جستجو

و من كلام له ع يريد به بعض أصحابه

متن ترجمه آیتی ترجمه شهیدی ترجمه معادیخواه تفسیر منهاج البرائه خویی تفسیر ابن ابی الحدید تفسیر ابن میثم

و من كلام له عليه السّلام و هو المأتان و السادس و العشرون من المختار فى باب الخطب للّه بلاد فلان فقد قوّم الاود ، و داوى العمد ، خلّف الفتنة ، و أقام السّنة ، ذهب نقىّ الثّوب ، قليل العيب أصاب خيرها ، و سبق شرّها ، أدّى إلى اللّه طاعته ، و اتّقاه بحقّه ، رحل و تركهم في طرق متشعّبة ، لا يهتدى فيها الضّالّ ، و لا يستيقن المهتدى . اللغة قوله ( للّه بلاد فلان ) اللاّم للاختصاص و هو كلام يقال في معرض المدح مثل قولهم للّه درّه و للّه أبوه و للّه ناديه أى البلاد التي تولّد فيها مثله جديرة بالانتساب إليه تعالى و تكون مخصوصة به عزّ و جلّ ، و كذلك الثّدى الذى ارتضع منه ، و الأب الّذى خرج من صلبه ، و المجلس الّذى ربّي فيه و روى للّه بلاء فلان أى عمل حسن . و ( اود ) الشي‏ء اودا من باب فرح اعوج و ( عمد ) البعير عمدا من باب فرح أيضا انفضح داخل سنامه من ركوب و حمل مع سلامة ظاهره و قوله ( اتّقاه بحقّه ) قال الطريحي : أى استقبله به فكأنّه جعل دفع حقّه إليه وقاية له من المطالبة [ 372 ] و قوله ( و تركهم ) في نسخة الشّارح المعتزلي و تركتم بدله بصيغة الخطاب ، و البناء على المفعول . الاعراب قوله : للّه بلاد فلان تقديم الخبر على المبتدء مبالغة في الحصر و التخصيص ، و الباء في قوله : اتّقاه بحقه ، للآلة كما يوضحه ما نقلناه عن الطريحي آنفا ، أى أخذ الوقاية منه لنفسه بأداء حقّه و استعانته ، و أمّا ما قاله الشّارح المعتزلي من أنّ المراد أنّه اتّقى اللّه و دلّنا على أنّه اتّقاه بأداء حقّه فأداء الحقّ علة في علّمنا بأنّه قد اتّقى اللّه سبحانه فتكلّف بارد ، و الواو في جملة و تركهم ، تحتمل العطف و الحال و جملة لا يهتدى آه مجرورة المحل على أنّها نعت لطرق . المعنى اعلم أنّه قد اختلف الشارحون في المشار إليه بهذا الكلام و المكنّى به عنه قال الشّارح المعتزلي : المكنّى عنه عمر بن الخطاب ، و قد وجدت النّسخة الّتي بخطّ الرّضي جامع نهج البلاغة و تحت فلان : عمر ، حدّثني بذلك فخار بن معد الموسوى . و سألت عن النقيب أبا « أبى ظ » جعفر يحيى بن أبى زيد العلوى فقال لى : هو عمر ، فقلت له أثنى عليه أمير المؤمنين هذا الثناء ؟ فقال : نعم ، أمّا الاماميّة فيقولون : إنّ ذلك من التقية و استصلاح أصحابه ، و أمّا الصّالحيون من الزّيدية فيقولون : انّه أثنى عليه حقّ الثّناء و لم يضع المدح إلاّ فى موضعه و نصابه ، و أمّا الجاروديّة من الزّيدية فيقولون : إنّه كلام قاله فى أمر عثمان أخرجه مخرج الذّم و التنقص لاعماله كما يمدح الآن الأمير الميّت فى أيّام الأمير الحىّ بعده ، فيكون ذلك تعريضا به ، فقلت له : إلاّ أنّه لا يجوز التعريض للحاضر بمدح الماضى إلاّ إذا كان ذلك المدح صدقا لا يخالطه ريب و لا شبهة فاذا اعترف أمير المؤمنين بأنّه أقام السّنة و ذهب نقىّ الثوب [ 373 ] قليل العيب و أنّه أدّى إلى اللّه طاعته و اتّقاه بحقّه ، فهذا غاية ما يكون من المدح فلم يجبنى بشى‏ء و قال : هو ما قلت لك ، قال : و قال الرّاوندى إنّه عليه السّلام مدح بعض أصحابه بحسن السيرة و أنّ الفتنة هى الّذى وقعت بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الاختيار و الاثرة ، و هذا بعيد ، لأنّ لفظ أمير المؤمنين يشعر إشعارا ظاهرا بأنّه يمدح واليا ذا رعيّة و سيرة . ثمّ ذكر الشّارح مؤيّدات أخرى لكون المراد به عمر إلى أن قال فى آخر كلامه : و هذه الصّفات إذا تأملها المنصف و أماط عن نفسه الهوى علم أنّ أمير المؤمنين لم يعن بها إلاّ عمر لو لم يكن قد روى لنا توفيقا و نقلا انّ المعنى بها عمر فكيف و قد رويناه عمّن لا يتّهم فى هذا الباب ، انتهى . و قال الشارح البحرانى : إرادته لأبى بكر أشبه لارادته لعمر ، لما ذكر عليه السّلام فى خلافة عمر و ذمّها به فى الخطبة المعروفة بالشقشقية ، انتهى . و أقول : أما ما قاله القطب الراوندى فاستبعاد الشارح المعتزلى له بموقعه ، و كذلك ما زعمه الشارح البحرانى فانه أيضا بعيد ، و تقريبه له بأنه ذمّ خلافة عمر فى خطبة الشقشقية ، فيه أنه عليه السّلام ذمّ هناك خلافة أبى بكر أيضا حسبما عرفت أيضا و لو لم يكن فيها إلاّ قوله عليه السّلام : فصبرت و فى العين قذى و فى الحلق شجى أرى تراثى نهبا ، لكان كافيا فى الطعن و الازراء المنافى للمدح و الثناء فضلا من المطاعن و المذامّ الواردة عنه عليه السّلام فى مقامات اخر فى حقّ الأوّل كالثانى المتجاوزة عن حدّ الاحصاء و طور الاستقصاء . و أما ما زعمه الشارح المعتزلى من أنّ المراد به عمر و مبالغته فيه و استظهاره له بما فصله فى كلامه ، ففيه أنه إن كان هذا الرّجل الجلف هو المراد به و أبقينا الكلام على ظاهره على ما توهّمه الظاهر من كون عمر أهلا للأوصاف المذكورة لا غير ، كان هذا الكلام مناقضا صريحا لما تقدّم عنه فى الخطبة الشقشقية من مثالب [ 374 ] عمر و معايب خلافته ، فلاحظ المقام و انظر ما ذا ترى . بل كان منافيا لاصول مذهب الاماميّة رضوان اللّه عليهم المتلقّى عن أئمّتهم سلام اللّه عليهم و لأخبارهم المتواترة المأثورة عن أهل بيت العصمة و الطّهارة المفصحة عن كفر الأوّل و الثّاني كليهما و كونهما منشأ جميع الشّرور و المفاسد و البدعات الجارية في الامّة المرحومة إلى يوم القيامة . قال كميت بن زيد الأسدي فيما رواه عنه في البحار من الكافي : دخلت على أبي جعفر عليه السّلام قلت : خبّرني عن الرّجلين ، قال : فأخذ الوسادة و كسرها في صدره ثمّ قال : و اللّه يا كميت ما اهريق محجمة من دم و ما اخذ مال من غير حلّه و ما قلب حجر من حجر إلاّ ذاك في أعناقهما ، و نحوه أخبار كثيرة . بل المستفاد من بعض الأخبار أنّ جميع الشّرور و المفاسد الواقعة في الدّنيا من ثمرات تلك الشّجرة الخبيثة ، و قد مرّت طائفة منها في شرح الخطبة المأة و الخمسين . فبعد اللّتيا و اللّتى فاللاّزم على جعل المكنّي عنه عمر كما