جستجو

و من كتاب له ع لشريح بن الحارث قاضيه

متن ترجمه آیتی ترجمه شهیدی ترجمه معادیخواه تفسیر منهاج البرائه خویی تفسیر ابن ابی الحدید تفسیر ابن میثم

[ 101 ] و من كتاب له عليه السّلام كتبه لشريح بن الحارث قاضيه و هو الكتاب الثالث من باب المختار من كتبه و رسائله عليه السّلام روي أنّ شريح بن الحارث قاضي أمير المؤمنين عليه السّلام اشترى على عهده دارا بثماتين دينارا ، فبلغه ذلك فاستدعى شريحا و قال له : بلغني أنّك ابتعت دارا بثمانين دينارا ، و كتبت لها كتابا ، و أشهدت فيه شهودا ، فقال شريح : قد كان ذلك يا أمير المؤمنين ، قال : فنظر إليه نظر مغضب ثمّ قال له : يا شريح أما إنّه سيأتيك من لا ينظر في كتابك ، و لا يسئلك عن بيّنتك حتّى يخرجك منها شاخصا و يسلّمك إلى قبرك خالصا ، فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدّار من غير مالك ، أو نقدت الثّمن من غير حلالك ، فإذا أنت قد خسرت دار الدّنيا و دار الآخرة ، أما لو إنّك كنت أتيتني عند شرائك ما شريت لكتبت لك كتابا على هذه النّسخة ، فلم ترغب في شراء هذه الدّار بدرهم فما فوقه ، و النّسخة هذه : بِسْمِ اللَّهِ الرّحْمنِ الرّحيمِ هذا ما اشترى عبد ذليل من ميّت قد أزعج للرّحيل ، اشترى منه دارا من دار الغرور من جانب الفانين ، و خطّة الهالكين ، و تجمع [ 102 ] هذه الدّار حدود أربعة : فالحدّ الأوّل ينتهي إلى دواعي الآفات ، و الحدّ الثّاني ينتهي إلى دواعي المصيبات ، و الحدّ الثّالث ينتهي إلى الهوى المردي ، و الحدّ الرّابع ينتهي إلى الشّيطان المغوي ، و فيه يشرع باب هذه الدار ، اشترى هذا المغترّ بالأمل من هذا المزعج بالأجل هذه الدّار بالخروج من عزّ القناعة و الدّخول في ذلّ الطّلب و الضّراعة ، فما أدرك هذا المشتري فيما اشترى من درك . فعلى مبلبل أجسام الملوك و سالب نفوس الجبابرة ، و مزيل ملك الفراعنة ، مثل كسرى و قيصر و تبّع و حمير ، و من جمع المال على المال فأكثر ، و من بنى و شيّد ، و زخرف و نجّد ، و ادّخر و اعتقد و نظر بزعمه للولد إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض و الحساب ، و مواضع الثّواب و العقاب إذا وقع الأمر بفصل القضاء و خسر هنالك المبطلون . شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى و سلم من علائق الدّنيا . أقول : نقل الكتاب في البحار ( ص 632 ج 8 و ص 545 ج 9 من طبع الكمباني ) نقله أبو نعيم الإصفهاني في حلية الأولياء ، و العلامة الشيخ البهائي في الأربعين بلى ما نتلو عليك و سيأتي من ذي قبل بعض كلماته عليه السّلام لشريح في بحثنا المعنون القضاء و القاضي في الإسلام ذيل شرح هذا الكتاب . « وهم و رجم » إنّ ما يهمنّا و لا بدّ لنا منه ههنا قبل بيان لغة الكتاب و إعرابه تقديم مطلب [ 103 ] لم يتعرّضه أحد من شرّاح النهج ، و هو أنّ الحافظ أبا نعيم أحمد بن عبد اللَّه الاصفهاني المتوفى سنة 430 ه أسند هذا الكتاب في كتابه حلية الأولياء إلى الفضيل بن عياض قاله للفيض بن إسحاق في واقعة اقتضت ذلك ، و بين ما في النهج و بين الحلية اختلاف يسير في بعض الألفاظ و العبارات و لكنهما واحد بلا ارتياب و دونك ما نقله أبو نعيم : قال أبو نعيم في ترجمة الفضيل بن عياض من حلية الأولياء ( ص 101 و 102 ج 8 طبع مصر 1356 ه 1937 م ) ما هذا لفظه : حدّثنا سليمان بن أحمد ، ثنا بشر بن موسى ، ثنا عليّ بن الحسين بن مخلّد قال : قال الفيض بن إسحاق : اشتريت دارا و كتبت كتابا و أشهدت عدولا فبلغ ذلك الفضيل بن عياض فأرسل إليّ يدعوني فلم أذهب ، ثمّ أرسل إليّ فمررت إليه فلمّا رآني قال : يا ابن يزيد بلغني أنّك اشتريت دارا و كتبت كتابا و أشهدت عدولا ؟ قلت : قد كان كذلك ، قال : فانه يأتيك من لا ينظر في كتابك و لا يسأل عن بيّنتك حتّى يخرجك منها شاخصا يسلّمك إلى قبرك خالصا ، فانظر أن لا تكون اشتريت هذه الدّار من غير مالك ، أو ورثت مالا من غير حلّه ، فتكون قد خسرت الدّنيا و الآخرة ، و لو كنت حين اشتريت كتبت على هذه النسخة : هذا ما اشترى عبد ذليل من ميّت قد ازعج بالرّحيل ، اشترى منه دارا تعرف بدار الغرور ، حدّ منها في زقاق الفناء إلى عسكر الهالكين ، و يجمع هذه الدّار حدود أربعة : الحدّ الأوّل ينتهي منها إلى دواعي العاهات ، و الحدّ الثاني ينتهي إلى دواعي المصيبات ، و الحدّ الثالث ينتهي منها إلى دواعي الآفات ، و الحدّ الرّابع ينتهي إلى الهوى المردي و الشيطان المغوي ، و فيه يشرع باب هذه الدّار على الخروج من عزّ الطاعة إلى الدّخول في ذلّ الطلب ، فما أدركك في هذه الدّار فعلى مبلبل أجسام الملوك ، و سالب نفوس الجبابرة ، و مزيل ملك الفراعنة مثل كسرى و قيصر ، و تبّع و حمير ، و من جمع المال فأكثر و اتّحد و نظر بزعمه الولد ، و من بنى و شيّد و زخرف و أشخصهم إلى موقف العرض إذا نصب اللَّه عزّ و جلّ كرسيّه لفصل القضاء ، و خسر هنالك المبطلون ، يشهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى ، و نظر بالعينين إلى زوال الدّنيا ، و سمع صارخ الزّهد عن عرصاتها . [ 104 ] ما أبين الحقّ لذي عينين إنّ الرّحيل أحد اليومين فبادروا بصالح الأعمال فقد دنا النقلة و الزوال . انتهى . أقول : مع فرض صحّة إسناد الرواية إلى الفضيل أوّلا ، و عدم سهو الراوي و عدم الإسقاط و الحذف ثانيا ، ما كان للفضيل و أضرابه أن يسوقوا الكلام إلى ذلك الحدّ من الزّهد في الدّنيا و الرغبة عنها أو يعبروا تلك المعاني اللّطيفة بتلك الألفاظ الوجيزة ثالثا ، بل لا نشكّ في أنّ سبك العبارات على هذا الاسلوب البديع ، و سوق المعاني على هذا النهج المنيع و التنفير عن الدّنيا بهذه الغاية و الجودة و اللّطافة إنما نزل من حضرة القدس العلويّة . و لا ننكر أنّ مثل تلك الواقعة وقع للفضيل أيضا إلاّ أنّ الفضيل لما رأى أنّ عمل الفيض بن إسحاق شبيه بعمل شريح و يناسبه انتقل إلى ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام لشريح فخاطب به الفيض تنبيها له ، و إنما لم ينسب الكلام إليه عليه السّلام إمّا لعلمه بأنّ الفيض أيضا عالم بذلك الكتاب لاشتهاره بين أهله ، أو كان نقله من باب الاقتباس إن لم يتطرّق إليه سقط و حذف من الراوي و كم لما قلنا من نظير و شبيه نظما و نثرا ، مثلا أنّ العروضي نقل في كتابه المعروف ب « چهار مقاله » أى أربع مقالات ، أنّ نوح بن منصور أمير الخراسان كتب إلى آلبتكين كتابا توعّده فيه بالعقوبة و أوعده بالقتل و الأسر و النهب فلمّا بلغه الكتاب أمر الإسكافيّ الكاتب البليغ المشهور أن يجيبه عن كتابه و يستخفّ به و يستهين ، فكتب الإسكافيّ : « يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما نعدنا إن كنت من الصادقين » . فانظر فيه كيف اقتبس كتابه من القرآن الكريم من غير أن يتفوّه باسناده إليه . ثمّ لا ننكر فضل الفضيل و أنّ له كلمات فاضلة لأنّه كان له شأن و إدراك السعادة العظمى لأنّه كان من سلسلة الرواة و أتى بكثير من رواياته و كلماته الأنيقة العذبة أبو نعيم في الحلية ، و لأنّه أدرك أبا عبد اللَّه عليه السّلام و اغترف من بحر حقائقه [ 105 ] بقدر وسعه ، و اقترف من كنوز معارفه بمبلغ كدّه و جهده ، روى عنه عليه السّلام نسخة يرويها النجاشيّ و لكن كلماته موجودة و نقل كثير منها في الحلية بينها و بين الكتاب بون بعيد و مسافة كثيرة لا تشابهه في سلك ألفاظه و لا تدانيه في سبك معانيه . ثمّ ممّا يؤيّد كلامنا بأنّ الفضيل اقتبس الكتاب منه عليه السّلام ما أسند إليه أبو نعيم في الحلية أيضا و هو عن الصادق عليه السّلام قال أبو نعيم ( ص 100 ج 8 حلية الأولياء الطبع المذكور ) : حدّثنا محمّد بن عليّ ، ثنا المفضل بن محمّد الجندي ، ثنا محمّد بن عبد اللَّه بن يزيد المقري قال : سمعت سفيان بن عيينة يقول : سمعت الفضيل ابن عياض يقول : يغفر للجاهل سبعون ذنبا ما لم يغفر للعالم ذنب واحد . انتهى . و هذه الرواية مع أنها لا تدلّ على أنّ الفضيل قائلها تنافي ما في الكافي و نقلها الفيض في الوافي ( ص 52 ج 1 ) في أوّل باب لزوم الحجة على العالم و تشديد الأمر عليه مسندا عن المنقري عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال : قال يا حفص يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد . و إن اختلج ببالك أنّ تنظيم قبالة الأرض و الدّار على هذا النظم المتضمّن للحدود لم يعهد مثله في صدر الاسلام ، بل صار متعارفا معهودا بعد ذلك العصر فكيف يصحّ اسناد هذا الكتاب إلى الأمير عليه السّلام ؟ . فاعلم : أنّ أمثال هذه الامور الغير المعهودة الصادرة منه عليه السّلام ليس بعزيز حتّى يستغرب من إسناد هذا الكتاب إليه عليه السّلام . و من نظر في كتبه و رسائله حيث إنّه عليه السّلام يبيّن في بعضها آداب العامل و الوالي ، و في بعضها وظائف الخليفة و الأمير ، و في بعضها فنون المجاهدة و رسوم المقاتلة ، و في بعضها تعيين أوقات الفرائض ، و في بعضها ما يتمّ به صلاح الاجتماع و ما به يصير المدينة فاضلة و غيرها من المطالب المتنوّعة في الموضوعات المختلفة الشاخصة الّتي لم تتغيّر بتغيّر الأعصار ، و لم تختلف باختلاف الأمصار قطّ ، لأنّها حقائق و الحقيقة فوق الزّمان و الزّماني و غير متغيّر بتغيّر المادّة و المادّيات ، علم أنّ جميع ما فاض من سماء علمه ممّا يتحيّر فيه العقول ، و يستغرب ، و أنّ [ 106 ] بروز نحو هذا الكتاب منه عليه السّلام ليس بمستبعد . على أنّه رويت عنه عليه السّلام واقعة اخرى و قبالة نظير هذه الواقعة و القبالة نقلها حسين بن معين الدّين الميبدي في شرح الدّيوان المنسوب إلى الأمير عليه السّلام ( ص 448 طبع ايران 1285 ه ) : روى أنّ بعض أهل الكوفة اشترى دارا و ناول أمير المؤمنين عليه السّلام رقّا و قال له : اكتب لي قبالة ، فكتب عليه السّلام : بسم اللَّه الرحمن الرّحيم هذا ما اشترى ميّت عن ميّت دارا في بلدة المذنبين ، و سكنة الغافلين . الحدّ الأوّل منها ينتهي إلى الموت ، و الثاني إلى القبر ، و الثالث إلى الحساب و الرابع إمّا إلى الجنّة و إمّا إلى النار ، ثمّ كتب في ذيلها هذه الأبيات : النفس تبكي على الدّنيا و قد علمت أنّ السلامة منها ترك ما فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلاّ الّتي كان قبل الموت بانيها فإن بناها بخير طاب مسكنها و إن بناها بشرّ خاب ثاويها أين الملوك الّتي كانت مسلّطة حتّى سقاها بكأس الموت ساقيها لكلّ نفس و إن كانت على و جل من المنيّة آمال تقوّيها فالمرء يبسطها و الدّهر يقبضها و النفس تنشرها و الموت تطوبها أموالنا لذوي الميراث نجمعها و دورنا لخراب الدّهر نبنيها كم من مدائن في الآفاق قد بنيت أمست خرابا و دون الموت أهليها و كذا روي عن الصادق عليه السّلام نحو هذا الحديث من جهة تحديد الحدود الأربعة كما في المناقب لمحمّد بن شهر آشوب عن هشام بن الحكم قال : كان رجل من ملوك أهل الجبل يأتي الصادق عليه السّلام في حجّة كلّ سنة ، فينزله أبو عبد اللَّه عليه السّلام في دار من دوره في المدينة ، و طال حجّه و نزوله فأعطى أبا عبد اللَّه عليه السّلام عشرة آلاف درهم ليشتري له دارا و خرج إلى الحجّ ، فلمّا انصرف قال : جعلت فداك اشتريت لي الدّار ؟ قال عليه السّلام : نعم ، و أتى بصكّ فيه : بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم هذا ما اشترى جعفر بن محمّد لفلان بن فلان الجبلي ، اشترى دارا في الفردوس حدّها الأوّل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله ، و الحدّ الثاني [ 107 ] أمير المؤمنين عليه السّلام ، و الحدّ الثالث الحسن بن عليّ ، و الحدّ الرابع الحسين بن عليّ عليهم السّلام . فلمّا قرأ الرّجل ذلك قال : قد رضيت جعلني اللَّه فداك قال : فقال أبو عبد اللَّه عليه السّلام : إنّي أخذت ذلك المال ففرّقته في ولد الحسن و الحسين عليهما السّلام و أرجو أن يتقبّل اللَّه ذلك ، و يثيبك به الجنّة . قال : فانصرف الرّجل إلى منزله و كان الصكّ معه ، ثمّ اعتلّ علّة الموت فلمّا حضرته الوفاة جمع أهله و حلّفهم أن يجعلوا الصكّ معه ، ففعلوا ذلك فلمّا أصبح القوم غدوا إلى قبره فوجدو الصكّ على ظهر القبر مكتوب عليه : و في لي و اللَّه جعفر بن محمد عليهما السّلام بما قال . أقول : و للخدشة في هذا الحديث المنسوب إلى الصادق عليه السّلام مجال و إنما ذكرناه تأييدا لما قدّمنا و بالجملة إنما يستفاد من واقعة الأمير عليه السّلام مع شريح و مع بعض أهل الكوفة أنّ القبالة المتداولة في زماننا تكتب في ابتياع الأملاك حيث يتعيّن فيه الحدود و يذكر فيه الشروط و الشهود إنما كانت متعارفة في زمن الصحابة أيضا هب أنّها بتلك الكيفيّة لم تكن معهودة في صدر الإسلام ، فلا بأس أن يكون أمير المؤمنين عليه السّلام مبتكرة فيه ، فانّه عليه السّلام كان سباقا إلى العجائب و الغرائب دائما فلا مجال لتوهّم إسناد الكتاب إلى غيره عليه السّلام بمجرّد الاستبعاد بل استناده إلى مثل الفضيل مستبعد جدّا ، بل عدم صحة الاسناد إليه معلوم قطعا . « سند الكتاب » نحن بعون اللَّه تعالى وجدنا أسانيد جلّ ما في نهج البلاغة و نرجو من اللَّه الهادي تحصيل أسانيد ما لم يحصل بعد ، و ببالي إن أخذ التوفيق بيدي أن أذكر أسانيد ما في النهج و ما لم يأت به الرّضيّ رضوان اللَّه عليه من كلامه عليه السّلام في آخر الشرح . فنقول : يا ليت الرّضيّ ذكر أسانيد ما نقل في النهج و مدار كه لئلاّ يتقوّل عليه بعض الأقاويل ، و لكنّ الانصاف أن يقال : كفى في سنده أنّ مثل الرّضيّ [ 108 ] أسنده إليه عليه السّلام . ثمّ نقول في المقام : أوّلا إنّ الشريف الرّضيّ مع جلالة شأنه و فخامة أمره و تتبّعه في الآثار و عرفانه بالأخبار و تبحّره في فنون الكلام و تضلّعه في جلّ ما أتى به الشرع أسند الكتاب أعني ذلك الكتاب الّذي كتبه عليه السّلام لشريح ، إليه عليه السّلام و ثانيا أنّ العلاّمة الشيخ بهاء الدّين العاملي قدّس سرّه رواه مسندا في كتابه المعروف بالأربعين و هو الحديث الرابع عشر منه و سلسلة سنده من المشائخ العظام و الرواة الأجلاّء ، فبعد اللّتيا و الّتي فلا مجال لأحد أن يناقش في إسناد الكتاب إليه عليه السّلام ، و في اقتباس الفضيل منه عليه السّلام و دونك الكتاب و سنده على ما في الأربعين . روى الشيخ رحمه اللَّه بسنده المتصل إلى الشيخ الجليل محمّد بن بابويه و قد ذكر سنده إلى ابن بابويه في الحديث الأوّل من الأربعين عن صالح بن عيسى بن أحمد ، عن محمّد بن محمّد بن عليّ ، عن محمّد بن الفرج الرخجي بالراء المهملة المضمومة و الخاء المعجمة المفتوحة و الجيم ثقة من أصحاب الرّضا عليه السّلام عن عبد اللَّه بن محمّد العجلي ، عن عبد العظيم بن عبد اللَّه الحسني المعروف بشاه عبد العظيم المدفون بالري عن أبيه ، عن أبان مولى زيد بن عليّ ، عن عاصم بن بهدلة قال : قال لي شريح القاضي : اشتريت دارا و كتبت كتابا و أشهدت عدولا ، فبلغ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فبعث إليّ مولاه قنبر ، فأتيته فلمّاد دخلت عليه قال : يا شريح اتّق اللَّه فإنّه سيأتيك من لا ينظر في كتابك ، و لا يسأل عن بيّنتك حتّى يخرجك من دارك شاخصا ، و يسلّمك إلى قبرك خالصا ، فانظر أن لا تكون اشتريت هذه الدّار من غير مالكها ، و وزنت مالا من غير حلّه ، فاذا قد خسرت الدّارين جميعا : الدّنيا و الآخرة ، ثمّ قال عليه السّلام : فلو كنت عند ما اشتريت هذه الدّار أتيتني فكتبت لك كتابا على هذه النسخة إذ لم تشترها بدرهمين ، قال : قلت : و ما كنت تكتب يا أمير المؤمنين ؟ قال عليه السّلام : كنت أكتب لك هذا الكتاب : بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم هذا ما اشترى عبد ذليل من ميّت ازعج بالرّحيل اشترى دارا في دار الغرور من جانب الفانين إلى عسكر الهالكين و تجمع هذه الدّار [ 109 ] حدود أربعة : فالحدّ الأوّل منها ينتهي إلى دواعي الآفات ، و الحدّ الثاني منها ينتهي إلى دواعي العاهات ، و الحدّ الثالث منها ينتهي إلى دواعي المصيبات ، و الحدّ الرابع منها ينتهي إلى الهوى المرديّ و الشيطان المغويّ ، و فيه يشرع باب هذه الدّار . اشترى هذا المفتون بالأمل ، من هذا المزعج بالأجل ، جميع هذه الدّار بالخروج من عزّ القنوع ، و الدّخول في ذلّ الطلب ، فما أدرك هذا المشتري من درك فعلى مبلي أجسام الملوك و سالب نفوس الجبابرة مثل كسرى و قيصر ، و تبّع و حمير ، و من جمع المال إلى المال فأكثر ، و بنى فشيّد ، و نجّد فزخرف و ادّخر بزعمه للولد ، إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض لفصل القضاء ، و خسر هنالك المبطلون شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسرى الهوى ، و نظر بعين الزوال لأهل الدّنيا ، و سمع منادي الزّهد ينادي في عرصاتها : ما أبين الحقّ لذي عينين إنّ الرّحيل أحد اليومين تزوّدوا من صالح الأعمال ، و قرّبوا الآمال بالآجال . « اللغة » ( على عهده ) أي في زمانه فإنّ كلمة الجارّة ههنا بمعنى في ، و أحد معاني العهد الزّمان ، ففي أقرب الموارد : كان ذلك في عهد شبابي أي زمانه ، و منه كان ذلك على عهد فلان أي في زمانه . انتهى . ( دينار ) الدّينار ضرب من النقود القديمة الذّهبيّة ، و في أقرب الموارد أنه فارسي معرّب ، و أصله دنّار بالتشديد بدليل جمعه على دنانير و تصغيره على دنينير ، لأنّهما يرجعان الكلمة إلى أصلها غالبا فابدل من أحد حرفي تضعيفه ياء لئلاّ يلتبس بالمصادر الّتي يجي‏ء على فعّال كقوله تعالى : « و كذّبوا بآياتنا كذّابا » ( النبأ 29 ) إلاّ أن يكون بالهاء فيخرج على أصله مثل الصنّارة و الدنّامة لأنّه أمن الآن من الإلتباس ، قاله في الصحاح . ( استدعاه ) أي طلبه ( أشهدت فيه شهودا ) أي أحضرت فيه شهودا ، أو تكون [ 110 ] كلمة في الجارة بمعنى على نحو قوله تعالى « و لاصلّبنكم في جذوع النخل » ( طه 76 ) و يقال : أشهد فلانا على كذا أي جعله شاهدا عليه ، فالمعنى و جعلت قوما شهودا عليه ، و الشهود جاء مصدرا و غير مصدر و المراد هنا الثاني يقال : شهد عند الحاكم لفلان على فلان بكذا شهادة من بابي علم و كرم إذا أدّى ما عنده من الشهادة ، فهو شاهد فيجمع على شهود نحو عادل و عدول ، و شهد كصاحب و صحب ، و أشهاد كناصر و أنصار و شاهدين كعالم و عالمين . و في نسختي الأربعين و حلية الأولياء : و أشهدت عدولا و لكن الشهود أنسب بالمقام من العدول . ( أما ) بفتح الأوّل و تخفيف الثاني : حرف تنبيه ههنا . ( سيأتيك من ) المراد من من إمّا الموت أو ملك لموت ، و الثاني أولى لأنّ من يستعمل غالبا في ذوي العقول كما أنّ ما يستعمل غالبا في غير ذوي العقول و إنّما قلنا غالبا لأنّ ما قد يستعمل في ذوي العقول كقوله تعالى : « و السماء و ما بنيها » ( الشمس 6 ) و من في غير ذوي العقول كقوله تعالى « فمنهم من يمشي على بطنه » ( النور 45 ) و التفصيل مذكور في الموصولات من كتب النحو . ( لا ينظر في كتابك ) يقال : نظره و نظر إليه إذا أبصره بعينه و نظر فيه إذا تدبّره و فكّر فيه ، يقدّره و يقيسه و منه قوله تعالى « و نظر نظرة في النّجوم فقال إني سقيم » ( الصافات 87 و 88 ) و لذا قال بعضهم : إنّ نظر يتعدّى إلى المبصرات بنفسه و يتعدّى إلى المعاني بفي . ( لا يسألك عن بيّنتك ) السؤال إذا كان بمعنى الإستخبار يتعدّى إلى مفعولين إلى الأوّل بنفسه و إلى الثاني بعن كما في المقام ، و قد يتعدّى إلى الثاني بالباء مضمّنة معنى عن نحو : سل به خبيرا ، إي سل عنه ، و قد تخفف الهمزة من فعله فيقال سال يسال سل و مسول كخاف يخاف خف و مخوف ، المستفاد من ظاهر كلام المرزوقي في شرح الحماسة ( الحماسة 757 ص 1715 طبع مصر 1371 ه ) أنّ التخفيف هو لغة هذيل . قال عبد اللَّه بن الدمينة ( الحماسة 510 ) . سلي البانة الغناء بالأجرع الّذي به البان هل حبّبت أطلال دارك [ 111 ] فقوله : سلي ، كان أصله اسألي فخذف الهمزة تخفيفا و ألقيت حركتها على السين فصار إسلي ، ثمّ استغنى عن همزة الوصل لتحرّك ما بعدها فحذفت فصارت سلي ، و على هذا القياس قوله تعالى : « سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بيّنة » ( البقرة 209 ) . ( البيّنة ) الحجّة . و في نسخة الأربعين عن بيتك أي دارك الّتي اشتريتها و الأوّل أنسب بالمقام ، و ما يختلج في البال أنّ الثاني حرّف من الكتّاب و إلاّ لقال عليه السّلام : حتّى يخرجك منه ، لا من دارك كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام ، و الشاهد لذلك ترجمة ابن خاتون العاملي بالفارسية في شرحه على الأربعين للشيخ بهاء الدّين قدّس سرّه حيث قال : زود باشد كه بر تو وارد شود شخصى كه نگاه بسند تو نكند ، و از گواهان تو چيزى نپرسد ، الخ . على أنّ النسختين متفقتان في الأوّل . ( شاخصا ) إشارة إلى قوله تعالى : « إنما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار » ( الحجر 44 ) و قوله تعالى : « فاذا هي شاخصة أبصار الّذين كفروا » ( الأنبياء 98 ) قال الراغب في المفردات : قال تعالى : تشخص فيه الأبصار ، شاخصة أبصارهم أي أجفانهم لا تطرف . و في مجمع البيان التفسير : شخص المسافر شخوصا إذا خرج من منزله ، و شخص عن بلد إلى بلد و شخص بصره إذا نظر إليه كأنه خرج إليه . يقال : شخص بصره فهو شاخص إذا فتح عينيه و جعل لا يطرف مع دوران في الشحمة ، و شخص الميّت بصره و ببصره أي رفعه ، و في منتهى الارب : شخص بصره : واكرد چشم را و وا داشت و بر هم نزد آنرا و بلند كرد نگاه را ، و شخصت عينه باز ماند چشم او . و يمكن أن يتّخذ الشاخص من شخص المسافر من بلد إلى بلد شخوصا بمعنى ذهب و سار و خرج من موضع إلى غيره ، و منه حديث إقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل . أو من شخص السهم إذا ارتفع عن الهدف ، و منه الدّعاء : اللّهمّ إليك شخصت [ 112 ] الأبصار أي ارتفعت أجفانها ناظرة إلى عفوك و رحمتك ، قال الجوهريّ في الصحاح : أشخص الرامي إذا جاز سهمه الغرض من أعلاه ، و هو سهم شاخص ، فالمراد على هذا الوجه الأخير حتّى يخرجك منها مرفوعا أي محمولا على أكتاف الرّجال . و الوجهان الأخيران ممّا احتملهما الشيخ في الأربعين أيضا و جعل العبارة على الأوّل كناية عن الموت ، فانّه ذكر معنى الشاخص على الوجه الّذي أتى به الجوهريّ في الصّحاح حيث قال : شخص بصره بالفتح فهو شاخص إذا فتح عينيه و صار لا يطرف ، و هو كناية عن الموت و كذا الطريحي في مجمع البحرين . و لكن في أقرب الموارد بعد ما في الصحاح أتى بقيد زائد و هو قوله : مع دوران الشحمة ، و هذا المعنى لا يناسب قوله عليه السّلام : حتّى يخرجك ، فانّ المرء ما لم يمت لا يخرج من داره ، و لا يخفى أنّ المعنى الّذي ذكره في الصحاح لا يشير إلى الموت ، غاية الأمر إلى شدّة الأمر و هو له ، و لذا فسّر الكلبي كما في مجمع البيان قوله تعالى : « فإذا هي شاخصة أبصار الّذين كفروا » بقوله : إنّ أبصار الّذين كفروا تشخص في ذلك اليوم أي لا تكاد تطرف من شدّة ذلك اليوم و هو له ، ينظرون إلى تلك الأهوال . و بالجملة إنّ شخص بالمعنى الأوّل لا يدلّ على موت الشاخص إلاّ أن يؤخذ الشاخص من شخص الميت بصره و ببصره إذا رفعه ، و كذا شخصت عينه ، حتّى يستقيم المعنى الكنائي ، أو من شخص المسافر بمعنى ذهب و سار على نوع من التجوّز . ( يسلّمك إلى قبرك ) من التسليم أي يعطيك قبرك و يناولك إيّاه يقال : سلّمه إلى فلان أي أعطاه إيّاه فتناوله منه ، و يمكن أن يؤخذ من الاسلام لأنّ أسلم جاء بمعنى سلّم أيضا يقال : فلان أسلم أمره إلى فلان أي سلّمه إليه . ( خالصا ) الخالص هو المحض و المراد هنا العاري من أعراض الدّنيا و حطامها أي يخرجك عاريا منها . ( نقدت الثمن من غير حلالك ) يقال : نقدته و نقدته لفلان الثمن أي أعطيته [ 113 ] إيّاه نقدا معجّلا ، فالمراد أنك ابتعتها بيعا نقدا أي بيع الحال بالحال . و على نسخة الشيخ في الأربعين : و وزنت مالا من غير حلّه ، أي وزنت للدّار أو لبائعها مالا يقال : وزنت فلانا وزنت لفلان كما يقال : كلت زيدا و كلت لزيد قال تعالى و إذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ( المطففين 4 ) . و على نسخة أبي نعيم في الحلية : أو ورثت مالا من غير حلّه ، و معناه ظاهر و لكن الصواب أن يقال : إن ورثت محرف و زنت لعدم مناسبة ورثت في المقام و تفسير العبارة على ورثت لا يخلو من تكلّف و تعسف . و ما في المتن موافق للنسختين . ( ترغب في شراء ) الأفعال كما تتغير معانيها بتغيّر الأبواب سواء كانت الأبواب مجردة أو غير مجردة كذلك تتغيّر معانيها بتغيّر صلاتها ، و كذا الحكم في مصادرها ، فالرغبة و مشتقاتها إذا كانت صلتها كلمة في الجارة تفيد معنى الارادة و الميل إلى الشي‏ء و نحوهما يقال : رغب في الشي‏ء إذا أراده و أحبّه ، و مال إليه و طمع فيه و حرص عليه ، و إذا كانت صلتها كلمة عن الجارة تفيد الاعراض و الترك يقال : رغب عنه إذا زهد فيه و لم يرده و أعرض عنه و تركه قال تعالى : و من يرغب عن ملّة إبراهيم إلاّ من سفه نفسه ( البقرة 126 ) . ( الدرهم ) بكسر الدّال و فتح الهاء و كسرها : ضرب من النقود القديمة المضروبة من الفضّة للمعاملة ، قال في الصحاح و منتهى الارب : إنه فارسي معرب و في أقرب الموارد و المنجد : يوناني معرب . و ربما قالوا درهام أيضا بكسر الدال قال الشاعر : لو أن عندي مأتي درهام لجاز في آفاقها خاتامي و جمع الدرهم دراهم ، و جمع الدرهام دراهيم ، قال الشاعر : تنفي يداها الحصى في كل هاجرة نفي الدراهيم تنقاد الصياريف نقل البيتين في الصحاح . ( ميت ) أصله ميوت على وزن فيعل من الموت . ( ازعج للرحيل ) ازعج بالبناء للمفعول أي شخص به للرحيل يقال [ 114 ] أزعجه فانزعج أي أقلقه و قلعه من مكانه فقلق و اقنلع ، هذا إن كانت اللام للتعليل و إن كانت بمعنى إلى فالمعنى سيق إليه يقال : أزعجه إلى المعصية أي ساقه إليها كما في لسان العرب في مادة أزز على ما في أقرب الموارد . ( دار الغرور ) الغرور بضم الغين المعجمة مصدر يقال غره يغره غرورا من باب نصر أي خدعه و أطمعه بالباطل و لذا قيل : الغرور تزيين الخطاء بما يوهم أنه صواب ، و كذا قيل : الغرور شرك الطريق بفتحتين ، و المراد من دار الغرور الدنيا قال تعالى و ما الحيوة الدنيا إلا متاع الغرور ( آل عمران 184 و الحديد 21 ) و قال تعالى : إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحيوة الدنيا و لا يغرنكم بالله الغرور ( لقمان 35 ) و لذا توصف الدنيا بالغرور بالفتح و يقال : دنيا غرور بل أحد معاني الغرور بالفتح الدنيا ، قال ابن السكيت كما في صحاح الجوهري : الغرور الشيطان و منه قوله تعالى و لا يغرنكم بالله الغرور . أقول : الصواب أن كل ما يغر الانسان من مال و جاه و شهوة و شيطان و غيرها فهو غرور بالفتح و إنما فسر بالشيطان لأنه الغار الحقيقي و تلك الامور آلات و وسائط . إذ هو أخبث الغارين ، و بالدنيا لأنها تغر و تضر و تمر كما قاله عليه السلام و سيأتي في باب المختار من حكمه . ( خطة ) واحدة خطط قال الجوهري في الصحاح : الخطة بالكسر الأرض يختطها الرجل لنفسه و هو أن يعلم عليها علامة بالخط ليعلم أنه قد اختارها لنفسه ليبنيها دارا ، و منه خطط الكوفة و البصرة ، و المراد منها البقعة و الناحية و الجانب و أمثالها و يقال بالفارسية : سرزمين . ( تجمع هذه الدار ) أي تحويها و تحيط بها . ( دواعي ) جمع الداعية بمعنى السبب ، قال الحريري : و تاقت نفسي إلى أن أفض ختم سره و أبطن داعية يسره ، أي أعرف باطن سبب يسره نقله في أقرب الموارد ، دواعي الدهر : صروفه ، دواعي الصدر : همومه ، و لكن المراد هنا معناها الأول أى أسباب الآفات و المصيبات . [ 115 ] و في الحلية : و الحد الأول منها و في الأربعين و الحد الثاني منها ينتهي إلى دواعي العاهات ، و هي جمع العاهة أي الآفة ، و أصل العاهة عوهة ، يقال : عيه الزرع و أيف و أرض معيوهة أي ذات عاهة و طعام ذو معوهة أي من أكله أصابته عاهة و في النهاية الأثيرية : في الحديث نهى عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة ، أي الآفة التي تصيبها فتفسدها يقال : عاه القوم و أعوهوا إذا أصابت ثمارهم و ماشيتهم العاهة ، و منه الحديث : لا يورد ذو عاهة على مصح ، أي لا يورد من بابله آفة من جرب أو غيره على من إبله صحاح لئلا ينزل بهذه ما نزل بتلك فيظن المصح أن تلك أعدتها فيأثم . و في مجمع البحرين : في الحديث بظهر الكوفة قبر لا يلوذ به ذو عاهة إلا شفاه الله ، أي آفة من الوجع ، و في الحديث : لم يزل الإمام مبرءا عن العاهات أي هو مستوي الخلقة من غير تشويه . و قيل : الفرق بين الآفات و العاهات أن العاهات تكون الأمراض الظاهرية من قبيل برص أو جذام ، و الآفات تكون الأمراض الباطنية من مثل الحمي . ( المردي ) اسم فاعل من الإرداء بمعنى الاهلاك ، فالهوى المردي أي الهوى المهلك ، و الردي : الهلاك ، و المراد هنا هلاك الدين ، و يقال أيضا : أرداه في البئر مثلا أي أسقطه فيها ، فالمعنى على هذا الوجه الهوى المسقط إلى هوة جهنم و مآل المعنيين واحد . ( المغوي ) كالمردي فاعل من الاغواء أي المضل ، و هو إشارة إلى قوله تعالى حاكيا عن الشيطان : و لاغوينهم أجمعين ( الحجر 41 ) قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ( ص 85 ) . و في الحلية ( زقاق الفناء ) الزقاق بضم الأول و تخفيف الثاني : السكة و قيل : الطريق الضيق دون السكة نافذا كان أو غير نافذ يذكر و يؤنث جمعه زقاق بالضم فالتشديد و أزقة . ( يشرع ) بالبناء للمفعول من الاشراع أي يفتح ، و في القاموس : أشرع بابا إلى الطريق فتحه . أو من الاشراع بمعنى التهيؤ أى يتهيأ للدخول و الخروج [ 116 ] نحو قول جعفر بن علبة الحارثي ( الحماسة 4 ) : فقالوا لنا ثنتان لابد منهما صدور رماح اشرعت أو سلاسل أي إذا كان الأمر على هذا فلا بد من أحدهما إما صدور رماح هيأت للطعن أو سلاسل ، أي إما القتل أو الأسر و لكن المعنى الأول أبين و أنسب . في الأربعين : بالخروج من عز القنوع ، و القنوع بالضم : القناعة . ( الضراعة ) : الذلة : مصدر من ضرع ضراعة من بابي منع و شرف أي خضع و ذل و تذلل . ( أدرك ) بمعنى لحق يقال : طلب الشي‏ء حتى أدركه أي حتى لحقه و وصل إليه . ( درك ) قال في الصحاح : الدرك التبعة ، تسكن و تحرك ، يعني أن الدرك يقرأ على وجهين بفتح الأولين و بفتح الأول و سكون الثاني يقال : ما لحقك من درك فعلي خلاصه . و المراد من الدرك هنا ما يضر بملكية المشتري كأن يدعي أحد كان المبيع ملكه و بيع بغير حق و كان البائع غاصبا و غير ذلك . ( مبلبل ) اسم فاعل من بلبل القوم بلبلة و بلبالا إذا هيجهم و أوقعهم في الهم و وسواس الصدور . قال باعث بن صريم « على التصغير » : سائل أسيد هل ثأرت بوائل أم هل شفيت النفس من بلبالها أى من همها و حزنها ( الحماسة 175 ) . و قال منصور النمري : فلما رآني كبر الله وحده و بشر قلبا كان جما بلابله أى كانت غمومه مجتمعة عليه ( الحماسة 749 ) . أو من بلبل الألسنة أي خلطها أي يخلط و يمزج أجسامهم بتراب القبر . أو من بلبل الشي‏ء إذا فرقه و مزقه و أفسده بحيث أخرجه عن حد الانتفاع به ، و المراد هنا المعنى الثاني أو الثالث كما هو ظاهر لاغبار عليه ، فلا حاجة إلى ما تكلف به الشيخ محمد عبده حيث فسر مبلبل الأجسام بقوله : مهيج داءاتها [ 117 ] المهلكة لها . و في نسخة الشيخ في الأربعين : فعلى مبلي أجسام الملوك ، و قال قدس سره في بيانه : مبلي كمكرم من البلاء بالكسر و هو الدثور و الاندراس ، و كذا ابن الخاتون العاملي في شرحه قال : مبلي بر وزن مكرم مأخوذ از بلاى بكسر با است كه بمعني دثور و اندراس است يعني از هم پاشيدن و ريزه ريزه شدن ، و لم ينقلا غير المبلي نسخة اخرى فعندهما المبلي هو المتعين ، و في النهج و الحلية : المبلبل مكان المبلي ، و مآل الكل واحد يقال : أبلى الثوب أي أخلقه و بلبله أي مزقه و أفسده ، فمعنى أحدهما قريب من الآخر . ( سالب نفوس الجبابرة ) سلبه يسلبه سلبا و سلبا من باب نصر أى انتزعه من غيره على القهر ، و النفوس جمع النفس و هي هنا بمعنى الروح ، و الجبابرة : الملوك كما في اللسان فسالب نفوس الجبابرة أي قابض أرواح الملوك أو أن الملوك أحد بعض مصاديق الجبابرة . ثم الظاهر أنه عليه السلام كنى بالمبلبل و السالب و المزيل عن الله جلت عظمته و يمكن إرادة ملك الموت منها و لكن الشيخ صرح في الأربعين بأن المراد منها الموت فليتأمل . ( كسرى ) بكسر الكاف و فتحها أيضا لقب ملوك الفرس ، و هو معرب خسرو أي واسع الملك وأحد جموعه : أكاسرة . ( قيصر ) لقب ملوك الروم و جمعه : قياصرة . ( تبع ) بضم التاء المثناة من فوق و تشديد الباء الموحدة المفتوحة . لقب ملوك اليمن و الجمع : تبايعة . ( حمير ) بكسر أوله و فتح ثالثه أبو قبيلة من اليمن و هو حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، و منهم كانت الملوك في الدهر الأول و اسم حمير العرنج ، قاله في الصحاح . ( شيد ) الشيد بكسر الشين ما يطلى به الحائط من حص أو بلاط و نحوهما [ 118 ] و بالفتح المصدر يقال : شاده يشيده شيدا بالفتح جصصه ، و هو مشيد أى معمول بالشيد قال تعالى : و قصر مشيد و نقل إلى باب التفعيل للمبالغه ، أو يكون من شيد البناء أي رفعه كما في أقرب الموارد و كذا في الصحاح حيث قال : و المشيد بالتشديد المطول ، أو من شيد قواعده أي أحكمها . قال الكسائي : المشيد للواحد من قوله تعالى و قصر مشيد و المشيد بالتشديد للجمع من قوله تعالى في بروج مشيدة نقله في الصحاح . أقول : الظاهر أن الكسائي أراد أن المشيد و المشيد بمعنى واحد إلا أن الأول يستعمل في المفرد و الثاني في الجمع فلا يقال قصر مشيد بالتشديد أو بروج مشيدة بالتخفيف فتأمل . ( زخرف ) زخرفه أى زينه و حسنه ، و الزخرف كل ما حسن به الشي‏ء و المزخرف المزين قال الله تعالى : حتى إذا اخذت الأرض زخرفها و ازينت ( يونس 26 ) . قال عنترة بن الأخرس ( الحماسة 817 ) : لعلك تمنى من أراقم أرضنا بأرقم يسقى السم من كل منطف تراه بأجواز الهشيم كأنما على متنه أخلاق برد مفوف كأن بضاحي جلده و سراته و مجمع ليتيه تهاويل زخرف شبه بارز جلد الحية و ظهره و مجمع صفحتي عنقه لاختلاف ألوانها بالتهاويل التي تزخرف بها الإبل . و في المفردات : الزخرف الزينة المزوقة و منه قيل للذهب زخرف . قال في الصحاح : الزخرف الذهب ثم يشبه به كل مموه مزور ، فعلى هذا قوله عليه السلام زخرف بمعنى زينه بالزخرف أي ذهبه . ( نجد ) بالنون و الجيم المشددة و الدال المهملة