تقدّم قول الإمام الصّادق عليه السّلام فيه . و لا يتيسّر الوصول إلى لقائه تعالى إلاّ بالعمل الصالح و الإخلاص في عبادته كما فى آية الكهف الكريمة و إنما يتأتّى لمن تخلّص عن العلائق النفسانيّة و الشواغل الدنياوية و إلاّ لم يحصل معها ذوق اللذائذ العقليّة حتّى يحصل الشوق إليها فمن لم يعشق العبادة فإنّما لتمكن تلك العوائق فيه و نعم ما قال الشّيخ في النمط الثامن من الإشارات : الان إذا كنت في البدن و في شواغله و علائقة فلم تشتق إلى كما لك المناسب أو لم تتألّم بحصول ضدّه فاعلم أنّ ذلك منك لا منه . و ما قال المعلم الثاني أبو نصر الفارابي رضوان اللّه عليه في الفصوص : إنّ لك منك غطاء فضلا عن لباسك من البدن فاجهد أن ترفع الحجاب فحينئذ تلحق فلا تسأل عمّا تباشره ، فإن ألمت فويل لك ، و إن سلمت فطوبي لك و نفسك و أنت في بدنك كأنك لست في بدنك و كأنك في صقع الملكوت فترى ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر فاتّخذ لك عند الحقّ عهدا إلى أن تأتيه فردا . قلت : قوله : فلا تسأل عمّا تباشره ، كلام عميق بعيد الغور يفسّره قول الشّيخ الرئيس في آخر النمط التاسع في مقامات العارفين : و العارف ربما ذهل فيما يصار به إليه فغفل عن كل شي‏ء فهو في حكم من لا يكلّف ، و كيف و التكليف لمن يعقل التكليف حال ما يعقله و لمن اجترح بخطيئته إن لم يعقل التكليف . و قال الخواجه نصير الدين الطوسي في الشرح : و المراد أنّ العارف ربما ذهل في حال اتّصاله بعالم القدس عن هذا العالم فغفل عن كلّ ما في هذا العالم و صدر عنه إخلال بالتكاليف الشرعيّة فهو لا يصير بذلك متأثّما لأنه فى حكم من لا يكلف لأنّ التكليف لا يتعلّق إلاّ بمن يعقل التكليف في وقت تعقّله ذلك ، أو بمن يتأثّم بترك التكليف إن لم يكن يعقل التكليف كالنائمين و الغافلين و الصبيان الّذين هم فى حكم المكلفين . و إلى هذا المعنى أشار الخواجه عبد اللّه الأنصار بقوله : صاحب غلبه عشق [ 288 ] از خود آگاه نيست آنچه مست مى‏كند او را گناه نيست ، و الخواجه شمس الدين الحافظ بقوله : رشته تسبيحم ار بگسست معذورم بدار دستم اندر ساعد ساقى سيمين ساق بود و بيانه أوضح من ذلك يطلب من شرح اللاّهيجى على گلشن راز للشبستري ( ص 198 من الطبع الأوّل ) ، و من شرح الأمير إسماعيل الشنب غازاني التبريزى على فصوص الفارابي ( ص 71 ) رحمة اللّه عليهم . و قوله : و أنت في بدنك كانّك الخ ، و منه أخذ الشّيخ الرئيس أبو علي بن سينا كلامه في أوّل النمط التاسع في مقامات العارفين : فكأنّهم و هم في جلابيب من أبدانهم قد نضوها و تجرّدوا عنها إلى عالم القدس الخ ، و كأنّ هذا الكلام مأخوذ من مشكاة الولاية العلوية حيث قال إمام الموحدين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في صفة الزّهاد : كانوا قوما من أهل الدّنيا و ليسوا من أهلها فكانوا فيها كمن ليس منها الخ ( نهج البلاغة آخر المختار 228 من باب الخطب ) و حيث قال عليه السّلام لكميل بن زياد : صحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحلّ الأعلى الخ ( المختار 147 من باب الحكم و المواعظ من النهج ) ، و إلى هذا المعنى أشار السعدى بقوله : هرگز وجود حاضر و غائب شنيده‏اى من در ميان جمع و دلم جاى ديگر است و قوله : فترى ما لا عين رأت ، مأخوذ من حديث عن النّبي صلى اللّه عليه و آله أنّه قال : قال اللّه تعالى : أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر . و قوله : فاتخذ لك عند الحقّ فردا ، كأنّما إشارة إلى قوله تبارك و تعالى : لا يملكون الشافعة إلاّ من اتّخذ عند الرّحمن عهدا ( مريم : 88 ) ، و قوله : إلى أن تأتيه فردا إشارة إلى قوله تعالى : و كلّهم آتيه يوم القيمة فردا ( مريم : 96 ) . ثمّ اعلم أنّ معرفة النفس هي مرقاة إلى معرفة الربّ ، و من عرف نفسه فقد عرف ربّه كما تقدّمت الإشارة إليه إجمالا ، و في الخبر المروي تارة عن أمير المؤمنين [ 289 ] عليّ عليه السّلام كما في الصافي للفيض قدس سرّه ، و اخرى عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السّلام كما في المجلي لابن جمهور الأحسائى رضوان اللّه عليه : الصورة الإنسانية هي أكبر حجج اللّه على خلقه ، و هي الكتاب الّذي كتبه بيده ، و هي الهيكل الّذي بناه بحكمته ، و هي مجموع صور العالمين ، و هي المختصر من اللوح المحفوظ ، و هي الشاهدة على كلّ غائب ، و هي الحجّة على كلّ جاحد ، و هي الطريق المستقيم إلى كلّ خير ، و هي الجسر ( الصراط خ ل ) الممدود بين الجنّة و النّار . و هذا الخبر الشريف باب بل أبواب إلى معارف حقّة و أسرار مكنونة و لعمري جدير أن يقال فيه كلّ الصيد في جوف الفراء ، شرحه يخرجنا إلى الإسهاب ، و يجرّنا إلى تأليف رسالة عليحدة أو كتاب ، و حيث إنّ الصورة الإنسانية هي مجموع صور العالمين قالوا في حدّ الفلسفة : هي معرفة الإنسان نفسه ، كما في رسالة الكندي في حدود الأشياء و رسومها ( ص 173 من طبع مصر ) و قد أتى الكندي فيها في حدّ الفلسفة بستة حدود من القدماء و هذا أحدها ، و قال بعد نقله الحدّ المذكور : و هذا قول شريف النهاية بعيد الغور مثلا أقول : إنّ الأشياء إذا كانت أجساما و لا أجسام ، و ما لا أجسام إما جواهر و إما أعراض ، و كان الإنسان هو الجسم و النفس و الأعراض ، و كانت النفس جوهرا لا جسما فإنّه إذا عرف ذاته عرف الجسم بأعراضه و العرض الأوّل و الجوهر الّذي هو لا جسم فإذن إذا علم ذلك جميعا فقد علم الكلّ ، و لهذه العلّة سمّى الحكماء الإنسان العالم الأصغر . و قال العارف المتنزّه الميرزا جواد الملكي قدّس سرّه في كتابه المسمّى بلقاء اللّه : انّ الإنسان له عوالم ثلاثة : عالم الحسّ و الشهادة ، و عالم الخيال و المثال ، و عالم العقل و الحقيقة ، فمن جهة أنّ إنيّته الخاصّة إنّما بدأت من عالم الطبيعة كما في الاية الكريمة المباركة و بدأ خلق الإنسان من طين صار عالمه هذا له بالفعل و عرف نفسه و حقيقته بعالمه هذا ، بل لو سمع من عارف أو عالم [ 290 ] عالميه الاخرين أنكره ، بل لو أخبره أحد بصفات عالمه العقلى لكفّره ، و ذلك لأنّ عالمه الطبيعى له بالفعل و عالميه الاخرين بالقوّة ، و لم ينكشف له بالكشف التام إلاّ عالم الطبيعة ، و آثار من عالم المثال ، و شي‏ء قليل من عالمه العقلى . و انسانيته انما بعالمه العقلي و إلاّ فهو مشترك مع سائر بني جنسه من الحيوان في عالميه الاخرين ، و إن كان عالماه الاخران أيضا من جهة المرتبة أشرف من عالمى سائر الحيوانات . و بهذه العوالم الثلاثة و ترتيبها وقع التلويح بل التصريح في دعاء سجدة ليلة النصف من شعبان عن النّبي صلى اللّه عليه و آله حيث قال فيها : و سجد لك سوادي و خيالي و بياضي . و بالجملة فعالمه الحسّى عبارة عن بدنه الّذي له مادّة و صورة ، و عالمه المثالى عبارة عن عالمه الّذي حقائقه صور عارية عن المواد ، و عالمه العقلي عبارة عن عالمه الّذي هو حقيقته و نفسه بلا مادّة و لا صورة . و لكلّ من هذه العوالم لوازم و آثار خاصّة لازمة لفعليّتها ، فمن انغمر في عالم الطبيعة و تحقّقت بآثارها و تحرّكت بحكمها و ضعفت فيه آثار عالمه العقلي فقد أخلد إلى الأرض و صار موجودا بما هو حيوان بل أضلّ من الحيوان كما هو الصريح في قوله تعالى : إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاً ، و من ترقّى إلى العالم العقلي و غلب آثاره على آثار عالميه الطبيعى و الخيالي و كان الحاكم في مملكة وجوده العقل يصير موجودا روحانيا حتّى يتكامل في العقلانيّة و انكشف له حقيقته و نفسه و روحه فإذا ترتفع عنه الحجب الظلمانية بل النورانيّة أو غالبها بينه و بين معرفة اللّه جلّ جلاله و يتحقّق في حقّه قوله صلى اللّه عليه و آله : من عرف نفسه فقد عرف ربّه . و إذا تمهّد لك هذه الإجماليات فراجع إلى تفصيل لوازم كل عالم من العوالم و اشتغل بتدبير السفر و توكّل على الرب الرّحيم و استعن منه و توسّل بأوليائه في كلّ جزئي و كلي من شئونك : [ 291 ] و اعلم أنّ هذا العالم الحسى هو عالم الموت و الفناء و الفقد و الظلمة و الجهل و هو ذات مادة و صورة سائلتين زائلتين دائم التغير و الإنقسام و لا شعور له و لا إشعار إلاّ بتبعية العالمين الاخرين و إنّما ظهوره للحسّ بتوسط الأعراض من حيث وحدته الإتصاليّة أمّا من حيث كثرته المقدارية المتجزّية عند فرض القسمة فكل واحد من الأجزاء معدوم عن الاخر و مفقود عنه فالكلّ غائب عن الكلّ و معدوم عنه و ذلك من جهة أنّ المادّة مصحوبة بالعدم بل هو جوهر مظلم و أوّل ما ظهر من الظلام . و لأنّها في ذاتها بالقوّة و بما لها في أصلها من عالم النور تقبل الصور النورية و تذهب ظلماتها بنور صورها فهذه النشأة اختلط نورها بظلامها و ضعف وجودها و ظهورها و لضعفها احتاجت إلى مهد المكان و ظئر الزمان و أهلها المخصوصون بها أشقياء الجن و الإنس و الحيوان و النبات و الجماد ، و في الحديث القدسي : ما نظرت إلى الأجسام منذ خلقتها ، و هم الّذين علومهم مختصّة بهذا العالم و يعلمون ظاهرا من الحيوة الدّنيا و هم عن الاخرة غافلون ، و لم يتجاوز علمهم عن المحسوسات و لم يعرفوا من العوالم العالية إلاّ الأسماء ، و كلما سمعوا حكاية منها قدروا له لوازم عالمهم و أنكروا ما يقال لهم من لوازم غير عالمهم . و بالجملة مرعيهم و مأنسهم و وطنهم هذا العالم المحسوس و ملاذهم و مقاصدهم كلّها من مألوفات هذا العالم و هم الّذين قلنا إنّهم من الّذين أخلدوا إلى الأرض و هم يعتقدون أنّ أنفسهم هو هذا البدن و أرواحهم هي الروح الحيواني ، و أنّ الجماد كلّها موجودات متأصّلة متحقّقة و جواهر قائمة بذواتها مخلوقة في عالمها و حيّزها ، و أنّ موجودات العوالم الاخر على القول بها موجودات اعتبارية خياليّة لا حقيقة لها و أنّ اللّذة إنّما هي في المأكل و المشرب و المنكح و جاه هذا العالم ، و ذكرهم و فكرهم و خيالهم و آمالهم و علومهم كلّها متعلّقة بالمحسوسات و انسهم بها يحبّونها و يستأنسون بها ، و يشتاقون لما لم يصلوا إليه من زخارفها و حلوها و خضرتها بل يعشقونها و شغفهم حبّها كالعاشق المستهتر . [ 292 ] فمن كان منهم مع ذلك مؤمنا باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الاخر و لكن بايمان مستقر غير زائل عند الموت لضعفه و قلة نوره و شدّة ظلمة المعاصى و خلط مع ذلك عملا صالحا و آخر سيئا اولئك ممّن يرجى له المغفرة و لو بعد حين . و أما الطائفة الاولى فهم الأشقياء الكافرون ليس لهم في الاخرة إلاّ النار لأنهم من أهل السجين و يوم القيامة إذا ميّزت الحقائق و التحقت الفروع بالاصول التحق ما في هذا العالم من النور إلى عوالمه و بقى ظلمتها و نارها و تبدّلت صور كل واحد من الأفعال و الأخلاق بما يناسب عالم القيامة من الحيات و العقارب و عذب بها فاعلها و مختلقها ، و من كان يريد الدّنيا و زينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون اولئك ليس لهم في الاخرة إلاّ النار . و لو فرض لهم عمل خير يوفّ إليهم في حياتهم الدنيا أو ينقص بقدره من عذابهم في الاخرة و بالجملة أنّ الإنسان لما خلق ابتداء من هذه الأرض فإن بقي فيها بعد ما خلق فيه الروح و العقل و استأنس بها و ألف لذاتها كان ممّن أخلد إلى الأرض فيوم القيامة ملتحق بالسجّين . و إن خلص منها بعد ذلك بمعنى أن تحقّق بآثار العقل و الروح و صار جسدا عقلانيا ، و هيكلا نورانيا فيوم القيامة يرتقى إلى أعلى عليّين ، و بعبارة و ضحى خلق اللّه الإنسان في أوّل ما خلق من سلالة من طين ، و بقي مدة في صورة السلالة و النطفة و العلقة و المضغة و العظم و اللحم ، ثمّ أعطاه الحياة و بقي حيّا إلى أن وهبه قوّة الحركة و البطش ، و بقي على ذلك حتّى وهبه قوّة التميّز بين النافع و الضار فأراد النافع و كره الضار فإن اتبع إرادته لإرادة اللّه جلّ جلاله في جميع حركاته و سكناته و لم يبق له إرادة مخالفة لإرادته تعالى فهذا مقام الرضا و هذا الشخص دائما يكون في الجنّة و لهم فيها ما يشاءون و لذلك كان اسم خازن الجنّة الرضوان . و في حديث المعراج انّ اللّه قال : فمن عمل برضاى ألزمته ( الزمه خ ل ) ثلاث خصال : أعرفه شكرا لا يخالطه جهل ، و ذكرا لا يخالطه النسيان ، و محبة لا يؤثر على محبّتى محبّة المخلوقين . [ 293 ] ثمّ إن عرف أنّ قدرته منتفية في قدرة اللّه و لم ير قدرة لغير اللّه لا لنفسه و لا لغيره فهو مقام التوكّل و من يتوكّل على اللّه فهو حسبه . ثمّ إن وفق مع ذلك أن ينفي علمه أيضا في علم اللّه لئلا يكون بنفسه شيئا فهذا مقام الوحدة ( التوحيد خ ل ) اولئك الّذين أنعم اللّه عليهم . فإن اتبع إرادة نفسه و عمل في حركاته و سكناته بهواه ، و الحقّ لا يتبع بهوى غيره ، فيخالف هواه مع هوى الحقّ فيكون هوى الحقّ و لا يكون هواه و حيل بينهم و بين ما يشتهون ، إلى أن يوصله الهوى إلى الهاوية و يقيده بالأغلال و السّلاسل في جميع مراداته و هذا شأن المماليك بالنسبة إلى مراداتهم و لذلك سمى خازن جهنم مالكا . و إن تخلّف عن التوكّل يقع في الخذلان ، و إن تخلّف عن جليل مرتبة التوحيد ( الوحدة خ ل ) ردّ إلى سفلى الدركات و هي دركة اللّعنة اولئك يلعنهم اللّه و يلعنهم اللاعنون ، إلى أن قال قدّس سرّه : و لا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا من العوالم إنّما هي داخل هذا العالم و ليس خارجا عنه بمعنى أنّ هذا العالم حالة و كيفية للموجودات في حدّ و مرتبة من الوجود و عالم المثال حالة و كيفية اخرى ألطف من هذه الكيفيات في باطن هذا العالم و ليس خارجا منه فمن كان له نور لعينه الحسيّة و اجتمع بنور الشمس أو القمر الحسيّين يرى العالم الحسّى بكيفيات حسيّة و صور حسيّة و من كان لعينيه المثاليّة نور مثالى و اجتمع نوره بنور الكواكب المثاليّة يرى مثال هذا العالم بكيفيّات مثاليّة و صور مثالية فإنّ كيفيات العوالم و صورها مختلفة كل بحسبها و مناسبتها و هكذا . و يكشف عن هذا الإختلاف الرؤيا و تعبيرها بما يرى واقعة مطابقا لصورتها المثالية يرى النائم اللبن و يفسّره المعبّر بالعلم و يقع في الواقع ما يرى على وفق التعبير . و يكشف عن ذلك أيضا الأخبار الكثيرة الواردة في أحوال البرزخ و القيامة و تجسيم الأعمال بما يناسبها من الصور ، فحصل من جميع ما قلنا أنّ الموجود [ 294 ] الحقّ الواقعى إنّما هو الذات جلّ جلاله في عالمها و سائر العوالم انما هو شأن من شئون و تجلي من تجلياتها مثلا تجلى بالتجلي الأوّل فوجد منه العالم العقلي ثمّ تجلّى ثانيا فظهر العالم النفسي ، و هكذا إلى أن خلق هذا العالم الحسّى ففي الخارج موجود حقيقى حقّ ثابت و شئونه فكل شأن من شئونه عبارة عن عالم من العوالم تامّ في مرتبته و لكلّ عالم آثار و صفات حتّى ينتهى إلى أحسن العوالم و أكثفها و أضيقها و هو هذا العالم المحسوس و هذا العالم كيفية خاصة و صور و حدود شتّى لازم لهذه المرتبة من الوجود ، و وجوده و آثاره مخصوصة بعالمها و هكذا . و عالم الرؤياء إنّما هو من عالم المثال فكلما يرى فيها فهو من هذا العالم أرضها و سماؤها و جمادها و نباتها بل و صور المرايا أيضا منه و الصور الخيالية أيضا منه و هذا العالم عالم واسع بل عوالم كثيرة بل قيل إنّ في عالم المثال ثمانية عشر ألف عالم . و حكي عن بعض العرفاء أنّ كلما ورد في الشّرع ممّا ظاهره مجاز في عالمنا فقد وجدناه في بعض هذه العوالم حقيقة من غير تجوز فكما أن كلّما يراه النائم في الرؤيا إنّما هو حال و كيف مثالى يظهر لنفسه في عالم المثال فكذلك ما يراه اليقظان في عالمنا هذا الحسّى حال و كيف حسّى يظهر لنفسه في عالم الحس إلى أن قال رضوان اللّه عليه : و الإدراك لا يمكن إلاّ بنيل المدرك لذات المدرك و ذلك إما بخروجه من ذاته إلى أن يصل إليه أو بادخاله إيّاه في ذاته و كلاهما محال إلاّ أن يتّحد معه و يتصوّر بصورته فالذات العالمة ليست بذاتها بعينها هي الذات الجاهلة ، فالعلم بالأجسام لا يتعلق بوجوداتها الخارجية لأنّ صورها بما هي هي ليست حاصلة بهذا النحو من الحصول الاتّحادى إلاّ لموادها و ليست حاصلة لأنفسها و حصولها لموادها ليس بنحو العلمي إذ هي أمر عدمىّ ليست إلاّ جهة القوّة في الوجودات فليس لها في أنفسها ذات يصحّ أن يدرك شيئا و يعلمه و إذا لم يكن الصور الخارجية للأجسام ممّا يصحّ أن يحصل لها شي‏ء الحصول المعتبر في العلم و لا هي حاصلة لما [ 295 ] يصحّ له أن يعلمها فليست هي عالمة بشي‏ء أصلا و لا لشي‏ء أن يعلمها بعينها كما هي فهى إذا معلومة بالقوّة بمعنى أن في قوّتها أن ينتزع منها عالم صورا فيعلمها أى يتصور بمثل صورها لاستحالة انتقال المنطبعات فى الموادّ فالمعلوم بالذات من كل شي‏ء ليس إلاّ صورا إدراكيّة قائمة بالنفس متّحدة معها لا مادة خارجيّة . فالمعلوم بالفعل ليس إلاّ لعالمه فكل عالم معلومه غير معلوم عالم آخر و هو في الحقيقة عالم و علم و معلوم ، هذا . و المقصود من التعرض بهذه التفصيلات التنبيه إلى الفكر في معرفة النفس و كيفيّة الترقي منها إلى معرفة الربّ ، و الإستدلال بما يستحكم به تصديق ذلك و أن يتفطّن المبتدي لاصول تنفع في فكره ، و إلاّ فليس كيفيّة التفكر إلاّ أن يشتغل المتفكر تارة لتجزية نفسه ، و اخرى لتجزية العالم حتّى يتحقّق له أن ما يعلمه من العالم ليس إلاّ نفسه و عالمه لا العالم الخارجى ، و أنّ هذه العوالم المعلومة له إنّما هو مرتبة من نفسه و حتّى يجد نفسه لنفسه ما هي ؟ ثمّ ينقّى عن قلبه كلّ صورة و خيال و يكون فكره في العدم حتّى تنكشف له حقيقة نفسه أى يرتفع العالم من بين يديه و يظهر له حقيقة نفسه بلا صورة و لا مادّة ، و هذا هو أوّل معرفة النفس و لعلّ إلى ذلك اشير في تفسير قوله تعالى : أ فمن شرح اللَّه صدرة للإسلام فهو على نور من ربّه ( الزمر : 24 ) حيث سئل عنه و قال عليه السّلام : نور يقذفه اللّه في قلبه فيشرح صدره ، قيل : هل لذلك من علامة ؟ قال عليه السّلام : علامته التّجافي عن دار الغرور و الإنابة إلى دار الخلود و الاستعداد للموت قبل حلول الفوت . و لعلّ العامّة لا يعتقدون في معنى التجافي إلاّ الزهد في شهوات الدنيا ، و لا يتصوّرون معنى للتجافي الحقيقي الّذي هو ارتفاع الغرور الواقع في هذا العالم لأهله و عدم رؤية الأشياء كما هي الّذي هو شأن العامّة الّذين لم يبلغوا بعد معرفة النفس بهذه المعرفة ، انتهى ما أردنا من نقل كلامه نوّر اللّه تعالى رمسه . و قد أجاد فيما أفاد و كتابه في لقاء اللّه ممتّع جدّا للّه درّه مؤلّفا . [ 296 ] و كلامه ره في النشآت الثلاثة الإنسانيّة تشير إلى ما برهنه المتألّه المولى صدرا في الرابع من الأسفار حيث قال قدّس سرّه : حكمة عرشية : إنّ للنفس الإنسانية نشئات ثلاثة إدراكية : النشأة الاولى هي الصورة الحسيّة الطبيعية و مظهرها الحواس الخمس الظاهرة و يقال لها الدنيا لدنوّها و قربها لتقدمها على الأخيرتين ، و عالم الشهادة لكونها مشهودة بالحواس و شرورها و خيراتها معلومة لكلّ أحد لا يحتاج إلى البيان و في هذه النشأة لا يخلو موجود عن حركته و استحالته و وجود صورتها لا تنفك عن وجود مادّتها . و النشأة الثانية هي الأشباح و الصور الغائبة عن هذه الحواس و مظهرها الحواس الباطنة و يقال لها عالم الغيب و الاخرة لمقايستها إلى الاولى لأنّ الاخرة و الاولى من باب المضاف ، و لهذا لا يعرف إحداهما إلاّ مع الاخرى كالمتضائفين كما قال تعالى : و لقد علمتم النشأة الاولى فلو لا تذكّرون ، و هي تنقسم إلى الجنّة و هي دار السعداء ، و الجحيم و هي دار الأشقياء ، و مبادى السعادات و الشقاوات فيهما هي الملكات و الأخلاق الفاضلة و الرذيلة . و النشأة الثالثة هي العقليّة و هي دار المقرّبين و دار العقل و المعقول و مظهرها القوّة العاقلة من الإنسان إذا صارت عقلا بالفعل ، و هي لا تكون إلاّ خيرا محضا و نورا صرفا فالنشأة الاولى دار القوّة و الاستعداد و المزرعة لبذور الأرواح و نبات النيّات و الإعتقادات ، و الاخريتان كلّ منهما دار التمام و الفعلية ، و حصول الثمرات و حصاد المزروعات . و قد أفاد قدّس سرّه هذا المطلب الأرفع الأعلى في عدّة مواضع من الأسفار فراجع إلى ص 17 ، و ص 21 ، و ص 97 ، و ص 131 من ج 9 . و إذا دريت أنّ الصورة الإنسانية هي مجموع صور عالمي الأمر و الخلق فادر أيضا أنّ الإنسان إذا كان مراقبا لقلبه و حارسا له عن ولوج الأجانب و الأغيار ، و ناظرا إلى ربّه و مستشعرا جانب اللّه عزّ و جلّ و منصرفا بفكره إلى قدس الجبروت مستديما لشروق نور الحقّ في سرّه يلوح له ملكوت [ 297 ] السموات و الأرض و يرتقى إلى أعلى عليّين ، و يصافحه الملائكة المقرّبين ، قال عزّ من قائل : إنَّ الّذين قالوا ربّنا اللَّه ثمَّ استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنّة الّتي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحيوة الدنيا و في الاخرة و لكم فيها ما تشتهى أنفسكم و لكم فيها ما تدّعون نزلاً من غفور رحيم ( حم السجدة ، فصّلت 31 33 ) ، و قد تقدّم في صدر الرسالة كلام العارف السهروردي : الفكر في صورة قدسيّة يتلطّف بها طالب الأريحيّة . و في باب تنقل أحوال القلب من كتاب الإيمان و الكفر من اصول الكافي ( ص 309 ج 2 من المعرب ) باسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر عليه السّلام قال : أما إنّ أصحاب محمّد صلى اللّه عليه و آله قالوا : يا رسول اللّه نخاف علينا النفاق قال : فقال : و لم تخافون ذلك ؟ قالوا : إذا كنّا عندك فذكّرتنا و رغّبتنا و جلنا و نسينا الدنيا و زهدنا حتّى كأنا نعاين الاخرة و الجنّة و النار و نحن عندك ، فإذا خرجنا من عندك و دخلنا هذه البيوت و شممنا الأولاد و رأينا العيال و الأهل يكاد أن نحوّل عن الّتي كنّا عليها عندك و حتّى كأنّا لم نكن على شي‏ء أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا ؟ فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : كلاّ إنّ هذه خطوات الشيطان فيرغّبكم في الدنيا ، و اللّه لو تدومون على الحالة الّتي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة و مشيتم على الماء الخبر . و روى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : لو لا إنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء ، قال الكندي في رسالته في النفس : إنّ النفس بسيطة ذات شرف و كمال عظيمة الشّأن ، جوهرها من جوهر الباري عزّ و جلّ كقياس ضياء الشمس من الشمس . و قد بيّن أنّ هذه النفس منفردة عن هذا الجسم مباينة له و أنّ جوهرها جوهر إلهي روحاني بما يرى من شرف طباعها و مضادّتها لما يعرض للبدن من الشهوات و الغضب . و ذلك أنّ القوّة الغضبيّة قد تتحرك على الإنسان في بعض الأوقات [ 298 ] فتحمله على ارتكاب الأمر العظيم فتضادّها هذه النفس و تمنع الغضب من أن يفعل فعله أو أن يرتكب الغيظ و ترته ، و تضبطه كما يضبط الفارس الفرس إذا همّ أنّ يجمح به أو يمدّه . و هذا دليل بيّن على أنّ القوّة الّتي يغضب بها الإنسان غير هذه النفس الّتي تمنع الغضب أن يجري إلى ما يهواه لأنّ المانع لا محالة غير الممنوع لأنّه لا يكون شي‏ء واحد يضادّ نفسه ، فأمّا القوّة الشهوانية فقد تتوق في بعض الأوقات إلى بعض الشهوات ففكّر النفس العقليّة في ذلك أنّه أخطأ و أنّه يؤدي إلى حال رديّة فتمنعها عن ذلك و تضادها ، و هذا أيضا دليل على أنّ كلّ واحدة منهما غير الاخرى . و هذه النفس الّتي هي من نور البارى عزّ و جلّ إذا هي فارقت البدن علمت كلّ ما في العالم و لم يخف عنها خافية ، و الدليل على ذلك قول أفلاطن حيث يقول : إنّ كثيرا من الفلاسفة الطاهرين القدماء لما يتجرّدوا من الدّنيا و تهاونوا بالأشياء المحسوسة و تفرّدوا بالنظر و البحث عن حقائق الأشياء انكشف لهم الغيب ، و علموا بما يخفيه الناس في نفوسهم و اطّلعوا على سرائر الخلق . فإذا كان هذا هكذا ، و النفس بعد مرتبطة بهذا البدن في هذا العالم المظلم الّذي لو لا نور الشمس لكان في غاية الظلمة فكيف إذا تجرّدت هذه النفس ، و فارقت البدن ، و صارت في عالم الحقّ الّذي فيه نور الباري سبحانه ؟ . و لقد صدق أفلاطن في هذا القياس و أصاب به البرهان الصحيح ، ثمّ إنّ أفلاطن أتبع هذا القول بأن قال : فأمّا من كان غرضه في هذا العالم التلذّذ بالمآكل و المشارب المستحيلة إلى الجيف ، و كان أيضا غرضه في لذّة الجماع فلا سبيل لنفسه العقلية إلى معرفة هذه الأشياء الشريفة و لا يمكنها الوصول إلى التشبّه بالباري سبحانه . ثمّ إنّ أفلاطن قاس القوّة الشهوانيّة الّتي للإنسان بالخنزير ، و القوّة الغضبيّة بالكلب ، و القوّة العقليّة الّتي ذكرنا بالملك ، و قال : من غلبت عليه [ 299 ] الشهوانيّة و كانت هي غرضه و أكثر همته فقياسه قياس الخنزير ، و من غلب عليه الغضبيّة فقياسه قياس الكلب ، و من كان الأغلب عليه قوّة النفس العقلية و كان أكثر أدبه الفكر و التمييز و معرفة حقائق الأشياء ، و البحث عن غوامض العلم كان انسانا فاضلا قريب الشبه من الباري سبحانه لأنّ الأشياء الّتي نجدها للباري عزّ و جلّ هي الحكمة و القدرة و العدل و الخير و الجميل و الحقّ . و قد يمكن للإنسان أن يدبّر نفسه بهذه الحيلة حسب ما في طاقة الإنسان فيكون حكيما عدلا جوادا خيّرا يؤثر الحقّ و الجميل ، و يكون بذلك كلّه بنوع دخل دون النوع الّذي للباري سبحانه من قوّته و قدرته لأنّها إنما اقتبست من قربها قدرة مشاكلة لقدرته ، فإنّ النفس على رأى أفلاطن و جلّة الفلاسفة باقية بعد الموت جوهرها كجوهر البارى عزّ و علا في قوّتها إذا تجرّدت أن تعلم سائر الأشياء كما يعلم البارى بها أو دون ذلك برتبة يسيرة ، لأنها اودعت من نور البارى جلّ و عزّ . و إذا تجرّدت و فارقت هذا البدن و صارت في عالم العقل فوق الفلك صارت في نور البارى ، و رأت البارى عزّ و جلّ و طابقت نوره و جلّت في ملكوته فانكشف لها حينئذ علم كلّ شي‏ء ، و صارت الأشياء كلّها بارزة لها كمثل ماهي بارزة للبارى عزّ و جلّ ، لأنّا إذا كنّا و نحن في هذا العالم الدنس قد نرى فيه أشياء كثيرة بضوء الشمس فكيف إذا تجرّدت نفوسنا ، و صارت مطابقة لعالم الديموميّة و صارت تنظر بنور البارى فهى لا محالة ترى بنور البارى كلّ ظاهر و خفىّ و تقف على كلّ سرّ و علانية . و كان أفسقورس يقول : إنّ النفس إذا كانت و هي مرتبطة بالبدن تاركة للشهوات متطهّرة من الأدناس ، كثيرة البحث و النظر في معرفة حقائق الأشياء انصقلت صقالة ظاهرة و اتّحد بها صورة من نور البارى يحدث فيها و يكامل نور البارى بسبب ذلك الصقال الّذي اكتسبه من التطهر فحينئذ يظهر فيها صور الأشياء كلّها و معرفتها كما يظهر صور خيالات سائر الأشياء المحسوسة في المرآة إذا [ 300 ] كانت صقيلة ، فهذا قياس النفس لأنّ المرآة إذا كانت صدئة لم يتبيّن صورة شي‏ء فيها بتّة ، فإذا زال منها الصدء ظهرت و تبيّنت فيها جميع الصور ، كذلك النفس العقلية إذا كانت صدئة دنسة كانت على غاية الجهل و لم يظهر فيها صور المعلومات و إذا تطهّرت و تهذّبت و انصقلت ، و صفاء النفس هو أنّ النفس تتطهّر من الدنس و تكتسب العلم ظهر فيها حينئذ صورة معرفة جميع الأشياء ، و على حسب جودة صقالتها تكون معرفتها بالأشياء ، فالنفس كلما ازدادت صقالا ظهر لها و فيها معرفة الأشياء . و هذه النفس لا تنام بتّة لأنّها في وقت النوم تترك استعمال الحواس و تبقى محصورة ، ليست بمجرّدة على حدتها ، و تعلم كلّ ما في العوالم و كلّ ظاهر و خفي و لو كانت هذه النفس تنام لما كان الإنسان إذا رأى في النوم شيئا يعلم أنه في النوم بل لا يفرق بينه و بين ما كان في اليقظة . و إذا بلغت هذه النفس مبلغها في الطهارة رأت في النوم عجائب من الأحلام و خاطبتها الأنفس الّتي قد فارقت الأبدان و أفاض عليها البارى من نوره و رحمته فتلتذّ حينئذ لذّة دائمة فوق كل لذّة تكون بالمطعم و المشرب و النكاح و السماع و النظر و الشمّ و اللمس ، لأنّ هذه لذات حسيّة دنسة تعقب الأذي ، و تلك لذّة إلهيّة روحانيّة ملكوتيّة تعقب الشرف الأعظم ، و الشقى المغرور الجاهل من رضى لنفسه بلذّات الحسّ و كانت هي أكثر أغراضه و منتهى غايته . و إنما نجي‏ء في هذا العالم في شبه المعبر و الجسر الّذي يجوز عليه السيّارة ليس لنا مقام يطول ، و أما مقامنا و مستقرّنا الّذي نتوقع فهو العالم الأعلى الشريف الّذي تنتقل إليه نفوسنا بعد الموت حيث تقرب من باريها ، و نقرب من نوره و رحمته ، و نراه رؤية عقليّة لا حسيّة ، و يفيض عليها من نوره و رحمته ، فهذا قول افسقورس الحكيم . انتهى ما نقلنا عن الفيلسوف الكندي . و قد صدر هذه النكات اللطيفة الشريفة عن قلوب نقيّة ، و هي كلمات اقتبست من مشكاة الأنبياء غاية الأمر بوسائط ، و الملهم المبتدع القديم حقّ عليم منّه عظيم . [ 301 ] قوله : جوهرها من جوهر البارى ، يعنى أنها من عالم الأمر الحكيم قال عزّ من قائل : قل الروح من أمر ربّي ( الأسراء : 86 ) و نفخت فيه من روحي ( ص : 73 ) . و قوله كقياس ضياء الشمس من الشمس شريف جدا و قد قال الإمام كشّاف الحقائق وارث علوم النبيّين أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام : إنّ روح المؤمن لأشدّ اتّصالا بروح اللّه من اتصال شعاع الشمس بها ، رواه ثقة الإسلام الكليني قدّس سرّه في باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض من كتاب الإيمان و الكفر من اصول الكافي ( ص 33 ج 2 من المعرب ) . قوله : إذا هي فارقت البدن علمت كلّ ما في العالم ، قال تبارك و تعالى : لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ( ق : 24 ) . و قوله : ثمّ إنّ افلاطن قاس القوّة الشهوانيّة الّتي للإنسان بالخنزير الخ كلام شريف أيضا و من هنا يعلم أيضا حشر الناس على صور نيّاتهم و أن الجزاء في الاخرة بنفس العمل و قد وردت في ذلك روايات كثيرة من بيت الوحى و العصمة و الطهارة ففي الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : يحشر الناس على صور نيّاتهم ، و في الاخر عن البراء بن عازب قال : كان معاذ بن جبل جالسا قريبا من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في منزل أبي أيوب الأنصاري فقال معاذ : يا رسول اللّه ما رأيت قول اللّه تعالى : يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ، الايات ؟ فقال : يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمر ، ثمّ أرسل عينيه ثمّ قال : يحشر عشرة أصناف من امّتى أشتاتا قد ميّزهم اللّه من المسلمين و بدّل صورهم : فبعضهم على صورة القردة و بعضهم على صورة الخنازير ، و بعضهم منكسون أرجلهم من فوق و وجوههم من تحت ثمّ يسحبون عليها ، و بعضهم عمي يتردّدون ، و بعضهم صمّ بكم لا يعقلون ، و بعضهم يمضغون ألسنتهم فيسيل القيح من أفواههم لعابا يتقذرهم أهل الجمع ، و بعضهم مقطّعة أيديهم و أرجلهم ، و بعضهم مصلبون على جذوع من نار ، و بعضهم أشدّ نتنا من الجيف ، و بعضهم يلبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم . فأما الّذين على صورة القردة فالقتّات من الناس ، و أما الّذين على صورة [ 302 ] الخنازير فأهل السحت ، و أما المنكسون على رؤوسهم فآكلوا الربا ، و العمي الجائرون في الحكم ، و الصمّ البكم المعجبون بأعمالهم ، و الّذين يمضغون بألسنتهم فالعلماء و القضاة الّذين خالف أعمالهم أقوالهم ، و المقطعة أيديهم و أرجلهم الّذين يؤذون الجيران ، و المصلبون على جذوع من نار فالسّعاة بالناس إلى السلطان و الّذين هم أشدّ نتنا من الجيف فالّذين يتمتّعون بالشهوات و اللّذات و يمنعون حقّ اللّه تعالى في أموالهم ، و الّذين يلبسون الجباب فأهل التجبّر و الخيلاء . و هذا الحديث قد رواه الفريقان في الجوامع و كتب التفسير و في الحديث عنه صلى اللّه عليه و آله : من خالف الإمام في أفعال الصلاة يحشر و رأسه رأس حمار ، و قد روى الكليني في باب الكبر من كتاب الإيمان و الكفر من اصول الكافي ( ص 235 ج 2 من المعرب ) باسناده عن داود بن فرقد عن أخيه قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول : إنّ المتكبرين يجعلون في صور الذرّ يتوطّأهم الناس حتّى يفرغ اللّه من الحساب . و في الحديث عنه صلى اللّه عليه و آله : كما تعيشون تموتون و كما تنامون تبعثون و روى عن النّبي صلى اللّه عليه و آله انه قال : رأيت ليلة أسرى بى قوما تقرض شفاههم ، و كلّما قرضت وفت ، فقال لي جبرئيل : هؤلاء خطباء امّتك تقرض شفاههم لأنّهم يقولون ما لا يفعلون ، رواه علم الهدى سيّد المرتضى في المجلس الأوّل من أماليه غرر الفوائد و درر القلائد ( ص 6 من ج 1 من طبع مصر ) . و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في صفة بعض علماء السوء : فالصورة صورة انسان و القلب قلب حيوان . و في حديث الريّان بن شبيب عن ثامن الأئمّة عليّ بن موسى الرضا عليهما السّلام : يا ابن شبيب إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان فاحزن لحزننا و افرح لفرحنا و عليك بولايتنا ، فلو أنّ رجلا تولّى حجرا لحشره اللّه تعالى معه يوم القيامة ، رواه المجلسي رحمة اللّه عليه في عاشر البحار ( ص 165 من طبع الكمبانى ) عن عيون أخبار الرضا و أمالى الصدوق . [ 303 ] قلت : كنت ذات ليلة متفكرا في أمري من حشري معادي و ناظرا في صحيفة عملي ، و يوم عرضي للحساب و نحوها إذ رأيت فيما رأيت في صقع نفسي شيئا لازبا بها جدّا ، محشورا عندها غير منفك عنها ، و لمّا أمعنت النظر فيه عرفته ، و كان نسخة مخطوطة من كتاب ، قد كنت احبّها شديدا فعندئذ حضر و خطر بالبال ، قوله عليه السلام : فلو أنّ رجلا تولّى حجرا لحشره اللّه تعالى معه يوم القيامة ، فإنّ الكتاب جماد كالحجر و لا فرق بينهما من هذه الحيثيّة . و من تلك البراهين النقلية المعاضدة للعقلية قال أساطين الحكمة : إنّ حشر الخلائق في الاخرة على أنحاء مختلفة حسب أعمالهم و أخلاقهم فلقوم على سبيل الوفد ، يوم نحشر المتّقين إلى الرحمن وفدا ، و لقوم على سبيل التعذيب و يوم يحشر أعداء اللّه إلى النار فهم يوزعون ، و لقوم نحشر المجرمين يومئذ زرقا و لقوم و نحشره يوم القيمة أعمي ، و بالجملة كل أحد إلى غاية سعيه و عمله و إلى ما يحبّه و يهواه حتّى أنّه لو أحبّ حجرا لحشر معه لقوله تعالى : انكم و ما تعبدون من دون اللَّه حصب جهنّم ، و قوله تعالى : احشروا الّذين ظلموا و أزواجهم و ما كانوا يعبدون من دون اللَّه فاهدوهم إلى صراط الجحيم . و المراد بأزواجهم الملكات و صورها فان تكرّر الأفاعيل يوجب الملكات و كلّ ملكة تغلب على نفس الإنسان تتصور في القيامة بصورة تناسبها ، قل كلّ يعمل على شاكلته ، و لا شك أن أفاعيل الأشقياء المدبرين إنّما هي بحسب هممهم القاصرة النازلة في مراتب البرازخ الحيوانية و تصوراتهم مقصورة على أغراض بهيميّة أو سبعيّة أو شيطانيّة تغلب على نفوسهم فلا جرم يحشرون على صور تلك الحيوانات ، و إذا الوحوش حشرت ، و في الحديث عنه صلى اللّه عليه و آله يحشر بعض النّاس على صور يحسن عندها القردة و الخنازير ، و فيه أيضا يحشر النّاس يوم القيامة ثلاثة أصناف : ركبانا ، و مشاة ، و على وجوههم . و السرّ في ذلك أن لكلّ خلق من الأخلاق المذمومة و الهيئات الردية المتمكنّة في النفس صورة نوع من أنواع الحيوانات و بدن يختصّ بذلك كصور [ 304 ] أبدان الأسود و نحوها لخلق التكبّر و التهوّر مثلا ، و أبدان الثعالب و أمثالها للخبث و