زعمه الشّارح هو صرف الجملات الآتية عن ظواهرها المفيدة للمدح و الثّناء ، لتطابق اصول الاماميّة و قواعدهم المبنيّة على الذّم و الازراء ، و على إبقائها على ظواهرها فلابدّ من جعل المكنّى عنه شخصا آخر له أهليّة الاتّصاف بهذه الأوصاف . و عليه فلا يبعد أن يكون مراده عليه السّلام هو مالك بن الحرث الأشتر ، فلقد بالغ في مدحه و ثنائه في غير واحد من كلماته . مثل ما كتبه إلى أهل مصرحين ولى عليهم مالك حسبما يأتي ذكره في باب الكتب تفصيلا إنشاء اللّه . و مثل قوله عليه السّلام فيه لما بلغ إليه خبر موته : مالك و ما مالك لو كان من جبل لكان فندا ، و لو كان من حجر لكان صلدا ، عقمت النساء أن يأتين بمثل مالك بل صرّح في بعض كلماته بأنّه كان له كما كان هو لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من هذا [ 375 ] شأنه فالبتّة يكون أهل لأن يتّصف بالأوصاف الآتية بل بما فوقها . و الحاصل أنّه على كون المكنّى عنه عمر لا بدّ من تأويل كلامه و جعله من باب الايهام و التّورية على ما جرت عليها عادة أهل البيت عليهم السّلام في أغلب المقامات فانّهم لما رأوا من النّاس جمهورهم إلاّ النّادر من خواصّ أصحابهم الافتتان بمحبة صنمى قريش ، و أنّهم اشربوا قلوبهم حبّ العجلين ، و ولعوا بعبادة الجبت و الطاغوت سلكوا في كلماتهم كثيرا مسلك التّورية و التقيّة حقنا لدمائهم و دماء شيعتهم ، حيث لم يتمكّنوا من إظهار حقيقة الأمر . و يشهد بذلك ما رواه في البحار من الكافي باسناده عن فروة عن أبي جعفر عليه السّلام قال : ذاكرته شيئا من أمرهما فقال : ضربوكم على دم عثمان ثمانين سنة و هم يعلمون أنّه كان ظالما فكيف يا فروة إذا ذكرتم صنميهم . و فيه من تقريب المعارف لأبي الصّلاح في جملة كلام له قال : و رووا عن بشير بن دراكة النّبال قال : سألت أبا جعفر عليه السّلام عن أبي بكر و عمر فقال : كهيئة المستهزء به ما تريد من صنمى العرب أنتم تقتلون على دم عثمان بن عفّان فكيف لو أظهرتم البراءة منهما لما ناظروكم طرفة عين قال و رووا عن أبي الجارود قال : سئل محمّد بن عمر بن الحسن بن عليّ بن أبيطالب عن أبي بكر و عمر فقال : قتلتم منذ ستّين سنة في أن ذكرتم عثمان فو اللّه لو ذكرتم أبا بكر و عمر لكان دماؤكم أحلّ عندهم من دماء السنانير . بل كثيرا ما كانوا يتكّلمون عليهم السّلام بكلمات موهمة للمدح و الثّناء مماشاتا للنّاس و مداراتا لهم . مثل ما روى من كتاب المثالب لابن شهر آشوب أنّ الصّادق عليه السّلام سئل عن أبي بكر و عمر ، فقال : كانا إمامين قاسطين عادلين كانا على الحقّ ، و ماتا عليه ، فرحمة اللّه عليهما يوم القيامة ، فلمّا خلى المجلس قال له بعض أصحابه : كيف قلت يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ؟ فقال : نعم أمّا قولي : كانا إمامين فهو مأخوذ من قوله تعالى [ 376 ] و جعلناهم أئمّة يدعون إلى النّار و أمّا قولي قاسطين فهو من قوله تعالى و أمّا القاسطون فكانوا لجهنّم حطباً و أمّا قولي : عادلين فهو مأخوذ من قوله تعالى : و الّذين كفروا بربّهم يعدلون و أمّا قولي : كانا على الحقّ ، فالحقّ عليّ عليه السّلام و قولى : ماتا عليه ، المراد أنّه لم يتوبا عن تظاهرهما عليه ، بل ماتا على ظلمهما إيّاه ، و أمّا قولي : فرحمة اللّه عليهما يوم القيامة فالمراد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينتصف له منهما أخذا من قوله تعالى و ما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين . و إذا عرفت ذلك فاستمع لما يتلى عليك من وجوه التّورية و التأويل في فقرات كلامه فأقول و باللّه التّوفيق و العصمة . قوله عليه السّلام ( للّه بلاد فلان ) و إن كان بظاهره مفيدا للمدح حسبما بيّناه في بيان اللّغة إلاّ أنّه ليس بذلك ، فانّ اللاّم فيه كاللاّم في قوله تعالى للّه ملك السّموات و الأرض و الكناية عن عمر بلفظة فلان مأخوذ من قوله تعالى يوم يعضّ الظّالم على يديه يقول ياليتني اتّخذت مع الرّسول سبيلا . يا ويلتي ليتني لم أتّخذ فلاناً خليلا فقد فسّر السّبيل في أخبار أهل البيت عليهم السّلام بأمير المؤمنين و الظالم بأبي بكر و فلانا بعمر . قال عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسيره و يوم يعضّ الظالم على يديه قال : الأوّل يقول يا ليتني اتّخذت مع الرّسول سبيلا قال أبو جعفر عليه السّلام يقول : يا ليتني اتّخذت مع الرسول عليّا يا ويلتى ليتني لم اتّخذ فلانا خليلا يعني الثّاني لقد أضلّني عن الذّكر بعد إذ جائني يعني الولاية و كان الشّيطان و هو الثّاني كان للانسان خذولا و روى مثله عن حمّاد عن حريز عن رجل عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال يوم يعضّ الظّالم الآية يقول الأوّل للثّاني . و روى عن الرّضا عليه السّلام أيضا تفسير الآيتين بالأوّل و الثّاني . و قوله ( فقد قوّم الأود ) و إن كان ظاهره يدلّ على أنّه أصلح و عدل ما خرج من امور المسلمين عن حدّ الاعتدال و انحرف عن السّداد ، لكن المقصود به ترويجه [ 377 ] للاعوجاج من قولهم : قامت السّوق أى نفقت و راجت ، فانّ عمر لعدوله عن الصّراط المستقيم الذى هو صراط أمير المؤمنين و غصبه للخلافة قد روّج العوج عن الدّين و الانحراف عن نهج الشّرع المبين . و يوضح ذلك ما رواه في الطرايف عن قتادة عن الحسن البصرى قال : كان يقرء هذا الحرف صراط علىّ مستقيم ، فقلت للحسن : ما معناه ؟ قال : يقول : هذا طريق عليّ بن أبيطالب و دينه طريق و دين مستقيم فاتّبعوه و تمسّكوا به فانه واضح لا عوج فيه و على إبقاء تقويم الاود على ظاهره فلا ملازمة له لمدح عمر أيضا لأنّ تقويم اعوجاج الناس و نظم أمر الرّعية إنما يكون ممدوحا شرعا إذا كان جاريا على وفق القوانين الشرعية ، و أما إذا لم يجر عليها كما هو رسم الجبابرة و سلاطين الجور فلا كما يشير إلى ذلك قول أمير المؤمنين عليه السّلام في الكلام الثامن و الستّين مخاطبا لأهل الكوفة ، و إنّي لعالم بما يصلحكم و يقيم اودكم و لكنّي لا أرى إصلاحكم بافساد نفسي و لقد كان عمدة نظر