يقال : نجد البيت أي زينه بالبسط و الفرش و الوسائد ، و في اللسان نجدت البيت بسطته بثياب موشية و النجد محركة : متاع البيت من فرش و نمارق و ستور ، جمعه أنجاد ، و نجود البيت : [ 119 ] ستوره التي تعلق على حيطانه يزين بها . أو يكون نجد من النجد بمعنى ما ارتفع من الأرض أي رفع البناء ، و هذا المعنى على نسخة الشيخ في الأربعين حيث قال : « نجد فزخرف » أنسب إن لم يكن متعينا ، و على نسخة الرضي المعنى الأول أنسب فإن زخرف أعني ذهب يستعمل غالبا في تزيين سقف البيت ، و نجد في تزيين أرضه . ( ادخر ) أي اكتسب المال و خبأه لوقت الحاجة إليه ، و هو افتعل من الذخر لكنه ابدل من التاء دالا فادغم الدال فيه فلك أن تقول : ادخر ، و لك أن تقول : اذخر ، قال منظور بن سحيم « بالتصغير » الحماسة 422 : و عرضي أبقى ما ادخرت ذخيرة و بطني أطويه كطي ردائيا ( اعتقد ) مالا : جمعه ، و اعتقد ضيعة : اقتناها ، تقول : اعتقد عقدة إذا اشترى ضيعة ، و العقدة : الضيعة و العقار الذي اعتقده صاحبه ملكا أي اقتناه و غيرهما من الأموال الصامتة فلك أن تقول : اعتقد أي جعل لنفسه عقدة . ( الولد ) بسكون الثاني و حركات الواو و بفتحههما كل ما ولده شي‏ء و يطلق على الذكر و الانثى و المثنى و المجموع ، و هو مذكر و الجمع أولاد و ولدة بالكسر فالسكون و إلدة بإبدال الواو همزة و ولد بالضم فالكسر فالأخير جاء جمعا و مفردا كالفلك قال تعالى : و الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ( البقرة 161 ) ، و قال تعالى : حتى إذا كنتم في الفلك و جرين بهم بريح طيبة ( يونس 24 ) فالأولى مفرد و الثانية جمع . ( نظر بزعمه للولد ) يقال : نظر له أي رثاه و أعانه و المراد هنا جمع المال للولد إعانة له و تحننا عليه . ( إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض و الحساب ) أي إرجاعهم إليه قال في اللسان : أشخص فلانا إلى قومه : أرجعه اليهم . و يقال أيضا : أشخصه أي أزعجه و أحضره . ( العرض ) أي عرض أعمالهم عليهم من عرض الشي‏ء عليه و له أي أراه إياه [ 120 ] قال تعالى : ثم عرضهم على الملائكة ( البقرة 31 ) و عرضوا على ربك صفا ( الكهف 47 ) إنا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض ( الأحزاب 73 ) و عرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ( الكهف 101 ) و يوم يعرض الذين كفروا على النار « الأحقاف 35 ) . ( فصل القضاء ) الفصل إبانة أحد الشيئين من الآخر حتى تكون بينهما فرجة و يوم الفصل أحد أسماء القيامة قال تعالى هذا يوم الفصل جمعناكم و الأَولين ( المرسلات 39 ) أي اليوم يبين الحق من الباطل ، و قال تعالى إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين ( الدخان 42 ) و قال : و هو خير الفاصلين ( الأنعام 58 ) فقوله عليه السلام : فصل القضاء أي فصل القضاء بين الحق و الباطل . ( خسر هنالك المبطلون ) اقتباس من قوله تعالى : فإذا جاء أمر الله قضي بالحق و خسر هنا لك المبطلون ( المؤمن 80 ) . الاعراب « قاضي » صفة لشريح بالإضافة . « بثمانين » الباء للتعويض و المقابلة و هي الداخلة على الأعواض و الأثمان . جملة اشترى على عهده دارا بثمانين دينارا خبر إن . « قد كان ذلك » كان تامة و ذلك فاعل لها . « نظر مغضب » مفعول مطلق لفعل نظر . ثم إن كلمة مغضب فيما رأينا من النسخ المطبوعة من النهج مشكولة بكسر الضاد لكنها و هم و الصواب بفتحها كما في نسخة عتيقة مصحّحة جدا قد رزقنا الله أثناء الشرح و وفقنا بابتياعها و قد تفألت بها التوفيق في إتمام هذا الأثر كيف لا و في الخبر : إذا أراد الله شيئا هيا أسبابه . و بعد ذلك تفضل علينا صديقنا الفاضل السيد مهدي الحسيني اللاجوردي زاده الله توفيقا بالاطلاع على نسخة من مكتبته بدار العلم قم قوبلت بنسخة السيد الامام الرضي رضوان الله عليه ، و النسختان موافقتان متنا و صحة في عدة مواضع قوبلتا فيها ، و المغضب فيهما مشكولة بالفتح . [ 121 ] أما من حروف التنبيه يصدّر بها الجمل كلّها حتّى لا يغفل المخاطب عن شي‏ء ممّا يلقي المتكلّم إليه ، و لذا سمّيت حروف التنبيه ، و هي : أما و ألا و ها ، و الأخيرة خاصّة من المفردات على أسماء الإشارة حتّى لا يغفل المخاطب عن الاشارة الّتي لا يتعيّن معانيها إلاّ بها نحو : هذا ، و هاتا ، و نحوهما . « حتى لا يخرجك » الفعل منصوب بأن المقدرّة وجوبا و يسلّمك عطف عليه . « شاخصا » حال لضمير المفعول في يخرجك . « خالصا » حال لضمير المفعول في يسلّمك . « فانظر يا شريح لا تكون » في نسختي الأربعين و حلية الأولياء : فانظر أن لا تكون . فإن كان بمعنى تدبّر و تفكر فلا بدّ من صلته بفي ، و إن كان بمعنى أبصر إمّا أن تكون صلته بإلى ، و إمّا يتعدّى بنفسه يقال نظره و نظر إليه أي أبصره بعينه كما قدّمنا في اللّغة . ثمّ إنّ الأولى و الأنسب أن تكون صلة الفعل كلمة في الجارة المقدّرة حتّى تفيد معنى التدبّر و التّأمّل و التفكّر أي تأمّل و تدبّر في أن لا تكون اشتريت هذه الدار من غير مالك أو نقدت الثمن من غير حلالك . فعلى هذا يكون المصدر المسبوك بأن الناصبة منصوبا بنزع الخافض ، أي تأمّل في عدم كونك شاريا لها من غير مالك و في أدائك ثمنها من غير حلالك ، و أمّا نسخة النهج فعلى وزان قوله تعالى : « انظر كيف ضربوا لك الأَمثال » ( الاسراء 52 ) ثمّ اعلم الصواب أن يقرأ ما لك في قوله عليه السّلام : ابتعت هذه الدّار من غير مالك بهيئة الفاعل لأنّه لو قرى‏ء باضافة المال إلى الضمير يلزم التكرار لأنّ معنى جملتي « ابتعت هذه الدّار من غير مالك » و « أو نقدت الثمن من غير حلالك » واحد حينئذ فالمتعين أنه فاعل لا مضاف و مضاف اليه ، و نسخة الشيخ في الأربعين « فانظر أن لا تكون اشتريت هذه الدّار من غير مالكها » شاهد صادق بل حجة قاطعة للمختار و قد ترجم العبارة و فسّرها كثير من المترجمين و المفسّرين بالإضافة و لم يتفطنوا لتلك الدّقيقة . [ 122 ] « فاذا أنت قد خسرت » قال الشيخ في الأربعين : إذا هذه فجائيّة كالواقعة في قوله تعالى « فاذا هم خامدون » ( يس 30 ) أي فيكون مفاجئا للخسران . « فلم ترغب في شراء هذه الدّار بالدّرهم فما فوقه » و في نسخة الأربعين « إذا لم تشترها بدرهمين » و قال الشيخ في إعرابه : إذا حرف جواب و جزاء و الأكثر وقوعها بعد أن و لو ، و اختلف في رسم كتابتها و الجمهور بالألف و المازني بالنون ، و الفرّاء كالجمهور إن أعملت و كالمازني إن أهملت . انتهى قوله . أقول : و أمّا على نسخة النهج فقوله عليه السّلام : بالدّرهم فما فوقه . الفاء للعطف و ما نكرة موصوفة أو بمعنى الّذي مجرور محلا بالباء و لم تعد لأنّه عطف على الظاهر و العامل في فوق على الوجهين الإستقرار ، و المعطوف عليه الدّرهم و سيأتي توجيه قوله عليه السّلام فما فوقه و تحقيقه في المعنى إن شاء اللَّه تعالى . « من ميّت قد ازعج للرّحيل » قد ازعج للرّحيل صفة للميّت لأنه نكرة كالذّليل للعبد . « اشترى منه دارا » بدل للأوّل كالثالث . و القياس أن يقال : هذه ما اشترى لأنّ ما ابتاعها كانت دارا كقوله عليه السّلام : تجمع هذه الدّار ، و لكنّه عليه السّلام قال : هذا ما اشترى باعتبار المنزل و نحوه . « دارا من دار الغرور » كلمة من بمعنى في إن كان المراد من دار الغرور الدّنيا كما بيّنا أي دارا في دار الغرور نحو قوله تعالى ( الجمعة 10 ) « إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة » أي في يوم الجمعة ، و يمكن أن تكون من على هذا الوجه للتبعيض أيضا كما هو ظاهر أو يكون الظرف مستقرا صفة للدّار ، و إن كانت من لبيان الجنس لا يكون المراد منها الدّنيا . نحو من الثانية في قوله تعالى « يحلّون فيها من أساور من ذهب » ( الكهف 31 ) أي دارا هي دار الغزور . « تجمع هذه الدّار حدود أربعة » هذه الدّار مفعول قدّم و حدود فاعل تجمع و في بعض نسخ الأربعين جعلت هذه الدّار فاعل الفعل و حدود مفعوله حيث كتب [ 123 ] تجمع هذه الدّار حدودا أربعة ، و لكنه من تحريف النّساخ و تصرّفهم . « فالحدّ الأوّل » الفاء هذه للترتيب الذكري لأنّ أكثر ما يكون ذلك في عطف مفصّل على مجمل نحو قوله تعالى : « فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا اللَّه جهرة » ( النساء 153 ) . « بالخروج من عزّ القناعة » الباء للعوض و المقابلة أي اشترى هذا بهذا كما تقول : اشتريت هذه الدّار بهذه الدّنانير . و الدّخول مجروره معطوف على الخروج « فما أدرك » كلمة ما إمّا موصولة أو موصوفة و على التقديرين مبتداء و خبره جملة « فعلى مبلبل أجسام الملوك إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض » لأنّ إشخاصهم مبتداء ثان و خبره على مبلبل أجسام الملوك قدّم لتوسعة الظروف ، و هذه الجملة الاسميّة خبر لما . « من درك » من بيانيّة يبيّن ما « فعلى مبلبل » كلمة الفاء جواب لما لأنه على حدّ : الّذي يأتيني فله درهم ، أعني من المواضع الّتي يتضمّن المبتداء فيها معنى الشرط فتدخل الفاء في خبره نحو قوله تعالى : « و ما بكم من نعمة فمن اللَّه » ( النحل 55 ) و قوله تعالى : « قل إنّ الموت الّذي تفرون منه فانه ملاقيكم » ( الجمعة 8 ) و كأنما أراد الشيخ في الأربعين هذا المعنى حيث قال : ما في ما درك شرطية ، سالب عطف على مبلبل ، و كذا المزيل . « و من جمع » من موصول اسميّ معطوف على الفراعنة أي مزيل ملك الّذي جمع المال الخ ، أو على كسرى كقيصر و أخويه و كأنّ الأخير أظهر و كذا الحكم في من الثاني ، و نسخة الشيخ هكذا : و من جمع المال إلى المال فأكثر و بنى فشيّد و نجّد فزخرف . و لولا كلمة إلى مكان على لكانت نسخته أولى من النهج لعدم الاحتياج إلى من الثاني أوّلا ، و عدم تنسيق العبارة على نظام واحد في النهج ثانيا ، و خلوّه عن التعريفات الحسنة الأنيقة ثالثا . و أمّا كلمة إلى و إن كانت تفيد معنى صحيحا في المقام و لكن على أصحّ و أفصح [ 124 ] منها . و الفاءات تفيد الترتيب « بزعمه » الباء للسببيّة . إلى موقف العرض متعلّق بالاشخاص ، و الظرف لغو ، و على نسختي الشيخ و أبي نعيم « ما أبين الحق » كلمة ما للتعجّب . ما الذى اوجب سخط الامير عليه السّلام على عمل شريح حتى كتب له ذلك الكتاب ؟ قبل الورود في تفسير جمل الكتاب لا بدّ من ذكر مقدّمة ليزيد الطالب بصيرة في غرض الكتاب ، و هي : أنّ سفراء اللَّه تعالى لم يمنعوا النّاس عمّا لا مناص عنها في حياتهم كتعلّم المعارف و تحصيل المأكل و المشرب و الملبس و المنكح و بناء الدّور و اتّخاذ الحرف و الصنائع و نحوها ممّا هي ضروريّة لحفظ نظام الإجتماع و بقاء بني نوع الانسان ، بل ندبوهم إليها و رغّبوهم فيها و حرّموا عليهم الرّهبانيّة بأنّ الانسان مدنيّ بالطبع ، و كذا لم يدّع أحد و لم يرو أنّ حجّة من الحجج الالهيّة عاتب أحدا في قبال عمله الصحيح العقلاني ، بل حذّروهم و نهوهم عما يحكم العقل الناصع بقبحه و يذمّ من ارتكبه كالسرقة و الكذب و الافتراء و الخيانة و الغصب و الاقتداء بالنساء و نحوها ممّا هي تضرّ سعادة الاجتماع ، و تمنع الناس عن التكامل و الارتقاء ، و تورث بينهم العداوة و البغضاء . و هذا هو أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام يمدح هديّة و يذمّ اخرى ، لأنّ الاولى كانت عارية عن الهوى ، و الثانية كانت مشوبة بها ، فانها كانت رشوة في صورة هديّة أتى بها آت ليلا و زعم أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام يضلّ بها عن الحقّ ، و يفسق عن أمر ربّه أمّا مدحه عليه السّلام الاولى فبعض من كان يأنس إليه عليه السّلام من أصحابه دعاه إلى حلواء عملها يوم نوروز ، فأكل و قال عليه السّلام : لم عملت هذا ؟ فقال : لأنّه يوم نوروز ، فضحك عليه السّلام و قال : نورزوا لنا في كلّ يوم إن استطعتم . و أمّا ذمّه الثانية فإنّ أشعث بن القيس أهدى له نوعا من الحلواء تأنّق فيه و ظنّ الأشعث أنه يستميله بالمهاداة لغرض دنيويّ كان في نفس الأشعث ، و كان [ 125 ] يبغض أمير المؤمنين عليه السّلام فردّ هديّته و قال : و أعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها و معجونة شنئتها كأنّما عجنت بريق حيّة أوقيئها ، فقلت : أصلة ؟ أم زكاة ؟ أم صدقة ؟ فذلك كلّه محرّم علينا أهل البيت ، فقال : لا ذا و لا ذاك و لكنّها هديّة ، فقلت : هبلتك الهبول أعن دين اللَّه أتيتني لتخدعني أمختبط أم ذوجنّة أم تهجر ؟ و اللَّه لو اعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصى اللَّه في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلته ، و إنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعليّ و نعيم يفنى ، و لذّة لا تبقى نعوذ باللَّه من سبات العقل و قبح الزّلل و به نستعين ( ذيل الكلام 222 من باب الخطب من النهج ) . ثمّ إذا كان المتجر الحلال و تحصيل ما يحتاج إليه الناس و منه ابتياع الدّار ممدوحا شرعا و عقلا حتّى قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله : من سعادة المرء المسلم المسكن الواسع ، و قال أبو جعفر عليه السّلام : من شقاء العيش ضيق المنزل و غيرهما من الأخبار المرويّة في الكافي و غيره ( الوافي ص 107 ج 11 ) . فلازم للعاقل المستبصر أن ينظر في قول أمير المؤمنين عليه السّلام لشريح حتى يظهر له سبب سؤاله شريحا عن داره هذه فإنّ شريحا كان قاضيا من قبله عليه السّلام و سيأتي ترجمته في ذيل الشرح ، و الظاهر أنّ شريحا تجاوز عن الحقّ في أوان قضائه و اشترى بالارتشاء أو نحوه بيتا فصار عمله هذا سبب مؤاخذة أمير المؤمنين عليه السّلام إيّاه على ابتياع الدّار سيّما أنّ القائمين بامور الدّين كالقاضي و المفتي و المدرّس و المؤذّن و الخطيب و الامام و أمثالهم لا تعظم ثروتهم في الغالب . و لا ريب أنّ أزمّة الامور إذا كانت بيد رجل إلهيّ خيّر للاجتماع و رؤف بالناس يجتاح شوك الجور و العدوان من أصله و لا يدع أحدا أن يتجاوز عن قانون الفطرة و ينحرف عن الحقّ فلا جرم يدور رحى الاجتماع على محور العدل . و بالجملة أنّ ما أوجب سخطه عليه السّلام على شريح و عمله كما يلوح من ظاهر كتابه عدول شريح عن الحقّ و تجاوزه عن حقوق الناس حتّى اشترى دارا بثمانين دينارا [ 126 ] من غير حلال ، و لو لا ذلك لما سخط عليه و ما جعل له أحد الحدود الحدّ الّذي ينتهي إلى الشيطان المغوي و فيه يشرع باب هذه الدّار . المعنى قوله : ( روي أنّ شريح بن الحارث قاضي أمير المؤمنين عليه السّلام ) سنذكر في ذيل شرح الكتاب ترجمة شريح و نسبه و خبره و مدّة قضائه و ما قيل فيه إنشاء اللَّه تعالى قوله : ( اشترى على عهده دارا بثمانين دينارا ) أي اشترى في زمان حياة أمير المؤمنين عليه السّلام دارا في الكوفة كان ثمنها ثمانين دينارا ، و إنّما قلنا اشترى دارا في الكوفة لأنّه كان قاضيا فيها ، و يظنّ ظاهرا أنّه اشتراها في الكوفة أيضا . قوله : ( فبلغه ذلك فاستدعى شريحا ) أي بلغ أمير المؤمنين عليا عليه السّلام ابتياع شريح تلك الدّار فطلب عليه السّلام شريحا . قوله : ( و قال له بلغني أنّك ابتعت دارا بثمانين دينارا و كتبت لها كتابا و أشهدت فيه شهودا ) أي قال عليه السّلام لشريح : بلغني اشتراءك دارا ثمنها ثمانون دينارا ، و كتبت لها قبالة و أحضرت في ذلك شهودا ، أو جعلت قوما شهودا عليه على أن تكون في بمعنى على . قوله : ( فقال له شريح قد كان ذلك يا أمير المؤمنين ) أي قد ثبت و وقع ذلك لأنّ كان تامّة . قوله : ( قال فنظر إليه نظر مغضب ) أي قال الرّاوي و هو عاصم بن بهدلة على رواية الشيخ قدّس سرّه في الأربعين ، و لا يجوز إرجاع الضمير إلى شريح و إلاّ لقال فنظر إليّ . ثمّ إنّ غضب سفراء اللَّه و أوليائه على غيرهم لا يكون إلاّ للَّه عزّ و جلّ ، و إنما كان ذلك من كمال إيمانهم باللَّه و غاية رأفتهم بالناس ، لأنّهم لا يحبّون أن تشيع الفاحشة أو يرتكب أحد منكرا ، و شريح قد آسف أمير المؤمنين عليه السّلام باعترافه باشتراء الدّار فنظر عليه السّلام إليه نظر مغضب و ذلك لما قدّمنا أنّ شريحا لو لم يظلم أحدا على اشترائها و لم يتجاوز عن الحقّ لما سخط عليه السّلام عليه و لما جعل أحد حدود الدّار الحدّ الّذي ينتهي إلى الشيطان المغوي . قوله : ( ثمّ قال يا شريح أما أنه سيأتيك ) و في نسخة الشيخ في الأربعين « قال [ 127 ] يا شريح اتّق اللَّه فانه سيأتيك » أي خف اللَّه و احذر ما حرّمه عليك ، قال بعضهم : التقوى أن لا يراك اللَّه حيث نهاك ، و لا يفقدك حيث أمرك . و قيل : المتقي الّذي اتّقى ما حرّم عليه و فعل ما أوجب عليه . و قيل : هو الّذي يتّقي بصالح أعماله عذاب اللَّه . و سأل عمر بن الخطاب كعب الأحبار عن التقوى ، فقال : هل أخذت طريقا ذا شوك ؟ فقال : نعم ، قال : فما عملت فيه ؟ قال : حذرت و شمّرت ، فقال كعب : ذلك التقوى ، و نظمه بعض الناس فقال : خلّ الذّنوب صغيرها و كبيرها فهو التّقى و اصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرنّ صغيرة إنّ الجبال من الحصى و روي عن النبي صلّى اللَّه عليه و آله أنّه قال : إنّما سمّي المتّقون لتركهم ما لا بأس به حذرا للوقوع فيما به بأس . و قال عمر بن عبد العزيز : التقيّ ملجم كالمحرم في الحرم أتى بها الطبرسي في المجمع ضمن قوله تعالى « ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين » ( البقرة 3 ) . قوله عليه السّلام : ( أما إنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك و لا يسألك عن بيّنتك ) أما للتنبيه كأنّ شريحا كان نائما استيقظه أمير المؤمنين عليه السّلام ، لأنّ الغافل في أعماله كالنائم فنبّهه عليه السّلام من نوم الغفلة فقال : انتبه يا شريح سيأتيك ملك الموت أو الموت لا يتأمّل في كتابك و لا يستخبرك عن حجّتك . أمّا عدم نظره و استخباره ، فان كان المراد من من الموت فالأمر واضح و إن كان المراد منه ملك الموت عليه السّلام فوجهان : الأوّل أنه مأمور لقبض الأرواح فقط ، و ليس تكليفه السؤال عن أعمال الناس قال تعالى : « قل يتوفّيكم ملك الموت الّذي و كّل بكم ثمّ إلى ربّكم ترجعون » ( السجدة 13 ) و قوله تعالى : « و ما منّا إلاّ له مقام معلوم » ( الصافات 165 ) . الوجه الثاني أنّه من العقول المجرّدة المحيطة بما دونهم ، و إنما يسأل عن الشي‏ء و يستخبر عنه من لم يكن محيطا به . [ 128 ] قوله عليه السّلام : ( حتّى يخرجك منها شاخصا ) أي حتّى يخرجك الموت ، أو ملك الموت من تلك الدّار حال كونك مرفوعا محمولا على أكتاف الرّجال ، هذا إن أخذنا الشاخص من شخص السهم إذا ارتفع عن الهدف . أو و الحال أنت خارج من تلك الدّار و سائر إلى دار اخرى أي أنت مرتحل من هذه الدّار إلى الدّار الآخرة إن أخذناه من شخص المسافر شخوصا إذا خرج من منزله إلى غيره . أو حال كونك ميّتا إن أخذناه من شخص الميّت بصره و شخصت عينه على التحقيق الّذي قدّمناه في اللّغة . قوله عليه السّلام : ( و يسلّمك إلى قبرك خالصا ) أي يسلّمك إلى قبرك حالكونك عاريا من المال و الأهل و العيال و مجرّدا من أعراض الدّنيا و حطامها ، أي لا ينفعك ما تركت من الأهل و العيال و ما ادّخرت من الأموال في وحشة القبر و غربته إلاّ صالح الأعمال يوم لا ينفع مال و لا بنون إلاّ من أتى اللَّه بقلب سليم . قوله عليه السّلام : ( فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدّار من غير مالك ) أي إذا كان مآل كلّ أحد أن يخرج من الدّنيا شاخصا و يسلّم إلى قبره خالصا فتأمّل و تدبّر في عدم كونك شاريا لها من غير مالكها بأن تكون الدّار مغصوبة فحينئذ لا بدّ في معنى ابتعت من توسع ، لأنه لم يكن بيعا صحيحا جزما . قوله عليه السّلام : ( أو نقدت الثمن من غير حلالك ) عطف على ابتعت ، أي إذا كان كذلك فتدبّر و تأمّل في أدائك ثمنها من غير حلالك بأن اكتسبه من حرام بأخذ رشوة أو نحوها ، لأنه كان قاضيا و القضاة في معرض الارتشاء و أكل المال بالباطل ، إلاّ من اتّقى للَّه حقّ تقاته . قوله عليه السّلام : ( فاذا أنت قد خسرت دار الدّنيا و دار الآخرة ) إذا فجائيّة أى إن كانت الدّار المبيعة مغصوبة أو ثمنها من الحرام فأنت مفاجأ للخسران في الدّارين . أمّا خسرانه في دار الدّنيا لأنّ مالك الدّار يسلبها من يد غاصبها سيّما [ 129 ] في عصر كان فيه هيكل التوحيد و عنصر العدل عليّ بن أبيطالب عليه السّلام أمير الناس رحب الباع فيردّ الدّار إلى مالكها ، فيبقى الخسران على المشتري ، فقد تقرّر في الفقه أنّ أحدا لو اشترى مالا من غير مالكه فمالكه يأخذه من المشتري و المشتري يرجع في ثمنه إلى البائع الغاصب ، و إن تعاقبت أيد عديدة فيه تخيّر المالك في إلزام أيّهم شاء . و أمّا خسرانه في دار الآخرة فإنّ التّمتّع من غير الحلال في الدّنيا تصير و بالا في الآخرة ، و ذلك هو الخسران المبين . قوله عليه السّلام : ( أما لو أنك كنت إلى قوله : بدرهم فما فوقه ) أي كتبت لك في قبال قبالتك قبالة في مسافة تلك الدّار و حدودها و مبدئها و منتهاها و سائر أوصافها لم ترد و لم تحبّ ابتياعها بدرهم فما دونه في الصّغر و القيمة . و العاقل إذا تأمّل في نسخة القبالة كيف يرغب في بيت أحد حدوده دواعي الآفات ، و الآخر دواعي المصيبات ، و الثالث منته إلى الهوى المردي ، و الرابع إلى الشيطان المغوي و لو اعطيها مجّانا . فإن قلت : إنه عليه السّلام قال : بدرهم فما فوقه ، فكيف فسّرته بدرهم فما دونه ؟ قلت : إنّ الدّار الّتي لا يرغب في شرائها بدرهم فبالأولى أن لا يرغب بما فوقه من الدّرهمين فأكثر ، و هذا ظاهر لا غبار عليه ، فلا يصحّ حمل العبارة على ما فوق الدّرهم في مقدار الثمن ، بل المراد من قوله فما فوقه ، فوق الدّرهم في القلّة و الحقارة ، نحو قولك لمن يقول : فلان أسفل الناس و أنذلهم : هو فوق ذاك ، تريد هو أبلغ و أعرق فيما وصف به من السفالة و النذالة فيؤل فما فوقه إلى فما دونه في الصّغر و القيمة . و هذا هو أحد الوجهين ذكرهما المفسرون في قوله تعالى : « إنّ اللَّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها » ( البقرة 26 ) فذهب بعضهم كقتادة و ابن جريح و أتباعهما إلى أنّ المراد فما فوقها في الصغر و القلّة ، و بعض آخر إلى أنّ المراد فما فوقها أي أكبر منها و ما زاد عليها في الحجم . [ 130 ] و يجري الاحتمالان في ما روي في صحيح مسلم عن ابراهيم عن الأسود قال : دخل شباب من قريش على عائشة و هي بمنى و هم يضحكون ، فقالت : ما يضحككم ؟ قالوا : فلان خرّ على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه أن تذهب ، فقالت : لا تضحكوا إتّي سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله قال : ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلاّ كتبت له بها درجة و محيت عنه بها خطيئة . فيحتمل فما عدا الشوكة و تجاوزها في القلّة ، و يحتمل ما هو أشدّ من الشوكة و أوجع . و قال العكبريّ في شرحه على ديوان المتنبي عند قوله : و من جسدي لم يترك السقم شعرة فما فوقها إلاّ و فيها له فعل و ما فوقها يجوز أن يكون ما هو أعظم منها ، و يجوز أن يريد ما دونها في الصغر و قد قال المفسّرون في قوله تعالى « بعوضة فما فوقها » الوجهان اللّذان ذكرنا . انتهى . و لكن كلا الوجهين في الآية و الخبر لا يتمشّيان في المقام لما علمت أنّ ما لا يرغب فيه بدرهم فبالأولى أن لا يرغب فيه بما فوقه . فما أشار إليه بعض في حاشية النهج من أنّ هذه العبارة في المقام تكون مثل قوله تعالى « بعوضة فما فوقها » ليس باطلاقه صحيحا . ثمّ إنّ لتفسير نحو هذه العبارة وجها آخر أدقّ و ألطف ممّا قدّمنا لم يتعرّضه أحد من الشراح و المفسّرين و هي : أنّ مفاد عبارة النهج مثلا يكون هكذا : لم ترغب فيها بدرهم فكيف ترغب فيها بما فوقه ، كأنّه قال : فبأن لا يرغب فيها بما فوق الدّرهم أولى ، نظير هذا المضمون يقال في المحاورات الفارسيّة : اين كالا بدرمي نمى‏ارزد تا چه رسد كه به بيشتر از آن . و هكذا نحوه في كلّ مقام بحسبه مثلا « إنّ اللَّه لا يستحبي أن يضرب مثلا ما بعوضة » فبأن لا يستحيي أن يضرب مثلا فوقها أولى ، أو كيف يستحيي أن يضرب مثلا فوقها ، و على هذا القياس في الخبر و شعر المتنبي و نحوها . [ 131 ] ثمّ إنّ الشارح البحراني قرّر السؤال و الجواب بقوله : فان قلت : فكيف قال فما فوقه و معلوم أنه إذا لم يرغب فيها بدرهم فبالأولى أن لا يرغب فيها بما فوقه ؟ . قلت : لما كان الدّرهم أقلّ ما يحسن التملّك به في القلّة و كان الغرض أنّك لو أتيتني عند شرائك هذه الدّار لما شريتها بشي‏ء أصلا لم يحسن أن يذكر وراء الدّرهم إلاّ ما فوقه ، و نحوه قول المتنبي : و من جسدي لم يترك ، البيت ، و كان قياسه أن يقول : فما دونها . انتهى . أقول : إذا كان الدّرهم أقلّ ما يحسن التملّك به و كان الغرض ذلك فكيف لم يكتف عليه السّلام بدرهم فقط و لما ذا ذكر فوقه ، و لا يرتبط قوله لم يحسن أن يذكر وراء الدّرهم إلاّ ما فوقه بما قبله معنىّ ، و بالجملة أنّ ما أتى به من الجواب بعيد عن الصواب ، و تأبى عنه عبارة الكتاب . قوله عليه السّلام : ( بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم ) من هنا إلى آخر الكتاب قبالة الدّار على نهج لو تؤمّل فيها لا يرغب في شرائها بدرهم ، و لو نظر فيها العارف بفنون الكلام و أساليب البيان لأيقن أنّ هذا الكلام متميّز عن كلام من سواه عليه السّلام كالفضيل و أضرابه . افتتح الكتاب بالبسملة اقتداء بالقرآن العظيم و امتثالا لمثال الرّسول الكريم . افتتح القرآن ببسم اللَّه الرّحمن الرّحيم تعليما للعباد أن يبدؤا امورهم كبيرها و صغيرها بتلك الآية المباركة ليبارك فيها ، و الافتتاح بتلك الكلمة الطيّبة سنّة الأنبياء و المرسلين ، و شعار الأولياء و الصّالحين كما جاء في القرآن المبين حكاية كتاب سليمان النبيّ صلوات اللَّه و سلامه عليه : « بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم ألاّ تعلوا عليّ و أتوني مسلمين » ( النمل 32 و 33 ) . و في الكافي عن الباقر عليه السّلام أوّل كلّ كتاب نزل من السماء بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم ، فاذا قرأتها فلاتبال أن لا تستعيذ ، و إذا قرأتها سترتك فيما بين السماء و الأرض [ 132 ] و في التهذيب عن الصادق عليه السّلام إنها أفرب إلى اسم اللَّه الأعظم من ناظر العين إلى بياضها . و في التوحيد عن الصادق عليه السّلام من تركها من شيعتنا امتحنه اللَّه بمكروه لينبّهه على الشكر و الثناء و يمحق عنه و صمة تقصيره عند تركه . و عن أمير المؤمنين عليه السّلام إنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله حدّثني عن اللَّه عزّ و جلّ أنّه قال : كلّ أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم فهو أبتر . قوله عليه السّلام : ( هذا ما اشترى عبد ذليل ) لم يقل هذه باعتبار المنزل و البيت و نحوهما و إنّما عبّر شريحا بالعبد الذّليل لئلاّ يتوهّم حيث كان قاضيا أنّ له شأنا و رفعة بل نبّهه بأنّه في أيّة حال كان ، و بلغ إلى أيّة رتبة رفيعة و درجة شامخة تتصوّر عبد ذليل في يد مولى قاهر لا يقدر من الفرار عن سلطانه و حكومته ، و معلوم أنّ دأب الإنسان الفخر و العجب و الإستكبار إن رآه ذا رياسة و اقتدار إلاّ الأوحدي من الناس ، لا يلهيه التكاثر و لا يعتني بالتفاخر قال عزّ من قائل : « رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر اللَّه » الآية ( النور 38 ) . و هذا التوجيه المختار أمتن و أتقن من توجيه الشارح البحراني حيث قال : خصّ المشتري بصفة العبوديّة و الذلّة كسرا لما عساه يعرض لنفسه من العجب و الفخر بشراء هذه الدّار . قوله عليه السّلام : ( من ميّت قد ازعج للرّحيل ) و في بعض النسخ من عبد قد ازعج للرّحيل ، و على الاولى إنما عبّر البائع بالميّت الّذي قد ازعج للرّحيل مع أنّه حيّ لعدم استقامة الشراء من الميّت ، تنبيها على أنّ الموت لبالمرصاد بل أنشب أظفاره فإذا حان حينه لا منجى منه و لا مناص ، فعدّه ميّتا لتحقّق وقوعه عن قريب و هذا تذكار للنّاس بأنّ الموت قريب وقوعه و كلّ نفس ذائقته ، فلا ينبغي لهم أن يحبّوا العاجلة و يذروا و رائهم يوما ثقيلا . و في الكافي عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام همام أنّ الدّنيا قد ارتحلت مدبرة ، و أنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلة و لكلّ واحد منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة و لا تكونوا من أبناء الدّنيا ، إلخ . قوله عليه السّلام : ( اشترى منه دارا من دار الغرور ) بدل من اشترى الاولى : أي [ 133 ] اشترى دارا في بيت الغرور أي الدّنيا ، أو دارا هي دار الغرور ، و قد مضى وجه التفسيرين في الاعراب فراجع . و إنما كانت الدّنيا دار الغرور لأنّها تغرّ أهلها بألوانها و زخارفها و حطامها فتلهيهم عن ذكر اللَّه عزّ و جلّ قال تعالى « و ما الحيوة الدّنيا إلاّ متاع الغرور » ( آل عمران 184 ) و قال : « فلا تغرّنكم الحيوة الدّنيا » ( لقمن 35 ) . و في كتاب عيون الحكم عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال : احذروا هذه الدّنيا الخدّاعة الغدّارة الّتي قد تزيّنت بحليّها ، و افتتنت بغرورها ، و غرّت بآمالها و تشوّفت لخطّابها ، فأصبحت كالعروس المجلوّة ، و العيون إليها ناظرة ، و النفوس بها مشغوفة ، و القلوب إليها تائقة ، و هي لأزواجها كلّهم قاتلة ، الخ . قوله عليه السّلام : ( من جانب الفانين و خطّة الهالكين ) في نسخة الشيخ في الأربعين : من جانب الفانين إلى عسكر الهالكين ، و في نسخة أبي نعيم في حلية الأولياء : حدّ منها في زقاق الفناء إلى عسكر الهالكين ، و ترجم ابن الخاتون العاملي نسخة الشيخ في شرحه الفارسي عليه بقوله : مسافت آن از جانب فنا و زوال است تا لشكر هلاك و ارتحال ، و نسخ النهج متّفقة في العبارة المذكورة . أقول : الفناء خلاف البقاء ، و الهلاك يستعمل غالبا في من مات ميتة سوء من معصية اللَّه و مخالفة أمره قال تعالى : « كمثل ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته » ( آل عمران 115 ) و قال : « و كم من قرية أهلكناهم فجائها بأسنا بياتا أو هم قائلون » ( الأعراف 5 ) و قال : « و تلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا » ( الكهف 60 ) و قال عزّ من قائل : « فأمّا ثمود فاهلكوا بالطاغية و أمّا عادا هلكوا بريح صرصر عاتية » ( الحاقّة 7 ) و غيرها من الايات . و إنّما قلنا غالبا لأنّه قد يطلق على الموت على حتف الأنف كقوله تعالى : « إن امرؤ هلك ليس له ولد » ( النساء 176 ) و على غير الموت أيضا نحو قوله تعالى حكاية عن أصحاب الشمال : « هلك عنّي سلطانيه » ( الحاقّة 30 ) . و قال في أقرب الموارد : هلك الرّجل مات ، و لا يكون إلاّ في ميتة سوء و لهذا لا يستعمل للأنبياء العظام ، انتهى . [ 134 ] أقول : و يردّه قول اللَّه عزّ و جلّ : « و لقد جاء كم يوسف من قبل بالبيّنات فما زلتم في شكّ ممّا جاءكم به حتّى إذا هلك قلتم لن يبعث اللَّه من بعده رسولاً » الآية ( المؤمن 38 ) . على أنّا لا نفرّق بين الأنبياء في قبح اسناد نحو الميتة السوء ممّا ينفر عنه الطباع إليهم و إن كنّا لا ننكر أنّ اللَّه تعالى فضّل بعضهم على بعض قال عزّ قائلا : « تلك الرّسل فضّلنا بعضهم على بعض منهم من كلّم اللَّه و رفع بعضهم درجات » الآية ( البقرة 256 ) . فعلى ما عرفت من معنى دار الغرور و الفناء و الهلاك فيكون من جانب الفانين أخصّ من دار الغرور و خطّة الهالكين أخصّ من جانب الفانين ، و هذا كما قيل على ما جرت العادت به في كتب البيع من الإبتداء بالأعمّ و الإنتهاء في تخصيص المبيع إلى امور بعينه . ثمّ على نسختي الأربعين و حلية الأولياء عيّن عليه السّلام أوّلا مسافة الدّار بأنها من جانب الفانين أو رقاق الفناء إلى عسكر الهالكين ، و بيّن ثانيا حدودها الأربعة و لا يخفى لطفه . قوله عليه السّلام : ( و تجمع هذه الدّار حدود أربعة ) أي تحوي هذه الدّار و تحيط بها حدود أربعة آتية ، بيّن حدودها الأربعة كما هو المتعارف في تعيين حدود الأراضي و الدّور و غيرهما ، و الحدود في تحديد الأملاك بمنزلة الجنس و الفصل في الحدود قوله عليه السّلام : ( فالحدّ الأوّل ينتهي إلى دواعي الآفات إلى آخر الحدود ) أخذ يفصّل حدودها المذكورة على الاجمال أوّلا و في النسخ الثلاث أعني النهج و الأربعين و الحلية في تعيين الحدود اختلاف في الجملة و قد ذكرنا النسخ فلا حاجة إلى الإعادة . ثمّ إنّه لا توجد دار في الدّنيا تكون دار السّلام ، بل تنتهي لا محالة إلى الآفات و الأسقام و المصيبات و الآلام ، لأنّ الدّنيا نفسها دار بالبلاء معروفة و بالتزاحم و التصادم معجونة ، فالحدّ ان الأوّلان تعمّ جميع الدّار و أمّا الآخران فيختصّان بما بنيت على أساس الجور و مال الزّور لأنّ المال الصالح في يد الرجل الصالح لا ينجرّ إلى الهوى المردي و الشيطان المغوي بل هو نعم المال . [ 135 ] ثمّ إنه عليه السّلام جعل باب هذه الدّار الّذي يشرع أي يفتح للدّخول فيها في الحدّ المنتهي إلى الشيطان المغوي تنبيها على أنّ الدّار المبنيّة على الجور و العدوان ليست إلاّ من إغواء الشيطان ، و إشارة إلى أنّ الشيطان كان سببا لاشترائها ، و لو أعرض شريح عن اتّباعه لما أقدم إلى ابتياعها . قوله عليه السّلام : ( اشترى هذا المغترّ بالأمل من هذا المزعج بالأجل هذه الدّار بالخروج من عزّ القناعة و الدّخول في ذلّ الطلب و الضراعة ) بدل من الأوّل و أفاد عليه السّلام في هذه الفقرة : أوّلا أنّ اغترار شريح بالأمل صار سبب اشترائه الدّار . و ثانيا أنّه جعل ثمنها الخروج من عزّ القناعة و الدّخول في ذلّ الطلب و الضراعة لما مرّ في الإعراب من أنّ الباء للعوض و للمقابلة . و ثالثا أنّ القانع عزيز و للقناعة عزّة . و رابعا أنّ الخروج من عزّ القناعة يؤدّي إلى الذّلة و المسكنة من الطلب و الضراعة للخلق . ثمّ انظر في لطائف كلامه عليه السّلام و دقائق بيانه : ذمّ الأمل ، و الطلب و الضراعة و الخروج من القناعة ، مدح القناعة ، و وصفها بالعزّة ، و جمع بين الأمل و الأجل و الخروج و الدّخول ، و العزّ و الذلّ ، و القناعة و الضراعة ، و محاسن هذا الكتاب فوق أن يحوم حولها العبارة . الانبياء و ورثتهم عليهم السّلام لا يأمرون بالذل و السؤال بل يحضون على العز و الجلال زعم الجاهلون و المغفلون عن غرض سفراء اللَّه تعالى و بعثتهم أنّهم يدعون الناس إلى الفقر و الكدية ، و يأمرونهم بالبطالة و العزلة و الرّهبانيّة ، و ذلك ظنّ الّذين اتّبعوا