الروغان ، و أبدان القرود و نحوها للمحاكاة و السخريّة ، و الخنازير للحرص و الشهوة إلى غير ذلك . و ربما كان لشخص واحد من الإنسان عدد كثير من الأخلاق الردية على مراتب متفاوتة فبحسب ذلك تختلف الصور الحيوانيّة في الاخرة قال اللّه عزّ و جلّ : « يوم تشهد عليهم سمعهم و أبصارهم و جلودهم بما كانوا يعملون » . قال المولى صدرا قدس سرّه في مبحث الحشر من الأسفار : إنّ في داخل بدن كلّ إنسان و مكمن جوفه حيوانا صوريا بجميع أعضائه و أشكاله و قواه و حواسّه هو موجود قائم بالفعل لا يموت بموت هذا البدن و هو المحشور يوم القيامة بصورته المناسبة لمعناه و هو الّذي يثاب و يعاقب و ليست حياته كحياة هذا البدن المركب عرضيّة واردة عليه من الخارج و إنما حياته كحياة النفس ذاتيه و هو حيوان متوسط بين الحيوان العقلى و الحيوان الحسىّ يحشر في القيامة على صورة هيئات و ملكات كسبتها النفس بيدها العمالة ، و بهذا يرجع و يؤول معنى التناسخ المنقول عن الحكماء الأقدمين كأفلاطن و من سبقه مثل سقراط و فيثاغورس و غيرهما من الأساطين ، و كذا ما ورد في لسان النبوات ، و عليه يحمل الايات المشيرة إلى التناسخ ، و كذا قوله تعالى : و إذا وقع عليهم القول أخرجنا لهم دابّة من الأرض تكلّمهم أنّ الناس كانوا بآياتنا لاقنون ، و قوله تعالى : و يوم نحشر من كلّ امّة فوجاً ممّن يكذّب بآياتنا فهم يوزعون ، و قوله تعالى : يومئذ يتفرَّقون ، كلّ ذلك إشارة إلى انقلاب النفوس في جوهرها و صيرورتها من أفواج الامم الصامتة و خروجها يوم النشور إذا بعثر ما في القبور و حصّل ما في الصدور على صورة أنواع الحيوانات من السباع و الموذيات و البهائم و الوحوش و الشياطين . و قال في المبدء و المعاد : ( ص 325 ) قال بعض العرفاء : كلّ من شاهد بنور البصيرة باطنه في الدّنيا لرآه مشحونا بأصناف السباع و أنواع الهوام مثل الغضب [ 305 ] و الشهوة و الحقد و الحسد و الكبر و العجب و الرياء و غيرها و هي الّتي لا تزال تفترسه و تنهشه إن سهى عنه بلحظة إلاّ أنّ أكثر الناس لكونه محجوب العين عن مشاهدتها فإذا كشف الغطاء و وضع في قبره عاينها و قد تمثلت له بصورها و أشكالها الموافقة لمعانيها فيرى بعينه العقارب و الحيات قد أحدقت به و إنما هي صفاته الحاضرة الان قد انكشفت له صورها ، فإن أردت يا أخي أن تقتلها و تقهرها و أنت قادر عليها قبل الموت فافعل و إلاّ فوطن نفسك على لدغها و نهشها بصميم قلبك فضلا عن ظاهر بشرتك و جسمك . و قول الكندي كان أفسقورس يقول إن النفس الخ ، يقصد بأفسقورس فيثاغورس الفيلسوف المشهور من أعاظم الحكماء الأقدمين قد استفاد من مشكاة النّبوة و له في نضد العالم و ترتيبه على خواصّ العدد و مراتبه رموز عجيبة و أغراض بعيدة و له في شأن المعاد مذاهب قارب فيها أبيذ قلس من أنّ عالما فوق عالم الطبيعة روحانيا نورانيا لا يدرك العقل حسنه و بهاءه ، و أنّ الأنفس الزكية تحتاج إليه ، و أنّ كلّ انسان أحسن تقويمه بالتبرّؤ من العجب و التجبر و الرياء و الحسد و غيرها من الشهوات الجسدانيّة فقد صار أهلا أن يلحق بالعالم الروحانى و يطلع على ما شاع ( يشاء خ ل ) من جواهره من الحكمة الالهية ، و أنّ الأشياء الملذّة للنفس تأتيه حشدا إرسالا كالألحان الموسيقيّة الاتية إلى حاسّة السمع فلا يحتاج إلى أن يتكلف لها طلبا ، نقلناه من تاريخ الحكماء للقفطى . و من كلماته السامية : أنّك ستعارض لك في أفعالك و أقوالك و أفكارك و سيظهر لك من كل حركة فكرية أو قولية او عملية صورة روحانية أو جسمانية فإن كانت الحركة غضبيّة أو شهوية صارت مادة لشيطان يؤذيك في حياتك و يحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك ، و إن كانت الحركة عقلية صارت ملكا تلتذّ بمنادمته في دنياك ، و تهتدى به في اخراك إلى جوار اللّه و دار كرامته ، نقلناه من مبحث نشر الصحائف و ابراز الكتب من الأسفار . و ما أفاد هؤلاء الأعاظم في إنيّة النفس و تطوّراتها لطيف جدّا إلاّ أنّى ما [ 306 ] رأيت بعد قول اللّه تعالى و رسوله صلى اللّه عليه و آله كلاما في النفس و أطوارها ألطف و أجمع و أتقن من كلام إمام الموحّدين و راية السالكين و قدوة المتألّهين عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام حيث قال لحبر من أحبار اليهود و علمائهم : من اعتدل طباعه صفى مزاجه ، و من صفى مزاجه قوى أثر النفس فيه ، و من قوى أثر النفس فيه سمى إلى ما يرتقيه ، و من سمى إلى ما يرتقيه فقد تخلق بالأخلاق النفسانية ، و من تخلق بالأخلاق النفسانية فقد صار موجودا بما هو انسان دون أن يكون موجودا بما هو حيوان ، و دخل في الباب الملكى ، و ليس له عن هذه الحالة مغيّر فقال اليهودي : اللّه أكبر يا ابن أبي طالب لقد نطقت بالفلسفة جميعها ، نقله العلاّمة الشّيخ بهاء الدين العاملي قدّس سرّه في أواخر المجلّد الخامس من الكشكول ( ص 594 من طبع نجم الدولة ) . و قال في المجلّد الثاني منه ( ص 246 ) عن كميل بن زياد قال : سألت مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام فقلت : يا أمير المؤمنين اريد أن تعرّفنى نفسي ، فقال : يا كميل و أىّ الأنفس تريد أن اعرّفك ؟ قلت : يا مولاى و هل هي إلاّ نفس واحدة ؟ . قال : يا كميل انما هي أربعة : النامية النباتية ، و الحسيّة الحيوانيّة ، و النّاطقة القدسيّة ، و الكليّة الإلهيّة ، و لكل واحدة من هذه خمس قوى و خاصيّتان : فالنامية النباتية لها خمس قوى : ماسكة ، و جاذبة ، و هاضمة ، و دافعة و مربّية ، و لها خاصيّتان : الزيادة و النقصان ، و انبعاثها من الكبد . و الحسيّة الحيوانية لها خمس قوى : سمع ، و بصر ، و شم ، و ذوق ، و لمس و لها خاصيّتان : الرّضا و الغضب ، و انبعاثها من القلب . و الناطقة القدسيّة لها خمس قوى : فكر ، و ذكر ، و علم ، و حلم ، و نباهة ، و ليس لها انبعاث و هي أشبه الأشياء بالنفوس الملكيّة ، و لها خاصيّتان : النزاهة و الحكمة . و الكليّة الالهيّة لها خمس قوى : بقاء في فناء ، و نعيم في شقاء ، و عزّ في ذلّ و فقر في غناء ، و صبر في بلاء ، و لها خاصيّتان : الرّضا و التسليم و هذه الّتي [ 307 ] مبدؤها من اللّه و إليه تعود ، قال اللّه تعالى : و نفخت فيه من روحى ، و قال اللّه تعالى : يا أيتها النفس المطمئنّة ارجعى إلى ربّك راضية مرضيّة ، و العقل وسط الكل . و روى في كتاب الدرر و الغرر أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام سئل عن العالم العلوي فقال : صور عارية عن المواد ، عالية من القوّة و الاستعداد ، تجلّى لها فأشرقت و طالعها فتلألأت ، و ألقى في هويّتها مثاله فأظهر عنها أفعاله ، و خلق الإنسان ذا نفس ناطقة إن زكّيها بالعلم و العقل فقد شابهت جواهر أوائل عللها ، و إذا اعتدل مزاجها و فارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد ( نقلناه من الكلمة التاسعة عشر من قرّة العيون في أعزّ الفنون للفيض قدّس سرّه ) ، و قد رواه العالم الجليل ابن شهر آشوب في المناقب أيضا . و لنذكر ما حصل لبعض الأعاظم من التخلّص عن درن البدن ، و التنزّه عن رين الرذائل النفسانيّة فكوشف لهم ما وراء الطبيعة ترغيبا للمشتاقين إلى السير في عالم المجردات ، و انموزجا من عظم شأن النفس و شرفها للطالبين : ( 1 ) قال الفيلسوف يعقوب بن إسحاق الكندي في رسالته في النفس ( ص 279 من رسائل الكندى ) : و قد وصف أرسطاطاليس أمر الملك اليونانى الّذي تحرّج بنفسه فمكث لا يعيش و لا يموت أياما كثيرة ، كلّما أفاق أعلم الناس بفنون من علم الغيب و حدّثهم بما رأى من الأنفس و الصور و الملائكة ، و أعطاهم في ذلك البراهين ، و أخبر جماعة من أهل بيته بعمر واحد واحد منهم ، فلمّا امتحن كلّ ما قال لم يتجاوز أحد منهم المقدار الّذي حدّه له من العمر ، و أخبر أنّ خسفا يكون في بلاد الأوس بعد سنة ، و سيل يكون في موضع آخر بعد سنتين فكان الأمر كما قال . قال : و ذكر أرسطاطاليس أنّ السبيل في ذلك أنّ نفسه إنّما علمت ذلك العلم لأنّها كادت أن تفارق البدن ، و انفصلت عنه بعض الإنفصال فرأت ذلك فكيف لو فارقت البدن على الحقيقة ؟ لكانت قد رأت عجائب من أمر [ 308 ] الملكوت الأعلى . فقل للباكين ممّن طبعه أن يبكى من الأشياء المخزونة ينبغي أن يبكى و يكثر البكاء على من يهمل نفسه ، و ينهك من ارتكاب الشهوات الحقيرة الخسيسة الدنيّة المموّهة الّتي تكسبه الشرّة ( الشره خ ل ) و تميل بطبعه إلى طبع البهائم و يدع أن يتشاغل بالنظر في هذا الأمر الشريف و التخلّص إليه ، و يطهّر نفسه حسب طاقته ، فإنّ الطهر الحقّ هو طهر النفس لا طهر البدن فإنّ العالم الحكيم المبرّز المتعبد لباريه ، إذا كان ملطّخ البدن باكماة فهو عند جميع الجهّال ، فضلا عن العلماء أفضل و أشرف من الجاهل الملطّخ البدن بالمسك و العنبر . و من فضيلة المتعبّد للّه الذي قد هجر الدّنيا و لذّاتها الدنيّة أنّ الجهّال كلّهم إلاّ من سخر منهم بنفسه يعترف بفضله و يجلّه و يفرح أن يطلع منه على الخطاء . فيا أيها الإنسان الجاهل ألا تعلم أنّ مقامك في هذا العالم إنما هو كلمحة ثمّ تصير إلى العالم الحقيقى ، فتبقى فيه أبد الابدين ؟ انتهى كلام الكندي تغمده اللّه بغفرانه . ( 2 ) و روى الكليني أعلى اللّه مقامه في باب حقيقة الإيمان و اليقين من كتاب الايمان و الكفر من جامعه الكافي ( ص 44 ج 2 من المعرب ) باسناده عن إسحاق بن عمار قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول : إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله صلّى بالنّاس الصبح فنظر إلى شابّ في المسجد و هو يخفق و يهوى برأسه ، مصفرّا لونه ، قد نحف جسمه ، و غارت عيناه في رأسه ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله كيف أصبحت يا فلان ؟ قال : أصبحت يا رسول اللّه موقنا ، فعجب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله من قوله و قال : إنّ لكلّ يقين حقيقة فما حقيقة يقينك ؟ فقال : إنّ يقينى يا رسول اللّه هو الّذي أحزننى و أسهر ليلي و أظمأ هو اجرى فعزفت نفسي عن الدّنيا و ما فيها حتّى كأنّى أنظر إلى عرش ربّى و قد نصب للحساب و حشر الخلائق لذلك و أنا فيهم ، و كأنّى أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة و يتعارفون و على الأرائك متكئون ، و كأنّى أنظر إلى أهل النار و هم فيها معذّبون مصطرخون ، و كأنّى الان أسمع زفير النار [ 309 ] يدور في مسامعى ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لأصحابه : هذا عبد نوّر اللّه قلبه بالإيمان ثمّ قال له : ألزم ما أنت عليه ، فقال الشاب : ادع اللّه لي يا رسول اللّه أن ارزق الشهادة معك ، فدعا له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النّبي صلى اللّه عليه و آله فاستشهد بعد تسعة نفر و كان هو العاشر . و روى بعده باسناده عن عبد اللّه بن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : استقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله حارثة بن مالك بن النعمان الأنصارىّ فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك ؟ فقال : يا رسول اللّه مؤمن حقّا ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : لكلّ شي‏ء حقيقة فما حقيقة قولك ؟ فقال : يا رسول اللّه عزفت نفسي عن الدّنيا فأسهرت ليلي و أظمأت هو اجري و كأنّى أنظر إلى عرش ربّى و قد وضع للحساب و كأنّى أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون في الجنّة ، و كأنّى أسمع عواء أهل النار في النار ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : عبد نوّر اللّه قلبه ، أبصرت فأثبت ، فقال : يا رسول اللّه ادع اللّه لي أن يرزقنى الشهادة معك فقال : اللهمّ ارزق حارثة الشهادة ، فلم يلبث إلاّ أياما حتّى بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله سريّة فبعثه فيها فقاتل فقتل تسعة أو ثمانية ثمّ قتل . و قال : و في رواية القاسم بن بريد عن أبي بصير قال : استشهد مع جعفر بن أبي طالب بعد تسعة نفر و كان هو العاشر . قلت : إنّما قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : ادع لي أن ارزق الشهادة معك لما فيها من فضيلة سامية و كفى فيها ما قال عزّ من قائل : و لا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل اللَّه أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون ، و أرى في طلبه الشهادة منه صلى اللّه عليه و آله أنّ حفظ الحال أصعب من تحصيله كالمال قال شاعر العجم : مال را هر كسى بدست آرد رنجش اندر نگاهداشتن است و تأمّل في كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله حيث قال له : الزم ما أنت عليه ، أو أبصرت فاثبت ، أمره بلزوم ما وجده من الإيمان الكامل الّذي نوّر اللّه به قلبه و ثباته على ذلك ، فإنّ للكمالات الحاصلة آفات كثيرة و المراقبة في حفظها و عدم زوالها لازمة جدّا لمن تنعّم بها ، قال الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام [ 310 ] لهشام بن الحكم : يا هشام إنّ اللّه حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا : « ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهّاب » حين علموا أنّ القلوب تزيغ و تعود إلى عماها و رداها ( رواه الكليني ره في كتاب العقل و الجهل من اصول الكافي الحديث 12 ) . قال الشّيخ العلاّمة البهائى قدّس سرّه كما في سلافة العصر ( ص 292 ) : سانحة : قد تهب من عالم القدس نفحة من نفحات الانس على قلوب أصحاب العلائق الدينيّة ، و العلائق الدنيويّة ، فتقطر بذلك مشام أرواحهم و تجري روح الحقيقة في رميم أشباحهم ، فيدركون قيح الأنفاس الجسمانية ، و يذعنون بخساسة الانتكاس في مهاوى القيود الهيولانية ، فيميلون إلى سلوك مسالك الرشاد و ينتبهون من نوم الغفلة عن البداء و المعاد ، لكنّ هذا التنبيه سريع الزوال ، و وحى الإضمحلال ، فيا ليته يبقي إلى حصول جذبة إلهية تميط عنهم أدناس عالم الزور و تطهّرهم من أرجاس دار الغرور ، ثمّ إنّهم عند زوال تلك النفحة القدسيّة ، و انقضاء هاتيك النسمة الإنسية يعودون إلى الإنعكاس في تلك الأدناس ، فيتأسّفون على ذلك الحال الرفيع المنال ، و ينادى لسان حالهم بهذا المقال ، إن كانوا من أصحاب الكمال : تيرى زدى و زخم دل آسوده شد از ان هان اى طبيب خسته دلان مرهم دگر و بالجملة كأنّ الشاب خاف من زيغ القلب و زوال النعمة فرأى أنّ خروجه من الدّنيا مع ذلك النور الإلهي أفضل و أحبّ إليه من البقاء فيها مع خوف زواله فاستحبّ الأوّل على الثاني ، و اللّه تعالى أعلم . و قد روى ابن الأثير في اسد الغابة باسناده عن أنس هذه الواقعة و نسبها إلى حارثة أيضا ( ص 355 ج 1 ) ، و كذا الغزالى في إحياء العلوم ، لكن نسبها العارف الرّومى في المجلّد الأوّل من المثنوي إلى زيد و الظاهر أنه زيد بن حارثة حيث قال : [ 311 ] گفت پيغمبر صباحى زيد را كيف أصبحت اى رفيق با صفا إلى آخر الأبيات . و نسبها أبو نعيم الإصفهاني في حلية الأولياء ( ص 242 ج 1 ) إلى معاذ بن جبل و رواها باسناده عن أنس بن مالك أيضا ، و نسبها الديلمي في الباب السابع و الثلاثين من كتابه إرشاد القلوب إلى سعد بن معاذ و ألفاظهما واحدة و الاختلاف يسير ، و في رواية أبي نعيم أنّ معاذ بن جبل رضي اللّه تعالى عنه دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقال : كيف أصبحت يا معاذ ؟ قال : أصبحت مؤمنا باللّه تعالى قال : إنّ لكلّ قول مصداقا و لكلّ حقّ حقيقة فما مصداق ما تقول ؟ قال : يا نبيّ اللّه ما أصبحت صباحا قط إلاّ ظننت أنّى لا أمسى ، و ما أمسيت مساء قط إلاّ ظننت أنّى لا أصبح ، و لا خطوت خطوة إلاّ ظننت أنّى لا أتبعها اخرى ، و كأنّى أنظر إلى كلّ امّة جاثية تدعى إلى كتابها معها نبيّها و اوثانها الّتي كانت تعبد من دون اللّه و كأنّى أنظر إلى عقوبة أهل النار و ثواب أهل الجنّة ، قال : عرفت فالزم . ( 3 ) قال العارف المتنزه المتأله السيّد حيدر الاملي قدّس سرّه في أوّل كتابه جامع الأسرار و منبع الأنوار : و اللّه ثمّ و اللّه لو صارت أطباق السماوات أوراقا ، و أشجار الأرضين أقلاما ، و البحور السبعة مع المحيط مدادا ، و الجنّ و الإنس و الملك كتّابا لا يمكنهم شرح عشر من عشير ما شدت من المعارف الإلهية و الحقائق الربانية ، الموصوفة في الحديث القدسيّ « أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر » ، المذكورة في القرآن : فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون . و لا يتيسّر لهم بيان جزء من أجزاء ما عرفت من الأسرار الجبروتيّة و الغوامض الملكوتيّة المعبّر عنها في القرآن بما لم يعلم لقوله تعالى : « اقرأ و ربّك الأكرم الّذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم » المومى إليها أيضا بتعليم الرّحمن ، لقوله تعالى « الرّحمن علّم القرآن ، خلق الإنسان ، علّمه البيان » المسمّاة بكلمات اللّه الّتي لا تبيد و لا تنفد لقوله تعالى « قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربّى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّى ، و لو جئنا بمثله مددا » [ 312 ] و لقوله تعالى : « و لو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام ، و البحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اللَّه إنّ اللَّه عزيز حكيم » . ( 4 ) و في سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر ( ص 479 ) تأليف العلاّمة السيّد عليّ صدر الدين المدني صاحب رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد الساجدين ، و شرح الفوائد الصمدية في النحو ، و الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة و غيرها تبلغ إلى ثمانية عشر مؤلفا في فنون متنوّعة : الأمير محمّد باقر بن محمّد الشهير بالداماد الحسنى إلى أن قال صاحب السلافة في ترجمته قدّس سرّه : و من غريب رسائله رسالته الخليعة و هي ممّا يدلّ على تألّه سريرته ، و تقدّس سيرته ، و صورتها : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد كلّه للّه رب العالمين ، و صلاته على سيّدنا محمّد و آله الطاهرين ، كنت ذات يوم من أيّام شهرنا هذا و قد كان يوم الجمعة سادس عشر شهر رسول اللّه شعبان المكرّم لعام ثلاث و عشرين و ألف من هجرته المقدّسة في بعض خلواتى أذكر ربّى في تضاعيف أذكارى و أورادى باسمه الغني فاكرّر يا غنى يا مغنى مشددها بذلك عن كلّ شي‏ء إلاّ عن التوغل في حريم سرّه و الإنمحاء في شعاع نوره و كأنّ خاطفة قدسيّة قد ابتدرت إلىّ ، فاجتذبتني من الوكر الجثمانى ففككت حلق شبكة الحسّ ، و حللت عقد حبالة الطبيعة و أخذت أطير بجناح الروح في وسط ملكوت الحقيقة ، و كأنّى قد خلعت بدنى و رفضت عدنى ، و مقوت خلدى ، و نضوت جسدى ، و طويت اقليم الزمان ، و صرت إلى عالم الدهر فإذا أنا بمصر الوجود بجماجم امم النظام الجملى من الابداعيات و التكوينيّات و الإلهيات و الطبيعيّات و القدسيات و الهيولانيات و الدهريات و الزمنيات و أقوام الكفر و الإيمان ، و أرهاط الجاهلية و الإسلام من الدارجين و الدارجات و الغابرين و الغابرات ، و السالفين و السالفات ، و العاقبين و العاقبات ، في الازال و الاباد ، و بالجملة آحاد مجامع الإمكان و دارات عوالم الإمكان بقضّها و قضيضها و صغيرها و كبيرها باثباتها و بابدائها حالياتها و آتياتها و إذا الجميع زفة زفة و زمرة [ 313 ] زمرة يجذبهم قاطبة معاملون ، وجوه ماهياتهم شطر بابه سبحانه شاخصون ، بابصار نيّاتهم تلقاء جنابه جلّ سلطانه من حيث لا يعلمون ، و هم جميعا بألسنة فقر ذواتهم الفاخرة ، و ألسن فاقة هو ياتهم الهالكة في صحيح الضراعة و صراخ الإبتهال ذاكروه و داعوه و مستصرخوه و منادوه بياغني يا مغني من حيث هم لا يشعرون فطفقت في تلك الضجّة العقليّة ، و الصرخة الغيبيّة أخرّ مغشيا عليّ ، و كدت من شدّة الوله و الدهش أنسي جوهر ذات العاقلة و أغيب عن بصر نفسي المجردة و اهاجر ساهرة أرض الكون و أخرج من صقع قطر الوجود رأسا إذ قد ودعتني تلك الخلسة الخالسة حينا حيونا إليها ، و خطفتني تلك الخطفة الخاطفة تائقا لهوفا عليها فرجعت إلى أرض التيار ، و كورة البوار ، و بقعة الزور ، و قرية الغرور تارة اخرى . هذا منتهى الرسالة المذكورة . ( 5 ) قال صدر المتألّهين قدّس سرّه في آخر الثاني من العاشر من رابع الأسفار : إنّي أعلم من المشتغلين بهذه الصناعة من كان رسوخه بحيث يعلم من أحوال الوجود امورا يقصر الأفهام الذكيّة عن إدراكها ، و لم يوجد مثلها في زبر المتقدّمين و المتأخرين من الحكماء ، و العلماء ، للّه الحمد و له الشكر . و لا يخفى على العارف بأساليب الكلمات أنه أراد بقوله هذا نفسه الشريفة و قال المتألّه السبزوارى رضوان اللّه عليه : و الحقّ معه ، و تحقيقاته الأنيقة أعدل شاهد على ما أفاده ، شكر اللّه مساعيه . ( 6 ) قال الشيخ الرئيس في آخر السابعة من ثامن طبيعيات الشفاء ( ص 417 ج 1 ) : حكي لي رجل بيابان دهستان يخدّر نفسه و نفخه الحيات و الأفاعى الّتي بها و هي قتّالة جدّا و الحيّات لا تنكأ فيه باللسع و لا تلسعه اختيارا ما لم يقسرها عليه ، فإن لسعته حية ماتت ، و حكي أنّ تنينا عظيما لسعته فماتت و عرض له حمّى يوم ، ثمّ إنّى لما حصلت بببيابان دهستان طلبته فلم يعش و خلف ولدا أعظم خاصيّة في هذا الباب منه ، فرأيت منه عجائب نسيت أكثرها و كان من جملتها أنّ الأفاعى تصد عن عزّه و يحتد عن نفسه و يخدّر في يده ، انتهى . [ 314 ] و هذه الأحوال الّتي سمعتها نزر يسير ممّا رأينا في الكتب المعتبرة من العجائب الصادرة عن النفس الناطقة الإنسانيّة ، على أنّ هؤلاء العظام ممّن لم يبلغوا رتبة النّبوة و الإمامة بل جلّهم لو لا الكلّ اقتبسوا من مشكاة نبىّ أو وصىّ نبيّ فما ظنّك بالفائز إلى الخلافة الالهيّة من الأنبياء و الأوصياء صلوات اللّه عليهم أجمعين . فلنأت بعدّة امور من مواعظ اللّه سبحانه و مواعظ رسوله و أهل بيته ممّا لا محيص عنها للسائر إلى اللّه تعالى فنقول : 1 القرآن الكريم صورة الإنسان الكامل الكتبيّة ، أعنى أنّه صورة الحقيقة المحمّدية صلى اللّه عليه و آله إنّ هذا القرآن يهدى للّتي هي أقوم ، لقد كان لكم في رسول اللّه اسوة حسنة ، فبقدر ما قربت منه قربت من الإنسان الكامل ، فانظر إلى حظك منه فإنّ حقائق آياته درجات ذاتك و مدارج عروجك ، و من وصيّة إمام الثقلين أبي الحسنين عليّ عليه السّلام لابنه محمّد ابن الحنفيّة رضى اللّه عنه كما رواه صدوق الطائفة المحقة في الفقيه ( الوافي ص 64 ج 14 ) : و عليك بتلاوة ( بقرائة خ ) القرآن و العمل به و لزوم فرائضه و شرائعه و حلاله و حرامه و أمره و نهيه و التهجّد به و تلاوته في ليلك و نهارك فإنّه عهد من اللّه تعالى إلى خلقه فهو واجب على كلّ مسلم أن ينظر في كلّ يوم في عهده و لو خمسين آية ، و اعلم أنّ درجات الجنّة على عدد آيات القرآن فإذا كان يوم القيامة يقال لقارى‏ء القرآن : اقرء و ارق ، فلا يكون في الجنّة بعد النبيّين و الصديقين أرفع درجة منه . و انظر بنور العقل و العلم إلى ما أفاضه ولىّ اللّه الأعظم في كلامه هذا فإنّ محاسنه و لطائفه فوق أن يحوم حولها العبارة . و قد روى علم الهدى الشريف المرتضى في الغرر و الدرر عن نافع عن أبي إسحاق الهجريّ عن أبي الأحوص عن عبد اللّه بن مسعود عن سيّد البشر صلى اللّه عليه و آله انه قال : إنّ هذا القرآن مأدبة اللّه ، فتعلّموا مأدبته ما استطعتم ، و إنّ أصفر البيوت [ 315 ] لجوف أصفر من كتاب اللّه تعالى ( المجلس 26 منه ، ص 354 ج 1 من طبع مصر ) قلت : تعبير القرآن بمأدبة اللّه تدرك حلاوته و لا توصف قال الشريف علم الهدى : المأدبة في كلام العرب هي الطعام يصنعه الرّجل و يدعو النّاس إليه فشبّه النّبي صلى اللّه عليه و آله ما يكتسبه الإنسان من خير القرآن و نفعه و عائدته عليه إذا قرأه و حفظ بما يناله المدعوّ من طعام الداعى و انتفاعه به ، يقال : قد أدب الرّجل يأدب فهو آدب إذا دعا الناس إلى طعامه ، و يقال للمأدبة : المدعاة ، و ذكر الأحمر أنه يقال فيها أيضا مأدبة بفتح الدال ، و قد روى هذا الحديث بفتح الدال « مأدبة » و قال الأحمر : المراد بهذه اللفظة مع الفتح هو المراد بها مع الضم . و قال غيره : المأدبة بفتح الدال مفعلة من الأدب ، معناه أنّ اللّه تعالى أنزل القرآن أدبا للخلق و تقويما لهم و إنما دخلت الهاء في مأدبة و مأدبة و القرآن مذكر لمعنى المبالغة كما قالوا هذا شراب مطيبة للنفس . و كما قال عنترة : و الكفر مخبثة لنفس المنعم ، انتهى ما أردنا من نقل كلامه قدّس سرّه . فيا إخوان الصفاء هلمّوا إلى مأدبة إلهية فيها ما تشتهى الأنفس و تلذّ الأعين و إلى مأدبة ليس وراءها أدب و مؤدّب و ماذا بعد الحقّ إلاّ الضّلال . و في فلاح السائل للسيّد الأجل ابن طاووس قدّس سرّه : فقد روى أنّ مولانا الصّادق عليه السّلام كان يتلو القرآن في صلاة فغشى عليه فلمّا أفاق سئل ما الّذي أوجب ما انتهت حالك إليه ؟ فقال عليه السّلام ما معناه : ما زلت اكرّر آيات القرآن حتّى بلغت إلى حال كأنّنى سمعتها مشافهة ممّن أنزلها على المكاشفة و العيان ، فلم تقم القوّة البشرية بمكاشفة الجلالة الالهيّة . و اعلم أنّ القرآن محيط لا نفاد له كيف لا و هو مجلى الفيض الإلهي و قد تقدّم في الرسالة عن الامامين الأوّل و السادس عليهما السّلام أنّ اللّه عزّ و جلّ تجلّى لخلقه في كلامه و لكن لا يبصرون . قال الطريحى رحمة اللّه عليه في مادّة جمع من مجمع البحرين : و في الحديث اعطيت جوامع الكلم ، يريد به القرآن الكريم لأنّ اللّه جمع بألفاظه اليسيرة المعاني الكثيرة حتّى روى عنه أنّه قال : ما من حرف [ 316 ] من حروف القرآن إلاّ و له سبعون ألف معنى ، انتهى . و قلت : إذا كان شكل واحد هندسي يعرف عند أهله بالشكل القطّاع يفيد « 497664 » أحكام هندسيّة كما برهن في محلّه فلا بعد أن يكون لكلّ حرف من القرآن سبعون ألف معنى . و يطلب الكلام في القطّاع في رسالتنا المعمولة في معرفة الوقت و القبلة . يا عباد الرّحمن هذه آيات آخر الفرقان من القرآن الفرقان لا تلكها بين فكّيك بل تدبّر فيها حقّ التدبّر فانّ كلّ آية منها دستور برأسه من عمل به فاز و نجا . « و عباد الرّحمن الّذين يمشون على الأرض هوناً و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً و الّذين يبيتون لربّهم سجّداً و قياماً و الّذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنّم إنَّ عذابها كان غراماً إنّها ساءت مستقرًّا و مقاماً و الّذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواماً و الّذين لا يدعون مع اللَّه إلهاً آخر و لا يقتلون النفس الّتي حرّم اللَّه إلاّ بالحقّ و لا يزنون و من يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيمة و يخلد فيه مهاناً إلاّ من تاب و آمن و عمل عملاً صالحاً فاُولئك يبدّل اللَّه سيئاتهم حسنات و كان اللَّه غفوراً رحيماً و من تاب و عمل صالحاً فإنّه يتوب إلى اللَّه متاباً و الّذين لا يشهدون الزور و إذا مرّوا باللّغو مرُّوا كراماً و الّذين إذا ذكّروا بآيات ربّهم لم يخرّوا عليها صمّا و عمياناً و الّذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا و ذرّياتنا قرّة اعين و اجعلنا للمتّقين إماماً اُولئك يجزون الغرفة بما صبروا و يلقّون فيها تحيّة و سلاماً خالدين فيها حسنت مستقرًّا و مقاماً قل ما يعبؤا بكم ربّى لو لا دعاؤكم فقد كذَّبتم فسوف يكون لزاماً » . 2 روى الديلمي رضوان اللّه عليه في الموضعين من كتابه إرشاد القلوب أحدهما في أواخر الباب الثالث عشر ، و ثانيهما في أواخر الباب العشرين عن النّبي صلى اللّه عليه و آله قال : قال اللّه تعالى : من أحدث و لم يتوضّأ فقد جفاني ، و من أحدث و توضّأ و لم يصلّ ركعتين فقد جفاني ، و من صلّى ركعتين و لم يدعنى فقد جفاني و من أحدث و توضّأ و صلّى ركعتين و دعانى فلم أجبه فيما يسأل من أمر دينه و دنياه [ 317 ] فقد جفوته و لست بربّ جاف . و اعلم يا حبيبى أنّ الوضوء نور و الدوام على الطهارة سبب لارتقائك إلى عالم القدس . و هذا الدّستور العظيم النفع مجرّب عند أهله جدّا فعليك بالمواظبة عليها ثمّ عليك بعلوّ الهمّة و كبر النفس فاذا صليت الركعتين فلا تسأله تبارك و تعالى إلاّ ما لا يبيد و لا ينفد و لا يفنى فلا تطلب منه إلاّ إيّاه و ليكن لسان حالك هكذا : ما از تو نداريم بغير از تو تمنّا حلوا بكسى ده كه محبّت نچشيده است فإنّ من ذاق حلاوة محبّته تعالى يجد دونها تفها ، على أنّ ما يطلب ممّا سواه كلّ واحد منها مظهر اسم من أسمائه فاذا وجد الأصل كانت فروعه حاضرة عنده ، و قلت في أبيات : چرا زاهد اندر هواى بهشت است چرا بيخبر از بهشت آفرين است ؟ و قال العارف المتألّه صدر الدين الدزفولى قدّس سرّه : خدايا زاهد از تو حور مى‏خواهد قصورش بين بجنّت مى‏گريزد از درت يا رب شعورش بين فاذا صلّيت فقل ساجدا : اللهمّ ارزقنى حلاوة ذكرك و لقاءك ، و الحضور عندك و نحوها . 3 قال عزّ من قائل : و كلوا و اشربوا و لا تسرفوا إنه لا يحبّ المسرفين ( الأعراف : 32 ) و اعلم حبيبى أنّ فضول الطعام يميت القلب بلا كلام ، و يفضى إلى جموح النفس و طغيانها ، و الجوع من أجلّ خصال المؤمن و نعم ما قال يحيى بن معاذ : لو تشفعت بملائكة سبع سماوات ، و بمائة ألف و أربعة و عشرين ألف نبىّ و بكلّ كتاب و حكمة و ولىّ على أن تصالحك النفس في ترك الدنيا و الدخول تحت الطاعة لم تجبك ، و لو تشفعت إليها بالجوع لأجابتك و انقادت لك ، نقل قوله هذا أبو طالب المكىّ في علم القلوب ص 215 من طبع مصر . في الكافي عن الإمام الصّادق عليه السّلام : إنّ البطن ليطغى من أكله ، أقرب ما يكون العبد من ربّه عزّ و جلّ إذا خفّ بطنه ، و أبغض ما يكون العبد إلى اللّه عزّ و جلّ إذا امتلأ بطنه . [ 318 ] 4 إيّاك و فضول الكلام فقد روى شيخ الطائفة الناجية في أماليه بإسناد عن عبد اللّه بن دينار عن أبي عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر اللّه قسو القلب إنّ أبعد النّاس من اللّه القلب القاسي ، و قد جعله الشّيخ قدّس سرّه الخبر الأوّل من كتابه الأمالي فلا بدّ في عمله هذا من عناية خاصّة في ذلك ، و قد رواه الكليني رضوان اللّه عليه في باب الصمت و حفظ اللسان من اصول الكافي ( ص 94 ج 2 من المعرب ) باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : كان المسيح عليه السّلام يقول : لا تكثروا إلى آخر الخبر . 5 و عليك بالمحاسبة ، ففي باب محاسبة العمل من اصول الكافي ( ص 328 ج 2 من المعرب ) بإسناده عن أبي الحسن الماضي صلوات اللّه عليه يعني الإمام الكاظم عليه السّلام قال : ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم ، فإن عمل حسنا استزاد اللّه ، و إن عمل سيّئا استغفر اللّه منه و تاب إليه . و في الفصل الخامس من الباب الثاني من مكارم الأخلاق في وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأبي ذر الغفاري رحمة اللّه عليه : يا أباذر لا يكون الرّجل من المتّقين حتّى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه ، فيعلم من أين مطعمه و من أين مشربه و من أين ملبسه أمن حلّ ذلك أم من حرام . 6 و المراقبة للّه تعالى ، و هي العمدة في الباب ، و هي مفتاح كلّ سعادة و مجلبة كلّ خير و هى خروج العبد عن حوله و قوّته مراقبا لمواهب الحق و متعرّضا لنفحات ألطافه و معرضا عمّا سواه ، و مستغرقا في بحر هواه و مشتاقا إلى لقائه ، و إليه قلبه يحنّ ولديه روحه يئنّ و به يستعين عليه و منه يستعين إليه حتّى يفتح اللّه له باب رحمة لا ممسك لها و يغلق عليه باب عذاب لا مفتّح له بنور ساطع من رحمة اللّه تعالى على النفس به يزول عنها في لحظة ما لا يزول بثلاثين سنة بالمجاهدات و الرياضات ، يبدّل اللّه سيّئاتهم حسنات ، للّذين أحسنوا الحسنى و زيادة و الزيادة حسنات ألطاف الحق ، و ذلك فضل اللّه يؤتيه ما يشاء . گدائى گردد از يك جذبه شاهى به يك لحظه دهد كوهى بكاهى [ 319 ] فعليك بالمراقبة ، و عليك بالمراقبة ، و عليك بالمراقبة ، ففي الباب التاسع و الثلاثين من إرشاد القلوب للديلمي رضوان اللّه عليه : قال اللّه تعالى : « و كان اللَّه على كلِّ شي‏ء رقيباً » ، و قال النّبي صلى اللّه عليه و آله لبعض أصحابه : اعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك ، و هذا إشارة إلى المراقبة لأنّ المراقبة علم العبد باطلاع الرب عليه في كلّ حالاته و ملاحظة الإنسان لهذا الحال هو المراقبة ، و أعظم مصالح العبد استحضاره مع عدد أنفاسه أنّ اللّه تعالى عليه رقيب و منه قريب ، يعلم أفعاله و يرى حركاته و يسمع أقواله و يطلع على أسراره و أنه ينقلب في قبضته و ناصيته و قلبه بيده و أنّه لا طاقة له على الستر عنه و لا على الخروج من سلطانه . قال لقمان لابنه : يا بنيّ إذا أردت أن تعصى اللّه فاطلب مكانا لا يراك فيه إشارة منه لأنّك لا تجد مكانا لا يراك فيه فلا تعصه و قال تعالى : و هو معكم أينما كنتم . و كان بعض العلماء يرفع شابّا على تلاميذه كلّهم فلاموه في ذلك فأعطى كلّ واحد منهم طيرا و قال : اذبحه في مكان لا يراك فيه أحد فجاءوا كلّهم بطيورهم و قد ذبحوها فجاء الشاب بطيره و هو غير مذبوح ، فقال له : لم لم تذبحه ؟ فقال : لقولك لا تذبحه إلاّ في موضع لا يراك فيه أحد ، و لا يكون مكان إلاّ يرانى الواحد الأحد الفرد الصمد ، فقال له : أحسنت ثمّ قال لهم : لهذا رفعته عليكم و ميزته منكم . و من علامات المراقبة إيثار ما آثر اللّه و تعظيم ما أعظم اللّه و تصغير ما صغّر اللّه فالرجاء يحثّك على الطاعات و الخوف يبعد عن المعاصى ، و المراقبة تؤدّى إلى طريق الحياء و تحمل على ملازمة الحقائق و المحاسبة على الدقائق ، و أفضل الطاعات مراقبة الحقّ سبحانه و تعالى على دوام الأوقات . و من سعادة المرء أن يلزم نفسه المحاسبة و المراقبة و سياسية نفسه باطّلاع اللّه و مشاهدته لها ، و أنّها لا تغيب عن نظره و لا تخرج عن علمه ، انتهى كلامه قدّس سرّه . قلت : و من آداب المراقب أن يراقب أعمال الأوقات من الشهور و الأيّام بل الساعات بل يواظب أن لا يهمل الانات و يكون على الدوام متعرضا لنفحات انسه [ 320 ] و نسائم قدسه كما قال صلّى اللّه عليه و آله : إنّ لربّكم في أيّام دهركم نفحات ألا فتعرّضوا لها و لا تعرضوا عنها ، و للعلم الاية المرزا جواد آقا الملكى التبريزى قدّس سرّه الشريف كتاب في مراقبات أعمال السنة و هو من أحسن ما صنع في هذا الأمر فعليك بالكتاب . و في خاتمة إرشاد القلوب فيما سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ربّه ليلة المعراج : يا أحمد هل تدرى أىّ عيش أهنى و أىّ حياة أبقى ؟ قال : اللهمّ لا ، قال : أمّا العيش الهنىّ فهو الّذي لا يفتر صاحبه عن ذكري و لا ينسى نعمتي و لا يجهل حقّي يطلب رضاى ليله و نهاره . و أمّا الحياة الباقية فهي الّتي يعمل لنفسه حتّى تهون عليه الدّنيا ، و تصغر في عينيه ، و تعظم الاخرة عنده ، و يؤثر هواى على هواه ، و يبتغى مرضاتي ، و يعظم حقّ عظمتي ، و يذكر علمي به و يراقبني بالليل و النهار كلّ سيئة و معصية ، و ينفى قلبه عن كلّ ما أكره ، و يبغض الشيطان و وساوسه ، و لا يجعل لإبليس على قلبه سلطانا و سبيلا ، فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبّا حتّى أجعل قلبه لي و فراغه و اشتغاله و همّه و حديثه من النعمة الّتي أنعمت بها على أهل محبّتي من خلقي ، و أفتح عين قلبه و سمعه حتّى يسمع بقلبه و ينظر بقلبه إلى جلالي و عظمتي و أضيق عليه الدّنيا ، و أبغض إليه ما فيها من اللّذات ، و أحذره من الدّنيا و ما فيها كما يحذر الراعي غنمه من مراتع الهلكة ، فإذا كان هكذا يفرّ من النّاس فرارا و ينقل من دار الفناء إلى دار البقاء و من دار الشيطان إلى دار الرحمن ، يا أحمد لازيّنه بالهيبة و العظمة فهذا هو العيش الهنيّ و الحياة الباقية ، و هذا مقام الراضين . فمن عمل برضاى الزمه ثلاث خصال : أعرفه شكرا لا يخالطه الجهل ، و ذكرا لا يخالطه النسيان ، و محبّة لا يؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين ، فإذا أحبّني أحببته و أفتح عين قلبه إلى جلالي فلا أخفى عليه خاصّة خلقي ، فاناجيه في ظلم اللّيل و نور النهار حتّى ينقطع حديثه من المخلوقين و مجالستهم معهم ، و اسمعه كلامه و كلام ملائكتي ، و اعرّفه السرّ الّذي سترته عن خلقي و البسه الحياء حتّى [ 321 ] يستحيى منه الخلق كلّهم ، و يمشي على الأرض مغفورا له ، و اجعل قلبه واعيا و بصيرا و لا يخفى عليه شي‏ء من جنّة و لا نار ، و اعرّفه بما يمرّ على الناس في يوم القيامة من الهول و الشدّة و ما احاسب به الأغنياء و الفقراء و الجهّال و العلماء و انوّر في قبره ، و انزل عليه منكرا و نكيرا حتّى يسألاه و لا يرى غمّ الموت و ظلمة القبر و اللحد و هول المطّلع حتّى أنصب له ميزانه و انشر له ديوانه ثمّ أضع كتابه في يمينه فيقرأه منشورا ثمّ لا أجعل بينى و بينه ترجمانا ، فهذه صفات المحبّين ، الحديث . فتأمّل يا مريد الطريق إلى اللّه تعالى في قوله عزّ و جلّ لحبيبه خاتم النبيين من الجوائز الكريمة الّتي أعدّها للمراقبين و الراضين و المحبّين و من تلك المواهب الجزيلة و العطايا النفيسة العزيزة اليتيمة الثمينة فتح عين القلب و قد ذكرها لعظم شرفها و علوّ رتبتها مرّتين . و نظير تلك المنح السنيّة ما وعد عباده في النوافل و الفرائض من القرب حيث قال تعالى : و ما يتقرّب إلىّ عبدى بشي‏ء أحبّ ممّا افترضت عليه ، و إنه ليتقرّب إلىّ بالنوافل حتّى احبّه فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به و بصره الّذي يبصر به ، و لسانه الّذي ينطق به ، و يده الّذي يبطش بها ، إن دعاني أجبته ، و إن سألني أعطيته . نقله العلاّمة الشّيخ البهائي في كتاب الأربعين ، و هو الحديث الخامس و الثلاثون منه ، بإسناده عن أبان بن تغلب عن الإمام جعفر بن محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام قال : لما أسرى بالنّبي صلى اللّه عليه و آله قال : يا ربّ ما حال المؤمن عندك ؟ قال : يا محمّد إلى قوله : و ما يتقرّب إلىّ عبدى الخ و قال قده : و هذا الحديث صحيح السند و هو من الأحاديث المشهورة بين الخاصّة و العامّة و قد رووه في صحاحهم بأدنى تغيير ، فراجع إليه . و قد رواه ثقة الإسلام الكليني قدّس سرّه في باب من أذى المسلمين و احتقرهم من أبواب الإيمان و الكفر ( ص 263 ج 2 من المعرب ) بطريقين ، و روى فيه [ 322 ] حديثا ثالثا يقرب منهما معنى ، هذا قرب النوافل الّذي يدور في ألسنة القوم أى القرب الّذي يحصل للعبد من النوافل ، و أما قرب الفرائض فقال عزّ و جلّ ما يتقرّب إلىّ عبدى بشي‏ء أحبّ إلىّ ممّا افترضته عليه و ما زال يتقرّب إلىّ عبدى بالفرائض حتّى إذا ما احبّه و إذا أحببته كان سمعي الّذي أسمع به ، و بصري الّذي أبصر به ، و يدى الّذي أبطش بها . فانظر إلى تفاوة القربين ففي الأوّل كان اللّه سمع العبد و بصره و لسانه و يده ، و في الثاني كان العبد سمع اللّه تعالى و بصره و يده ، فالواجبات أكثر ثوابا و أعلى مرتبة من المندوبات بتلك النسبة بين القربين . قال العلاّمة المحقّق نصير الدين محمّد الطوسي قدّس اللّه سرّه : العارف إذا انقطع عن نفسه و اتّصل بالحقّ رأى كلّ قدرة مستغرقة في قدرته المتعلقة بجميع المقدورات ، و كلّ علم مستغرقا في علمه الذي لا يعزب عنه شي‏ء من الموجودات و كلّ إرادة مستغرقة في إرادته الّتي لا يتأبّى عنها شي‏ء من الممكنات ، بل كلّ وجود و كلّ كمال وجود فهو صادر عنه ، فائض من لدنه فصار الحق حينئذ بصره الّذي به يبصر ، و سمعه الّذي به يسمع ، و قدرته الّتي بها يفعل ، و علمه الّذي به يعلم ، و وجوده الّذي به يوجد فصار العارف حينئذ متخلقا بأخلاق اللّه بالحقيقة . نقلنا كلامه من الرابعة من الرابعة من قرّة العيون للفيض رضوان اللّه عليه و في الثالثة من السابعة من ذلك الكتاب : قال بعض العارفين إذا تجلّى اللّه سبحانه بذاته لأحد يرى كلّ الذوات و الصفات و الأفعال متلاشية في أشعّة ذاته و صفاته و أفعاله يجد نفسه مع جميع المخلوقات كأنّها مدبّرة لها و هي أعضاؤها لا يلمّ بواحد منها شي‏ء إلاّ و يراه ملما به ، و يرى ذاته الذات الواحدة و صفته صفتها و فعله فعلها لاستهلاكه بالكليّة في عين التوحيد ، و لمّا انجذب بصيرة الروح إلى مشاهدة جمال الذات استتر نور العقل الفارق بين الأشياء في غلبة نور الذات القديمة و ارتفع التميز بين القدم و الحدوث لزهوق الباطل عند مجي‏ء الحقّ ، و يسمّى هذه الحالة جمعا ، و لصاحب [ 323 ] الجمع أن يضيف إلى نفسه كلّ أثر ظهر فى الوجود و كلّ صفة و فعل و اسم لانحصار الكلّ عنده في ذات واحدة فتارة يحكى عن هذا و تارة عن حال ذاك و لا نعنى بقولنا قال فلان بلسان الجمع إلاّ هذا . عشق بگرفت مرا از من و بنشست بجاى سيّآتم ستدند و حسناتم دادند ثمّ قال الفيض بعد نقل كلام هذا العارف : و لعلّ هذا هو السرّ في صدور بعض الكلمات الغريبة من مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة البيان و غيرها كقوله عليه السّلام : أنا آدم الأوّل ، أنا نوح الأوّل ، أنا آية الجبار ، أنا حقيقة الأسرار ، أنا مورق الأشجار ، أنا مونع الثمار ، أنا مجري الأنهار إلى أن قال عليه السّلام : أنا ذلك النور الّذي اقتبس موسى منه الهدى ، أنا صاحب الصور ، أنا مخرج من في القبور أنا صاحب يوم النشور ، أنا صاحب نوح و منجيه ، أنا صاحب أيوب المبتلى و شافيه أنا أقمت السماوات بأمر ربّى إلى آخر ما قال من أمثال ذلك صلوات اللّه و سلامه عليه . و قد أجاد في المقام العالم العارف الشهير داود بن محمود القيصري في الفصل الثامن من مقدّماته على شرح فصوص الحكم في أنّ العالم هو صورة الحقيقة الإنسانية بقوله : إنّ الإسم اللّه مشتمل على جميع الأسماء و هو متجلّ فيها بحسب مراتبه فلهذا الإسم الإلهى بالنسبة إلى غيره من الأسماء اعتباران : اعتبار ظهور ذاته في كلّ واحد من الأسماء ، و اعتبار اشتماله عليها كلّها من حيث المرتبة الإلهية . فبالأوّل يكون مظاهرها كلّها مظهر هذا الإسم الأعظم لأنّ الظاهر و المظهر في الوجود شي‏ء واحد لا كثرة فيه و لا تعدّد و في العقل يمتاز كلّ منهما عن الاخر كما يقول أهل النظر بأنّ الوجود عين المهية في الخارج و غيره في العقل فيكون اشتماله عليها اشتمال الحقيقة الواحدة على أفرادها المتنوّعة . و بالثاني يكون مشتملا عليها من حيث المرتبة الالهيّة اشتمال الكلّ المجموعي على الأجزاء الّتي هي عينه بالاعتبار الأوّل . [ 324 ] و إذا علمت هذا علمت أنّ حقائق العالم في العلم و العين كلّها مظاهر للحقيقة الإنسانية الّتي هي مظهر للإسم اللّه فأرواحها أيضا كلّها جزئيات الروح الأعظم الإنساني سواء كان روحا فلكيّا أو عنصريا أو حيوانيا و صورها صور تلك الحقيقة و لوازمها لوازمها لذلك يسمى العالم المفصّل بالإنسان الكبير عند أهل اللّه لظهور الحقيقة الانسانيّة و لوازمها فيه ، و لهذا الاشتمال و ظهور الأسرار الإلهيّة كلّها فيها دون غيرها استحقّت الخلافة من بين الحقائق كلّها و للّه درّ القائل : سبحان من أظهر ناسوته إلى آخر البيتين المذكورين آنفا . فأوّل ظهورها في صورة العقل الأوّل الّذي هو صورة إجمالية للمرتبة العمائيّة المشار إليها في الحديث الصحيح عند سؤال الأعرابي أين كان ربّنا قبل أن يخلق الخلق ؟ قال عليه السّلام : كان في عماء ما فوقه هواء و لا تحته هواء ، لذلك قال عليه السّلام : أوّل ما خلق اللّه نوري ، و أراد العقل كما أيّده بقوله : أوّل ما خلق اللّه العقل ثمّ في صورة باقي العقول و النفوس الناطقة الفلكية و غيرها ، و في صورة الطبيعة و الهيوا الكلّيّة و الصورة الجسميّة البسيطة و المركّبة بأجمعها . و يؤيّد ما ذكرنا قول أمير المؤمنين وليّ اللّه في الأرضين قطب الموحّدين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في خطبة كان يخطبها للنّاس : أنا نقطة باء بسم اللّه ، أنا جنب اللّه الّذي فرطتم فيه ، و أنا القلم ، و أنا اللّوح المحفوظ ، و أنا العرش ، و أنا الكرسي ، و أنا السماوات السّبع و الأرضون ، إلى أن صحافي أثناء الخطبة و ارتفع عنه حكم تجلّي الوحدة و رجع إلى عالم البشريّة ، و تجلّى له الحقّ بحكم الكثرة فشرع معتذرا فأقرّ بعبوديّته و ضعفه و انقهاره تحت أحكام الأسماء الإلهيّة . و لذلك قيل : الانسان الكامل لا بدّ أن يسرى في جميع الموجودات كسريان الحق فيها ، و ذلك في السفر الثالث الّذي من الحق إلى الخلق بالحق ، و عند هذا السفر يتمّ كماله و به يحصل له حق اليقين . و من ههنا يتبين أنّ الاخريّة هي عين الأوّليّة ، و يظهر سرّ هو الأوّل و الاخر و الظاهر و الباطن و هو بكلّ شي‏ء عليم . [ 325 ] قال الشّيخ رضى اللّه عنه في فتوحاته في بيان المقام القطبى : إنّ الكامل الّذي أراد اللّه أن يكون قطب العالم و خليفة اللّه فيه إذا وصل إلى العناصر مثلا متنزلا في السفر الثالث ينبغي أن يشاهد جميع ما يريد أن يدخل في الوجود من الأفراد الإنسانيّة إلى يوم القيامة و بذلك الشهود أيضا لا يستحق المقام حتّى يعلم مراتبهم أيضا فسبحان من دبّر كلّ شي‏ء بحكمته ، و أتقن كلّ ما صنع برحمته ، انتهى كلام القيصري . 7 الأدب مع اللّه تعالى في كلّ حال ، و قد كان بعض مشايخى و هو العالم المتنزّه المتألّه و الحكيم العارف الموّحد البارع الاية السيّد محمّد حسن القاضى الطباطبائى التبريزى الشهير بالإلهى أعلى اللّه تعالى مقاماته و رفع درجاته و جزاه عنّى خير جزاء المعلّمين كثيرا ما يوصينى فيما يوصى بالمراقبة للّه تعالى ، و الأدب معه ، و محاسبة النفس لا سيّما بالأولى منها ، و لا أنسى نفحات أنفاسه الشريفة و بركات فيوضاته المنيفة . قال عيسى روح اللّه و كلمته عليه السّلام : لا تقولوا العلم في السماء من يصعد فيأتي به ، و لا في تخوم الأرض من ينزل فيأتي به ، العلم مجهول في قلوبكم تأدّبوا بين يدى اللّه بآداب الروحانيين ، و تخلّقوا بأخلاق الصديقين ، يظهر من قلوبكم حتّى يعطيكم و يغمركم . قال الإمام الجواد عليه السّلام كما في الباب 49 من إرشاد القلوب للديلمي في الأدب مع اللّه تعالى : ما اجتمع رجلان إلاّ كان أفضلهما عند اللّه آدبهما فقيل : يا ابن رسول اللّه قد عرفنا فضله عند الناس فما فضله عند اللّه ؟ فقال بقراءة القرآن كما انزل ، و يروى حديثنا كما قلنا ، و يدعو اللّه مغرما . و في ذلك الباب : قد روى أنّ اللّه تعالى يقول فى بعض كتبه : عبدى أمن الجميل أن تناجينى و تلتفت يمينا و شمالا و يكلّمك عبد مثلك تلتفت إليه و تدعنى ؟ و ترى من أدبك إذا كنت تحدث أخالك لا تلتفت إلى غيره فتعطيه من الأدب ما لم تعطنى فبئس العبد عبد يكون كذلك . [ 326 ] و فيه أيضا : روى أنّ النّبي صلى اللّه عليه و آله خرج إلى غنم له و راعيها عريان يفلى ثيابه فلمّا رآه مقبلا لبسها ، فقال النّبي صلى اللّه عليه و آله : امض فلا حاجة لنا في رعايتك ، فقال إنا أهل بيت لا نستخدم من لا يتأدّب مع اللّه و لا يستحيى منه في خلوته . و الأدب مع اللّه بالإقتداء بآدابه و آداب نبيّه صلى اللّه عليه و آله و أهل بيته عليهم السّلام و هو العمل بطاعته و الحمد للّه على السرّاء و الضّراء و الصبر على البلاء و لهذا قال أيوب ربّ إنّي مسّنى الضرّ و أنت أرحم الراحمين ، فقد تأدّب هنا من وجهين أحدهما أنه لم يقل انك أمسستنى بالضرّ ، و الاخر لم يقل ارحمني بل عرض تعريضا فقال : و أنت أرحم الراحمين و انما فعل ذلك حفظا لمرتبة الصبر . و كذا قال إبراهيم عليه السّلام : و إذا مرضت فهو يشفين ، و لم يقل إذا مرضتنى حفظا للأدب . و قال أيوب عليه السّلام في موضع آخر : إنّي مسّنى الشيطان بنصب و عذاب ، أشار بذلك إلى الشيطان لأنّه كان يغري النّاس فيؤذونه و كل ذلك تأدّب منهم مع اللّه تعالى في مخاطبتهم . قلت : و تأدّب آدم و زوجه عليهما السّلام بقولهما : ربّنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكوننّ من الخاسرين ، و ترك ابليس الأدب معه تعالى بقوله : فبما أغويتنى لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم . 8 و العزلة ، قال الإمام الصّادق عليه السّلام : صاحب العزلة متحصّن بحصن اللّه تعالى و متحرّس بحراسته ، فيا طوبي لمن تفرّد به سرا و علانيّة ، و في العزلة صيانة الجوارح و فراغ القلب و سلامة العيش و كسر سلاح الشيطان و المجانبة من كلّ سوء و راحة ، و ما من نبىّ و لا وصىّ إلاّ و اختار العزلة في زمانه إما في ابتدائه و إما في انتهائه نقلناه من مصباح الشريعة . و في كشكول العلاّمة البهائي ( ص 155 من طبع نجم الدوله ) عن سفيان الثوري قال : سمعت الصّادق جعفر بن محمّد يقول : عزّت السلامة حتّى لقد خفي مطلبها فإن تكن في شي‏ء فيوشك أن تكون في الخمول ، فإن لم توجد في الخمول [ 327 ] فيوشك أن تكون في التخلّي و ليس كالخمول ، و إن لم تكن في التخلّي فيوشك أن تكون في الصمت و ليس كالتخلّي ، و إن لم توجد في الصمت فيوشك أن يكون في كلام السلف الصالح ، و السعيد من وجد في نفسه خلوة . و تأمّل في قوله تعالى : و اذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقيّاً فاتّخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً ( مريم 18 ) ، و العزلة هي الخروج عن مخالطة الخلق بالإنزواء و الإنقطاع و أصلها عزل الحواس بالخلوة عن التصرف في المحسوسات فإنّ كلّ آفة و فتنة و بلاء ابتلى الروح بها دخلت فيه بروازن الحواس فبالخلوة و عزل الحواس ينقطع مدد النفس عن الدنيا و الشيطان و إعانة الهوى و الشيطان . 9 و التهجّد ، قال اللّه تعالى : و من الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربّك مقاماً محموداً و قل ربِّ أدخلنى مدخل صدق و أخرجنى مخرج صدق و اجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً ( الأسراء 81 ) ، و قال تعالى : إنّ المتقين في جنات و عيون آخذين ما آتاهم ربّهم إنّهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون و بالأسحارهم يستغفرون ( الذاريات 18 ) ، و قال تعالى : يا ايّها المزمل قم الليل إلاّ قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه و رتّل القرآن ترتيلاً إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً إنّ ناشئة الليل هي أشدّ وطاءً و أقوم قيلاً إنَّ لك في النّهار سبحاً طويلاً و اذكر اسم ربّك و تبتّل إليه تبتيلاً ، و قال تعالى : و اذكر اسم ربّك بكرة و أصيلا و من الليل فاسجد له و سبّحه ليلاً طويلاً إنّ هؤلاء يحبّون العاجلة و يذرون وراءهم يوماً ثقيلاً ( الانسان 28 ) . و روى الشّيخ الصدوق قدّس سرّه في باب معنى التوحيد و العدل من كتاب التوحيد ( ص 84 ) عن سلمان الفارسي رحمه اللّه تعالى انّه أتاه رجل فقال : يا أبا عبد اللّه إنّي لا أقوى على الصلاة بالليل ، فقال : لا تعص اللّه بالنهار ، و فيه أيضا : جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال : يا أمير المؤمنين إنّى قد حرمت الصلاة بالليل ، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام : أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك . [ 328 ] و روى الكليني قده في باب الذنوب من كتاب الايمان و الكفر ( ص 290 ج 2 من المعرب ) بإسناده عن ابن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : إنّ الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل و إنّ العمل السيئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم . روى الشّيخ الصدوق رضوان اللّه عليه في الأمالي بإسناده عن المفضل قال : سمعت مولاى الصّادق عليه السّلام يقول : كان فيما ناجى اللّه عزّ و جلّ به موسى بن عمران أن قال له : يا ابن عمران كذب من زعم أنه يحبّنى فاذا جنّه الليل نام عنّى أليس كلّ محبّ يحبّ خلوة حبيبه ؟ ها أنا ذايا ابن عمران مطّلع على أحبّائي إذا جنّهم الليل حوّلت أبصارهم من قلوبهم ، و مثّلت عقوبتى بين أعينهم يخاطبونى عن المشاهدة و يكلّموني عن الحضور ، يا ابن عمران هب لي من قلبك الخشوع و من بدنك الخضوع ، و من عينيك ( عينك خ ل ) الدّموع في ظلم الليل و ادعنى فإنك تجدني قريبا مجيبا . 10 و التفكّر ، قال تعالى : الّذين يذكرون اللَّه قياماً و قعوداً و على جنوبهم و يتفكّرون في خلق السموات و الأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار ( آل عمران : 192 ) ، و روى الكليني في الكافي ( ج 2 ص 45 من المعرب ) عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : أفضل العبادة إدمان التفكّر في اللّه و في قدرته ، و روى عن معمّر بن خلاّد قال : سمعت الرضا عليه السّلام يقول : ليس العبادة كثرة الصلاة و الصوم ، إنما العبادة التفكّر في أمر اللّه عزّ و جلّ ، و روى عن ربعى قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام : قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه : إنّ التفكّر يدعو إلى البرّ و العمل به . و روى العلاّمة البهائى في الحديث الثاني من كتابه الأربعين باسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : من عرف اللّه و عظّمه منع فاه من الكلام ، و بطنه من الطعام ، و عنى نفسه بالصيام و القيام ، قالوا : بآبائنا و امّهاتنا يا رسول اللّه هؤلاء أولياء اللّه ؟ قال : إنّ أولياء اللّه سكتوا فكان سكوتهم فكرا و تكلّموا فكان كلامهم ذكرا ، و نظروا فكان نظرهم عبرة ، و نطقوا فكان نطقهم حكمة ، و مشوا فكان مشيهم بين الناس بركة ، لو لا الاجال الّتي قد كتبت عليهم لم [ 329 ] تستقرّ أرواحهم في أجسادهم خوفا من العذاب و شوقا إلى الثواب ، و رواه ثقة الإسلام الكلينى في الكافي بأدنى تفاوت ( الحديث 25 من باب المؤمن و علاماته و صفاته من كتاب الإيمان و الكفر : ص 186 ج 2 ) . 11 و ذكر اللّه تعالى في كل حال قلبا و لسانا قال تعالى : و اذكر ربّك في نفسك تضرّعاً و خيفةً و دون الجهر من القول بالغدوّ و الاصال و لا تكن من الغافلين إنَّ الّذين عند ربّك لا يستكبرون عن عبادته و يسبّحونه و له يسجدون ( آخر الأعراف ) . و روى عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال : ارتعوا في رياض الجنّة ، فقالوا : و ما رياض الجنّة ؟ فقال : الذكر غدوّا و رواحا فاذكروا ، و من كان يحبّ أن يعلم منزلته عند اللّه فلينظر كيف منزلة اللّه عنده فانّ اللّه تعالى ينزل العبد حيث أنزل اللّه العبد من نفسه ، ألا إنّ خير أعمالكم و أزكاها عند مليككم و أرفعها عند ربّكم في درجاتكم و خير ما طلعت عليه الشمس ذكر اللّه سبحانه و تعالى أخبر عن نفسه فقال : أنا جليس من ذكرني ، و أيّ منزلة أرفع من منزلة جليس اللّه تعالى . ( الباب الثالث عشر من إرشاد القلوب للديلمي ) . و في كتاب الدّعاء من الكافي : فيما ناجى اللّه تعالى به موسى عليه السّلام قال : يا موسى لا تنسني على كلّ حال فإنّ نسياني يميت القلب ( ص 361 ج 2 ) . و فيه أيضا قال اللّه عزّ و جلّ لعيسى عليه السّلام : يا عيسى اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي و اذكرني في ملإك [ ملئي خ ل ] اذكرك في ملإ خير من ملإ الادميّين يا عيسى ألن لي قلبك و أكثر ذكرى في الخلوات ، و اعلم أنّ سروري أن تبصبص إليّ و كن في ذلك حيّا و لا تكن ميّتا . ( ص 364 ج 2 ) . و في الباب الأوّل من توحيد الصّدوق رحمة اللّه عليه : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ما قلت و لا قال القائلون قبلي مثل لا إله إلاّ اللّه . و فيه أيضا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : خير العبادة قول لا إله إلاّ اللّه . و فيه أيضا قال أبو عبد اللّه عليه السّلام : قول لا إله إلاّ اللّه ثمن الجنّة . [ 330 ] و فيه أيضا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : يقول اللّه جلّ جلاله : لا إله إلاّ اللّه حصني فمن دخله أمن من عذابي . و فيه أيضا عن زيد بن أرقم عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله ، و كذا بإسناده عن محمّد بن حمران ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام : من قال لا إله إلاّ اللّه مخلصا دخل الجنّة و إخلاصه أن يحجزه لا إله إلاّ اللّه عمّا حرّم اللّه عزّ و جلّ . و الذكر هو الخروج عن ذكر ما سوى اللّه بالنسيان عن غيره ، و كلمة لا إله إلاّ اللّه ذكر معجون مركّب من النفى و الإثبات فبالنفى تزول الموادة الفاسدة الّتي يتولّد منها مرض القلب و قيود الروح ، و باثبات إلاّ اللّه تحصل صحّة القلب و سلامته عن الرذائل من الأخلاق . 12 و الرياضة في طريقى العلم و العمل على النهج الّذي قرّره الشريعة المحمّديّة صلى اللّه عليه و آله فحسب ، فدونها لا يوجب إلاّ بعدا و ماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال لما قد دريت آنفا أنّ هذا القرآن يهدى للّتي هي أقوم ، و اعلم أنّ العلم و العمل بمنزلة جناحين للإنسان و لولاهما لما يقدر على الطيران إلى أوج الكمال و العروج إلى المعارج . و النفس بالاعتبار الأوّل تسمّى نظرية و بالاعتبار الثانى عمليّة توضيحه أنّ لها باعتبار تأثّرها عمّا فوقها من المبادي باستفاضتها عنها ما تتكمّل به من التعقلات قوّة تسمّى نظرية ، و لها أربع مراتب ، و أنّ لها باعتبار تأثيرها في البدن لتفيد جوهره كمالا تأثيرا اختياريا قوّة اخرى تسمّى عمليّة و لها أيضا أربع مراتب ، على أنّ هذا الكمال الّذي يحصل للبدن بسببها في الحقيقة تعود إليها لأنّ البدن آلة لها في تحصيل العلم و العمل . أما مراتب القوّة النظرية فلأنّ النفس في مبدء الفطرة خالية عن العلوم كلّها لكنّها مستعدّة لها و إلاّ لامتنع اتّصافها بها و حينئذ تسمّى عقلا هيولانيا تشبيها لها بالهيولى الخالية في نفسها عن جميع الصور القابلة إيّاها ، ثمّ إذا استعملت آلاتها أعنى الحواسّ الظاهرة و الباطنة حصل لها علوم أوّليّة و استعدّت لاكتساب النظريات [ 331 ] و حينئذ تسمّى عقلا بالملكة لأنّها حصلت لها بسبب تلك الأوليات ملكة الإنتقال إلى النظريات ، ثمّ رتّبت العلوم الأولية و أدركت النظريات و حصلت لها ملكة الاستحضار بحيث تستحضرها متى شاءت من غير كسب جديد لأجل تكرار الاكتساب لكن لا تشاهدها بالفعل بل صارت مخزونة عندها فهو العقل بالفعل لحصول قدرة الاستحضار للنفس بالفعل و إذا استحضرت العلوم مشاهدة إيّاها تسمّى عقلا مستفادا لأنّ النفس الانسانيّة في آخر المراتب تصير عقلا لكن لا فعّالا للكمالات بل عقلا منفعلا بحسب قبول الكمالات من العقل الفعّال . و أما مراتب القوّة العمليّة فاوليها تهذيب الظاهر باستعمال الشرايع النّبوية و النواميس الالهيّة ، و هذه المرتبة تسمّى عندهم التجلية بالجيم ، و بعبارة واضحة التجلية أن تورد النفس قواها و أعضائها بالمراقبة الكاملة تحت انقياد الأحكام الشرعيّة و النواميس الالهية و إطاعتها فتطيع أوامر الشرع و تجتنب عن المناهي حتّى يظهر آثار الطهارة الظاهرية في الظاهر أعنى البدن ، و يحصل للنفس أيضا على التدريج ملكة التسليم و الانقياد للسلوك إلى طريق الحقّ تعالى و المتكفّل لحصول هذه المرتبة هو علم الفقه على الطريقة الحقّة الجعفريّة ليس إلاّ . و ثانيها تهذيب الباطن عن الملكات الرديّة و نفض آثار شواغله عن عالم الغيب و تسمّى هذه المرتبة التّخلية بالخاء ، و بعبارة اخرى التّخلية أن يعرض النفس عن المضار الاجتماعية و الانفرادية و مفاسدهما يحذر من عواقبهما الوخيمة دنيوية و اخرويّة كالحسد و الحرص و الكبر و العجب و غيرها من الأخلاق الرذيلة المبيّنة في الكتب الأخلاقيّة ، و رفض تلك الرذائل عن النفس بمنزلة علاج البدن من الأمراض الجسمانية ، و شرب المسهل و الدواء لقلعها فكما أنّ الجسم ما كان مريضا لم ينفعه غذاء طيّب مقوّ و على الطبيب أن يداوى الجسم و يعالجه أوّلا ثمّ يقوّيه بالأغذية المقويّة كذلك الأمراض الروحيّة أعنى تلك الرذائل الأخلاقيّة ما لم يقلع من النفس و لم يسلم النفس منها لم ينفعه الملكات الفاضلة . [ 332 ] و ثالثها ما يحصل بعد اتصالها بعالم الغيب و هو تحلّى النفس بالصور القدسية و تسمّى هذه المرتبة التّحلية بالحاء المهملة ، و بعبارة اخرى التّحلية أن تتحلّى النفس بعد حصول التخليه بحلىّ الأخلاق الحميدة و الملكات الفاضلة الجميلة ممّا هي في نظام الاجتماع و رشد الفرد و تكامله مؤثر جدّا فالتحلية طهارة معنوية و ما لم يتحقّق هذه الطهارة للانسان فهو ليس بطاهر حقيقة و إن كان ظاهره متّصفا بالطهارة و اتّصاف النّفس بها بمنزلة تقوية المريض بالأغذية المقويّة بعد خلاصه من الأمراض . و رابعتها ما يتجلّى له عقيب ملكة الإتّصال و الإنفصال عن نفسه بالكلّية و هو ملاحظة جمال اللّه و جلاله و قصر النظر على كماله حتّى يرى كلّ قدرة مضمحلّة جنب قدرته الكاملة ، و كلّ علم مستغرقا في علمه الشامل بل كلّ وجود فائضا من جنابه ، و تسمّى هذه المرتبة بالفناء في الحقّ ، رزقنا اللّه و جميع المؤمنين تلك النعمة العظمى و بلغنا إلى تلك الغاية القصوى ، و له أيضا ثلاث مراتب : محو و طمس و محق المحو ، فناء أفعال العبد في فعل الحقّ ، و الطمس ، فناء صفاته في صفات الحقّ و المحق ، فناء وجوده في ذات الحق ، ففي الأوّل لا يرى في الوجود فعلا لشي‏ء إلاّ للحق ، و في الثاني لا يرى لشي‏ء من الوجود صفة إلاّ للحقّ ، و في الثالث لا يرى وجودا لشي‏ء إلاّ للحقّ ، و الفناء قسمان : فناء استهلاك كفناء أنوار الكواكب في نور الشمس ، و حينئذ يبقى عين الفاني و ذاته و يرتفع حكم إنّيته ، و فناء هلاك كفناء الأمواج عند سكون البحر ، و حينئذ يزول الفاني و يرتفع عينه و لا يبقى أثره . و نزيدك بيانا و نقول : غبّ ما حصلت المراتب الثلاثة التجلية و التخلية و التحلية للسالك تحصل له ببركة الطهارة و الصفاء ، جاذبة المحبّة و العشق إلى جناب الحقّ جلّ جلاله فتصير محبّا لما هو كمال له حقيقة من الحضور دائما عنده تعالى و عبادته و الخلوة معه و الانس به ، و ذكره قلبا و لسانا ، فتوجب تلك الأحوال تشديد المحبّة تدريجا و اشتعال نار المحبّة يسيرا يسيرا حتّى يذهل عن نفسه [ 333 ] و لا يرى إلاّ هو ، و يبلغ بحق اليقين إلى أنّه تعالى هو الأوّل و الاخر و الظّاهر و الباطن ، و إلى أنه هو الظاهر لا غير ، و أنّ الظاهر هو لا غير ، و إلى أنّ الباطن هو الظاهر ، و أنّ الأوّل هو الاخر و الاخر هو الأوّل ، و الكلّ تحت اسم الظاهر تدوينا و تكوينا لفظا و عينا ، و هذه الحالة للعارف تسمّى بالفناء في اللّه فالفناء ملاحظة جمال اللّه و جلاله و قصر النظر على كماله . و للفناء ثلاث درجات : الاولى ، الفناء في الأفعال فيرى العارف في هذه الدرجة المؤثّرات و المبادي و الأسباب و العلل من المجرّدات و المادّيات و من الطبيعيّات و الإراديّات باطلة بلا أثر ، ألا كلّ شي‏ء ما خلا اللّه باطل ، و لا يرى مؤثّرا إلاّ الحقّ جلّ جلاله و لا يرى قدرة عاملة و لا إرادة نافذة في الكائنات إلاّ قدرته و إرادته ، فيشهد ذاتا غير متناهية ، و إرادة و قدرة غير متناهيتين حاكمة على الجميع ، و عنت الوجوه للحىّ القيّوم ، فيرى بعين الشهود بلا شوب ريب حقيقة الكريمة : و ما رميت إذ رميت و لكنّ اللّه رمى ، فيكون لسان حاله مترنّما بمقال لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه ، بلا شائبة خيال و وهم بل بعين بصيرة و قلب مستيقظ نبيه ، و في هذا المقام يحصل له اليأس عمّا سواه تعالى و الرجاء الواثق التامّ إليه تعالى ، و يساوى عنده بل يتّحد قدرة أعظم ملوك الأرض و قدرة أخسّ ذوى النفوس كالبقّ مثلا ، و هذه الدرجة تسمّى بالمحو و إليه أشار صاحب المثنوي بقوله : اين سببها بر نظرها پرده‏ها است كه نه هر ديدار صنعش را سزا است ديده‏اى بايد سبب سوراخ كن تا حجب را بر كند از بيخ و بن تا مسبّب بيند اندر لا مكان هرزه بيند جهد و أسباب دكان و الثانية ، الفناء في الصفات ، فيرى العارف في هذه الدرجة جميع أسمائه تعالى و صفاته من صفات اللطف كالرحمن و الرّحيم و الرّازق و المنعم ، و صفات القهر كالقهّار و المنتقم مستهلكة في غيب الذات الأحديّة ، و لا يرى إلاّ الذات [ 334 ] الأحديّة و لا يرى تعيّنا ، و حينئذ يرتفع اختلاف المظاهر كالجبرئيل و العزرائيل و موسى و فرعون من عين صاحب هذا المقام ، و يتّحد عنده و لا يتفاوت له اللطف و القهر و البسط و الغضب و العطاء و المنع و الجنّة و النّار و الصحّة و المرض و الفقر و الغنى و العزّة و الذلّة ، و إلى هذه المرحلة أشار العارف المصقع بقوله : گر وعده دوزخ است و يا خلد غم مدار بيرون نمى‏برند تو را از ديار دوست و هذه الدرجة تسمّى بالطمس . و اعلم أنّ صفاته تعالى إما ايجابيّة و إما سلبيّة و يقال لنعوته الإيجابيّة لكونها وجودية جماله تعالى ، و لنعوته السلبيّة صفات الجلال لتجليله بأنّه المترفّع عن التركيب و الجوهرية و العرضيّة و الجسميّة و يقال : انّه ليس بمركب و ليس بعرض و ليس بجسم و ليس له ماهية و نحوها فلزم أن لا يكون مرئيا و مشاهدا بل و لا مدركا و لذا نسب الإحتجاب إلى صفة الجلال كما قيل : جمالك في كلّ الحقائق سائر و ليس له إلاّ جلالك ساتر و قال المتأله السبزوارى قدّس سرّه : پرده ندارد جمال غير صفات جلال نيست بر اين رخ نقاب نيست بر اين مغز پوست و الصفات الجمالية و الجلاليّة يقال بمعنى آخر أيضا قال القيصري في الفصل الثاني من مقدماته على شرح الفصوص : انّ ذاته تعالى اقتضت بحسب مراتب الالوهيّة و الربوبيّة صفات متعددة متقابلة كاللطف و القهر و الرحمة و الغضب و الرضا و السخط و غيرها و تجمعها النعوت الجمالية و الجلالية إذ كلّ ما يتعلق باللطف فهو الجمال ، و ما يتعلق بالقهر فهو الجلال . و لكلّ جمال أيضا جلال كالهيمان الحاصل من الجمال الإلهى فإنّه عبارة عن انقهار العقل منه و تحيّره فيه ، و لكلّ جلال جمال و هو اللطف المستور في القهر الإلهى كما قال اللّه تعالى : و لكم في القصاص حيوة يا اُولى الألباب ، و قال أمير المؤمنين عليه السّلام : سبحان من اتّسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته ، و اشتدّت نقمته لأعدائه في سعة رحمته ، و من هنا يعلم سرّ قوله عليه السّلام : حفّت الجنّة بالمكاره [ 335 ] و حفّت النار بالشهوات ، انتهى كلام القيصري . و الثالثة الفناء في الذات ، و العارف في هذا المقام يرى جميع أنواع الكائنات المختلفة متّحدة كما أنّ الجاهل يحسبها متكثرة ، إذ تعيّن كلّ واحد منها كالملك و الفلك و الإنسان و الحيوان و الأشجار و المعادن أو همه إلى الكثرة فظنّ أنها متبدّدة متعدّدة و لكن العارف في ذلك المشهد العظيم يشاهد من عرش التجرد الأعلى إلى مركز التراب بصورة نجارستان انتقش بقلم التجلّي على جدرانه و سقفه و على جميع ما في ذلك النجارستان عكوس علمه تعالى و قدرته و حياته و رحمته ، و نقوش لطفه و قهره ، و أشعة جماله و جلاله ، و يشاهد جميع ما في دار الوجود من برّها و بحرها و عاليها و دانيها و مجرّدها و مادّيها متّصلا بعضها ببعض و مرتبطا أحدها بآخر و منضما هذا بذاك كهيكل انسان واحد مثلا ، يخبر الجميع بنغمة موزونة واحدة عن عظمة العالم الربوبىّ ، و في هذا المقام يتحقّق بحقيقة التوحيد و كلمة لا إله إلاّ اللّه الطيّبة ، قائلا بلسان الحقيقة يا هو يا من ليس إلاّ هو ، فإذن لا يبقى له و لا للممكنات الاخرى هويّة ، بل هويّة الكلّ مضمحلّ و متلاش في تجلّى حقيقة الحقّ سبحانه ، لمن الملك اليوم للّه الواحد القهّار ، و تسمّى هذه الدرجة بالمحق . و ما حرّرنا في مراتب القوّة العمليّة نبذة من إفاضات مولانا المكرّم و رشحة من فيوضات استاذنا العليم ، الاية العظمى الميرزا أبي الحسن الرفيعي القزويني متّع اللّه تعالى المسلمين بطول بقائه و أدام أيام افاداته مع بعض إفاضات منّا مزيدا للإيضاح ، و الحمد للّه باسط الرزق فالق الإصباح . و اعلم أنّ الطهارة الحقيقيّة للنفس إنما هي حاصلة في الثالثة من الدرجات لأنّها تطهير النفس عمّا عداه تعالى ، قد أفلح من زكّيها . و أنّ لسان الغيب الخواجه شمس الدّين الحافظ قدّس سرّه أشار في بيته : ساقى حديث سرو و گل و لاله ميرود اين بحث با ثلاثة غسّاله ميرود إلى هذه الدرجات الثلاث فعبّرها بالثلاثة الغسّالة لتغسيلها النفس عن الأنجاس و الأدناس فبالفناء في الأفعال ينبت الورد في روضة سرّ القلب ، و يستشمّ [ 336 ] العارف من رياض القدس ريح الورد ، و بالفناء في الصفات ينبت الشقائق فيها إشارة إلى تكامل الورد ، و بالثالث ينبت السّرو فيها فيحيط أثر العمل شراشر وجود السالك فالجزاء مرتّب على وفق العمل فكلّما كان العمل أصعب و أشدّ كان جزاؤه أشرف و أسدّ ، جزاء بما كانوا يعملون ، نقل هذه اللطيفة المحقّق النراقى قدّس سرّه في الخزائن عن الشّيخ محمّد الدارابي ( ص 413 طبع علمية اسلامية 1380 ه ق ) . و أنّ العلاّمة البهائي قدّس سرّه نقل في أواخر المجلّد الأوّل من الكشكول ( ص 143 من طبع نجم الدولة ) عن النّبي صلى اللّه عليه و آله قال : خير الدّعاء دعائى و دعاء الأنبياء من قبلى و هو : « لا إله إلاّ اللّه وحده وحده وحده ، لا شريك له ، له الملك و له الحمد يحيى و يميت ، و هو حىّ لا يموت ، بيده الخير ، و هو على كلّ شي‏ء قدير » ، و روى ثقة الإسلام الكليني في كتاب الدّعاء من الكافى ( ص 375 ج 2 من المعرب ) بإسناده عن عليّ بن النعمان ، عمّن ذكره ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : قال جبرئيل عليه السّلام لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : طوبى لمن قال من امّتك : « لا إله إلاّ اللّه وحده وحده وحده » ، و رواه الشّيخ الجليل الصدوق في باب ثواب الموحّدين و العارفين من كتاب التوحيد باسناده عن جابر بن يزيد الجعفي ، عن أبي جعفر عليه السّلام ( ص 8 ) و تثليث قول وحده فيها باعتبار توحيد الذات و الصفات و الأفعال ، أفاده العالم المتأله السعيد القاضى السعيد في شرح توحيد الصدوق . فإذا زكيت نفسك فقد أفلحت و لاح فيك ما وعد اللّه تعالى عباده الصالحين و لم يكن حجابك إلاّ أنت ، قال عزّ من قائل : « كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلاّ إنّهم عن ربّهم يومئذ لمحجوبون » ( المطفّفين : 16 ) قال الخواجة صائن الدّين على التركة في آخر قواعد التوحيد : إنّ العلوم كلّها موجودة فينا لكنّها مختفية بالحجب المانعة عن الظهور ، و لا يخفى عليك أنّ ظهورها تارة يكون بالحركات اللطيفة الفكريّة الروحانيّة بعد تسليط القوّة القدسيّة على قوّتى الوهميّة و المتخيّلة و سائر القوى الجسمانيّة و تهذيب الأخلاق و تزيين النفس بالأخلاق الحسنة ، و تارة اخرى بتسكين المتخيّلة و المتوهّمة و إلجامهما و منعهما [ 337 ] عن الحركات المضطربة المشوشة بعد تسخير القوى الجسمانيّة بالتزكية و التصفية و كلا الطريقين حقّ عند أكثر المحقّقين من أهل النظر و أصحاب المجاهدة . خذا بطن هرشى أو قفاها فإنّه كلا جانبى هرشى لهنّ طريق و من اعتقد أنّه لا اعتبار بالتزكية و التصفية في طريق التعلم و النظر ركب متن الهوى و الهوس حسب هذه العقيدة الفاسدة ، و غلبت على نفسه الشهوة و الغضب و استولت عليه الرّذائل الطبيعة المهلكة ، و حرمت عليها الفضائل الملكية المحيية و اشتغل بقرائة كتب مقلّدى الفلاسفة و زبر المتكلمين من أصحاب الجدل و المشاغبة و ضيّع عمره في ضبط الاراء المتناقضة و حفظ الأحوال و الأقوال المتقابلة فأوقع نفسه في لجج الخيالات الفاسدة و الأوهام الباطلة عند تلاطم أمواج الشكوك و الشبهات المفرقة فاضمحلّ نور قلبه و عميت بصيرته بتراكم الكدورات المظلمة و العقائد الفاسدة و ازداد فيه الجهل و التردد و حصل له البهت و التحيّر و لا يدرى أين يذهب فلحق به من الحق الغضب و ظنّ أن الكمال ما حصل له و وصل إليه و ليس ورائه حالة مرغوبة كمالية و لا سعادة باقية فتيقّن خبث هذه العقيدة و وجه ضررها من لطفه و استعذابه من مكره و غضبه . 