عمر فى أحكامه و سياساته إلى نظم أمر خلافته و استحكام أركان رياسته و إن كان مخالفا لقانون الشرع . كما يشهد بذلك ما روته الخاصة و العامة من تسوّره حايط بيت الرّجل الذي اتّهمه بشرب الخمر حتى اعترض عليه صاحب البيت بقوله : إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت فى ثلاث قال اللّه و لا تجسّسوا و قد تجسّست و قال و أتوا البيوت من أبوابها و قد تسوّرت و قال إذا دخلتم بيوتا فسلّموا و ما سلّمت ، على ما تقدّم تفصيلا فى شرح الفصل الثانى من الخطبة الثالثة و غير ذلك مما رووا من سيره المخالفة للشريعة ، و قد ذكر الشارح المعتزلى شطرا منها فى شرح هذا الكلام . و قوله ( و داوى العمد ) ظاهره أنه أصلح ما فسد من الامور و خرج عن الصّحة [ 378 ] و السداد بمعالجات تدابيره ، و باطنه أنه عالج مرضه القلبى الذي كان عليه ، فقد استعير العمد الذي هو عبارة عن انشداخ سنام البعير لمرض القلب كما يستعار لمرض العشق يقال : فلان عميد القلب و معمود ، قال قيس العامري فى قصيدة عشقية مشحونة بأبيات العشق و المحبة . يلوموننى فى حبّ ليلى عواذل و لكنّنى من حبّها لعميد و الجامع بين المستعار منه و المستعار له كون كلّ منهما موجبا للألم و الأذى و المرض الذى كان فى قلب عمر هو المرض المزمن و الداء الدّوى أعنى مرض الشك و النفاق و معاداة النبيّ و الوصىّ عليهما السّلام فانّ قيح عداوتهما لا سيما عداوة أمير المؤمنين عليه السّلام و بغضه كان يغلى فى صدره كغلى القيح فى سنام البعير لا يكاد يندمل حتى مضى النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى لقاء ربّه ، فعالج مرضه و داوى عمده بما مهّده فى نفسه من صرف الخلافة عن أهل بيته و تغيير وصيته و إحراق بيت ابنته ، و تبديل قوانين شريعته ، فنال ما أبطن فى قلبه و بلغ غاية المراد و منتهى المرام . و إلى هذا المرض اشير فى قوله تعالى و من الناس من يقول آمنّا باللّه و اليوم الآخر و ما هم بمؤمنين . يخادعون اللّه و الذين آمنوا و ما يخدعون إلاّ أنفسهم و ما . يشعرون . فى قلوبهم مرض فزادهم اللّه مرضاً و لهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون قال أمين الاسلام الطبرسى : المراد بالمرض فى الآية الشكّ و النفاق بلا خلاف و إنما سمّى الشكّ فى الدّين مرضا لأنّ المرض هو الخروج عن حدّ الاعتدال ، فالبدن ما لم تصبه آفة يكون صحيحا سويا و كذلك القلب ما لم يصبه آفة من الشكّ يكون صحيحا ، و قيل : أصل المرض الفتور فهو فى القلب فتوره عن الحقّ كما أنه فى البدن فتور الأعضاء و قال فى الصافى : قوله تعالى و من الناس من يقول الآية أقول : كابن أبىّ و أصحابه و كالأوّل و الثانى و أضرابهما من المنافقين الذين زادوا على الكفر الموجب للختم و الغشاوة النفاق و لا سيّما عند نصب أمير المؤمنين عليه السّلام للخلافة و الامامة . [ 379 ] و قال أيضا قوله في قلوبهم مرض قيل : نفاق و شكّ و ذلك لأنّ قلوبهم كانت تغلى على النّبيّ و الوصيّ و المؤمنين حقدا و حسدا ، و