أهواءهم و لم يصلوا إلى درك مقاصد الأنبياء و فهم مطالبهم ، و لم يدروا أنّهم نهوا الناس عن الدّنيا المذمومة أي اقتراف المال و ادّخاره على وجه لم يمضه العقل و لا يرضى به ، كأن يقترفه بالسرقة و القيادة و القمار و الرّبا و الجور و شهادة الزور و بيع الخمر و نحوها ممّا تضرّ الإجتماع و تمنعه عن الارتقاء . [ 136 ] قال اللَّه تبارك و تعالى : « و لكنّ اللَّه حبّب اليكم الايمان و زيّنه في قلوبكم و كرّه إليكم الكفر و الفسوق و العصيان اولئك هم الراشدون فضلا من اللَّه و نعمة و اللَّه عليم حكيم » ( الحجرات 8 و 9 ) . و لا منعوهم عن الدّنيا المحمودة قال عزّ من قائل : « قل من حرّم زينة اللَّه الّتي أخرج لعباده و الطيّبات من الرّزق قل هي للّذين آمنوا في الحيوة الدّنيا خالصة يوم القيمة كذلك نفصّل الآيات لقوم يعقلون قل إنّما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحقّ و أن تشركوا باللَّه ما لم ينزّل به سلطانا و أن تقولوا على اللَّه ما لا تعلمون » ( الأعراف 32 و 33 ) . ثمّ إنّ إسناد الأمر بالرّهبانيّة إلى الأنبياء و ورثتهم كما اجترأ النصارى بذلك و عزوه إلى عيسى نبيّ اللَّه فرية و اختلاق ، لأنّهم حرّموا عليهم الرّهبانيّة و حثّوهم على الكسب و تحصيل العزّة و الكمال و ما رضوا بالذّلّة و النكبة قال اللَّه تعالى : « و للَّه العزّة و لرسوله و للمؤمنين » ( المنافقون 9 ) . و هذا هو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله كيف شدّد النكير على عثمان بن مظعون لمّار كن إلى الرّهبانيّة : روى الشيخ الأجلّ ابن بابويه الصدوق رضوان اللَّه عليه في أوّل المجلس السادس عشر من اماليه باسناده عن أنس بن مالك قال : توفّى ابن لعثمان بن مظعون رضي اللَّه عنه فاشتدّ حزنه عليه حتّى اتّخذ من داره مسجدا يتعبّد فيه ، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله ، فقال له : يا عثمان إنّ اللَّه تبارك و تعالى لم يكتب علينا الرّهبانيّة إنما رهبانيّة امّتي الجهاد في سبيل اللَّه ، الحديث . و كيف يدعونهم إليها مع أنّ كلماتهم في ذمّها لا تحصى كثرة ، و ينادون الناس جهارا ، بأنّ كل واحد منهم كعضو من أعضاء جثمان الإجتماع ، لأنّ الانسان مدنيّ بالطبع فلا بدّ لكلّ واحد منهم من مكسب يتمّ به أمرهم ، و لا يختلّ حتّى لا يتطرّق إليهم النكبة و الذلّة قال تعالى : « و أن ليس للإنسان إلاّ ما سعى » ( النّجم 41 ) . و لقد روى الفريقان عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله أنه قال : إنّما المؤمنون في تعاطفهم [ 137 ] و تراحمهم بمنزلة جسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى و السهر فمن هذا الحديث يستفاد مطالب أنيقة أخلاقيّة و اجتماعيّة منها أنهم بمنزلة جسد ، فأخذ هذا المضمون الشيخ الأجلّ السعدي و قال بالفارسيّة : بني آدم أعضاي يكديگرند كه در آفرينش ز يك گوهرند چو عضوي بدرد آورد روزگار دگر عضوها را نماند قرار تو كز محنت ديگران بى‏غمي نشايد كه نامت نهند آدمي و هذا هو أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام كيف آخذ شريحا في كتابه هذا بخروجه من عزّ القناعة ، و دخوله في ذلّ الطلب و الضراعة ، باغتراره بالأمل . و أخبارنا في ذمّ طول الأمل و السؤال من الناس و مدح الكسب و تحصيل الكمال و ترغيب الناس إلى ما فيه سعادتهم و رفعتهم و تبرّي الأنبياء من الّذين صاروا بالعطالة و البطالة كلاّ على الناس كثيرة جدّا و لولا خوف الإطناب و الخروج عن اسلوب الكتاب لذكرناها فلعلّنا نأتي بطائفة منها في المباحث الآتية إن شاء اللَّه تعالى . و بالجملة أنّ ما جاء به الأنبياء فانما هو لاحياء النفوس و إيقاظ العقول و سوق الناس إلى ما فيه حياتهم الأبديّة المعنويّة و سعادتهم السرمديّة و خروجهم من حضيض الذلّ إلى أوج العزّ ، قال اللَّه جلّ و علا . « يا أيّها الّذين آمنوا استجيبوا للَّه و للرّسول إذا دعاكم لما يحييكم » ( الأنفال 25 ) . قوله عليه السّلام : ( فما أدرك هذا المشتري فيما اشترى من درك فعلى مبلبل أجسام الملوك ) لمّا بيّن عليه السّلام مسافة الدّار و حدودها أخذ في بيان ضمان درك ما يلحق المشترى . فاعلم أنّ المشتري إن لم يكن عالما بالغصب فاشترى المال المغصوب ثمّ شهد مالكه و لم يجز بناء على صحّة البيع الفضولي و أخذه منه يرجع في ثمنه و ما لحقه من درك آخر إلى البائع ، و إن كان عالما به و أقدم إلى شراء المغصوب فلا حرمة لماله لأنّه ألقى بيده . إلى التهلكة ، لأنّه استولى على مال الغير و تصرّف فيه عدوانا فهو غاصب [ 138 ] و ضامن العين و المنافع ، و لم يكن حينئذ ما أدركه من درك على البائع و ليس له حقّ الرّجوع اليه . و لذا ذهب طائفة من الفقهاء إلى أنّه لا رجوع للمشتري على البائع الغاصب مع علمه حتّى بالثمن مع تلفه ، بل في المسالك أنّ الأشهر عدم الرّجوع به مع وجود عينه ، بل ادّعى عليه في التذكرة الإجماع عقوبة له ، و خالفهم الآخرون فصرّح بعضهم كالشهيد في اللّمعة بالرّجوع به مع بقاء العين سواء كان عالما أو جاهلا و بعضهم بالرّجوع مطلقا سواء تلف الثمن أو لا كالمحقق في أحد قوليه . و من لطائف كلامه عليه السّلام في المقام أنّه عليه السّلام لم يبيّن حكم ضمان الدّرك الّذي يلحق المشتري في هذه المعاملة بأنّ الضامن من هو ؟ بل أحاله إلى يوم القيامة حيث قال عليه السّلام : فعلى مبلبل أجسام الملوك إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض و الحساب الخ ، فلا يخفى لطفه . ثمّ إنّ درك الضمان لا يختصّ بمال المغصوب بل يجري في المبيع المعيب أيضا ، و كذا في الثمن المعيب على التفصيل المذكور في الفقه . ثمّ لا يخفى على ذي مسكة أنه عليه السّلام لم يعلّق ضمان الدّرك على أحد . بل صريح كلامه أنّ على مبلبل أجسام الملوك إشخاصهم إلى موقف العرض و الحساب يعني هنا لك يحكم بين الحقّ و الباطل بفصل القضاء فيعلم أنّ ضامن الدّرك من هو و العجب من شارح البحراني ذهب في شرحه على النهج إلى أنّه عليه السّلام علّق الدّرك و التبعة اللاّزمة في هذا البيع بملك الموت . و كذلك بما حققنا علم أنّ ما ذهب إليه المجلسيّ قدّس سرّه في شرح الكتاب ( ص 545 ج 9 من البحار الطبع الكمباني ) حيث قال : ثمّ اعلم أنه يكفي لمناسبته ما يكتب في سجلاّت البيوع لفظ الدّرك ، و لا يلزم مطابقته لما هو المعهود فيها من كون الدّرك لكون المبيع أو الثمن معيبا أو مستحقا للغير ، فالمراد بالدّرك التبعة و الاثم أي ما يلحق هذا المشتري من وزر و حطّ مرتبة و نقص عن حظوظ الآخرة ، فيجزي بها في القيامة ، ليس بصحيح ، و يأباه قوله عليه السّلام إشخاصهم جميعا [ 139 ] و غيره من العبارات فهو تفسير لا يناسبه الكتاب . قوله عليه السّلام : ( و سالب نفوس الجبابرة ) عطف على مبلبل و كذا قوله عليه السّلام : و مزيل ملك الفراعنة . و إنّما خصّ الملوك و الجبابرة و الفراعنة بالذكر كسرا لشريح و أضرابه حتّى لا يغترّوا بالمنصب و المقام و الشهرة و العنوان ، و تنبيها لهم أنه لمّا كان هؤلاء الملوك و الجبابرة و الفراعنة مقهورين في يد اللَّه الواحد القهّار فكيف مثل شريح و أشياعه ، على و زان قوله تعالى : « أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين كانوا من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوّة . آثارا في الأرض فأخذهم اللَّه بذنوبهم و ما كان لهم من اللَّه من واق » ( المؤمن 24 ) و قوله تعالى : « أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم كانوا أكثر منهم و أشدّ قوّة و آثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون » ( المؤمن 84 ) . قوله عليه السّلام : ( مثل كسرى و قيصر و تبّع و حمير ) مثل لكلّ واحد من الملوك و الجبابرة و الفراعنة و لا يختصّ بالأخير . قوله عليه السّلام : ( و من جمع المال على المال فأكثر ) قد مضى في الاعراب أنّ الأظهر أن يكون من معطوفا على كسرى كالثلاثة قبله أي مثل من جمع المال الخ قوله عليه السّلام : ( و من بنى و شيّد ) عطف على من الأوّل أي مثل من بنى دارا و جصّصها أو رفعها أو أحكم قواعدها على الوجوه الّتي بيّناها في اللّغة . قوله عليه السّلام : ( و زخرف ) أي زيّن سقف البناء و جدرانه بالذّهب . قوله عليه السّلام ( نجّد ) أي زيّنه بالبسط و الفرش و الوسائد و النمارق و الستور و نحوها ، و قد مضى في اللّغة أنّ التذهيب يناسب تزيين سقف البيت ، و التنجيد تزيين أرضه و جدرانه . قوله عليه السّلام : ( و ادّخر ) أي اكتسب المال و جعله ذخيرة لوقت الحاجة إليه قوله عليه السّلام : ( و اعتقد ) أي جعل لنفسه عقدة أي اقتنى الضياع و العقار و غيرهما من الأموال الصامتة . قوله عليه السّلام : ( و نظر بزعمه للولد ) أي نظر في جمع المال لولده إعانة له [ 140 ] و ترحّما عليه و رآه مصلحة له ظنّا منه أنّ عمله هذا ينفعه و يعزّه . و سيأتي في أواخر باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال لابنه الحسن عليه السّلام : يا بنيّ لا تخلفنّ وراءك شيئا من الدّنيا فإنك تخلّفه لأحد رجلين : إمّا رجل عمل فيه بطاعة اللَّه فسعد بما شقيت ، و إمّا رجل عمل فيه بمعصية اللَّه فكنت عونا له على معصيته ، و ليس أحد هذين حقيقا أن تؤثره على نفسك . فإن قلت : فعلى هذا ترى أنّ الشارع منع الناس أن ينظروا لأولادهم و يخلّفوا لأخلافهم ما ينفعهم و يمدّهم في معاشهم ؟ . قلت : كلاّ بل الشارع أغراهم بذلك و كره أن يتكفّف أولادهم بعدهم الناس غاية الأمر نهاهم عن الإكتساب بالحرام نظرا للأولاد و نكتفي في ذلك بذكر رواية روما للاختصار . روى ابن بابويه الصدوق رضوان اللَّه عليه في من لا يحضره الفقيه و نقلها الفيض في الوافي في أبواب الوصية ( ص 12 ج 13 ) : أنّ رجلا من الأنصار توفّى و له صبية صغار و له ستّة من الرّقيق فأعتقهم عند موته و ليس له مال غيرهم ، فاتي النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله فاخبر فقال : ما صنعتم بصاحبكم ؟ قالوا : دفنّاه ، قال : لو علمت ما دفنّاه مع أهل الإسلام ، ترك ولده يتكفّفون الناس . قوله عليه السّلام : ( إشخاصهم جميعا إلى قوله : و خسر هنالك المبطلون ) إشخاصهم أي إزعاجهم و إحضارهم و في نسخة أبي نعيم : و أشخصهم إلى موقف العرض و لكنّها تصحيف و الحقّ ما في النسختين الاخريين لأنّ إشخاصهم مبتداء مؤخّر عن على مبلبل أجسام الملوك قدّم الخبر لتوسع الظروف و ما يجري مجراها و لا يمكن حمل تلك النسخة على وجه صحيح . ثمّ إنّ الضمير في إشخاصهم لا يمكن إرجاعه إلى الملوك و ما بعده لا لفظا و لا معنى أمّا الأوّل فلأنّ الضمير في المبتداء لا يرجع إلى جزء لفظ الخبر و هو ظاهر ، و أمّا الثاني فلأنّ المقصود إحالة ضمان الدّرك على من أوجب الشرع الرجوع به إليه ، فلا بدّ أن يكون ممن كان دخيلا في البيع فهو يرجع إلى البائع [ 141 ] و المبيع و المشتري و صاحب الدّرك ، فالمراد أنّ ملك الموت متعهّد و متكفّل باحضارهم جميعا إلى موقف العرض و الحساب للفصل و القضاء . قوله عليه السّلام : ( شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى و سلم من علائق الدّنيا ) لمّا بيّن حكم الدّرك أردفه بذكر الشهود كما هو السنّة المتعارفة في سائر القبالة و جعل العقل شاهدا على ما قال . ثمّ إنّ ههنا دقيقة أنيقة و هي أنّ الشاهد لا بدّ من أن يكون عادلا ، و إنما قيّد عليه السّلام شهد على ذلك العقل بقوله : إذا خرج من أسر الهوى و سلم من علائق الدّنيا ، ليفيد هذا المعنى ، أعني أن يأتي بالشاهد العادل على ما كتب ، و ذلك لأنّ تلك القوّة القدسيّة الملكوتيّة أعني العقل لمّا تعلّق بشرك البدن و ألف مجاورة الخراب البلقع و صار حشره مع الماديّات قد يتأثّر عن البدن و قواه الحيوانيّة و غيرهما ، فيعرض له من غيره ما يشغله عن فعل نفسه ، لأنّ تلك العوائق كاللّصوص القطّاع لطريقه تمنعه عن الوصول إلى صريح الحقّ و محض الحكم العقلي ، فلو لم يجرّد عنها سيّما عن النفس الأمّارة بالسوء و حبّ الدّنيا و أسر الهوى و قيد الأوهام كان حكمه مزوقا مشوبا بالباطل ، فلم يكن حينئذ شاهدا عادلا ، فلا يخفى لطفه . فالمراد أنّ العقل لو خلّي و طبعه بحيث لم يكن مأسورا في قيد الهوى و علائق الدّنيا يشهد على أنّ لنحو هذا المشتري خسران الدارين ، و في نحو هذا المبيع يلزم تلك الآفات و المصيبات عليه و غيرهما ممّا هي مذكورة في القبالة . ثمّ الحقّ أنّ الرّضيّ رضي اللَّه عنه لم يذكر الكتاب بتمامه ، لأنّ غرضه كان جمع المختار من كلامه عليه السّلام كما صرّح في عدّة مواضع النهج بأنّ ما أتى به هو بعض تلك الخطبة أو ذلك الكتاب أو نحوهما ، و الكتاب بتمامه هو ما في النسختين الاخريين و إن كان بينهما اختلاف ما في بعض العبارات ، فنذكر بعض ما في الأربعين و بيان الشيخ فيه : قوله عليه السّلام : ( في عرصاتها ) أي ساحاتها و الضمير إمّا للدار أو للدّنيا و الأوّل أقرب و إن كان أبعد . [ 142 ] قوله عليه السّلام : ( ما أبين الحقّ لذي عينين ) كلمة ما تعجبيّة أي ما أظهر الحقّ لصاحب البصيرة . قوله عليه السّلام : ( إنّ الرّحيل أحد اليومين ) أي كما أنّ لابن آدم يوم ولادة و هو يوم القدوم إلى هذه الدار ، فله يوم رحيل عنها و هو يوم الموت فينبغي أن لا يزول عن خاطره ، بل يجعله أبدا نصب عينيه . قوله عليه السّلام : ( و قرّبوا الآمال بالآجال ) أي قصروها بتذكّر الموت الّذي هو هادم اللّذات ، و فاضح الآمال . « اشارة » فسّر العالم العامل العاملي الشيخ بهاء الدّين قدّس سرّه في الأربعين هذا الكتاب بوجه آخر أيضا يليق أن يذكر في المقام للطافته و عذوبته . قال : اشارة . يمكن أن يكون الدّار في قوله عليه السّلام اشترى منه دارا ، رمزا إلى هذه البنية البدنيّة ، و المشتري رمزا إلى النفس الناطقة الإنسانيّة العاكفة على تلك البنية الظلمانيّة المشغولة بها عن العوالم المقدّسة النورانيّة ، و البائع رمزا إلى الأبوين اللّذين منهما حصلت الأجزاء المنويّة المتكوّن منها البنية الّتي مبدءها من جانب الفانين و مآلها إلى عسكر الهالكين . ثمّ إنّ هذه البنية أعني البدن و إن كان مركبا للنفس و وسيلة لها إلى تحصيل كمالاتها ، لكن قواه البهيميّة دواع و أسباب لآفات النفس و عاهاتها و مصيباتها و اتّباعها للهوى و الشيطان ، فنزل تلك الدّواعي منزلة حدود الدار المكتنفة بها من جوانبها . و لمّا كان الخروج من ولاية اللَّه و الدّخول في ولاية الطاغوت يحصل باتّباع الهوى و الشيطان ناسب أن يجعل باب تلك الدّار في هذا الحدّ . و لمّا كان ذلّ النفس و خروجها عن استغنائها الّذي كانت عليه في عالمها النوراني ملازما لعكوفها على هذا البدن الهيولاني و مسبّبا عن تعلّقها به و شرائها له شبّهه عليه السّلام بالثمن الّذي هو من لوازم الشراء . [ 143 ] و لمّا كان الموت هو السائق الّذي يسوق الخلق بأجمعهم طوعا و كرها إلى موقف القيامة ليقضي بينهم الحكم العدل و ينتصف من المعتدي للمعتدى عليه شبّهه عليه السّلام بشخص ضمن الدرك فتعهد أن يحضر كلّ من له دخل في هذه المعاملة إلى دار القضاء ليحكم بينهم و يقضي لمن له الحقّ بحقه . هذا ما خطر بالبال في معنى هذا الكلام و لعلّ أمير المؤمنين عليه السّلام أراد معنى آخر غير هذا لم يهتد نظري الكليل إليه ، و ثمّ يعثر فكري العليل عليه ، و اللَّه أعلم بحقيقة الحال . انتهى كلامه رفع مقامه . و ذكر قريبا من هذه الإشارة أو عينها على عبارات اخر العلاّمة المجلسي في المجلّد التاسع من البحار ( ص 545 الطبع الكمباني ) أيضا . أقول : الحقّ أنّ هذا التوجيه وجيه في نفسه و لكنه ليس معنى كلامه عليه السّلام بل تأويل يناسبه و يستفاد منه كالتأويلات المذكورة في طائفة من التفاسير و شروح الأخبار المناسبة للآيات و الأخبار . مثلا أنّ النيشابوري ذكر في تفسيره غرائب القرآن التأويل الآتي من قوله تعالى « و إذ قال موسى لقومه إنّ اللَّه يأمركم أن تذبحوا بقرة الى قوله تعالى و إنّ منها لما يهبط من خشية اللَّه و ما اللَّه بغافل عمّا تعملون » ( البقرة 65 الى 71 ) و نعلم يقينا أنّ هذا التأويل ليس تفسير كلامه تعالى و إن كان لا يخفى من لطافة من حيث التشبيهات و المناسبات و هو صرّح بذلك أيضا حيث قال بعد تفسيره الآيات ما هذا لفظه : التأويل : ذبح البقرة إشارة إلى ذبح النفس البهيميّة فإنّ في ذبحها حياة القلب الرّوحاني و هو الجهاد الأكبر ، موتوا قبل أن تموتوا . اقتلوني يا ثقاتي إنّ في قتلي حياتي و حياتي في مماتي و مماتي في حياتي مت بالإرادة تحي بالطبيعة ، و قال بعضهم : مت بالطبيعة تحي بالحقيقة ، ما هي أنّه بقرة نفس تصلح للذبح بسيف الصدق ، لا فارض في سنّ الشيخوخة فيعجز عن رضايف سلوك الطريق لضعف القوى البدنيّة كما قيل : الصوفي بعد الأربعين [ 144 ] بارد ، و لا يكون في سنّ شرح الشباب يستهويه سكره عوان بين ذلك لقوله تعالى حتّى إذا بلغ أشدّه و بلغ أربعين سنة ، صفراء إشارة إلى صفرة وجوه أصحاب الرّياضات ، فاقع لونها يريد أنّها صفرة زين لا صفرة شين فانّها سيماء الصالحين لا ذلول تثير الأرض ، لا يحتمل ذلّة الطمع و لا تثير بآلة الحرص أرض الدّنيا لطلب زخارفها و مشتهياتها ، و لا تسقي حرث الدّنيا بماء وجهه عند الخلق و بماء وجاهته عند