13 و عليك بما نقصّ عليك من قصص ثلاث هي من أحاسن القصص دستورا أما الاولى فقد روى ثقة الإسلام الكليني في باب المؤمن و علاماته و صفاته من كتاب الإيمان و الكفر من الكافي ( ص 186 ج 2 من المعرب ) : أنّ الحسن بن عليّ صلوات اللّه عليهما خطب الناس فقال : أيها الناس أنا اخبركم عن أخ لي كان من أعظم الناس في عيني ، و كان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه كان خارجا من سلطان بطنه ، فلا يشتهى ما لا يجد ، و لا يكثر إذا وجد ، كان خارجا من سلطان فرجه فلا يستخفّ له عقله و لا رأيه ، كان خارجا من سلطان الجهالة فلا يمدّ يده إلاّ على ثقة لمنفعة ، كان لا يتشهّى و لا يتسخّط و لا يتبرّم ، كان أكثر دهره صمّاتا فإذا قال بذّ القائلين ، كان لا يدخل في مراء و لا يشارك في دعوى و لا يدلى بحجّة حتّى يرى قاضيا ، و كان لا يغفل عن اخوانه و لا يخصّ نفسه بشي‏ء دونهم ، كان ضعيفا مستضعفا [ 338 ] فإذا جاء الجدّ كان ليثا عاديا ، كان لا يلوم أحدا فيما يقع العذر في مثله حتّى يرى اعتذارا ، كان يفعل ما يقول و يفعل ما لا يقول ، كان إذا بتزّه أمران لا يدرى أيهما أفضل نظر إلى أقربهما إلى الهوى فخالفه ، كان لا يشكو وجعا إلاّ عند من يرجو عنده البرء ، و لا يستشير ( يسترشد خ ) إلاّ من يرجو عنده النصيحة ، كان لا يتبرّم و لا يتسخّط و لا يتشكّى و لا يتشهّى و لا ينتقم و لا يغفل عن العدو ، فعليكم بمثل هذه الأخلاق الكريمة إن أطقتموها ، فإن لم تطيقوها كلّها فأخذ القليل خير من ترك الكثير ، و لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه ، و هذا الحديث قد نسبه الشريف الرضى رضوان اللّه عليه إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام و أتى به في القسم الثالث من النهج أعنى في باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السّلام و هو المختار 289 . و رواه أبو محمّد الحسن بن عليّ بن شعبة الحرّاني رحمة اللّه عليه عن أبي محمّد الامام الحسن بن عليّ المجتبى عليهما السّلام أيضا ، كما في الكافي و فى هامش نسخة مخطوطة عتيقة من النهج توجد في مكتبتنا : قال السيّد الإمام السعيد أبو الرضا رضى اللّه عنه : وجدت هذا الفصل في أدب ابن المقفع ، و وجدت في كتاب آخر هذا الكلام منسوبا إلى الحسن بن عليّ صلوات اللّه عليهما ، و نقل ذلك الحديث العلاّمه البهائى أيضا في أوائل المجلّد الثالث من كشكوله ( ص 249 طبع نجم الدولة ) من النهج أيضا من غير تعرّض فيه . قلت : إذا دار الأمر بين الجامع الكافي و بين غيره من الجوامع الروائية فضلا عن غيرها فلا ريب أنّ المتعيّن هو الأوّل ، على أنّ رواية ابن شعبة موافقة له و معاضدة ، و بين النسخ تفاوت في الجملة و نحن نقلناها من نسخة مخطوطة مصحّحة من الكافي مزدانة بعلائم المقابلة و التصحيح من أوّلها إلى آخرها و بتعليقات أنيقة رشيقة ، و بخط صدر الدين السيّد علي خان المدني قدّس سرّه الّذي تقدّم ذكره في هذه الرسالة غير مرّة على ظهرها و هذه صورته : « الحمد للّه سبحانه ، على هذه النسخة الشريفة المعتمدة خط السيّد نصير الملة و الدين و خط ابن أخيه و صهره السيّد محمّد معصوم و خط ابنه والدي الأمير نظام الدين أحمد ، و قد [ 339 ] قرأها على السيّد العلاّمة نور الدين ابن عليّ بن أبي الحسن العلوي قدّس اللّه سبحانه أسرارهم ، كتب عليّ الصدر المدني عفى عنه » . و أما الثانية فقد نقلها العلاّمة الشّيخ البهائي قدّس سرّه في أوّل المجلّد الثالث من كتابه القيّم النفيس المسمّى بالكشكول ( ص 245 من طبع نجم الدولة ) حيث قال : من خط س [ 1 ] عن عنوان البصري و كان شيخا قد أتى عليه أربع و تسعون سنة ، قال : كنت أختلف إلى مالك بن أنس سنين فلمّا قدم جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام اختلفت إليه و أحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك ، فقال يوما لي : إنّي رجل مطلوب و مع ذلك لي أوراد في كل ساعة من آناء الليل و النهار فلا تشغلني عن وردي و خذ عن مالك ، و اختلف إليه كما كنت تختلف . فاغتممت من ذلك ، و خرجت من عنده ، و قلت في نفسي : لو تفرّس لي خيرا لما زجرني عن الاختلاف إليه و الأخذ عنه ، فدخلت مسجد الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّمت عليه ثمّ رجعت من الغد إلى الروضة ، و صلّيت فيها ركعتين و قلت : أسألك يا اللّه يا اللّه ، أن تعطف علىّ قلب جعفر و ترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم ، و رجعت إلى داري مغتمّا و لم أختلف إلى مالك بن أنس لما اشرب في قلبي من حبّ جعفر عليه السّلام فما خرجت من داري إلاّ إلى الصّلاة المكتوبة حتّى عيل صبري ، فلمّا ضاق صدرى تنعّلت و تردّيت و قصدت جعفرا عليه السّلام و كان بعد ما صلّيت العصر ، فلمّا حضرت باب داره استأذنت عليه فخرج خادم له فقال : ما حاجتك ؟ فقلت : السلام على الشريف ، فقال : هو قائم في مصلاّه ، فجلست بحذاء بابه فما لبثت إلاّ يسيرا إذا خرج خادم فقال : ادخل على بركة اللّه . فدخلت و سلّمت عليه فردّ علىّ السّلام ، و قال : اجلس غفر اللّه لك فجلست فأطرق مليّا ، ثمّ رفع رأسه فقال : أبو من ؟ قلت : أبو عبد اللّه ، قال : ثبّت اللّه [ 1 ] هكذا فى ذلك الطبع بالسين المهملة فى الاول و الاخر ، و فى طبع قم بالشين المعجمة و قال صديقنا الفاضل محمد صادق النصيرى زاده اللّه تعالى نصرا فى تعاليقه على الكشكول ، كلمة شين المعجمة اشارة الى مجموعة الشهيد الثانى ره ، منه . [ 340 ] كنيتك و وفّقك يا أبا عبد اللّه ما مسئلتك ؟ فقلت في نفسي : لو لم يكن لي في زيارته و التسليم عليه غير هذا الدّعاء لكان كثيرا . ثمّ رفع رأسه فقال : ما مسئلتك ؟ قلت : سألت اللّه أن يعطف علىّ قلبك و يرزقني من علمك و أرجو أنّ اللّه تعالى أجابني في الشريف ما سئلته . فقال : يا أبا عبد اللّه ليس العلم بالتعلّم و إنّما هو نور يقع على قلب من يريد اللّه تبارك و تعالى أن يهديه ، فإن أردت العلم فاطلب أوّلا في نفسك حقيقة العبودية و اطلب العلم باستعماله ، و استفهم اللّه يفهمك . قلت : يا شريف ، قال : يا أبا عبد اللّه ، قلت : يا أبا عبد اللّه ما حقيقة العبوديّة ؟ قال : ثلاثة أشياء أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله اللّه ملكا لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك ، يرون المال مال اللّه يضعونه حيث أمرهم اللّه به ، و لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرا و جعل اشتغاله فيما أمره اللّه تعالى به و نهاه عنه ، فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوّله اللّه ملكا هان عليه الإنفاق فيما أمره اللّه تعالى أن ينفق فيه و إذا فوّض العبد تدبير نفسه إلى مدبّره هان عليه مصائب الدنيا ، و إذا اشتغل العبد بما أمره اللّه تعالى و نهاه لا يتفرّغ منهما إلى المراء و المباهاة مع الناس ، و إذا أكرم اللّه العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدّنيا و إبليس و الخلق ، و لا يطلب الدّنيا تكاثرا أو تفاخرا و لا يطلب ما عند النّاس عزّا و علوّا و لا يدع أيّامه باطلا ، فهذا أوّل درجة التّقى ، قال اللّه تعالى : « تلك الدّار الاخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوًّا في الأرض و لا فساداً و العاقبة للمتّقين » . قلت : يا أبا عبد اللّه أوصني ، فقال : اوصيك بتسعة أشياء فانّها وصيّتي لمريدي الطريق إلى اللّه تعالى ، و اللّه أسأل أن يوفّقك لاستعماله : ثلاثة منها في رياضة النّفس ، و ثلاثة منها في الحلم ، و ثلاثة منها في العلم فاحفظها ، و إيّاك و التهاون بها ، قال عنوان : ففرغت قلبي له . قال : أمّا اللّواتي في الرّياضة : فايّاك أن تأكل ما لا تشتهيه فانّه يورث الحماقة و البله ، و لا تأكل إلاّ عند الجوع ، و إذا أكلت فكل حلالا ، و سمّ اللّه [ 341 ] و ذكّر حديث الرسول صلى اللّه عليه و آله : ما ملأ آدميّ وعاء شرّا من بطنه فإن كان و لا بدّ فثلث لطعامه ، و ثلث لشرابه ، و ثلث لنفسه . فأمّا اللّواتي في الحلم : فمن قال لك إن قلت واحدة سمعت عشرا فقل له إن قلت عشرا لم تسمع واحدة ، و من شتمك فقل إن كنت صادقا فيما تقول فأسئل اللّه أن يغفر لي ، و إن كنت كاذبا فيما تقول فأسئل اللّه أن يغفر لك ، و من وعدك بالخنى فعده بالنصيحة و الدّعاء . و أمّا اللّواتي في العلم : فاسئل العلماء ما جهلت ، و إيّاك أن تسئلهم تعنّتا و تجربة ، و إيّاك أن تعمل برأيك شيئا ، و خذ بالإحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا ، و اهرب من الفتيا هربك من الأسد ، و لا تجعل رقبتك في النّاس جسرا قم عنّي يا أبا عبد اللّه فقد نصحت لك و لا تفسد علىّ وردى فإني امرؤ ضنين بنفسي و السّلام على من اتّبع الهدى ، منقول كلّه من خطّ س . انتهى ما أتى به الشّيخ ره في الكشكول . قلت : تأمّل يا باغى السداد و طالب الرشاد و سالك الطريق إلى ربّ العباد في هذه الصحيفة المكرّمة الّتي كتبت بقلم الولاية و انتقشت بما كلّه نور و هداية . و اخاطب نفسي الخاطئة فأقول لها : أيتها الهالكة ما غرّك بربّك الكريم تعمل عنده الأعمال الفاضحة ، قومى و سافرى إلى من خلقك فسوّاك فعدلك في أىّ صورة مّا شاء ركّبك ، ألا ترى أنّ ما سواه معتكف ببابه و مالك لا تطير إلى جنابه ، صرفت العمر في قيل و قال ، و ضيّعته في الجواب و السئوال ، قومى فاغتنمى الفرصة ، و اخلصى من الغصّة ، إيّاك و التسويف فإنّه مبير الوضيع و الشريف ، عليك بالحضور عند ربّك الغفور فإنّ الحضور يورث النور بل النور على النور و اللّه نور السموات و الأرض و جمالهما جلّ جلاله و عمّ نواله ، أما قرأت الكتاب الحكيم القرآن العظيم يقول قائله عزّ اسمه و له الأسماء الحسنى : من جاهد فينا لنهدينّهم سبلنا ، ألا رأيت كلام إمامك كشّاف الحقائق أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصّادق : ليس العلم بالتعلّم و إنما هو نور يقع على قلب من يريد اللّه تبارك و تعالى أن يهديه . [ 342 ] اگر بودى كمال اندر نويسائى و خوانائى چرا آن قبله كل نانويسا بود و ناخوانا إلى متى في فراش الغفلة و اتخذى لك الخلوة ، و انتبهى من النّوم ، و توبى نصوحا في اليوم ، و عليك بالسكوت و الصوم ، و قومى عن العشيرة و القوم ، و يا نفسي الاثمة الجانية و ازهدى في الدّنيا الفانية فإنّ حبّها جبّ كلّ عطيّة و رأس كلّ خطيئة ، أعرضى عن دار الغرور ، و توجهى إلى نور كلّ نور ، لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرا ، و عسى أن تأتيه فردا . اى شده مغرور بدار غرور قد خسر الغافل يوم النشور اى كه فتادى ز ره عشق دور ألا إلى اللّه تصير الامور از چه ندارى خبر از خويشتن يار حضور و تو ندارى حضور و ما إخالك بناج لما يداك قد حصّلنا من شرور و لا تخافنّ سوى نفسكا ترس تو بيجا است ز مرگ و ز گور و اللّه قد أظهر آياته بيخبر است گر چه دل و ديده كور هر چه توانى بره عشق كوش كامده از عشق همه در ظهور دست ز أنبان شكم باز دار تا كه دلت نور دهد همچو هور هل كان عبد البطن عبد الإلاه ظلمتى از پرتو و نور است دور آن بطلب كو بود أصل مراد إيّاك و الزّهد لوجدان حور باش همى در ره ديدار يار إن شئت عيشا دائما في السرور اين سر بيهوش تو از خيرگى لما يفيقنّ إلى نفخ صور اين دل زنگار تو را راه نيست في ساحة القدس من اللّه نور نعم لئن تبت نصوحا عسى أن يغفر اللّه الرّحيم الغفور في ظلمة الليل تناجى الإلاه تكلّم اللّه كموسى بطور و ابك بكاء عاليا قانتا عند صلاة ليلك بالحضور نيست گرت مرده دلى بهر چه لست لربّك بعبد شكور [ 343 ] مرد خدا را حسنا روى دل سوى حضور است نه حور و قصور فيامن خلقنى من العدم ، يا من كرّم بني آدم يا نور المستوحشين في الظلم يا شاهد كلّ نجوى ، يا من إليه الكل يسعى ، يا من هو بدّنا اللازم ، يا من جرى في الخلق حكمه الجازم ، يا من إلى بابه ألوذ ، يا من به من شرّ نفسى أعوذ ، يا من تحيّر فيه ما سواه ، يا من نطق به الألسن و الأفواه . اى كه زبانها به تو گوياستي ايكه دل و ديده بيناستي اى كه صفات تو و ذاتت نكو است اى كه ز هر عيب مبرّاستى اى كه ز نور رخ زيباى تو روى همه خرّم و زيباستي اى كه سزاى دل شوريدگان شورشى از عشق تو برپاستي اى كه ز تو مرغ شباهنگ را ناله جانسوز سحرهاستى دست حسن گير و رهائيش ده اى كه ز راز دلش آگاستى و أمّا الثالثة فهى مكاتبة جرت بين العالمين الشّيخ أبي سعيد بن أبي الخير و الشّيخ الرئيس أبي عليّ بن سينا و لمّا رأينا كثرة فوائدها أتينا بها مزيدا للفائدة و قد نقلها الشّيخ البهائى في أواخر الكشكول ( ص 623 من طبع نجم الدولة و ص 595 ج 2 من طبع قم ) ، و لكنّ صورتها على طبع قم مشوشة بل مشوهة جدّا ، و هي منقوله أيضا في نامه دانشوران في ترجمة الشّيخ الرئيس أكمل ممّا في الكشكول و قد نقل القاضى نور اللّه الشهيد نبذة من كلام الشّيخ الرئيس في مجالس المؤمنين و هذه صورتها : كتب الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير إلى الشّيخ الرئيس أبي عليّ بن سينا أيها العالم وفّقك اللّه لما ينبغي ، و رزقك من سعادة الأبد ما تبتغي ، إنّي من الطريق المستقيم على يقين إلاّ أنّ أودية الظنون على الطريق المستجدّ ( الجد خ ) متشعبّة ، و إنّي من كلّ طالب طريقه لعلّ اللّه يفتح لي من باب حقيقة حاله بوسيلة [ 344 ] تحقيقه و صدقة تصديقه ، و إنّك بالعلم وفقت لموسوم ، بمذاكرة أهل هذا الطريق مرسوم ، فأسمعنى ما رزقت ، و بيّن لي ما عليه وقفت ، و إليه وفّقت ، و اعلم أنّ التذبذب بداية حال الترهّب ، و من ترهّب ترأب ، و هذا سهل جدّا ، و عسر إن عدّ عدّا ، و اللّه وليّ التوفيق . فأجابه الشيخ الرئيس : وصل خطاب فلان مبيّنا ما صنع اللّه تعالى لديه ( إليه خ ) و سبوغ نعمه عليه ، و الإستمساك بعروة الوثقى ، و الإعتصام بحبله المتين و الضرب في سبيله ، و التولية شطر التقرب إليه ، و التوجه تلقاء وجهه ، نافضا عن نفسه غبرة هذه الخربة ، رافضا بهمّته الإهتمام بهذه القذرة أعزّ وارد و أسرّ واصل و أنفس طالع و أكرم طارق ، فقرأته و فهمته و تدبّرته و كرّرته و حقّقته في نفسي و قرّرته فبدأت بشكر اللّه واهب العقل و مفيض العدل ، و حمدته على ما أولاه ، و سألته أن يوفّقه في اخراه و اولاه ، و أن يثبّت قدمه على ما توطّاه ، و لا يلقيه إلى ما تخطّاه ، و تزيده إلى هدايته هداية ، و إلى درايته الّتي آتاه دراية ، إنّه الهادي المبشّر و المدبّر المقدّر ، عنه يتشعّب كلّ أثر ، و إليه يستند الحوادث و العبر ( الغير خ ) و كذلك تقضى الملكوت ، و يقضى الجبروت و هو من سرّ اللّه الأعظم يعلمه من يعلمه و يذهل عنه من لا يعصمه ، طوبى لمن قاده القدر إلى زمرة السعداء ، و حادبه عن رتبة الأشقياء ، و أوزعه استرباح البقاء من رأس مال الغنى ، و ما نزهة هذا العاقل في دار يتشابه فيها عقبي مدرك و مفوّت ، و يتساويان عند حلول وقت موقّت ، دار أليمها موجع ، و لذيذها مشبع ، و صحّتها قسر الأضداد ( قران الأضداد خ ) على وزن و اعداد ، و سلامتها استمرار فاقة إلى استمراء مذاقة ، و دوام حاجة إلى مجّ مجاجة . نعم و اللّه ما المشغول بها إلاّ مثبّط ، و المتصرّف فيها إلاّ مخبّط ، موزّع البال بين ألم و يأس ، و نقود و أجناس ، أخيذ حركات شتّى ، و عسيف أوطار تترى و أين هو من المهاجرة إلى التوحيد ، و اعتماد النظام بالتفريد ، و الخلوص من التشّعب إلى التّراب ، و عن التذبذب إلى التهذّب ، و عن ناد ( باد خ ) يمارسه إلى [ 345 ] أبد يشارقه ، هناك اللذّة حقّا ، و الحسن صدقا ، سلسال كلّما سقيته على الرّىّ كان أهنى و أشفى ، و رزق كلّما أطعمته على الشبع كان أغذى و أمرى‏ء ، رىّ استبقاء لارىّ إباء ، و شبع استشباع لا شبع استبشاع . و نسأل اللّه تعالى أن يجلو عن أبصارنا الغشاوة ، و عن قلوبنا القساوة ، و أن يهدينا كما هداه ، و يؤتينا ممّا آتاه ، و أن يحجز بيننا و بين هذه الغارّة الغاشّة البسور في هيأة الباشّة ، المعاسرة في حلية المياسرة ، المفاصلة في معرض المواصلة و أن يجعله إمامنا فيما آثر و أثّر ، و قائدنا إلى ما صار إليه و سار ، إنّه ولىّ ذلك . فأمّا ما التمسه من تذكرة ترد منّى و تبصرة تأتيه من قبلى و بيان يشفيه من كلامى فكبصير استرشد من مكفوف ، و سميع استخبر عن موقور السمع غير خبير فهل لمثلى أن يخاطبه بموعظة حسنة ، و مثل صالح ، و صواب مرشد ، و طريق أسنّه له منفذ ، و إلى غرضه الّذي أمّه منفذ ؟ . و مع ذلك فليكن اللّه تعالى أوّل فكره و آخره ، و باطن اعتباره و ظاهره و لتكن عين نفسه مكحولة بالنظر إليه ، و قدمها موقوفة على المثول بين يديه مسافرا بعقله في الملكوت الأعلى ، و ما فيه من آيات ربّه الكبرى ، فإذا انحطّ إلى قراره فلير اللّه في آثاره فإنّه باطن ظاهر تجلّى بكلّ شي‏ء لكلّ شي‏ء . ففي كلّ شي‏ء له آية تدلّ على أنّه واحد فإذا صارت هذه الحال ملكة ، و هذه الخصلة وتيرة ، انطبع في فصّه نقش الملكوت ، و تجلّى له آية قدس اللاّهوت ، فألف الأنس الأعلى ، و ذاق اللذّة القصوى ، و أخذ عن نفسه إلى من هوبه أولى ، و فاضت عليه السكينة ، و حفّت به الطمأنينة ، و اطّلع على الأدنى اطّلاع راحم لأهله مستوهن بحبله ( بخيله خ ) : مستخفّ لثقله ، مستحسن لفعله ، مستطل لطرفه ، و يذكر نفسه و هي بهجة فتعجّب منهم تعجّبهم منه ، و قد ودعها و كان معها كمن ليس معها . و ليعلم أنّ أفضل الحركات الصلاة ، و أمثل السكنات الصيام ، و أرفع ( أنفع خ ) البرّ الصدقة ( و أفضل البرّ العطا خ ) و أزكى السّير الإحتمال ، و أبطل السعى [ 346 ] الرياء ( و أفضل السعى المراياة على نسخة مجالس المؤمنين ) ، و لن تخلص النفس عن البدن ما التفتت إلى قيل و قال ، و مناقشة و جدال ، و انقلعت بحالة من الأحوال ، و خير العمل ما صدر عن مقام نيّة ( عن خالص نيّة خ ) و خير النيّة ما ينفرج عن جناب علم ، و الحكمة ام الفضائل ، و معرفة اللّه أوّل الأوائل ، إليه يصعد الكلم الطيّب ، و العمل الصالح يرفعه ، أقول قولي هذا و أستغفر اللّه و أستهديه و أتوب إليه و أستكفيه ، و أسأله أن يقرّبنى إليه إنّه سميع مجيب . ثمّ يقبل على هذه النفس المزيّنة بكمالها الذاتي ، و يحرسها عن التلطّخ بما يشينها من الهيئات الإنقيادية للنقوش المادية الّتي إذا بقيت في النفس المزينة كانت حالها عند الإنفصال كحالها عند الإتصال ، إذ جوهرها متثاوب و لا مخالطة و إنّما يدنّسها هيئة الانقياد لتلك الصواحب بل يفيدها هيئات الاستيلاء و الاستعلاء و الرياسة و لذلك يهجرا كذب قولك ، و يخلّى حتّى تحدث للنّفس هيئة صدوقة فيصدّق الأحلام و الرؤيا و اللذّات ، فليستعملها على اصلاح الطبيعة و إلقاء الشخص و النوع و السياسة . و أمّا المشروب فأن يهجر شربه ملهيا بل تشفّيا تداويا ، و يعاشر كلّ فرقة بعادته و رسمه ، و يسمح بالمقدور من المال و يترك لمساعدة النّاس كثيرا ما هو خلاف طبعه ، ثمّ لا يقصر في الأوضاع الشرعيّة ، و تعظيم السنن الإلهيّة و المواظبات على التعبدات البدنيّة ، و يكون دوام عمره إذا خلا و خلص من المعاشرين ، نظر بالرويّة و الفكرة في الملوك الأول و ملكها ، و اكبس عن عثار النّاس من حيث لا تقف على النّاس ، عاهد اللّه أن تسير بهذه السيرة و تدين بهذه الدّيانة ، و اللّه وليّ الّذين آمنوا حسبنا اللّه نعم الوكيل . هذا آخر المكاتبة ، و قد نقل منها الشّيخ في الكشكول إلى قوله : إنّه سميع مجيب ، و نقلنا بعده من نامه دانشوران ، و نقل القاضي نور اللّه الشهيد نوّر اللّه مرقده في المجالس بعد قوله : إنّه سميع مجيب ، هذا السطر أيضا : و الحمد للّه ربّ العالمين ، و الصّلاة و السّلام على خير خلقه محمّد و آله أجمعين . [ 347 ] 14 كن عالي الهمّة ، على حدّ لا تعبد إلاّ إيّاه تعالى ، و لا تكن في إعراضك عن متاع الدّنيا و طيّباتها معاملا و لا في عباداتك أجيرا ، و كن كما نطق به الناطق بالصواب ميزان يوم الحساب ، و فصل الخطاب أمير المؤمنين و سيّد الوصيّين عليّ عليه السّلام : ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنّتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك . تو بندگى چو گدايان بشرط مزد مكن كه خواجه خود صفت بنده‏پرورى داند و في الباب التاسع عشر من مصباح الشريعة : قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : قال اللّه تعالى : من شغله ذكري عن مسئلتي أعطيته أفضل ما أعطى للسائلين . و روى ثقة الإسلام الكلينيّ في باب العبادة من كتاب الإيمان و الكفر من اصول الكافي ( ص 68 ج 2 من المعرب ) باسناده عن هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إنّ العبّاد ثلاثة : قوم عبدوا اللّه عزّ و جل خوفا فتلك عبادة العبيد و قوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاجراء ، و قوم عبدوا اللّه عزّ و جلّ حبّا له فتلك عبادة الأحرار و هي أفضل العبادة . و رواه ابن شعبة رحمة اللّه عليه في تحف العقول عن سيّد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام أيضا ، حيث قال عليه السّلام : إنّ قوما عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار و إنّ قوما عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد ، و إنّ قوما عبدوا اللّه شكرا فتلك عبادة الأحرار و هي أفضل العبادة ، و هذا بعينه منقول في النهج عن أمير المؤمنين عليه السّلام ( المختار 237 من باب حكمه عليه السّلام ) . فكن من أهل اللّه لا من أهل الدّنيا و لا من أهل الاخرة ، و حقيقة الزهد أن يزهد في الدّنيا و الاخرة ، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : الدّنيا حرام على أهل الاخرة ، و الاخرة حرام على أهل الدّنيا ، و هما حرامان على أهل اللّه . و في ذلك الباب من الكافي بإسناده عن عمرو بن جميع ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : أفضل النّاس من عشق العبادة فعانقها و أحبّها بقلبه [ 348 ] و باشرها بجسده و تفرّغ لها ، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدّنيا على عسر أم على يسر . أقول : هذه الرواية قد نطقت بالعشق ، و في عشق من سفينة البحار للمحدث القمّي رحمة اللّه عليه : النبوي صلى اللّه عليه و آله أنّ الجنّة لأعشق لسلمان من سلمان للجنّة . و في تاسع البحار ( ص 580 ) عن الخرائج : روي عن أبي جعفر عليه السّلام ، عن أبيه قال : مرّ علىّ عليه السّلام بكربلا فقال لما مرّ به أصحابه و قد اغرورقت عيناه يبكى و يقول : هذا مناخ ركابهم ، و هذا ملقى رحالهم ، ههنا مراق دمائهم ، طوبى لك من تربة عليها تراق دماء الأحبّة ، و قال الباقر عليه السّلام خرج علىّ يسير بالنّاس حتّى إذا كان بكربلا على ميلين أو ميل تقدّم بين أيديهم حتّى طاف بمكان يقال له المقدفان فقال : قتل فيها مائتا نبيّ و مائتا سبط ، كلّهم شهداء و مناخ ركاب و مصارع عشّاق شهداء لا يسبقهم من كان قبلهم و يلحقهم من بعدهم . و كم نرى من المقدّسين الخشك يطعنون في أهل اللّه باطلاقهم العشق و مشتقاته قائلين بأنّ أىّ خبر نطق به ؟ و هذا خبرهم بل هذه أخبارهم ، على أنّه لو لم يأت به أثر في الجوامع الروائية لكانت حجتهم داحضة و كلمتهم سفلى . و في الباب الرابع و الخمسين من إرشاد القلوب للديلمي و هو آخر أبواب الكتاب فيما سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ربّه ليلة المعراج : يا أحمد وجوه الزاهدين مصفرّة من تعب الليل و صوم النهار ، و ألسنتهم كلال من ذكر اللّه تعالى ، قلوبهم في صدورهم مطعونة من كثرة صمتهم قد أعطوا المجهود من أنفسهم لا من خوف نار و لا من شوق جنّة و لكن ينظرون في ملكوت السموات و الأرض فيعلمون أنّ اللّه سبحانه أهل للعبادة ، يا أحمد هذه درجة الأنبياء و الصديقين من امّتك و امّة غيرك و أقوام من الشهداء الخ . و في باب اتباع الهوى من كتاب الايمان و الكفر من اصول الكافي ( ص 251 ج 2 من المعرب ) عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : يقول اللّه عزّ و جلّ : و عزّتي و جلالي و عظمتى و كبريائى و نورى و علوّى و ارتفاع مكاني لا يؤثر [ 349 ] عبد هواه على هواى إلاّ شتّت عليه أمره و لبست عليه دنياه و شغلت قلبه بها و لم اوته منها إلاّ ما قدّرت له ، و عزّتى و جلالى و عظمتى و نوري و علوّي و ارتفاع مكانى لا يؤثر عبد هواى على هواه إلاّ استحفظته ملائكتى و كفّلت السموات و الأرضين رزقه و كنت له من وراء تجارة كلّ تاجر و أتته الدّنيا و هي راغمة . و إذا ذقت حلاوة ذكره تعالى و أنست به و رزقت جنّة اللقاء لا تطلب منه تعالى إلاّ إيّاه و تنسى غيره ، كما في الباب التاسع عشر من مصباح الشريعة قال الصّادق عليه السّلام : لقد دعوت اللّه مرة فاستجاب لي و نسيت الحاجة لأنّ استجابته بإقباله على عبده عند دعوته أعظم و أجلّ ممّا يريد منه العبد و لو كانت الجنّة و نعيمها الأبدى ، و ليس يعقل ذلك إلاّ العاملون المحبّون العارفون صفوة اللّه و خواصّه انتهى . و كأنما الشّيخ العارف السعدى رضوان اللّه عليه يشير إلى قوله عليه السّلام ، حيث زيّن مطلع گلستانه بو رد بيانه : يكى از صاحبدلان سر بجيب مراقبت فرو برده و در بحر مكاشفت مستغرق گشته ، حالى كه از آن حالت باز آمد ، يكى از دوستان گفت : در اين بوستان كه بودى ما را چه تحفه آوردى ؟ گفت بخاطر داشتم كه چون بدرخت گل رسم دامنى پر كنم هديّه أصحاب را ، چون برسيدم بوى گلم چنان مست كرد كه دامن از دست برفت ، و لقد أجاد ، طيّب اللّه رمسه و قدّس سرّه . فمن عبد اللّه تعالى طلب الثواب أو خوفا من العقاب فهو محروم عن اللذّة الحقيقيّة ، بل إنّك إن فتّشته لم تجده إلاّ عابد هواه إن عبده تعالى رغبة ، أو محبّا لنفسه لا لمولاه إن عبده رهبة ، و قد أفاد الشّيخ الرئيس أبو عليّ بن سينا تغمّده اللّه بغفرانه في مقامات العارفين بقوله : المستحلّ توسيط الحقّ مرحوم من وجه فإنه لم يطعم لذّة البهجة به فيستطعمها إنّما معارفته مع اللذّات المخدجة فهو حنون إليها غافل عمّا ورائها ، و ما مثله بالقياس إلى العارفين إلاّ مثل الصبيان بالقياس إلى المحنكين ، فانّهم لمّا [ 350 ] غفلوا عن طيّبات يحرص عليها البالغون ، و اقتصرت بهم المباشرة على طيّبات اللعب صاروا يتعجّبون من أهل الجدّ إذا زورّوا عنها عائفين لها عاكفين على غيرها ، كذلك من غضّ النقص بصره عن مطالعة بهجة الحقّ أعلق كفّيه بما يليه من اللذّات لذّات الزور ، فتركها في دنياه عن كره ، و ما تركها إلاّ ليستأجل أضعافها و إنّما يعبد اللّه تعالى و يطيعه ليخوّله في الاخرة شبعه منها فيبعث إلى مطعم شهىّ و مشرب هنى‏ء و منكح بهىّ ، و إذا بعثر عنه فلا مطمح لبصره في اولاه و اخراه إلاّ إلى لذّات قبقبه و ذبدبه ، و المستبصر بهداية القدس في شجون الإيثار قد عرف اللذّة الحقّ و ولّى وجهه سمتها مسترحما على هذا المأخوذ عن رشده إلى ضدّه ، و إن كان ما يتوخاه بكدّه مبذولا له بحسب وعده . 15 التوبة و هي لا تنفك عمّن استبصر و إلاّ فليس بمستبصر ، و لا أنسى عذوبة كلام سيّدنا الاستاذ محمّد حسن الإلهى المقدّم ذكره قدّس سرّه ، و لطافة بيانه في التوبة حيث قال : التوبة الحقيقيّة أن تتوب من خيرك و شرّك ، و بعد تأمّل قليل قلت له : أمّا التوبة من الشرّ فلا كلام فيها ، و أما التوبة من الخير فما مراد جنابك منها ؟ فقال رضوان اللّه عليه : ما نحسبها خيرا من صلاتنا و صيامنا و قرائتنا القرآن و دراستنا و غيرها لو تأمّلنا فيها لرأيناها مخدجة غير كاملة و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا فيجب على المستبصر أن يتوب من هذه الأعمال الناقصة ، و أن يقصد الإتيان بها على النحو الكامل الّذي يتقبّل اللّه و انما يتقبّل اللّه من المتقين ، فما حسبناه خيرا ليس بخير حقيقة ، فطوبى لمن وفّق بالتوبة ممّا حسبه خيرا و عمل ما هو خير واقعا . و التوبة تذهب بدرن القلب ، و تزيل رينه فإذا يستبصر التائب بدائه و دوائه و يخرج من ذنوبه كيوم ولدته امّه ، قال الامام الباقر عليه السّلام : التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، و إذا تخلّصت النفس من الرذائل و تنزهت من أوساخ الذنوب فقد قبلت توبته ، و أمّا البحث الكلامى عن التوبة فقد أشبعنا الكلام فيه في شرحنا على المختار 235 من خطب النهج من كتابنا تكملة منهاج البراعة ( ص 171 إلى 201 [ 351 ] من ج 15 ) . و قال السيّد بن طاووس قدّس سرّه الشريف في أعمال شهر ذى القعدة من كتابه الإقبال : فصل : فيما نذكره ممّا يعمل في يوم الأحد من الشهر المذكور و ما فيه من الفضل المذخور وجدنا ذلك بخطّ الشّيخ عليّ بن يحيى الخيّاط رحمه اللّه و غيره في كتب أصحابنا الامامية و قد روينا عنه كلّما رواه و خطّه عندنا بذلك في إجازة تاريخها شهر ربيع الأوّل سنة تسع و ستمائة فقال ما هذا لفظه : روى أحمد بن عبد اللّه ، عن منصور بن عبد الحميد ، عن أبي أمامة ، عن أنس بن مالك قال : خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يوم الأحد في شهر ذى القعدة فقال : يا أيها الناس من كان منكم يريد التوبة ؟ قلنا : كلّنا يريد التوبة يا رسول اللّه ، فقال عليه السّلام : اغتسلوا و توضّأوا و صلّوا أربع ركعات و اقراوا في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة قل هو اللّه أحد ثلاث مرات و المعوذتين مرّة ثمّ استغفروا سبعين مرّة ثمّ اختموا بلا حول و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم ثمّ قولوا : يا عزيز يا غفار اغفر لى ذنوبى و ذنوب جميع المؤمنين و المؤمنات فانّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت . ثمّ قال عليه السّلام : ما من عبد من امّتى فعل هذا إلاّ نودى من السماء يا عبد اللّه استأنف العمل فإنك مقبول التوبة مغفور الذنب . و ينادى ملك من تحت العرش أيها العبد بورك عليك و على أهلك و ذرّيتك . و ينادى مناد آخر أيها العبد ترضى خصماؤك يوم القيامة . و ينادى ملك آخر أيها العبد تموت على الإيمان و لا أسلب منك الدين و يفسح في قبرك و ينوّر فيه . و ينادى مناد آخر أيها العبد يرضى أبواك و إن كانا ساخطين و غفر لأبويك ذلك و لذريتك و أنت في سعة من الرزق في الدنيا و الاخرة . و ينادى جبرئيل عليه السّلام : أنا الّذي آتيك مع ملك الموت عليه السّلام أن يرفق بك و لا يخدشك أثر الموت انما تخرج الروح من جسدك سلاّ ( سلاما خ ) . قلنا : يا رسول اللّه لو أنّ عبدا يقول في غير الشهر ؟ فقال عليه السّلام : مثل ما وصفت [ 352 ] و إنما علّمنى جبرئيل عليه السّلام هذه الكلمات أيّام اللّه ربّى ( أيّام اسرى بى خ ) . و نذيّل الرسالة بقصيدة الفارسيّة تفوّه بها هذا الراجي لقاء ربّه الرّحيم و قد فرغ منها في أوائل ذى الحجّة 1388 ه ق ، و سمّاها بالقصيدة اللّقائيّة : اى دل بدر كن از سرت كبر و ريا را خواهى اگر بينى جمال كبريا را تا با خودى بيگانه‏اى از آشنايان بيگانه شو از خود شناسى آشنا را عنقاى أوج قاف قرب دلبر من در زير پر بگرفته كلّ ما سوا را در پايتخت كشور دل پادشاهى منگر مگر سلطان يهدي من يشا را مرآت أسماء و صفات حق بود دل مشكن چنين آيينه ايزد نما را اى همدم كرّ و بيان عالم قدس از خود بدر كن لشكر ديو دغا را تا از سواد و از خيال و از بياضت فانى شوى بينى جهان جان فزا را گر جذبه‏اى از جانب جانانه يابى بازيچه خوانى جذب كاه و كهربا را گاهى ز اشراق رخ مهر آفرينش بر آسمان جان دهد رشك ضيا را گاهى ز زلف مشكساى دلربايش آشفته خود مى‏كند أحوال ما را دل در ميان اصبعين او است دائم از قبض و بسطش فهم كن اين مدّعا را اللّه قد خلقكم أطوارا أى قوم كيف فلا ترجون للّه وقارا در آستان لطف آن محبوب يكتا دريوزه گر بينم همه شاه و گدا را تسبيح گوى ذات پاك لا يزاليش بنگر ز ذرّات ثريّا تا ثرى را بنيوش از من باش دائم در حضورش تا در حضور او چه‏ها يابى چه‏ها را گر تار و پود بودم از هم بر شكافى جز او نخواهى يافت اين دولت‏سرا را در چشم حق بينم من او او من نباشد يكتاپرستم من نميدانم دو تا را عشق منش از گفته استاد نبود نوشيده‏ام با شير مادر اين غذا را تنها نه من سرگشته‏ام زانرو كه بينم نالان و سرگردان او أرض و سما را تنها نه من در حيرتم از سرّ انسان بل صار فيه القوم كلّهم حيارى فكرى بكن بنگر كه‏اى و در كجائى هم از كجا بودى و ميخواهى كجا را [ 353 ] دردا كه ما را آگهى از خويش نبود ور نه بما كردى عطا كشف غطا را دردت اگر باشد پى درمان دردت از چه نجوئى از طبيب خود دوا را يارت دهد اندر حريم خويش بارت مر آزمونرا گوى از اخلاص يا را بيدار باش و در ره زاد أبد كوش بگسل ز خود دام هوسها و هوا را بر آب زن اوراق نقش اين و آنرا بر دل نشان أحكام قرآن و دعا را در خلوت شبهاى تارت ميتوانى آرى بكف سرچشمه آب بقا را گوئى خليل‏آسا اگر وجّهت وجهى گردد بتو راز نهانى آشكارا تسليم باش و سر بنه اندر رضايش بر بند لب از گفتن چون و چرا را از رحمت بى انتهاى خويش دارد وابسته دام بلا أهل ولا را زاهد بود سوداگر و عابد أجيرى محو است و طمس و محق أرباب وفا را آيين مردان خدا تقوى است تقوى مرزوق عند اللّه بين أهل تقى را ره رو چنانكه مردم هشيار رفتند راهى مبين جز راه و رسم مصطفى را گر مشكلى پيش آيدت ايسالك ره ناد عليّا آن شه مشكل گشا را خواهى روى اندر مناى عاشقانش بار سفر بر بند سوى كربلا را گفتار نيكو بايد و كردار نيكو تا در جزاى اين و آن يابى لقا را أبناء نوعت را ز خود خوشنود مى‏دار خواهى ز خود خوشنود أر دارى خدا را بيچاره‏ايم اى چاره بيچاره‏گانت جز تو كه يارد دست ما گيرد نگارا عارم بود از اين كليمى أربعينم از جود تو دارم من اميد عطا را تسخير خود كن نجم را آنسان كه كردى تسخير خود مهر و مه و استاره‏ها را و قد فرغنا من تأليف هذه الرسالة اللقائية في بلدنا الامل وقت السحر من ليلة الاثنين السادسة عشر من ربيع المولود من شهور سنة تسع و ثمانين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة على هاجرها الف تحيّة و سلام ، رزقنا اللّه تعالى القرب منه و نعمة لقائه .