في تنكير المرض و ايراد الجملة ظرفيّة إشارة إلى استقراره و رسوخه و إلاّ لقال مرض قلوبهم . و قوله عليه السّلام ( أقام السّنة ) ظاهره إقامته لسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و طريقته قولا و فعلا و تقريرا و لكنّه تورية عن السّنن العمرية و هى بدعاته و أحداثه الّتي سنّها قبال سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمقتضى أهوائه الفاسدة . مثل تحريم المتعتين ، و العول في الفرايض ، و صلاة الضّحى و صلاة التراويح و هى فعل نوافل شهر رمضان بالجماعة ، و وضع الخراج على سواد العراق ، و ترتيب الجزية ، و إسقاط حىّ على خير العمل من الأذان بايهامه أنّ هذه الكلمة تدعو النّاس إلى ترك الجهاد لأنّهم يزعمون إنّ الصّلاة أفضل من ساير الأعمال و لكنّ الدّاعى الحقيقي له إلى الاسقاط غير ذلك . و هو ما ورد في رواية الصّادق عليه السّلام من أنّ عمر سمع من النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ خير العمل هو ولاية عليّ بن أبيطالب فموّه على النّاس في تركه حتّى يترك ، إلى غير هذه ممّا مرّ في رواية الرّوضة المتقدّمة في شرح الخطبة الخمسين فليراجع هناك ، و ذكر شطرا منها الشارح المعتزلي في شرح هذا الكلام . و قوله عليه السّلام ( و خلّف الفتنة ) قال الشارح البحراني : تخليفه للفتنة موته قبلها و وجه كون ذلك مدحا له هو اعتبار عدم وقوعها بسببه و في زمنه لحسن تدبيره . و أقول : هذا ظاهره و باطنه من أمض الذّم فانّه تورية عن توريثه الفتنة العظيمة الّتي انشعبت منها جميع الفتن و هى فتنة الشّورى كما صرّح به الشّارح المعتزلي أيضا في شرح الكلام المأتين و الرّابع حسبما حكينا عنه هناك حيث قال : إنّ ما فعله عمر من أمر الشّورى سبب كلّ فتنة وقع و يقع إلى أن تنقضى الدّنيا . و توضيحه أنّ عمر لو لم يجعل الخلافة شورى بين الستّة لما أفضى الأمر إلى عثمان و لم تقع فتنة قتله حتّى يكون الطلب بدمه عنوانا لوقعة صفّين و فتن بني امية [ 380 ] الشوهاء المظلمة و لوقعة البصرة و خروج الخاطئة المشار إليها في قوله تعالى أو كظلمات في بحر لجىّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يريها و في قوله و ما جعلنا الرّؤيا الّتي أريناك إلاّ فتنة للنّاس و الشّجرة الملعونة في القرآن و نخوّفهم فما يزيدهم إلاّ طغياناً كبيراً . ثمّ من التحكيم في صفّين نشأت فتنة المارقين و خروجهم إلى أن انجرّ إلى شهادة أمير المؤمنين و استيلاء معاوية على البلاد و إهراقه للدّماء و استحلاله للأموال و فشت المعاداة بين بني هاشم و بنى اميّة حتّى انتهت إلى الرّزء الجليل و المصيبة العظمى و الدّاهية الدّهياء المحرقة قلوب الشّيعة إلى يوم القيامة و هى وقعة الطّف و شهادة الحسين عليه السّلام و أصحابه ، بل النّار الموقدة فى الطّف لاحراق خيام آل الرّسول من قبسات النّار الّتى أوقدها عمر لاحراق باب فاطمة سلام اللّه عليها . و بالجملة فجميع هذه الفتن من ثمرات الشجرة الخبيثة الّتى غرسها عمر . قال