الخالق فيذهب ماؤه عند الحقّ و عند الخلق ، مسلمة من آفات صفاتها ليس فيها علامة طلب غير اللَّه ، و ما كادوا يفعلون بمقتضى الطبيعة ، لو لا فضل اللَّه و حسن توفيقه و إذ قتلتم نفسا يعني القلب ، فادّارأتم ، فاختلفتم أنه كان من الشيطان أم من الدّنيا أو من نفس الأمّارة ، فقلنا اضربوه ببعضها ضرب لسان بقرة النفس المذبوحة بسكّين الصدق على قتيل القلب بمداومة الذكر فحيي باذن اللَّه عزّ و جلّ و قال : إنّ النفس لأمّارة بالسّوء و إنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار ، مراتب القلوب في القسوة مختلفة فالّتي يتفجّر منها الأنهار قلوب يظهر عليها الغليان « من ظ » أنوار الرّوح بترك اللّذات و الشهوات ، بعض الأشياء المشبهة بخرق العادات كما يكون لبعض الرهبانيّين و الهنود ، و الّتي تشقّق فيخرج منها الماء هي الّتي يظهر عليها في بعض الأوقات عند انخراق الحجب البشريّة من أنوار الرّوح فيريه بعض الآيات و المعاني المعقولة كما يكون لبعض الحكماء ، و الّتي يهبط من خشية اللَّه ما يكون لبعض أهل الأديان و الملل من قبول عكس أنوار الرّوح من وراء الحجب فيقع فيها الخوف و الخشية ، انتهى . « القضاء و القاضى فى الاسلام » « إنّ اللَّه يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل إنّ اللَّه نعمّا يعظكم به إنّ اللَّه كان سميعا بصيرا » ( القرآن الكريم سورة النساء الآية 62 ) يناسب في المقام تقديم نبذة من الكلام على ما قرّره الشرع في القضاء و القاضي على سبيل الإجمال و الإختصار فنقول : [ 145 ] الغرض من إرسال الرّسل و إنزال الكتب إحياء مكارم الأخلاق ، و محاسن الأفعال ، و إماتة الصفات المردية ، و الآداب المغوية ، و إيقاظ عقول الناس من نوم الغفلة ، و تزكيتهم من رين الهوى ، و إنارة أرواحهم بالملكات الملكوتيّة ، و إثارة فطرتهم إلى جناب الرّبّ جلّ و علا ، و قيامهم بالعدل ، و احتياج الظلم من بينهم ليتّصفوا بالأوصاف الرّبوبيّة ، و يتخلّقوا بالأخلاق الإلهيّة ، و لئلاّ يتطرّق إليهم الجور و العدوان و الهرج و المرج قال اللَّه تعالى : « لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات و أنزلنا معهم الكتاب الميزان ليقوم الناس بالقسط » ( الحديد 26 ) . ثمّ لو تنازع اثنان في أمر فلا بدّ من حكم عدل يعطي كل ذي الحقّ حقّه ، و يذبّ عنه التصرّف العدوانيّ و أكل المال بالباطل بالأمارات و الاصول الّتي جعلها الشارح الحكيم ميزانا له لحسم مادّة التنازع و قلع شجر التشاجر و فصل القضاء . قال أمير المؤمنين عليه السّلام كما في الكافي و التهذيب : أحكام المسلمين على ثلاثة : شهادة عادلة . أو يمين قاطعة . أو سنّة ماضية من أئمة الهدى . فلا بدّ لحفظ اجتماع الناس من حاكم عادل لا يبيع آخرته بدنياه و لا يعقل عقله بهواه . و كما أنّ الإنسان يحتاج في سلامة جسمه إلى الطبيب الحاذق الأمين المؤمن ، و في سلامة روحه إلى عالم عامل إلهيّ روحانيّ ، كذلك يحتاج الإجتماع لحفظ نظامه و رفع المخاصمة و النزاع إلى طبيب آخر و هو القاضي العادل و حكومة عادلة و لا مناص للنّاس من هؤلاء الأطبّاء . قال الامام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السّلام في هذا المعنى : لا يستغني أهل كلّ بلد عن ثلاثة تفزع إليه في أمر دنيا [ هم ظ ] و آخرتهم ، فإن عدموا ذلك كانوا همجا : فقيه عالم ورع ، و أمير خيّر مطاع ، و طبيب بصير ثقة ( نقل في مادّة طبب من السفينة ) . و اعتبر الشارع في القاضي البلوغ و كمال العقل و الايمان و طهارة المولد و العلم و الذكورة و العدالة ، و إنما اعتبر فيه العدالة حتّى يراعي التسوية بين الخصمين [ 146 ] مطلقا و إن كان أحدهما وضيعا و الآخر شريفا و في الكافي و التهذيب عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال : من ابتلى بالقضاء فليواس بينهم في الاشارة و في النظر و في المجلس فيجب عليه التسوية بينهما في الكلام و السّلام و القيام و غيرها من أنواع الاكرام حتّى لا يجوز له خطاب أحد الخصمين بالكنية و الآخر بالاسم لأنّ الاولى تنبى‏ء بالتعظيم دون الثاني ، و كذا الانصات لكلّ واحد منهما على التفصيل الّذي بيّن في الكتب الفقهيّة . و نحن نكتفي ههنا بما قال أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام لشريح أيضا في آداب الحكم لم يأت به الرّضيّ رضوان اللَّه عليه في النهج ، نقله ثقة الاسلام الكليني مسندا في الكافي ، و شيخ الطائفة في التهذيب ، و الشيخ الأجلّ الصدوق في من لا يحضره الفقيه ، و المحقق الفيض في الوافي ( ص 135 ج 9 ) باسنادهم عن سلمة بن كهيل قال : سمعت عليّا عليه السّلام يقول لشريح : انظر إلى أهل المعك و المطل و دفع حقوق الناس من أهل المقدرة و اليسار ممن يدلي بأموال المسلمين إلى الحكّام ، فخذ للنّاس بحقوقهم منهم ، و بع فيها العقار و الدّيار ، فانّي سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله يقول : مطل المسلم الموسر ظلم للمسلم ، و من لم يكن له عقار و لا دار و لا مال فلا سبيل عليه ، و اعلم أنّه لا يحمل الناس على الحقّ إلاّ من وزعهم عن الباطل ، ثمّ واس بين المسلمين بوجهك و منطقك و مجلسك حتّى لا يطمع قريبك في حيفك ، و لا ييأس عدوّك من عدلك . و ردّ اليمين على المدّعي مع بيّنته فانّ ذلك أجلى للعمى و أثبت في القضاء ، و اعلم أنّ المسلمين عدول بعضهم على بعض إلاّ مجلودا في حدّ لم يتب منه ، أو معروفا بشهادة زور ، أو ظنينا ، و إيّاك و التضجّر و التأذّي في مجلس القضاء الّذي أوجب اللَّه فيه الأجر ، و أحسن فيه الذّخر لمن قضى بالحقّ ، و اعلم أنّ الصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحا حرّم حلالا أو أحلّ حراما ، و اجعل لمن ادّعى شهودا غيّبا أمدا بينهما ، فان أحضرهم أخذت له بحقّه ، و إن لم يحضرهم أوجبت عليه القضيّة . و إيّاك أن تنفذ قضيّة في قصاص أو حدّ من حدود اللَّه أو حقّ [ 147 ] من حقوق المسلمين حتّى تعرض ذلك عليّ إنشاء اللَّه ، و لا تقعدنّ في مجلس القضاء حتّى تطعم . و قال عليه السّلام لشريح أيضا كما في الكافي و التهذيب و الفقيه : لا تسارّ أحدا في مجلسك ، و إن غضبت فقم ، و لا تقضينّ و أنت غضبان . و الأخبار المرويّة في الكتب الأربعة و غيرها عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و أئمّة الهدى في آداب الحكم و القضاء و القاضي كثيرة جدّا تركناها خوفا من الإطناب و فيما قدّمناه كفاية لمن كان طالبا للصواب . ثمّ إنّ ما قدّمنا من وجوب مراعاة المساواة بين الخصمين على القاضي يكون على وجه تساويهما في الإسلام أو الكفر ، بأن كانا مسلمين أو كافرين ، و لو كان أحدهما مسلما و الآخر كافرا ، فلا يجب عليه مراعاتها بينهما ، بل له أن يرفع المسلم على الكافر ، و ذلك لما يأتي من قول أمير المؤمنين مع الرّجل اليهودي في مجلس شريح . « و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكّام لتأكلوا فريقا من أموال النّاس بالاثم و أنتم تعلمون » ( القرآن الكريم الآية 186 من البقرة ) . و حرّم على الناس رفع الدّعاوي إلى قضاة الجور و التحاكم إليهم كما حرّم عليهم أكل المال بالباطل ، و في الصحاح للجوهري : أدلى بما له إلى الحاكم : رفعه إليه و منه قوله تعالى « و تدلوا بها إلى الحكّام » يعني الرشوة ، انتهى . و قال الفيض في الوافي : قوله تعالى : تدلوا ، أي و لا تدلوا حذف لا اعتمادا على العطف و المعنى لا تعطوا الحكّام أموالكم ليحكموا لكم استعارة من قولهم أدلى دلوه إذا أرسلها ، فانّ الرشوة ترسل إلى الحكّام . و في الكافي و التهذيب باسنادهما عن ابن مسكان عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد اللَّه عليه السّلام : قول اللَّه تعالى في كتابه « و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكّام » فقال : يا بابصير إنّ اللَّه قد علم أنّ في الامّة حكّاما يجورون أما أنّه لم يعن حكّام أهل العدل و لكنّه عنى حكام أهل الجور ، يا با محمّد إنّه لو كان [ 148 ] لك على رجل حقّ فدعوته إلى حكّام أهل العدل فأبى عليك إلاّ أن يرافعك إلى حكّام أهل الجور ليقضوا له ، لكان ممّن حاكم إلى الطاغوت و هو قول اللَّه عزّ و جلّ « أ لم تر إلى الّذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل اليك و ما انزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت و قد امروا أن يكفروا به و يريد الشيطان أن يضلّهم ضلالا بعيدا » ( النساء 65 ) . و في التهذيب باسناده عن ابن فضال قال : قرأت في كتاب أبي الأسد إلى أبي الحسن الثاني عليه السّلام و قرأته بخطه سأله ما تفسير قوله « و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكّام ؟ » قال : فكتب إليه بخطّه : الحكّام القضاة قال : ثمّ كتب تحته : هو أن يعلم الرّجل أنه ظالم فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أخذ ذلك الّذي حكم له إذا كان قد علم أنه ظالم . و إنما اعتبر فيه العلم أي العلم بجميع الأحكام عن اجتهاده أعني أن يكون مجتهدا في الدّين مستنبطا أحكامه بالأدلّة الأربعة من العقل و الإجماع و الكتاب و السنّة فلا يكفيه فتوى العلماء و قد وردت آيات و روايات كثيرة في تشديد ذلك و تأكيده ، و لو نذكرها لكثر بنا الخطب و نقتصر بذكر شر ذمة قليلة منها . قال أمير المؤمنين عليه السّلام كما في الكافي و الفقيه و التهذيب لشريح : يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ . قال الباقر عليه السّلام : إنّ من أفتى النّاس بغير علم و لا هدى من اللَّه لعنته ملائكة الرّحمة و ملائكة العذاب ، و لحقه و زر من عمل بفتياه . و قال عليه السّلام : أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرّجال : أنهاك أن تدين اللَّه بالباطل ، و تفتي الناس بما لا تعلم . و قال الصادق عليه السّلام كما في الكافي و التهذيب : القضاة أربعة ثلاثة في النّار و واحد في الجنّة : رجل قضى بجور و هو يعلم فهو في النّار ، و رجل قضى بجور و هو لا يعلم أنّه قضى بجور فهو في النّار ، و رجل قضى بجور و هو لا يعلم أنّه قضى بجور فهو في النّار ، و رجل قضى بالحقّ و هو لا يعلم فهو في النّار جل قضى بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنّة . [ 149 ] و في دعائم الاسلام عن عليّ عليه السّلام أنه قال : القضاة ثلاثة واحد في الجنّة و اثنان في النار : رجل جار متعمّدا فذلك في النار ، و رجل أخطأ في القضاء فذلك في النّار و رجل عمل بالحقّ فذلك في الجنّة . بيان : و لا تنافي بين الأخيرين لأنّ الوسط من الأخير يعمّ الوسطين من الأوّل و الوصيّ في قوله عليه السّلام أو وصيّ نبيّ يعمّ الوصيّ الخاصّ و العامّ ، جمعا بين الأدلّة و تفصيل البحث موكول إلى الكتب الفقهيّة . و أمّا الآيات فقد قدّمنا بعضها و قال اللَّه تبارك و تعالى « إنّا أنزلنا اليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين الناس بما أريك اللَّه و لا تكن للخائنين خصيما » ( النساء 106 ) و قوله تعالى : « و من لم يحكم بما أنزل اللَّه فاولئك هم الفاسقون » ( المائدة 51 ) و قوله تعالى : « يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحقّ و لا تتّبع الهوى » ( ص 27 ) . و إنما اعتبر فيه الذّكورة فلقوله صلّى اللَّه عليه و آله : لا يفلح قوم وليتهم امرأة ، و وصيّته صلّى اللَّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام المرويّة في الفقيه باسناده عن حمّاد : يا علي ليس على المرأة جمعه إلى أن قال : و لا تولّي القضاء ، على أنّ ذلك إجماعيّ لا خلاف فيه عندنا الإماميّة ، فلا يليق لها مجالسة الرّجال و رفع الصوت بينهم . و أمّا اعتبار الإيمان فلأنّ المسلم الفاسق ، إذا لم يصلح لهذا المنصب الجليل فكيف الكافر ، على أنّ الكافر ليس أهلا للأمانة و لم يجعل اللَّه له سبيلا على المسلم إذ الإسلام يعلو و لا يعلا عليه قال اللَّه تعالى : « و لن يجعل اللَّه للكافرين على المؤمنين سبيلا » ( النساء 140 ) . و أمّا اعتبار البلوغ و العقل فبيّن ، و أمّا طهارة المولد فالعمدة فيها الإجماع و فحوى ما دلّ على المنع من إمامته و شهادته ، على أنّ النفوس تنفر عن ولد الزنا . ثمّ إنّ في سيرة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و أهل بيته في دعاوي الناس لعبرة لأولي الألباب يليق لهم أن ينظروا فيها بعين العلم و الدّراية حتّى يتبيّن لهم أنّ الغرض من بعثهم لم يكن إلاّ تعليم النّاس ما فيه نجاحهم و نجاتهم : و هذا هو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله كيف يراعي حقوق النّاس و يحترمها ، روى الشيخ [ 150 ] الجليل العلاّمة بهاء الدّين العاملي في الأربعين الحديث التاسع عشر باسناده عن موسى بن اسماعيل ، عن أبيه ، عن الامام أبي الحسن موسى الكاظم ، عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام قال : إنّ يهوديّا كان له على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله دنانير فتقاضاه ، فقال : يا يهودي ما عندي ما أعطيك ، قال : فانّي لا افارقك يا محمّد حتى تقضيني ، فقال صلّى اللَّه عليه و آله : إذا أجلس معك ، فجلس صلّى اللَّه عليه و آله معه حتّى صلّى في ذلك الموضع الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة و الغداة و كان أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله يتهدّدونه و يتواعدونه ، فنظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله إليهم فقال : ما الّذي تصنعون به ؟ فقالوا : يا رسول اللَّه يهوديّ يحبسك ، فقال صلّى اللَّه عليه و آله : لم يبعثني ربي عزّ و جلّ بأن أظلم معاهدا و لا غيره ، فلمّا علا النّهار قال اليهوديّ : أشهد أن لا إله إلاّ اللَّه و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله ، و شطر ما لي في سبيل اللَّه أما و اللَّه ما فعلت بك الّذي فعلت إلاّ لأنظر إلى نعتك في التوراة فانّي قرأت نعتك في التوراة : محمّد بن عبد اللَّه مولده بمكّة ، و مهاجره بطيبة و ليس بفظّ ، و لا غليظ ، و لا سخاب ، و لا مترنن بالفحش و لا قول الخنا ، و أنا أشهد أن لا إله إلاّ اللَّه و أنك رسول اللَّه ، و هذا مالي فاحكم فيه بما أنزل اللَّه و كان اليهوديّ كثير المال . و هذا هو أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام فانظر إلى فعله و قوله كيف يراعي المواساة و العدل مع يهوديّ و يؤاخذ شريحا بر كونه إلى خلاف العدل حيث قام في مجلس المحاكمة له عليه السّلام إكراما له و لم يقم لليهودي . قال أبو الفرج في الأغاني : و لشريح أخبار في قضايا كثيرة يطول ذكرها و فيها ما لا يستغنى عن ذكره ، منها محاكمة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام في الدّرع قال : حدّثني به عبد اللَّه بن محمّد بن إسحاق ابن اخت داهر بن نوح بالأهواز ، قال : حدّثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي ، قال حدّثني حكيم بن حزام عن الأعمش عن إبراهيم التيمي قال : عرف عليّ صلوات اللَّه عليه درعا مع يهودي فقال : يا يهودي درعي سقطت مني يوم كذا و كذا . فقال اليهوديّ : ما أدري ما تقول ، درعي و في يدي بيني و بينك قاضي المسلمين ، فانطلقا إلى شريح فلمّا رآه شريح قام له عن [ 151 ] مجلسه . فقال له عليّ : اجلس : فجلس شريح ثمّ قال : إنّ خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك و لكنّي سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله يقول : لا تساووهم في المجلس و لا تعودوا مرضاهم . و لا تشيّعوا جنائزهم ، و اضطرّوهم إلى أضيق الطرق ، و إن سبّوكم فاضربوهم ، و إن ضربوكم فاقتلوهم ، ثمّ قال عليه السّلام : درعي عرفتها مع هذا اليهودي ، فقال شريح لليهودي : ما تقول ؟ قال : درعي و في يدي ، قال شريح : صدقت و اللَّه يا أمير المؤمنين إنها لدرعك كما قلت و لكن لا بدّ من شاهد ، فدعا قنبرا فشهد له ، و دعا الحسن بن عليّ فشهد له ، فقال : أمّا شهادة مولاك فقد قبلتها و أمّا شهادة ابنك لك فلا ، فقال عليّ عليه السّلام : سمعت عمر بن الخطاب يقول : سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله يقول : إنّ الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ، قال : اللّهمّ نعم ، قال عليه السّلام : أفلا تجيز شهادة أحد سيّدي شباب أهل الجنّة ، و اللَّه لتخرجنّ إلى بانقيا فلتقضينّ بين أهلها أربعين يوما ، ثمّ سلّم الدّرع إلى اليهودي فقال اليهوديّ : أمير المؤمنين مشى معي إلى قاضيه فقضى عليه فرضي به ، صدقت إنها لدرعك سقطت منك يوم كذا و كذا عن جمل أورق فالتقطتها و أنا أشهد أن لا إله إلاّ اللَّه و أنّ محمّدا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله ، فقال عليّ عليه السّلام : هذه الدّرع لك ، و هذه الفرس لك ، و فرض له في تسعمائة فلم يزل معه حتّى قتل يوم صفين . انتهى . و قال القاضي ابن خلكان في التاريخ : روي أنّ عليّ بن أبيطالب عليه السّلام دخل مع خصم ذمّي إلى القاضي شريح فقام له ، فقال : هذا أوّل جورك ثمّ أسند ظهره إلى الجدار و قال : أما إنّ خصمي لو كان مسلما لجلست بجنبه . أقول : الظاهر أنهما قضيّة واحدة نقلها أبو الفرج بالتفصيل ، و ابن خلّكان بالإجمال إلاّ أنّ أبا الفرج لم ينقل قوله عليه السّلام له « هذا أوّل جورك » . و كذا يشير إلى هذه القضيّة ما في الرّوضات و غيره حيث قالوا : روي أنه عليه السّلام سخط على شريح مرّة فطرده من الكوفة و لم يعزله عن القضاء و أمره بالقيام ببانقيا ، و كانت قرية من الكوفة أكثر سكّانها اليهود ، فأقام بها مدّة حتّى رضي عنه و أعاده إلى الكوفة . [ 152 ] و روي قريب هذه المحاكمة في الكافي و التهذيب و الفقيه و جاء بها الفيض في أبواب الفضاء و الشهادات من الوافي ( ص 141 ج 9 ) عن ابن أبي عمير ، عن البجلي قال : دخل الحكم بن عتيبة و سلمة بن كهيل على أبي جعفر عليه السّلام ، فسألاه عن شاهد و يمين فقال : قضى به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله ، و قضى به عليّ عليه السّلام عندكم بالكوفة فقالا : هذا خلاف القرآن : قال عليه السّلام : و أين وجدتموه خلاف القرآن ؟ فقالا : إنّ اللَّه عزّ و جلّ يقول « و أشهدوا ذوي عدل منكم » ( الطلاق 3 ) فقال لهما أبو جعفر عليه السّلام : و أشهدوا ذوي عدل منكم هو أن لا تقبلوا شهادة واحد و يمينا ؟ ثمّ قال عليه السّلام : إنّ عليّا عليه السّلام كان قاعدا في مسجد الكوفة فمرّ به عبد اللَّه بن قفل التميمي و معه درع طلحة ، فقال له عليّ عليه السّلام : هذه درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقال له عبد اللَّه بن قفل : فاجعل بيني و بينك قاضيك الّذي رضيته للمسلمين ، فجعل بينه و بينه شريحا ، فقال عليّ عليه السّلام : هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة ، فقال له شريح : هات على ما تقول بيّنة ، فأتاه بالحسن عليه السّلام ، فشهد أنها درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة ، فقال : هذا شاهد و لا أقضي بشهادة شاهد حتّى يكون معه آخر ، قال : فدعا قنبرا فشهد أنّها . درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقال شريح : هذا مملوك و لا أقضي بشهادة مملوك ، قال : فغضب عليّ صلوات اللَّه عليه و قال : خذوها فإنّ هذا قضى بجور ثلاث مرّات . قال : فنحوّل شريح عن مجلسه ثمّ قال : لا أقضي بين اثنين حتّى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرّات ؟ . فقال له : ويلك أو ويحك إنّي لما أخبرتك أنّها درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقلت هات على ما تقول بيّنة و قد قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله حيث ما وجد غلول اخذ بغير بيّنة فقلت رجل لم يسمع الحديث فهذه واحدة ، ثمّ أتيتك بالحسن عليه السّلام فشهد ، فقلت : هذا واحد و لا أقضي بشهادة واحد حتّى يكون معه آخر و قد قضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله بشهادة واحد و يمين فهذه ثنتان ، ثمّ أتيتك بقنبر فشهد أنها درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقلت : هذا مملوك و لا أقضي بشهادة مملوك و ما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا ثمّ قال : ويلك أو ويحك إمام المسلمين [ 153 ] يؤتمن من امورهم على ما هو أعظم من هذا . قال الفيض في بيانها : الغلول الخيانة و ربما يختصّ بالغنيمة يقال : غلّ شي‏ء من المغنم إذا اخذ في خفية ، و لعلّ الوجه في جواز أخذ الغلول بغير بيّنة أنه ممّا يعرفه العسكر و لم يقسم بعد بين أهله ليباع و يوهب ، و كفى بهذه القضيّة شاهدا على حماقة شريح ، إلى آخر ما قال . ثمّ و ممّا يليق أن يذكر في المقام تنبيها للقضاة و غيرهم من ذوي المناصب أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله قال : الفقر فخري ، و هذا الفقر قد فسّر بالفقر إلى اللَّه تعالى قال عزّ من قائل « أنتم الفقراء إلى اللَّه و اللَّه هو الغنيّ الحميد » ( فاطر 17 ) كما هو السائر في ألسنة العرفاء . و لكن يمكن أن يفسّر بوجه آخر و هو أن يكون الفقر بمعناه المصطلح الدّراج أي الفقر من الدّرهم و الدّينار و الأرض و الدّار و غيرها من حطام الدّنيا و زخارفها ، و أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله يباهي بفقره من حيث إنّه لم يخن النّاس و لم يطمع إلى أموالهم مع أنّ الدّنيا كانت مقبلة إليه ، و لو شاء أن يكون له بيت من زخرف فما فوقه لتيسّر له و قد قدّمنا في شرح الخطبة 233 ( ص 93 ج 1 من تكملة المنهاج ) كانت عنده صلّى اللَّه عليه و آله في مرضه الّذي توفي منه سبعة دنانير أو ستّة فأمر أن يتصدّق بها و قال صلّى اللَّه عليه و آله : ما ظنّ محمد بربّه أن لو لقى اللَّه و هذه عنده ؟ . و لا ريب أنّ ذا منصب و مقام إذا زاد أمواله على قدر اجرته و نفقته من غير نسبة متناسبة كما نرى في عصرنا هذا أنّ كثيرا من أشباه الرّجال و لا رجال إذا تولّوا أمرا من الامور لم ينصرم عليهم برهة من الزّمان إلاّ بلغت أموالهم من الدّور و القصور و النقود و الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة اولي القوّة ، اتّبع الشيطان لا جرم فعدل عن سواء الطريق ، فخان الناس . و لو لا السرقة و الخيانة و الارتشاء و أكل المال بالباطل فأنّى حصلت له ، و لم لم تحصل للآخر الشريف النجيب الأصيل المؤمن الموحّد الرّؤوف بالنّاس و خدومهم فحريّ أن يقال لهؤلاء اللّصوص : اجتنبوا عن ظلم العباد فانّ ربّكم لبالمرصاد [ 154 ] و إن لم يكن لكم دين فكونوا في دنياكم أحرارا ، و لا تكونوا كالّذين قال الشاعر فيهم : ليل البراغيث ليل لا نفاد له لا بارك اللَّه في ليل البراغيث كأنهنّ بجسمي إذ خلون به قضاة سوء على مال المواريث ثمّ الروايات في ذمّ أخذ الرشا في الحكم و ذمّ القاضي الجائر في الحكم كثير جدّا مع أنّها تمضي حكم العقل في ذلك ، لأنّ العقل يحكم بذمّ الرشا و الجور . روي في الكافي و التهذيب عن سماعة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال : الرشا في الحكم هو الكفر باللَّه . و فيهما عن ابن مسكان عن يزيد بن فرقد قال : سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن السحت فقال : الرشا في الحكم . بيان : مراد السائل من السحت هو قوله تعالى : « سمّاعون للكذب أكّالون للسحت » الآية ( المائدة 47 ) و قوله تعالى : « و ترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم و العدوان و أكلهم السحت » و قوله تعالى « لو لا ينهيهم الرّبّانيّون و الأحبار عن قولهم الإثم و أكلهم السحت » ( المائدة 68 و 69 ) فسأله عليه السّلام عن السحت أي ما معناه في القرآن الكريم أكّالون للسحت و أكلهم السحت . و نعم ما قال العارف الرّومي : تا تو رشوت نستدي بيننده اي چون طمع كردي ضرير و بنده‏اي « ذكر شريح و نسبه و خبره » قد اختلف الرواة في نسبه اختلافا كثيرا و أصحّ الطرق فيه هو : أبو اميّة شريح بن المحارث بن قيس بن الجهم بن معاوية بن عامر بن الرائش بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتّع بتشديد التاء المثناة من فوقها و كسرها الكندي ، كما في الأغاني ( ص 35 ج 16 طبع ساسي ) و اسد الغابة و تاريخ ابن خلكان و غيرها من الكتب المعتبرة . و في الروضات للخوانساري : الكندي بكسر الكاف نسبة إلى كندة الّتي [ 155 ] لقّب بها جدّه الثامن ثور بن مرتع الكوفي ، لأنّه كند أباه نعمته بمعنى كفّرها و كذا في تاريخ ابن خلّكان أيضا . و قال في الأغاني بعد ذكر نسبه المذكور : و قد اختلف الرّواة بعد هذا في نسبه فقال بعضهم : شريح بن هانى‏ء ، و هذا غلط ، ذاك شريح بن هانى‏ء الحارثي ، و اعتلّ من قال هذا بخبر روي عن مجاهد عن الشعبي أنّه قرأ كتابا من عمر إلى شريح من عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين إلى شريح بن هانى‏ء ، و قد يجوز أن يكون كتب عمر هذا الكتاب إلى شريح بن هانى‏ء الحارثني و قرأه الشعبي و كلا هذين الرّجلين معروف ، و الفرق بينهما النسب و القضاء ، فانّ شريح بن هانى‏ء لم يقض و شريح ابن الحارث قد قضى لعمر بن الخطاب و عليّ بن أبيطالب عليه السّلام . و قيل : شريح بن عبد اللَّه ، و شريح بن شراحيل ، و الصحيح ابن الحارث و ابنه أعلم به . أقول : و إنما قال و ابنه أعلم به لأنه روى نسبه المذكور عن هشام بن السائب و عن ابن شريح ميسرة بن شريح . ثمّ روى باسناده عن أبي ليلى أنّ خاتم شريح كان نقشه : شريح الحارث و قيل : إنه من أولاد الفرس الّذين قدموا اليمن مع سيف بن ذي يزن و عداه في كندة و قد روى عنه شيبة بذلك . و روى باسناده عن الشعبي قال : جاء أعرابيّ إلى شريح فقال : من أنت ؟ قال : أنا من الّذين أنعم اللَّه عليهم و عدادي في كندة . و روى عن أبي حصين قال : كان شريح إذا قيل له : ممّن أنت ؟ قال : ممّن أنعم اللَّه عليه بالإسلام عديد كندة قال و كيع : و قيل : إنه لما خرج إلى المدينة ثمّ إلى العراق لأنّ امّه تزوّجت بعد أبيه ، فاستحيا . و في اسد الغابة : أنّه أدرك النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلم و لم يلقه ، و قيل لقيه ، و استقضاه عمر بن الخطاب على الكوفة فقضى بها أيّام عمر و عثمان و عليّ ، و لم يزل على القضاء بها إلى أيّام الحجّاج ، فأقام قاضيا بها ستّين سنة ، و كان أعلم الناس بالقضاء [ 156 ] ذا فطنة و ذكاء و معرفة و عقل ، و كان شاعرا محسنا ، له أشعار محفوظة و كان كوسجا لا شعر في وجهه . قال : روى عليّ بن عبد اللَّه بن معاوية بن ميسرة بن شريح القاضي ، عن أبيه عن جدّه معاوية ، عن شريح أنه جاء إلى النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله فأسلم ثمّ قال : يا رسول اللَّه إنّ لي أهل بيت ذو عدد باليمن فقال له : جى‏ء بهم ، فجاء بهم و النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قد قبض . و قال ابن خلكان : كان من كبار التابعين و أدرك الجاهليّة و استقضاه عمر ابن الخطاب على الكوفة فأقام قاضيا خمسا و ستّين سنة لم يتعطّل فيها إلاّ ثلاث سنين امتنع فيها من القضاء في فتنة ابن الزبير ، و استعفى الحجّاج بن يوسف من القضاء فأعفاه و لم يقض بين اثنين حتّى مات . و قال ابن عبد البر : و كان شاعرا محسنا ، و هو أحد السادات الطلس و هم أربعة : عبد اللَّه بن الزبير ، و قيس بن سعد بن عبادة ، و الأحنف بن قيس الّذي يضرب به المثل في الحلم ، و القاضي شريح المذكور . الطلس : جمع الأطلس أي الّذي لا شعر في وجهه و قال الخوانساري في الروضات : و قيل : إنه من الكواسج الأربعة و فيه مسامحة ، لأنّ الكوسج في اللّغة من كانت لحيته على الذقن دون العارضين أو كان خفيفها جدّا و كذلك في العرف و عليه قول بعض أهل الحكمة : ما طالت لحية أحد إلاّ تكوسج عقله ، بمعنى رقّ و خفّ انتهى . أقول : الكوسج إن كان معرّب كوسه كما في البرهان القاطع قال : كوسه بر وزن بوسه معروف است يعنى شخصى كه او را در چانه و زنخ زياده بر چندي موى نباشد و معرّب آن كوسج است ، فهو كما قاله الخوانساري ، و إن كان عربيّا من كسج الرّجل أي لم ينبت له لحية فالتعبير بالكوسج صحيح بلا مسامحة و إن كان الأوّل هو الأصحّ و الأصوب ، قال الجوهريّ : الكوسج الأثط و هو معرّب ، و قال الأزهريّ لا أصل له في العربيّة . و الأثط هو الّذي لحيته على ذقنه لا على العارضين . [ 157 ] و كان شريح خفيف الرّوح مزّاحا دخل عليه عذيّ بن أرطاة ( حاتم خ ل ) فقال له : أين أنت أصلحك اللَّه ؟ فقال : بينك و بين الحائط قال : استمع منّي ، قال : قل أسمع ، قال : إنّي رجل من أهل الشّام ، قال : من مكان سحيق ، قال : تزوّجت عندكم ، قال : بالرفاء و البنين ، قال : و أردت أن أرحلها ، قال : الرّجل أحقّ بأهله ، قال : و شرطت لها دارها ، قال : الشرط أملك ، قال : فاحكم الآن بيننا قال : قد فعلت ، قال : فعلى من حكمت ؟ قال : على ابن امّك ، قال : بشهادة من ؟ قال : بشهادة ابن اخت خالتك . نقله الجاحظ في البيان و التبيين ( ص 98 ج 4 طبع مصر 1380 ه ) و ابن خلكان في وفيات الأعيان و أنباء أبناء الزّمان . و في الوفيات أيضا : حدّث أبو جعفر المدني عن شيخ من قريش قال : عرض شريح ناقة ليبيعها فقال له المشتري : يا أبا اميّة كيف لبنها ؟ قال : احلب في أيّ إناء شئت ، قال : كيف الوطأ ؟ قال : افرش و نم ، قال : كيف نجاؤها ؟ قال : إذا رأيتها في الابل عرفت مكانها علّق سوطك و نم ، قال : كيف قوّتها ؟ قال : احمل على الحائط ما شئت ، فاشتراها فلم ير شيئا ممّا وصفها به . قال : ما كذبتك قال : أقلني قال : نعم . و فيه أيضا : قيل : تقدم رجلان إلى شريح فاعترف أحدهما بما ادّعى عليه و هو لا يعلم بذلك فقضى عليه ، فقال الرّجل : تقضي عليّ من غير بيّنة ؟ فقال : قد شهد عندي الثقة ، قال : و من هو ؟ قال : ابن أخي عمّك . و قد ألمّ بهذا المعنى أبو عبد اللَّه الحسين الحجاج : و إن قدّموا خيلهم للركوب خرجت فقدّمت لي ركبتي و في جمل النّاس غلمانهم و ليس سوى أنا في جملتي و لا لي غلام فادعى به سوى من أبوه أخو عمّتي قال : و قال الأشعث بن قيس لشريح : ما أشدّ ما ارتفعت ؟ قال : فهل ضرّك ذلك ؟ قال : لا ، قال : الأشعث بن قيس لشريح : ما أشدّ ما ارتفعت قال : : فهل ضرّك ذلك ؟ قال : لا ، قال : فأراك تعرف نعمة اللَّه عليك فيحفظها في نفسك . قال : و حدّث محمّد بن سعد عن عامر الشعبي أنّ ابن الشريح قال لأبيه : إنّ بيني و بين قوم خصومة فانظر فان كان الحقّ لي خاصمت و إن لم يكن لي الحقّ [ 158 ] لم اخاصمهم ، فقصّ قصّته عليه ، فقال : انطلق فخاصمهم ، فانطلق إليهم فتخاصموا إليه فقضى عليه ابنه ، فقال لمّا رجع إلى أهله : و اللَّه لو لم أتقدّم إليك لم ألمك فقال : و اللَّه يا بنيّ لأنت أحبّ إليّ من مل‏ء الأرض مثلهم ، و لكنّ اللَّه هو أعزّ عليّ منك خشيت أن اخبرك أنّ القضاء عليك فتصالحهم ببعض حقّهم . و عن الشعبي أيضا قال : شهدت شريحا و جائته إمرأة تخاصم رجلا فأرسلت عينيها فبكت ، فقلت : يا أبا اميّة ما أظنّ هذه الباكية إلاّ مظلومة ، فقال : يا شعبي إنّ إخوة يوسف جاؤا أباهم عشاء يبكون . قال : و يروى أنّ زياد بن أبيه كتب إلى معاوية : يا أمير المؤمنين قد ضبطت لك العراق بشمالي و فرغت يميني لطاعتك فولّني الحجاز ، فبلغ ذلك عبد اللَّه بن عمر و كان مقيما بمكّة فقال : اللّهمّ اشغل عنّا يمين زياد ، فأصابه الطّاعون في يمينه فجمع الأطبّاء و استشارهم فأشاروا عليه بقطعها ، فاستدعى القاضي شريحا و عرض عليه ما أشار به الأطبّاء فقال له : لك رزق معلوم و أجل محتوم و إني أكره إن كانت لك مدّة أن تعيش فى الدّنيا بلا يمين ، و إن كان قد دنا أجلك أن تلقى ربك مقطوع اليمين ، فاذا سألك لم قطعتها ؟ قلت : بغضا في لقائك و فرارا من قضائك فمات زياد من يومه ، فلام الناس شريحا على منعه من القطع لبغضهم له فقال : إنه استشارني و المستشار مؤتمن ، و لو لا الأمانة في المشورة لوددت أنه قطع يده يوما و رجله يوما . و سائر جسده يوما يوما . و كان شريح رجلا داهيا ، قال الدميري في حيوة الحيوان : قيل للشعبي : يقال في المثل : إنّ شريحا أدهى من الثعلب و أحيل . فما هذا ؟ فقال : خرج شريح أيّام الطاعون إلى النجف فكان إذا قام يصلّي يجي‏ء ثعلب فيقف تجاهه و يحاكيه و يخيّل بين يديه و يشغله عن صلاته ، فلمّا طال ذلك عليه نزع قميصه فجعله على قصبة و أخرج كمّيه و جعل قلنسوته عليها ، فأقبل الثعلب فوقف بين يديه على عادته فأتاه شريح من خلفه و أخذه بغتة فلذلك يقال : شريح أدهى من الثعلب و أحيل . [ 159 ] و كان شاعرا محسنا و ذكر أبياتا منه أبو الفرج الإصبهاني في الأغاني و القاضي ابن خلكان في وفيات الأعيان ففي الأغاني ، بعد ذكر خبر زينب بنت حدير و ترويج شريح إيّاها قال : قال شريح : فما غضبت عليها قطّ إلاّ مرّة كنت لها ظالما فيها ، و ذاك إني كنت إمام قومي فسمعت الإقامة و قد ركعت ركعتي الفجر فأبصرت عقربا فعجّلت عن قتلها فأكفأت عليها الإناء ، فلمّا كنت عند الباب قلت : يا زينب لا تحرّكي الإناء حتّى أجي‏ء . فعجّلت فحرّكت الإناء فضربتها العقرب فجئت فإذا هي تلوي ، فقلت : ما لك ؟ قالت : لسعتني العقرب فلو رأيتني يا شعبي و أنا أعرك اصبعها بالماء و الملح و أقرأ عليها المعوذتين و فاتحة الكتاب ، و كان لي يا شعبي جار يقال له : ميسرة بن عرير من الحيّ ، فكان لا يزال يضرب امرأته فقلت : رأيت رجالا يضربون نساءهم فشلّت يميني يوم أضرب زينبا يا شعبي فوددت أني قاسمتها عيشي ، قال : و ممّا يغني فيه من الأشعار الّتي قالها شريح في امرأته زينب : رأيت رجالا يضربون نساءهم فشلّت يميني يوم أضرب زينبا أ أضربها في غير جرم أتت به إليّ فما عذري إذا كنت مذنبا فزينب شمس و النساء كواكب إذا طلعت لم تبد منهنّ كوكب فتاة تزين الحلي إن هي حليت كأنّ بفيها المسك خالط محلبا أقول : و قال آخر نحو مضمون البيت الأخير : و إذا الدّرّ زان حسن وجوه كان للدّرّ حسن وجهك زينا و كذا قال بهذا المضمون حسين بن مطير « بالتصغير » في باب النسيب من الحماسة ( الحماسة 460 ) : مخصّرة الأوساط زانت عقودها بأحسن مما زيّنتها عقودها و بهذا المضمون للشيخ الأجلّ السعدي بالفارسيّة : [ 160 ] تو از هر در كه باز آيي بدين خوبيّ و رعنائي درى باشد كه از رحمت بروى خلق بگشائي بزيورها بيارايند مردم خوبرويان را تو سيمين تن چنان خوبي كه زيورها بيارائي و ذكر أبو الفرج في الأغاني أنّ شريحا قال هذه الأبيات الآتية في زوجته زينب بنت حدير التميمية أيضا ، ثمّ قال : و ذكر اسحاق في كتاب الاغاني المنسوب اليه أنه لابن محرز : إذا زينب زارها أهلها حشدت و أكرمت زوّارها و إن هي زارتهم زرتهم و إن لم أحد لي هوى دارها فسلمي لمن سالمت زينب و حربي لمن أشعلت نارها و ما زلت أرعى لها عهدها و لم أتّبع ساعة عارها و في تاريخ ابن خلكان : روي أنّ عليا عليه السّلام قال : اجمعوا إليّ القرّاء فاجتمعوا في رحبة المسجد فقال : إنّي اوشك أن افارقكم ، فجعل يسألهم ما تقولون في كذا ؟ . ما تقولون في كذا ؟ ، ما تقولون في كذا ؟ ، و شريح ساكت ، ثمّ سأله فلمّا فرغ منهم قال : اذهب فأنت من أفضل الناس أو من أفضل العرب . و في الروضات بعد نقل هذه الرّواية من ابن خلكان قال : و أنت خبير بأنّ من هذه الرّواية العاميّة تلوح آثار الوضع إلى آخر ما قال ، فراجع و تأمّل . و قال في الأغاني باسناده عن الشعبي : إنّ عمر بن الخطاب أخذ من رجل فرسا على سوم فحمل عليه رجلا فعطب الفرس ، فقال عمر : اجعل بيني و بينك رجلا ، فقال له الرجل : اجعل بيني و بينك شريحا العراقي ، فقال : يا أمير المؤمنين أخذته صحيحا سليما على سوم فعليك أن تردّه كما أحذته ، قال : فأعجبه ما قال و بعث به قاضيا ثمّ قال : ما وجدته في كتاب اللَّه فلا تسأل عنه أخذا ، و ما لم تستبن في كتاب اللَّه فالزم السنّة ، فإن لم يكن في السنّة فاجتهد رأيك . أقول : قد قدّمنا في المباحث السالفة أنّ كلّ ما يحتاج اليه الناس من امور الدّين قد جاء به الكتاب و السنّة يستنبط منهما الأحكام الجزئيّة . [ 161 ] و في الأغاني قال عمر لشريح حين استقضاه : لاتشار ، و لا تضار ، و لا تشتر و لا تبع ، فقال عمرو بن العاص : يا أمير المؤمنين : إنّ القضاة إن أرادوا عدلا و فصّلوا بين الخصوم فصلا و زحزحوا بالحكم منهم جهلا كانوا كمثل الغيث صاب محلا ثمّ قال : و له أخبار في قضايا كثيرة يطول ذكرها ، و فيها ما لا يستغنى عن ذكره ، منها محاكمة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام في الدّرع و قد قدّمناها في البحث السابق آنفا . و قد روى ثقة الإسلام الكليني في الكافي و الصدوق في الفقيه و شيخ الطائفة في التهذيب و الفيض في أبواب القضاء و الشهادات من الوافي ( ص 159 ج 9 ) قضيّة قضى بها شريح أوّلا ثمّ قضى بها أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام بخلافه رادّا عليه و هي : أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام دخل المسجد فاستقبله شابّ يبكي و حوله قوم يسكّتونه ، فقال عليّ عليه السّلام : ما أبكاك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين إنّ شريحا قضى عليّ بقضيّة ما أدري ما هي ، إنّ هؤلاء النفر خرجوا بأبي معهم في السفر فرجعوا و لم يرجع أبي فسألتهم عنه فقالوا : مات ، فسألتهم عن ماله ، فقالوا : ما ترك مالا فقدّمتهم إلى شريح فاستحلفهم ، و قد علمت يا أمير المؤمنين أنّ أبي خرج و معه مال كثير ، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السّلام : ارجعوا ، فرجعوا و الفتى معهم إلى شريح ، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام : يا شريح كيف قضيت بين هؤلاء القوم ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ادّعى هذا الفتى على هؤلاء النفر أنهم خرجوا في سفر و أبوه معهم فرجعوا و لم يرجع أبوه ، فسألتهم عنه فقالوا : مات ، فسألتهم عن ماله فقالوا : ما خلّف مالا ، فقلت للفتى : هل لك بيّنة على ما تدّعي ؟ فقال : لا ، فاستحلفتهم فقال أمير المؤمنين عليه السّلام : هيهات يا شريح هكذا تحكم في مثل هذا ؟ فقال : يا أمير المؤمنين فكيف ؟ . فقال أمير المؤمنين عليه السّلام : و اللَّه لأحكمنّ فيهم بحكم ما حكم به خلق قبلي إلاّ داود النّبيّ عليه السّلام ، يا قنبر ادع لي شرطة الخميس ، فدعاهم فوكّل بكلّ [ 162 ] واحد منهم رجلا من الشرطة ، ثمّ نظر إلى وجوههم فقال : ما ذا تقولون ؟ أتقولون إنّي لا أعلم ما صنعتم بأب هذا الفتى ؟ إنّي إذا لجاهل ، ثمّ قال : فرّقوهم غطّوا رؤوسهم ففرّق بينهم و اقيم كلّ رجل منهم إلى اسطوانة من أساطين المسجد و و رؤوسهم مغطّاة بثيابهم . ثمّ دعا عبيد اللَّه بن أبي رافع كاتبه فقال : هات صحيفة و دواة ، و جلس أمير المؤمنين عليه السّلام في مجلس القضاء و اجتمع الناس إليه فقال لهم : إذا أنا كبّرت فكبّروا ، ثمّ قال للنّاس : افرجوا . ثمّ دعا بواحد منهم فأجلسه بين يديه و كشف عن وجهه ثمّ قال لعبيد اللَّه : اكتب إقراره و ما يقول ، ثمّ أقبل عليه بالسؤال فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام : في أيّ يوم خرجتم من منازلكم و أبو هذا الفتى معكم ؟ فقال الرّجل : في يوم كذا . و كذا ، قال عليه السّلام في أيّ شهر ؟ قال : في شهر كذا و كذا ، قال عليه السّلام : في أيّ سنة ؟ قال في سنة كذا و كذا ، قال : و إلى أين بلغتم من سفركم حين مات أبو هذا الفتى ؟ قال : إلى موضع كذا و كذا ، قال عليه السّلام : في منزل من مات ؟ قال : في منزل فلان بن فلان : قال : و ما كان مرضه ؟ قال : كذا و كذا ، قال عليه السّلام : فكم يوما مرض ؟ قال ، كذا و كذا ، قال عليه السّلام ، فمن كان يمرّضه و في أيّ يوم مات و من غسّله و أين غسّله ، و من كفّنه و بم كفّنتموه ، و من صلّى عليه و من نزل قبره ؟ فلمّا سأله عن جميع ما يريد كبّر أمير المؤمنين عليه السّلام و كبّر الناس جميعا فارتاب اولئك الباقون و لم يشكّوا أنّ صاحبهم قد أقرّ عليهم و على نفسه ، فأمر عليه السّلام أن يغطّي رأسه و ينطلق به إلى السجن . ثمّ دعا بآخر فأجلسه بين يديه و كشف عن وجهه ثمّ قال عليه السّلام ، كلاّ زعمتم أنّي لا أعلم بما صنعتم ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ما أنا إلاّ واحد من القوم و لقد كنت كارها لقتله فأقرّ . ثمّ دعا بواحد بعد واحد كلّهم يقرّ بالقتل و أخذ المال ثمّ ردّ الّذي كان أمر به إلى السجن فأقرّ أيضا فألزمهم المال و الدّم . [ 163 ] فقال شريح : يا أمير المؤمنين و كيف كان حكم داود النبيّ عليه السّلام ؟ فقال عليه السّلام : إنّ داود النبيّ مرّ بغلمة يلعبون و ينادون بعضهم بيامات الدّين فيجيب منهم غلام ، فدعاهم داود عليه السّلام فقال : يا غلام ما اسمك ؟ فقال : مات الدّين فقال له داود : من سمّاك بهذا الإسم ؟ فقال : أمّي ، قال عليه السّلام : فانطلق داود عليه السّلام إلى امّه فقال لها : يا أيّتها المرأة ما اسم ابنك هذا ؟ فقالت : مات الدّين ، فقال لها : و من سمّاه بهذا الاسم ؟ قالت : أبوه ، قال : و كيف كان ذلك ؟ قالت : إنّ أباه خرج في سفر له و معه قوم و هذا الصبيّ حمل في بطني فانصرف القوم و لم ينصرف زوجي فسألتهم عنه فقالوا : مات ، فقلت لهم : فأين ما ترك ؟ قالوا : لم يخلّف شيئا فقلت : هل أوصاكم بوصيّة ؟ قالوا : نعم زعم أنك حبلى فما ولدت من ولد جارية أه غلام فسميّه مات الدّين ، فسميّته . قال داود : و تعرفين القوم الّذين كانوا خرجوا مع زوجك ؟ قالت : نعم قال : فأحياء هم أم أموات ؟ قالت : بل أحياء ، قال : فانطلقي بي إليهم . ثمّ مضى معها فاستخرجهم من منازلهم فحكم بينهم بهذا الحكم بعينه و أثبت عليهم المال و الدّم ، ثمّ قال للمرأة : سمّي ابنك هذا عاش الدّين . ثمّ إنّ الفتى و القوم اختلفوا في مال الفتى كم كان ؟ فأخذ أمير المؤمنين عليه السّلام خاتمه و خواتيم من عنده ثمّ قال : اجبلوا بهذه السهام فأيكم أخرج خاتمي فهو صادق في دعواه ، لأنه سهم اللَّه و سهم اللَّه لا يخيب . ثمّ إنّ الكليني روى تلك القضيّة باسناده عن الأصبغ بن نباتة أيضا و قال : إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لما رأى قضاء شريح فيها قال : أوردها سعد و سعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الابل و قال عليه السّلام : ما يغني قضاك يا شريح ، ثمّ قال عليه السّلام : و اللَّه لأحكمنّ فيهم بحكم ما حكمه قبلي إلاّ داود النبي عليه السّلام إلى آخرها . بيان : قال الميداني في باب الألف من مجمع الأمثال في بيان مثل « آبل من مالك بن زيد مناة » هو سبط تميم بن مرّة ، و كان يحمق إلاّ أنه كان آبل أهل [ 164 ] زمانه ، ثمّ إنه تزوّج و بنى بامرأته فأورد الإبل أخوه سعد و لم يحسن القيام بها و الرفق عليها ، فقال مالك : أوردها سعد ، البيت . فأجابه سعد و قال : يظلّ يوم وردها مزعفرا و هي خناطيل تجوش الخضرا و قال في فصل الواو الساكنة منه في بيان مثل « أوردها سعد و سعد مشتمل » يضرب لمن قصّر في طلب الأمر . انتهى . فمراده عليه السّلام أنّ شريحا قصّر في حكم هذه القضيّة و لم يحسن القيام به . و في المجلّد العاشر من البحار ص 90 طبع الكمباني : ادّعى رجل على الحسن ابن عليّ عليهما السّلام ألف دينار كذبا و لم يكن له عليه فذهبا إلى شريح فقال للحسن عليه السّلام أتحلف ؟ قال : إن حلف خصمي أعطيه ، فقال شريح للرّجل : قل باللَّه الّذي لا إله إلاّ هو عالم الغيب و الشهادة ، فقال الحسن عليه السّلام : لا اريد مثل هذا لكن قل : باللَّه إنّ لك عليّ هذا و خذ الألف ، فقال الرّجل ذلك و أخذ الدّنانير ، فلمّا قام خرّ إلى الأرض و مات ، فسئل الحسن عليه السّلام عن ذلك فقال : خشيت أنه لو تكلّم بالتوحيد يغفر له يمينه ببركة التوحيد و يحجب عنه عقوبة يمينه . أقول : و نظير ذلك روى الشيخ المفيد في الإرشاد و الكليني في الكافي و الفيض في الوافي ( ص 245 ج 5 ) عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام و هو أنّ المنصور أمر الرّبيع باحضاره فأحضره فلمّا بصر به المنصور قال له : قتلني اللَّه إن لم أقتلك أتلحد في سلطاني و تبغيني الغوائل ؟ فقال له أبو عبد اللَّه عليه السّلام : و اللَّه ما فعلت و لا أردت و إن كان يلغك فمن كاذب ، و لو كنت فعلت فقد ظلم يوسف فغفر ، و ابتلى أيّوب فصبر ، و اعطى سليمان فشكر ، فهؤلاء أنبياء اللَّه و إليهم يرجع نسبك . فقال له المنصور : أجل ارتفع ههنا فارتفع ، فقال له : إن فلان بن فلان أخبرني عنك بما ذكرت ، فقال : أحضره يا أمير المؤمنين ليوافقني على ذلك ، فاحضر الرّجل المذكور فقال له المنصور : أنت سمعت ما حكيت عن جعفر عليه السّلام ؟ قال : نعم ، فقال له أبو عبد اللَّه عليه السّلام : فاستحلفه على ذلك . فقال له المنصور : أتحلف ؟ قال : نعم ، و ابتدأ باليمين . فقال له أبو عبد اللَّه [ 165 ] عليه السّلام : دعني يا أمير المؤمنين احلّفه أنا ، فقال له : افعل فقال أبو عبد اللَّه عليه السّلام للساعي : قل : برئت من حول اللَّه و قوّته و التجأت إلى حولي و قوّتي لقد فعل كذا و كذا جعفر و قال كذا و كذا جعفر ، فامتنع منها هنيئة ثمّ حلف بها فما برح حتى ضرب برجله فقال أبو جعفر : جرّوا برجله فأخرجوه لعنه اللَّه . قال الربيع : و كنت رأيت جعفر بن محمّد عليهما السّلام حين دخل على المنصور يحرّك شفتيه . فكلّما حركهما سكن غضب المنصور حتّى أدناه منه و قد رضي عنه ، فلمّا خرج أبو عبد اللَّه عليه السّلام من عند أبي جعفر اتبعته فقلت له : إنّ هذا الرّجل كان من أشدّ النّاس غضبا عليك فلمّا دخلت عليه دخلت و أنت تحرّك شفتيك و كلّما حرّكتهما سكن غضبه فبأيّ شي‏ء كنت تحرّكهما ؟ . قال عليه السّلام : بدعاء جدّي الحسين بن عليّ عليهما السّلام قلت : جعلت فداك و ما هذا الدّعاء ؟ قال : « يا عدّتي عند شدّني و يا غوثي عند كربتي احرسني بعينك الّتي لا تنام و اكتفني بركنك الّذي لا يرام » . قال الرّبيع : فحفظت هذا الدّعاء فما نزلت بي شدّة قطّ إلاّ دعوت به ففرّج عني . قال : و قلت لجعفر بن محمّد عليهما السّلام : لم منعت الساعي أن يحلف باللَّه ؟ . قال عليه السّلام : كرهت أن يراه اللَّه يوحّده و يمجّده فيحلم عنه و يؤخّر عقوبته فاستحلفته بما سمعت ، فأخذه اللَّه أخذا رابية . و في عاشر البحار ص 179 طبع الكمباني أنّ ابن زياد لما ضرب بالقضيب هانيا رضوان اللَّه عليه في قضيّة مسلم بن عقيل عليه السّلام حتّى كسر أنفه و سال الدّماء على ثيابه و وجهه و لحيته و نثر لحم جبينه و خدّه على لحيته حتى كسر القضيب ثمّ أمر بإلقائه في بيت من بيوت الدّار و حبسه فيه بلغ عمرو بن الحجّاج أنّ هانيا قد قتل فأقبل في مذحج حتّى أحاط بالقصر و معه جمع عظيم ، ثمّ نادى و قال : أنا عمرو بن الحجاج و هذه فرسان مذحج و وجوهها لم نخلع طاعة و لم نفارق جماعة و قد بلغهم أنّ صاحبهم قد قتل فأعظموا ذلك . [ 166 ] فقيل لابن زياد : هذه فرسان مذحج بالباب ، فقال لشريح القاضي : ادخل على صاحبكم فانظر إليه ثمّ اخرج و أعلمهم أنه حيّ لم يقتل . فدخل شريح فنظر إليه فقال هانى‏ء لما رأى شريحا : يا للَّه يا للمسلمين أهلكت عشيرتي أين أهل الدّين ؟ أين أهل المصر ؟ و الدّماء تسيل على لحيته إذ سمع الصيحة على باب القصر فقال : إني لأظنها أصوات مذحج و شيعتي من المسلمين إنه إن دخل عليّ عشرة نفر أنقذوني . فلمّا سمع مقاله شريح خرج إليهم فقال لهم : إنّ الأمير لمّا بلغه كلامكم و مقالتكم في صاحبكم أمرني بالدّخول إليه فأتيته فنظرت إليه فأمرني أن ألقيكم و أعرّفكم أنه حيّ و أنّ الّذي بلغكم من قتله باطل ، فقال له عمرو بن الحجاج و أصحابه : أما إذا لم يقتل فالحمد للَّه ، ثمّ انصرفوا . و في روضات الجنّات بعد نبذة من ترجمة شريح قال : و بالجملة فالأخبار في خباثة رأي هذا الرّجل و سوء عاقبته كثيرة ، و حسب الدلالة على غاية ملعنته و شقاوته كونه من جملة من ترك إغاثة مولانا الحسين عليه السّلام بكلمة خير عند بني اميّة ، كانت تمكنه يقينا بل كونه من جملة من تسبّب ذلك منه و من أمثاله الّذين كانوا يطأون بساط الظالم عبيد اللَّه بن زياد الملعون في دار الإمارة كوفة ، كما يشهد بذلك واقعة مسلم بن عقيل المظلوم و ولديه الشهيدين و ما صدر منه في حقّهم و بدر منه على قتلهم ، و يؤيّده أيضا ما نقل عن أبي مخنف الأزدي صاحب المقتل أنّه ذكره من جملة من قتله المختار في زمن انتقامه من بني اميّة و أتباعهم الملعونين . فليتأمّل . انتهى قوله . اختلف في سنّه فقيل : مائة و عشرون سنة ، و قيل : مائة و عشر ، و قيل : أقلّ من ذلك و أكثر ، و كان وفاته سنة سبع و ثمانين للهجرة ، و قيل غير ذلك . و في الأغاني عن أبي سعيد الجعفي أنه مات في زمن عبد الملك بن مروان ، و فيه باسناده عن الأصمعي ولد شريح و هو ابن مائة سنة . و في الروضات ، أنّه كان خفيف الرّوح مزاحا و يشهد بصحة هذه النسبة إليه [ 167 ] طول عمره فانّ من أشدّ ما ينقص به العمرو ينغص به العيش إنما هو زيادة الغيرة و الاغتمام ، و الشفقّة على أهل الكروب . انتهى . الترجمة اين كتابيست از أمير المؤمنين علي عليه السّلام كه بقاضي خود شريح بن حارث مرقوم فرموده است : روايت است كه شريح در زمان خلافت أمير المؤمنين عليه السّلام كه از جانب آن بزرگوار بسمت قضا منصوب بود ، خانه‏اى بهشتاد دينار خريد ، اين خبر بآن جناب رسيد و شريح را طلبيد و بدو گفت كه شنيدم خانه‏اى بهشتاد دينار خريده‏اى و سند و قباله بر آن نوشته‏اى و جمعى را بر آن گواه گرفته‏اى ؟ . شريح گفت : أي أمير المؤمنين آري چنين است . راوي گفت : چون على اين سخن از شريح بشنيد خشمگين در وي نگريست و گفت اى شريح آگاه باش كه بزودي كسى بسويت آيد ( مرگ ، يا جان شكر ) كه در قباله‏ات ننگرد و از گواهت نپرسد تا از خانه تو را با چشم بى‏نور و جسم بى روح بدر برد و دست از همه چيز شده و جدا مانده بخانه گورت سپارد ، پس اى شريح با ديده بصيرت درنگر كه مبادا آنرا از كسيكه مالك آن نبوده خريده باشى ، و يا بهاى آنرا از مال حرام داده باشى كه در اين سرا و آن سرا زيان كار خواهى بود . بدان كه گاه خريد آن اگر نزد من آمدى هر آينه اين قباله برايت نوشتمى كه بدرمى آنرا نميخريدى تا چه رسد كه به بيشتر . بسم اللَّه الرّحمن الرحيم اين سرائيس كه آنرا بنده‏اى خوار از مرده‏اى كه از اين سرا كوچش داده‏اند خريده است ، خانه‏اى خريده كه مسافت آن از جانب فانى شدگان تا سرزمين هالكان است . اين سرا محدود به چهار حدّ است حدّ نخستين آن باسباب آفتها پايان مى‏يابد ، و دوّم آن بعلل مصيبتها ، حدّ سوّم به هواى نفس ، و چهارم آن به ديو گمراه كننده ، و در آن در اين حدّ گشوده ميشود . [ 168 ] اين شخص فريب آرزو خورده اين خانه را از آنكه مرگش فرا رسيد و كوچ داده شد ببهاى از عزت قناعت بدر رفتن و در ذلّت سؤال بدر آمدن ، خريده است . پس اگر عوارضى در اين معامله از پى پديد آيد بر عهده خراب كننده خانه كالبد شاهان و رباينده جان ستمكاران ، و نابود كننده سلطنت فرعونان ، همچون شاهان پارس و ملوك روم و سلاطين و واليان يمن ، و آنانكه مال را بر مال انباشتند و بنا كردند و بر أفراشتند ، و زينتش دادند و بياراستند ، و گنج نهفتند و آب و خاك گرد آوردند ، و بدلسوزى فرزندان و بخيال يارى آنان مال اندوخته‏اند ميباشد كه فروشنده و خريدار و آنكه درك باو تعلّق گرفته همه را در پيشگاه عدل إلهى كه خلايق را براي پرسش سان دهند و بپاداش و كيفر رسانند ، حاضر كند تا آنگاه كه فرمان خداوند قهّار بفصل ميان حقّ و باطل فرود آيد مهمّ دعواى ايشان فيصل يابد ، در آنجا تباه پيشه‏گان باطل كيش زيانكار شوند . خرد آزاد از بردگى هوى ، و سالم از أمراض علائق دنيا بر اين قباله شاهد عادل و حجّت بالغ است .