جستجو

و من خطبة له ع يذكر فيها آل محمد ص

متن ترجمه آیتی ترجمه شهیدی ترجمه معادیخواه تفسیر منهاج البرائه خویی تفسیر ابن ابی الحدید تفسیر ابن میثم

[ 33 ] و من خطبة له عليه السّلام و هى الخطبة السابعة و الثلاثون و المأتان يذكر فيها آل محمد صلّى اللّه عليه و آله هم عيش العلم و موت الجهل . يخبركم حلمهم عن علمهم و صمتهم عن حكم ( أو حكم ) منطقهم . لا يخالفون الحقّ و لا يختلفون فيه . هم دعائم الإسلام . و ولائج الاعتصام . بهم عاد الحقّ في نصابه ، و انزاح الباطل عن مقامه ، و انقطع لسانه عن منبته . عقلوا الدّين عقل وعاء و رعاية ، لا عقل سماع و رواية . فإنّ رواة العلم كثير ، و رعاته قليل . اللغة ( دعائم ) جمع الدعامة بكسر الدال و هي عماد البيت يقال دعم الشي‏ء دعما من باب منع إذا اسنده عند ميله او لئلا يميل و ( الاعتصام ) التمسك . قال اللّه تعالى : و اعتصموا بحبل اللَّه جميعاً اى تمسّكوا به . ( ولائج ) جمع وليجة و هى بطانة الرجل و خاصّته و صاحب سرّه الّذى يتّخذه معتمدا عليه من غير أهله يكاشفه باسراره ثقة بمودّته و يقال بالفارسية : دوست همراز ، و منه قوله تعالى و لم يتخذوا من دون اللَّه و لا رسوله و لا المؤمنين وليجة » ( نصاب ) الشي‏ء : أصله و حدّه و مرجعه و مستقره . ( انزاح ) من الزوح اى زال و ذهب . ( وعاء ) بكسر أوّله و قد يضم ناقص يائيّ بمعنى الظرف يوعي فيه الشي‏ء سمّي بذلك لأنّه يجمع ما فيه من المتاع يقال : وعي الشي‏ء يعيه وعيا إذا حواه و جمعه و وعي الحديث إذا حفظه و تدبّره . و قد يبدل واو وعاء بالهمزة فيقال إعاء . ثمّ إن عبارة المتن في عدّة من نسخ النهج من المطبوعات المصريّة و الإيرانيّة [ 34 ] و شروحها المتداولة هكذا : عقلوا الدين عقل وعاية و رعاية لا عقل سماع و رواية . و لكن الصواب ما ضبطناه في المتن اعنى كون كلمة « وعاء » مكان « وعاية » و وعاية تحريف و تصحيف من النساخ و لما رأوا كلمة رعاية بعدها غيّر و الوعاء بالوعاية ظنّا منهم انّ الكلام يزيد به حسنا و أن الأصل كان كما ظنّوا و كم من نظير لمّا ذكرنا من خطاء النسّاخ و تحريفهم و هم يحسبون انّهم يحسنون صنعا ، و ما علموا أن من المحسنات البديعيّة في كلامه عليه السّلام مشابهة قوله « وعاء و رعاية » بقوله « سماع و رواية » فإن الجمع بين وعاء و سماع ممّا يسمى في علم البديع جناس مضارع لتقارب الهمزة و العين في المخرج نحو قوله تعالى « و هم ينهون عنه و ينأون عنه » و كقوله صلّى اللّه عليه و آله الخيل معقود بنواصيها الخير . و الجمع بين رعاية و رواية يسمى طباقا . على أن اللغة لا تساعد ما في النسخ و كم فحصنا في كثير من كتب الأدب و المعاجم المتداولة فما وجدنا من وعي أن يأتي وعاية مصدرا أو غير مصدر . الاعراب الضميران في مقامه و منبته يرجعان إلى الباطل و يمكن أن يرجعا إلى الحق و سيعلم الوجه فيها عند الشرح إن شاء اللّه تعالى . الفاء في قوله عليه السّلام : فإن رواة العلم كثير فصيحة تنبي‏ء عن محذوف يدلّ عليه ما قبلها و كأنّ الجملة جواب عن سؤال مقدّر و التقدير : إنّما وصفهم بأنّهم عقلوا الدين هكذا ، فاجيب بقوله عليه السّلام : لأنّ رواة العلم كثير و رعاته قليل . و جاء في بعض النسخ : كلمة الواو مكان الفاء ، أى و إن رواة العلم كثير و لكن الصواب ما اخترناه . المعنى قد ذكر عليه السّلام قريبا من هذه الخطبة في ذيل الخطبة الخامسة و الأربعين و المأة و هو قوله عليه السّلام : و اعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتّى تعرفوا الّذي تركه ، و لن تأخذوا بميثاق الكتاب حتّى تعرفوا الّذي نقضه ، و لن تمسكوا به حتّى تعرفوا الّذي نبذه فالتمسوا ذلك من عند أهله فانهم عيش العلم و موت الجهل هم الّذين يخبركم حكمهم عن علمهم و صمتهم عن منطقهم و ظاهرهم [ 35 ] عن باطنهم لا يخالفون الدّين و لا يختلفون فيه فهو بينهم شاهد صادق و صامت ناطق . « عدة مواضع من النهج في أوصاف آل محمد صلّى اللّه عليه و آله » اعلم انه عليه السّلام ذكر اوصاف آل محمد صلّى اللّه عليه و آله في عدّة مواضع من النهج : ( 1 ) في آخر الخطبة الثانية : هم موضع سرّه و لجاء أمره و عيبة علمه و موئل حكمه و كهوف كتبه و جبال دينه بهم أقام انحناء ظهره و أذهب ارتعاد فرائصه . ( 2 ) منها في ذيل تلك الخطبة أيضا : لا يقاس بآل محمّد صلّى اللّه عليه و آله من هذه الأمّة أحد و لا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا هم أساس الدّين و عماد اليقين اليهم يفي‏ء الغالي و بهم يلحق التالي و لهم خصائص حق الولاية و فيهم الوصيّة و الوراثة الآن إذ رجع الحقّ إلى أهله و نقل إلى منتقله . ( 3 ) الخطبة الرّابعة : بنا اهتديتم في الظلماء و تسنمتم العلياء و بنا انفجرتم عن السرار وقر سمع لم يفقه الواعية إلى أن قال في آخرها : ما شككت في الحق مذاريته لم يوجس موسى خيفة على نفسه اشفق من غلبة الجهّال و دول الضّلاّل اليوم تواقفنا على سبيل الحقّ و الباطل من وثق بماء لم يظمأ . ( 4 ) في ذيل الخطبة الخامسة و التسعين : و إنّي لعلى بيّنة من ربّي و منهاج من نبيّي و إنّي لعلى الطريق الواضح القطه لقطا ، انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم و اتبعوا اثرهم فلن يخرجوكم من هدى و لن يعيدوكم في ردى فان لبدوا فالبدوا و ان نهضوا فانهضوا و لا تسبقوهم فتضلّوا و لا تتأخروا عنهم فتهلكوا . لقد رأيت أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله فما أرى أحدا منكم يشبههم لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا قد باتوا سجّدا و قياما يراوحون بين جباهم و خدودهم و يقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم إذا ذكر اللّه هملت أعينهم حتّى تبلّ جيوبهم و مادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا من العقاب و رجاء للثواب . ( 5 ) في ذيل الخطبة الثامنة و التسعين : ألا إن مثل آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله كمثل [ 36 ] نجوم السماء إذا خوى نجم طلع نجم فكأنكم من اللّه فيكم الصنائع و أراكم ما كنتم تأملون . ( 6 ) في الخطبة الثانية و الأربعين و المأة : أين الّذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذبا و بغيا علينا أن رفعنا اللّه و وضعهم و أعطانا و حرمهم و أدخلنا و أخرجهم بنا يستعطي الهدى و يستجلي العمى إنّ الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم و لا تصلح الولاة من غيرهم . ( 7 ) في ذيل الخطبة الخمسين و المأة : قد طلع طالع و لمع لامع و لاح لائح و اعتدل مائل و استبدل اللّه بقول قوما و بيوم يوما و انتظرنا الغير انتظار المجدب المطر و إنّما الأئمة قوّام اللّه على خلقه و عرفاءه على عباده لا يدخل الجنّة إلاّ من عرفهم و عرفوه و لا يدخل النّار إلاّ من أنكرهم و أنكروه إنّ اللّه تعالى خصّكم بالإسلام و استخلصكم له و ذلك لأنّه اسم سلامة و جماع كرامة اصطفى اللّه تعالى منهجه و بيّن حججه من ظاهر علم و باطن حكم لا تفني غرائبه و لا تنقضي عجائبه فيه مرابيع النعم و مصابيح الظلم لا تفتح الخيرات إلاّ بمفاتحه و لا تكشف الظلمات إلاّ بمصابيحه قد أحمى حماه و ارعى مرعاه فيه شفاء المشتفى و كفاية المكتفى . ( 8 ) في ذيل الخطبة 152 : نحن الشعار و الأصحاب و الخزنة و الأبواب و لا تؤتي البيوت إلاّ من أبوابها فمن أتاها من غير أبوابها سمّي سارقا . ( 9 ) في ذيل هذه الخطبة أيضا في فصل عليحدة : فيهم كرائم القرآن و هم كنوز الرّحمان ان نطقوا صدقوا و إن صمتوا لم يسبقوا إلى آخرها . ( 10 ) في الخطبة 92 : حتّى أفضت كرامة اللّه سبحانه إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله فأخرجه من أفضل المعادن منبتا و أعز الارومات مغرسا من الشجرة التّي صدع منها انبياءه و انتجب منها امناءه ، عترته خير العتر و اسرته خير الأسر و شجرته خير الشجر نبتت في حرم و بسقت في كرم لها فروع طوال و ثمرة لا تنال إلى آخر الخطبة . ( 11 ) في الخطبة 187 : لا يقع اسم الهجرة على أحد إلاّ بمعرفة الحجة في [ 37 ] الأرض فمن عرفها و أقرّ بها فهو مهاجر ، و لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها اذنه و وعاها قلبه للايمان إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان و لا يعي حديثنا إلاّ صدور أمينة و أحلام رزينة أيّها النّاس سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السّماء أعلم منّي بطرق الأرض قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ في خطامها و تذهب بأحلام قومها . ( 12 ) في ذيل الخطبة 188 : فانّه من مات منكم على فراشه و هو على معرفة حقّ ربّه و حقّ رسوله و أهل بيته مات شهيدا و وقع أجره على اللّه . إلى آخرها . ( 13 ) في الحكمة 147 : اللّهمّ بلى لا تخلوا الأرض من قائم للّه بحجة إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا لئلا تبطل حجج اللّه و بيناته و كم ذا و أين اولئك اولئك و اللّه الأقلون عددا و الأعظمون قدرا يحفظ اللّه بهم حججه و بيناته حتّى يودعوها نظراءهم و يزرعوها في قلوب أشباههم هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة و باشروا روح اليقين و استلانوا ما استوعره المترفون و أنسوا بما استوحش منه الجاهلون و صحبوا الدنيا بابدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى اولئك خلفاء اللّه في أرضه و الدعاة إلى دينه آه آه شوقا إلى رؤيتهم . ( 14 ) في ذيل الخطبة 145 و قد ذكرناه أوّلا . ( 15 ) الخطبة 237 اعني هذه الخطبة الّتي نحن في صدد شرحها . فنقول : ذكر عليه السّلام في هذه الخطب آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله بأوصاف ينبغي للقارى العالم البصير الطالب للحق أن ينظر فيها نظر دقة و تأمل و فكرة حتّى يزداده بصيرة و إيمانا و يهديه سبيل الحقّ و يهديه فرقانا . و المقام يناسب البحث و التحقيق في الامامة و اختيار القول الصدق و المذهب الحق . « البحث العقلى و التحقيق العلمى في الامامة » و اعلم ان هذه المسألة من أعظم المسائل الخلافيّة بين المسلمين بل لا يبعد أن يقال : إن جميع الاختلافات الدينيّة متفرع عليها و قال محمّد الشهرستاني الأشعرى [ 38 ] المتوفى 548 ه في أوائل الملل و النحل : أوّل شبهة وقعت في الخليقة شبهة ابليس لعنه اللّه و مصدرها استبدادها بالرأى في مقابلة النص و اختياره الهوى في معارضة الأمر و استكباره بالمادة الّتي خلق منها و هي النّار على مادة آدم عليه السّلام و هي الطين إلى أن قال : فأوّل تنازع في مرضه ( يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ) عليه السّلام فيما رواه محمّد بن إسماعيل البخارى بإسناده عن عبد اللّه بن عبّاس قال : لمّا اشتدّ بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله مرضه الّذى مات فيه قال : ائتوني بداوة و قرطاس اكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعدى فقال : عمر إن رسول اللّه قد غلبه الوجع حسبنا كتاب اللّه و كثر اللغط فقال النّبي عليه السّلام : قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع قال ابن عبّاس : الرزية كلّ الرزية ما حال بيننا و بين كتاب رسول اللّه إلى أن قال الشهرستاني : و أعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإمامة إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينيّة مثل ما سلّ على الإمامة في كلّ زمان . لا يخفى أن المسلمين بل ساير الأمم أيضا متفقون في افتقار النّاس إلى إمام للعلم الضرورى ، من أن حال النّاس عند وجود الرؤساء المطاعين و انبساط أيديهم و نفوذ أوامرهم و نواهيهم و تمكنهم من الحلّ و العقد و القبض و البسط و الاحسان و الإسائة و غيرها مما ينتظم به امور معاشهم و مصالح معادهم لا يجوزان يكون كحالهم إذا لم يكونوا في الصلاح و الفساد و هذا مما جبّل عليه النّاس و استقر في عقولهم و قلوبهم و لا يصل اليه يد انكار و لا يكابر فيه أحد و لذا ترى ان العقلاء من كلّ قوم يلتجئون إلى نصب الرؤساء دفعا للمفاسد الناشئة على فرض عدمهم و إنّما الكلام في الرؤساء و صفاتهم مما يدلّ عليه العقل الناصع سواء كان في ذلك سمع أو لم يكن فالمسألة يحتاج إلى تجريد للعقل و تصفية للفكر و تدقيق للنظر و مجانبة المراء و تقليد الآباء فان التقليد الداء العيّاء و الحذر عن التعصب و الخيلاء و الانقطاع عن الوساوس و الهواجس العاميّة ، و حقّ التأمّل في المسألة حتّى يتضح الحق حقّ الوضوح . و نعم ما قال الشاعر : و تعلم قد خسرنا أو ربحنا إذا فكرت في أصل الحساب [ 39 ] فنقول : ان العقل حاكم بحسن البعثة لاشتمالها على فوايد كثيرة و سنذكر طائفة منها من ذي قبل انشاء اللّه ، و بوجوبها علي اللّه تعالى لاشتمالها على اللطف و اللطف واجب . و بأن النّبي يجب أن يكون منصوصا عليه من اللّه تعالى و مبعوثا من عنده بالبيّنات و معصوما من العصيان و السهو و النسيان و منزها عن كلّ ما ينفر الطبع عنه ، و أفضل من سائر النّاس في جميع الصفات الكماليّة من النفسانيّة و البدنيّة حتّى تحنّ القلوب اليه و يتمّ الحجة على النّاس . ثمّ نعلم أن النّبوة ختمت بخاتم النّبيّين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و شريعته نسخت سائر الشرايع و دينه هو الحقّ و حلاله حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة و القرآن هو المعجزة الباقية إلى قيام الساعة لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد بمعانيه و حقائقه و الفاظه « و لئن اجتمعت الإنس و الجنّ على أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيراً » و إذا جرّنا العقل إلى هنا فنقول اولا لابد للدين من حافظ في كل عصر و ثانيا على ما علم قبل أنّ المستقر في العقول إذا كان للنّاس امام مرشد مطاع في كل عصر يخافون سطوته ينتصف للمظلوم من الظالم و يردع الظالم عن ظلمه و يحفظ الدين و يمنع الناس عن التهاوش و التحارب و ما تتسارع إليه الطباع من المراء و النزاع و يحرضهم على التناصف و التعادل و القواعد العقلية و الوظائف الدينيّة و يدرء المفاسد الموجبة لاختلال النظام في امورهم عنهم و يحفظ المصالح و يلمّ شعث الاجتماع و يدعوهم إلى وحدة الكلمة و يقوم بحماية الحوزة و رعاية البيضة و انتظام امور المعاش و المعاد و يكون لهم في كل واقعة دينيّة و دنيويّة حصن حصين و حافظ أمين و يتوعّدهم على المعاصي و يحملهم على الطاعات و يعدهم عليها و يصدع بالحق إذا تشاجر الناس في حكم من أحكام اللّه لكانوا إلى الصلاح اقرب و من الفساد ابعد حتى قيل : إن ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن و ما يلتئم بالسنان لا ينتظم بالبرهان و بالجملة في وجوده استجلاب منافع لا تحصى و استدفاع مضار لا تخفى . و بعد ذلك فنقول : ان العقل يدلّ على أنّ اللّه تعالى مريد للطاعة و كاره للمعصية و أنّ اللّه ليس بظلام للعبيد و علمنا مع وجود ذلك الرئيس الامام المطاع [ 40 ] انه كان النّاس إلى فعل الطاعة أقرب و من فعل المعصية أبعد و لنسمّ ما يقرب العبد إلى الطاعة و يبعّده عن المعصية من غير الجاء باللطف و هل هو واجب عقلا على اللّه أم لا ؟ إن قلنا لا يجب عليه تعالى مع ان ايقاع الطاعة و ارتفاع المعصية يتوقفان على اللطف كما علمت و مع انه تعالى يريد الأولى و يكره الثانية و يعلم أن المكلف لا يطيعه إلاّ باللّطف فكان ناقضا لغرضه و نقض الغرض قبيح عقلا و العقلاء يذمون من اراد من غيره فعلا و هو يعلم أن ذلك الغير لا يفعل مطلوبه إلاّ مع اعلامه أو ارسال إليه و امثال ذلك ، ممّا يتوقف حصول المطلوب عليه و لا يعمل ما يعلم بتوقف المطلوب عليه ، فلا محيص إلاّ القول بوجوبه عليه تعالى عقلا و لذلك ان العقل يحكم بأن البعثة لطف فواجبة على اللّه تعالى على ان كلّ ما يعلمه اللّه تعالى من خير و صلاح في نظام العالم و انتظام امور بني آدم يجب منه تعالى صدوره لان علمه بوجوه الخير و النظام سبب للايجاب و الايجاد فيجب نصب الامام من اللّه سبحانه في كلّ زمان . فلو قلنا انّ النبوّة رئاسة عامّة الهيّة في امور الدّين و الدّنيا و كذلك لمن يقوم مقامه نيابة عنه بعده رئاسة عامة الهيّة فيهما لما قلنا شططا فكل ما دلّ على وجوب النّبوة و نصب النبي و تعيينه على اللّه فهو دال كذلك على القائم مقامه بعده إلاّ في تلقي الوحى الإلهي و لنسمّ القائم مقام النبيّ بالإمام و ان كان النبي اماما أيضا بذلك المعنى الذي اشير إليه و سيأتي البحث في تحقيق معنى الامامة و النّبوّة في تفسير قوله تعالى « و إذا ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهنّ قال انّي جاعلك للنّاس اماماً » الآية . إنشاء اللّه تعالى . و إن شئنا ثنينا عنان البيان على التفصيل و التبيين فإن من تيسّر له الاستبصار في هذا الأمر الخطير فقد فاز فوزا عظيما و الا فقد خسر خسرانا مبينا فنقول : إن العقل لما دل على أن وجود الامام لطف للنّاس في ارتفاع القبيح و فعل الواجب و حفظ الدين و حمل الرعيّة على ما فيه مصالحهم و ردعهم عما فيه مفاسدهم فهل يجوّزه العقل أن يكون عالما ببعض الأحكام دون بعض ، و ان يكون في النّاس من هو أعلم و أفضل [ 41 ] منه في الصفات الكماليّة و هل يأمر اللّه بالطاعة المطلقة لمن يجوز عليه الخطاء و يصدر عنه الذنوب ، و يسهو و ينسى ، و يرتكب ما ينفر الطبع عنه ، و من يكون نقص في خلقته و عيوب في بدنه ينزجر و ينفر النفس عن مصاحبته و مجالسته و مكالمته و من يكون غير منصوص عليه منه تعالى أو من نبيّه ؟ فهذه امور في المقام يليق ان يبحث عنها من حيث اقتضاء العقل و حكمه فان العقل هو المتبع في أمثال تلك الأمور . فنقول : بعد ما استقرت الشريعة و ثبتت العبادة بالأحكام و أن الامام إمام في جميع الأمور و هو الحاكم الحاسم لموادّ النزاع و متولي الحكم في سائر الدّين و القائم مقام النّبيّ و فرعه و خليفته و حجة في الشرع فلا بدّ من أن يكون موصوفا بصفات النّبيّ و شبيها له في الصفات الكمالية و عالما بجميع الأحكام حتّى يصحّ كونه خليفة له و يحسم به النزاع في حكم من الأحكام و في سائر الأمور و إلاّ فيقبح عند العقلاء خلافة من ليس بصفات المستخلف لأن غرضه لا يتمّ به و ذلك كما أن ملكا من الملوك إن استوزر من ليس بعارف بأمر السياسة الّتي بها تنتظم امور مملكته و جيوشه و رعاياه و غيرها ذمّه العقلاء بل عدّوه من السفهاء بل كما أن أحدنا لو يفوض صنعة إلى رجل لا يعرفها استحق اللوم و الازارء من العقلاء فكذا في المقام مع انّ المقام اهمّ بمراتب منهما كما لا يخفى على البصير العاقل و هذا ممّا مجرد العقل كاف في ايجابه . و أيضا ان أحد ما احتيج فيه إلى الامام كونه مبينا للشرع و كاشفا عن ملتبس الدين و غامضه فلابد من أن يكون في ضروب العلم كاملا غير مفتقر إلى غيره فولاة أمر اللّه خزنة علمه و عيبة وحيه و إلا يتطرّق التغيير و التبديل في دين اللّه و لذا صرّح الشيخ الرئيس في آخر الشفاء في الفصل في الخليفة و الامام أنّ الامام مستقل بالسياسة و أنّه أصيل العقل حاصل عنده الأخلاق الشريفة من الشجاعة و العفّة و حسن التدبير و أنّه عارف بالشريعة حتّى لا أعرف منه . ثمّ إنّ الامامة رئاسة عامّة فلو لم يكن الامام متصفا بجميع الكمالات و الفضائل و أكمل و أفضل من كلّ واحد من أهل زمانه و كان في الرعيّة من هو أفضل [ 42 ] منه للزم تقديم المفضول على الأفضل و هل يرتضى العقل بذلك ؟ أ رأيت أنّ العقلاء لا يذّمون من رجّح المفضول على الفاضل ؟ و هل تقدّم أنت مبتدأ في فنّ على من مارسه و تبحّر فيه ؟ و هل يجوّز عقلك و يرضي بان اللّه الحكيم يقدّم المفضول المحتاج إلى التكميل على الفاضل المكمّل ؟ جرّد نفسك عن العصبيّة و المراء و تقليد الأمهات و الآباء فانظر بنور البصيرة و الحجى في كلامه تعالى « أ فمن يهدى إلى الحقّ أحقّ أن يتبع أمّن لا يهدّى إلاّ أن يهدي فما لكم كيف تحكمون » و لما كان المطلوب من إرسال الرسل و انزال الكتب و نصب الحجج تعليم النّاس الحكمة و تزكيتهم من الأرجاس و اقبالهم إلى عالم القدس فأىّ مصلحة يقتضيها التكليف في تقديم المفضول على الأفضل أليس هذا العمل نفسه بقبيح و هل القبيح إلاّ ما فيه مفسدة ؟ أرأيت هل قدّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و غيره من الأنبياء و الكملين و اولى النهى و الملوك و الأمراء مفضولا على فاضل في واقعة قطّ و لو فعل واحد ذلك أما يلومه العقلاء ؟ هل تجد خبرا و رواية أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قدّم على أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام غيره ، و هل قدّم على سلمان سلام اللّه عليه عثمان بن مظعون مثلا و نعلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا نعيت إليه نفسه أمر اسامة على أبي بكر و عمر و حث على خروج الكلّ من المدينة و لعن المتخلف عن جيش اسامة فكان اسامة في أمر الحرب و سياسة الجند و تدبير العسكر أفضل منهما و إلاّ لما قدّمه عليهما و لو كان بالفرض عليّ عليه السّلام معهم هل يقدّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اسامة على عليّ عليه السّلام ؟ ما أرى مسلما بصيرا في عليّ عليه السّلام و اسامة أن يرضى بذلك بل يعده قبيحا جدّا فانّه لا يشك ذو بصيرة و دراية في أنّ أمير المؤمنين عليّا عليه السّلام كان بين الصحابة كالمعقول بين المحسوس و نسبته اليهم كنسبة النور إلى الظلمات و نسبة الحياة إلى الممات فتشهد الفطرة السليمة على قبح تقديم المفضول على الفاضل . ثمّ لو كان الإمام عاصيا عن أمر اللّه تعالى و مذنبا سواء كانت الذنوب صغيرة أو كبيرة فنقول أوّلا انّه لما كانت العلة المحوجة إلى الإمام هي ردّ الظالم عن ظلمه و الانتصاف للمظلوم منه و حمل الرعيّة على ما فيه مصالحهم و ردعهم عما فيه مفاسدهم و نظم الشمل و جمع الكلمة فلو كان مخطئا مذنبا لاحتاج إلى آخر يردعه عن ظلمه [ 43 ] فان الذنب ظلم و ننقل الكلام إلى ذلك الآخر فان كان معصوما من الذنوب و إلاّ لزم عدم تناهي الأئمة . و أيضا إنّ اللّه تعالى لعن الظالم و نهى عن الظلم و حذّر عن الركون إلى الظلمة بقوله « و لا تركنوا إلى الّذين ظلموا فتمسكم النّار » و كذا أمر بالطاعة المطلقة للامام فلو كان الامام مذنبا لكان ظالما فيلزم التناقض في قوله تعالى عن ذلك . و أيضا إنّ الامام لما كان قدوة في الدّين و الدّنيا مفترض الطاعة من اللّه و لو ارتكب المعصية تتضاد التكليف على الأمة فان اتبعته الأمة في المعصية فعصوا اللّه و إن خالفوه فيها فعاصية أيضا . و أيضا لو صدرت المعصية عنه هل يجب الانكار عليه أم لا ؟ فعلى الأوّل يلزم أن يكون مأمورا و منهيا عنه مع انّه إمام آمروناه فيلزم إذا سقوط محله من القلوب فلا تنقاده النفوس في أمره و نهيه فتنفي الفائدة المطلوبة من نصبه ، و على الثاني يلزم القول بعدم وجوب الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر مع انّهما واجبان عقلا و سمعا و أجمع الكلّ بوجوبهما و معلوم بالضرورة أن فعل القبيح و ترك الواجب لا يصدر إلاّ ممن لا يكون معصوما فان العصمة هي القوّة القدسية النوريّة العلمية اللائحة من صبح أزل العناية الموجبة للاعتدال الخلقي و الخلقي و المزاجي المتعلقة بمثالب العصيان في الدارين الحاصلة بشدّة الاتصال و كمال الارتباط بمبدء العالم و عالم الأرواح فمن بلغ إلى تلك الغاية و رزق تلك القوّة لا يحوم حول العصيان و لا يتطرق إلى حريم وجوده السهو و النسيان فان تلك القوّة رادعة إياه عن العصيان و ذلك العلم الحضورى و الانكشاف التام يمنعه عن السهو و النسيان فلو لم يكن الامام ذا عصمة ليصدر منه القبيح قولا و فعلا فاذن لابد أن يكون معصوما . و نعم ما استدلّ المتكلم النحرير هشام بن الحكم على عصمة الامام فلنذكره لعظم فائدته في المقام . كلام هشام بن الحكم في عصمة الامام روى الشيخ الجليل محمّد بن عليّ بن بابويه المشتهر بالصدوق في باب الأربعة [ 44 ] من كتابه المسمى بالخصال عن محمّد بن أبي عمير قال : ما سمعت و لا استفدت من هشام ابن الحكم في صحبتي له شيئا أحسن من هذا الكلام في عصمة الامام فاني سألته يوما عن الامام أهو معصوم ؟ فقال : نعم ، فقلت : فما صفة العصمة فيه و بأي شي‏ء يعرف ؟ فقال : إن جميع الذنوب أربعة أوجه لا خامس لها : الحرص و الحسد و الغضب و الشهوة فهذه منفية عنه . لا يجوز أن يكون حريصا على هذه الدّنيا و هي تحت خاتمه لأنّه خازن المسلمين فعلى ماذا يحرص ؟ و لا يجوز أن يكون حسودا لأن الإنسان إنّما يحسد من فوقه و ليس فوقه أحد فكيف يحسد من هو دونه ؟ و لا يجوز أن يغضب لشي‏ء من امور الدّنيا إلاّ أن يكون غضبه للّه عزّ و جلّ فان اللّه عزّ و جلّ قد فرض عليه إقامة الحدود و أن لا تأخذه في اللّه لومة لائم و لا رأفة في دينه حتّى يقيم حدود اللّه عزّ و جلّ . و لا يجوز أن يحبّ امور الدّنيا لأن اللّه حبّب اليه الآخرة كما حبّب الينا الدّنيا و هو ينظر إلى الآخرة كما ننظر إلى الدّنيا فهل رأيت أحدا ترك وجها حسنا لوجه قبيح و طعاما طيّبا لطعام مرّ و ثوبا ليّنا لثوب حسن و نعمة دائمة باقية لدنيا زائلة فانية ؟ انتهى كلامه رفع مقامه و للّه درّه . أقول : و لا يخفى أن هذا الدليل جار في عصمة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أيضا بل بطريق أولى . ثمّ إنّ الشيخ الرئيس كانّما أخذ من هذا ما قال في النمط التاسع من الاشارات في مقامات العارفين حيث قال في آخره : العارف هشّ بشّ بسام يبجّل الصغير من تواضعه كما يبجّل الكبير و ينبسط من الخامل مثل ما ينبسط من النّبيه و كيف لا يهشّ و هو فرحان بالحقّ و بكلّ شي‏ء فانّه يرى فيه الحقّ و كيف لا يستوى و الجميع عنده سواسية أهل الرحمة قد شغلوا بالباطل إلى أن قال : العارف شجاع و كيف لا و هو بمعزل عن تقيّة الموت ، و جواد و كيف لا و هو بمعزل عن محبة الباطل ، و صفاح و كيف لا و نفسه أكبر من أن تخرجها زلّة بشر ، و نسّاء للأحقاد و كيف لا و ذكره مشغول بالحقّ إلى آخر ما قال . [ 45 ] ثمّ إذا ثبت أنّ الامام حجة في الشرع و بقاء الدين و الشريعة موقوف على وجوده وجب عقلا أن ينفى عنه ما يقدح في ذلك و ينفر عنه منها السهو و النسيان و إلاّ فاذا حكم في واقعة و بيّن حكم اللّه لا تطمئن به القلوب لامكان السهو و النسيان فيه فاذا كان حافظا للشرع و لم يكن معصوما منهما لما آمن في الشرع من الزيادة و النقصان و التغيير و التبديل . و لم يحصل الوثوق بقوله و فعله و ذلك ينافي الغرض من التكليف ، و كذلك إذا لم يكن منزها من سائر ما تنفر الطباع عنها لا تميل النفوس اليها و لا تشتاق إلى حضرته لنيل السعادات و درك الحقائق فلا يتم حجة اللّه على خلقه بل الفطرة السليمة و الرويّة المستقيمة و النفوس الكريمة تأبى عن طاعة من ارتكب ما تنفر عنه من أنواع المعاصي و الفواحش الكبائر و الصغائر و لو في سالف عمره و تاب بعد ذلك . و أيضا لا خلاف بين المسلمين ان الامام هو المقتدا به في جميع الشريعة و إنّما الخلاف في كيفيته فاذا كان هو المقتدا به في جميع الشريعة و واجب علينا الاقتداء به فلو لم يكن مأمونا منه فعل القبيح لم نأمن في جميع افعاله و لا أقل في بعضها ممّا يأمرنا به و يدعونا اليه في الحدود و الديات و القصاص و ساير أحكام العبادات و المعاملات أن يكون قبيحا و من هو مأمون منه فعل القبيح هو المعصوم لا غير فيجب أن يكون الامام معصوما . ثمّ إذا علم معني العصمة فلابد من أن يكون الامام منصوبا من عند اللّه أو من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو من إمام قبله لأن العصمة أمر خفى باطنى تمييزه خارج عن طوق البشر و لا اطلاع لأحدهم عليها و لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى على أنّه لا خلاف و لا نزاع بين الأمة في أنّ الامامة دافعة للضرر و أنّها واجبة و إنّما النزاع في تفويض ذلك إلى الخلق لما في ذلك من الاختلاف الواقع في تعيين الأئمة فيؤدّى إلى الضرر المطلوب زواله و لذا قال الشيخ الرئيس في آخر الهيات الشفاء في الفصل الخامس من المقالة العاشرة في الخليفة و الامام : و الاستخلاف بالنص أصوب فان ذلك لا يؤدّى إلى التشعب و التشاغب و الاختلاف . [ 46 ] مسلك عقلى آخر في أمر الامامة أيضا و لما كانت هذه المسألة من أهم المسائل و اكتفى بعض الناس فيها بالاقناعيات و الخطابيات بل بالوهميات الّتي لا اعتداد بها في نصب الامام و اطفأوا نور العقل و عطلوه عن الحكم و القضاء و مالوا عن الجادة الوسطى و جانبوا الأدلّة القطعية العلمية و الأصول اليقينيّة البرهانية الهمت أن أسلك طريقة اخرى عقلية في تقريرها و تحريرها عسى أن يذكّر من تيسّر لليسرى فنقول و باللّه التوفيق و بيده أزمة التحقيق : العقول حاكمة بأنّ أحوال العالم كلّها إنما قامت على العدالة و بأن الأنبياء بعثوا ليقوم النّاس بالقسط و بالعدل قامت السماوات و الأرض و به ينتظم جميع امور النّاس و به يصير المدينة مدينة فاضلة و بالعدالة المطلقة يعطى كلّ ذي حق حقّه و به تحصل الكمالات العلميّة و العمليّة المستلزمة لنيل السعادة الأبدية و القرب إلى عالم القدس و الايصال إلى المعبود الحق و هو سبب الفوز و النجاة في الدّنيا و الآخرة و لو لا العدل لاختل نظام العالم و نظم اجتماع بني آدم و تعطل الحدود و الحقوق و استولى الهرج و المرج و فسد أمر المعاش و المعاد و لزم غيرها من المفاسد الّتي لا تعدّ و لا تحصى ، فالناس يحتاجون في كلّ زمان إلى امام خيّر مطاع حافظ للدين عن التغيير و التبديل و الزيادة و النقصان و يكون هادى الأمة إلى ما فيه الفلاح و النجاح و رادعهم عن العدول عن الصراط المستقيم و الانحراف عن النهج القويم و عن الميل إلى الأهواء المردية و الآراء المغوية و سائقهم إلى طريق الاستقامة الّتي لا ميل فيها إلى جانبي الافراط و التفريط فان اليمين و الشمال مضلّة و الوسطى هي الجادّة ، و معطي كلّ ذي حقّ حقّه و مقيم الحدود و مؤدى الحقوق و العدل في كلّ شي‏ء هو وضع ذلك الشي‏ء في موضعه أي إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه بحسب استعداده و استحقاقه و إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه يحتاج إلى العلم بحقائقهم و قدر استحقاقهم و استعدادهم و الاطلاع على الكلّيات و الجزئيات و إحاطتها على ما هي عليه و هى غير متناهية فهي غير معلومة إلاّ للّه تعالى و لخلفائه الذين اصطفاهم ، فالإمام [ 47 ] الّذي بيده أزمّة العدل و الحكم و الكتاب يجب أن يكون خليفته في الأرض و خليفته منصوب من عنده و معصوم من العيوب مطلقا . و كذا مستكن في القلوب و متقرر في الحكمة المتعالية أن النفس بالطبع منجذبة إلى محبة مشاهدة النور الأكمل و العلم الأتمّ و كلما كان الكمال أعلى و النور اسنى و العلم اتمّ و النفس أطهر كانت النفوس إليه أطوع و ميلها إليه أشدّ و أكثر ، و لما كانت العصمة هي العدالة المطلقة الرادعة عن الانحراف و الظلم و كان الغرض الأقصى من الخلافة هو تكميل النفوس بانقيادها للامام فيجب أن يكون الامام معصوما حتّى يتحقق الغرض المطلوب منه و غير المعصوم ناقص بالضرورة عن كمال الاعتدال في القوى الثلاث أي الحكمة و الشجاعة و العفة المستلزمة للعدالة المطلقة فاذا كان ناقصا عنه يضلّ عن صراط اللّه المستقيم و لو في حكم جزئي و الناقص المشتمل على الانحراف عن الصراط المستقيم لا يليق أن يكون واسطة الخلق إلى الحقّ و قائما بهدايتهم و بالجملة إن الامامة منصب إلهى يتوقف على كمال عقله النظرى و العملي و السلامة عن العيوب و العصمة عن الذنوب ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حيّ عن بيّنة و إلى ما حققناه و حرّرناه اشار طائفة من المتألهين من الحكماء في أسفارهم بأن الأرض لا يخلو من حجة إلهيّة قط . قال الشيخ الرئيس في آخر الفصل الخامس من المقالة العاشرة من إلهيات الشفاء في الخليفة و الامام و وجوب طاعتهما بعد البحث عن الفضائل : و رؤوس هذه الفضائل عفة و حكمة و شجاعة و مجموعها العدالة و هي خارجة عن الفضيلة النظرية و من اجتمعت له معها الحكمة النظريّة فقد سعد و من فاز مع ذلك بالخواص النبويّة كاد أن يصير ربّا إنسانيا و كاد أن يحل عبادته بعد اللّه تعالى و هو سلطان العالم الأرضي و خليفة اللّه فيه . بيان : إنّما عبر الامام بقوله ربّا إنسانيا لأن حجة اللّه على خلقه لما كان بشرا واسطة بين اللّه و عباده لابد من أن يكون مؤيدا من عند الحكيم العليم بالحكمة العملية و النظريّة غير مشارك للناس على مشاركته لهم في الخلق بكرامات إلهيّة و امور [ 48 ] قدسيّة و صفات ملكوتية فعبّر الشيخ عن الجهتين أعني الجهة البشريّة و الجهة الألوهيّة بقوله : ربّا إنسانيا . قال الشيخ شهاب الدين السهروردى : لا يخلو العالم من الخليفة الّذي سماه أرباب المكاشفة و أرباب المشاهدة القطب ، فله الرياسة و إن كان في غاية الخمول و إن كانت السياسة بيده كان الزمان نورانيا و إذا خلي الزمان عن تدبير مدّبر إلهى كانت الظلمات غالبة . و قال في شرح النصوص : لا يزال العالم محفوظا ما دام فيه هذا الإنسان الكامل ان الخليفة ظاهر بصورة مستخلفه في خزائنه و اللّه يحفظ صورة خلقه في العالم فانّه طلسم الحفظ من حيث مظهريّته لأسمائه واسطة تدبيره بظهور تأثيرات أسمائه فيها . و سيأتي من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام لكميل بن زياد : اللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة إمّا ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا لئلاّ تبطل حجج اللّه و بيّناته و كم ذا و أين اولئك . اولئك و اللّه الأقلون عددا و الأعظمون قدرا يحفظ اللّه بهم حججه و بيّناته حتّى يودعوها نظرائهم و يزرعوها في قلوب أشباههم هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة و باشروا روح اليقين و استلانوا ما استوعره المترفون و أنسوا بما استوحش منه الجاهلون و صحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى اولئك خلفاء اللّه في أرضه و الدّعاة إلى دينه . « عدم تأثير السحر و الشعبذة و أمثالهما في الحجج الإلهيّة » تنبيه : قد علم مما قدمنا في الحجج الالهية أن العقل لا يجوز تأثير السحر فيهم و غاية ما يستفاد من الأخبار المذكورة في جوامع الفريقين أن بعض الناس كلبيد ابن أعصم اليهود مثلا إنّما سحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمّا أن سحره أثر فيه أثرا فممنوع فان الأصل المتبع في تلك الأمور هو العقل فما وافقه و إلاّ يعرض عنه . و ما ورد من تأثير السحر فيهم كما في نقل : أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مرض من سحر لبيد بن أعصم ، و في آخر : كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله يرى أنّه يجامع و ليس يجامع و كان يريد الباب و لا يبصره حتّي يلمسه بيده ، من زيادات النقلة و الروات فان دأب النّاس في أمثال [ 49 ] هذه الواقعة على زيادة ما يستغرب و يتعجب منه . قال الطبرسي في المجمع : و هذا ( يعني تأثير السّحر فيه صلّى اللّه عليه و آله ) لا يجوز لأن من وصف بأنّه مسحور فكأنه قد خبل عقله و قد أبى اللّه سبحانه ذلك في قوله « و قال الظالمون إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحوراً . اُنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلّوا » و لكن يمكن أن يكون اليهودى أو بناته على ما روى اجتهدوا في ذلك فلم يقدروا عليه و اطلع اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله على ما فعلوه من التموية حتّى استخرج ( يعنى استخراج سحر لبيد من بئر ذروان ) و كان ذلك دلالة على صدقه و كيف يجوز أن يكون المرض من فعلهم و لو قدروا على ذلك لقتلوه و قتلوا كثيرا من المؤمنين مع شدّة عداوتهم لهم . و من تدبّر و تأمل فيما حرّرنا من وجود الامام و أوصافه عقلا درى انّه يجب أن يكون عالما بالسياسة و بجميع أحكام الشريعة و كلّ ما يحتاج اليه الناس في تكميل نفوسهم و نظام امورهم ، و أفضل من كلّ واحد من رعيّة عصره و أن وجوده لطف فيجب أن يكون منصوبا عليه و منصوبا من عند اللّه تعالى و معصوما عن الذنوب و منزها عن العيوب و عن كلّ ما يتنفر عنه الطبع السليم . فمن أخذت الفطانة بيده سعد و إلاّ فمن لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور . « التمسك بآيتين و خمسة أخبار في الامام و صفاته » و اعلم انّما حداني على الاتيان بتلك الأخبار و البحث عنها ما رأيت فيها من احتجاجات أنيقة مشتملة على براهين كلية عقلية في اثبات المطلوب ، لا من حيث انّها أخبار أردنا ايرادها في المقام و التمسك بها تعبدا ، كما أن الآيتين وافيتان للرشاد و السّداد لو تدبّرنا فيهما بالعقل و الاجتهاد و المرجوّ أن ينظر فيها القارى الكريم الطالب للرشاد حق النظر و يتدبّر فيها حق التدبر لعله يوفق بالوصول إلى الدين الحق فان الدين الحقّ واحد قال عزّ من قائل : « و ما ذا بعد الحقّ إلاّ الضلال و لا تتّبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله » . ثمّ ليعلم أن الآيات و الأخبار في الدلالة على ذلك أكثر منها و لكنّا اكتفينا بها روما للاختصار . أمّا الآيتان فاوليهما قوله عزّ و جلّ ( البقرة الآية 119 ) : « و إذ ابتلى إبراهيم [ 50 ] ربّه بكلمات فأتمهنّ قال إنّي جاعلك للنّاس إماماً قال و من ذرّيتي قال لا ينال عهدى الظالمين » . أقول : الامام هو المقتدى به كما يقال إمام الصلاة لأنّه يقتدى به و يأتم به و كذلك يقال للخشبة الّتي يعمل عليها الاسكاف امام من حيث يحذو عليها و للشاقول الّذي في يد البناء إمام من حيث إنّه يبنى عليه و يقدر به و لا كلام في ان الامام الّذي نصبه اللّه تعالى لعباده مقتدى به في جميع الشريعة و به يهتدون و الامام هادى النّاس بأمر اللّه تعالى و كفى في ذلك شاهدا قوله تعالى في كتابه الكريم : « و وهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة و كلاّ جعلنا صالحين . و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا » ( الأنبياء 73 ) و قوله تعالى : « و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون » ( السجدة 24 ) حيث قرن الإمامة بالهداية الّتي هي بأمر اللّه تعالى أى الامام يهدى النّاس إلى سواء السبيل بأمره تعالى و سنوضح ذلك مزيد ايضاح . ثمّ انّه ذكر غير واحد من المفسرين كالنيسابورى و صاحب المنار و غيرهما أن المراد بالامامة الرسالة و النّبوة و قال الأوّل : الأكثرون على أن الامام ههنا النّبي لأنّه جعله إماما لكلّ النّاس فلو لم يكن مستقلاّ بشرع كان تابعا لرسول و يبطل العموم ، و لأن اطلاق الامام يدلّ على أنّه إمام في كلّ شي‏ء و الّذي يكون كذلك لا بدّ أن يكون نبيّا ، و لأن اللّه تعالى سمّاه بهذا الاسم في معرض الامتنان فينبغي أن يحمل على أجل مراتب الامامة كقوله تعالى « و جعلناهم ائمة يهدون بأمرنا » لا على من هو أدون ممن يستحق الاقتداء به في الدين كالخليفة و القاضي و الفقيه و امام الصلاة و لقد أنجز اللّه تعالى هذا الوعد فعظّمه في عيون أهل الأديان كلّها و قد اقتدى به من بعده من الأنبياء في اصول مللهم ثمّ أوحينا اليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا و كفى به فضلا أن جميع امة محمّد صلّى اللّه عليه و آله يقولون في صلاتهم : اللّهم صل على محمّد و آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم . ( انتهى ) أقول : الصواب أن إبراهيم عليه السّلام فاز بالامامة بعد ما كان نبيّا و الامامة في الآية غير النبوّة و ذلك لوجهين : الأوّل أن جاعل عمل في قوله تعالى إماما اعني [ 51 ] إن اماما مفعول ثان لقوله جاعلك و اسم الفاعل انّما يعمل عمل الفعل و ينصب مفعوله و لا يضاف اليه إذا كان بمعني الحال أو الاستقبال و أما إذا كان بمعني الماضي فلا يعمل عمل الفعل كذلك و لا يقال زيد ضارب عمرا أمس نعم إذا كان صلة لأل فيعمل مطلقا كما حقق في محلّه . حكى انّه اجتمع الكسائي و أبو يوسف القاضي عند الرشيد فقال الكسائي : أبا يوسف لو قتل غلامك فقال رجل أنا قاتل غلامك بالإضافة ، و قال آخر أنا قاتل غلامك بالتنوين فأيهما كنت تأخذ به ؟ فقال القاضي كنت أخذتهما جميعا . فقال الكسائي أخطأت إنّما يؤخذ بالقتل الّذي جرّ دون النصب . و الوجه فيه أن اسم الفاعل المضاف بمعنى الماضي فيكون إقرارا و غير المضاف يحتمل الحال و الاستقبال أيضا فلا يكون إقرارا . و ما نحن فيه من قبيل الثاني كما لا يخفى . و بالجملة إذا كان اسم الفاعل يعمل عمل فعله إذا لم يكن بمعني الماضي فالآية تدل على انّه تعالى جعل ابراهيم إماما إما في الحال أو الاستقبال و على أى حال كانت النّبوة حاصلة له قبل الامامة فلا يكون المراد بالامامة في الآية النبوة . و في الكافي عن الصادق عليه السّلام و في الوافي ص 17 م 2 ) قال إنّ اللّه تبارك و تعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيّا و أن اللّه اتخذه نبيّا قبل أن يتخذه رسولا و أن اللّه اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا و أن اللّه اتخذه خليلا قبل أن يتخذه ( أن يجعله خ ل ) إماما فلما جمع له الأشياء قال إنّي جاعلك للناس إماما فمن عظمها في عين إبراهيم قال و من ذريتي قال لا ينال عهدى الظالمين قال لا يكون السفيه إمام التقى . انتهى فرتب هذه الخصال بعضها على بعض لاشتمال كلّ لاحق منها على سابقه مع زيادة حتى انتهى إلى الإمامة المشتملة على جميعها فهى أشرف المقامات و أفضلها . و فيه أيضا قال أبو عبد اللّه عليه السّلام : الأنبياء و المرسلون على أربع طبقات : فنبيّ منبأ في نفسه لا يعد و غيرها ، و نبيّ يرى في النوم و يسمع الصوت و لا يعاينه في اليقظة و لم يبعث إلى أحد و عليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط عليهما السّلام ، و نبيّ يرى [ 52 ] في منامه و يسمع الصوت و يعاين الملك و قد ارسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا كيونس قال اللّه تعالى ليونس : و أرسلناه إلى مأة ألف أو يزيدون و قال : يزيدون ثلاثين ألفا و عليه إمام ، و الّذى يرى في منامه و يسمع الصوت و يعاين في اليقظة و هو إمام مثل اولى العزم و قد كان إبراهيم عليه السّلام نبيّا و ليس بامام حتّى قال اللّه إنّي جاعلك للناس إماما قال و من ذريّتي فقال اللّه لا ينال عهدى الظالمين من عبد صنما او وثنا لا يكون إماما . الوجه الثاني ان الآية تدلّ على أن اللّه تعالى لما ابتلاه و اختبره بانواع البلاء جعله إماما و من ابين البلاء له ذبح ولده إسماعيل كما قال تعالى « فبشرناه بغلام حليم . فلما بلغ معه السعى قال يا بنيّ إنّي أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى إلى أن قال إن هذا لهو البلاء المبين » ( الصافات 107 ) و وهبه اللّه إسماعيل في كبره كما قال في السورة المسماة باسمه « الحمد للّه الّذى وهب لي على الكبر إسماعيل و إسحاق ان ربّي لسميع الدعاء » ( إبراهيم : 43 ) فكان عليه السّلام نبيّا قبل أن كان إماما . و كذلك نقول : إن مما ابتلاه اللّه تعالى به قضيّة ابتلائه بالأصنام و قال اللّه تعالى : و اذكر في الكتاب إبراهيم إنّه كان صديقا نبيّا . إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع و لا يبصر و لا يغني عنك شيئا إلى أن قال : فلمّا اعتزلهم و ما يعبدون من دون اللّه وهبنا له إسحق و يعقوب و كلا جعلنا نبيّا ( مريم : 51 ) فنصّ اللّه تعالى بانّه كان حين يخاطب أباه صديقا نبيّا و قال في الآية الأولى و إذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهن قال إنّي جاعلك للنّاس إماما فلم يكن حين ابتلائه بالأصنام إماما بل كان نبيّا و رزق الإمامة بعد ذلك . فاذا ساقنا الدليل إلى أن الإمامة في الآية غير النّبوة فنقول كما في المجمع : ان المستفاد من لفظ الامام أمران : أحدهما انّه المقتدى به في أفعاله و أقواله ، و الثاني انّه الّذي يقوم بتدبير الأمة و سياستها و القيام بامورها و تأديب جناتها و تولية ولاتها و إقامة الحدود على مستحقيها و محاربة من يكيدها و يعاديها ، فعلى الوجه الأوّل [ 53 ] لا يكون نبيّ من الأنبياء إلاّ و هو إمام ، و على الوجه الثاني لا يجب في كلّ نبيّ أن يكون إماما إذ يجوز أن لا يكون مأمورا بتأديب الجناة و محاربة العداة و الدفاع عن حوزة الدين و مجاهدة الكافرين . ثمّ إنّ معنى الإمامة في الآية ليس مجرد مفهوم اللفظ منها بل هي الموهبة الالهية يهب لمن يشاء من عباده الصابرين الموقنين كما قال عز من قائل و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون ( السجدة : 24 ) و إنّما اطلق الصبر و لم يذكر متعلقه بأنّهم صبروا فيماذا ؟ ليعمّ صبرهم في أنواع البلاء . فالامامة هي الولاية من اللّه تعالى لهداية النّاس بأمر اللّه تعالى الّتي توجب لصاحبها التصرف في العالم العنصرى و تدبيره باصلاح فساده و اظهار الكمالات فيه لاختصاص صاحبها بعناية الهية توجب له قوة في نفسه لا يمنعها الاشتغال بالبدن عن الاتصال بالعالم العلوى و اكتساب العلم الغيبي منه ، فبذلك التحقيق و بما بيناه في أبحاثنا الماضية يظهر جواب ما استدلّ النيسابورى و غيره على ان المراد بالإمام هو النّبيّ . ثمّ ان الآية تدلّ على أن الإمام الهادى للناس بأمره تعالى يجب أن يكون منصوصا من عند اللّه تعالى حيث قال تعالى : إنّي جاعلك للناس إماماً كما لا يخفى على من له أدنى دربة في اساليب الكلام . و العجب من النيسابورى حيث قال في تفسيره : ثمّ القائلون بأن الإمام لا يصير إماما إلاّ بالنصّ تمسكوا بهذه الآية و أمثالها من نحو : إنّي جاعل في الأرض خليفة يا داود إنا جعلناك خليفة ، و منع بأن الإمام يراد به ههنا النّبيّ سلمنا ان المراد به مطلق الإمام لكن الآية تدلّ على ان النصّ طريق الإمامة و ذلك لانزاع فيه إنّما النزاع في انّه لا طريق للامامة سوى النصّ و لا دلالة في الآية على ذلك انتهى . و بما حققناه و بيّناه في المقام يظهر لك أن كلامه هذا في غاية السقوط . نعم انّه أنصف في المقام و قال : و في الآية دليل على انّه عليه السّلام كان معصوما عن جميع الذنوب لأنّه لو صدرت عنه معصية لوجب علينا الاقتداء به و ذلك يؤدّى إلى كون الفعل الواحد ممنوعا منه مندوبا إليه و ذلك محال . [ 54 ] قوله تعالى : و من ذريتي قال لا ينال عهدى الظالمين . عطف على الكاف من جاعلك و ان شئت قلت : و من ذريتي تتعلق بمحذوف تدل عليه كلمة جاعلك و من للتبعيض أى اجعل بعض ذريتي إماما كما يقال ساكرمك فتقول و زيدا و إنّما طلب الإمامة لبعض ذريته لعلمه بان كلّهم لا يليق بها لأن ناسا غير محصورين لا يخلو فيهم من ظالم غالبا قال اللّه تعالى : سلام على إبراهيم . كذلك نجزى المحسنين . إنّه . من عبادنا المؤمنين . و بشرناه باسحق نبيّاً من الصالحين . و باركنا عليه و على إسحق و من ذريتهما محسن و ظالم لنفسه مبين ( الصافات 115 ) . و أفاد بعض المفسرين انّه قد جرى إبراهيم على سنة الفطرة في دعائه هذا فان الانسان لما يعلم من أن بقاء ولده بقاء له يحبّ أن تكون ذريته على أحسن حال يكون هو عليها ليكون له حظ من البقاء جسدا و روحا . و من دعاء إبراهيم الّذي حكاه اللّه عنه في السورة المسماة باسمه ربّ اجعلني مقيم الصلوة و من ذرّيتي ( إبراهيم : 40 ) و قد راعي الأدب في طلبه فلم يطلب الإمامة لجميع ذرّيته بل لبعضها لأنه الممكن ، و في هذا مراعاة لسنن الفطرة أيضا و ذلك من شروط الدعاء و آدابه فمن خالف في دعائه سنن اللّه في خليقته او في شريعته فهو شريعته فهو غير جدير بالاجابة بل هو سيي‏ء الأدب مع اللّه تعالى لأنه يدعوه لأن يبطل لأجله سنته الّتي لا تتبدّل و لا تتحوّل أو ينسخ شريعته بعد ختم النّبوة و اتمام الدين . و العهد في الآية الإمامة الّتي اعطاها اللّه تعالى إبراهيم و إنّما سميت تلك الرياسة الالهية عهد اللّه لاشتمالها على كلّ عهد عهد به اللّه تعالى إلى بني آدم كقوله تعالى و لقد عهدنا إلى آدم من قبل و إذ أخذنا من النبيّين ميثاقهم . و من عظمها و شرافتها في عين إبراهيم سأل الإمامة لبعض ذريته فأجابه اللّه تعالى بأن الإمامة عهده و لا يناله الظالمون يقال : نال خيرا ينال نيلا أى أصاب و بلغ منه . و بين اللّه تعالى انّ عهده ذو مقام منيع و درجة رفيعة لا يصل اليه يد الظالم القاصرة . و أيضا دلّت الآية على أن بعض ذريته الظالم لا ينال عهد اللّه لأن الظالم ليس [ 55 ] بأهل لأن يقتدى به فلم ينف اللّه تعالى الإمامة عن ذريته مطلقا و إلاّ لكان يقول : لا ينال عهدى ذرّيتك مثلا بل ذكر المانع من النيل إلى ذلك المنصب الالهي مطلقا و هو الظلم و ذلك كما ترى أن اللّه جعل الإمامة في بعض أولاده و احفاده كاسماعيل و إسحاق و يعقوب و يوسف و موسى و هارون و داود و سليمان و أيّوب و يونس و زكريا و يحيى و عيسى و الياس ثمّ أفضلهم و أشرفهم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و اللّه تعالى اثنى عليهم في الكتاب بثناء مستطاب . فالآية تدلّ على ان الإمامة الّتي جعلها لابراهيم عليه السّلام لا ينالها من كان ظالما من ذرّيته فعلم من الآية أمران : أحدهما أن الإمامة لا يكون إلاّ في ذرّيته ، و الثاني انّه لا ينالها من عند اللّه من هو موصوف بالظلم منهم . فعلم أن كلّ ظالم من ذرّية إبراهيم لا يصلح أن ينال الإمامة و الولاية من قبل اللّه و لا يكون ممّن رضي اللّه بامامته و ولايته و إلا لزم الكذب في خبره هذا خلف فكلّ ظالم تولى امور المسلمين باستيلائه و قهره و كثرة أعوانه و أنصاره لا يكون إماما من اللّه و لا ممن رضي اللّه بإمامته و الا لكان قد جعله إماما و كذا لا تكون مجعولا من رسله و لا من خواصّ أوليائه لنصّ الآية الدالّ على أنّ اللّه تعالى لا يجعل الإمامة و لا ينالها منه من كان ظالما . ثمّ إنّ أصحابنا الإمامية استدلوا بهذه الآية على أن الإمام لا يكون إلاّ معصوما عن القبايح لأنّ اللّه سبحانه نفي أن ينال عهده الّذي هو الإمامة ظالم فمن ليس بمعصوم فهو ظالم إمّا لنفسه و إمّا لغيره و من لم يتصف بالعصمة لا يتصف بالاستقامة و الاعتدال المتصفين بهما أهل الولاية عن اللّه فيتحقق الميل عن الوسط و الخروج عن الصراط المستقيم فيكون من أحد الجانبين إمّا من المغضوب عليهم أو الضالين فان قيل : إنّما نفي أن يناله ظالم في حال ظلمه فاذا تاب لا يسمى ظالما فيصح أن يناله . فالجواب أن الظالم و ان تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالما فاذا نفي أن يناله فقد حكم عليه بأنه لا ينالها و الآية مطلقة غير مقيّدة بوقت دون وقت فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلّها فلا ينالها الظالم و ان تاب فيما بعد ( قاله في المجمع ) . [ 56 ] و بالجملة ان عموم ظاهر الآية يقتضي ان الظالم في حال من الأحوال لا ينال الإمامة و من تاب بعد كفر أو فسق و إن كان بعد التوبة لا يوصف بانّه ظالم فقد كان ممن تناوله الاسم و دخل تحت الآية و إذا حملناها على أن المراد بها من دام على ظلمه و استمر عليه كان هذا تخصيصا بغير دليل . أقول : فالآية تدلّ على ابطال إمامة غير عليّ عليه السّلام لانهم كانوا مشركين قبل الاسلام و عبدوا الأصنام بالاتفاق و كلّ مشرك ظالم و قال اللّه تعالى ان الشرك لظلم عظيم فكلّ ظالم لا ينال عهد الإمامة . و لذا قال الصادق عليه السّلام : من عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما و نعم ما نظم الحسين بن علي الكاشفي حيث قال في قصيدة فارسية له : ذريتي سؤال خليل خدا بخوان و ز لا ينال عهد جوابش بكن أدا گردد ترا عيان كه امامت نه لائق است آنرا كه بوده بيشتر عمر در خطا و قال الزمخشرى في الكشاف في بيان قوله تعالى و لا ينال عهدى الظالمين : اى من كان ظالما من ذرّيتك لا يناله استخلافي و عهدى اليه بالامامة و إنّما ينال من كان عادلا بريئا من الظلم و قالوا : في هذا دليل على ان الفاسق لا يصلح للامامة و كيف يصلح لها من لا يجوز حكمه و شهادته و لا تجب طاعته و لا يقبل خبره و لا يقدم للصلاة و كان أبو حنيفة يفتي سرّا بوجوب نصرة زيد بن عليّ رضوان اللّه عليهما و حمل المال اليه و الخروج معه على اللّص المتغلب المتسمى بالامام و الخليفة كالدوانيقي و أشباهه و قالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم و محمّد ابنى عبد اللّه بن الحسن حتّى قتل فقال : ليتني مكان ابنك ، و كان يقول في المنصور و أشياعه : لو أرادوا بناء مسجد و أرادوني على عد آجره لما فعلت . و عن ابن عيينة ( و عن ابن عباس خ ل ) لا يكون الظالم إماما قط و كيف يجوز نصب الظالم للامامة و الإمام إنّما هو لكف الظلمة فاذا نصب من كان ظالما في نفسه فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب ظلم . انتهى . إن قلت : إن يونس صلوات اللّه عليه نال عهد اللّه الّذي هو الإمامة مع أنّ اللّه تعالى حكى عنه أنّه قال : سبحانك إنّي كنت من الظالمين ( الأنبياء : 89 ) [ 57 ] أقول : ان الظلم فيه محمول على ترك الأولى كما في حق آدم صلوات اللّه عليه حيث قال : ربّنا ظلمنا أنفسنا و بالجملة ما ورد في القرآن و الأخبار ممّا يوهم صدور الذنب عن الأنبياء و خلفائهم الحق محمول على ترك الأولى جمعا بين ما دلّ العقل عليه و بين صحة النقل لأن المتبع في اصول العقائد هو العقل و هو الأصل فيها و كلّ ما ثبت بدليل قاطع فلا يجوز الرجوع عنه على أن لتلك الآيات و الأخبار ذكرت وجوه و محامل أتى بها العلماء في مواضعه و عليك في ذلك بكتاب تنزيه الأنبياء للسيد المرتضى علم الهدى فانه شفاء العليل . و من أحسن ما قيل في المقام : ان تلك الظواهر دالّة على عظم شأنهم و علو مرتبتهم إذ معاتبة الحكيم لهم على تلك الأفعال الّتي هي في الحقيقة لا توجب العصيان و المخالفة دليل على أنّهم في محلّ يقتضي تلك المعاتبة تنزيها لهم و تفخيما لأمرهم و تعظيما لشأنهم عن ملابسة ما لا يليق بمراتبهم إذ هم دائما في مرتبة الحضور الموجبة لعدم التفاتهم إلى غير الحقّ و كان وقوع ذلك منهم في بعض الحالات أو مع شي‏ء من الاشتغالات البدنيّة و الانجذاب في بعض الأحيان إلى الأمور و الماديّة موجبا لتلك المعاتبة . و بالجملة ان الحجج الالهيّة لما كانوا في نهاية القرب من اللّه تعالى و كمال الاتصال بجنابه و تمام الحضور إلى حضرته و كانوا أيضا مع تلك المرتبة الشامخة في العوائق و العلائق البدنيّة اللازمة للبشرية رين مع الرعيّة للإرشاد و التبليغ قد يعرض لهم في تلك الأطوار و الشئونات البشريّة امور يعدونه سيئات و إن لم تكن في الحقيقة بقبائح و سيئآت فيتضرعون إلى اللّه تعالى بقولهم ربّنا ظلمنا أنفسنا أو سبحانك إنّي كنت من الظالمين . فان المخلصين على خطر عظيم . و بذلك ظهر سرّ الحديث المروى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : حسنات الأبرار سيّئآت المقربين . ثمّ اعلم أن إبراهيم عليه السّلام لما طلب الإمامة لبعض ذريته فكان يكفي في جوابه ان يقال : نعم ، مثلا لكنّه لما لم يكن نصا في ان الظالم لا ينال الإمامة لأنه كان [ 58 ] يشمل حينئذ الظالم و غيره و كذا لو قال ينال عهدى المؤمنين مثلا لما كان أيضا نصا في خروج الظالم غاية ما يقال حينئذ خروجه بالمفهوم فنصّ بالظالم لخروجه عن نيل عهد اللّه تعالى اعني الإمامة بقوله لا ينال عهدى الظالمين . كما نصّ أيضا بأن أمر الظالم ليس برشيد و من اتبعه فجزاءه جهنم ، في قوله : و لقد أرسلنا موسى بآياتنا و سلطان مبين . إلى فرعون و ملائه فاتبعوا أمر فرعون و ما أمر فرعون برشيد . يقدم . قومه يوم القيامة فأوردهم النّار و بئس الورد المورود . و اتبعوا في هذه لعنة و يوم القيامة بئس الرفد المرفود ( هود : 102 ) . ثمّ إنّ اللّه تعالى ذكر في كتابه العزيز كثيرا من صفات من جعله إماما للنّاس بقوله : 1 لا ينال عهدى الظالمين . فرتبة الإمامة و درجة الولاية اعلى و ارفع من أن ينالها الظالم و بهذه الآية بين أيضا أن الإمام منصوب من عنده كما دريت . 2 إن إبراهيم كان اُمة قانتاً للَّه حنيفاً و لم يكن من المشركين . شاكراً . لأنعمه اجتبيه و هديه إلى صراط مستقيم . و آتيناه في الدّنيا حسنة و انّه في الآخرة لمن الصالحين ( النحل : 125 ) فمن صفات الإمام أن يكون ممن اجتباه اللّه فهو نصّ في ان الإمام يجب أن يكون منصوبا من اللّه تعالى و أن يكون مهديا بهدى اللّه تعالى إلى صراط مستقيم و أن لا يكون من المشركين . فافهم و تدبّر حق التدبر . 3 إنّ إبراهيم لحليم أوّاه منيب ( هود : 79 ) . 4 و لقد آتينا إبراهيم رشده من قبل و كنّا به عالمين ( الأنبياء : 54 ) . 5 و وهبنا له إسحق و يعقوب نافلة و كلاّ جعلنا صالحين . و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا اليهم فعل الخيرات و إقام الصلوة و ايتاء الزكوة و كانوا لنا عابدين ( الأنبياء : 75 ) فالامام يهدى بأمره تعالى و يوحى اليه فعل الخيرات . 6 و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون ( السجدة : 26 ) . 7 و من يرغب عن ملة إبراهيم إلاّ من سفه نفسه و لقد اصطفيناه في الدنيا [ 59 ] و انّه في الآخرة لمن الصالحين . إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين ( البقرة : 127 ) . فمن اتصف بهذه الأوصاف الملكوتية و ايّد بهذه التأييدات السماوية فهو إمام فطوبى لمن عقل الدين عقل رعاية و دراية . الآية الثانية قوله تعالى يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللَّه و أطيعوا الرسول و اولى الأمر منكم فان تنازعتم في شي‏ء فردّوه إلى اللَّه و الرسول إن كنتم تومنون باللَّه و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلاً ( النساء آيه 57 ) . و الاية تدلّ على امور : الأول أن إطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله فيما أمر به و نهى عنه واجبة كما أن اطاعة اللّه تعالى واجبة فليس لأحد أن يقول : حسبنا كتاب اللّه فلا حاجة لنا إلى الأخبار المرويّة عن الرسول و العمل بها ، و ذلك لأن هذا القول نفسه ردّ الكتاب و لو كان كتاب اللّه وحده كافيا لما أفرد الأمر بطاعة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بقوله عزّ من قائل : أطيعوا الرسول بعد قوله : أطيعوا اللَّه . و نظير الآية قوله تعالى : و من يطع الرّسول فقد أطاع اللَّه و قوله تعالى : و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا و قوله تعالى و ما ينطق عن الهوى إن هو الاّ وحى يوحى فقد أخطا من قال : حسبنا كتاب اللّه و اعرض عن قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله . الأمر الثانى أن اللّه تعالى أوجب على النّاس اطاعة أولى الأمر كما أوجب اطاعته و اطاعة رسوله فالحرى بالطالب نهج القويم أن يرى بعين العلم و المعرفة رأيه في معنى اولى الأمر و مراده عزّ و جل منهم فنقول : قد فسر بعضهم اولى الأمر بالأمراء و بعض آخر و منهم الفخر الرازى في تفسيره بالعلماء و لا يخفى أن المعنى الثاني عدول عن الصواب جدّا فان اولى الأمر هم مالكو الأمر و مالك الأمر من بيده الحلّ و العقد و الأمر و النهى و التدبير و السياسة و ما فيه تنظيم امور الناس دينيّة كان أو دنيويّة ، فكيف يجوز تفسير اولى الأمر بالعلماء سيّما في كلام اللّه الّذى هو في غاية الفصاحة و نهاية البلاغة و معجزة النبوّة الباقية و هل هذا الاّ الخروج عن مجرى الفصاحة و الورود في مورد السخافة . [ 60 ] أمّا مراده عزّ و جلّ من اولى الأمر فنقول : إنا نعلم بتّا أن كثيرا من الخلفاء و الأمراء كمعاوية و يزيد و الوليد و الحجّاج و آل اميّة و بني مروان و الخلفاء العبّاسيّين و أمثالهم قديما و حديثا لعبوا بالدّين و اتخذوا كتاب اللّه سخريا و فعلوا من الفواحش و المنكرات و فنون الظلم و المنهيّات من سفك الدماء و أخذ أموال الرعية ظلما و شرب الخمر و نحوها . ما يتعذر عدّها و تشمئز النفوس المطمئنة السليمة عن استماعها و تستقبح ذكرها ، و لو نذكر معشارا من ظلمهم و سائر فواحشهم و مقابحهم مما نقل في كتب القوم و مصنفاتهم لبلغ مبلغا عظيما و هذا هو الوليد بن يزيد نذكر فعلا من أفعاله يكون انموزجا لسائر آثاره و ان بلغ في الفسق و الفجور إلى حد لا يناله يد انكار و لا يرتاب فيه أحد و لعمرى أنى أستحيى من نقل هذه القضيّة الصادرة منه و لكنى أقول : ان من جانب المراء و اللداد و تقليد الآباء و الأجداد و اعرض عن الأغراض النفسانية و العصبيّة و نظر بعين العلم و البصيرة و تفكر ساعة في معاني الآيات و الأخبار و تأمل في غرض البعثة و تكليف العباد و أراد ان يسلك مسلك السداد و الرشاد هل يرضى بأمارة من يرتكب من المعاصى و الفواحش ما يستحيى بذكره الانسان و هلاّ يقضى عقله بأنّه لو كان الوليد و أشياعه مالكي ازمة الأمور و القائمين مقام الرسول لما كان إِرسال الرسل و إنزال الكتب إلاّ اللهو و العبث و اللعب . قال أبو الفرج الاصبهاني في الاغاني ( ص 174 ج 19 طبع ساسي ) في ترجمة عمار ذى كناز باسناده عن العمرى أنّه قال : استقدمني الوليد بن يزيد بعد هشام بن عبد الملك ثمّ قال لي : هل عندك شي‏ء من شعر عمار ذى كناز ؟ فقلت : نعم ، أنا أحفظ قصيدة له و كنت لكثرة عبثي به قد حفظتها فانشدته قصيدته الّتي يقول فيها : حبذا أنت يا سلامة الفين حبذا إلى آخر القصيدة و أنا اعرضت عن الإتيان بها لشناعتها و قباحتها و اجلّ صحيفتي المكرّمة عن أن تملأ بتلك القصائد المنسية عن ذكر اللّه و هي شرح كتاب علوى عجز الدهر أن يأتى بمثله . و بالجملة قال العمرى بعد ذكر القصيدة : فضحك الوليد حتّى سقط على [ 61 ] قفاه و صفق بيديه و رجليه و أمر بالشراب فاحضر و أمرني بالانشاد فجعلت انشده هذه الأبيات و اكررها عليه و هو يشرب و يصفق حتّى سكر و أمر لي بحلتين و ثلاثين ألف درهم فقبضتها ثمّ قال : ما فعل عمّار ؟ فقلت حي كميت قد غشي بصره و ضعف جسمه لا حراك به فأمر له بعشرة آلاف درهم فقلت له : ألا أخبر أمير المؤمنين بشي‏ء يفعله لا ضرر عليه فيه و هو أحبّ إلى عمّار من الدنيا بحذافيرها لو سيقت اليه ؟ فقال : و ما ذاك ؟ قلت : إنّه لا يزال ينصرف من الحانات و هو سكران فترفعه الشرط فيضرب الحد فقد قطع بالسياط و لا يدع الشراب و لا يكف عنه فتكتب بأن لا يعرض له فكتب إلى عامله بالعراق أن لا يرفع اليه أحد من الحرس عمارا في سكر و لا غيره إلاّ ضرب الرافع له حدّين و أطلق عمّارا . إلى آخر ما قال . و في المجلس التاسع من أمالي الشريف المرتضى : أن وليد بن يزيد بن عبد الملك ابن مروان كان مشهورا بالالحاد متظاهرا بالعناد غير محتشم في اطراح الدين أحدا و لا مراقب فيه بشرا و قد عزم على أن يبنى فوق البيت الحرام قبة يشرب عليها الخمور و يشرف على الطواف و نشر يوما المصحف و كان خطه كانّه إصبع و جعل يرميه بالسهام و هو يقول : تذكرني الحساب و لست أدرى أ حقا ما تقول من الحساب فقل للّه يمنعني طعامي و قل للّه يمنعني شرابي و فتح المصحف يوما فرأي فيه و استفتحوا و خاب كلّ جبار عنيد « إبراهيم : 15 » فاتخذ المصحف غرضا و رماه بالنبل حتّى مزّقه و هو يقول : أتوعد كلّ جبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد فان لاقيت ربّك يوم حشر فقل يا ربّ مزّقني وليد و هذا هو الحجّاج هدم الكعبة و قتل من المؤمنين و المتّقين و أولياء اللّه و عباده ممّا لا يحصى و فعل في إمارته ما فعل من أنواع الظلم بلغت إلى حد التواتر و يضرب بها المثل السائر فلو كان مراده عزّ و جلّ من اولي الأمر مطلق من تولى أمر المسلمين للزم التناقض في حكمه تعالى و ذلك لأنّه تعالى جعل مثلا [ 62 ] الكعبة البيت الحرام قياما للنّاس فلو أمر النّاس باطاعة الحجاج في أفعاله فأمرهم بهدم الكعبة فيجب عليهم هدم الكعبة مع أنّ اللّه حرّم عليهم هتك حرمتها و هل هذا الا التناقض و كذا في أفعال الوليد ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا . و نعلم قطعا انّ اللّه تعالى عادل في حكمه و فعله و قوله و ليس بظلام للعبيد فتعالى عن أن يوجب اطاعة الأمراء الظلمة و هو تعالى يقول و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النّار ثمّ لا تنصرون و من يعص اللَّه و رسوله فان له نار جهنم و لعنة اللّه على الظالمين » و غيرها من الآيات بهذا المضمون . فالعقل الناصع يحكم بأن مراده تعالى من الآية ليس مطلق اولى الأمر و لا تشمل الظالمين منهم قضاء لحق البرهان العقلي ، جلّ جناب الرب أن يوجب على النّاس اتّباع هؤلاء الظلمة و اتباعهم و ما أحلى قول الشاعر : إذا كان الغراب دليل قوم فمأواهم محلّ الهالكينا و ما أجاد قول العنصري بالفارسي : هر كه را رهبرى كلاغ كند بى گمان دل بدخمه داغ كند ثمّ نقول : ان غير المعصوم ظالم و الظالم لا يصلح لان يكون من اولى الأمر فان الظالم واضع للشي‏ء في غير موضعه و غير المعصوم كذلك فلا يؤمن في الشرع من الزيادة و النقصان و التغيير و التبديل فلابدّ من أن يكون أولو الأمر معصومين . ثمّ نقول : العصمة ملكة تمنع عن الفجور مع القدرة عليها و تحصل بالعلم بمثالب المعاصى و مناقب الطاعات و تتأكد بتتابع الوحى بالأوامر و النواهي فعلى اللّه تعالى أن يعرّف اولى الأمر لأنّه خارج عن طوق البشر و وسعهم فان العصمة أمر باطنى لا يعلمها إلاّ اللّه على أنا نقول كما ان الملوك مثلا إذا امروا الناس باطاعة الأمراء و القضاة فمعلوم بالضرورة و مستقر في النفوس ان مرادهم بذلك وجوب اطاعة الأمراء و القضاة الذين نصبهم و عيّنهم على النّاس لا غير و كذا في المقام نقول ان اللّه لا يأمر باطاعة كل من صار أو جعل أمير المسلمين و لو ظلما و زورا بل باطاعة الأمراء الذين عيّنهم اللّه تعالى و نصبهم لذلك . [ 63 ] الامر الثالث أن الزّمان لا يخلو من إمام معصوم منصوب من عند اللّه تبارك و تعالى لأنّه عزّ و جل أوجب اطاعة اولى الأمر و نعلم بالضرورة أن امره تعالى في ذلك ليس مقصورا في زمن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأن حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة و هو خاتم النّبيّين فكما أنّ إطاعة اللّه و رسوله لا يختص بزمانه صلّى اللّه عليه و آله بل هما واجبتان إلى قيام الساعة فكذا إطاعة اولي الأمر المقرونة باطاعتهما و حيث ان الأمر باطاعة المعدوم قبيح ففي كلّ عصر لابد من صاحب أمر حتّى يصلح الأمر باطاعته و هذا لا يصدق إلاّ على الأئمّة من آل محمّد أوجب اللّه طاعتهم بالإطلاق بالبرهان الّذي قدمنا . و في المجمع : بعد ما نقل القولين في معنى اولى الأمر أحدهما الأمراء و الآخر العلماء قال : و أمّا أصحابنا فانّهم رووا عن الباقر و الصّادق عليهما السّلام أن اولى الأمر هم الأئمة من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله أوجب اللّه طاعتهم بالاطلاق كما أوجب طاعته و طاعة رسوله و لا يجوز أن يوجب اللّه طاعة أحد على الاطلاق الا من ثبتت عصمته و علم أن باطنه كظاهره و أمن منه الغلط و الأمر بالقبيح و ليس ذلك بحاصل في الأمراء و لا العلماء سواهم ، جلّ اللّه أن يأمر بطاعة من يعصيه أو بالانقياد للمختلقين في القول و الفعل لأنّه محال أن يطاع المختلفون كما أنّه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه . و ممّا يدلّ على ذلك أيضا انّ اللّه تعالى لم يقرن طاعة اولى الأمر بطاعة رسوله كما قرن طاعة رسوله بطاعته الا و اولو الأمر فوق الخلق جميعا كما أن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله فوق اولى الأمر و فوق سائر الخلق و هذه صفة أئمة الهدى من آل محمّد الذين ثبتت امامتهم و عصمتهم و اتفقت الأمة على علوّ رتبتهم و عدالتهم . ثمّ نقول : لما علم ان الأئمة الهدى من آل محمّد عليهم السّلام قائمون مقام الرّسول و حجج في الشرع فكما في زمن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله ان تنازع النّاس في شي‏ء من امور الدين يجب عليهم الرد إلى اللّه و الرّسول و كذلك بعد وفاته يجب عليهم الرّد إلى المعصومين القائمين مقامه و الذين هم الخلفاء في امته و الحافظون لشريعته بأمره فالرد إليهم مثل الرد إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و اكّد سبحانه ذلك و عظّمه بقوله عز من [ 64 ] قائل إن كنتم تؤمنون باللَّه و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلاً أى الردّ إلى اللّه و الرّسول و القائمين مقام الرسول خير لكم و أحسن من تأويلكم . و ان قلت : كما أن الأمراء المنصوبين من الرسول صلّى اللّه عليه و آله في زمنه كمعاذ بن جبل ارسله واليا إلى اليمن و غيره من الولاة الذين كانت اطاعتهم واجبة على الناس بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكونوا معصومين من الذنوب و الخطأ و السهو و النسيان و غيرها كذلك الحكم في اولي الأمر بعده فما اوجب عصمة اولى الأمر الذين بعده صلّى اللّه عليه و آله ؟ أقول : هذا قياس مع الفارق جدّا و بينهما بون بعيد و امد مديد و ذلك لأن في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لو تنازع الناس في شي‏ء من امور الدّين و اقبل أمر مشتبه للحكام و القضاة و الولاة المنصوبين منه صلّى اللّه عليه و آله في أحكام اللّه لكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يكشف عنه و يزيل الشبهة و يقضى بالفصل و يصدع بالحق كما امرهم اللّه بردّ التنازع إلى اللّه و الرسول في الآية و أمّا بعد وفاته صلّى اللّه عليه و آله لو لم يكن صاحب الأمر القائم مقامه في كل عصر معصوما و منصوبا من اللّه و رسوله لو أقبل تنازع في الدّين فمن يزيل الشبهة و يبيد الغائلة ؟ و كذا الكلام في الأمراء و الحكام من قبل الإمام فانّ الإمام عالم بجميع الأحكام ، فبوجوده يرتفع التشاجر و يقلع التنازع . « رواية جابر بن عبد الله في نزول الآية » عن جابر بن عبد اللّه قال : لما نزل قوله تعالى يا أيّها الذين آمنوا اطيعوا اللّه و اطيعوا الرّسول و اولي الأمر منكم قلت : يا رسول اللّه عرفنا اللّه و رسوله فمن اولى الأمر الذين قرن اللّه طاعتهم بطاعتكم ؟ فقال : هم خلفائي يا جابر و أئمة المسلمين بعدي أوّلهم عليّ بن أبيطالب ثمّ الحسن ثمّ الحسين ثمّ عدّ تسعة من ولد الحسين . الحديث الأول روى ثقة الاسلام محمّد بن يعقوب الكليني رضوان اللّه عليه في باب أنّ الأرض لا تخلو من حجّة من الكافي بإسناده عن جعفر بن محمّد عن كرام قال : قال أبو عبد اللّه عليه السّلام : لو كان النّاس رجلين لكان أحدهما الإمام ، و قال : انّ آخر من يموت الإمام [ 65 ] لئلا يحتج أحد على اللّه تعالى انه تركه بغير حجّة للّه عليه . أقول : أتى أيضا بعدّة روايات اخر عنه عليه السّلام تقرب من الحديث المذكور مفادا كقوله عليه السّلام : لو لم يبق في الأرض إلا اثنان لكان أحدهما الحجّة ، و قوله عليه السّلام : لو لم يكن في الأرض إلا اثنان لكان الإمام أحدهما ، و غيرهما و الغرض منها أن العناية الإلهية كما اقتضت وجود هذا العالم و خلقة بني آدم فهي يقتضى صلاحه و الصّلاح انّما يثم و يدوم بوجود انسان ربّاني مؤيّد بروح القدس و مسدّد بنور اللّه و معصوم من كلّ ما يقدح في الغرض من وجوده ، يقوم بحجج اللّه و يؤديها إلى أهلها عند الاحتياج اليها و يعرّفهم الطريق إلى اللّه و معالم الدّين و به يتصل فيض الباري على الخلق إذ هو الواسطة بين اللّه و عباده و لو لم يبق في الأرض إلاّ رجلان لكان أحدهما ذلك الإمام يجب على الآخر الاقتداء به في استكمال نفسه و الاهتداء إلى جناب ربّه حتّى يتمّ الحجّة عليه و لا يحتج على اللّه انه تركه بغير حجّة للّه عليه انّ اللّه تعالى أجل و أعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل و قال عز من قائل : و لو أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربّنا لو لا ارسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذلّ و نخزى ( طه آية 134 ) و قال تعالى : لئلا يكون للنّاس على اللَّه حجة بعد الرسل ( النساء آية 163 ) فتابى العناية الالهيّة الأزلية عن ان يترك عباده بلا هاد و مرشد فان اللّه ليس بظلام للعبيد . ثمّ قال عليه السّلام : ان آخر من يموت الإمام و ذلك لما علم أن اللّه تعالى عن أن يظلم أحدا فلو بقى في الأرض رجل واحد بلا حجّة إلهيّة لزم الظلم في حقّه فالحكمة الكاملة الالهيّة و رحمته الواسعة تقتضى بقاء وجود الحجّة بعد الخلق حتّى لا يبقى واحد بلا إمام و الإمام آخر من يموت كما اقتضت وجود الحجّة قبل ايجاد الخلق و لذا خلق الخليفة أوّلا ثمّ خلق الخليفة كما قال : إنّي جاعل في الأرض خليفة و لذا قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام في حديث آخر مروي في الكافي أيضا : الحجة قبل الخلق و مع الخلق و بعد الخلق ، فارجع البصر كرّتين أيّها الطّالب للرشاد و الباغى للسّداد في هذا الحديث الّذي كانّه عقل تمثل بالألفاظ و اقم و استقم [ 66 ] الحديث الثاني في الكافي أيضا باسناده عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : سمعته يقول : انّ الأرض لا تخلو إلاّ و فيها امام كى ما إن زاد المؤمنون شيئا ردّهم و ان نقصوا شيئا أتمّه لهم . أقول : و كذا جائت روايات اخر فيه أيضا تقرب منه مضمونا ، منها ما روى عبد اللّه بن سليمان العامري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : ما زالت الأرض إلاّ و للّه فيها الحجّة يعرّف الحلال و الحرام و يدعو النّاس إلى سبيل اللّه ، و منها عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السّلام قال : انّ اللّه لم يدع الأرض بغير عالم و لو لا ذلك لم يعرف الحق من الباطل و الغرض ان الإمام يجب أن يكون عالما بجميع الأحكام الإلهيّة و عارفا بالحلال و الحرام بحيث لا يشذ عنه حكم جزئي منها فانّه لو لم يكن متصفا بهذه الصفة لما يقدر أن يرد شيئا إن زاده المؤمنون أو أتمّه ان نقصوه فيلزم التغيير و التبديل و الزيادة و النقصان في دين اللّه فلا يكمل نظام النوع الانساني به بل يلزم الهرج و المرج المهلكان فالامام مستجمع للغاية القصوى من الصدق و الامانة و بالغا في العلوم الربانيّة و المعارف الالهية و تمهيد المصالح الدينيّة و الدّنيوية مرتبة النهاية على أن العقل حاكم بقبح استكفاء الأمر و توليته من لا يعلمه و تعالى اللّه عن ذلك ، فالامام لكونه حافظا للدين و مقتدا الناس في جميع الاحكام الظاهرية و الباطنيّة و الكلّيّة و الجزئية و الدّنيويّة و الأخرويّة و العباديّة و غيرها يجب أن يكون عالما بجميعها كما هو الحكم الصريح للعقل السليم ، و ليس لأحد أن يقول انّه إمام فيما يعلم دون ما لا يعلم لظهور قبح هذا القول و شناعتها و المفاسد التالية عليه ممّا يدركها من كان له أدنى بصيرة في معنى الإمام و غرض وجوده في الأنام . فاذا علم بحكم العقل أن الإمام يجب أن يكون مقتدا به في جميع الشريعة وجب أن يكون معصوما لأنه لو لم يكن معصوما لم نأمن في بعض أفعاله أن يكون قبيحا و الفرض ان الاقتداء به واجب علينا و اللّه تعالى الحكيم لا يوجب علينا الاقتداء بما هو قبيح ، على أن الإمام إذا كان داعي النّاس إلى سبيل اللّه و المبين الحلال و الحرام و حافظ الدّين عن [ 67 ] الزيادة و النقصان يستلزم العلم باعطاء كلّ ذي حق حقه بحسب استحقاقه و هو كما حققناه قبل يستلزم الاطلاع على الكليات و الجزئيات مما يحتاج اليها النّاس و هي غير متناهية فهي غير معلومة إلاّ للّه تعالى و لخلفائه المعصومين المنصوبين من عنده . الحديث الثالث قال الشريف المرتضى علم الهدى في المجلس الثاني عشر من أماليه : روى أن هشام بن الحكم قدم البصرة فأتى حلقة عمرو بن عبيد فجلس فيها و عمرو لا يعرفه فقال لعمرو : أليس قد جعل اللّه لك عينين ؟ قال : بلى . قال : و لم ؟ قال : لأنظر بهما في ملكوت السماوات و الأرض فاعتبره قال : و جعل لك فما ؟ قال : نعم ، قال : و لم ؟ قال : لأذوق الطعام و اجيب الداعي . ثمّ عدّد عليه الحواس كلّها ، ثمّ قال : و جعل لك قلبا ؟ قال : نعم ، قال : و لم ؟ قال : لتؤدى اليه الحواس ما أدركته فيميّز بينها . قال : فأنت لم يرض لك ربّك تعالى إذ خلق لك خمس حواس حتّى جعل لها إماما ترجع اليه أترضى لهذا الخلق الّذين جشأ بهم العالم ألاّ يجعل لهم إماما يرجعون إليه ؟ فقال له عمرو : ارتفع حتّى ننظر في مسألتك و عرفه ثمّ دار هشام في حلق البصرة فما أمسى حتّى اختلفوا . أقول : و رواه الكليني قدس سرّه مفصلا في الكافي باسناده عن يونس بن يعقوب قال : كان عند أبي عبد اللّه عليه السّلام جماعة من أصحابه منهم حمران بن اعين و محمّد ابن النعمان و هشام بن سالم و الطيار و جماعة فيهم هشام بن الحكم و هو شابّ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام : يا هشام ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد و كيف سألته ؟ قال هشام : يا ابن رسول اللّه إنّي اجلّك و أستحييك و لا يعمل لساني بين يديك . فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام : إذا أمرتكم بشي‏ء فافعلوا قال هشام : بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد و جلوسه في مسجد البصرة فعظم ذلك علىّ فخرجت اليه و دخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فاذا أنا بحلقة عظيمة فيها عمرو بن عبيد و عليه شملة سوداء متزربها من صوف و شملة مرتد بها و النّاس يسألونه فاستفرجت النّاس فأفرجوا لى ثمّ قعدت في آخر القوم على ركبتي ثمّ قلت : أيّها العالم إنّي [ 68 ] رجل غريب تأذن لي في مسألة ؟ فقال لي : نعم ، فقلت له : ألك عين ؟ فقال : يا بنيّ أي شي‏ء هذا من السؤال و شي‏ء تراه كيف تسأل عنه ؟ فقلت : هكذا مسألتي . فقال : يا بنيّ سل و ان كانت مسألتك حمقاء . قلت : أجبني فيها ؟ قال لي : سل . قلت : ألك عين ؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع بها ؟ قال : أرى بها الألوان و الأشخاص قلت : فلك أنف ؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع به ؟ قال : أشم به الرائحة . قلت : ألك فم ؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع به ؟ قال : أذوق به الطعم . قلت : فلك اذن ؟ قال : نعم ، قلت فما تصنع بها ؟ قال : أسمع بها الصوت . قلت : ألك قلب ؟ قال نعم ، قلت : فما تصنع به ؟ قال : اميز به كلّ ما ورد على هذه الجوارح و الحواس . قلت : أو ليس في هذه الجوارح غني عن القلب ؟ فقال : لا ، قلت : و كيف ذلك و هي صحيحة سليمة ؟ قال : يا بنيّ إن الجوارح إذا شكت في شي‏ء شمّتة أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردّته إلى القلب فتستيقن اليقين و تبطل الشكّ ، قال هشام : فقلت له : فانّما أقام اللّه القلب لشكّ الجوارح ؟ قال : نعم ، قلت : لابد من القلب و إلاّ لم تستيقن الجوارح ؟ قال : نعم ، فقلت له : يا أبا مروان فاللّه تعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماما يصحّح لها الصحيح و يتيقن ما شكت فيه و يترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم و شكّهم و اختلافهم لا يقيم لهم إماما يردّون إليه شكّهم و حيرتهم و يقيم لك إماما لجوارحك تردّ اليه حيرتك و شكّك ؟ قال : فسكت و لم يقل لي شيئا ثمّ التفت إليّ فقال : أنت هشام بن الحكم ؟ فقلت : لا ، فقال : أمن جلسائه ؟ قلت : لا ، قال : فمن أين أنت ؟ قال : قلت : من أهل الكوفة . قال : فاذن أنت هو ثمّ ضمني اليه و أقعدني في مجلسه و زال عن مجلسه و ما نطق حتّى قمت . قال : فضحك أبو عبد اللّه عليه السّلام و قال : يا هشام من علّمك هذا ؟ قلت : شي‏ء أخذته منك فقال : هذا و اللّه مكتوب في صحف إبراهيم و موسى . بيان الغرض من احتجاج هشام بن الحكم على عمرو بن عبيد وجوب اللطف على اللّه تعالى فانّه كما اقتضى لطفه خلق القلب إماما لقوى الجوارح و الأعضاء ترجع إليه و ليست في غنى عنه فكذلك اقتضى جعل إمام للنّاس يرجعون [ 69 ] اليه في كلّ ما يحتاجون اليه . و وصف المسألة بالحمقاء تجوّز كقولهم نهاره صائم و التصغير للتحقير . ثمّ إنّ المراد بالقلب في الآيات و الأخبار هو اللطيفة الربّانيّة القدسيّة يعبّر بالقوّة العقليّة و بالعقل و بالروح و بالنفس الناطقة أيضا و في الفارسيّة بروان و قد ذكر الشيخ كما في الفصل الآخر من الباب الخامس من السفر الرّابع من الأسفار في بعض رسائله بلغة الفرس بهذه العبارة : روح بخارى را جان گويند و نفس ناطقه را روان ، لا الجسم اللحمي الصنوبري الّذي في الحيوانات العجم أيضا و إنّما قال عليه السّلام : هذا و اللّه مكتوب في صحف إبراهيم و موسى لأنّ الحكم العقلي لا يتغيّر بمضي الدهور و لا يتبدّل بتبدّل الزمان و لا يختلف باختلاف الامم فهذا الحكم الكلي العقلي الالهي مكتوب في الصحف الأولى صحف إبراهيم و موسى و مستكن في عقول النّاس و الخلق جبّلوا عليه أزلا و أبدا . ثمّ إنّ ما تدركه هذه القوى صور صرفة و تصوّرات محضة لا توصل إلى معرفة الغائبات فلابدّ للتصديق و اليقين و الايصال إلى معرفة الغائبات من أن تكون قوّة اخرى حاكمة عليها و تلك القوّة الحاكمة هو العقل و تلك القوى من شئونه في الحقيقة تنشأ منه بل هي تفاصيل ذاته و شروح هويته و هو أصلها و متنها و لولاه لفسدت القوى و انهدم البدن و كذا لو لا الحجة لساخت الأرض بأهله . و قول هشام : شي‏ء أخذته منك ، كان هشام من أصحاب الصادق و الكاظم عليهما السّلام و اقتبس من مشكاة وجودهما علوما جمة و الف كتبا كثيرة قيمة و كان ثقة في الروايات حسن التحقيق بهذا الأمر و كان ممن فتق الكلام في الإمامة و هذب المذهب بالنظر و كان حاذقا بصناعة الكلام و كان في مبدء أمره من الجهميّة ثمّ لقى الصّادق عليه السّلام فاستبصر بهديه و لحق به . و قد أشار إلى هذا الاحتجاج أبو عبد اللّه عليه السّلام في ذيل احتجاجه على أبي شاكر الديصاني في حدوث العالم و نقله الشيخ المفيد في الارشاد قال : روى أن أبا شاكر الديصاني وقف ذات يوم في مجلس أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له ، إنّك لأحد النجوم [ 70 ] الزواهر و كان آباؤك بدورا بواهر و امهاتك عقيلات عباهر و عنصرك من أكرم العناصر و إذا ذكر العلماء فعليك تثني الخناصر خبرنا أيّها البحر الزاخر ما الدليل علي حدوث العالم إلى أن قال : فقال أبو شاكر : دلّلت يا أبا عبد اللّه فأوضحت و قلت فأحسنت و ذكرت فأوجزت و قد علمت أنا لا نقبل إلاّ ما أدركناه بأبصارنا أو سمعناه بآذاننا أو ذقناه بأفواهنا أو شممناه بأنوفنا أو لمسناه ببشرتنا فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام : ذكرت الحواس الخمس و هي لا تنفع في الاستنباط إلاّ بدليل كما لا تقطع الظلمة بغير مصباح . الحديث الرابع في الكافي بإسناده إلى هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام انّه قال للزنديق الّذي سأله من أين أثبتّ الأنبياء و الرسل ؟ قال : انا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنّا و عن جميع ما خلق و كان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه و لا يلامسوه فيباشرهم و يباشروه و يحاجّهم و يحاجّوه ثبت أن له سفراء في خلقه يعبّرون عنه إلى خلقه و عباده و يدلونهم على مصالحهم و منافعهم و ما به بقاؤهم و في تركه فناؤهم فثبت الآمرون و النّاهون عن الحكيم العليم في خلقه و المعبّرون عنه جلّ و عزّ و هم الأنبياء و صفوته من خلقه حكماء مؤدبين في الحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للنّاس على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب في شي‏ء من أحوالهم ( و أفعالهم خ ل ) مؤيدون عند الحكيم العليم بالحكمة ثمّ ثبت ذلك في كلّ دهر و زمان ممّا أتت به الرسل و الأنبياء من الدلائل و البراهين لكيلا تخلو أرض اللّه من حجّة يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته و جواز عدالته . أقول : الغرض من هذا الحديث العقلي البرهاني المشتمل على مسائل عظيمة و فوائد مهمّة أن الأرض ما دامت باقية لا تخلو من حجّة يهدى النّاس إلى سبيل الرّشاد و السّداد و يستنقذ عباد اللّه من الجهالة و حيرة الضلالة مبتنيا على مقدمات عقلية و ليس الغرض من الاتيان بهذه الأحاديث كما اشرنا إليه آنفا التمسك بها تعبدا حتى يلزم الدور بل لما رأينا من أنها احتجاجات على اساس عقلى برهاني [ 71 ] اردنا ذكره لانجاز المقصود و الايصال إلى المطلوب و بالفرض لو لم تكن أمثال هذا الحديث صادرة عنهم عليهم السّلام لكان استدلالات تامّة و احتجاجات وافية في المقصود و هذه الأحاديث و امثالها معاضدات للعقل في حكمه و ارشادات له في قضائه و نحن بعون اللّه نأتي في بيان الحديث بطائفة من المطالب المختارة الحكمية العقلية ليزداد الطالب بصيرة إلى الفلاح و هداية إلى النجاة و النجاح . قوله عليه السّلام : انا لما اثبتنا ان لنا خالقا صانعا . فيه اشارة إلى معرفة اللّه تعالى بالعقل و النظر و البرهان لا بتقليد الآباء و الأمّهات و العلماء و الأساتيذ و غيرهم . قوله عليه السّلام : متعاليا عنّا و عن جميع ما خلق . فانّ ما سواه تعالى مخلوقه و معلوله ممكن في ذاته و محتاج في وجوده و بقائه إلى جنابه فانّ الممكن في اتصافه بالوجود يحتاج إلى جاعل مرجح يخرجه من العدم و يجعله متصفا بالوجود فان كلّ عرضى معلّل و لما كانت العلة المحوجة إليه تعالى هو الامكان و ان الامكان لا يزول عن الممكن الموجود أيضا فمفتقر إلى علته في بقائه و وجود العلة فوق وجود المعلول في وجوده و جميع صفاته و متعال عن التّجسّم و التعلّق بالمواد و الأجسام و عن كلّ حد و صمة يتطرق في معلولاته . قوله عليه السّلام : و كان ذلك الصانع حكيما متعاليا ، فإنّ إتقان صنعه في مخلوقه على قدر لائق لكل شي‏ء و النظام الأكمل الأتمّ المشهور في الكون المحير للعقول و الأمور الغريبة الحاصلة في خلق السماوات و الأرض و العجائب المودعة في بنية الانسان و الحيوان و النبات تدلّ على كمال حكمة بارئه فانّ الحكمة هو العدل و الحق و الصواب و الحكيم هو العالم الذى يضع الأشياء مواضعها ، أو لم يتفكّروا في أنفسهم ما خلق السموات و الأرض إلاّ بالحق ، الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ، ثمّ ارجع البصر كرّتين ينقلب إليك البصر خاسئا و هو حسير ، و بالعدل قامت السماوات و الأرض . ثم ان الصانع الحكيم لا يترك النّاس سدى و لا يهملهم فلابدّ من أن يكون له سفراء في خلقه . [ 72 ] قوله عليه السّلام : لم يجز أن يشاهده خلقه اه : فان ما تدركه الأبصار و يباشره الانسان بالحواس الجسم و الجسمانيات أو المتجسم و المتجسد و المتمثل من المجرّدات و ما يقرب منها كالأجنّة و هو عز و جل متعال عن ذلك علوا كبيرا . قوله عليه السّلام : ثبت أن له سفراء في خلقه إلى آخره . دليل على وجوب بعثة الأنبياء و هذا الطريق هو الذي أتى به الحكماء في اسفارهم في وجوب إرسال الرسل على اللّه تعالى بل هو امتن و أدق و أكمل منه . و اعلم انه ذهب ارباب الملل و أكثر الفلاسفة إلى حسن بعثة الأنبياء خلافا للبراهمة من الهند و من يحذو حذوهم فانّهم منعوا من حسنها و قالوا إنّ ما يجي‏ء به الرّسول إن خالف العقل فهو مردود و إن وافق ففي العقل غنية عنه فلا وجه لحسنها . و هذا القول باطل لأنّ العقل لا يدرك جميع ما يصلح له و ينفعه و يضره على البسط و التفصيل بل كثيرا منها على الاجمال و الابهام أيضا ، على أن الفوائد الّتي ذكرها المتكلّمون و الحكماء في حسن بعثة الأنبياء تردّ ما ذهب إليه البراهمة قال المحقق الطوسي في تجريد الاعتقاد : البعثة حسنة لاشتمالها على فوائد كمعاضدة العقل فيما يدلّ عليه و استفادة الحكم فيما لا يدلّ و ازاحة الخوف و استفادة الحسن و القبح و المنافع و المضار و حفظ النوع الانسانى و تكميل أشخاصه بحسب استعداداتهم المختلفة و تعليمهم الصنائع الخفيّة و الأخلاق و السّياسات و الاخبار بالعقاب و الثّواب فيحصل اللّطف للمكلف . ثمّ على تقدير حسنها هل هي واجبة هي الحكمة قال العدلية اعني الإماميّة و المعتزلة : نعم ، و منعت الأشاعرة من وجوبها بناء على أصلهم الفاسد . ثمّ تقرير الطريق الذي اتى به الحكماء على الاجمال هو أن نقول كلما كان صلاح النوع مطلوبا للّه تعالى كانت الشريعة واجبة و كلما كانت الشريعة واجبة كانت البعثة واجبة فكلما كان صلاح النوع مطلوبا فالبعثة واجبة و على التفصيل ما ذكره زينون الكبير تلميذ ارسطاطاليس في رسالته في المبدء و المعاد و ما ذكره الشيخ في المقالة العاشرة من إلهيات الشفاء من الفصل الثّاني إلى الخامس و في [ 73 ] الاشارة الاولى من النمط التّاسع من الاشارات و التنبيهات و غيرهم من الحكماء الشامخين في مؤلفاتهم الحكمية و نأتي بما في الاشارات و شرحه للعلامة الطوسي فانهما وافيان في المقصود مع جزالة اللّفظ و رزانة النظم قال الشّيخ : لما لم يكن الانسان بحيث يستقلّ وحده بأمر نفسه إلاّ بمشاركة آخر من بني جنسه و بمعاوضة و معارضة تجريان بينهما يفرغ كلّ واحد منهما لصاحبه عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير و كان ممّا يتعسر ان أمكن ، وجب أن يكون بين النّاس معاملة و عدل يحفظه شرع يفرضه شارع متميز باستحقاق الطاعة لاختصاصه بآيات تدلّ على أنّها من عند ربّه و وجب أن يكون للمحسن و المسي‏ء جزاء من عنده القدير الخبير فوجب معرفة المجازي و الشارع و مع المعرفة سبب حافظ للمعرفة ففرضت عليهم العبادة المذكورة للمعبود و كرّرت عليهم ليستحفظ التذكير بالتكرير حتّى استمرت الدعوة إلى العدل المقيم لحياة النوع ثمّ لمستعمليها بعد النفع العظيم في الدّنيا الأجر الجزيل في الأخرى ثمّ زيد للعارفين من مستعمليها المنفعة الّتي خصّوا بها فيما هم مولّون وجوههم شطره فانظر إلى الحكمة ثمّ إلى الرّحمة و النعمة تلحظ جنابا تبهرك عجائبه ثمّ أقم و استقم . و قال المحقق الطوسي في شرحه : اثبت النبوّة و الشريعة و ما يتعلّق بهما على طريقة الحكماء و ذلك مبني على قواعد و تقريرها أن نقول : الانسان لا يستقل وحده بامور معاشه لأنّه يحتاج إلى غذاء و مسكن و سلاح لنفسه و لمن يعوله من أولاده الصغار و غيرهم و كلّها صناعيّة لا يمكن أن يرتبها صانع واحد إلا في مدّة لا يمكن أن يعيش تلك المدة فاقدا إياها أو يتعسر إن أمكن لكنّها تتيسّر لجماعة يتعاونون و يتشاركون في تحصيلها يفزع كل واحد منهم لصاحبه عن ذلك فيتم بمعارضة و هي أن يعمل كلّ واحد مثل ما يعمله الآخر ، و معاوضة و هي أن يعطى كلّ واحد صاحبه من عمله بازاء ما يأخذه منه من عمله فاذن الانسان بالطبع محتاج في تعيشه إلى الاجتماع مؤد إلى صلاح حاله و هو المراد من قولهم الانسان مدنى بالطبع ، و التمدن في اصطلاحهم هو هذا الاجتماع فهذه قاعدة . ثمّ نقول : و اجتماع النّاس على التعاون لا ينتظم إلا إذا كان بينهم معاملة [ 74 ] و عدل لأنّ كلّ واحد يشتهى ما يحتاج إليه و يغضب على من يزاحمه في ذلك و تدعوه شهوته و غضبه إلى الجور على غيره فيقع من ذلك الهرج و يختل أمر الاجتماع أما إذا كان معاملة و عدل متفق عليهما لم يكن كذلك فاذن لابد منهما و المعاملة و العدل لا يتناولان الجزئيات الغير المحصورة إلا إذا كانت لها قوانين كلّية و هى الشرع فاذن لابدّ من شريعة ، و الشريعة في اللّغة مورد الشاربة و انّما سمى المعنى المذكور بها لاستواء الجماعة في الانتفاع منه و هذه قاعدة ثانية . ثمّ نقول : و الشرع لابدّ له من واضع يقنّن تلك القوانين و يقرّرها على الوجه الذى ينبغى و هو الشّارع ، ثمّ إنّ النّاس لو تنازعوا في وضع الشرع لوقع الهرج المحذور منه فاذن يجب أن يمتاز الشارع منهم باستحقاق الطاعة ليطيعه الباقون في قبول الشريعة . و استحقاق الطاعة إنّما يتقرر بآيات تدلّ على كون تلك الشريعة من عند ربّه ، و تلك الآيات هي معجزاته و هي إمّا قولية و إمّا فعلية و الخواصّ للقوليّة أطوع ، و العوام للفعلية أطوع . و لا يتم الفعلية مجرّدة عن القوليّة لأنّ النبوّة و الاعجاز لا يحصلان من غير دعوة إلى خير فاذن لابدّ من شارع هو نبيّ ذو معجزة و هذه قاعدة ثالثة . ثمّ انّ العوام و ضعفاء العقول يستحقرون اختلال عدل النّافع في امور معاشهم بحسب النّوع عند استيلاء الشوق عليهم إلى ما يحتاجون إليه بحسب الشخص فيقدمون على مخالفة الشرع ، و إذا كان للمطيع و العاصي ثواب و عقاب أخرويان يحملهم الرجاء و الخوف على الطاعة و ترك المعصية ، فالشريعة لا تنتظم بدون ذلك انتظامها به فاذن وجب أن يكون للمحسن و للمسي‏ء جزاء من عند الاله القدير على مجازاتهم ، الخبير بما يبدونه أو يخفونه من أفكارهم و أقوالهم و أفعالهم و وجب أن يكون معرفة المجازي و الشارع واجبة على الممتثلين للشريعة في الشريعة ، و المعرفة العامية قلما تكون يقينيّة فلا تكون ثابتة فوجب أن يكون معها سبب حافظ لها و هو التذكار المقرون بالتكرار و المشتمل عليهما إنما تكون عبادة مذكرة للمعبود مكررة في أوقات متتالية كالصلوات و ما يجرى مجراها فاذن يجب أن [ 75 ] يكون النبي داعيا إلى التصديق بوجود خالق مدبر خبير ، و إلى الايمان بشارع مبعوث من قبله صادق ، و إلى الاعتراف بوعد و وعيد اخرويين ، و إلى القيام بعبادات يذكر فيها الخالق بنعوت جلاله ، و إلى الانقياد لقوانين شرعيّة يحتاج إليها النّاس في معاملاتهم حتّى يستمرّ بذلك الدّعوة إلى العدل المقيم لحياة النّوع و هذه قاعدة رابعة . ثمّ إنّ جميع ذلك مقدر في العناية الأولى لاحتياج الخلق إليه فهو موجود في جميع الأوقات و الأزمنة و هو المطلوب و هو نفع لا يتصور نفع اعمّ منه . و قد اضيف لممتثلي الشرع إلى هذا النفع العظيم الدنياوي الأجر الجزيل الأخروي حسب ما وعدوه و اضيف للعارفين منهم إلى النفع العاجل و الأجر الآجل الكمال الحقيقي المذكور ، فانظر إلى الحكمة و هي تبقية النظام على هذا الوجه ، ثمّ إلى الرّحمة و هو إيفاء الأجر الجزيل بعد النفع العظيم ، و إلى النعمة و هي الابتهاج الحقيقي المضاف إليهما ، تلحظ جناب مفيض هذه الخيرات جنابا تبهرك عجائبه أي تغلبك و تدهشك . ثمّ أقم أي أقم الشرع ، و استقم أي في التوجه إلى ذلك الجناب المقدس . و إذا علم ذلك فلنرجع إلى بيان سائر فقرات الحديث ، قوله عليه السّلام : يعبّرون عنه إلى خلقه و عباده . قال الجوهرى في الصّحاح : عبّرت عن فلان إذا تكلمت عنه ، و المراد أن الأصل الأوّل فيما يسنّه هذا السانّ المعدّل الالهي هو إيقاظ فطرة النّاس من نوم الغفلة عن مبدء العالم عزّ و جلّ و إنارة عقولهم من أنوار المعرفة به تعالى و إثارة نفوسهم إلى الوصول ببابه و الحضور إلى جنابه فان الايمان باللّه أصل شجرة الدّين و أساس بنيان السنة و الشريعة و سائر الأصول و الفروع متفرع عليه فمن عرف اللّه حقّ معرفته عرف ان له صفات عليا و أسماء حسنى لائقة بذاته و انّه تعالى واجب الوجود لا يشارك شيئا من الأشياء في ماهيته و قيوم برى‏ء عن جميع انحاء التعلق بالغير و أنّه تعالى لم يخلق العالم و آدم عبثا فانّ العبث قبيح لا يتعاطاه المبدء الحكيم ، و المبدء الحكيم تعالى عن أن يترك النّاس حياري و لا [ 76 ] يهديهم سبيل الخير و الهدى و ما يوجب لهم عنده الزلفى ، فلابد من وجوب التكليف في الحكمة و إلاّ لكان مغريا بالقبيح تعالى عن ذلك لأنّه خلق في العبد الشهوة و الميل إلى القبائح و النفرة و التأبي عن الحسن فلو لم يقرر عبده عقله و لم يكلّفه بوجوب الواجب و قبح القبيح و يعده و يتوعده لكان مغريا له بالقبيح و الاغراء بالقبيح قبيح و التكليف لا يتم إلاّ بالإعلام و هو لا يتم إلاّ بارسال الرّسل المؤدبين بآدابه المؤيدين من عنده بامور قدسيّة و كرامات الهية و معجزات و خوارق عادات . و بالجملة من هدى عقله إلى جناب الربّ هدى إلى ما يتفرع عليه فقد افلح و سعد و فاز و لذا ترى من سنة الأنبياء أن أوّل ما لقنوا عباد اللّه كلمة لا إله إلاّ اللّه و المروي عن خاتمهم صلّى اللّه عليه و آله قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا . نعم لا يجب على السانّ تلقين جميع النّاس معرفته تعالى على الوجه الذي لا يفهمه إلاّ الأوحدى من النّاس الحكيم المتأله المرتاض في الفنون و العلوم فان معاشر الأنبياء بعثوا ليكلموا النّاس على قدر عقولهم ، و لا ريب أن الادراكات و النيل إلى المعارف و العلوم يتفاوت بحسب مراتب النّاس في صفاء نفوسهم و صقالتها قال الشيخ في إلهيات الشفاء : و يكون الأصل الأوّل فيما يسنه تعريفه إيّاهم أن لهم صانعا واحدا قادرا و أنّه عالم بالسرّ و العلانية و أنّه من حقّه أن يطاع أمره فانّه يجب أن يكون الأمر لمن له الخلق ، و أنه قد أعدّ لمن أطاعه المعاد المسعد و لمن عصاه المعاد المشقي حتّى يتلقى الجمهور رسمه المنزل على لسانه من الاله و الملائكة بالسمع و الطاعة و لا ينبغي له أن يشغلهم بشي‏ء من معرفة اللّه فوق معرفة أنّه واحد حق لا شبيه له . فأمّا ان يعدي بهم إلى أن يكلفهم أن يصدّقوا بوجوده و هو غير مشار إليه في مكان و لا منقسم بالقول و لا خارج العالم و لا داخله و لا شي‏ء من هذا الجنس ، فقد عظم عليهم الشغل و شوش فيما بين أيديهم الدّين و أوقعهم فيما لا تخلص عنه إلاّ لمن كان المعان الموفق الذي يشذ وجوده و يندر كونه ، فانّه لا يمكنهم أن يتصوروا هذه الأحوال على وجهها إلاّ بكدّ و إنّما يمكن القليل منهم أن يتصوروا حقيقة هذا [ 77 ] التوحيد و التنزيه فلا يلبثوا أن يكذبوا بمثل هذا الموجود و يقعوا في تنازع و ينصرفوا إلى المباحثات و المقايسات بمثل الّتي تصدّهم عن أعمالهم المدنية ، و ربما أوقعهم في آراء مخالفة لصلاح المدينة و منافية لواجب الحق و كثرت فيهم الشكوك و الشبه و صعب الأمر على السانّ في ضبطهم فما كل بميسّر له في الحكمة الالهيّة و لا السانّ يصلح له أن يظهر أن عنده حقيقة يكتمها عن العامّة بل يجب أن لا يرخص في تعرض شي‏ء من ذلك . بل يجب أن يعرفهم جلال اللّه تعالى و عظمته برموز و أمثلة من الأشياء الّتي هي عندهم جليلة و عظيمة و يلقى إليهم مع هذا هذا القدر أعني انّه لا نظير له و لا شريك له و لا شبيه . و كذلك يجب أن يقرر عندهم أمر المعاد على وجه يتصورون كيفيته و يسكن إليه نفوسهم و يضرب للسعادة و الشقاوة أمثالا ممّا يفهمونه و يتصورونه . و أمّا الحق في ذلك فلو يلوح لهم منه إلا أمرا مجملا و هو أن ذلك شي‏ء لا عين رأت و لا أذن سمعته و أن هناك من اللذّة ما هو ملك عظيم و من الألم ما هو عذاب مقيم . و كذا قال زينون الكبير تلميذ ارسطاطا ليس في رسالته في المبدأ و المعاد : النبيّ يضع السنن و الشرايع و يأخذ الأمة بالترغيب و الترهيب يعرّفهم أن لهم الها مجازيا لهم على أفعالهم يثيب الخير و يعاقب على الشر و لا يكلّفهم بعلم ما لا يحتملونه فان هذه الرتبة هي رتبة العلم أعلى من أن يصل إليها كلّ أحد . ثمّ قال : قال معلمي ارسطاطاليس حكاية عن معلمه افلاطن : إنّ شاهق المعرفة أشمخ من أن يطير إليه كلّ طائر و سرادق البصيرة أحجب من أن يحوم حوله كلّ سائر . أقول : و كأن الشيخ الرّئيس قد لاحظ عبارة زينون فيما قاله في آخر النمط التاسع من الاشارات : جل جناب الحقّ عن أن يكون شريعة لكل وارد أو يطّلع عليه إلاّ واحدا بعد واحد . قوله عليه السّلام : و يدلونهم على مصالحهم و منافعهم و ما به بقاؤهم و في تركه فناؤهم ذلك لما مرّ آنفا من أن الانسان مدني بالطبع محتاج في تعيشه و بقائه إلى اجتماع فلا بد لهم من سانّ معدّل يدبّر امورهم و يعلّمهم طريق المعيشة في الدّنيا [ 78 ] و النجاة من العذاب في العقبى و لو لا هذا السانّ لوقع الهرج و اختل أمر الاجتماع و لزم مفاسد كثيرة اخرى . ذكر بعضها من قبل و نعم ما قال الشيخ في الشفاء : فالحاجة إلى هذا الانسان في أن يبقى نوع الناس و يتحصّل وجوده أشدّ من الحاجة إلى انبات الشعر على الأشفار على الحاجبين و تقعير الأخمص من القدمين و اشياء اخرى من المنافع الّتي لا ضرورة فيها في البقاء بل أكثر ما لها أنّها ينفع في البقاء ، و وجود الإنسان الصالح لأن يسنّ و يعدل ممكن فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقتضى تلك المنافع و لا تقتضى هذه الّتى هى اسّها ، و لا أن يكون المبدء الأوّل و الملائكة بعده يعلم ذلك و لا يعلم هذا ، و لا أن يكون ما يعلمه في نظام الخير الممكن وجوده الضرورى حصوله لتمهيد نظام الخير لا يوجد بل كيف يجوز أن لا يوجد ، و ما هو متعلق بوجوده مبنى على وجوده موجود فواجب إذن أن يوجد نبىّ . ثمّ انّ في قوله عليه السّلام : يدلونهم على مصالحهم ، إشارة إلى ما ذهب إليه العدلية من أنّ الأحكام الالهيّة متفرعة على مصالح و المفاسد لا كما مال اليه الأشعرى . قوله عليه السّلام : فثبتت الآمرون و الناهون عن الحكيم العليم في خلقه و المعبّرون عنه جلّ و عزّ . هذه نتيجة ما قدّم عليه السّلام من المقدمات البرهانية العقلية المستحكمة المباني : الأولى أن لنا صانعا ، و الثّانية انّه متعال عن أوصاف مخلوقه . فلم يجز أن يشاهده خلقه و يباشروه فلا بد من وسائط ، الثالثة انّه حكيم عالم بوجوه الخير و المنفعة في النّظام و سبيل المصلحة للخلائق في المعيشة و القوم و البقاء و الدوام و الحكيم لا يخلّ بالواجب ، الرابعة ان الانسان مدنى بالطبع فلابدّ له من سانّ معدل . قوله عليه السّلام : هم الأنبياء و صفوته من خلقه إلى قوله : ثمّ ثبت . بيّن عليه السّلام في هذه الفقرات أمرين : الأوّل انّ النّبيّ لابد أن يكون بشرا حيث قال : على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب . الثّاني انه مع البشريّة يجب أن يكون متميزا من سائر النّاس باوصاف قدسية خلقا و خلقا حيث قال : غير مشاركين [ 79 ] للنّاس في شي‏ء من أحوالهم . أمّا الأوّل اعنى كونه من جنس البشر فلوجوه : الأوّل انس النّاس به فان الجنس إلى الجنس يميل و لنعم ما نظم العارف الرومي في المقام : يك زنى آمد به پيش مرتضى گفت شد بر ناودان طفلى مرا گرش ميخوانم نمى‏آيد بدست ور هلم ترسم كه او افتد به پست نيست عاقل تا كه دريابد چو ما گر بگويم كز خطر پيش من آ هم اشارت را نميداند بدست ور بداند نشنود اين هم بد است بس نمودم شير پستان را بدو او همى گرداند از من چشم و رو از براى حق شماييد اى مهان دستگير اين جهان و آن جهان زود درمان كن كه ميلرزد دلم كه بدرد از ميوه دل بگسلم گفت طفلى را برآور هم ببام تا به بيند جنس خود را آن غلام سوى جنس آيد سبك زان ناودان جنس بر جنس است عاشق جاودان زن چنان كرد و چو ديد آن طفل او جنس خود خوش خوش بدو آورد رو سوى بام آمد ز متن ناودان جاذب هر جنس را همجنس دان غژغژان آمد بسوى طفل طفل وارهيد از اوفتادن سوى سفل زان شدستند از بشر پيغمبران تا بجنسيّت رهند از ناودان پس بشر فرمود خود را مثلكم تا بجنس آيند و كم گردند گم زانكه جنسيت بغايت جاذبست جاذبش جنس است هر جا طالبست و الوجه الثاني النّاس في حالتهم العادية لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته الّتي خلق عليها لانه روحاني الذات و القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك بل الجن ما لم يتجسما و يتمثلا بالأجسام الكثيفة و الأمثال المرئية و ان كانا يرانا كما قال تعالى في الشيطان « انه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم » بل ابصارنا لا تقوى على رؤية بعض الأجسام من عالمنا هذا أيضا كالهواء و العناصر البسيطة الّتي يتألف منها الهواء فكيف تقدر على رؤية ما هو ألطف من الهواء كالجنّ [ 80 ] و ما هو ألطف من الجن كالملك و ما هو ألطف منه . ثمّ لو فرض أن يتمثل الملك أو يتجسد أو يتجسّم بحيث عاينه النّاس لكان في صورة البشر أيضا للوجهين المتقدّمين قال عزّ من قائل : و لو جعلنا ملكا لجعلناه رجلا و للبسنا عليهم ما يلبسون . و لذلك كان جبرئيل عليه السّلام يأتي النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله في صورة دحية الكلبي . و الملائكة الذين دخلوا على إبراهيم في صورة الضيفان حتى قدم إليهم عجلا جسدا و كذلك الّذين أتوا لوطا و كذلك لما تسوّر المحراب على داود الملكان كانا في صورة رجلين يختصمان إليه و جبرئيل تمثل لمريم بشرا سويّا نعم يمكن للأنبياء ان يروا بقوتهم القدسيّة الملائكة و اشباههم على صورتهم الأصلية كما جائت عدّة روايات ان خاتمهم صلّى اللّه عليه و آله رأى جبرئيل على صورته الأصليّة مرّتين و سيأتي الكلام في ذلك في خواص الأنبياء . الوجه الثالث النبي لو كان ملكا و إن تجسم بشرا لما يتم الحجة على النّاس و لا يسلمه العقول و لا تنقاده النفوس لانه ان ظهرت أية معجزة منه لقالوا لو كان لنا مثل ما كان لك من القدرة و القوة و العلم و غيرها من الصفات القاهرة على صفات البشر لفعلنا مثل فعلك فتقوى الشبهات من هذه الجهة و بذلك علم ضعف ما تخيّل ضعفاء العقول من النّاس أنّ الأنبياء إذا كانوا من طائفة الملائكة من حيث إن علومهم أكثر و قدرتهم أشدّ و مهابتهم أعظم و امتيازهم عن الخلق أكمل و الشبهات و الشكوك في نبوّتهم و رسالتهم أقل و الحكيم إذا أراد تحصيل مهم فكلّ شي‏ء كان أشدّ إفضاء إلى تحصيل ذلك المطلوب كان أولى . و هذه الوجوه الثلاثة ما أجاب بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مشركى القريش لمّا جادلوه و احتجوا عليه بقولهم : لو كنت نبيّا لكان معك ملك يصدقك و نشاهده و لو اراد اللّه أن يبعث إلينا نبيّا لكان إنّما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا كما هو المروي في الاحتجاج للطبرسي رضوان اللّه عليه و البحار و كثير من كتب الحديث : انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان قاعدا ذات يوم بمكّة بفناء الكعبة إذا اجتمع جماعة من رؤساء قريش منهم الوليد بن المغيرة المخزومي و أبو البختري بن هشام و أبو جهل بن هشام [ 81 ] و العاص بن وائل السهمي و عبد اللّه بن أبي أميّة المخزومي و كان معهم جمع ممّن يليهم كثير و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب اللّه و يؤدي إليهم عن اللّه أمره و نهيه فقال المشركون بعضهم لبعض : لقد استفحل أمر محمّد و عظم خطبه فتعالوا نبدأ بتقريعه و تبكيته و توبيخه و الاحتجاج عليه و ابطال ما جاء به ليهون خطبه على أصحابه و يصغر قدره عندهم فلعلّه ينزع عمّا هو فيه من غيّه و باطله و تمرّده و طغيانه ، فان انتهى و إلاّ عاملنا بالسيف الباتر . قال أبو جهل : فمن الذي يلى كلامه و مجادلته ؟ قال عبد اللّه بن أبي اميّة المخزومي : أنا إلى ذلك ، أفما ترضاني له قرنا حسيبا و مجادلا كفيّا ؟ قال أبو جهل : بلى . فأتوه بأجمعهم فابتدء عبد اللّه بن أبي اميّة المخزومي فقال : يا محمد لقد ادعيت دعوى عظيمة و قلت مقالا هائلا زعمت أنك رسول اللّه ربّ العالمين و ما ينبغي لربّ العالمين و خالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله بشرا مثلنا تأكل ممّا نأكل و تمشى في الأسواق كما نمشى و ساق الحديث إلى أن قال قال المخزومي : و لو كنت نبيّا لكان معك ملك يصدقك و نشاهده بل لو أراد اللّه أن يبعث إلينا نبيّا لكان إنّما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا ما أنت يا محمّد إلاّ مسحورا و لست نبيّا و ساق الحديث إلى أن قال : ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : و أمّا قولك : « و لو كنت نبيّا لكان معك ملك يصدقك و نشاهده بل لو اراد أن يبعث إلينا نبيّا لكان إنّما يبعث لنا ملكا لا بشرا مثلنا » و الملك لا تشاهده حواسكم لأنه من جنس هذا الهواء لا عيان منه و لو شاهدتموه بأن يزاد في قوى أبصاركم لقلتم ليس هذا ملكا بل هذا بشر لانه إنّما كان يظهر لكم بصورة البشر الذي قد ألفتموه لتفهموا عنه مقالته و تعرفوا خطابه و مراده فكيف كنتم تعلمون صدق الملك و انّ ما يقوله حق ؟ بل إنّما بعث اللّه بشرا و أظهر على يده المعجزات الّتي ليست في طبايع البشر الذين قد علمتم ضمائر قلوبهم فتعلمون بعجزكم عما جاء به أنّه معجزة و أن ذلك شهادة من اللّه بالصدق له و لو ظهر لكم ملك و ظهر على يده ما تعجز عنه البشر لم يكن في ذلك ما يدلكم ان ذلك لكم [ 82 ] ليس في طبايع سائر أجناسه من الملائكة حتّى يصير ذلك معجزا ألا ترون أنّ الطيور الّتي تطير ليس ذلك منها بمعجز لأنّ لها أجناسا تقع منها مثل طيرانها و لو أنّ آدميّا طار كطيرانها كان ذلك معجزا فاللّه عزّ و جلّ سهّل عليكم الأمر و جعله بحيث يقوم عليكم حجّته و أنتم تقترحون عمل الصّعب الّذي لا حجّة فيه . ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : و أمّا قولك : « ما أنت إلاّ رجل مسحور » فكيف أكون كذلك و قد تعلمون انّه في صحة التميز و العقل فوقكم فهل جرّبتم علىّ منذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة خزية أو ذلّة أو كذبة أو خيانة أو خطأ من القول أو سفها من الرأى أ تظنّون أن رجلا يعتصم طول هذه المدّة بحول نفسه و قوّتها أو بحول اللّه و قوّته إلى آخر الحديث بطوله . أما الأمر الثّاني اعني أنّ النّبيّ مع البشريّة يجب أن يكون متميزا عن سائر النّاس باوصاف قدسيّة ، فاشار عليه السّلام إليها بقوله : انّ الأنبياء صفوته من خلقه أوّلا ، و انّهم حكماء مؤدّبين في الحكمة ثانيا ، و مبعوثين بها ثالثا ، و غير مشاركين للنّاس على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب في شي‏ء من أحوالهم رابعا ، مؤيدون عند الحكيم العليم بالحكمة خامسا . و هذه امور لابدّ للنّاظر من البحث عنها و النيل إلى حقيقة مغزاها . و اعلم أنّ الأنبياء لكونهم سفراء له تعالى إلى خلقه و امناءه على وحيه و خلفاءه لابدّ من أن يكونوا متصفين بالأوصاف القدسيّة الالهيّة و متخلّقين بالأخلاق الرّبوبيّة فانّ الخليفة لابدّ و أن يكون موصوفا بصفات المستخلف حتّى يتحقق له اسم الخلافة و العناية الأزليّة تأبى بعث من لم يكن كذلك لبعده عن الاتصاف بصفات الحق و الاتصال بحضرة القدس . و قد قال الحكماء و منهم الشّيخ في الشّفاء انّ النّفس الناطقة كمالها الخاصّ بها أن يصير عالما عقليا مرتسما فيها صور الكلّ و النّظام المعقول في الكلّ و الخير الفائض في الكل و أفضل النّاس من استكملت نفسه عقلا بالفعل محصلا و للأخلاق الّتي تكون فضائل عمليّة و أفضل هؤلاء هو [ 83 ] المستعدّ لمرتبة النبوّة و هو الّذي في قواه النّفسانيّة خصائل ثلاث : أن يعلم جميع المعلومات أو أكثرها من عند اللّه ، و أن يطيعه مادة الكائنات باذن اللّه ، و أن يسمع كلام اللّه و يرى ملائكة اللّه . أمّا العلم بجميع المعلومات و الاطلاع على الأمور الغايبة من غير كسب و فكر فيحصل من صفاء جوهر النّفس و شدّة صقالتها و نورانيّتها الموصل لها إلى المبادي العالية و شدة الاتّصال بها . و أمّا اطاعة مادّة الكائنات فبسبب شدّة انسلاخهم عن النواسيت الانسانيّة تدوم عليهم الاشراقات العلويّة بسبب الاستضاءة بضوء القدس و الإلف بسنا المجد فتطيعهم المادة العنصريّة القابلة للصور المفارقة فيتأثر المواد عن أنفسهم كما يتأثّر أبدانهم عنها ، فلهذا يكون دعاؤهم مسموعا في العالم الأعلى و القضاء السابق و يتمكن في أنفسهم نور خلاّق به يقدرون على بعض الأشياء الّتي يعجز عنها غيرهم . قال اللّه تعالى في عيسى بن مريم عليهما السّلام و رسولاً إلى بني إسرائيل أنّي قد جئتكم بآية من ربّكم أنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللَّه و اُبرى‏ء الأكمه و الأبرص و أُحيى الموتى باذن اللَّه و أُنبئكم بما تأكلون و ما تدّخرون في بيوتكم إنّ في ذلك لآية لكم ان كنتم مؤمنين ( آل عمران . الآية 44 ) . و أما الخصلة الثالثة فلأنّ الأنبياء لهم نفوس مقدّسة قلّت شواغلها عن الحواس الظاهرة فتخلّصت بذلك عن المادّة الجسمانيّة فلم يكن بينها و بين الأنوار حجب و لا شواغل لأنّها من لوازم المادّة فإذا تخلّصت النّفس عن تعلّقاتها كانت مشاهدة للأنوار و المفارقات البرئية عن الشوائب الماديّة و اللّواحق الغريبة و لذا يكونون مشاهدين للملائكة على صورهم بقوتهم القدسية ، سامعين لكلامهم ، قابلين لكلام اللّه تعالى بطريق الوحى و معلوم أنّ المادّة الّتي تقبل هذه الخصائل و الكمالات تقع في قليل من الأمزجة و لذا قال عليه السّلام : إنّ الأنبياء و صفوته من خلقه ، فمزاجهم اعدل الأمزجة الانسانية و نفسهم الفائضة من الأوّل تعالى ألطف و أشدّ و أقوى و أوسع وجودا من غيرها ، فهم غير مشاركين للنّاس على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب [ 84 ] في شي‏ء من أحوالهم ، و قوله عليه السّلام : في شي‏ء من أحوالهم تتعلّق بقوله غير مشاركين للنّاس . و اعلم أنّ اللّه جعل المزاج الانساني أعدل الأمزجة لتستوكره نفسه الناطقة الّتي هي أشرف النّفوس و لابدّ أن يكون وكرها لائقا لها و قال المعلّم الثّاني أبو نصر الفارابي في المختصر الموسوم بعيون المسائل كما نقله عنه المحقّق الطوسي في آخر النّمط الثّاني من شرحه على الاشارات : حكمة الباري تعالى في الغاية لأنّه خلق الأصول ( يعني بها العناصر ) و أظهر منها الأمزجة المختلفة و خص كل مزاج بنوع من الأنواع و جعل كلّ مزاج كان أبعد عن الاعتدال سبب كلّ نوع كان أبعد عن الكمال و جعل النّوع الأقرب من الاعتدال مزاج البشر حتّى يصلح لقبول النّفس النّاطقة انتهى . و كما أنّ النفس الناطقة مميّزة عن سائر النفوس بآثار و أفعال تخصّ بها و لابد أن يكون مزاجها المتعلق بها اعدل من غيره كذلك الأنبياء الّذين غير مشاركين للنّاس على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب في شي‏ء من أحوالهم و أفعالهم لابدّ من أن يكون مزاجهم أعدل الأمزجة الانسانيّة اللائق بنفوسهم القدسية . و لمّا كان الأنبياء عليهم السّلام بعضهم أفضل من بعض كما قال تعالى : تلك الرّسل فضّلنا بعضهم على بعض منهم من كلم اللَّه و رفع بعضهم درجات الآية ( البقرة : 255 ) فلابدّ من أن يكونوا متفاوتين في اعتدال المزاج و صفاء النّفس النّاطقة القدسية و سعتها الوجوديّة و كذا الكلام في خاتمهم الّذي هو أكمل موجود في النّوع الانساني و اوتى جوامع الكلم الّتي هي امّهات الحقائق الالهيّة و الكونيّة ، و لذا كان الرّوح المحمّدي صلّى اللّه عليه و آله أوّل دليل على ربّه لأنّ الربّ لا يظهر إلاّ بمربوبه و مظهره و كمالات الذات بأجمعها انّما تظهر بوجوده الأكمل . و المروي عنه صلّى اللّه عليه و آله : و اللّه لو كان موسى حيّا بين أظهركم ما حلّ له إلاّ أن يتبعني . قوله عليه السّلام : حكماء مؤدّبين في الحكمة . أي أدّبهم اللّه تعالى في الحكمة يقال : أدّبه إذا هذّبه و راض أخلاقه و أدّ به في أمر إذا علّمه و راضه حتّى تأدّب فيه و في الجامع الصّغير في أحاديث البشير النذير نقلا عن ابن عدي في الكامل عن [ 85 ] ابن مسعود انّه صلّى اللّه عليه و آله قال : أدّبني ربّي فأحسن تأديبي . و من حيث انّهم عليهم السّلام حكماء مؤدّبين في الحكمة و الحكمة هو العدل و الوسط في كلّ أمر فهم على الجادة الوسطى الّتي ليست النّجاة إلاّ بالاستقامة فيها فمن اقتدى بهم و اقتفى آثارهم فقد هدى إلى الصّراط المستقيم فانّ الحجج الالهيّة في الحقيقة موازين للنّاس و نبيّ كلّ امّة هو ميزان تلك الأمة لأن ميزان كلّ شي‏ء بحسبه هو المعيار الّذي يعرف به قدره و حدّه و صحته و سقمه و زيادته و نقصانه و استواؤه فقد يكون ذلك الشي‏ء من الأجسام فميزانه ما وضع من جنسه من الأحجار و غيرها كالمدّ و المنّ و المكاييل و الزرع و غيرها لتعيين وزن ذلك الشي‏ء و تقديره و قد يكون ذلك الشي‏ء من الكلمات فيوزن صحتها و اعتلالها بميزانه الذي هو الفاء و العين و اللام كما بيّن في علم الصرف . و علم المنطق يكون ميزانا لتمييز النتيجة الصحيحة من السقيمة ، و علم العروض ميزانا للأشعار ، و ميزان النّاس ما يوزن به قدر كل امرء و قيمته على حسب أعماله و أخلاقه و عقائده و صفاته و حيث انّ الأنبياء بعثوا على الحق و لا يميلون عن العدل مقدار قطمير و لا يصدر منهم سهو و لا نسيان فهم معيار الحق و ميزان الصّدق و فيصل الأمور فمن تأسّي بهم و حذا حذوهم فقد فاز فوزا عظيما و إلاّ فقد خسر خسرانا مبينا . و بما ذكرنا علم ما في الكافي عن الامام الصّادق عليه السّلام من انّه سئل عن قول اللّه و نضع الموازين القسط ليوم القيمة ( الأنبياء : 48 ) ؟ قال : هم الأنبياء و الأوصياء و كذا في رواية اخرى عنه عليه السّلام : نحن الموازين القسط . قوله عليه السّلام : مؤيدون عند الحكيم العليم بالحكمة ، أى كما انّهم مؤدّبون في الحكمة كذلك مؤيّدون بالحكمة من عنده تعالى تدلّ على صدق مقالته و جواز عدالته ليميز الخبيث من الطيب و الحق من الباطل فلو لم يكونوا مؤيّدين بها من عنده تعالى بالحكمة أعني بالبينات و المعجزات القولية و الفعلية لما يفصل بين النبيّ و المتنبّي ، قال عزّ من قائل لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم النّاس بالقسط ( الحديد : 26 ) . [ 86 ] قوله عليه السّلام : ثمّ ثبت ذلك إلى آخره لما هدينا العقل بتلك المقدمات إلى هذا المطلب الاسنى فدل على أن الأرض لا تخلو في كلّ دهر و زمان من لدن خلق البشر إلى قيام القيامة من حجّة الهيّة و دريت أن الخليفة في الأوّل قبل الخليفة و في الآخر بعدها لئلا يحتجّ أحد على اللّه تعالى انّه تركه بغير حجّة للّه عليه . الحديث الخامس في الكافي بإسناده إلى منصور بن حازم قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام : إن اللّه أجلّ و أكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون باللّه قال : صدقت قلت : إنّ من عرف أن له ربّا فقد ينبغي له أن يعرف أن لذلك الربّ رضا و سخطا و أنّه لا يعرف رضاه و سخطه إلاّ بوحي أو رسول فمن لم يأته الوحي فينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجّة و أنّ لهم الطاعة المفترضة فقلت للنّاس : أليس تعلمون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان هو الحجة من اللّه على خلقه ؟ قالوا : بلى ، قلت : فحين مضى عليه السّلام من كان الحجة ؟ قالوا : القرآن فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجى و القدرى و الزنديق الّذى لا يؤمن به حتّى يغلب الرّجال بخصومته فعرفت أن القرآن لا يكون حجّة إلا بقيم فما قال فيه من شي‏ء كان حقّا فقلت لهم : من قيّم القرآن ؟ فقالوا : ابن مسعود قد كان يعلم و عمر يعلم و حذيفة يعلم ، قلت : كلّه ؟ قالوا : لا ، فلم أجد أحدا يقال : انّه يعرف القرآن كلّه إلاّ عليّا عليه السّلام و إذا كان الشي‏ء بين القوم فقال هذا : لا أدرى و قال هذا : لا أدرى و قال هذا : لا أدري و قال هذا : أنا أدرى فأشهد أن عليّا كان قيّم القرآن و كانت طاعته مفروضة و كان الحجّة على النّاس بعد رسول اللّه و أن ما قال في القرآن فهو حق فقال : رحمك اللّه إلى آخر الحديث . بيان هذا الحديث مشتمل على مطالب عقليّة مهّدت للزوم الحجّة على النّاس ما دامت الأرض باقية يأمرهم بالخير و الصلاح و يهديهم إلى سبيل الرشاد و لابد أن يكون معه علم باللّه و آياته . و تلك المطالب رتبت على اسلوب بديع و أساس متين الأوّل أنّ اللّه أجل و أكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون باللّه و ما أحسن هذا القول و أحلاه و يعلم منه أن منصور بن حازم كان حازما حاذقا في اصول العقائد [ 87 ] و غرضه من ذلك إما أن معرفة اللّه تعالى فطرى غريزي فطرة اللّه الّتي فطر الناس عليها و العقل وحده كاف في معرفته عزّ و جل و هو القائد إلى جنابه و اصول صفاته فلا يحتاج الإنسان في معرفته تعالى إلى خلقه بما اعطاه من العقل يسلكه إلى الصراط المستقيم قال عزّ من قائل و نفس و ما سوّيها . فألهمها فجورها و تقويها فهو تعالى أجل و أكرم من أن يعرف بخلقه بل يعرف بالعقل الّذي اعطاه خلقه . و إمّا أنّ اللّه جل جلاله هو الغني القائم بالذات واجب الوجود في ذاته و صفاته و ما سواه ممكن مفتقر إليه و مستند به تعالى ظاهر بظهوره و موجود بوجوده يا أيّها النّاس أنتم الفقراء إلى اللَّه و اللَّه هو الغني الحميد و هو تعالى لارتفاع مكانه و جلال كبريائه و شدّة وجوده و بساطته أجل من أن يعرف بخلقه على انّه تعالى لا حدّ عليه و لا ضدّ و لا ندّ حتّى يعرف بها بل هو سبب كلّ شي‏ء و علته فهو الأوّل عند اولى الأبصار ، فإن أوّل ما يعرف من عرفان كلّ شي‏ء هو اللّه تعالى قال سيد الموحدين عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام : ما عرفت شيئا إلاّ و قد عرفت اللّه قبله و قال عليه السّلام : اعرفوا اللّه باللّه . و من كلام مولانا سيّد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام في دعاء عرفة : كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك . و قال أيضا : تعرفت لكلّ شي‏ء فما جهلك شي‏ء و قال : تعرفت إلىّ في كلّ شي‏ء فرأيتك ظاهرا في كلّ شي‏ء فأنت الظاهر لكلّ شي‏ء . فهو تعالى أجل و أكرم من أن يعرف ذاته و من جهة خلقه بل لا يعرف غيره على الحقيقة إلاّ به . و إما أنّه تعالى أجل و أكرم من أن يدرك عامة النّاس لطائف صنعه و دقائق حكمته و مصلحته في فعله و قوله بل الخلق يعرفونها باللّه تعالى اى بارساله الرسل و انزاله الكتب و الظاهر أن خير الوجوه أوسطها . و المطلب الثاني أن من عرف ان له ربّا عرف ان لذلك الربّ صفات قدوسية متعالية لائقة بجنابه فلمّا عرف ذلك بنور العقل السليم و العقل السّليم يشتاق التقرب إلى جنابه و يطلب ما يوصله ببابه لأنّ الانسان جبّل [ 88 ] على النيل إلى السعادة و الميل عن الشقاوة سيّما السعادة الدائمة الأبديّة الّتي لا تحصل إلاّ بالتخلّق بأخلاق اللّه و الاتّصاف بصفاته العليا و ليس كل طريق و فعل و قول بمقرب النّاس إليه تعالى بالضرورة فيحتاج إلى هاد يهديه سبل الخير و ما فيه رضوانه تعالى و ما فيه سخطه و لا يتأتي ذلك إلاّ بالوحى و لا يوحى إلى كل واحد من آحاد النّاس لعدم قابلية كلّ واحد لذلك فانّ للنبوّة صفات خاصّة لا يتحملها إلاّ الأوحدى من النّاس المؤيد من عند اللّه تبارك و تعالى كما حقق في محلّه فالعقل السليم يطلب من اللّه تعالى ارسال الرسل فلو لا البعثة لكان اللّه تعالى ظالما لعباده فاذا اوحى اللّه تعالى ما فيه خير البرية و سعادته و ما يوجب رضوانه تعالى و سخطه إلى رسول بالبراهين و المعجزات و البيّنات فيأخذ النّاس معالم دينه و معارف شريعته من الرّسول قال عزّ من قائل هو الّذي بعث في الأميّين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته و يزكّيهم و يعلّمهم الكتاب و الحكمة و قال تعالى ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالّتي هي أحسن . المطلب الثّالث انّ الحجّة على النّاس بعد خاتم النبيّين من هو ؟ و هذا المطلب في المقام هو الأهمّ لأنّ المسلمين اتفقوا في وجود من يكون حافظا للشرع من الزيادة و النقصان و للأمة من الظلم و الطغيان كما علم على ما بيّناه في المباحث السالفة و انّما الكلام في ذلك الحجّة بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو إما الكتاب أو السنّة المتواترة أو الخبر الواحد أو الاجماع أو القياس أو البرائة الأصليّة أو الاستصحاب أو العالم القائم مقام النّبيّ و الأخير أيضا على وجهين : إما العالم مطلقا أو العالم المعصوم من الذنوب ، المنزه من العيوب ، المنصوب من عند علام الغيوب ، المؤيد بتأييدات سماوية ، المهدي بهداية الهيّة و هذه وجوه محتملة في المقام لابدّ للبصير الناقد أن ينظر فيها و يبحث عنها . فنقول : أمّا الكتاب فهو كما قال منصور بن حازم يخاصم به المرجى و القدرى و الزنديق الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرجال بخصومته فالقرآن لا يكون حجّة إلاّ بقيّم . [ 89 ] و نزيدك بيانا في المقام حتّى يتبيّن الحق فنقول : لا ريب انّ للّه تعالى في كل واقعة و في كلّ ما يحتاج إليه النّاس في معاشهم و معادهم حكما و هي امور غير متناهية و كذا لا ريب أنّ اللّه تعالى نزل القرآن تبيانا لكلّ شي‏ء كما نص به عزّ من قائل في سورة النحل آية 92 و نزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شي‏ء و هدى و رحمة و بشرى للمسلمين . و في الأنعام آية 39 : ما فرّطنا في الكتاب من شي‏ء . و في ذلك روى ثقة الاسلام الكلينيّ قدّس سرّه في اصول الكافي بإسناده عن مرازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال إنّ اللّه تعالى انزل في القرآن تبيان كلّ شي‏ء حتّى و اللّه ما نزل اللّه شيئا يحتاج إليه العباد حتّى لا يستطيع عبد يقول لو كان هذا انزل في القرآن إلاّ و قد أنزله اللّه فيه . و فيه أيضا بإسناده إلى عمرو بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام قال : سمعته يقول انّ اللّه تعالى لم يدع شيئا يحتاج إليه الامّة إلاّ أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و جعل لكلّ شي‏ء حدّا و جعل عليه دليلا يدلّ عليه و جعل على من تعدّي ذلك الحدّ حدّا . و كذا غيرهما من الأخبار الاخر في ذلك الباب . و كذا لا ريب انّ القرآن لم يبيّن تلك الفروع و الأحكام الجزئية و كلّ ما يحتاج إليه النّاس في امورهم الدينيّة و الدّنيوية على التفصيل و البسط و هذا لا ينافي قوله عزّ و جلّ في الآيتين المذكورتين لأنّ الكتاب مشتمل على اصول كلّية يستنبط منها الأحكام الجزئيّة و القوانين الالهيّة من كان عارفا بها حقّ المعرفة فلنقدّم لك مثالا في ذلك توضيحا للمراد . قال المفيد في إرشاده : و روى عن يونس عن الحسن أن عمر أتى بامرأة قد ولدت لستّة أشهر فهمّ برجمها فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام : إن خاصمتك بكتاب اللّه خصمتك إنّ اللّه تعالى يقول : و حمله و فصاله ثلثون شهرا و يقول جلّ قائلا : و الوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة فإذا تممت المرأة الرّضاعة سنتين و كان حمله و فصاله ثلاثين شهرا كان الحمل منها ستّة أشهر فخلى عمر سبيل المرأة و ثبت الحكم بذلك فعمل الصحابة و التابعون و من أخذ عنه إلى يومنا هذا انتهى . [ 90 ] و كذا غيره من الوقائع الّتى قضى فيها أمير المؤمنين على عليه السّلام بكتاب اللّه مما يحير العقول فهذا الحكم كان ثابتا في الكتاب المجيد و لكن لا تبلغه عقول الرّجال إلاّ الكمّل منهم الّذين هداهم اللّه إليه و علّمهم معالم دينه و جائت الرّواية في ذلك في الكافي بإسناده عن المعلّى بن خنيس قال : قال أبو عبد اللّه عليه السّلام ما من أمر يختلف فيه إثنان إلاّ و له أصل في كتاب اللّه و لكن لا تبلغه عقول الرّجال . و نظير ما نقله المفيد جاء في الكافي للكليني باسناده عن عليّ بن يقطين قال : سأل المهدى أبا الحسن عليه السّلام عن الخمر هل هي محرمة في كتاب اللّه تعالى فانّ النّاس إنّما يعرفون النهى عنها و لا يعرفون التحريم لها . فقال له أبو الحسن عليه السّلام : بل هي محرمة في كتاب اللّه تعالى يا أمير المؤمنين فقال له : في أيّ موضع هي محرّمة في كتاب اللّه يا أبا الحسن ؟ . فقال : قول اللّه تعالى قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الاثم و البغى بغير الحق فأما قوله : ما ظهر منها ، يعني زنا المعلن و نصب الرايات الّتي كانت ترفعها الفواجر للفواحش في الجاهلية . و أما قوله تعالى : و ما بطن ، يعني ما نكح من الآباء لأنّ النّاس كانوا قبل أن يبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا كان للرجل زوجة و مات عنها يزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن امه فحرّم اللّه تعالى ذلك . و أما الإثم ، فانها الخمر بعينها و قد قال اللّه تعالى في موضع آخر يسئلونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للنّاس فأمّا الإثم في كتاب اللّه فهي الخمر و الميسر و اثمهما أكبر كما قال اللّه تعالى . فقال المهدي : يا على بن يقطين فهذه فتوى هاشمية . قال : قلت له : صدقت و اللّه يا أمير المؤمنين الحمد للّه الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت قال : فو اللّه ما صبر المهدى أن قال لى : صدقت يا رافضى . تنبيه و اعلم أن نظائرهما المروية عن أئمتنا عليهم السّلام المستنبطة من ضم الآيات القرآنية بعضها من بعض غير عزيز و استبصر من هذا أنما يعرف القرآن من خوطب به و أن القرآن يفسّر بعضه بعضا . قال عزّ من قائل : إنّا انزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي‏ء . و معلوم أن من الأشياء القرآن نفسه فهو تبيان لنفسه أيضا و لكن لا [ 91 ] تبلغه عقول الرّجال كما دريت . و انّ للاستنباط من الكتاب رجالا عينهم اللّه لنا في كتابه : و لو ردّوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الّذين يستنبطونه منهم ( النساء : 86 ) . على أنا نقول : إن في الكتاب محكما و متشابها و ناسخا و منسوخا و عامّا و خاصّا و مبينا و مجملا تمييزها و استنباط الفروع الجزئية و الأحكام الالهيّة منها صعب مستصعب جدّا بل خارج عن طوق البشر الاّ من اختاره اللّه و علّمه فقه القرآن و ملأ قلبه علما و فهما و حكما و نورا و من المجمل في الكتاب قوله تعالى السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما فانّ اليد يطلق على العضو المعروف إلى الاشاجع و إلى الزند و إلى المرفق و إلى المنكب فيقال ادخلت يدي في الماء إلى الأشاجع و إلى الزند و إلى المرفق و إلى المنكب و اعطيت بيدي و إنّما اعطاه بأنامله و كتبت بيدي و إنّما كتبه بأصابعه و الاستعمال ظاهر في الحقيقة فيحصل الاشتراك و يأتي الاجمال في حدّ القطع كما انها مجملة في انّ المراد قطع يدي السارق كلتيهما أو إحداهما و على الثاني اليد اليمنى أو اليسرى و كذا في المقدار المسروق الّذي تقطع فيه أيديهما و في من تكررت منه السرقة بعد القطع أو قبل القطع و غيرها من أحكام السرقة المدّونة في كتب الحديث و الفقه و كذا غيره من الاحكام و الفرائض مثل فرض الصّلاة و الزّكاة و الصوم و الحجّ و الجهاد و حدّ الزّنا و نظائرها ممّا نزل في الكتاب مجملا فلابدّ لها من مفسّر و مبيّن . ثمّ انّه لو كان كتاب اللّه وحده بلا قيّم و مفسّر و مبيّن كافيا لما أمر اللّه تعالى باطاعة الرّسول في عدّة مواضع من كتابه الكريم كما حرّرناه من قبيل و دريت ان القائل حسبنا كتاب اللّه خبط خبط عشواء . « الكلام في ان السنة وحدها لا تكون حجة إلاّ بقيم » و أمّا السنة فالكلام فيها الكلام في الكتاب فان كلام حجج اللّه تعالى دون كلام خالق و فوق كلام مخلوق و لكثير من الرّوايات ان لم نقل لجميعها وجوه محتملة و قد يعارض بعضها بعضا و لبعضها بطون علمية كالآيات القرآنيّة فقد روى [ 92 ] الصدّوق في المجلس الأوّل من اماليه باسناده عن عمرو بن اليسع عن شعيب الحدّاد قال : سمعت الصّادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام يقول : انّ حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ ملك مقرب أو نبيّ مرسل أو عبد امتحن اللّه قلبه للايمان أو مدينة حصينة قال عمرو : فقلت لشعيب : يا أبا الحسن و أي شي‏ء المدينة الحصينة ؟ قال : فقال : سألت الصّادق عليه السّلام عنها فقال لى : القلب المجتمع . على أن الروايات ليست بوافية في جميع الأحكام على سبيل التنصيص في الجزئيات بل كلّيات أيضا يستنبط منها تلك الفروع الجزئية مع أن الروايات أكثرها منقولة بالمعنى و لم يثبت بقاؤها على هيئتها الّتي صدرت عن المعصوم عليه السّلام اعني أنها لم تتواتر لفظا و إن تواتر مدلول كثير منها حتّى ذهب الشهيد الثّاني في الدارية إلى أن رواية واحدة يمكن ادعاء تواتره لفظا حيث قال : و التواتر يتحقق في اصول الشّرايع كثيرا و قليل في الأحاديث الخاصّة و إن تواتر مدلولها حتّى قال أبو الصّلاح من سئل عن ابراز مثال لذلك اعياه طلبه ، نعم حديث من كذب علىّ متعمّدا فليتبوّء مقعده من النّار يمكن ادعاء تواتره فقد نقل نقله عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله من الصحابة الجم الغفير . انتهى . قال المجلسي ( ره ) في مرآة العقول : من المعلوم أن الصّحابة و أصحاب الأئمّة عليهم السّلام لم يكونوا يكتبون الأحاديث عند سماعها و يبعد بل يستحيل عادة حفظهم جميع الألفاظ على ما هي عليه و قد سمعوها مرّة واحدة خصوصا في الأحاديث الطويلة مع تطاول الأزمنة و لهذا كثيرا ما يروى عنهم المعنى الواحد بألفاظ مختلفة انتهى ما اردنا من نقل كلامه . أمّا القرآن الكريم فانّه المنزّل من اللّه تعالى المحفوظ على هيئته الّتي نزلت بلا تغيير و تبديل في ألفاظه بلا خلاف بل اتفق الكلّ من المسلمين و غيرهم على أن القرآن بين الكتب المنزلة هو الكتاب الّذي لم يتطرق إليه تحريف أو تصحيف أو زيادة أو نقصان مطلقا . فاذا كان الأحاديث على ذلك المنوال فيأتي البحث في الأخبار على اطوار كثيرة مضبوطة في كتب الدّراية و الرّجال و غيرهما مثلا ينظر في الرّاوى هل كان أهلا للنقل أم لا كما روى الكلينيّ في الصحيح عن محمّد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام [ 93 ] أسمع الحديث منك فأزيد و أنقص . قال : إن كنت تريد معناه ( معانيه خ ل ) فلا بأس . و بالجملة الكلام في القرآن و الحديث هو ما ذكره مولى الموحدين أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام نقله الرّضي في النّهج كما مضى في الخطبة الثمانية و المأتين و كذا نقله الكلينيّ في الكافي و في الوافي ( ص 62 م 1 ) . روي الكلينيّ بإسناده عن أبان بن عيّاش عن سليم بن قيس الهلالي قال : قلت لأمير المؤمنين عليه السّلام : انّي سمعت من سلمان و المقداد و أبي ذر شيئا من تفسير القرآن و أحاديث عن نبي اللّه غير ما في أيدي النّاس ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم و رأيت في أيدي النّاس أشياء كثيرة من تفسير القرآن و من الأحاديث عن نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنتم تخالفونهم فيها و تزعمون ان ذلك كلّه باطل أفترى النّاس يكذبون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله متعمّدين و يفسّرون القرآن بآرائهم قال : فأقبل عليه السّلام عليّ فقال : قد سألت فافهم الجواب : إنّ في أيدي النّاس حقا و باطلا و صدقا و كذبا و ناسخا و منسوخا و عامّا و خاصّا و محكما و متشابها و حفظا و وهما و قد كذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على عهده حتّى قام خطيبا فقال : أيّها النّاس قد كثرت علىّ الكذابة فمن كذب علىّ متعمّدا فليتبؤه مقعده من النّار ثمّ كذب عليه من بعده . و انّما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس : رجل منافق يظهر الايمان متصنّع بالاسلام لا يتاثم و لا يتحرج ان يكذب على رسول اللّه متعمدا فلو علم النّاس انّه منافق كذاب لم يقبلوا منه و لم يصدّقوه و لكنهم قالوا هذا قد صحب رسول اللّه ورآه و سمع منه فيأخذون عنه و هم لا يعرفون حاله و قد اخبر اللّه عن المنافقين بما اخبره و وصفهم بما وصفهم فقال تعالى و إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم و ان يقولوا تسمع لقولهم ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمّة الضلالة و الدعاة إلى النّار بالزور و الكذب و البهتان فولوهم الأعمال و حملوهم على رقاب النّاس و أكلوا بهم الدّنيا و انّما [ 94 ] النّاس مع الملوك و الدّنيا إلاّ من عصم اللّه فهذا أحد الأربعة . و رجل سمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شيئا لم يحمله على وجهه و وهم فيه و لم يتعمّد كذبا فهو في يده يقول و يعمل به و يرويه و يقول أنا سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلو علم المسلمون انّه و هم لم يقبلوه و لو علم هو انه و هم لرفضه . و رجل ثالث سمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شيئا أمر به ثمّ نهى عنه و هو لا يعلم أو سمعه ينهى عن شي‏ء ثمّ أمر به و هو لا يعلم فحفظ منسوخه و لم يحفظ النّاسخ فلو علم انّه منسوخ لرفضه و لو علم المسلمون إذ سمعوه منه انّه منسوخ لرفضوه . و آخر رابع لم يكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مبغض للكذب خوفا من اللّه و تعظيما لرسوله لم ينسه بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع لم يزد فيه و لم ينقص منه و علم الناسخ و المنسوخ و عمل بالنّاسخ و رفض المنسوخ فان أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله مثل القرآن ناسخ و منسوخ و خاص و عام و محكم و متشابه قد كان يكون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الكلام له وجهان كلام عام و كلام خاصّ مثل القرآن و قال اللّه تعالى في كتابه ما آتيكم الرّسول فخذوه و ما نهيكم عنه فانتهوا فيشتبه على من لم يعرف و لم يدر ما عنى اللّه به و رسوله صلّى اللّه عليه و آله . و ليس كلّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يسأله من الشي‏ء يفهم و كان منهم من يسأله و لا يستفهمه حتّى ان كانوا ليحبّون أن يجي‏ء الأعرابي و الطاري فيسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى يسمعوا . أقول : انّه عليه السّلام يذكر بعد قوله حتّى يسمعوا : منزلته عند النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سنذكر هذا الذيل أيضا في محلّه ، فبما حررناه دريت انّ الكتاب و السنّة غير وافيين بكل الأحكام مع أنّ للّه تعالى في كلّ واقعة حكما يجب تحصيله فهما يحتاجان إلى قيّم . في الكافي بإسناده عن أبي البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : إنّ العلماء ورثة الأنبياء و ذاك أنّ الأنبياء لم يورثوا درهما و لا دينارا و إنّما ورثوا من أحاديثهم فمن أخذ بشي‏ء منها فقد أخذ حظّا وافرا فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه فان فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين [ 95 ] و انتحال المبطلين و تأويل الجاهلين . و حيث علم معنى العدل فيما تقدم و علم أنّ الإمام المنصوب الالهي على العدل المحض و يهدون بأمر اللّه تعالى إلى طريق الحق علم انّ المراد بالعدول هم الأئمة الهادين المهديين لا غير و جاء خبر آخر في الكافي كانه مفسر له حيث روى بإسناده عن ابن وهب قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انّ عند كلّ بدعة تكون من بعدى يكاد بها الايمان وليا من أهل بيتي موكّلا به يذب عنه ينطق بالهام من اللّه و يعلن الحق و ينوره و يرد كيد الكائدين يعبّر عن الضعفاء فاعتبروا يا اولى الأبصار و توكلوا على اللّه . و نعم ما قال الفيض في الحديث بيانا : المراد من ورثة الأنبياء ورثتهم من غذاء الرّوح لأنّهم أولادهم الروحانيون الّذين ينتسبون إليهم من جهة أرواحهم المتغذية بالعلم المستفاد منهم عليهم السّلام كما أنّ من كان من نسلهم ورثتهم من غذاء الجسم لأنّهم أولادهم الجسمانيّون الّذين ينتسبون إليهم من جهة أجسادهم المتغذية بالغذاء الجسماني حظّا وافرا كثيرا لأنّ قليل العلم خير ممّا طلعت عليه الشّمس . فانظروا يعني لمّا ثبت أنّ العلم ميراث الأنبياء فلابدّ أن يكون مأخوذا عن الأنبياء عليهم السّلام و عن أهل بيت النّبوّة الذين هم مستودع اسرارهم و فيهم أصل شجرة علمهم دون غيرهم فان المجاوزين عن الوسط الحقّ يحرّفون الكلم عن مواضعه بحسب أهوائهم . و المبطلون يدعون لأنفسهم العلم و يلبسون الحقّ بالباطل لفساد أغراضهم . و الجاهلون يؤولون المتشابهات على غير معانيها المقصودة منها لزيغ قلوبهم فيشتبه بسبب ذلك طريق التعلّم على طلبة العلم . و في أهل بيت النبي صلوات اللّه عليه و عليهم في كلّ خلف بعد سلف امة وسط لهم الاستقامة في طريق الحق من غير غلو و لا تقصير و لا زيغ و لا تحريف يعني الإمام المعصوم و خواصّ شيعته الأمناء على أسراره الحافظين لعلمه الضابطين لأحاديثه فانّ الأرض لا تخلو منهم ابدا و هم لا يزالون ينفون عن العلم تحريف الغالين [ 96 ] و تلبيس المبطلين و تأويل الجاهلين فخذوا علمكم عنهم دون غيرهم لتكونوا ورثة الأنبياء . و هذا الحديث ناظر إلى ما روى عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّه قال : يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين و انتحال المبطلين و تأويل الجاهلين و تفسير للعدول الوارد فيه . و الخلف بالتحريك و السكون كلّ من يجي‏ء بعد من مضى إلاّ أنّه بالتحريك في الخير و بالتسكين في الشرّ يقال : خلف صدق و خلف شر . و أمّا القياس فقد حققنا في المباحث السالفة أنّ للّه تعالى في كلّ واقعة حكما و أن الأحكام مبتنية على مصالح و مفاسد في الأشياء لا تبلغها العقول و لا يعلمها الاّ علام الغيوب و لو تأمّلنا حقّ التأمل في الدّين لرأينا أن دين اللّه لم يبن على القياس فان المراد بالقياس في المقام القياس الفقهي الّذي يسمّى في علم الميزان بالتمثيل و مبنى الشرع على اختلاف المتفقات كوجوب الصّوم آخر شهر رمضان و تحريمه أوّل شوّال ، و اتفاق المختلفات كوجوب الوضوء من البول و الغائط و اتفاق القتل خطأ و الظهار في الكفارة . مع أنّ الشارع قطع يد سارق القليل دون غاصب الكثير و جلّد بقذف الزنا و أوجب فيه أربع شهادات دون الكفر و ذلك كلّه ينافي القياس و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : تعمل هذه الأمّة برهة بالكتاب و برهة بالسنة و برهة بالقياس فاذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا و أضلّوا . و ليس القياس إلاّ اتباع الهوى و قال اللّه تعالى و لا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل اللَّه انّ الّذين يضلّون عن سبيل اللَّه لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب » . و لو تطرق في الشريعة العمل بالقياس لمحق الدّين لأنّ لكلّ أحد أن يرى برأيه و نظره مناسبة بين الحكمين و غالبا لا يخلو الشيئان عن مناسبة ما فيلزم عندئذ تحليل الحرام و تحريم الحلال و آراء كثيرة مردية في موضوع واحد مع أنّ حكم اللّه واحد لا يتغير و قد روى شيخ الطّائفة في التهذيب بإسناده عن أبي مريم [ 97 ] عن أبي جعفر عليه السّلام قال : قال صلوات اللّه عليه : لو قضيت بين رجلين بقضية ثمّ عادا إلىّ من قابل لم ازدهما على القول الأوّل لأن الحق لا يتغير . و قد دريت آنفا أنّه ليس شي‏ء ممّا يحتاج إليه النّاس إلاّ و قد جاء فيه كتاب أو سنة و أن اللّه تعالى نص في كتابه العزيز انزل في القرآن تبيان كل شي‏ء قال تعالى : و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكلّ شي‏ء و هدى و رحمة و بشرى للمسلمين ( النحل 92 ) و قال تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شي‏ء ( الأنعام 39 ) و غيرهما من الآيات الاخر فإذا بين القرآن كلّ شي‏ء و كذا السنة و إن كان لا تبلغها عقول الرّجال فعلينا أن نطلب من عنده علم الكتاب و ليس لنا أن نختار بالقياس و الاستحسان و امثالهما حكما نفتى به أو نعمل فانّ اللّه حذرنا عن ذلك في كتابه بقوله : « و ربّك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة من أمرهم سبحان اللَّه و تعالى عما يشركون » و قال عزّ و جلّ : و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى اللَّه و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم . و قال عزّ و جلّ : ما لكم كيف تحكمون . أم لكم كتاب فيه . تدرسون . أم لكم فيه لما تخيرون . أم لكم ايمان علينا بالغة إلى يوم القيامة انّ لكم . لما تحكمون . سلهم ايّهم بذلك زعيم . أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين و قال تعالى : أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به اللَّه و قال تعالى : و استقم كما امرت و لا تتبع اهوائهم و قل آمنت بما أنزل اللَّه من كتاب . و قال تعالى : أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله و اتبعوا أهوائهم و قال تعالى ان يتبعون إلاّ الظنّ و ما تهوى الأنفس و لقد جائهم من ربّهم الهدى و غيرها من الآيات القرآنيّة . فهذه الآيات القرآنية تذمّ من رغب عن اختيار اللّه و اختيار رسوله إلى اختياره و تنهيه عن ذلك أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب اقفالها ، أم طبع اللّه على قلوبهم فهم لا يفقهون ، أم قالوا سمعنا و هم لا يسمعون ، انّ شرّ الدواب عند اللّه الصم البكم الذين لا يعقلون . [ 98 ] « الاخبار المروية عن أهل بيت العصمة عليهم السّلام » « في النهى عن العمل بالقياس » قد رويت عن الأئمّة الهداة المهديين روايات في النهى عن العمل بالقياس و احتجاجات على القوم في ذلك نورد ههنا شطرا منها تبصرة للمستبصرين فان من كان له قلب استهدى بها : 1 في الكافي باسناده إلى أبي شيبة الخراساني قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول : إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحق إلاّ بعدا و أن دين اللّه لا يصاب بالمقاييس . أقول : إنّ القياس في جميع العلوم النقليّة لا يزاد القائس من الحقّ و الواقع إلاّ بعدا فكما أنّ اللّغة و النحو و القرائة و السير و امثالها لا يستقيم بالقياس و التخمين فكذلك الأحكام فانّ للّه تعالى في كلّ واقعة حكما لا يصاب بالظنّ و التخمين و القياس . على أنّ في الشرع يوجد كثيرا جمع الأحكام المختلفة في الصفات الظاهرة و تفريق الأحكام المتشاركة في الآثار الواضحة . 2 و فيه باسناده إلى أبان بن تغلب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : إنّ السنة لا تقاس ألا ترى انّ المرأة تقضى صومها و لا تقضى صلاتها يا أبان انّ السنة إذا قيست محق الدين . أقول : قال الفيض في بيانه : المحق ذهاب الشي‏ء كله حتّى لا يرى منه أثر و إنّما يمحق الدين بالقياس لأن لكلّ أحد أن يرى بعقله أو هواه مناسبة بين الشي‏ء و ما أراد أن يقيسه عليه فيحكم عليه بحكمه و ما من شي‏ء إلاّ و بينه و بين شي‏ء آخر مجانسة أو مشاركة في كم أو كيف أو نسبة فاذا قيس بعض الأشياء على بعض في الأحكام صار الحلال حراما و الحرام حلالا حتّى لم يبق شي‏ء من الدين 3 و فيه بإسناده إلى أبان عن أبي شيبة قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول : ضلّ علم ابن شبرمة عند الجامعة املاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خطّ عليّ عليه السّلام بيده انّ [ 99 ] الجامعة لم تدع لأحد كلاما فيها علم الحلال و الحرام انّ أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحقّ إلاّ بعدا إن دين اللّه لا يصاب بالقياس . أقول : سيأتي الكلام في الجامعة عند ترجمة الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السّلام و ابن شبرمة هو عبد اللّه بن شبرمة القاضي كان يعمل بالقياس . 4 و فيه عن الحسين بن ميّاح عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : انّ إبليس قاس نفسه بآدم فقال : خلقتني من نار و خلقته من طين فلو قاس الجوهر الّذي خلق اللّه منه آدم بالنّار كان ذلك أكثر نورا و ضياء . 5 و فيه بإسناده عن عيسى بن عبد اللّه القرشي قال : دخل أبو حنيفة على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له : يا أبا حنيفة بلغني أنّك تقيس قال : نعم ، قال : لا تقس فان أوّل من قاس إبليس حين قال : خلقتني من نار و خلقته من طين فقاس ما بين النّار و الطين و لو قاس نوريّة آدم بنورية النّار عرف فضل ما بين النّورين و صفاء أحدهما على الآخر . أقول : إنّ هذين الخبرين من الأخبار الأنيقة و العلوم الدقيقة الّتي صدرت من بيت أهل العصمة و تجلّت من مشكاة الإمامة و بدت من فروع شجرة النبوّة لاحتوائهما على لطيفة قدسيّة عرشيّة لم يعهد صدور مثلها عن غير بيت الآل في ذلك العصر ، و لعمري لو لم تكن لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و آله الطاهرين معجزات فعليّة أصلا لكفى أمثال هذه الأخبار الصادرة عنهم عليهم السّلام في صدق مقالتهم بأنّهم سفراء اللّه لخلقه و وسائط فيضه . و بالجملة قال عليه السّلام في الأوّل منهما فلو قاس الجوهر الذي خلق اللّه منه آدم بالنّار كان ذلك أكثر نورا و ضياء و في الثاني و لو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فضل ما بين النورين و صفاء أحدهما على الآخر . و ذلك الجوهر النّوري هو النفس الناطقة المجردة و الرّوح المقدّسة الّتي من عالم الأمر لا سيّما روحه القدسيّة النّبويّة الّتي بها صار مسجود الملائكة ، و معلوم أن هذا النور المعنوي لا نسبة له إلى الأنوار الحسيّة كنور النّار و السراج و الشمس و القمر و النّجوم و أمثالها لأنه لا يكون منغمرا في الزّمان و المكان و الأجسام بل هو فوق [ 100 ] الزمان و الزمانيّات و لذا به يظهر ما لا يظهر بالأنوار الحسيّة فانّ الحسيّة يظهر المحسوسات بخلاف النور العقلي فانّه يظهر المعقولات و فوق المحسوسات فلا يقاس أحدهما بالآخر فانّ العقلاني بمراحل عن الجسماني و لذا قال وليّ اللّه الأعظم فلو قاس الجوهر الّذي خلق اللّه منه آدم بالنّار كان ذلك أكثر نورا و ضياء . و أيضا انّ كلامه عليه السّلام يدلّ على تجرد الروح و تنزهه عن الجسم و الجسمانيات كما أنّه يدلّ ان شيئيّة الشي‏ء بصورته لا بمادته ، و قياس إبليس و هم حيث توهم ان الفضل و الشرف بمادّة البدن و أن شيئية الأشياء بمادّتها و لم يعلم أنّ الانسان إنسان بجوهره المجرد النوري العقلاني و انّما الشيئيّة بالصّورة لانّه لم يكن له نصيب من هذا النور القدسي النبوي حتّى يرى نسبة سائر الأنوار بالقياس إليه و يعرفه حق المعرفة . و اعلم أنّ الوجود الكامل من مادّة ناقصة أفضل من موجود ناقص من مادّة كاملة و ذلك لما تحقّق في الحكمة العالية أنّ الصّورة هي الأصل و المادّة فرعها و شيئية الموجودات بصورها لا بالمادة . 6 في الكافي : انّ عليّا عليه السّلام قال : من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس و من دان اللّه بالرأى لم يزل دهره في ارتماس . 7 و فيه أيضا قال أبو جعفر عليه السّلام : من أفتى النّاس برأيه فقد دان اللّه بما لا يعلم و من دان اللّه بما لا يعلم فقد ضادّ اللّه حيث أحلّ و حرّم فيما لا يعلم . 8 و في كتاب القضاء من الوسائل : انّ ابن شبرمة قال دخلت أنا و أبو حنيفة على جعفر بن محمّد فقال لأبي حنيفة : اتق اللّه و لا تقس في الدّين برأيك فإن أوّل من قاس إبليس إلى أن قال : و يحك ايّهما أعظم قتل النّفس أو الزّنا ؟ قال : قتل النفس . قال : فان اللّه عزّ و جلّ قد قبل في قتل النفس شاهدين و لم يقبل في الزنا إلاّ أربعة . ثمّ أيّهما أعظم الصّلاة أم الصّوم ؟ قال : الصّلاة . قال : فما بال الحائض تقضي الصّيام و لا تقضى الصلاة فكيف يقوم لك القياس فاتق اللّه و لا تقس . قال : فايّهما اكبر البول أو المني ؟ قلت : البول ، قال : فلم أمر اللّه تعالى في البول بالوضوء [ 101 ] و في المني بالغسل . قال : فأيّما أضعف المرأة أو الرّجل ؟ قلت : المرأة ، قال : فلم جعل اللّه تعالى في الميراث للرجل سهمين و للمرأة سهم أفيقاس لك هذا ؟ قلت : لا . قال : فبم حكم اللّه فيمن سرق عشر دراهم القطع و إذا قطع الرّجل يد رجل فعليه ديتها خمسة آلاف درهم أفيقاس لك هذا ؟ قلت : لا . الحديث . و في الوافي ( ص 59 م 1 ) روي عن أبي حنيفة أنّه قال : جئت إلى حجّام ليحلق رأسي فقال لي : ادن ميامنك و استقبل القبلة و سم اللّه فتعلّمت منه ستّ خصال لم تكن عندى فقلت له : مملوك أنت أم حرّ ؟ فقال : مملوك ؟ قلت : لمن ؟ قال لجعفر بن محمّد الصّادق عليهما السّلام قلت : أشاهد أم غائب ؟ قال : شاهد فصرت إلى بابه و استأذنت عليه فحجبني و جاء قوم من أهل الكوفة فاستأذنوا فاذن لهم فدخلت معهم فلمّا صرت عنده قلت له : يا ابن رسول اللّه لو أرسلت إلى أهل الكوفة فنهيتهم أن يشتموا أصحاب محمّد فانى تركت بها أكثر من عشرة الف يشتمونهم ، فقال : لا يقبلون منى فقلت : و من لا يقبل منك و أنت ابن رسول اللّه فقال : أنت أوّل من لا يقبل منى دخلت داري بغير إذني و جلست بغير أمري و تكلمت بغير رأيي و قد بلغني أنّك تقول بالقياس قلت : نعم قال : ويحك يا نعمان أوّل من قاس اللّه إبليس ثمّ ذكر قريب ما نقلناه عن الوسائل و كذا هذا الخبر مذكور في مجلس يوم الجمعة التاسع من رجب سنة سبع و خمسين و أربعمائة فراجع . و الأخبار في النّهي عن القياس في الدّين و السرّ في نهيه كثيرة في كتب الرّواية فعليك بكتاب القضاء من الوسائل و المجلّد الأوّل من البحار و الكافي و باب البدع و الرأى و المقائيس من الوافي ( ص 56 م 1 ) . المنقول من الزمخشري في ربيع الأبرار قال يوسف بن أسباط : ردّ أبو حنيفة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للفرس سهمان و للرّجل سهم ، قال أبو حنيفة : لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن . و اشعر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه البدن و قال أبو حنيفة : الاشعار مثلة . و قال صلّى اللّه عليه و آله : البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا ، و قال أبو حنيفة : إذا وجب البيع فلا خيار . و كان صلّى اللّه عليه و آله يقرع بين نسائه إذا اراد سفرا و أقرع أصحابه ، و قال أبو حنيفة القرعة قمار . [ 102 ] و أمّا الإجماع فبعد الفراغ عن حجّيته و البحث عن أقسامه فنقول : انّ من المعلوم عدم قيام إجماع في كلّ واقعة واقعة . و أمّا البرائة الأصليّة فلأنه يلزم منها ارتفاع أكثر الأحكام الشرعية إذ يقال الأصل برائة الذمة من وجوب أو حرمة . أمّا الاستصحاب فعدم صلاحيّته للمحافظة بديهيّ فلأنّه يستلزم اليقين السابق و الشكّ اللاحق حتّى يجري و أنّي يكون كلّ حكم من الأحكام في كلّ موضع مع عدم تناهيها كذلك ، على أن الاستصحاب و القياس و الخبر الواحد لا تفيد إلاّ ظنّا و الظن لا يغنى من الحق شيئا . فاذا اتضح عدم صلاحيّة هذه الأقسام لحفظ الدّين و حجّة على النّاس بحيالها بلا قيم مبين و مفسر بعد خاتم النبيين فلم يبق أن يكون الحافظ للشرع إلاّ العالم و العالم مطلقا فقد دريت انّه لم يكن حافظا فبقى العالم المعصوم المنصوب من اللّه اعني الإمام بالحق و ذلك هو المطلوب و قد اشار الباري تعالى إليه بقوله : و لو ردّوه إلى الرّسول و إلى اولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ( النساء : 86 ) ثمّ إنّ لأئمتنا صلوات اللّه عليهم احتجاجات على من ذهب إلى أنّ الكتاب وحده بلا قيّم كاف للعباد كلّ واحد منها حجّة بالغة و برهان تام أبان الفصل و أفحم الخصم تركنا الاتيان بها روما للاختصار فعليك بكتاب الاحتجاج للطبرسي و اصول الكافي للكليني و الارشاد للمفيد و المجلّد الرّابع من البحار للمجلسي . ثمّ مضى في الخطبة الثّالثة و العشرين و المأة قوله عليه السّلام : و هذا القرآن إنّما هو مسطور بين الدفتين لا ينطق بلسان و لا بدّ له من ترجمان إلى آخر ما قال . فراجع فتبّصر . احتجاج ثامن الائمة عليه السّلام على المخالفين في امر الإمامة روى الشيخ الجليل الصّدوق رضوان اللّه عليه في المجلس السابع و التسعين من أماليه و كذا الشيخ الجليل الطبرسي في الاحتجاج و ثقة الاسلام الكليني في الكافي ( الوافي ص 115 م 2 ) رواية جامعة كافية في أمر الإمامة عن الرّضا عليّ بن [ 103 ] موسى ثامن الأئمة الهداة المهديين تهدى بغاة الرشد للتيّ هو أقوم جعلناها خاتمة بحثنا ليختم بالخير ختامه مسك و في ذلك فليتنافس المتنافسون و في الأمالي . حدثنا الشيخ الجليل أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي رضي اللّه عنه قال : حدثنا محمّد بن موسى بن المتوكّل قال : حدّثنا محمّد بن يعقوب قال : حدّثنا أبو محمّد القاسم بن العلي عن عبد العزيز بن مسلم قال : كنا في أيّام عليّ بن موسى الرّضا عليهما السّلام بمرو فاجتمعنا في مسجد جامعها في يوم جمعة في يدي مقدمنا فأدار النّاس أمر الإمامة و ذكروا كثرة اختلاف النّاس فدخلت على سيّدي و مولاى الرّضا عليه السّلام فأعلمته ما خاض النّاس فيه فتبسّم عليه السّلام ثمّ قال : يا عبد العزيز جهل القوم و خدعوا عن أديانهم إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يقبض نبيّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى أكمل له الدّين و أنزل عليه القرآن فيه تفصيل كلّ شي‏ء بيّن فيه الحلال و الحرام و الحدود و الأحكام و جميع ما يحتاج النّاس إليه كملا فقال عزّ و جلّ ما فرّطنا في الكتاب من شي‏ء و انزل فيه في حجّة الوداع و هي آخر عمره صلّى اللّه عليه و آله « اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا » و أمر الامامة من تمام الدّين و لم يمض صلّى اللّه عليه و آله حتّى بين لامته معالم دينهم و أوضح لهم سبيله و تركهم على قصد الحقّ و أقام لهم عليّا عليه السّلام علما و ما ترك شيئا يحتاج إليه الامّة إلاّ بيّنه فمن زعم أنّ اللّه عزّ و جلّ لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللّه و من ردّ كتاب اللّه فهو كافر فهل تعرفون قدر الإمامة و محلّها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم ؟ إنّ الامامة أجلّ قدرا و أعظم شأنا و أعلى مكانا و أمنع جانبا و أبعد غورا من أن يبلغها النّاس بعقولهم أو ينالوها برأيهم أو يقيموا إماما باختيارهم . إنّ الإمامة خصّ اللّه بها إبراهيم الخليل عليه السّلام بعد النّبوّة و الخلّة مرتبة ثالثة و فضيلة شرّفه اللّه بها فأشار بها ذكره فقال عزّ و جلّ إنّي جاعلك للناس إماماً قال الخليل مسرورا ؟ ؟ ؟ بها و من ذرّيتي قال اللّه تبارك و تعالى لا ينال عهدى الظّالمين فابطلت هذه [ 104 ] الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة و صارت في الصفوة . ثمّ أكرمه اللّه أن جعلها في ذريته أهل الصفوة و الطهارة فقال عزّ و جلّ و وهبنا له إسحق و يعقوب نافلة و كلا جعلنا صالحين . و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصّلوة و ايتاء الزكوة و كانوا لنا عابدين فلم يزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتّى ورثها النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال جلّ جلاله إنّ أولى النّاس بابراهيم للّذين اتبعوه و هذا النّبيّ و الّذين آمنوا و اللَّه وليّ المؤمنين فكانت له الخاصّة فقلّدها النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله عليّا عليه السّلام بأمر ربّه عزّ و جلّ على رسم ما فرض اللّه فصارت في ذرّيته الأصفياء الذين آتاهم اللّه العلم و الايمان بقوله عزّ و جلّ و قال الّذين اوتوا العلم و الايمان لقد لبثتم في كتاب اللَّه إلى يوم البعث و هي في ولد عليّ عليه السّلام خاصّة إلى يوم القيامة إذ لا نبيّ بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله فمن أين يختار هؤلاء الجهّال ؟ إنّ الامامة هي منزلة الأنبياء و إرث الأوصياء إنّ الامامة خلافة اللّه عزّ و جلّ و خلافة الرّسول و مقام أمير المؤمنين و ميراث الحسن و الحسين . إنّ الامامة زمام الدّين و نظام المسلمين و صلاح الدّنيا و عزّ المؤمنين . إنّ الإمامة اسّ الاسلام النامي و فرعه النامي . بالامام تمام الصّلاة و الزّكاة و الصّيام و الحجّ و الجهاد و توفير الفي‏ء و الصّدقات و إمضاء الحدود و الأحكام و منع الثغور و الأطراف . الامام يحلّ حلال اللّه و يحرّم حرام اللّه و يقيم حدود اللّه و يذبّ عن دين اللّه و يدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة و الموعظة الحسنة و الحجّة البالغة . الامام كالشّمس الطالعة للعالم و هي في الافق بحيث لا تنالها الأيدي و الأبصار . الامام البدر المنير و السراج الظاهر و النّور السّاطع و النجم الهادي في غياهب الدّجى و البلد القفار و لجج البحار . الامام الماء العذب على الظماء و الدّال على الهدى و المنجي من الرّدى . [ 105 ] الامام النّار على اليفاع الحار لمن اصطلى و الدّليل على الملك من فارقه فهالك . الإمام السحاب الماطر و الغيث الهاطل و الشمس المضيئة و الأرض البسيطة و العين الغزيرة و الغدير و الروضة . الإمام الأمين الرفيق و الوالد الرّقيق و الأخ الشفيق و مفزع العباد في الداهية . الإمام أمين اللّه في أرضه و حجّته على عباده و خليفته في بلاده و الدّاعي إلى اللّه و الذابّ عن حرم اللّه . الامام المطهّر من الذنوب المبرّأ من العيوب مخصوص بالعلم موسوم بالحلم نظام الدّين و عزّ المسلمين و غيظ المنافقين و بوار الكافرين . الامام واحد دهره لا يدانيه أحد و لا يعادله عالم و لا يوجد به بدل و لا له مثل و لا نظير ، مخصوص بالفضل كلّه من غير طلب منزلة و لا اكتساب بل اختصاص من المفضل الوهاب فمن ذا الذي يبلغ بمعرفة الإمام أو يمكنه اختياره ؟ هيهات هيهات ضلّت العقول و تاهت الحلوم و حارت الألباب و حسرت العيون و تصاغرت العظماء و تحيّرت الحكماء و تقاصرت الحلماء و حصرت الخطباء و جهلت الألباب و كلّت الشعراء و عجزت الأدباء و عيّت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله فأقرّت بالعجز و التقصير . و كيف يوصف أو ينعت بكنهه أو يفهم شي‏ء من أمره أو يوجد من يقوم مقامه و يغنى غناه لا ، كيف و أين و هو بحيث النجم من أيدى المتناولين و وصف الواصفين فأين الاختيار من هذا و اين العقول عن هذا و أين يوجد مثل هذا ؟ أظنوا أن ذلك يوجد في غير آل الرّسول صلّى اللّه عليه و آله ؟ كذبتهم و اللّه أنفسهم و منّتهم الأباطيل و ارتقوا مرتقى صعبار حضا تزل عنه إلى الحضيض أقدامهم راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة و آراء مضلّة فلم يزدادوا منه إلاّ بعدا قاتلهم اللّه أنّي يؤفكون ؟ لقد راموا صعبا و قالوا إفكا و ضلّوا ضلالا بعيدا و وقعوا في الحيرة [ 106 ] إذ تركوا الإمام عن بصيرة و زين لهم الشيطان أعمالهم و صدّهم عن السبيل و كانوا مستبصرين رغبوا عن اختيار اللّه و اختيار رسوله إلى اختيارهم و القرآن يناديهم و ربّك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة من أمرهم سبحان اللَّه و تعالى عما يشركون و قال عزّ و جلّ و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى اللَّه و رسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم و قال عزّ و جلّ ما لكم كيف تحكمون . أم لكم كتاب فيه تدرسون . أم لكم فيه لما تخيّرون . أم لكم ايمان علينا بالغة إلى يوم القيمة انّ لكم لما . تحكمون . سلهم أيّهم بذلك زعيم . أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم ان كانوا صادقين و قال عزّ و جلّ : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب اقفالهم ، أم طبع اللّه على قلوبهم فهم لا يفقهون ، أم قالوا سمعنا و هم لا يسمعون ، إن شرّ الدوابّ عند اللّه الصم البكم الذين لا يعقلون ، و لو علم اللّه فيهم خيراً لأسمعهم و لو أسمعهم لتولوا و هم معرضون ، و قالوا سمعنا و عصينا ، بل هو فضل اللَّه يؤتيه من يشاء و اللَّه ذو الفضل العظيم . فكيف لهم باختيار الإمام و الإمام عالم لا يجهل راع لا ينكل معدن القدس و الطهارة و النسك و الزهادة و العلم و العبادة مخصوص بدعوة الرسول و هو نسل المطهرة البتول لا مغمز فيه في نسب و لا يدانيه ذو حسب في البيت من قريش و الذروة من هاشم و العترة من الرسول و الرضا من اللّه شرف الأشراف و الفرع من عبد مناف نامي العلم كامل اللحم مضطلع بالإمامة عالم للسياسة مفروض الطاعة قائم بأمر اللّه ناصح لعباد اللّه حافظ لدين اللّه . إنّ الأنبياء و الأئمة يوفقهم اللّه عزّ و جلّ و يؤتيهم من مخزون علمه و حلمه ما لا يؤتيه غيرهم فيكون عليهم « علمهم ظ » فوق كلّ أهل زمانهم في قوله جلّ و عزّ فمن يهدى إلى الحق أحقّ أن يتّبع أمّن لا يهدّى إلاّ أن يهدّى فما لكم كيف تحكمون و قوله جل و عز و من يؤت الحكمة فقد اوتى خيراً كثيراً و قوله عزّ و جلّ في طالوت انّ اللَّه اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم و الجسم و اللَّه يؤتي ملكه من يشاء و اللّه واسع عليم و قال عزّ و جلّ لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله « و كان فضل اللَّه عليك عظيماً » . و قال عزّ و جلّ في الأئمة من أهل بيته و عترته و ذرّيته أم يحسدون النّاس على ما آتيهم اللَّه من فضله فقد [ 107 ] آتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة و آتيناهم ملكاً عظيماً . فمنهم من آمن به و منهم من صدّ عنه و كفى بجهنّم سعيراً . و أنّ العبد إذا اختاره اللّه عزّ و جلّ لامور عباده شرح صدره لذلك و أودع قلبه ينابيع الحكمة و ألهمه العلم الهاما فلم يعى بعده بجواب و لا يحيّر فيه عن الصّواب و هو معصوم مؤيد موفق مسدّد قد أمن الخطايا و الزلل و العثار و خصّه اللّه بذلك ليكون حجته على عباده و شاهده على خلقه و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء و اللّه ذو الفضل العظيم . فهل يقدرون على مثل هذا فيختاروه أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدّموه تعدّوا و بيت اللّه الحقّ و نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون و في كتاب اللّه الهدى و الشفاء فنبذوه و اتبعوا أهوائهم فذمهم اللّه و مقتهم أنفسهم فقال عزّ و جلّ و من أضلّ ممّن اتبع هواه بغير هدى من اللَّه إنّ اللَّه لا يهدى القوم الظّالمين و قال : فتعساً لهم و أضلّ أعمالهم و قال عزّ و جلّ كبر مقتاً عند اللَّه و عند الّذين آمنوا كذلك يطبع اللَّه على كلّ قلب متكبّر جبّار . انتهى الحديث الشريف . « الأئمة بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله هم آله عليهم السّلام لا غير » الإمام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بلا فصل هو عليّ بن أبى طالب و بعده ابنه الحسن بن عليّ بن أبيطالب المجتبى و بعده اخوه الحسين بن عليّ سيّد الشّهداء ثمّ ابنه عليّ ابن الحسين زين العابدين ثمّ ابنه محمّد بن عليّ باقر علوم النبيّين ثمّ ابنه جعفر بن محمّد الصّادق ثمّ ابنه موسى بن جعفر الكاظم ثمّ ابنه عليّ بن موسى الرّضا ثمّ ابنه محمّد بن عليّ الجواد التقيّ ثمّ ابنه عليّ بن محمّد النقي الهادي ثم ابنه الحسن ابن عليّ العسكري ثمّ ابنه الإمام القائم المنتظر الحجّة بن الحسن عليهم السّلام . و يدلّ عليه وجوه من الأدلّة العقليّة و النقليّة أمّا العقليّة فقد قدّمنا البحث عنها و لا تنطبق إلاّ عليهم سلام اللّه عليهم و أمّا النقليّة فكثير من الآيات و الأخبار [ 108 ] المتواترة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ظهور معجزات كثيرة عنهم عليهم السّلام عقيب ادعائهم الإمامة ممّا أتى بها متكلمو الشيعة في كتبهم الكلاميّة و رواها فرق المسلمين في آثارهم و أسفارهم القيمة و التعرض بذكر كلّ واحد منها و النقل عن مآخذها و تقرير دلالتها على التفصيل و البسط يؤدى إلى تأليف مجلّدات عليحدة و نحن بعون اللّه تعالى نحررها موجزة في ابحاثنا الآتية ، و انّما الأهمّ من غرضنا في المقام اقامة البراهين العقليّة في وجود الإمام و قد أتينا بطائفة منها في ضمن هذه الخطبة الّتي في أوصاف آل محمّد عليهم السّلام ليزداد الطالب للحقّ بصيرة . و لكن لما كان أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام وصف آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله بأنّهم عيش العلم و موت الجهل و انّهم دعائم الاسلام و غيرها من الأوصاف المذكورة في الخطب السابقة فلنذكر نبذة من أحوالهم و شرذمة من آثارهم كى يكون انموزجا للطالب في أنوار علومهم و عظم مقامهم و إن كانت عقولنا قاصرة عن اكتناه ما جبل في نفوسهم القدسيّة و الارتقاء إلى مرتبتهم العرشيّة و نعم ما اشار إليه العارف الرومي بالفارسيّة . در نيابد حال پخته هيچ خام پس سخن كوتاه بايد و السّلام و في الحقيقة مدحنا إيّاهم عليهم السّلام راجع إلينا اعني أنا إذا مدحناهم مدحنا أنفسنا لأنا نخبر عن حسن سريرتنا و طيب سجيّتنا و سلامة عين بصيرتنا كالذي يمدح الشمس يخبر عن شدّة نور بصره و سلامة عينه و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : لا يحبّنا إلاّ مؤمن تقىّ و لا يبغضنا إلاّ منافق شقيّ . و نعم ما قال العارف المذكور أيضا : مادح خورشيد مدّاح خود است كه دو چشمم روشن و نامرمد است ذمّ خورشيد جهان ذمّ خود است كه دو چشمم كور و تاريك و بد است تو ببخشا بر كسى كاندر جهان شد حسود آفتاب كامران تا ندش پوشيد هيچ از ديده‏ها و ز طراوت دادن پوسيده‏ها يا ز نور بى‏حدش تانند كاست يا بدفع جاه او تانند خاست نور مردان مشرق و مغرب گرفت آسمانها سجده كردند از شگفت هر كسى كو حاسد كيهان بود آن حسد خود مرگ جاويدان بود [ 109 ] شمع حق را پف كنى تو اى عجوز هم تو سوزى هم سرت اى گنده‏پوز كى شود دريا ز پوز سگ نجس كى شود خورشيد از پف منطمس مه فشاند نور و سگ عوعو كند هر كسى بر خلقت خود مى‏تند اى بريده آن لب و حلق و دهان كه كند تف سوى ماه آسمان سوى گردون تف نيابد مسلكى تف برويش باز گردد بى شكى تا قيامت تف بر او بارد ز ربّ همچو تبّت بر روان بو لهب و كذا قال العارف الجامي في الدفتر الأوّل من سلسلة الذهب . مادح أهل بيت در معنى مدحت خويشتن كند يعنى مؤمنم موقنم خداى شناس وز خدايم بود اميد و هراس از كجيها در اعتقادم پاك نيست از طعن كج نهادم باك دوستدار رسول و آل ويم دشمن خصم بد سگال ويم جوهر من ز دكان ايشانست رخت من از دكان ايشانست إلى أن قال : اين نه رفض است محض ايمان است رسم معروف أهل عرفانست رفض اگر هست حبّ آل نبيّ رفض فرض است بر ذكى و غبي 1 « الإمام الأول أمير المؤمنين على بن أبيطالب عليه السّلام » و اعلم أنّ تلك الأوصاف المذكورة في الخطب لا تصدق حقيقة إلاّ على آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و المراد بآله ليس مطلق من صحبه أو عاصره أو عاش معه لأنّ الضرورة قاضية على خلافه فانا لو نظرنا في صحابة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سبرناهم لوجدنا بعد ----------- ( 1 ) بيت العارف الجامى كانما يشير إلى ما قال الشافعي : قالوا : ترفضت ، قلت : كلا ما الرفض دينى و لا اعتقادى لكن توليت غير شك خير امام و خير هاد ان كان حب الوصى رفضا فاننى أرفض العباد [ 110 ] النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من كان وجوده حياة العلم و حياته دعامة الاسلام و من ازاح الباطل و ابطل المناكير و أعاد الحقّ إلى حدّه و مستقرّه ، هو أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام لا غير فانّ الكلّ متّفق على أنّه عليه السّلام كان أفضل الصّحابة في جميع الكمالات النفسانيّة و البدنيّة و ما طعن أحد في حكمه و فعله و قوله و علمه و صدرت من غيره عليه السّلام ما لو لا عليّ عليه السّلام لمحق الدّين و هلك النّاس كما اذعن الجميع بها و نقلها رواة السنة في جوامعهم و كان المسلمون عند حدوث معضل يضربون به المثل بقولهم : قضيّة لا أبا حسن لها . قال القاضي العضد الايجي الشافعي في مبحث الإمامة من المواقف : علىّ اعلم الصحابة لأنّه كان في غاية الذّكاء و الحرص على التعلم و محمّد صلّى اللّه عليه و آله اعلم النّاس و أحرصهم على ارشاده و كان في صغره في حجره و في كبره ختنا له يدخل عليه كل وقت و ذلك يقتضى بلوغه في العلم كلّ مبلغ ، و أمّا أبو بكر فاتّصل بخدمته في كبره و كان يصل إليه في اليوم مرّة أو مرّتين و لقوله صلّى اللّه عليه و آله : أقضاكم علىّ ، و القضاء يحتاج إلى جميع العلوم و لقوله تعالى و تعيها اذن واعية و أكثر المفسرين على أنّه علىّ و لأنّه نهى عمر عن رجم من ولدت لستة أشهر و عن رجم الحاملة فقال عمر : لو لا عليّ لهلك عمر ، و لقول عليّ عليه السّلام لو كسرت لي الوسادة ثمّ جلست عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم و بين أهل الإنجيل بانجليهم و بين أهل الزبور بزبورهم و بين أهل الفرقان بفرقانهم ، و قوله عليه السّلام و اللّه ما من آية نزلت في بر أو بحر أو سهل أو جبل أو سماء أو أرض أو ليل أو نهار إلاّ أنا أعلم فيمن نزلت و في أي شي‏ء نزلت ، و لأن عليّا عليه السّلام ذكر في خطبه من أسرار التوحيد و العدل و النبوة و القضاء و القدر ما لم يقع مثله في كلام الصحابة ، و لأنّ جميع الفرق ينتسبون إليه في الاصول و الفروع و كذا المتصوفة في علم تصفية الباطن و ابن عبّاس رئيس المفسرين تلميذه و كان في الفقه و الفصاحة في الدرجة القصوى ، و علم النحو انما ظهر منه و هو الذي أمرأ بالأسود الدئلي بتدوينه و كذا علم الشجاعة و ممارسة الأسلحة و كذا علم الفتوّة و الأخلاق . إلى آخر ما قال . فراجع . [ 111 ] و في الكافي بإسناده إلى أبان بن أبي عيّاش عن سليم بن قيس الهلالي في ذيل خطبة نقل صدرها الرّضي رضوان اللّه عليه في نهج البلاغة ( الخطبة 208 ) و وعدنا نقل الذيل قبيل هذا ، عنه عليه السّلام : و قد كنت أدخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّ يوم دخلة و كل ليلة دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار و قد علم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انّه لم يصنع ذلك بأحد من النّاس غيري فربّما كان في بيتي يأتيني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أكثر ذلك في بيتي و كنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني و أقام عني نساءه فلا يبقى عنده غيري و إذا أتاني للخلوة معى في منزلي لم يقم عنى فاطمة و لا أحدا من بنيّ و كنت إذا سألته أجابني و إذا سكتّ عنه و فنيت مسائلي ابتداني فما نزلت على رسول اللّه آية من القرآن إلاّ أقرأنيها أو أملاها علىّ فكتبتها بخطّي و علّمني تأويلها و تفسيرها و ناسخها و منسوخها و محكمها و متشابهها و خاصها و عامّها و دعى اللّه أن يعطيني فهمها و حفظها فما نسيت آية من كتاب اللّه تعالى و لا علما املاها علىّ و كتبته منذ دعا اللّه لي بما دعا و ما ترك شيئا علّمه اللّه من حلال و لا حرام و لا أمر و لا نهي كان أو يكون و لا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه و حفظته فلم أنس حرفا واحدا ثمّ وضع يده على صدرى و دعى اللّه لي أن يملأ قلبي علما و فهما و حكما و نورا فقلت يا رسول اللّه بأبي أنت و أمي منذ دعوت اللّه لى بما دعوت لم أنس شيئا و لم يفتنى شيئا لم أكتبه . أ فتتخوّف علىّ النسيان فيما بعد ؟ فقال : لا لست أتخوّف عليك النسيان و الجهل . و أيضا كتبه و رسائله و خطبه و حكمه من أوضح البراهين على ذلك و قد تحيّرت في بعضها العقول و خضعت له افكار الفحول لاشتمالها على اللطائف الحكميّة و المباحث العقليّة و المسائل الالهيّة في توحيد اللّه و صفاته عزّ اسمه و لم ينقل لأحد من كبار الصحابة و فصحائهم و لا من العرفاء الشامخين و الحكماء المتألهين نحو خطبة واحدة منها لا لفظا و لا معنى بل كلّهم عيال له و كفى ببطل العلم فخرا ان يتناول من مأدبته و يرتوى من مشرع فصاحته . و هذا هو عبد الحميد الذي قال فيه ابن خلّكان في وفيات الأعيان : أو غالب [ 112 ] عبد الحميد بن يحيى بن سعيد الكاتب البليغ المشهور كان كاتب مروان بن الحكم الأموي آخر ملوك بني اميّة و به يضرب المثل في البلاغة حتّى قيل فتحت الرسائل بعبد الحميد و ختمت بابن العميد و كان في الكتابة و في كلّ فنّ من العلم و الأدب إماما و عنه أخذ المترسّلون و لطريقته لزموا و لآثاره اقتفوا و هو الّذى سهل سبيل البلاغة في الترسّل و مجموع رسائله مقدار ألف ورقة و هو أوّل من اطال الرّسائل و استعمل التحميدات في فصول الكتاب فاستعمل النّاس ذلك بعده قال : حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثمّ فاضت ، و يعني بالأصلع أمير المؤمنين عليّا عليه السّلام . و هذا هو ابن نباتة قائل الخطبة المناميّة الّذي قال فيه ابن خلّكان : أبو يحيى عبد الرّحيم بن محمّد بن إسماعيل بن نباتة صاحب الخطب المشهورة كان إماما في علوم الأدب و رزق السعادة في خطبه الّتي وقع الاجماع على أنّه ما عمل مثلها و فيها دلالة على غزارة علمه و جودة قريحته قال : حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الانفاق الاّ سعة و كثرة حفظت مأة فصل من مواعظ عليّ بن أبى طالب . و هذا هو الحكيم البارع الالهي المولى صدرا قدّس سرّه تمسّك في الفصل الثالث من الموقف الثاني من المجلّد الثالث من الأسفار الأربعة المعنون بقوله في تحقيق القول بعينيّة الصفات الكماليّة للذّات الأحديّة بقوله عليه السّلام في نفى المعانى و الصّفات الزائدة عن ذاته تعالى ، فقال : و قد وقع في كلام مولانا و إمامنا مولى العارفين و إمام الموحدين ما يدلّ على نفى زيادة صفات اللّه تعالى بأبلغ وجه و آكد حيث قال عليه السّلام في خطبة من خطبة المشهورة : أوّل الدّين معرفته ، و كمال المعرفة التصديق به ، و كمال التصديق به توحيده و كمال التوحيد الاخلاص له ، و كمال الاخلاص له نفى الصفات عنه بشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف و شهادة كلّ موصوف انّه غير الصفة فمن وصفه سبحانه فقد قرنه و من قرنه فقد ثنّاه ، و من ثنّاه فقد جزّاه ، و من جزّاه فقد جهله ، و من أشار [ 113 ] إليه فقد حدّه ، و من حدّه فقد عدّه ، و من قال فيم فقد ضمّنه ، و من قال على‏م فقد أخلى عنه . انتهى كلامه المقدّس على نبيّنا و عليه و آله السّلام و الاكرام و هذا الكلام الشريف مع وجازته متضمن لأكثر المسائل الالهيّة ببراهينها و لنشر إلى نبذ من بيان أسراره و انموزج من كنوز أنواره . ثمّ نشرحه في ذلك الفصل بما تيسّر له من فهم أسرار كلماته عليه السّلام . و للّه درّ من قال : انّ كلامه عليه السّلام دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوقين و كأنّ روح القدس نفث في روع الشريف الرّضي رضى اللّه عنه أن سمّى ما جمعه من كلامه عليه السّلام بنهج البلاغة . و هذا هو خصمه النّاصب و محاربه المعاند الجاحد و عدوّه و مبغضه الّذي يجتهد في وصمه و يلعنه على المنابر و أمر الناس بلعنه امام الفئة الباغية معاوية بن أبي سفيان قال لعبد اللّه بن أبي محجن الثقفي لما قال له انّي أتيتك من عند الغبيّ الجبان البخيل ابن أبي طالب ، فقال معاوية : للّه أنت أتدري ما قلت ؟ أمّا قولك : الغبيّ ، فو اللّه لو أنّ ألسن النّاس جمعت فجعلت لسانا واحدا لكفاها لسان علي و أمّا قولك : إنّه جبان ، فثكلتك امّك ، هل رأيت أحدا قطّ بارزه إلاّ قتله ؟ و أمّا قولك : إنّه بخيل فو اللّه لو كان له بيتان أحدهما من تبر و الآخر من تبن لأنفد تبره قبل تبنه . فقال الثقفي . فعلام تقاتله إذا ؟ قال : على دم عثمان ، و على هذا الخاتم الّذي من جعله في يده جازت طينته و اطعم عياله و ادّخر لأهله . فضحك الثقفي ثمّ لحق بعليّ فقال : يا أمير المؤمنين هب لي يدى بجرمى لا دنيا أصبت و لا آخرة . فضحك عليّ عليه السّلام ثمّ قال : أنت منها على رأس امرك و إنّما يأخذ اللّه العباد بأحد الأمرين « نقله ابن قتيبة الدينوري في الإمامة و السياسة » . و قال ابن حجر في صواعقه : أخرج أحمد أن رجلا سأل معاوية عن مسألة فقال : سل عنها عليّا فهو أعلم ، قال : جوابك فيها أحب إليّ من جواب عليّ قال : بئس ما قلت لقد كرهت رجلا كان رسول اللّه يغره بالعلم غرّا و لقد قال له : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي و كان عمر إذا أشكل عليه شي‏ء [ 114 ] أخذ منه إلى آخر ما قال . ثمّ إنّ قولنا و ما طعن فيه أحد ممّا شهد له المخالف و الموالف و إن كان الخصم ربما يشتمه و يسبّه كشتم الوطواط الشمس . و من الشواهد في ذلك ما كتبه المورخون و الرواة و المحدثون خلفا عن سلف ان اناسا لما اجتمعوا و تبادروا إلى ولاية الأمر و اتفق لأبي بكر ما اتفق و بدر الطلقاء بالعقد للرجل خوفا من إدراك عليّ عليه السّلام الأمر لم يجدوا فيه عليه السّلام مطعنا و لا مغمزا إلاّ عابوه بالدّعابة فاستمسكوا بها في منعه عليه السّلام عن الخلافة و ممّن أتى بما قلنا الفاضل الشّارح ابن أبي الحديد المعتزلي في الموضعين من مقدمة شرحه على نهج البلاغة حيث قال في سجاحة اخلاقه عليه السّلام ( ص 6 ج 1 طبع الطهران 1304 ) : و أمّا سجاحة الأخلاق و بشر الوجه و طلاقة المحيّا و التّبسم فهو المضروب به المثل فيه حتّى عابه بذلك اعداؤه قال عمرو بن العاص لأهل الشام : انّه ذو دعابة و قال عليّ عليه السّلام في ذاك : عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام ان فيّ دعابة و اني امرؤ تلعابة اعافس و امارس ، و عمرو بن العاص انّما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله لما عزم لاستخلافه : للّه أبوك لو لا دعابة فيك ، إلاّ ان عمر اقتصر عليها و عمرا زاد فيها و سمجها . ثمّ قال ( ص 11 منه ) : و أمير المؤمنين عليه السّلام كان أشجع النّاس و أعظمهم اراقة للدم و أزهدهم و أبعد النّاس عن ملاذ الدّنيا و أكثرهم وعظا و تذكيرا بأيام اللّه و مثلاته و أشدّهم اجتهادا في العبادة و ادابا لنفسه في المعاملة و كان مع ذلك ألطف العالم أخلاقا و أسفرهم وجها و أكثرهم بشرا و أوفاهم هشاشة و بشاشة و أبعدهم عن انقباض موحش أو خلق نافر أو تجهّم مباعد أو غلظة و فظاظة تنفر معهما نفس أو يتكدّر معهما قلب حتّى عيب بالدعابة و لما لم يجدوا فيه مغمزا و لا مطعنا تعلقوا بها و اعتمدوا في التنفير عليها . مصراع : و تلك شكاة طاهر عنك عارها . انتهى ما اردنا من نقل كلامه . [ 115 ] الاحاديث و الآيات في على عليه السّلام بعد الصفح عن الآثار الباقية عن عليّ عليه السّلام الدالة على علوّ رتبته و رفعة منزلته بحيث لم يسبقه الأوّلون و لا يدركه الآخرون علما و حكمة و زهدا و معرفة باللّه ، نجد روايات متواترة متظافرة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله منقولة من جوامع الفريقين مما لا تحصى كثرة و كذا آيات كثيرة قرآنية في أنّه عليه السّلام خليفة رسول اللّه بلا فصل و وصيّه و أخوه و انه أفضل من غيره و اعلم الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و باب مدينة العلم و أنّه من رسول اللّه بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعده و أنّه قاضي دينه صلّى اللّه عليه و آله « بكسر الدال » و أنّه وليّ كلّ مؤمن و مؤمنة من بعده صلّى اللّه عليه و آله و انّه نفس رسول اللّه و أن اللّه أذهب عنه الرجس و طهره تطهيرا و غيرها ممّا دوّنت لها و لضبط طرقها و اسانيدها كتب مفصلة عليحدة ملأت الآفاق فهو عليه السّلام عيش العلم و دعامة الاسلام الإمام الثانى و الثالث سبطا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ريحانتاه و سيّدا شباب أهل الجنّة الحسن و الحسين سلام اللّه عليهما . قال ابن الأثير في اسد الغابة في معرفة الصحابة و كذا في كثير من كتب جوامع الفريقين و التفاسير العديدة بالأسانيد الكثيرة و الطرق المتظافرة : نزلت هذه الآية على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله « إنّما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيراً » في بيت امّ سلمة فدعا النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فاطمة و حسنا و حسينا فجلّلهم بكساء و عليّ خلف ظهره ثمّ قال : هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا قالت امّ سلمة : و أنا معهم يا رسول اللّه ؟ قال : أنت على مكانك أنت إلى خير . ثمّ قال ابن الأثير : بإسناده عن زيد بن أرقم قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أحدهما أعظم من الآخر كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض و عترتي أهل بيتي و لن يتفرقا حتّى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما . و فيه عن البراء قال : رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله واضعا الحسن بن عليّ على عاتقه و هو يقول : اللّهم إنّي احبّه فأحبّه . [ 116 ] و فيه عن يعليّ بن مرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : حسين منّي و أنا من حسين أحبّ اللّه من أحبّ حسينا حسين سبط من الأسباط . و فيه ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سمّي الحسن و الحسين و المحسن بأسماء ولد هارون شبر و شبير و مشبر . أقول : في هذا الحديث إشارة إلى قوله صلّى اللّه عليه و آله فيه عليه السّلام أنت منّي بمنزلة هارون من موسى . و روى الشيعة عنه صلّى اللّه عليه و آله متواترا : انه قال للحسين عليه السّلام : هذا ابني إمام ابن امام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم . و الأحاديث المنقولة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله من الفريقين مشتركة فيهما و منفردة في كلّ واحد منها الدالّة على امامتها و فضلهما على غيرهما و انّهما على الحقّ حيث دارا و دار مما لا تحصى كثرة . الإمام الرابع هو سيّد الساجدين و زين العابدين و قدوة السالكين و الزاهدين امام الثقلين ذو الثّفنات أبو الحسن عليّ بن الحسين صلوات اللّه عليهما خلف عليه السّلام كتابا جذب عقول الحكماء المتألهين إلى دقائق حقائقه و شحذ افكار العلماء الشامخين في درك أسرار لطائفه فغاصوا في بحار معانيه لاقتناء درره و شمّروا عن ساق الهمة لاجتناء ثمره فنالتهم العائدة من تلك المائدة الالهية بقدر الوسع و القابليّة ألا و هو زبور آل محمّد و انجيل أهل البيت الصحيفة الكاملة السجاديّة . أ رأيت هل تيسّر لأحد من العلماء المتبحرين في الفنون العديدة أن يحذو حذوه عليه السّلام في أداء تلك المعاني الجزيلة بتلك العبارات الوجيزة الجميلة و هل تجد لأسلافنا الماضين من غير بيت الآل من نسج المعاني بالألفاظ على ذلك المنوال ؟ و لعمرى و ما عمرى عليّ بهيّن لواعيد عبد الحميد و عوضد بابن العميد على أن يأتي بمثل دعاء منها لرأيت أنه لا يلوم إلاّ نفسه و لا يروم إلاّ رمسه . و للّه درّ الحكيم البارع و العالم الجامع المتضلّع في الفنون العلمية صاحب [ 117 ] الكتب القيمة صدر الدين المدني عليّ بن أحمد نظام الدين الحسيني الحسني حيث قال في مقدمة شرحه على صحيفة سيّد الساجدين الموسوم برياض السالكين : و اعلم أن هذه الصحيفة الشريفة عليها مسحة من العلم الالهي و فيها عبقة من الكلام النبوي كيف لا و هي قبس من نور مشكاة الرسالة و نفحة من شميم رياض الإمامة حتّى قال بعض العارفين : إنّها تجري مجري التنزيلات السماوية و تسير مسير الصحف اللوحيّة و العرشيّة لما اشتملت عليه من أنوار حقائق المعرفة و ثمار حدائق الحكمة و كان اخيار العلماء وجها بذ القدماء من السلف الصالح يلقبونها بزبور آل محمّد و انجيل أهل البيت ، قال الشيخ الجليل محمّد بن عليّ بن شهر آشوب في معالم العلماء في ترجمة المتوكل بن عمير : روى عن يحيى بن زيد بن عليّ عليه السّلام دعاء الصحيفة و تلقب بزبور آل محمّد . ثمّ قال : و أمّا بلاغة بيانها فعندها تسجد سحرة الكلام و تذعن بالعجز عنها مدارة الأعلام و تعترف بأن النبوّة غير الكهانة و لا يستوى الحقّ و الباطل في المكانة و من حام حول سمائها بغاسق فكره الواقب رمي من رجوم الخذلان بشهاب ثاقب حكى ابن شهر آشوب في مناقب آل أبي طالب عليه السّلام ان بعض البلغاء بالبصرة ذكرت عنده الصحيفة الكاملة فقال : خذوا عنّي حتّى املى عليكم مثلها فأخذ القلم و أطرق رأسه فما رفعه حتّى مات ، و لعمرى لقد رام شططا فنال سخطا . انتهى ما اردنا من نقل كلامه . « كلام طنطاوى صاحب التفسير في الصحيفة السجادية » قال بعض علمائنا المعاصرين في مقدمته على صحيفة سيّد الساجدين ( ص كح طبع طهران عاصمة ايران 1361 ه ) : و إنّى في سنة 1353 ه بعثت نسخة من الصحيفة الشريفة إلى العلامة المعاصر الشيخ جوهرى طنطاوى صاحب التفسير المعروف مفتى الاسكندريّة ليطالعها فكتب إلىّ من القاهرة وصول الصحيفة و شكر لى على هذه الهدية السنيّة و أطرى في مدحها و الثناء عليها إلى أن قال : و من الشقاء انّا إلى الآن لم نقف على هذا الأثر القيّم الخالد من مواريث النّبوّة و أهل البيت و إنّي كلّما تأملتها رأيتها فوق كلام المخلوق و دون كلام الخالق إلى آخر ما قال : [ 118 ] ثمّ سأل عنى هل شرحها أحد من علماء الاسلام فكتبت اليه أسامى من شرحه ممن كنت أعلم به و قدمت لسماحته رياض السالكين للسيّد عليخان و كتب في جواب وصوله إنّى مصمّم و مشمّر الذيل على أن أكتب شرحا على هذه الصحيفة العزيزة . انتهى . « كلام محيى الدين الاعرابى ( او المغربى ) فيه عليه السّلام » قال في المناقب : صلوات اللّه و ملائكته و حملة عرشه و جميع خلقه من أرضه و سمائه على آدم أهل البيت ، المنزّه عن كيت و ما كيت ، روح جسد الإمامة ، شمس الشهامة ، مضمون كتاب الابداع ، حلّ تعمية الاختراع سرّ اللّه في الوجود ، إنسان عين الشهود ، خازن كنوز الغيب مطلع نور الإيمان كاشف مستور العرفان ، الحجة القاطعة ، و الدرة اللامعة ، ثمرة شجرة طوبى القدسيّة ، ازل الغيب و أبد الشهادة ، السرّ الكلّ في سرّ العبادة ، وتد الأوتاد و زين العبّاد ، إمام العالمين ، و مجمع البحرين ، زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام . « كلام محمد بن طلحة الشافعي فيه عليه السّلام » هذا زين العابدين و قدوة الزاهدين و سيّد المتقين و امام المؤمنين ، شمته يشهد له انّه من سلالة رسول اللّه ، و سمته يثبت مقام قربة من اللّه زلفى ، و ثفناته يسجل بكثرة صلاته و تهجده ، و اعراضه عن متاع الدّنيا ينطق بزهده ، درت له أخلاق التقوى فيعوقها ، و اشرقت لربه أنوار التاييد فاهتدى بها ، و ألقته أوراد العبادة فانس بصحبتها ، و خالفته وظائف الطاعة فتحلى بحليتها ، طالما اتخذ الليل مطيّة ركبها لقطع طريق الآخرة ، و ظماء هواء حرّ دليلا استرشد به في مفازة المسافرة ، و له من الكرامات و خوارق العادات ما شوهد بالأعين الباصرة ، و ثبت بالآثار المتواترة ، و شهد له أنّه من ملوك الآخرة . قال أحمد بن خلّكان في وفيات الأعيان و أنباء أبناء الزمان في ترجمته عليه السّلام : أبو الحسن علىّ بن الحسين بن عليّ بن أبيطالب عليهم السّلام المعروف بزين العابدين و يقال له : علىّ الأصغر و ليس للحسين عقب إلاّ من ولد زين العابدين هذا و هو أحد الأئمة [ 119 ] الاثنا عشر و من سادات التابعين ، قال الزهرى : ما رأيت قرشيا أفضل منه ، و كان يقال لزين العابدين عليه السّلام ابن الخيرتين لقوله صلّى اللّه عليه و آله : للّه تعالى من عباده خيرتان فخيرته من العرب قريش و من العجم فارس . و ذكر أبو القاسم الزمخشرى في كتاب ربيع الأبرار أن الصحابة لمّا أتوا المدينة بسبى فارس في خلافة عمر بن الخطّاب كان فيهم ثلاث بنات ليزدجرد أيضا فباعوا السبايا و أمر عمر ببيع بنات يزدجرد فقال له عليّ بن أبيطالب عليه السّلام : ان بنات الملوك لا يعاملن معاملة كغيرهنّ من بنات السوقة ، فقال : كيف الطريق إلى العمل معهن ؟ قال : يقوّمن و مهما بلغ من ثمنهنّ قام به من يختارهنّ فقوّمن فأخذهنّ عليّ بن أبيطالب عليه السّلام فدفع واحدة لعبد اللّه بن عمر و الأخرى لولده الحسين و الأخرى لمحمّد بن أبي بكر فأولد عبد اللّه أمته ولده سالما و أولد الحسين أمته زين العابدين عليه السّلام و اولد محمّد أمته القاسم فهؤلاء الثلاثة بنو خالة و امّهاتهم بنات يزدجرد . ثمّ قال : و حكى المبرّد في كتاب الكامل ما مثاله يروى عن رجل من قريش لم يسمّ لنا قال : كنت اجالس سعيد بن المسيّب فقال لي يوما : من أخوالك ؟ فقلت : امي فتاة فكأنّي نقصت في عينه فامهلت حتّى دخل سالم بن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب فلمّا خرج من عنده قلت : يا عم من هذا ؟ فقال : يا سبحان اللّه العظيم أتجهل مثل هذا هذا من قومك هذا سالم بن عبد اللّه بن عمر ، قلت : فمن امّه ؟ فقال فتاة ، قال : ثمّ أتاه القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصديق فجلس عنده ثمّ نهض قلت : يا عمّ من هذا ؟ قال : أتجهل من أهلك مثله ما أعجب هذا هذا القاسم بن محمّد ابن أبي بكر قلت : فمن امّه قال : فتاة فامهلت شيئا حتّى جاءه عليّ بن الحسين ابن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام فسلم عليه ثمّ نهض قلت : يا عمّ من هذا فقال : هذا الّذى لا يسع مسلما أن يجهله هذا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبيطالب عليهم السّلام فقلت : من امّه ؟ فقال : فتاة فقلت : يا عم رأيتني نقصت من عينك حين قلت لك : امّي فتاة أفما بالي بهؤلاء اسوة قال فجلّلت في عينه جدّا . ثمّ قال : و كان زين العابدين كثير البرّ بامّه حتّى قيل له : إنّك من أبرّ [ 120 ] النّاس بامّك و لسنا نراك تأكل معها في صحفة فقال : أخاف أن تسبق يدى إلى ما سبقت اليه عينها فأكون قد عققتها . إلى أن قال : و فضائل زين العابدين و مناقبه أكثر من أن تحصر . و كانت ولادته يوم الجمعة في بعض شهور سنة 38 للهجرة و توفي سنة 94 و قيل 99 و قيل 92 للهجرة بالمدينة و دفن في البقيع في قبر عمه الحسن بن عليّ عليهما السّلام في القبة الّتي فيها قبر العبّاس رضي اللّه عنه . ثمّ إنّ لفارس ميدان الشعر سحبان عصره أبي فراس همام بن غالب بن الصعصعة الملقب بالفرزدق التميمي المجاشعي رحمة اللّه عليه في مدحه عليه السّلام قصيدة غرّاء بلغت في جودة ألفاظها و عذوبة معانيها غاية تستشهد بأبياتها الأدباء و الحريّ فيها أن يقال : إن من الشعر لحكمة و ان من الكلام لسحرا ، أشار فيها إلى طائفة من علوّ رتبته عليه السّلام و سموّ درجته و شر ذمة من منزلة شأنه و مكانة أمره في واقعة اقتضت ذلك كما نشير إليها ، و أتى ببعض ابياتها أبو تمام حبيب بن اوس الطائي في كتابه المعروف بالحماسة ( الحماسة 708 ) الّتي دلّت على غزارة فضله و اتقان معرفته بحسن اختياره معنونا بقوله : و قال الفرزدق يمدح عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبيطالب صلوات اللّه عليهم ، مبتدءا بقول الفرزدق : إذا رأته قريش قال قائلها ، و بعده : هذا الّذي تعرف البطحاء ، و بعده : يكاد يمسكه ، و بعده : أى القبائل ليست ، و بعده : بكفه خيزران ، و بعده يغضى حياء ، و ختم به . و كذا أتى بعشرين بيتا منها أبو الفرج الاصبهاني في الأغاني في ترجمة الفرزدق ( الجزء التاسع عشر ص 40 طبع ساسى ) و كذا أتى بعدة أبيات منها الشريف المرتضى علم الهدى في أماليه المعروف بغرر الفوائد و درر القلائد ، و كذا ذكر سبعا و عشرين منها أحمد بن خلّكان في وفيات الأعيان عند ترجمة الفرزدق ، و كذا غيرهم من كبار المؤلفين و اعاظم المورخين و لا حاجة إلى ذكرهم لأنّ القضية بلغت في وضوحها كالشمس في رابعة النّهار و يعدّ من متواترات الأخبار و الآثار . و أمّا تلك الواقعة الموعودة فقال أبو الفرج الاصبهاني في الأغاني : اخبرنا عبد اللّه بن عليّ بن الحسن الهاشمي عن حيّان بن عليّ العنزي عن مجالد عن [ 121 ] الشعبي قال : حجّ الفرزدق بعد ما كبر و قد أتت له سبعون سنة و كان هشام بن عبد الملك قد حجّ في ذلك العام فرأى علىّ بن الحسين في غمار النّاس في الطواف فقال : من هذا الشاب الّذي تبرق أسرة وجهه كأنّه مرآة صينيّة تتراءى فيها عذارى الحىّ وجوهها ؟ فقالوا : هذا علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب صلوات اللّه عليهم فقال الفرزدق : هذا الّذي تعرف البطحاء وطأته : إلى آخر ما أتى بها ، و قال بعد نقل القصيدة : فغضب هشام فحبسه بين مكّة و المدينة فقال : أتحبسنى بين المدينة و الّتى إليها قلوب النّاس يهوى منيبها تقلّب رأسا لم يكن رأس سيد و عينا له حولاء باد عيوبها فبلغ شعره هشاما فوجّه فأطلقه . و قال في ينابيع المودّة : و كان هشام أحول . و قال ابن خلّكان في وفيات الأعيان في ترجمة الفرزدق : و تنسب إليه مكرمة يرجى له بها الجنّة و هى أنّه لما حجّ هشام بن عبد الملك في أيّام أبيه فطاف و جهد أن يصل إلى الحجر ليستلمه فلم يقدر لكثرة الزحام فنصب له منبر و جلس عليه ينظر إلى النّاس و معه جماعة من أعيان أهل الشام فبينما هو كذلك إذا أقبل زين العابدين علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب رضى اللّه عنهم و كان من أحسن النّاس وجها و أطيبهم أرجا فطاف بالبيت فلما انتهى إلى الحجر تنحى له النّاس حتّى استلم ، فقال رجل من أهل الشام : من هذا الذي هابه النّاس هذه الهيبة ؟ فقال هشام : لا أعرفه مخافة أن يرغب فيه أهل الشام فيملكون ، و كان الفرزدق حاضرا فقال : أنا أعرفه ، فقال الشامى : من هو يا أبا فراس ؟ فقال : هذا الذي تعرف البطحاء إلى آخر ما ذكر من ابيات تلك القصيدة . و نحن نذكر القصيدة بتمامها تيمّنا بها و نشرح بعض ما يحتاج إليه بالتفسير و السؤال : يا سائلى أين حلّ الجود و الكرم عندى بيان إذا طلا به قدموا [ 122 ] هذا الذى تعرف البطحاء وطأته و البيت يعرفه و الحلّ و الحرم 2 هذا ابن خير عباد اللّه كلّهم هذا التقى النقى الطاهر العلم هذا الذي أحمد المختار والده صلّى عليه إلهى ما جرى القلم 4 لو يعلم الركن من ذا جاء يلثمه لخرّ يلثم منه ما وطى القدم 5 هذا علىّ رسول اللّه والده أمست بنور هداه تهتدى الأمم 6 هذا الذى عمّه الطيار جعفر و المقتول حمزة ليث حبّه قسم 7 هذا ابن سيّدة النسوان فاطمة و ابن الوصى الذي في سيفه سقم 8 إذا رأته قريش قال قائلها إلى مكارم هذا ينتهى الكرم 9 ----------- ( 2 ) قال المرزوقى في شرحه : « هذا » يعني على بن الحسين بن على صلوات اللّه عليه « الذى تعرف البطحاء وطأته » من بين وطآت الناس إذا مشوا عليها و فيها . و البطحاء : أرض مكة المنبطحة ، و كذلك الأبطح و بيوت مكة التى هى للأشراف بالأبطح ، و التى هى في الروابى و الجبال للغرباء و أوساط الناس . انتهى و البيت بيت اللّه زاده اللّه شرفا . و الحرم حرمه و في كتاب الحج من التهذيب للشيخ الطوسى باسناده عن زرارة قال : سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول : حرم اللّه حرمه بريدا في بريد . و الحل ما جاوز الحرم . ----------- ( 4 ) لم يأت بهذا البيت أبو الفرج في الأغانى و ابن خلكان في وفيات الأعيان و كذا لم يذكر في كثير من النسخ و انما أتى به المجلسى في البحار و يوجد في بعض النسخ أيضا و هو قريب من البيت السادس الذى يوجد في النسخ غالبا فلا بعد أن يكون ملحقا بالقصيدة ----------- ( 5 ) و في نسخة : من قد جاء يلثمه . لثمه من بابى ضرب و علم : قبله . خر : انكب على الأرض . ----------- ( 6 ) الامم فاعل كلا الفعلين على سبيل التنازع . و في نسخة مجالس المؤمنين للقاضي تهتدى الظلم . اى امست الامم أو الظلم تهتدى بنور هداه . ----------- ( 8 ) في نسخة : في سيفه نقم . ----------- ( 9 ) قال المرزوقي في شرحه على الحماسة : فائدة إلى في قوله « إلى مكارم هذا » الانتهاء ، و الجملة في موضع المفعول لقال و المعنى ان الكريم إذا انتهى إلى درجة مكارم هذا وقف ، لانها الغاية السامية و المرتبة التى لا متجاوز منها إلى ما هو أعلى . [ 123 ] ينمى إلى ذروة العزّ الّتي قصرت عن نيلها عرب الاسلام و العجم 10 يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم 11 ----------- ( 10 ) في نسخة الاغانى : ينمى إلى ذروة الدين التى قصرت عنها الاكف و عن ادراكها القدم ينمى على صيغة المجهول يائى اى ينسب و يسند إلى ذروة العز . و الذروة بالضم و الكسر : اعلى الشي‏ء . عرب فاعل لقصرت و العجم عطف عليها . و تستعمل العرب مؤنثة على تأويل الأمة و القبيلة و الطائفة و نحوها كما يقال العرب العرباء و العاربة و العرب المستعربة و المتعربة . و العجم كالعرب . ----------- ( 11 ) ركن الحطيم مرفوع على انه فاعل يمسكه . و عرفان مضاف منصوب على انه مفعول له اى يكاد يمسكه ركن الحطيم لان عرف راحته . و الراحة هنا الكف جمعها الراح قال ابن جنى في التنبيه : يجوز في البيت اوجه : احدها نصب العرفان على انه مفعول له و رفع ركن الحطيم على انه فاعل يكاد ، أو فاعل يمسكه عرفان راحته لركن البيت و يجوز رفعهما جميعا أى يكاد يمسكه أن عرف راحته ركن الحطيم فيرفع العرفان بيكاد أو يمسكه و يرفع ركن الحطيم بانه العارف و إذا نصبت عرفان راحته على انه مفعول له كنت مخيرا في نصبه ان شئت بيكاد و ان شئت بيمسكه و لا يجوز نصب العرفان و الركن جميعا لئلا يبقى الفعل بلا فاعل . و الاستلام : تناول الحجر مشتق من السّلام بالكسر اى الحجر . و استلم الحجر لمسه اما بالقبلة أو باليد و لا يهمز لانه مأخوذ من السّلام و هو الحجر كما تقول استنوق الجمل و بعضهم يهمزه كما قال الجوهرى في الصحاح . و الحطيم : كعليم قال المرزوقى : الجدار الذى عليه ميزاب الكعبة فكانه حطم بعض حجره . أقول : هذا سهو من المرزوقى و الصواب أن الحطيم هو ما بين الحجر الأسود و باب الكعبة زادها اللّه شرفا و عظمة . و لا يخفى ان الاستلام هو لمس الحجر الأسود كما دريت و بين ذلك الركن الذى فيه الحجر الأسود و بين الجدار الذى عليه ميزاب الكعبة بون بعيد فالقول بان من جاء للاستلام يكاد يمسكه الجدار الذى عليه ميزاب الكعبة مع كثرة البعد . . . . . . . . . . بينهما و اختلاف جهتهما و عدم المناسبة بينهما ظاهر التهافت فبأى وجه يصح حمل الشعر عليه ؟ و لعل منشأ سهوه ظاهر عبارة الجوهرى في الصحاح حيث قال : قال ابن عباس : الحطيم الجدر يعنى جدار حجر الكعبة . و الحطيم و ان جاء في تفسيره و تعيينه من البيت وجوه و لكن أهل البيت أدرى بما في البيت ففي الكافى لثقة الاسلام الكليني قدس سره باسناده عن الحسن بن الجهم قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن افضل موضع في المسجد يصلّى فيه ؟ قال : الحطيم ما بين الحجر و باب البيت : قلت و الذى يلى ذلك في الفضل فذكر انه عند مقام إبراهيم صلّى اللّه عليه . الحديث . و في من لا يحضره الفقيه للصدوق رضوان اللّه عليه : قال الصادق عليه السّلام : ان تهيأ لك أن تصلّى صلواتك كلها الفرائض و غيرها عند الحطيم فافعل فانه أفضل بقعة على وجه الأرض و الحطيم ما بين باب البيت و الحجر الأسود و هو الموضع الذى فيه تاب اللّه على آدم . الحديث . و في النهاية الأثيرية : يحطمكم الناس أى يدوسونكم و يزدحمون عليكم و منه سمى حطيم مكة و هو ما بين الركن و الباب . فالمراد من البيت انه عليه السّلام ابن رسول اللّه ( ص ) الذى شرف به هذه المواضع فهى عارفة به و إذا جاء الى المستلم يكاد يتمسك به الركن تمييزا لراحته عن راحة غيره . و في البحار نقلا عن الخرائج : روى أن الحجاج بن يوسف لما خرب الكعبة بسبب مقاتلة عبد اللّه بن الزبير ثم عمروها فلما اعيد البيت و أرادوا أن ينصبوا الحجر الأسود فكلما نصبه عالم من علمائهم أوقاض من قضاتهم أو زاهد من زهادهم يتزلزل و يضطرب و لا يستقر الحجر في مكانه فجاءه على بن الحسين عليهما السّلام و أخذه من أيديهم و سمى اللّه ثمّ نصبه فاستقر في مكانه و كبر الناس و لقد الهم الفرزدق في قوله : يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم [ 124 ] و ليس قولك : من هذا ؟ بضائره . العرب تعرف من انكرت و العجم ----------- ( 12 ) و ليس قولك من هذا ؟ كما في الرواية الآتية المنقولة في البحار عن الاختصاص لما أراد هشام أن يصغر منه قال : من هو ؟ بضائره اى بضاره . و في الصحاح : ضاره يضوره . . . . . . . . . . و يضيره ضيرا و ضورا أى ضره ، قال الكسائي سمعت بعضهم يقول لا ينفعنى و لا يضورنى . العرب بضم الأول و سكون الثانى و العرب بفتحهما واحد و كذا العجم و العجم . [ 125 ] يغضى حياء و يغضى من مهابته فما يكلّم إلاّ حين يبتسم 13 في كفّه خيزران ريحه عبق من كف أروع في عرنينه شمم 14 ----------- ( 13 ) هذا البيت مذكور أيضا في جامع الشواهد ، يغضى الأولى على صيغة المعلوم و الثانى على المجهول من الاغضاء يقال : فلان أغضى عينه إذا طبق جفنيها حتى لا يبصر . قال المرزوقى : قوله « يغضى حياء » اى لحيائه يغض طرفه فهو في ملكته و كالمنخرل له ، و « يغضى من مهابته » اى و يغضى معه مهابة له ، فمن مهابته في موضع المفعول له ، كما أن قوله « حياء » انتصب لمثل ذلك و المفعول له لا يقام مقام الفاعل كما أن الحال و التمييز لا يقام واحد منهما مقام الفاعل ، ثم قال : فان قيل : إذا كان الأمر على هذا فأين الذى يرتفع بيغضى ؟ قلت : يقوم مقام فاعله المصدر كأنه قال : و يغضى الاغضاء من مهابته . و الدال على الاغضاء يغضى ، كما أنك إذا قلت : سير بزيد يومين لك أن تجعل القائم مقام الفاعل المصدر كأنه قيل : سير السير بزيد يومين و هو أحد الوجوه التى فيه فاعلمه . انتهى ما اردنا من نقل كلامه . و كذا في جامع الشواهد قال : يغضى بصيغة المجهول و نائب فاعله ضمير المصدر أى الاغضاء . أقول : لما كان الإغضاء ادناء الجفون فيغضى يدل في كلا الموضعين على مفعوله اعنى الطرف و لما كان من مهابته لا يقوم مقام نائب الفاعل لعدم صحة المعنى حينئذ فيدل هو أيضا على أن نائب الفاعل محذوف و لا يكون ذلك الطرف الأول لانه لا يصح أن يقال فلان أغضى طرفه من مهابته بل يغضى طرف غيره من مهابته . و الفاء في فما و يروى مكانه فلا للتعليل أيضا و يكلم بصيغة المجهول و ضميره يرجع اليه عليه السّلام فمعنى البيت هو عليه السّلام يغضى طرفه من حيائه و يغضى طرف الناس من مهابته و لاجل مهابته لا يقدر أحد ان يتكلم معه ( ع ) إلاّ حين يبتسم . ----------- ( 14 ) خيزران بفتح أوله و ضم ثالثه قال في الصحاح : اسم شجر و هو عروق القناة و الجمع الخيازر و الخيزران القصب . قال المرزوقى في شرح الحماسة : يعنى به المخصرة [ 126 ] يمسكها الملوك بأيديهم يتعبثون بها . في البحار : نقل كلام يناسب المقام فيه غرابة ، قال الزمخشرى في الفائق : على بن الحسين ( ع ) مدحه الفرزدق فقال : في كفه جهنى ريحه عبق ، من كف اروع في عرنينه شمم قال القتيبى : الجهنى : الخيزران و معرفتى هذه الكلمة عجيبة و ذلك ان رجلا من أصحاب الغريب سألنى عنه فلم أعرفه فلما أخذت من الليل مضجعى أتانى آت في المنام ألا أخبرته عن الجهنى قلت : لم أعرفه قال : هو الخيزران فسألته شاهدا فقال : هدية طريفة في طبق مجنة فهببت و أنا أكثر التعجب فلم ألبث إلاّ يسيرا حتى سمعت من ينشد : في كفه جهنى ، و كنت أعرفه في كفه خيزران ، انتهى . قال المرزوقى : قوله « ريحه عبق » إذا فتح الباء فمخرجه مخرج المصادر كأنه نفس الشي‏ء أو على حذف المضاف ، و الأصل ذات عبق ، و إذا كسرت فهو اسم الفاعل و معناه اللاصق بالشي‏ء لا يفارقه . يريد ان رائحته تبقى فهى تشم الدهر من كف اروع ، و هو الجميل الوجه . ثم قال : و الشمم : الطول . و العرنين : الأنف و ما ارتفع من الأرض و أول الشي‏ء و تجعل العرنين كناية عن الأشراف و السادة و إذا قرن الشمم بالعرنين او الأنف فالقصد إلى الكرم . لذلك قال حسان بن ثابت : بيض الوجوه كريمة أحسابهم شم الانوف من الطراز الأول انتهى ما قاله المرزوقى في شرح هذا البيت . أقول : جعل العرانين كناية عن الاشراف و السادة مما لا كلام فيه قال الشاعر : ان العرانين تلقاها محسدة و لا ترى للئام الناس حسادا و لكن الظاهر من قول الفرزدق « في عرنينه شمم » انه يصفه عليه السّلام بانه جميل الوجه ، حسن المحيا ، صحيح الخلقة أشم الانف اى أقنى الانف ضيق المنخرين ليس بأفطس فان الفطسة عيب و عاهة و الحجج الالهيّة سليمة عن العيوب و العاهات خلقا و دينا كما اشرنا اليه قبل . قال الجوهرى : الفطس بالتحريك : تطامن قصبة الأنف و انتشارها و الرجل أفطس و الاسم الفطسة لانه كالعاهة . و الشمم ارتفاع قصبة الأنف مع حسنها و استواء اعلاها و انتصاب [ 127 ] الارنبة او ورود الأرنبة و حسن استواء القصبة و ارتفاعها او أن يطول الأنف و يدق و تسيل روثته فان ورود الأرنبة و شم العرنين دليل النجابة و هذا مراد من قال : العرب انما ينجح بالشمم نفيا عن انفهم الفطس الذى يكون في الزنج . و جاء في وصف شمائل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما في السيرة الحلبية ( ص 371 ج 3 طبع مصر ) رواية انه ( ص ) دقيق العرنين له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله اشم و فسر الأشم في السيرة بقوله اى مرتفعا . و في الكافى لثقة الاسلام الكليني باسناده عن جابر قال : قلت لابى جعفر عليه السّلام : صف لى نبى اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، قال عليه السّلام : كان نبى اللّه ( ص ) ابيض مشرب بالحمرة إلى أن قال : يكاد أنفه إذا شرب أن يرد الماء ، الحديث و كنى باشراف أنفه ورود الماء عند شربه عن ستر رأسه المنخرين و ميله إلى قدام ( كما في الوافي ص 160 ج 2 ) و عن عدم كونه كانف الزنج . و في البحار للمجلسي رحمه اللّه ( ص 107 ج 11 الكمپانى ) نقلا عن مناقب ابن شهر آشوب في شمائل جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام : كان الصادق عليه السّلام ربع القامة أزهر الوجه حالك الشعر جعدا أشم الأنف . و في كتاب سرّ الأدب في مجارى كلام العرب المعروف بفقه اللغة تأليف أبى منصور عبد الملك بن محمد الثعالبى النيسابورى في الفصل السابع عشر في اوصاف الأنوف المحمودة و المذمومة : الشمم : ارتفاع قصبة الأنف مع استواء أعلاها . القنا : طول الأنف و دقة ارنبته و حدب في وسطه . الفطس : تطامن قصبته مع ضخم ارنبته . إلى آخر ما قال . و أما ما استشهد به المرزوقي من بيت الحسان فهو ما جوزه الشريف علم الهدى في أماليه ( في باب المعمرين في ترجمة ذى الاصبع العدوانى ) بعد ما احتمل ذلك المعنى الذى اخترناه . على ان الشم في بيت الحسان جمع اشم و الاشم كما في المعاجم : السيد ذو الانفة ، و لأحد أن يدعى ان الشم إذا قرن بالانف فالقصد إلى الكرم لا الشمم بالعرنين و ذلك لان الانف نسب اليه الحمية و الغضب و العزة و الذلة حتى قال الشاعر كما في مفردات الراغب : إذا غضبت تلك الأنوف لم أرضها و لم اطلب العتبى و لكن أزيدها و لذا قيل شمخ فلان بأنفه للمتكبر ، و ترب أنفه للذليل ، و أنف فلان من كذا بمعنى استنكف حتى قيل الانفة الحمية و لم ينقلوا للعرنين هذه المعانى مع أن مادته لا يحتملها فتأمل . [ 128 ] ينشقّ ثوب الدجى عن نور غرّته كالشمس تنجاب عن اشراقها الظلم 15 ما قال لا قطّ إلاّ في تشهده لو لا التشهد كانت لاؤه نعم مشتقة من رسول اللّه نبعته طابت مغارسه و الخيم و الشيم 17 حمّال أثقال أقوام إذا فدحوا حلو الشمائل تحلو عنده نعم 18 إن قال قال بما تهوى جميعهم و إن تكلم يوما زانه الكلم 19 ----------- ( 15 ) في كثير من النسخ : ينشق نور الهدى عن نور غرته و في البحار : ينجاب نور الهدى ، و ما اخترناه مطابق الاغانى يقال : انجاب الثوب إذا انشق و انجابت السحابة إذا انكشفت و كذلك الظلم في البيت . ----------- ( 17 ) نبعته اى أصله ، يقال فلان من نبعة كريمة اى من أصل كريم . و في عدة النسخ : طابت عناصره . و المختار موافق للأغانى و المغارس واحد المغرس كالمجلس اى موضع الغرس . و الخيم بالكسر و سكون الثانى : الطبيعة و السجية . و الشيم بكسر الأول و فتح الثانى جمع الشيمة بالكسر فالسكون : الطبيعة و الخلق أيضا . ----------- ( 18 ) في الكافى كما في ص 176 من الجزء الثانى من الوافى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إلى أن قال : و كان على بن الحسين عليهما السّلام يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب فيها الصرر من الدنانير و الدراهم حتى يأتى بابا بابا فيقرعه ثم ينيل من يخرج اليه فلما مات على بن الحسين عليهما السّلام فقدوا ذاك فعلموا أن عليا عليه السّلام كان يفعله و في الأغانى : انه كان على بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به . و الروايات في ذلك أكثر من أن تحصى . ----------- ( 19 ) في بعض النسخ : بما يحوى جميعهم . [ 129 ] هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجدّه أنبياء اللّه قد ختموا اللّه شرّفه قدما و عظّمه جرى بذاك له في لوحه القلم 21 من جدّه دان فضل الأنبياء له و فضل امّته دانت له الأمم عمّ البريّة بالاحسان و انقشعت عنها العماية و الإملاق و الظلم كلتا يديه غياث عمّ نفعهما يستو كفان و لا يعروهما عدم سهل الخليقة لا تخشى بوادره يزينه خصلتان الحلم و الكرم 25 لا يخلف الوعد ميمون نقيبته رحب الفناء أريب حين يعترم 26 من معشر حبهم دين و بغضهم كفر ، و قربهم منجى و معتصم يستدفع السوء و البلوى بحبّهم و يستزاد به الاحسان و النعم 28 مقدم بعد ذكر اللّه ذكرهم في كل بدء و مختوم به الكلم 29 إن عدّ أهل التقى كانوا أئمتهم أو قيل من خير أهل الأرض ؟ قيل هم 30 لا يستطيع جواد بعد جودهم و لا يدانيهم قوم و إن كرموا 31 هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت و الأسد أسد الشرى و البأس محتدم 32 ----------- ( 21 ) في نسخة : اللّه فضله قدما و شرفه ----------- ( 25 ) في وفيات الأعيان : يزينه اثنان حسن الخلق و الشيم . ----------- ( 26 ) في وفيات الأعيان : مأمون نقيبته . و هذا من تصحيف النساخ و الصواب ما اخترناه و في صحاح اللغة للجوهرى : النقيبة : النفس يقال فلان ميمون النقيبة إذا كان مبارك النفس . انتهى . و قال آخر : و انى لميمون النقيبة منجح و ان كان مطلوبى سنا الشمس في البعد ----------- ( 28 ) في الاغانى : يستدفع الشر و البلوى بحبهم و يسترب به الاحسان و في نسخة و يسترق به الاحسان . ----------- ( 29 ) في نسخة : في كل بر ، و في اخرى : في كل فرض و المختار مطابق الاغانى و الوفيات . ----------- ( 30 ) في نسخة : من خير خلق اللّه . ----------- ( 31 ) في نسخ : بعد غايتهم . ----------- ( 32 ) الأزمة بالفتح : الشدة و الضيقة و القحط . [ 130 ] يأبي لهم أن يحلّ الذمّ ساحتهم خيم كريم و أيد بالندى ديم 33 لا يقبض العسر بسطا من أكفّهم سيّان ذلك إن أثروا و إن عدموا 34 أيّ القبائل ليست في رقابهم لأوّليّة هذا أوله نعم 35 من يعرف اللّه يعرف أوّليّته فالدّين من بيت هذا ناله الأمم 36 بيوتهم في قريش يستضاء بها في النائبات و عند الحكم إن حكموا فجدّه من قريش في ارومتها محمّد و عليّ بعده علم بدر له شاهد و الشعب من احد و الخندقان و يوم الفتح قد علموا 39 و خيبر و حنين يشهدان له و في قريظة يوم صيلم قتم مواطن قد علت في كلّ نائبة على الصحابة لم اكتم كما كتموا ----------- ( 33 ) الديم كالشيم جمع الديمة كالشيمة : و هى مطر تدوم أياما . و في نسخة : بالندى هضم . ----------- ( 34 ) أثروا : مشتقة من الثروة . ----------- ( 35 ) في بعض النسخ : أى الخلائق ليست ، لاولوية هذا . أتى بهذا البيت في الحماسة و قال المرزوقي في شرحه : يريد أن طوائف الناس مغمورون بنعمه أو نعم سلفه يعنى النبى و الوصى عليهما السّلام لانهم اهتدوا بدعائهم و فارقوا الهلك و الضلالة بارشادهم و دلالتهم فلا قبيل إلاّ و رقابهم قد شغلت بما قدمت من مننهم ، و ذممهم قد رهنت بما حملت من عوارفهم . ----------- ( 36 ) في نسخة : أولوية ذا ، و في أخرى : و الدين . ----------- ( 39 ) ذكر ابن هشام في السيرة اشعارا من الذين قالوا في غزوة الخندق على هيئة التثنية و الجمع منها قوله ( ص 254 ج 2 طبع 1375 ه ) : و قال ضرار بن الخطاب بن مرداس في يوم الخندق : كانهم إذا صالوا وصلنا بباب الخندقين مصافحونا و هذا البيت في قصيدة له . و منها ما قاله كعب في الرد على ضرار في قصيدة هذا البيت منها ( ص 256 ) : بباب الخندقين كأن أسدا شوابكهن يحمين العرينا و منها ما قال ابن الزبعرى من قصيدة آخرها ( ص 258 ) : [ 131 ] لو لا الخنادق غادروا من جمعهم قتلى لطير سغب و ذئاب و لا يخفى أن المراد بالخندقين و الخنادق في اشعار السيرة الخندق و التثنية و الجمع باعتبار جهتى الباب و الاطراف . و كذا مراد الفرزدق في البيت نعم لو لم يكن في البيت التالى قوله : و في قريظة يوم ، لامكن أن يقال ان المراد بالخندقين غزوة الخندق و غزوة بنى قريظة لان بعد غزوة الخندق اقبل غزوة بنى قريظة بلا تراخ و ان المسلمين لما ظفروا عليهم و حاصروهم كما في السيرة الهشامية ( ص 240 ج 2 ) حبسهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم بالمدينة في دار بنت الحارث امرأة من بنى النجار ثم خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ثم بعث اليهم فضرب اعناقهم في تلك الخنادق يخرج بهم اليه أرسالا و انزل اللّه تعالى ( ص 245 ) في أمر الخندق و أمر بنى قريظة من القرآن القصة في سورة الاحزاب : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم اذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً و جنودا لم تروها الآية و الجنود قريش و غطفان و بنو قريظة و كانت الجنود التى أرسل اللّه عليهم مع الريح الملائكة . يقول اللّه اذ جاءوكم من فوقكم و من اسفل منكم . الآية . فالذين جاءوهم من فوقهم بنو قريظة و الذين جاءوهم من اسفل منهم قريش و غطفان إلى آخر ما قال . فليتأمل . ثم ان العارف الجامى نظم تلك الواقعة و ترجم تلك القصيدة في الدفتر الأول من سلسلة الذهب بالفارسية و أجاد . و بعض تلك الأبيات : پور عبد الملك بنام هشام در حرم بود با اهالى شام ميزد اندر طواف كعبه قدم ليكن از ازدحام أهل حرم استلام حجر ندادش دست بهر نظاره گوشه بنشست ناگهان نخبه نبى و ولى زين عباد بن حسين على در كساء بها و حله نور بر حريم حرم فكند عبور هر طرف ميگذشت بهر طواف در صف خلق مى‏فتاد شكاف زد قدم بهر استلام حجر گشت خالى ز خلق راه و گذر شامئى كرد از هشام سؤال كيست اين با چنين جمال و جلال ؟ از جهالت در آن تعلل كرد وز شناسائيش تجاهل كرد [ 132 ] گفت نشناسمش ندانم كيست مدنى يا يمانى يا مكى است بو فراس آن سخنور نادر بود در جمع شاميان حاضر گفت من ميشناسمش نيكو زو چه پرسى بسوى من كن رو آنكس است اين كه مكه و بطحا زمزم و بوقبيس و خيف و منا حرم و حل و بيت و ركن حطيم ناودان و مقام ابراهيم مروه مسعى صفا حجر عرفات طيبه و كوفه كربلا و فرات هر يك آمد بقدر او عارف بر علو مقام او واقف قرة العين سيد الشهدا است غنچه شاخ دوحه زهرا است ميوه باغ احمد مختار لاله راغ حيدر كرار إلى أن قال : چون هشام آن قصيده غرا كه فرزدق همى نمود انشا كرد از آغاز تا بآخر گوش خونش اندر رگ از غضب زد جوش بر فرزدق گرفت حالى دق همچو بر مرغ خوش نوا عقعق ساخت بر چشم شاميان خوارش حبس فرمود بهر آن كارش اگرش چشم راست بين بودى راست كردار و راست دين بودى دست بيداد ظلم نگشادى جاى آن حبس خلعتش دادى اى بسا راست بين كه شد مبدل از حسد حس او شده أحول آنكه احول بود ز اول كار چون شود حالش از حسد هشدار أقول : في البيت الأخير و الذى قبله بسطرين اشارة إلى أن هشام كان أحول كما قلنا آنفا . ثم أخذ في نظم ما أهدى السجاد عليه السّلام إلى فرزدق و ما جرى بينهما ثم أردفه بمدح فرزدق و ختم القصيدة به فقال : مستعد شد رضاى رحمان را مستحق شد رياض رضوان را ز آنكه نزديك حاكم جائر كرد حق را براى حق ظاهر أقول : البيت الأخير اشارة إلى الخبر المروى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم : أفضل الأعمال كلمة حق يقولها بين يدى امام جائر . [ 133 ] و قال ابن خلّكان : لمّا سمع هشام هذه القصيدة غضب و حبس الفرزدق و أنفذ له زين العابدين عليه السّلام اثنى عشر الف درهما فردّها و قال : مدحته للّه تعالى لا للعطاء فقال : إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئا لا نستيعده فقبلها . و في البحار نقلا عن الاختصاص بإسناده : عليّ بن الحسن بن يوسف عن محمّد بن جعفر العلوى ، عن الحسن بن محمّد بن جمهور ، عن أبي عثمان المازني ، عن كيسان ، عن جويرية بن أسماء عن هشام بن عبد الأعلى ، عن فرعان و كان من رواة الفرزدق قال : حججت سنة مع عبد الملك بن مروان فنظر إلى عليّ بن الحسين ابن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام فاراد أن يصغر منه فقال : من هو ؟ فقال الفرزدق : فقلت على البديهة القصيدة المعروفة : هذا ابن خير عباد اللّه كلّهم ، هذا التقي النقي الطاهر العلم ، حتّى أتمها و كان عبد الملك يصله في كلّ سنة بألف دينار فحرمه تلك السنة فشكى ذلك إلى عليّ بن الحسين عليهما السّلام و سأله أن يكلمه فقال : أنا أصلك من مالي بمثل الّذي كان يصلك به عبد الملك وصنّي عن كلامه ، فقال : و اللّه يا ابن رسول اللّه لا رزأتك شيئا و ثواب اللّه عزّ و جلّ في الآجل أحبّ إلىّ من ثواب الدّنيا في العاجل ، فاتصل ذلك بمعاوية بن عبد اللّه بن جعفر الطيار و كان أحد سمحاء بني هاشم لفضل عنصره و أحد ادبائها و ظرفائها فقال له : يا أبا فراس كم تقدر الّذي بقي من عمرك ؟ قال : قدر عشرين سنة قال : فهذه عشرون ألف دينار اعطيتكها من مالي و اعف أبا محمّد أعزّه اللّه عن المسألة في أمرك فقال : لقد لقيت أبا محمّد و بذل لي ماله فأعلمته أني أخرت ثواب ذلك لأجر الآخرة . انتهى . بيان كان عليّ بن الحسين عليه السّلام يكنى بأبي محمّد أيضا . ثمّ إن البقر تشابه على الراوى حيث أخذ عبد الملك بن مروان مكان هشام بن عبد الملك . « الإمام الخامس » أبو جعفر محمّد بن زين العابدين الملقب بالباقر . قال ابن خلّكان في تاريخه و كان الباقر عالما سيّدا كبيرا و انّما قيل له الباقر لأنه تبقر في العلم أى توسع [ 134 ] و التبقر التوسع و فيه يقول الشاعر : يا باقر العلم لأهل التقى و خير من لبيّ على الأجبل أقول : ذلك الشاعر القرظى . و قال ابن الحجر في الصواعق المحرقة : أبو جعفر محمّد الباقر سمى بذلك من بقر الأرض أى شقها و أثار مخبئاتها و مكامنها فلذلك هو أظهر من مخبئات كنوز المعارف و حقائق الأحكام و اللّطائف ما لا يخفى إلاّ على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية و السريرة و من ثم قيل : هو باقر العلم و جامعه و شاهر علمه و رافعه صفا قلبه و زكى علمه و عمله و طهرت نفسه و شرفت خلقه و عمرت أوقاته بطاعة اللّه و له من الرسوخ في مقامات العارفين ما يكلّ عنه ألسنة الواصفين و له كلمات كثيرة في السلوك و المعارف لا تحتملها هذه العجالة . قال المفيد في الارشاد : و لم يظهر عن أحد من ولد الحسن و الحسين عليهما السّلام من علم الدّين و الآثار و السنة و علم القرآن و السيرة و فنون الآداب ما ظهر عن أبي جعفر عليه السّلام و روى عنه معالم الدين بقايا الصحابة و وجوه التابعين و رؤساء فقهاء المسلمين و صار بالفضل به علما لأهله تضرب به الأمثال و تسير بوصفه الآثار و الاشعار و فيه يقول القرظي : يا باقر العلم ، البيت . و قال مالك بن أعين الجهني يمدحه عليه السّلام . إذا طلب الناس علم القرآن كانت قريش عليه عيالا و إن قيل أين ابن بنت النّبيّ نلت بداك فروعا طوالا نجوم تهلّل للمدلجين جبال تورث علما جبالا و روى بإسناده عن الشريف أبي محمّد الحسن بن محمّد قال : حدّثني جدّي قال حدّثنا محمّد بن القاسم الشيباني قال : حدّثنا عبد الرحمن صالح الأزدي عن أبي مالك الجهني عن عبد اللّه بن عطاء المكي قال : ما رأيت العلماء عند أحد قطّ أصغر منهم [ 135 ] عند أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم السّلام و لقد رأيت الحكم بن عتيبة مع جلالته في القوم بين يديه كأنّه صبىّ بين يدي معلّمه و كان جابر بن يزيد الجعفي إذا روى عن محمّد بن عليّ عليهما السّلام شيئا قال : حدثني وصىّ الأوصياء و وارث علوم الأنبياء محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم السّلام . قال فيه : و روى مخول بن إبراهيم عن قيس بن الرّبيع قال : سألت أبا إسحاق السبيعي عن المسح على الخفين فقال : أدركت النّاس يمسحون حتّى لقيت رجلا من بني هاشم لم أر مثله قطّ محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم السّلام فسألته عن المسح فنهانى عنه و قال : لم يكن علىّ أمير المؤمنين عليه السّلام يمسح و كان يقول : سبق الكتاب المسح على الخفين قال أبو إسحاق : فما مسحت منذ نهانى عنه قال قيس بن الربيع و ما مسحت أنا منذ سمعت أبا إسحاق . إلى أن قال : و كان مع ما وصفناه من الفضل في العلم و السودد و الرّياسة و الإمامة ظاهر الجود في الخاصة و العامة مشهود الكرم في الكافة معروفا بالفضل و الاحسان مع كثرة عياله و توسط حاله . و قد روى أبو جعفر عليه السّلام أخبار المبتداء و أخبار الأنبياء و كتب عنه المغازى و أثروا عنه السنن و اعتمدوا عليه في مناسك الحج الّتي رواها عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كتبوا عنه تفسير القرآن و روت عنه الخاصة و العامّة الأخبار و ناظر من كان يرد عليه من أهل الآراء و حفظ عنه النّاس كثيرا من علم الكلام و ألّف عليه السّلام كتابا في تفسير القرآن رواه عنه أبو الجارود زياد بن المنذر رئيس الجارودية الزيديّة كذا نقل ابن النديم في الفهرست . و بالجملة مناقبه و معجزاته و مكارم اخلاقه و الروايات المنقولة عنه و الروات الآخذون منه من الصحابة و التابعين و تلامذته و معالي اموره و غرائب شأنه و أحوال أصحابه و مناظراته و القصائد في مدحه عليه السّلام أكثر و أشهر من أن يخفى على أحد نقلها الفريقان في تصانيفهم و لو أثبتناها ههنا لكثر الخطب . [ 136 ] الإمام السادس كشاف أسرار العلوم و بحر الحقائق أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الصّادق صلوات اللّه عليه . قد تحيرت العقول دونه و أخرست الألسن فيه كيف لا و هو شمس سماء العلم و المعرفة و التوحيد قد استنار الكلّ من نور وجوده و استفادوا من رشحات فيضه و استمطروا سحاب علمه و استدروا سماء جوده و اغترفوا من بحر معارفه و استضاءوا من مشكاة حقائقه ، أشرقت أضواء علومه عالم الانسانيّة و أثمرت شجرة عنصره الطيبة ما ملأت الآفاق من الأصول الكليّة الحكميّة و العلوم الغريبة المكنونة القيمة و القواعد الرصينة الفقهية و المطالب النورية لتزكية الباطن و تهذيب النّفس و المسائل الجامعة الاجتماعية لحفظ نظام الحوزة البشرية حتّى بلغ عدد الآخذين عنه عليه السّلام و المتعلمين من حضرته إلى أربعة آلاف رجل من أهل الحجاز و الشام و العراق و الخراسان و الفارس و غيرها ، و دوّنت في مجلسه الشريف أربعمأة مصنف في العلوم هي المسماة بالاصول الأربعمأة فراجع اصول الكافي و كتاب التوحيد للصدوق و الاحتجاج للطبرسي و غيرها من الكتب الحاوية للحقائق الصادرة عنه عليه السّلام حتّى يتضح لك انه عليه السّلام كيف أسّس قواعد التوحيد و شيّد أركانه و قلع الشبهات الناشئة من الآراء السخيفة المعوجّة و أظهر اسرار الآيات القرآنية و بطونها مما كلّت عندها الألسن و الهت لديها الأحلام فهو عليه السّلام عيش العلم و موت الجهل و دعامة الاسلام . هر بوى كه از مشك و قرنفل شنوى از دولت آن زلف چو سنبل شنوى « كلام المفيد فيه عليه السّلام » قال رحمه اللّه في الارشاد : و كان الصادق جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم السّلام من بين اخوته خليفة أبيه محمّد بن عليّ عليهما السّلام و وصيّه القائم بالإمامة من بعده و برّز على جماعتهم بالفضل و كان أنبههم ذكرا و أعظمهم قدرا و أجلهم في العامّة و الخاصّة [ 137 ] و نقل النّاس عنه من العلوم ما سارت به الركبان و انتشر ذكره في البلدان و لم ينقل عن أحد من أهل بيته العلماء ما نقل عنه و لا لقي أحد منهم من أهل الآثار و نقلة الأخبار و لا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الروات عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء و المقالات فكانوا أربعة آلاف رجل و كان له عليه السّلام من الدلائل الواضحة في امامته ما بهرت القلوب و أخرست المخالف عن الطعن فيها بالشبهات . إلى أن قال : و الأخبار فيما حفظ عنه عليه السّلام من العلم و الحكمة و البيان و الحجة و الزهد و الموعظة و فنون العلم كله أكثر من أن تحصى بالخطاب أو تحوى بالكتاب . كلام كمال الدين محمد بن طلحة الشافعى » « فيه عليه السّلام » قال في كتابه : جعفر بن محمّد الصادق ابن أبي محمّد عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب هو من عظماء أهل البيت و ساداتهم عليهم السّلام ذو علوم جمّة و عبادة موفورة و أوراد مواصلة و زهادة بيّنة و تلاوة كثيرة تتبع معاني القرآن الكريم و استخرج من بحر جواهره و استنتج عجائبه و قسم أوقاته على انواع الطاعات بحيث يحاسب عليه انفسه ، رؤيته تذكرة الآخرة ، و استماع كلامه تزهد في الدنيا ، و الاقتداء بهديه يورث الجنّة ، نور قسماته شاهد أنّه من سلالة النّبوّة ، و طهارة أفعاله تصدع بأنه من ذرية الرسالة ، نقل الحديث و استفاد منه العلم جماعة من أعيان الأئمة و أعلامهم مثل يحيى بن سعيد الأنصارى ، و ابن جريح ، و مالك بن أنس ، و الثورى ، و ابن عيينة ، و أبي حنيفة ، و شعبة ، و أيّوب السجستاني و غيرهم و عدوا أخذهم عنه عليه السّلام منقبة شرّفوا بها ، و فضيلة اكتسبوها . « كلام القاضى عبد الرحمان بن أحمد العضد الايجى » « الشافعي فيه عليه السّلام » قال في مبحث الإمامة من المواقف : الثامن اختصاصه ( يعني عليّا عليه السّلام ) [ 138 ] بصاحبه كفاطمة و ولدين كالحسن و الحسين و هما سيّدا شباب أهل الجنّة ثمّ اولاد اولاده ممن اتفق الأنام على فضلهم على العالمين حتّى كان أبو يزيد سقاء في دار جعفر الصادق رضي اللّه عنه و معروف الكرخي بوّاب دار عليّ بن موسى الرضا . « كلام الشيخ العارف محيى الدين الأعرابى او المغربى » « فيه عليه السّلام » قال في المناقب : صلوات اللّه و ملائكته و حملة عرشه و جميع خلقه من أرضه و سمائه على استاذ العالم و سند الوجود مرتقى المعارج و منتهى الصعود ، البحر الموّاج الأزلي ، و السرّاج الوهّاج الأبدي ناقد خزائن المعارف و العلوم ، محتد العقول و نهاية الفهوم ، عالم الأسماء ، دليل طرق السماء ، الكون الجامع الحقيقي ، و العروة الوثقى الوثيقي ، برزخ البرازخ ، و جامع الأضداد ، نور اللّه بالهداية و الارشاد ، المستمع القرآن من قائله ، الكاشف لأسراره و مسائله ، مطلع شمس الأبد جعفر بن محمّد عليه صلوات اللّه الملك الأحد . « كلام أبي يزيد البسطامى فيه عليه السّلام » قال القاضي الشهيد نور اللّه مرقده في المجلس السادس من مجالس المؤمنين : قال المولى نور الدين جعفر البدخشي رحمه اللّه في كتاب الأحباب : إن السلطان طيفور المعروف بأبي يزيد البسطامي قدّس سرّه قد صحب كثيرا من المشائخ ثمّ جاء إلى حضرة امام الصادق و صحبه مستفيضا من الصادق فقال : لو لم أصل إلى الصادق لمتّ كافرا مع انه كان بين الأولياء كجبرئيل بين الملائكة ، و كانت هدايته نهاية السالكين . « ما قال مؤلف تعقيب التقريب » قال الأمير عليّ من علماء العامة صاحب تعقيب التقريب اى تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني : روى عن جعفر الصادق الأئمة و خلق لا يحصون . [ 139 ] « ما قال فيه عليه السّلام القاضى أحمد بن خلكان » « الاربلى الشافعى الاشعرى » قال في وفيات الأعيان المعروف بتاريخ ابن خلّكان : أبو عبد اللّه جعفر الصادق ابن محمّد الباقر أحد الأئمة الاثنى عشر على مذهب الإماميّة كان من سادات أهل البيت و لقّب بالصّادق لصدقه في مقالته و فضله أشهر من أن يذكر و له كلام في صنعة الكيميا و الزجر و الفال و كان تلميذه أبو موسى جابر بن حيّان الصوفي الطرطوسى قد ألف كتابا يشتمل على ألف ورقة يتضمن رسائل جعفر الصادق و هي خمسمأة رسالة . ثمّ بعد نبذة من ذكر كرامته عليه السّلام لما اراد المنصور إشخاصه إلى العراق معه عند مسيره إلى المدينة قال : و حكى كشاجم في كتاب المصائد و المطارد أنه عليه السّلام سأل أبا حنيفة فقال عليه السّلام : ما تقول في محرم كسر رباعيّة ظبي ؟ فقال : يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما أعلم ما فيه . فقال عليه السّلام له : أنت تتداهي و لا تعلم أن الظبي لا يكون له رباعيّة و هو ثنى أبدا . انتهى . أقول : انّه عليه السّلام و إن كان صادقا في مقالته لكن المرويّ عن أئمّتنا و المسلم عندنا الإماميّة ان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله سمّاه الصّادق ليتميز من المدّعي للإمامة بغير حقّها جعفر الكذاب . « كلام ابن قتيبة في علمه ( ع ) بالجفر » قال عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفّى 272 ه صاحب التصانيف الكثيرة كما في الفهرست لابن النديم ، في كتاب ادب الكاتب : و كتاب الجفر كتبه الإمام جعفر الصّادق ابن محمّد الباقر فيه كل ما يحتاجون إلى علمه إلى يوم القيامة . قال الشّيخ العلامة البهائي في شرح الأربعين : قد تظافرت الأخبار بأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أملى على أمير المؤمنين عليه السّلام كتابي الجفر و الجامعة و أن فيهما علم ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة . [ 140 ] و قد مرّ في البحث عن القياس الخبر المروي من الكافي عن أبي شيبة قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول : ضلّ علم ابن شبرمة عند الجامعة املاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خط عليّ عليه السّلام بيده ان الجامعة لم تدع لأحد كلاما فيها علم الحلال و الحرام الحديث ( ص 58 م 1 من الوافي ) . و في الكافي و الارشاد و ينابيع المودّة للشيخ سليمان ( ص 162 الطبع الناصرى ) عن أبي عبد اللّه عليه السّلام انه كان يقول : علمنا غابر و مزبور و نكت في القلوب و نقر في الاسماع و أن عندنا الجفر الأحمر و الجفر الأبيض و مصحف فاطمة عليها السّلام و أن عندنا الجامعة فيها جميع ما يحتاج . فسئل عن تفسير هذا الكلام فقال : أمّا الغابر فالعلم بما يكون ، و أمّا المزبور فالعلم بما كان ، و أمّا النكت في القلوب فهو الالهام ، و النقر في الاسماع حديث الملائكة نسمع كلامهم و لا نرى أشخاصهم ، و أمّا الجفر الأحمر فوعاء فيه سلاح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لن يخرج حتّى يقوم قائمنا أهل البيت ، و أمّا الجفر الأبيض فوعاء فيه توراة موسى و انجيل عيسى و زبور داود و كتب اللّه الأولى ، و أمّا مصحف فاطمة عليها السّلام ففيه ما يكون من حادث و اسماء كلّ من يملك إلى أن تقوم الساعة ، و أما الجامعة فهي كتاب طوله سبعون ذراعا املاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من فلق فيه و خط عليّ بن أبيطالب عليه السّلام بيده فيه و اللّه جميع ما يحتاج النّاس إليه إلى يوم القيامة حتّى أن فيه أرش الخدش و الجلدة و نصف الجلدة . و قد عنون جعفر الصّادق عليه السّلام الشيخ أحمد عليّ البوني في كتابه الموسوم بشمس المعارف الكبرى من ص 306 إلى ص 316 طبع مصر و سيأتي طائفة من قوله و قول المحقق الشريف في شرح المواقف و شعر أبي العلاء المعرى فيه في الإمام الثامن عليه السّلام . « ذكر عدة ممن أخذوا عنه عليه السّلام » قد ذكرنا أن المستضيئين من نبراس وجوده و المغترفين من بحر جوده بلغوا [ 141 ] إلى أربعة آلاف رجل و صنف ابن عقدة كتاب الرّجال لأبي عبد اللّه عليه السّلام عددهم فيه . و نحن نذكر ههنا عدة من الاعلام الذين أخذوا عنه و ندع ترجمتهم خوفا للأطالة . فمنهم : أبو حنيفة النعمان بن ثابت أحد أئمة المذاهب الأربعة عند أهل السنة و في المناقب عن مسند أبي حنيفة قال الحسن بن زياد سمعت أبا حنيفة و قد سئل من أفقه من رأيت ؟ قال : جعفر بن محمّد ، لما أقدمه المنصور بعث إلىّ فقال يا أبا حنيفة إنّ النّاس قد فتنوا بجعفر بن محمّد فهيّى‏ء له من مسائلك الشداد فهيّأت له أربعين مسألة ثمّ بعث إلىّ أبو جعفر ( يعني المنصور ) و هو بالحيرة فأتيته فدخلت عليه و جعفر عليه السّلام جالس عن يمينه فلمّا بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر عليه السّلام ما لم يدخلني لأبي جعفر فسلّمت عليه فأومى إلىّ فجلست ثمّ التفت إليه فقال : يا أبا عبد اللّه هذا أبو حنيفة قال : نعم أعرفه ثمّ التفت إلىّ فقال يا با حنيفة ألق على أبي عبد اللّه من مسائلك فجعلت ألقى عليه فيجيبني فيقول : أنتم تقولون كذا و أهل المدينة يقولون كذا و نحن نقول كذا فربّما تابعنا و ربّما تابعهم و ربّما خالفنا جميعا حتّى أتيت على الأربعين مسألة فما أخلّ منها بشي‏ء ثمّ قال أبو حنيفة : أليس ان أعلم النّاس أعلمهم باختلاف النّاس ؟ . قال السيّد الشبلنجي الشافعي في نور الأبصار في أحوال الصّادق عليه السّلام : و مناقبه كثيرة تكاد تفوت عند الحاسب و يحار في أنواعها فهم اليقظ الكاتب روى عنه جماعة من أعيان الأئمة و أعلامهم كيحيى بن سعيد و ابن جريح و مالك ابن أنس و الثورى و ابن عيينة و أبي حنيفة و أبي أيّوب السجستاني و غيرهم . و في الخصال للشيخ الصدوق ( العدد 190 من الخصال الثلاث ) مالك بن أنس فقيه المدينة يقول : كنت أدخل على الصّادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام فيقدم لى مخدة و يعرف لي قدرا و يقول : يا مالك انّي احبك فكنت أسرّ بذلك و أحمد اللّه عليه و كان عليه السّلام لا يخلو من إحدى ثلاث خصال : إمّا صائما و إمّا قائما و إمّا ذاكرا و كان من عظماء العبّاد و أكابر الزهّاد الّذين يخشون اللّه عزّ و جلّ و كان كثير [ 142 ] الحديث طيب المجالسة كثير الفوائد فاذا قال : قال رسول اللّه اخضرّ مرة و اصفرّ اخرى حتّى ينكره من يعرفه و لقد حججت معه سنة فلمّا استوت راحلته عند الاحرام كان كلّما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه و كاد يخرّ من راحلته فقلت : قل يا ابن رسول اللّه فلا بدّ لك أن تقول فقال : يا ابن أبي عامر كيف أجسر أن أقول لبيك اللّهم لبيك و أخشى أن يقول عزّ و جلّ لا لبّيك و لا سعديك . و قال مالك بن أنس : ما رأت عين و لا سمعت اذن و لا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصّادق عليه السّلام فضلا و علما و عبادة و ورعا . و كان مالك كثيرا ما يدعى سماعه و ربّما قال : حدثني الثقة يعنيه عليه السّلام . و منهم : شعبة بن الحجّاج ، و عبد اللّه بن عمرو و روح بن القاسم و سليمان بن بلال و إسماعيل بن جعفر و حاتم بن إسماعيل و عبد العزيز بن المختار و وهيب بن خالد و إبراهيم بن طهمان و الحسن الصالح و عمر بن دينار و أحمد بن حنبل و محمّد بن الحسن . و كان أبو يزيد البسطامي طيفور السقاء خدمه و سقاه ثلاث عشرة سنة و قال أبو جعفر الطوسي : كان إبراهيم بن أدهم و مالك بن دينار من غلمانه . قال أبو حاتم : جعفر الصّادق ثقة لا يسأل عن مثله . و دخل إليه عليه السّلام سفيان الثوري يوما فسمع منه كلاما أعجبه فقال : هذا و اللّه يا ابن رسول اللّه الجوهر ، فقال له : بل هذا خير من الجوهر و هل الجوهر إلاّ الحجر . و منهم أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان و محمّد بن إسحاق صاحب المغازى و السير و غيرهم المذكور في كتب الفريقين كفهرست الشيخ الطوسي و نور الأبصار للشبلنجى و الصواعق لابن حجر و ينابيع المودة للشيخ سليمان و الخلاصة للعلامة و غيرها . و منهم من كان من أصحابه عليه السّلام و أخذ عنه و فاز فوزا عظيما و أفاد غيره أيضا كأبان بن تغلب و اسحاق بن عمار الصيرفي و بريد بن معاوية العجلي و أبي حمزة الثّمالي و حريز بن عبد اللّه السجستاني و حمران بن أعين الشيباني و أخيه زرارة و صفوان بن مهران الجمّال و عبد اللّه بن أبي يعفور و عمران بن عبد اللّه القمى و فضيل [ 143 ] ابن يسار البصري و فيض بن المختار الكوفى و ليث بن البختري و محمّد بن مسلم و معاذ بن كثير و معلّى بن خنيس و أبى المنذر هشام بن محمّد السائب الكلبي و يونس الظبيان الكوفى و مؤمن الطاق . في الفهرست لابن النديم : أبو جعفر محمّد بن النعمان الأحول هو من أصحاب أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السّلام و كان حسن الاعتقاد و الهدى حاذقا في صناعة الكلام سريع الحاضر و الجواب و له مع أبي حنيفة مناظرات : منها لما مات جعفر الصّادق عليه السّلام قال أبو حنيفة لمؤمن الطاق : قد مات إمامك . قال : لكن إمامك لا يموت إلى يوم القيامة ( و في بعض النسخ : قال لكن إمامك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ) يعنى إبليس . و قال له أبو حنيفة : ما تقول في المتعة ؟ قال حلال . قال : أ فيسرّك أن تكون أخواتك و بناتك يمتّع بهنّ ؟ قال : شي‏ء قد أحلّه اللّه تعالى ان كرهته مما خبلني و لكن ما تقول أنت في النبيذ ؟ قال : حلال . قال : أ فيسرّك أن تكون أخواتك و بناتك نباذات هن ؟ و قال له أبو حنيفة يوما : أ لسنا صديقين ؟ قال : بلى . قال : و أنت تقول بالرجعة ؟ قال : إى و أيم اللّه . قال : فانى شديد الحاجة و أنت متمكّن فلو أنّك أقرضتنى خمسمأة درهم أتسع بها و أردّها عليك في الرجعة كنت قد قضيت حقى و وصلت إلى غفل ، قال : أنا لأقول إنّ النّاس يرجعون . و في البحار عن كتاب مقتضب الأثر لابن عيّاش عن عبد اللّه بن محمّد المسعودى عن الحسن بن محمّد الوهبي عن علىّ بن قادم عن عيسى بن داب قال : لمّا حمل أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد عليهما السّلام عن سريره و أخرج إلى البقع ليدفن قال أبو هريرة الشاعر العجلى : أقول و قد راحوا به يحملونه على كاهل من حامليه و عاتق أتدرون ماذا تحملون إلى الثرى ثبيرا ثوى من رأس علياء شاهق غداة حثا الحاثون فوق ضريحه ترابا و أولى كان فوق المفارق [ 144 ] أيا صادق بن الصادقين الية بآبائك الأطهار حلفة صادق لحقا بكم ذو العرش أقسم في الورى فقال تعالى ربّ المشارق نجوم هى اثنا عشرة كن سبقا إلى اللّه في علم من اللّه سابق « الإمام السابع » أبو إبراهيم موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام . كلّت الألسنة دون كلماته القاهرة و حارت العقول لدى معجزاته الباهرة . ادعيته تذيب الصمّ الصلاب ، و مناظراته حجة لأولى الألباب ، وجوده اكسير فلزّات العرفاء و معيار نقود الأصفياء . قد علم الخافقان انّه باب الحوائج إلى اللّه ، و اذعن الفرقتان انّه كاشف اسرار كتابه تعالى . « ما قال الخطيب في تاريخ بغداد فيه عليه السّلام » في تاريخ ابن خلّكان : قال الخطيب في تاريخ بغداد : كان موسى يدعي العبد الصالح من عبادته و اجتهاده . روي انّه دخل مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسجد سجدة في أوّل الليل و سمع و هو يقول في سجوده : عظم الذنب عندي فليحسن العفو من عندك يا أهل التقوى و يا أهل المغفرة فجعل يردّدها حتّى أصبح و كان سخيا كريما و كان يبلغه عن الرجل أنّه يؤذيه فيبعث اليه بصرّة فيها ألف دينار إلى أن قال : و ذكر أيضا أن هارون الرشيد حجّ فأتي قبر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله زائرا و حوله قريش و افناء القبائل و معه موسى بن جعفر فقال : السّلام على يا رسول اللّه يا ابن عمّ افتخارا على من حوله ، فقال موسى : السّلام عليك يا أبت ، فتغير وجه هارون الرشيد و قال : هذا هو الفخر يا أبا الحسن حقا . إلى آخر ما قال و ذكر بعض معجزاته عليه السّلام فراجع . « ما قال كمال الدين أبو سالم محمد بن طلحة الشافعى » « فيه عليه السّلام » قال : أبو الحسن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن [ 145 ] أبيطالب عليهم السّلام هو الإمام الكبير القدر ، العظيم الشأن ، الكثير التهجد ، الجادّ في الاجتهاد ، المشهود له بالكرامات ، المشهور بالعبادة و ظهور خوارق العادات ، المواظب على الطاعات ، يبيت الليل ساجدا و قائما ، و يقطع النهار متصدقا و صائما و لفرط علمه و تجاوزه عن المعتدّين عليه دعى كاظما ، كان يجازى المسي‏ء بالاحسان و عن الجاني بالبرّ و العفو و الاحسان ، و لكثرة عبادته ليلا و نهارا كان يسمى العبد الصالح ، و يعرف في العراق باب الحوائج إلى اللّه لإنجاح مطالب المتوسلين به إلى اللّه و كراماته تحار فيه العقول ، و تقضى بأنّ له عند اللّه قدم صدق لا يزول . « ما قال على بن عيسى الاربلى صاحب كشف الغمة » « فيه عليه السّلام » مناقب الكاظم و فضائله و معجزاته الظاهرة و دلائله و صفاته الباهرة و مكارمه تشهد أنه بلغ قمة الشرف و علاها ، و سمي إلى أوج المزايا فبلغ اعلاها ، طالت اصوله فسمت إلى أعلى رتب الجلال ، و طابت فروعه فعلت إلى حيث لا تنال ، يأتيه المجد من كلّ أطرافه و يكاد الشرف يقطر من أعطافه ، السحاب الماطر قطرة من كرمه ، و العباب الزاخر نعمة من نعمه ، و اللّباب الفاخر عبد من عبيده و خدمه ، الآباء عظام ، و الأبناء كرام عنصره من أكرم العناصر ، و آباؤه بدور بواهر ، و امهاته عقيلات عباهر ، و هو أحد النجوم الزواهر ، كم له من فضيلة جليلة و منقبة بعلوّ شأنه كفيلة ، اليه ينسب العلماء و عنه يأخذ العظماء و منه يتعلم الكرماء ، هم الهداة إلى اللّه و هم الأمناء على اسرار الغيب ، و هم المطهّرون من الرجس و العيب ، هم النجوم الزواهر في الظلام و هم الشموس المشرقة في الأيام ، هم الّذين أوضحوا شعائر الاسلام ، و عرفوا الحلال و الحرام ، فلهم كرم الأبوّة و النبوّة ، و هم معادن الفتوة و المروة ، السماح في طبائعهم غريزة ، الأقوال و إن طالت في مدائحهم وجيزة قليلة ، بحور علم لا ينزف ، و أقمار عزّ لا يخسف ، و شموس مجد لا يكسف . يا آل طه ان ودّى لكم باق على حبكم اللازم . [ 146 ] « كلام المحقق العلامة الخواجه نصير الدين الطوسى » « فيه عليه السّلام » قيل له رحمه اللّه في مرض موته في بغداد ( كما في مجالس المؤمنين للقاضي و روضات الجنات للخوانسارى ) : ألا توصي على حمل جسدك إلى مشهد النجف الأشرف الأطهر ؟ فقال : لا بل استحيى من وجه سيدى الإمام الهمام موسى بن جعفر عليهما السّلام أن آمر بنقل جسدى من أرضه المقدسة إلى موضع آخر . و قد نقلوا نظير هذه الواقعة للشيخ المفيد أيضا . و بالجملة الروايات العلميّة الحكميّة و الفقهيّة و الأخلاقيّة و الاجتماعيّة و الكرامات العالية الأقدار الخارقة العوائد من هذا الوليّ الأعظم بلغت إلى حدّ لا يعدّ و لا يحصى و نعم ما قال ابن طلحة الشافعي المقدم ذكره فيه عليه السّلام أيضا : و لا يؤتوها إلاّ من أفاضت عليه العناية الربّانيّة أنوار التأييد ، و درّت له أخلاف التوفيق و ازلفته من مقام التقديس و التطهير و ما يلقّيها إلا الذين صبروا و ما يلقّيها إلاّ ذو حظّ عظيم . « الإمام الثامن » أبو الحسن عليّ بن موسى الرّضا عليه السّلام قال ابن خلّكان الشافعي الأشعري في تاريخه : و كان المأمون زوّجه ابنته ام حبيب في سنة اثنتين و مأتين و جعله وليّ عهده و ضرب اسمه على الدينار و الدرهم و كان السبب في ذلك انّه استحضر اولاد العبّاس الرجال منهم و النساء و هو بمدينة مرو فكان عددهم ثلاثة و ثلاثين ألفا ما بين الكبار و الصغار و استدعى عليّا المذكور فأنزله أحسن منزلة و جمع له خواصّ الأولياء و أخبرهم أنّه نظر في أولاد العبّاس و أولاد عليّ بن أبيطالب عليه السّلام فلم يجد في وقته أحدا أفضل و لا أحق بالأمر من عليّ الرضا فبايع له بولاية عهده و أمر بازالة السواد من اللباس و الاعلام و لبس الخضرة إلى أن قال : و فيه يقول أبو نواس : قيل لي أنت أحسن النّاس طرّا في فنون من المقال النبيه لك من جيّد القريض مديح يثمر الدرّ في يدي مجتنيه [ 147 ] فعلي ما تركت مدح ابن موسى و الخصال الّتي تجمّعن فيه قلت لا أستطيع مدح امام كان جبريل خادما لأبيه و كان سبب قوله هذه الأبيات أن بعض أصحابه قال له : ما رأيت أوقح منك ما تركت خمرا و لا طردا و لا معني إلاّ قلت فيه شيئا و هذا عليّ بن موسى الرضا في عصرك لم تقل فيه شيئا ، فقال : و اللّه ما تركت ذلك إلاّ إعظاما له و ليس قدر مثلى أن يقول في مثله ثمّ أنشد بعد ساعة هذه الأبيات . ثمّ قال ابن خلّكان : و فيه يقول أبو نواس أيضا و له ذكر في شذور العقود في سنة احدى و مأتين او سنة اثنتين و مأتين : مطهّرون نقيات جيوبهم تجرى الصلاة عليهم أينما ذكروا من لم يكن علويا حين تنسبه فما له في قديم الدهر مفتخر اللّه لما برا خلقا فأتقنهم صفاكم و اصطفاكم أيّها البشر فانتم الملأ الأعلى و عندكم علم الكتاب و ما جاءت به السور و قال الفخر الرازي : إن أبا يزيد البسطامي كان يفتخر بأنّه يستقي الماء لدار جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام و كان معروف الكرخي أسلم على يد أبي الحسن الرّضا عليّ بن موسى و كان بوّاب داره إلى أن مات . روى المفيد في الارشاد باسناده إلى معاوية بن حكيم عن نعيم القابوسي عن أبي الحسن موسى عليه السّلام قال : إنّ ابني عليّ أكبر ولدي و آثرهم عندي و أحبّهم إليّ و هو ينظر معي في الجفر و لم ينظر فيه إلاّ نبيّ او وصيّ نبيّ . و قال المحقق الشريف في شرح المواقف في مبحث تعلق العلم الواحد بمعلومين : إنّ الجفر و الجامعة كتابان لعليّ كرّم اللّه وجهه و قد ذكر فيهما على طريق علم الحروف الحوادث الّتي تحدث إلى انقراض العالم و كان الأئمة المعروفون من أولاده يعرفونهما و يحكمون بهما . و في كتاب قبول العهد الّذي كتبه عليّ بن موسى الرّضا إلى المأمون : انّك قد عرفت من حقوقنا ما لم يعرف آباؤك فقبلت منك عهدك إلاّ أن الجفر و الجامعة يدلاّن على أنّه لا يتمّ . و لمشايخ [ 148 ] المغاربة نصيب من علم الحروف ينتسبون فيها إلى أهل البيت و رأيت بالشام نظما اشير اليه بالرموز إلى أحوال ملوك مصر و سمعت أنّه مستخرج من ذينك الكتابين . انتهى . و روى ثقة الاسلام الكليني في الكافي و المفيد في الارشاد و كثير من اعاظم المحدثين عن الإمام الصادق عليه السّلام أحاديث كثيرة في أن الجفر و الجامعة كانا عنده عليه السّلام و انّهما لا يزالان عند الأئمة يتوارثونهما واحدا بعد واحد . و قال العلامة التفتازاني الشافعي في شرح المقاصد في مبحث الإمامة بعد ما قال في المحقق العلامة الخواجة نصير الدين الطوسي ما قال ، قال : و العظماء من عترة النّبيّ و أولاد الوصيّ الموسومون بالدراية المعصومون في الرواية لم يكن معهم هذه الأحقاد و التعصّبات و لم يذكروا من الصحابة إلاّ الكمالات و لم يسلكوا مع رؤساء المذهب من علماء الاسلام إلاّ طريق الإجلال و الإعظام و ها هو الإمام عليّ بن موسى الرّضا مع جلالة قدره و نباهة ذكره و كمال علمه و هداه و ورعه و تقواه قد كتب على ظهر كتاب عهد المأمون له ما ينبي‏ء عن وفور حمده و قبول عهده و التزام ما شرط عليه و أن كتب في آخره : و الجامعة و الجفر يدّلان على ضدّ ذلك إلى أن قال : و هذا العهد بخطهما موجود الآن في المشهد الرضوى بخراسان . « اشعار أبي العلاء المعرى في جفر أهل البيت » قال ابن خلّكان في تاريخه في ذيل ترجمة عبد المؤمن بن عليّ القيسي : قال ابن قتيبة : هو جلد جفر ادّعوا أنّه كتب لهم فيه الإمام كلّما يحتاجون إلى علمه و كلما يكون إلى يوم القيامة . ثمّ قال ابن خلّكان : قلت و قولهم : الإمام يريدون به جعفر الصادق عليه السّلام و إلى هذا الجفر اشار أبو العلاء المعرى بقوله : لقد عجبوا لأهل البيت لمّا أتاهم علمهم في مسك جفر و مرآة المنجم و هي صغرى ارته كلّ عامرة و قفر و قوله في مسك جفر ، المسك بفتح الميم و سكون السين المهملة الجلد . و الجفر بفتح الجيم و سكون الفاء و بعدها راء من أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر [ 149 ] و جفر جنباه و فصل عن امه و الأنثى جفرة . و كانت عادتهم أنّهم في ذلك الزمان يكتبون في الجلود و العظام و الخزف و ما شاكل ذلك و اللّه سبحانه و تعالى يعلم . انتهى كلام ابن خلّكان . أقول : المراد من قوله « مرآة المنجم » هو الاسطرلاب و هو اسم لآلة مشتملة على حجرة و عضادة و صفحة عنكبوت و صفائح مرسوم فيها خطوط مستقيمة و مستديرة تامة و ناقصة متوازية و غير متوازية يعرف بها كثير من أحوال الفلكيّات و الأرضيات و الزمانيات حتّى أن العلامة الفلكي عبد الرحمان بن عمر الصوفي المتوفي سنة 376 ه صنف كتابا في العمل بالاسطرلاب أنهاه إلى 386 أبواب كلّ باب في معرفة شي‏ء من الأحوال المذكورة . و كلمة اسطرلاب على ما ذهب اليه حمزة الاصبهاني ( كما نقل العلامة أبو ريحان البيروني في رسالته الموسومة بافراد المقال و كذا في كتابه الموسوم بالتفهيم ) معربة استاره‏ياب ، أى مدرك النجوم . و قال البيروني : و ممكن أن يكون معربا من اليونانيّة فان اسمه باليونانيّة اسطرلبون و اسطر هو النجم بدليل أن علم الهيئة يسمى عندهم اسطرونوميا . ( افراد المقال ص 69 طبع حيدر آباد الدكن 1367 ه ) . و قال في التفهيم : اسطرلاب چيست ؟ اين آلتي است يونانيان را ، نامش اسطرلابون اى آيينه نجوم . و حمزة اسپاهانى او را از پارسى بيرون آورده كه نامش ستاره‏ياب است . و الصواب ما ذهب اليه البيروني كما اختاره المعرى في البيت حيث قال مرآة المنجم و يوافقه ما في اللغة الفرنسية أن كلمة الاسطرلاب باليونانيّة مركبة من اي الكوكب و اي المرآة أو الميزان و لذا فسره كوشيار بميزان الشمس كما نقل عنه الفاضل البيرجندي في شرحه على رسالة الاسطرلاب للخواجه نصير الدين الطوسي . و كان الصحيح ان يفسره بميزان الكوكب لأن كلمة لا تفيد معني الشمس و لم يذكر في المعاجم أن الشمس أحد معانيها [ 150 ] ثمّ إنّ في أحاديثنا فسر الجفر بانّه جلد ثور لا أنّه من جلد اولاد المعز كما فسره ابن خلّكان ففي الكافي لثقة الاسلام الكليني ( الوافي ص 135 م 2 ) باسناده إلى ابن رئاب عن الحذاء قال : سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام بعض أصحابنا عن الجفر ؟ فقال عليه السّلام : هو جلد ثور مملوّ علما . الحديث . « الإمام التاسع » أبو جعفر محمّد بن عليّ بن موسى الملقب بالجواد و التقى صلوات اللّه و سلامه عليه قال ابن خلّكان في ترجمته عليه السّلام : و كان يروى مسندا عن آبائه إلى عليّ بن أبيطالب عليهم السّلام انّه قال : بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى اليمن فقال لي و هو يوصيني : يا عليّ ما خاب من استخار ، و لا ندم من استشار . يا عليّ عليك بالدّلجة فإن الأرض تطوى باللّيل ما لا تطوى بالنهار ، يا عليّ أعذ باسم اللّه فان اللّه بارك لأمّتي في بكورها و كان يقول : من استفاد أخا في اللّه فقد استفاد بيتا في الجنّة . و قال جعفر بن محمّد بن مزيد : كنت ببغداد فقال لي محمّد بن منده بن مهريزد : هل لك أدخلك علي محمّد بن عليّ الرضا ؟ فقلت : نعم ، قال : فادخلني عليه فسلمنا و جلسنا فقال : حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ فاطمة عليها السّلام أحصنت فرجها فحرّم اللّه ذرّيّتها على النّار قال : ذلك خاص بالحسن و الحسين عليهما السّلام و له حكايات و أخبار كثيرة . انتهى ما أردنا من نقل كلام ابن خلّكان . أقول : و من تلك الأخبار و الحكايات الدّالّة على وفور علمه و تبريزه على كافة أهل الفضل و العلم مع صغر سنه احتجاجه على يحيى بن اكثم قاضي زمانه في مجلس المأمون عند جمّ غفير من أهل العلم و الفضل رواه الشيخ المفيد في الارشاد و الشيخ الجليل الطبرسي في الاحتجاج و أتى به المجلسي في المجلد الرابع من البحار و غيرهم من أعاظم العلماء الأخيار في جوامعهم المحتوية من أخبار الأئمة الأطهار . قال في الارشاد : و كان المأمون قد شعف بأبي جعفر عليه السّلام لما رأى من فضله مع صغر سنه و بلوغه في العلم و الحكمة و الأدب و كمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان فزوّجه ابنته ام الفضل و حملها معه إلى المدينة [ 151 ] و كان متوفرا على إكرامه و تعظيمه و إجلال قدره . قال : و روى الحسن بن محمّد بن سليمان عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه ، عن الريّان بن شبيب قال : لمّا أراد المأمون أن يزوّج ابنته ام الفضل أبا جعفر محمّد بن عليّ عليهما السّلام بلغ ذلك العبّاسيين فغلظ عليهم و استكبروه و خافوا أن ينتهى الأمر معه إلى ما انتهى إليه مع الرّضا عليه السّلام فخاضوا في ذلك و اجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه فقالوا : ننشدك اللّه يا أمير المؤمنين أن تقيم على هذا الأمر الّذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا فإنا نخاف أن تخرج به عنّا أمرا قد ملّكناه اللّه و تنزع منّا عزّا قد ألبسناه ، فقد عرفت ما بيننا و بين هؤلاء القوم قديما و حديثا و ما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم و التصغير بهم و قد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا ما عملت حتّى كفانا اللّه المهمّ من ذلك فاللّه اللّه أن تردّنا إلى غمّ قد انحسر عنّا و اصرف رأيك عن ابن الرّضا عليه السّلام و اعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره . فقال لهم المأمون : أمّا ما بينكم و بين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه و لو انصفتم القوم لكانوا أولى بكم ، و أمّا ما كان يفعله من قبلي بهم فقد كان به قاطعا للرحم و أعوذ باللّه من ذلك و اللّه ما ندمت على ما كان منّي من استخلاف الرضا و لقد سألته أن يقوم بالأمر و أنزعه عن نفسي فأبي و كان أمر اللّه قدرا مقدورا ، و أمّا أبو جعفر محمّد ابن عليّ قد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم و الفضل مع صغر سنّه و الاعجوبة فيه بذلك و أنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه فيعلموا أن الرأى ما رأيت فيه . فقالوا : إنّ هذا الفتي و إن راقك منه هديه فإنّه صبيّ لا معرفة له و لا فقه فأمهله ليتأدّب و يتفقّه في الدين ثمّ اصنع ما تراه بعد ذلك . فقال لهم : ويحكم إنّي أعرف بهذا الفتى منكم و أن هذا من أهل بيت علمهم من اللّه و موادّه و إلهامه لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدّين و الأدب عن الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبيّن لكم به ما وصفت [ 152 ] من حاله . قالوا له : قد رضينا لك يا أمير المؤمنين و لأنفسنا بامتحانه فخلّ بيننا و بينه ننصب من يسأله بحضرتك عن شي‏ء من فقه الشريعة فإن أصاب الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره و ظهر للخاصة و العامّة سديد رأى أمير المؤمنين ، و إن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه . فقال لهم المأمون : شأنكم و ذاك متى أردتم . فخرجوا من عنده و اجتمع رأيهم على مسألة يحيى بن اكثم و هو يومئذ قاضي الزمان على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها و وعدوه بأموال نفيسة على ذلك و عادوا إلى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوما للاجتماع ، فأجابهم إلى ذلك فاجتمعوا في اليوم الّذى اتفقوا عليه و حضر معهم يحيى بن اكثم فأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر عليه السّلام دست و يجعل له فيه مسورتان ففعل ذلك و خرج أبو جعفر عليه السّلام و هو يومئذ ابن تسع سنين و أشهر فجلس بين المسورتين و جلس يحيى بن أكثم بين يديه و قام الناس في مراتبهم و المأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر عليه السّلام . فقال يحيى بن أكثم للمأمون : أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر ؟ فقال له المأمون : استأذنه في ذلك . فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال : أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟ قال له أبو جعفر عليه السّلام : سل إن شئت . قال يحيى : ما تقول جعلني اللّه فداك في محرم قتل صيدا ؟ فقال له أبو جعفر عليه السّلام : قتله في حلّ أو حرم ، عالما كان المحرم أم جاهلا ، قتله عمدا أو خطئا ، حرّا كان المحرم أم عبدا ، صغيرا كان أو كبيرا ، مبتدئا بالقتل أم معيدا ، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ، من صغار الصيد كان أم من كباره ، مصرّا على ما فعل أو نادما ، في الليل كان قتله للصيد أم نهارا ، محرما كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجّ كان محرما ؟ فتحير يحيى بن أكثم و بان في وجهه العجز و الانقطاع و لجلج حتّى عرف جماعة أهل المجلس أمره . فقال المأمون : الحمد للّه على هذه النعمة و التوفيق لي [ 153 ] في الرأي . ثمّ نظر إلى أهل بيته و قال لهم : أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ؟ ثمّ أقبل على أبي جعفر عليه السّلام فقال له : أتخطب يا أبا جعفر ؟ قال : نعم ، يا أمير المؤمنين . فقال له المأمون : اخطب جعلت فداك لنفسك فقد رضيتك لنفسي و أنا مزوّجك امّ الفضل ابنتي و إن رغم قوم لذلك . فقال أبو جعفر عليه السّلام : الحمد للّه إقرارا بنعمته و لا إله إلا اللّه إخلاصا لوحدانيّته و صلّى اللّه على محمّد سيّد بريّته و الأصفياء من عترته أما بعد فقد كان من فضل اللّه على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام فقال سبحانه : و انكحوا الأيامي منكم و الصالحين من عبادكم و إمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم اللَّه من فضله و اللَّه واسع عليم ثمّ إنّ محمّد بن عليّ بن موسى يخطب امّ الفضل بنت عبد اللّه المأمون و قد بذل لها من الصداق مهر جدّته فاطمة بنت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و هو خمسمأة درهم جيادا ، فهل زوّجته يا أمير المؤمنين بها على هذا الصّداق المذكور ؟ قال المأمون : نعم ، قد زوّجتك يا أبا جعفر امّ الفضل ابنتي على الصداق المذكور فهل قبلت النكاح ؟ فقال أبو جعفر عليه السّلام : قد قبلت ذلك و رضيت به . فأمر المأمون : أن يقعد النّاس على مراتبهم في الخاصّة و العامّة . قال الريّان : و لم نلبث أن سمعنا أصواتا تشتبه أصوات الملاّحين في محاوراتهم فاذا الخدم يجرّون سفينة مصنوعة من الفضة مشدودة بالحبال من الأبريسم على عجل مملوّة من الغالية فأمر المأمون أن يخضب لحاء الخاصة من تلك الغالية ثمّ مدّت إلى دار العامّة فطيبوا منها و وضعت الموائد فأكل الناس و خرجت الجوائز إلى كلّ قوم على قدرهم . فلمّا تفرق النّاس و بقي من الخاصّة من بقي قال المأمون لأبي جعفر عليه السّلام : إن رأيت جعلت فداك أن تذكر الفقه فيما فصّلته من وجوه قتل المحرم الصيد لنعلمه و نستفيده ؟ فقال أبو جعفر عليه السّلام : نعم إنّ المحرم إذا قتل صيدا في الحلّ و كان الصيد من ذوات الطير و كان من كبارها فعليه شاة ، فان أصابه في الحرم فعليه الجزاء [ 154 ] مضاعفا ، فاذا قتل فرخا في الحلّ فعليه حمل قد فطم من اللبن ، و إذا قتله في الحرم فعليه الحمل و قيمة الفرخ ، و إن كان من الوحش و كان حمار وحش فعليه بقرة ، و إن كان نعامة فعليه بدنة ، و إن كان ظبيا فعليه شاة ، فان قتل شيئا من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا هديا بالغ الكعبة ، و إذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدى فيه و كان إحرامه بالحجّ نحره بمنى ، و إن كان إحرامه بالعمرة نحره بمكة ، و جزاء الصيد على العالم و الجاهل سواء ، و في العمد له المأثم و هو موضوع عنه في الخطاء ، و الكفارة على الحرّ في نفسه ، و على السيّد في عبده ، و الصغير لا كفارة عليه ، و هي على الكبير واجبة ، و النادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة ، و المصرّ يجب عليه العقاب في الآخرة . فقال له المأمون : أحسنت يا أبا جعفر أحسن اللّه إليك ، فان رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك ؟ فقال أبو جعفر عليه السّلام ليحيى : أسألك ؟ قال : ذلك إليك جعلت فداك فان عرفت جواب ما تسألنى عنه و إلاّ استفدته منك . فقال أبو جعفر عليه السّلام : أخبرنى عن رجل نظر إلى امرأة في أوّل النهار فكان نظره إليها حراما عليه ، فلمّا ارتفع النهار حلّت له ، فلمّا زالت الشمس حرمت عليه ، فلمّا كان وقت العصر حلّت له فلمّا غربت الشمس حرمت عليه ، فلمّا دخل عليه وقت عشاء الآخرة حلّت له ، فلمّا كان انتصاف الليل حرمت عليه ، فلمّا طلع الفجر حلّت له ، ما حال هذه المرأة و بما ذا حلّت له و حرمت عليه ؟ فقال له يحيى بن أكثم : و اللّه ما اهتدى لى جواب هذا السؤال و لا أعرف الوجه فيه ، فان رأيت أن تفيدناه ؟ فقال أبو جعفر عليه السّلام : هذه أمة لرجل من النّاس نظر إليها أجنبىّ في أوّل النهار فكان نظره إليها حراما عليه ، فلمّا ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلّت له ، فلمّا كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه ، فلمّا كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له ، فلمّا كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه ، فلمّا كان وقت العشاء الآخرة كفر عن الظهار فحلّت له ، فلمّا كان في نصف الليل طلّقها واحدة فحرمت عليه ، [ 155 ] فلمّا كان عند الفجر راجعها فحلّت له . قال : فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم : هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب أو يطرف القول فيما تقدّم من السؤال ؟ قالوا : لا و اللّه إنّ أمير المؤمنين أعلم بما رأى . فقال لهم : ويحكم إنّ أهل هذا البيت خصّوا من الخلق بما ترون من الفضل و إنّ صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال ، أما علمتم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين عليّ بن أبيطالب عليه السّلام و هو ابن عشر سنين و قبل منه الإسلام و حكم له به و لم يدع أحدا في سنّه غيره ، و بايع الحسن و الحسين عليهما السّلام و هما ابنا دون ست سنين و لم يبايع صبيّا غيرهما ؟ أفلا تعلمون الآن ما اختص اللّه به هؤلاء القوم و أنّهم ذريّة بعضها من بعض يجري لآخرهم ما يجرى لأوّلهم ؟ قالوا : صدقت يا أمير المؤمنين . ثمّ نهض القوم فلمّا كان من الغد حضر النّاس و حضر أبو جعفر عليه السّلام و صار القوّاد و الحجاب و الخاصّة و العامّة لتهنئة المأمون و أبي جعفر عليه السّلام فاخرجت ثلاثة أطباق من الفضّة فيها بنادق مسك و زعفران معجون في أجواف تلك البنادق رقاع مكتوبة بأموال جزيلة و عطايا سنيّة و أقطاعات فأمر المأمون بنثرها على القوم في خاصّته فكان كلّ من وقع في يده بندقة أخرج الرقعة الّتي فيها و التمسه فاطلق له و وضعت البدر فنثر ما فيها على القّواد و غيرهم و انصرف النّاس و هم أغنياء بالجوائز و العطايا و تقدّم المأمون بالصدقة على كافة المساكين و لم يزل مكرما لأبي جعفر عليه السّلام معظّما لقدره مدّة حياته يؤثره على ولده و جماعة أهل بيته . بيان : المراد بابن الرّضا هو أبو جعفر محمّد بن عليّ الرضا عليهما السّلام ، راقك منه أي عجبه و سرّه ، الهدى بالفتح ثمّ السكون : السيرة و الهيئة و الطريقة و هو فاعل لقولهم راقك ، على مسألة يحيى بن أكثم أى أن يستدعوا منه . و الدست بالفتح ثمّ السكون : الوسادة و يقال بالفارسيّة تشك . المسورة كمكنسة المتكأ من أدم . لجلج أى تردّد . اخطب جعلت فداك لنفسك : جعلت فداك معترضة [ 156 ] وقعت في البين و لنفسك متعلق بقوله : اخطب . جيادا جمع الجيّد ، و هو ضدّ الرّدىّ . و الأبريسم معرّب أبريشم . العجل كالأجل : الآلة الّتي تحمل عليها الأثقال و يقال بالفارسية : گارى . الغالية : الطيب . ظاهر منها : أى قال لها : ظهرك عليّ كظهر امّي كما بين في الفقه . « الإمام العاشر » أبو الحسن عليّ الهادي النقيّ ابن محمّد الجواد ابن عليّ الرّضا عليهم السّلام و يعرف بالعسكرى أيضا كما أن ابنه الإمام الحاديعشر معروف بهذا اللقلب و سيأتي وجهه . قال ابن خلّكان في تاريخه في ترجمته عليه السّلام و المسعودى في مروج الذهب في ذكر خلافة المتوكل باسناده إلى محمّد بن يزيد المبرد قالا : و قد كان سعى به إلى المتوكل و قيل إنّ في منزله سلاحا و كتبا و غيرها من شيعته و أوهموه أنّه يطلب الأمر لنفسه فوجّه إليه بعدة من الأتراك ليلا فهجموا عليه في منزله على غفلة فوجدوه وحده في بيت مغلق و عليه مدرعة من شعر و على رأسه ملحفة من صوف و هو مستقبل القبلة يترنّم بآيات من القرآن الكريم في الوعد و الوعيد و ليس بينه و بين الأرض بساط إلاّ الرمل و الحصا فأخذ على الصورة الّتي وجد عليها و حمل إلى المتوكل في جوف الليل فمثّل بين يديه و المتوكل يستعمل الشراب و في يده كأس فلما رآه أعظمه و أجلسه إلى جانبه و لم يكن في منزله شي‏ء مما قيل عنه و لا حجة يتعلّل عليه بها فناوله المتوكل الكأس الّذي كان بيده فقال : يا أمير المؤمنين ما خامر لحمى و دمى قط فاعفني منه فأعفاه . و قال : أنشدني شعرا أستحسنه فقال : إنّي لقليل الرواية في الشعر ، فقال : لا بدّ أن تنشدني شيئا فأنشده : باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فما أغنتهم القلل و استنزلوا بعد عز من منازلهم ( عن معاقلهم خ ل ) فاودعوا حفرا يابئس ما نزلوا ناداهم صارخ من بعد ما قبروا أين الأسرة و التيجان و الحلل ؟ أين الوجوة الّتي كانت منعمة من دونها تضرب الأستار و الكلل فأفصح القبر عنهم حين ساء لهم تلك الوجوه عليها الدود تنتقل ( تقتتل خ ) قد طالما أكلوا دهرا و ما شربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد اكلوا و طالما عمروا دورا لتحصنهم ففارقوا الدور و الأهلين و انتقلوا [ 157 ] و طالما كنزوا الأموال و ادّخروا فخلفوها على الأعداء و ارتحلوا أضحت منازلهم قفرا معطّلة و ساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا قال : فأشفق من حضر على عليّ عليه السّلام و ظنوا أن بادرة تبدر منه إليه قال : و اللّه لقد بكى المتوكل بكاء طويلا حتّى بلت دموعه لحيته و بكى من حضره ثمّ أمر برفع الشراب ثمّ قال له : يا أبا الحسن أ عليك دين ؟ قال : نعم ، أربعة آلاف دينار فأمر بدفعها اليه و ردّه إلى منزله من ساعته مكرما . و نقل القصة ثقة الاسلام الكليني في الكافي و الفيض ( ره ) في الوافي ( ص 195 م 2 ) و الشيخ الجليل المفيد في الارشاد أعجب ما نقله ابن خلّكان ، قال المفيد : أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمّد ، عن محمّد بن يعقوب ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن ابن النعيم ابن محمّد الطاهرى قال : مرض المتوكل من خراج خرج به فأشرف منه على الموت فلم يجسر أحد أن يمسّه بحديدة فنذرت امّه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن عليّ بن محمّد عليهما السّلام مالا جليلا من مالها و قال له الفتح بن خاقان : لو بعثت إلى هذا الرّجل يعني أبا الحسن عليه السّلام فسألته فانّه ربّما كان عنده صفة شي‏ء يفرج اللّه به عنك فقال : ابعثوا اليه فمضى الرسول و رجع فقال : خذوا كسب الغنم فديفوه بماء الورد وضعوه على الخراج فانّه نافع باذن اللّه ، فجعل من يحضر المتوكل يهزأ من قوله فقال لهم الفتح : و ما يضرّ من تجربة ما قال فو اللّه إنّي لأرجو الصلاح به فأحضر الكسب و ديف بماء الورد و وضع على الخراج فانفتح و خرج ما كان فيه و بشّرت امّ المتوكل بعافية فحملت إلى أبي الحسن عليه السّلام عشرة آلاف دينار تحت ختمها و استقل المتوكل فلمّا كان بعد أيّام سعى البطحائي بأبي الحسن عليه السّلام إلى المتوكل و قال : عنده أموال و سلاح فتقدم المتوكل إلى سعيد الحاجب أن يهجم عليه ليلا و يأخذ ما يجده عنده من الأموال و السلاح و يحمل إليه ، قال إبراهيم بن محمّد : قال لي سعيد الحاجب : صرت إلى دار أبي الحسن عليه السّلام بالليل و معي سلّم فصعدت منه إلى السطح و نزلت من الدرجة إلى بعضها في الظلمة فلم أدر كيف أصل إلى الدار فناداني أبو الحسن عليه السّلام من الدار يا سعيد مكانك حتّى يأتوك بشمعة فلم [ 158 ] ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدت عليه جبّة صوف و قلنسوة منها و سجادته على حصير بين يديه و هو مقبل على القبلة فقال لي : دونك البيوت فدخلتها و فتشّتها فلم أجد فيها شيئا و وجدت البدرة مختومة بخاتم امّ المتوكل و كيسا مختوما معها . فقال لي أبو الحسن عليه السّلام دونك المصلّى فرفعته فوجدت سيفا في جفن ملبوس فأخذت ذلك و صرت إليه فلمّا نظر إلى خاتم امّه على البدرة بعث إليها فخرجت إليه فسألها عن البدرة فأخبر بعض خدم الخاصّة أنها قالت : كنت نذرت في علّتك إن عوفيت أن أحمل إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه و هذا خاتمي على الكيس ما حرّكه و فتح الكيس الآخر فاذا فيه أربعمائة دينار فأمر أن يضم إلى البدرة بدرة اخرى و قال لي : احمل ذلك إلى أبي الحسن عليه السّلام و اردد عليه السيف و الكيس بما فيه فحملت ذلك إليه و استحييت منه فقلت له : يا سيدى عزّ عليّ دخولى دارك بغير اذنك و لكنّي مأمور فقال لى : و سيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون . بيان : الخراج بالضم ما يخرج في البدن من القروح كالدمل و شبهه . و في الصحاح : الكسب بالضم عصارة الدهن و قال بعض أهل اللغة : هو ما تلبّد من أبعار الشاة و لهذا اضيف الكسب إلى الغنم و جاء في الكافي كسب الشاة مكان كسب الغنم . دافه بالشي‏ء أى خلطه . ضعوه فعل أمر . استقل المتوكل اى رفع علته و برأ . عزّ علىّ أى اشتدّ و صعب على دخولى دارك بغير إذنك . و في الكافي : سعى إليه البطحائى العلوى . أقول : تلك الأبيات مذكورة في الديوان المنسوب إلى جدّه و سميّه أمير المؤمنين عليّ بن أبيطالب عليهم السّلام و تنتهى إلى خمسة و عشرين بيتا ، و فضائله و مناقبه و معجزاته و احتجاجاته في التوحيد و سائر العلوم الدينيّة و الدنياويّة على المخالف و المؤالف حجة قاطعة على اولى الدراية و النهى في سموّ مقامه و تكامل فضله و وفور علمه و امامته و خلافته . في الاحتجاج : سئل أبو الحسن عليه السّلام عن التوحيد فقيل له : لم يزل اللّه وحده لا شي‏ء معه ثمّ خلق الأسماء بديعا و اختار لنفسه الأسماء و لم تزل الأسماء و الحروف [ 159 ] معه قديمة . فكتب عليه السّلام : لم يزل اللّه موجودا ثمّ كوّن ما أراد لا رادّ لقضائه و لا معقّب لحكمه تاهت أوهام المتوهمين و قصر طرف الطارفين و تلاشت أوصاف الواصفين و اضمحلّت أقاويل المبطلين عن الدرك لعجيب ( لعظيم خ ل ) شانه أو الوقوع بالبلوغ على علوّ مكانه فهو بالموضع الّذى لا يتناهي و بالمكان الّذي لم تقع عليه فيه عيون باشارة و لا عبارة هيهات هيهات . و فيه أيضا : قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم الحد عليه فأسلم فقال يحيى بن أكثم : قد هدم إيمانه شركه و فعله و قال بعضهم يضرب ثلاثة حدود و قال بعضهم : يفعل به كذا و كذا فأمر المتوكل بالكتاب إلى أبي الحسن العسكرى عليه السّلام و سؤاله عن ذلك فلمّا قرأ الكتاب كتب : يضرب حتّى يموت ، فأنكر يحيى و أنكر فقهاء العسكر ذلك فقالوا : يا أمير المؤمنين سل عن هذا فانّه شي‏ء لم ينطق به كتاب و لم تجي‏ء به سنة فكتب اليه : إن فقهاء المسلمين قد أنكروا هذا و قالوا : لم تجي‏ء به سنة و لم ينطق به كتاب فبيّن لنا لم أوجبت عليه الضرب حتّى يموت ؟ فكتب : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنا باللّه وحده و كفرنا بما كنا به مشركين . فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا الآية . فأمر به المتوكل فضرب حتّى مات . و كذا غيرها من الاحتجاجات الانيقة العلميّة رواها ثقات المحدثين . و بالجملة و قد اجتمعت فيه خصال الإمامة و تكامل علومه و فضله و جميع خصال الخير فيه و كانت أخلاقه كلّها خارقة للعادة كاخلاق آبائه عليهم السّلام و لو ذكرنا جميع محاسنه الكريمة و آثاره العلميّة لطال الكتاب بها . « الإمام الحادي عشر » أبو محمّد الحسن العسكري ابن عليّ الهادي عليهما السّلام . قال ابن خلّكان في تاريخه : هو أحد الأئمة الاثنى عشر على اعتقاد الإماميّة و هو والد المنتظر صاحب السرداب و يعرف بالعسكري و أبوه علىّ يعرف بهذه النسبة إلى أن قال : و العسكري بفتح العين المهملة و سكون السين المهملة و فتح الكاف و بعدها راء هذه النسبة إلى [ 160 ] سرّ من رأى و لمّا بناها المعتصم و انتقل إليها بعسكره قيل لها العسكر و انما نسب الحسن المذكور إليها لأنّ المتوكّل أشخص أباه عليّا إليها و اقام بها عشرين سنة و تسعة أشهر فنسب هو و ولده هذا اليها . انتهى كلامه . و في الخرائج و الجرائح للراوندي : كانت أخلاقه كاخلاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان رجلا أسمر حسن القامة جميل الوجه جيد البدن حدث السن له جلالة و هيبة و هيئة حسنة تعظمه العامّة و الخاصّة اضطرارا يعظمونه لفضله و يفدونه لعفافه و صيانته و زهده و عبادته و صلاحه و اصلاحه و كان جليلا نبيلا فاضلا كريما يحمل الأثقال و لا يتضعضع للنواكب أخلاقه خارقة للعادة على طريقة واحدة . و في الاحتجاج للطبرسي بإسناده إلى أبي يعقوب يوسف بن محمّد بن زياد و أبي الحسن عليّ بن محمّد بن سيّار أنّهما قالا : قلنا للحسن أبي القائم : إنّ قوما عندنا يزعمون أن هاروت و ماروت ملكان اختارتهما الملائكة لما كثر عصيان بني آدم و أنزلهما اللّه مع ثالث لهما إلى الدّنيا و أنهما افتتنا بالزهرة و ارادا الزنا بها و شربا الخمر و قتلا النفس المحرمة و أنّ اللّه يعذبهما ببابل و أنّ السحرة منهما يتعلّمون السحر و أن اللّه مسخ تلك المرأة هذا الكوكب الذي هو الزهرة ؟ فقال الإمام عليه السّلام : معاذ اللّه من ذلك إن ملائكة اللّه معصومون محفوظون من الكفر و القبائح بألطاف اللّه فقال عزّ و جلّ لهم لا يعصون اللَّه ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون و قال و له من في السّموات و الأرض و من عنده يعني الملائكة لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون . يسبّحون اللّيل و النّهار لا يفترون و قال في الملائكة . بل عباد مكرمون . لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون إلى قوله : مشفقون كان اللّه قد جعل هؤلاء الملائكة خلفاءه في الأرض و كانوا كالأنبياء في الدّنيا و كالأئمة أفيكون من الأئمة قتل النّفس و الزنا ؟ . ثمّ قال عليه السّلام : أو لست تعلم أنّ اللّه لم يخل الدّنيا من نبيّ أو إمام من البشر ؟ أو ليس اللّه تعالى يقول و ما أرسلنا قبلك يعني إلى الخلق إلاّ رجالاً نوحى إليهم من أهل القرى فأخبر أنّه لم يبعث الملائكة إلى الأرض ليكونوا أئمّة و حكاما [ 161 ] و إنّما ارسلوا إلى أنبياء اللّه . قالا : قلنا له عليه السّلام : فعلى هذا لم يكن إبليس أيضا ملكا . فقال عليه السّلام : لا بل كان من الجنّ أما تسمع أن اللّه تعالى يقول : و إذ قلنا للملئكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس كان من الجن فاخبر انه كان من الجن و هو الذي قال اللّه تعالى و الجانّ خلقناه من قبل من نار السموم . و قال الإمام عليه السّلام : حدّثني أبي عن جدّي عن الرّضا عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : إنّ اللّه اختارنا معاشر آل محمّد و اختار النبيين و اختار الملائكة المقربين و ما اختارهم إلاّ على علم منه بهم أنّهم لا يواقعون ما يخرجون به عن ولايته و ينقطعون به عن عصمته و ينصّمون به إلى المستحقين لعذابه و نقمته . قالا : قلنا : فقد روى لنا إنّ عليّا صلوات اللّه عليه لما نصّ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالإمامة عرض اللّه ولايته على فئام و فئام من الملائكة فأبوها فمسخهم اللّه ضفادع ، فقال عليه السّلام : معاذ اللّه هؤلاء المتكذبون علينا ، الملائكة هم رسل اللّه كسائر أنبياء اللّه إلى الخلق أ فيكون منهم الكفر باللّه ؟ قلنا : لا . قال : فكذلك الملائكة إنّ شأن الملائكة عظيم و إنّ خطبهم لجليل . انتهى . و بالجملة ان فضائله و مناقبه و معجزاته و احتجاجاته و شيمه و علومه و زهده و كمال عقله و عصمته و شجاعته و كرمه و كثرة اعماله المقربة إلى اللّه تعالى و اجتماع خلال الفضل فيه تنادى بأعلى صوتها تقدمه على كافة أهل عصره و إمامته الرياسة الالهيّة على جميع من سواه و أعرضنا عن تفصيلها روما للاختصار . « كلام محيى الدين الاعرابى أو المغربى فيه ( ع ) » قال في المناقب : صلوات اللّه و ملائكته و حملة عرشه و جميع خلقه من أرضه و سمائه على البحر الزاخر ، زين المفاخر ، الشاهد لأرباب الشهود ، الحجّة على ذوى الجحود ، معرّف حدود حقائق الربانيّة ، منوّع أجناس العالم السبحانية ، عنقاء قاف القدم ، العالي عن مرقاة الهمم ، وعاء الأمانة ، محيط الإمامة ، مطلع الأنوار [ 162 ] المصطفوى ، الحسن بن عليّ العسكري عليه صلوات اللّه الملك الأكبر . « الإمام الثانى عشر » المسمّى باسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المكنّى بكنيته الذي بيمنه رزق الورى و ببقائه بقيت الدنيا خاتم الأوصياء و شرف الأرض و السماء بقية اللّه في أرضه و المنتقم من أعدائه الحجّة من آل محمّد صاحب الزمان و خليفة الرّحمن إمامنا و مولانا ابن الحسن العسكري عجّل اللّه تعالى فرجه كان سنّه عند وفاة أبيه خمس سنين آتاه اللّه فيها الحكمة و فصل الخطاب و جعله آية للعالمين و آتاه الحكمة كما آتاها يحيى صبيا و جعله إماما في حال طفوليته كما جعل عيسى في المهد نبيا هو المعصوم من الزلات و المقوم للعصاة سيرته سيرة آبائه عليه و عليهم السّلام خارقة للعادة ، و كان الخبر بغيبته ثابتا قبل وجوده و بدولته مستفيضا قبل غيبته و هو صاحب السيف من أئمة الهدى عليهم السّلام و القائم بالحق المنتظر لدولة الإيمان الذي يملأ اللّه به الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما . و الأخبار من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأسانيد كثيرة و طرق عديدة من الفريقين في أن المهدي عليه السّلام من ولده صلّى اللّه عليه و آله يواطي اسمه اسمه و يبلغ سلطانه المشرق و المغرب و يملأ اللّه به الأرض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا ، بلغت إلى حدّ التواتر حتّى أن الشيخ الحافظ أبا عبد اللّه محمّد بن يوسف بن محمّد الكنجى الشافعي المتوفى سنة 658 ه صاحب كتاب كفاية الطالب صنع كتابا على خمسة و عشرين بابا كلّه من طرق علماء السنة و رواتهم عاريا عن أحاديث الشيعة في أخبار صاحب الزّمان عليه السّلام سماه كتاب البيان في أخبار صاحب الزمان و هذا الكتاب طبع بايران سنة 1324 ه في ذيل كتاب الغيبة لشيخ الطائفة الامامية الشيخ محمّد بن حسن الطوسي . و قال في مقدمة الكتاب : و سميته بالبيان في أخبار صاحب الزّمان و عرّيته عن طرق الشيعة تعرية تركيب الحجّة إذ كل ما تلقته الشيعة بالقبول و إن كان صحيح النقل فإنّما هو خرّيت منارهم و خدارية زمارهم فكان الاحتجاج بغيره آكد و فيه أبواب : [ 163 ] الباب الأوّل في ذكر خروجه عليه السّلام في آخر الزمان . الباب الثّاني في قوله صلّى اللّه عليه و آله المهدي من عترتي من ولد فاطمة . الباب الثّالث في ذكر المهدي من سادات أهل الجنّة . الباب الرّابع في أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمبايعة المهدي عليه السّلام . الباب الخامس في ذكر نصرة أهل المشرق للمهدي عليه السّلام . الباب السادس في مقدار ملكه بعد ظهوره عليه السّلام . الباب السابع في بيان انه يصلّى بعيسى عليه السّلام . الباب الثّامن في تحلية النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله المهدي عليه السّلام . الباب التاسع في تصريح النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأنّ المهديّ من ولد الحسين عليه السّلام . الباب العاشر في ذكر كرم المهدي عليه السّلام . الباب الحاديعشر في الرد على من زعم انّ المهدي عليه السّلام هو المسيح بن مريم الباب الثانيعشر في قوله صلّى اللّه عليه و آله لن تهلك امة أنا في أوّلها و عيسى في آخرها و المهدي في وسطها . الباب الثالث عشر في ذكر كنيته و انّه يشبه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في خلقه . الباب الرّابع عشر في ذكر اسم القرية التي يكون فيها خروج المهدي عليه السّلام . الباب الخامس عشر في ذكر الغمامة التي تظلّ المهدي عليه السّلام . 1 الباب السابع عشر في ذكر صفة المهدي عليه السّلام و لونه و جسمه . 2 الباب التاسع عشر في ذكر كيفية اسنان المهدي عليه السّلام . الباب العشرون في ذكر فتح المهدي عليه السّلام القسطنطنية . الباب الحادي و العشرون في ذكر خروج المهدي عليه السّلام بعد ملك الجبابرة . الباب الثاني و العشرون في قوله صلّى اللّه عليه و آله المهدي عليه السّلام إمام صالح . الباب الثالث و العشرون في ذكر تنعّم الأمّة زمن المهدي عليه السّلام . الباب الرابع و العشرون في أخبار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّ المهدي خليفة اللّه . الباب الخامس و العشرون في الدلالة على جواز كون المهدي عليه السّلام حيا ----------- ( 1 ) هذه الصفحة مطابقة للأصل و قد سقط منها الباب السادس عشر و الباب الثامن عشر و لم يتيسر لي تحصيل المصدر حتى أراجعه فأثبته على ما هو عليه . « المصحح » ----------- ( 2 ) هذه الصفحة مطابقة للأصل و قد سقط منها الباب السادس عشر و الباب الثامن عشر و لم يتيسر لي تحصيل المصدر حتى أراجعه فأثبته على ما هو عليه . « المصحح » [ 164 ] باقيا مذ غيبته . ثمّ أخذ في نقل الاحاديث المنقولة من كتب الصحاح الستّة و غيرها من كتب العامة لكلّ باب . و إن ساعدنا التوفيق نأتى بطائفة من المطالب العلمية الاخر قمعا لبعض الشبهات الموهومة الموهونة في المقام في ضمن كلامه عليه السّلام لكميل بن زياد النخعى : ( اللّهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجة إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا لئلاّ تبطل حجج اللّه و بيناته الخ ) و نسأل اللّه و نرجو من رحمته اللّه الواسعة ان يوفقنا لذلك فانّه ولى التوفيق . و اعلم أنّ ما حرّرنا و نقلناه في المقام قطرة من بحار علمهم و رشحة من سماء فيضهم و كفى لطالب الحق العالم البصير شاهدا انّ المستضيئين من أنوار علومهم لا يعدون و لا يحصون كثرة و ما تفوّه أحد بأنّهم عليهم السّلام أخذوا تلك المعارف الالهيّة من غيرهم و اشتغلوا بالدراسة لدى عالم بل اتفق محققو الامة و منصفوها بأنّ كلّ واحد منهم عليهم السّلام أفضل عصره في جميع الكمالات و الفضائل و المحامد و الخصائل فتنبّه و تيقن بأن علومهم لدنية و انهم حجج اللّه تعالى المنصوبون من عنده و المعصون مما لا يليق لهم . قال المؤلف الشارح الفقير المفتاق إلى رحمة ربّه و المشتاق إلى حضرة جنابه نجم الدين الحسن بن عبد اللّه الطبري الآملي : أشهد أن هؤلاء أئمتي و سادتي و قادتي أئمة الهدى و مصابيح الدجى و ينابيع الحسنى من فاضل طينتهم خلقت ، و بحبّهم ولدت ، و بحبّهم أعيش و بحبّهم أموت و بحبّهم ابعث حيّا إنشاء اللّه تعالى و بهم أتولى و من أعدائهم أتبرأ . قد افلح من استمسك بذيل ولايتهم و فاز من دخل في حصن أمنهم و شرفهم و اغترف من قاموس علمهم و ارتوى من بحر جودهم و من اعرض عنهم فان له معيشة ضنكا و هو في الآخرة من الخاسرين . لأنّهم عليهم السّلام شهداء اللّه على خلقه و خلفاؤه في أرضه و أبواب رحمته و انّهم نور اللّه و ولاة أمره و خزنة علمه و عيبة وحيه و بهم عرف الصواب و علم الكتاب فمن أطاعهم فقد أطاع اللّه و من عصاهم فقد عصاه هم العروة الوثقى و الوسيلة إلى اللّه جلّ و علا . صدق [ 165 ] وليّ اللّه الأعظم أبو عبد اللّه الصّادق عليه السّلام حيث قال لخيثمة ( الكافي . و في الوافي ص 128 م 2 ) : يا خيثمة نحن شجرة النّبوة و بيت الرحمة و مفاتيح الحكمة و معدن العلم و موضع الرسالة و مختلف الملائكة و موضع سر اللّه و نحن وديعة اللّه في عباده و نحن حرم اللّه الأكبر و نحن ذمة اللّه و نحن عهد اللّه فمن وفى بعهدنا فقد وفى بعهد اللّه و من خفرها فقد خفر ذمة اللّه و عهده . الحمد للّه الّذي هدانا لهذا و ما كنّا لنهتدى لو لا أن هدانا اللّه . فلنعد إلى شرح جمل الخطبة الشريفة بعون اللّه تعالى فنقول : انّه عليه السّلام ذكر فيها لآل محمّد عليهم السّلام أوصافا و هذه الأوصاف على الكمال و التمام لا يليق الاّ بهم و لا يصدق الاّ عليهم فانّه لا يتصف بمجموعها إلاّ من كان مؤيّدا من اللّه و منصوبا من عنده و بالجملة على من جعله اللّه تعالى خليفة له و اماما للناس قوله عليه السّلام : ( هم عيش العلم ) أى هم حياة العلم و نفسه يدور معهم حيث داروا و متى كان الإمام كان العلم و سائر الصفات الكمالية الانسانية و بالجملة ان العلم حىّ بهم فكانّما العلم ذو جسد روحه آل محمّد عليهم السّلام و من تتبع الكتب العلميّة يجد أن أنوار علوم الأئمّة اشرقت الأرض و انارت القلوب و أضائت النفوس فعليك بنهج البلاغة و الصحيفة الكاملة و مجلّدات الكافي و التهذيب و الاستبصار و من لا يحضره الفقيه و روايات مجلّدات البحار و تفاسير علماء الإماميّة و غيرها ممّا لا تحصى كثرة بل في تآليف العامة أيضا حتى ترى بعين اليقين انّ الكل عيالهم عليهم السّلام في حقائق الأصول و دقائق الفروع . « كلام ابن الجوزى في على أمير المؤمنين و على » « زين العابدين عليهما السلام » المنقول عن ابن الجوزي في خصائص الأئمّة ، فانه قال : لو لا أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام لما كمل توحيد المسلمين و عقائدهم إذا النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم تحصل له الفرصة إلاّ بقدر أداء امهات العقائد و الفروع و أما دقائقها من كون الصفات مثلا قسمين : ذاتية و فعلية و أن أيها عين ذاته تعالى و أيها ليست بعينها و غيرها من دقائق المطالب [ 166 ] و رقائقها فانّ المسلمين عيال على أمير المؤمنين متعلمون منه . إلى أن قال في حق مولانا سيد الساجدين ما محصله : ان عليّ بن الحسين زين العابدين له حق التعليم في الاملاء و الإنشاء و كيفية المكالمة و المخاطبة و عرض الحوائج إلى اللّه تعالى فانه لولاه لم يعلم المسلمون كيف يتكلمون و يتفوّهون سبحانه في حوائجهم فان هذا الإمام عليه السّلام علّمهم بأنّه متى ما استغفرت فقل كذا و متى ما استسقيت فقل كذا و متى ما خفت من عدوّ فقل كذا الخ و قد روى عن الإمام عليّ بن الحسين عليهما السّلام فقهاء العامة من العلوم ما لا تحصى كثرة و حفظ عنه من المواعظ و الأدعية و فضائل القرآن و الحلال و الحرام و المغازي و الأيّام ما هو مشهور بين العلماء . و هذا هو الصادق جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين استضاء من مشكاة وجوده و ارتوى من بحر جوده أربعة آلاف رجل مما تلوناه عليك و بعض آثارهم و أقوالهم في حق استاذهم الصادق عليه السّلام . قوله عليه السّلام : ( و موت الجهل ) أى هم موت الجهل يعني أنّ الجهل يموت بوجودهم عليهم السّلام و ذلك كما باشراق النور الحسي كنور الشمس مثلا تزول الظلمة و تموت و لا يجتمعان كذلك بنور العلم تموت ظلمة الجهل فلمّا كان آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله شموس سماء العلم و المعرفة و ارواح اجساد العلوم و الحقائق و عيش العلم فلا محالة تعدم ظلمة الجهل بهم . قوله عليه السّلام : ( يخبركم حلمهم عن علمهم ) . الحلم هو طمأنينة النفس بحيث لا يحركها الغضب بسهولة و لا يزعجه المكروه بسرعة فهو ضد الغضب ، و الحلم من اشرف الكمالات النفسية بعد العلم و لذا ترى كلما يسأل عن العلم أو يمدح يقارن بالحلم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : اللهم أغننى بالعلم و زيّني بالحلم . و قال أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام « كما يأتي في باب المختار من حكمه » : ليس الخير أن يكثر مالك و ولدك و لكن الخير أن يكثر علمك و يعظم حلمك . و في باب صفة العلماء من الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام : اطلبوا العلم و تزينوا [ 167 ] معه بالحلم و الوقار الحديث . و فيه عن حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : نعم وزير الإيمان العلم و نعم وزير العلم الحلم و نعم وزير الحلم الرّفق و نعم وزير الرفق الصبر . و انما كان حلمهم عليهم السّلام يخبركم عن علمهم لأن الحلم يلازم العلم بمواقع الحلم . و في الارشاد للمفيد : روى إسحاق بن منصور السلولي قال : سمعت الحسن ابن صالح يقول : سمعت أبا جعفر محمّد بن عليّ عليهما السّلام يقول : ما شيب شي‏ء بشي‏ء أحسن من حلم بعلم . و في البحار و غيره من كتب الأخبار : لمّا مات الحسن بن عليّ عليهما السّلام و أخرجوا جنازته حمل مروان سريره فقال له الحسين عليه السّلام : أتحمل سريره ؟ أما و اللّه لقد كنت تجرعه الغيظ فقال مروان : إنّى كنت أفعل ذلك بمن يوازي ( يوازن خ ل ) حلمه الجبال . ثمّ جاء في بعض النسخ كما في شرح المعتزلي و ينابيع المودّة بعد قوله هذا قوله : ( و ظاهرهم عن باطنهم ) فانّ الظاهر عنوان الباطن فالأفعال الحسنة الصادرة عنهم و الأخلاق الكريمة البارزة منهم تدلّ على حسن سريرتهم و اخلاصهم لأن بدن الانسان بمنزلة مدينة مدبّره و سلطانه هو القلب اعنى العقل و سائر القوى عمّاله و جنوده فاذا سلم القلب لا يصدر منه إلاّ الخير فان القوى حينئذ كانت باسرها تحت اشارة العقل و تدبيرها و وقعت مصالحة و مسالمة بينها و العقل تستعملها في المواضع اللائقة بها على ما ينبغي لها قال عزّ من قائل قد أفلح من زكّيها . كما أن العقل إذا صار مغلوب القوى غلبت على الانسان الشرور و لا يبرز منه إلاّ الأفعال الحيوانية و الآثار الشيطانية فيسقط في مهاوي المهلكة كما قال تعالى و قد خاب من دسّيها و عن النعمان بن بشير قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : في الانسان مضغة إذا هي سلمت و صحّت سلم بها سائر الجسد فاذا سقمت سقم بها سائر الجسد و فسد و هي القلب [ 168 ] و نعم ما قال العارف المعروف مجدود بن آدم السنائي في الحديقة : دل آنكس كه گشت بر تن شاه بود آسوده ملك از او و سپاه بد بود تن چه دل تباه بود ظلم لشگر ز ضعف شاه بود اين چنين پر خلل دلى كه ترا است دد و ديوند با تو زين دل راست پاره گوشت نام دل كردى دل تحقيق را بحل كردى اينكه دل نام كرده‏اى بمجاز رو به پيش سگان كوى انداز از تن و نفس و عقل و جان بگذر در ره او دلى بدست آور آنچنان دل كه وقت پيچاپيچ اندر او جز خدا نيابى هيچ دل يكى منظرى است ربّانى خانه ديو را چه دل خوانى از در نفس تا بكعبه دل عاشقانرا هزار و يك منزل و لقد تكلّمنا في ذلك و أتينا ببعض الاشعار و الامثال في شرح الخطبة 231 عند قوله عليه السّلام ألا إنّ اللسان بضعة من الانسان فراجع . قوله عليه السّلام : ( و صمتهم عن حكم منطقهم ) لا يخفى أنّ الصمت في موقع الكلام قبيح كالكلام في موقع الصمت و سيأتي في باب المختار من حكمه عليه السّلام ، الحكمة 282 قوله عليه السّلام : لا خير في الصمت عن الحكم كما أنه لا خير في القول بالجهل . و ما اجاد كلام الشيخ السعدي : دو چيز طيره عقلست دم فرو بستن بوقت گفتن و گفتن بوقت خاموشى و العارف بمواقع السكوت يكون عارفا بمواقع الكلام أيضا فصمته في موقعه يدلّ على أن منطقه يكون على حكمة و صواب فمن لم يعلم مواقع السكوت يتكلّم بما لا يعنيه و يسكت عن ما يعنيه . فصمتهم عليهم السّلام عن ما لا يعنيهم ، يخبركم على أن منطقهم يكون على حكمة و واقعا في محلّه . ثمّ انّه سئل السّجاد عليّ بن الحسين عليهما السّلام عن الكلام و السكوت أيهما أفضل فقال : لكل واحد منهما آفات فاذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت قيل : كيف ذلك يا ابن رسول اللّه ؟ قال : لأنّ اللّه عزّ و جلّ ما بعث الأنبياء و الأوصياء [ 169 ] بالسكوت انما بعثهم بالكلام و لا استحقت الجنّة بالسكوت و لا استوجبت ولاية اللّه بالسكوت و لا توقيت النّار بالسكوت و ما كنت لأعدل القمر بالشمس انك تصف فضل السكوت بالكلام و لست تصف فضل الكلام بالسكوت . ثم إن في بعض النسخ جائت العبارة هكذا : ( و صمتهم عن منطقهم ) و في بعض النسخ كما اخترناه و على هذا يمكن أن يقرأ الحكم بضم الحاء و سكون الثاني أي صمتهم يخبركم عن حكم منطقهم يعني أن حكم منطقهم صواب و حقيقة كما تقول : ذلك الشي‏ء يكون حكمه كذا ، و يمكن أن يقرأ بكسر الحاء و فتح الثاني جمع الحكمة كما علم . قوله عليه السّلام : ( لا يخالفون الحق ) فان الحق في كلّ شي‏ء هو العدل المحض الذي وسط الافراط و التفريط و آل محمّد صلوات اللّه عليهم هم الأئمّة المهديون من اللّه يهدون بأمر اللّه و ينظرون بنور اللّه و قد دريت مما قدّمنا ان الحجج الالهيّة لمكان عصمتهم لا يعدلون عن الحقّ طرفة عين أبدا و هم الموازين القسط و المعايير الحقّ و المناهج الصدق و على بيّنة من ربّهم . قال اللّه تعالى و بالحق انزلناه و بالحق نزل ( الكهف 107 ) و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : عليّ مع القرآن و القرآن مع عليّ لا يفترقان حتى يردا على الحوض 1 . فعليّ عليه السّلام يكون مع الحقّ إلى يوم القيامة كما نصّ به ----------- ( 1 ) هذه الرواية رواها كثير من نقلة الأحاديث و حملة الأخبار في جوامعهم منهم الشيخ الاجل المفيد قدس سره في كتاب الجمل ( ص 209 طبع نجف ) قال : روى المسعودى عن هاشم بن الوليد عن ابن سعيد التميمى عن أبى ثابت مولى أبى ذر قال : شهدت مع أمير المؤمنين على عليه السلام الجمل فلما رأيت عائشة واقفة بين الصفين و معها طلحة و الزبير ، قلت : ام المؤمنين و زوجة الرسول ( ص ) و حوارى الرسول و صاحبه باحد فدخلنى ما يدخل الناس من الشك حتى كان عند صلاة الظهر كشف اللّه ذلك عن قلبى و قلت : على أمير المؤمنين و أخو سيد المرسلين و أولهم اسلاما لم يكن بالذى يقدم على شبهة فقاتلت معه قتالا شديدا فلما انقضى الحرب أتيت المدينة فسرت الى بيت ام سلمة فاستأذنت عليها فقيل من هذا ؟ فقلت : سائل ، فقالت : أطعموا السائل فقلت : انى و اللّه لم أسأل طعاما و لكنى مولى أبى ذر رجعت أسأل عن دينى فقالت مرحبا بك فقصصت عليها قصتى فقالت : أين كنت حين طارت القلوب مطائرها ؟ فقلت انى بينما احس ذلك اذ كشف اللّه عن قلبى فقاتلت مع أمير المؤمنين ( ع ) حتى فرغ ، فقالت احسنت انى سمعت رسول اللّه ( ص ) يقول : ان عليا مع القرآن و القرآن مع على لا يفترقان حتى يردا الحوض . و كذا اخرج الطبرانى في الأوسط عن ام سلمة قالت ام سلمة قال سمعت رسول اللّه ( ص ) يقول على مع القرآن و القرآن مع على لا يفترقان حتى يردا على الحوض . ( منه ) [ 170 ] رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الحق مع عليّ حيث دار و الأخبار في ذلك المعنى من طرق الفريقين لا تحصى كثرة . و كذا الكلام في باقي الأئمة الاحد عشر الحق معهم حيث داروا لعصمتهم . و في الكافي بإسناده عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : كتاب اللّه فيه نبا ما قبلكم و خبر ما بعدكم و فصل ما بينكم و نحن نعلمه . قوله عليه السّلام : ( و لا يختلفون فيه ) فان كثرة الأقوال من واحد في مسألة واحدة او اختلاف الاثنين أو أكثر فيها انّما يكون بجهلهم عن الحقّ لأنّ الحقّ لا يكون إلاّ واحدا و لا يتكثر و لا يتغيّر . ففي التهذيب لشيخ الطائفة قدس سرّه بإسناده عن أبي مريم عن أبي جعفر عليه السّلام ( ص 60 م 1 من الوافي ) قال : قال عليّ صلوات اللّه عليه : لو قضيت بين رجلين بقضيّة ثمّ عادا إلىّ من قابل لم ازدهما على القول الأوّل لأنّ الحقّ لا يتغير . و حيث إن الحقّ مع آل محمّد حيث دار فلا يتطرق الاختلاف في أقوالهم و آرائهم لأن علومهم من معدن واحد و عين واحدة و ذواتهم عليهم السّلام من نور واحد كما صرّحوا به في كثير من الأخبار و في بعضها خلقنا واحد و علمنا واحد و فضلنا واحد و كلّنا واحد عند اللّه و في رواية : و نحن شي‏ء واحد . و في الكافي بإسناده إلى حمّاد بن عيسى و غيره قالوا سمعنا أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول : حديثى حديث أبي و حديث أبي حديث جدّي و حديث جدّي حديث الحسين و حديث الحسين حديث الحسن و حديث الحسن حديث أمير المؤمنين و حديث أمير المؤمنين حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قول اللّه تعالى . [ 171 ] و فيه باسناده عن أبي بصير قال : قلت لأبى عبد اللّه عليه السّلام : الحديث اسمعه منك أرويه عن أبيك أو أسمعه من أبيك أرويه عنك ؟ قال : سواء إلاّ أنك ترويه عن أبي أحبّ إلىّ . و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لجميل : ما سمعت منّي فاروه عن أبى . و في الكافي أيضا في حديث طويل ( الوافي ص 14 م 2 ) عن أبي جعفر عليه السّلام فقد مكن ولاة الأمر بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالعلم و نحن هم فاسألونا فان صدقناكم فأقرّوا و ما أنتم بفاعلين أمّا علمنا فظاهر ، أما أبان أجلنا الّذي يظهر فيه الدّين مناحتى لا يكون بين النّاس اختلاف فان له أجلا من ممرّ اللّيالي و الأيام إذا أتى ظهر و كان الأمر واحدا ، و أيم اللّه لقد قضى الأمر أن لا يكون بين المؤمنين اختلاف و لذلك جعلهم شهداء على النّاس ليشهد محمّد علينا و لنشهد على شيعتنا و ليشهد شيعتنا على النّاس ، أبى اللّه تعالى أن يكون في حكمه اختلاف أو بين أهل علمه تناقض ، الحديث قوله عليه السّلام : ( هم دعائم الاسلام ) شبّه الدين بالبيت أو الفسطاط مثلا و آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله بدعائمه و كما أن البيت قائم بالدعائم و الأركان كذلك الاسلام بآل محمّد و ذلك لما دريت آنفا انّ اللّه تعالى انزل القرآن تبيانا لكلّ شي‏ء و ما فرط في الكتاب من شي‏ء و كذا علمت انه ما من أمر يختلف فيه اثنان الا و له أصل في كتاب اللّه و لكن لا تبلغه عقول الرّجال ، فلابدّ للقرآن من قيّم مؤيد بتأييدات سماويّة حافظ للدين و مبيّن للكتاب المبين و ذلك القيم المبين في كلّ عصر لابدّ أن يكون خازن علم اللّه و عيبة وحيه و أن تكون أفعاله معهودة من اللّه حتّى يحفظ الدّين به و آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله ولاة أمر اللّه و خزنة علمه . في الكافى باسناده عن الحسن بن موسى عن علىّ عن عمه قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول : نحن ولاة امر اللّه و خزنة علم اللّه و عيبة وحى اللّه . و فيه عن سدير عن أبي جعفر عليه السّلام قال له : جعلت فداك ما أنتم ؟ قال : نحن خزّان علم اللّه و نحن تراجمة وحى اللّه نحن الحجّة البالغة على من دون السّماء و من فوق الأرض . قوله عليه السّلام : ( و ولائج الاعتصام ) أى هم أهل أن يعتمد الورى عليهم و يتّخذوهم ولائج و يتمسّكوا بهم ، فانّهم منار الهدى و اعتصام الورى ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [ 172 ] مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجى و من تخلّف عنها هوى . و في المجلس السادس و التسعين من أمالي الصّدوق باسناده إلى الحكم بن الصلت عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عن آبائه عليهم السّلام قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : خذوا بحجزة هذا الأنزع يعني عليّا عليه السّلام فانه الصديق الأكبر و هو الفاروق يفرق بين الحقّ و الباطل من أحبّه هداه اللّه و من أبغضه أبغضه اللّه و من تخلّف عنه محقه اللّه و منه سبطا امتى الحسن و الحسين و هما ابناى و من الحسين أئمة الهدى اعطاهم اللّه علمى و فهمى فتولّوهم و لا تتخذوا وليجة من دونهم فيحلّ عليكم غضب من ربّكم و من يحلل عليه غضب من ربّه فقد هوى و ما الحيوة الدّنيا إلا متاع الغرور . قوله عليه السّلام : ( بهم عاد الحقّ في نصابه ) أى بوجودهم أو بتصرّفهم و ولايتهم رجع الحق إلى حدّه و مستقره و أصله و قد علم ممّا قدمنا في هذه الخطبة أنّ الحجج الالهيّة هم الموازين القسط و انهم يهدون بأمر اللّه و لا يعصون اللّه ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون و أنّ الرياسة إذا كانت بيدهم كان الزمان نورانيا لأنّهم يحكمون بالعدل و ينطقون بالقسط و يعملون بالحقّ و بعد الحقّ ليس إلاّ الضلال فلو كانت الرّياسة بيد غيرهم كانت الظلمات غالبة و الأباطيل رائجة و أحكام اللّه معطّلة و يسدّ الباطل مسدّ الحقّ فانظر إلى الذين تولوا امور المسلمين ممّن لم يكونوا من بيت آل العصمة كالأمويّين و العباسيّين و غيرهم كيف شوّهوا الدّين و لعبوا به و روّجوا الباطل و عنوا به و ردّوا الأمة على أدبارهم القهقرى و أخذوا مال المسلمين طعمة لهم و لو لا سبل الهدى آل محمّد صلوات اللّه عليهم في قبالهم لانمحت اعلام الهدى فانظر إلى سيرة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام بعد من تقمصوا الخلافة كيف خلص الدين من المهالك و بيّن الحق على أوضح المسالك و للّه در محمّد بن الحبيب الضبّي قائلا : لو لا الأئمة واحدا عن واحد درس الهدى و استسلم الاسلام كل يقوم مقام صاحبه إلى أن ينتهى بالقائم الأيام قوله عليه السّلام : ( و انزاح الباطل عن مقامه ) أى بهم زال الباطل و ذهب عن مقام الحقّ فان زمن ولاية أمراء الجور اقيم الباطل مقام الحق هذا ان ارجعنا [ 173 ] الضمير إلى الحقّ و إن ارجعناه إلى الباطل فالمعنى أن الباطل لما عمل به صار في قبال الحقّ ذا محلّ و مقام ، فبآل محمّد صلّى اللّه عليه و آله زهق الباطل و اجتثّت شجرته الخبيثة من أصله . قوله عليه السّلام : ( و انقطع لسانه عن منبته ) استعار للباطل لسانا و الضمير في منبته كمقامه يحتمل الوجهين فالمعنى على الأوّل أنّ الباطل في منبت الحقّ كشوك نبت في ترعة أو كبقل مرّ نبت في زرع مزرعة فآل محمّد جثّوا نبات الباطل من روضة الحقّ و انقطاع لسان الباطل كناية عن اضمحلاله أو عن سكوته لأنّ قطع اللسان كثيرا ما يجعل كناية عن السكوت . و في كلمتي لو لا و لو ما من باب الحروف من شرح انموزج الزمخشري قيل : ان سائلا دخل على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أنشد بيتا فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لبعض الصحابة : اقطع لسانه فاذهبه ذلك البعض ليقطع لسانه فلقاه عليّ عليه السّلام فقال له : ما تريد بهذا الرّجل ؟ فقال : أقطع لسانه ، فقال عليّ عليه السّلام : أحسن إليه فان الإحسان يقطع اللّسان فرجعا إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالا له : أى شي‏ء تعنى بالقطع يا رسول اللّه ؟ فقال : الإحسان . و أمّا على الوجه الثاني فظاهر معناه و لا يبعد أن يجعل كلمة « لسانه » كناية عن النبات كما أن لسان الحمل و لسان الثور و لسان الكلب و لسان العصافير و غيرها مما هي مذكورة في الكتب الطبيّة كالتحفة و غيره أسام لنباتات ، كما يحتمل أن يكون المراد من لسان الباطل لسان من ينطق به و ينصره . قوله عليه السّلام : ( عقلوا الدّين عقل وعاء و رعاية لا عقل سماع و رواية فان روات العلم كثير و رعاته قليل ) يأتي منه عليه السّلام في باب المختار من حكمه ( كلمة الحكمة 98 ) قوله : اعقلوا الخير إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية فإن روات العلم كثير و رعاته قليل . و في اصول الكافي ( ص 45 م 1 من الوافي ) بإسناده إلى طلحة بن زيد قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول : إن روات الكتاب كثير و إن رعاته قليل و كم من مستنصح للحديث مستغش للكتاب فالعلماء يحزنهم ترك الرعاية و الجهلاء يحزنهم [ 174 ] حفظ الرواية فراع يرعى حياته و راع يرعى هلكته فعند ذلك اختلف الراعيان و تغاير الفريقان . و في الروضة منه ( ص 24 م 14 ) من قول أبي جعفر عليه السّلام في رسالته إلى سعد الخير : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم أمّا بعد فانى أوصيك بتقوى اللّه إلى أن قال : و كل امة قد رفع اللّه عنهم علم الكتاب حين نبذوه و ولاّهم عدّوهم حين تولوه و كان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه و حرّفوا حدوده فهم يروونه و لا يرعونه و الجهال يعجبهم حفظهم للرواية و العلماء يحزنهم تركهم للرعاية . الحديث بطوله . و في اصول الكافي بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السّلام ( في آخر الحديث ) : ألا لا خير في علم ليس فيه تفهم ، ألا لا خير في قرائة ليس فيها تدبر ، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكر . و اعلم أن النيل إلى درك حقائق ما في الكتاب و السنّة و الفوز إلى فهم أسرارهما و التعقل و التدبّر في معانيهما إنّما يتأتي للأوحدى من الناس الذي تنزّه عن الهواجس النفسانيّة و تخلص عن الوساوس النفسانيّة فرزق القوة العقليّة الوقادة و قدس القلب و تلطيف السرّ لأن الوصول إلى العلوم اليقينيّة ثمرة التقوى و التوجه التام إلى اللّه تعالى و بالتقوى يتقرب العبد إلى عالم النور و يصير من سنخه فاذا تحصل له ملكة صالحة و استعداد تامّ و سعة وجودية فيتيسر له استكشاف حقائق ما أوحى إلى سفراء اللّه و استعلام ما اريد به و استنباط الأحكام الالهية منه قال عزّ من قائل : و اتقوا اللَّه و يعلّمكم اللَّه و قال تعالى : و الّذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ( آخر العنكبوت ) . و قال تعالى : و أن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً ( الجن 17 ) و قال في المجمع : و في تفسير أهل البيت عن أبي بصير قال : قلت لأبي جعفر عليه السّلام قول اللّه إنّ الّذين قالوا ربّنا اللَّه ثمّ استقاموا قال : هو و اللّه ما أنتم عليه و لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا . و عن بريد العجلي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : معناه لأفدناهم علما كثيرا يتعلّمونه من الأئمة انتهى ما في المجمع من تفسير الآية . [ 175 ] و المروي عن جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السّلام كما في أمالي الصدوق قال عليه السّلام ان حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ ملك مقرب أو نبيّ مرسل أو عبد امتحن اللّه قلبه للإيمان أو مدينة حصينة و المدينة الحصينة هي القلب المجتمع ، كما مرّ آنفا . و في نهج البلاغة ( الخطبة 187 ) قال عليه السّلام : إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للايمان و لا يعى حديثنا إلاّ صدور أمينة و أحلام رزينة . و نعم ما قال محمّد بن محمود الآملي صاحب نفائس الفنون بالفارسية : بهوس راست نيايد بتمنّي نشود اندر اين راه بسى خون جگر بايد خورد و لا ريب أنّ الفائز بهذه النعمة العظمى و النائل بهذه السعادة الكبرى لا يكون إلاّ قليلا من المخلصين و نعم ما قال افلاطن الحكيم ( ص 8 رسالة زينون الكبير اليوناني طبع حيدر آباد الدكن 1349 ه ) : إنّ شاهق المعرفة أشمخ من أن يطير إليه كلّ طائر و سرادق البصيرة أحجب من أن يحوم حوله كل سائر و كأن الشيخ الرئيس أخذ منه حيث قال في آخر النمط التاسع من الاشارات : جلّ جناب الحقّ عن أن يكون شريعة لكل وارد أو يطلع عليه إلاّ واحدا بعد واحد و لذا يكون رعات العلم قليل . و أمّا حفظ ألفاظ الكتاب و السنة و نقلهما و تصحيحهما و تجويد قرائتهما و ضبط اصطلاحات العلوم و نحوها فلا يحتاج إلى كثير تجشّم و تحمل مشقّة و عناء و لذا يكون رواتها كثير . ثمّ إنّ اسلوب الكلام يقتضي أن يقال : فان روات الدين كثير و رعاته قليل و انما عدل من الدّين إلى العلم اشارة إلى أن الدّين هو العلم و ما يحتويه الكتاب و السنّة علم ليس إلاّ قال اللّه تعالى : الّذين يتّبعون الرسول النبيّ الأميّ إلى قوله : فالذين آمنوا به و عزّروه و نصروه و اتّبعوا النور الّذي انزل معه اولئك هم المفلحون ( الأعراف : 157 ) و قال تعالى كذا : العلم نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء . و قال تعالى : هو الذى ينزّل على عبده آيات بيّنات ليخرجكم من الظلمات إلى النور ( الحديد : 9 ) فما انزل معه علم ليخرج النّاس من ظلمات الجهل إلى نور العلم . [ 176 ] في الكافي عن أبي البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : إنّ العلماء ورثة الأنبياء و ذاك إن الأنبياء لم يورثوا درهما و لا دينارا و إنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشي‏ء منها فقد أخذ حظا وافرا الحديث . و الحمد للّه ربّ العالمين . الترجمة اين يكى از خطبه‏هاى وليّ اللّه أعظم است كه در آن آل محمّد صلوات اللّه عليهم اجمعين را بأوصافى نام ميبرد : آل محمّد زندگى دانش و مرگ نادانى‏اند ( بوجودشان دانش زنده است و نادانى مرده ) بردباريشان از دانششان آگاهى ميدهد ، و خاموشيشان از حكمت ( يا از حكم ) گفتارشان . ( بردبارى بجا حاكى از پختگى عقل و علم است و خاموشى بجا دليل بر صواب گفتار كه آن گفتار نيز بجا و صواب است ) نه با حق مخالفت كنند و نه در آن اختلاف . ايشان ستون خانه اسلام‏اند و معتمد و راز دار كسى كه چنگ بذيل عنايتشان در زند ، بوجود ايشان حق بجاى خود آمد و باطل از جايش بر كنده و زبانش از رستنگاهش بريده شد . دين را در دل نگاشته و حرمت آن را نگاهداشته‏اند نه چون كسى كه فقط آنرا شنيده و روايت كرده ( كه بحقيقت آن نرسيده و واقع آنرا نيافته است ) چه راويان علم بسيارند و پاس داران آن كم .