العلاّمة الحلّى فى كتاب نهج الحقّ : روى البلادري قال : لمّا قتل الحسين كتب عبد اللّه بن عمر إلى يزيد بن معاوية لعنة اللّه عليهما و على أبيهما : أمّا بعد فقد عظمت الرّزية و جلّت المصيبة و حدث فى الاسلام حدث عظيم و لا يوم كيوم الحسين فكتب إليه يزيد : أمّا بعد يا أحمق فاننا جئنا إلى بيوت مجدّدة و فرش ممهّدة و سايد منضّدة فقاتلنا عنها ، فان يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا ، و إن كان الحقّ لغيرنا فأبوك أوّل من سنّ و ابتزّ و استأثر بالحقّ على أهله . و قوله عليه السّلام ( ذهب نقىّ الثوب ) قال الشارح البحرانى استعار الثوب لعرضه و نقاه لسلامته عن دنس المذام . و أقول : ربما يفرق بين النقى و التقى بأنّ التقى بالتاء من حسن ظاهره و النقى من حسن باطنه فيكون فى اضافة النقى إلى الثوب تورية لطيفة عن أنّ اتّصافه بالنقاوة و النزاهة إنما كان بحسب ظاهره فقط ، و أما فى الباطن فقد كان مدنسا بأدناس [ 381 ] الجاهليّة و أقذار الشّك و النّفاق و الحقد و الحسد و السّخيمة لكونه رئيس المنافقين الّذين يظهرون بأفعالهم و يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم و اللّه أعلم بما يكتمون و قد وصفهم عليه السّلام في الخطبة المأة و الثالثة و التسعين بهذا الوصف أى بحسن الظاهر و خبث الباطن حيث قال في تعداد صفاتهم : قلوبهم رديّة و صفاحهم نقيّة . و قوله عليه السّلام ( قليل العيب ) أراد به قلّة عيوبه الظاهرة بالاضافة إلى العيوب الكثيرة الّتي فى عثمان لأخذه بظاهر أحكام الشّريعة تخديعا للنّاس و للتّزوير و الحيلة ، و أمّا فى الباطن فقد كان غريقا فى بحر العيوب مغمورا فى تيّار الآثام و الذّنوب حسبما أشرنا و نشير إليه . و قوله عليه السّلام ( أصاب خيرها و سبق شرّها ) قال البحرانى أصاب ما فى الخلافة من الخير المطلوب و هو العدل و إقامة دين اللّه الّذى به يكون الثّواب الجزيل فى الآخرة و الشّرف الجزيل في الدّنيا ، و سبق شرّها أى مات قبل وقوع الفتنة فيها و سفك الدّماء لأجلها . و أقول : بل المراد به أنّه نال خير الخلافة و لذّة الرّياسة بما مهّده له أبو بكر من بساطها و صيّرها له من دون معارض و مصادم ، فانقاد له الكلّ و أسلم له الجميع طوعا و كرها و حصلت له الرّياسة العامة و فتح الأمصار و نفاذ الأحكام فى الأصقاع و البلدان كمثل غيث أعجب الكفّار نباته ثمّ يهيج فتراه مصفرّا ثمّ يكون حطاما و فى الآخرة عذاب شديد . و المراد بسبقه الشّر الشّرور و المفاسد و الفتن التى ظهرت فى زمن عثمان عليه اللعنة و النيران من حمله بنى اميّة و مروان على رقاب الناس و خضمهم مال اللّه خضم الابل نبتة الرّبيع حسبما عرفت تفصيلا فى الخطبة الشقشقية و شرحها إلى أن انجرّ الأمر إلى قتله و هلاكه ، و ظهرت فى خلافة أمير المؤمنين سلام اللّه عليه و آله أجمعين من الناكثين و القاسطين و المارقين لعنة اللّه عليهم ملاء السماوات و الأرضين و قد عرفت فى شرح قوله : و خلف الفتنة أنّ جميع هذه الشرور و المفاسد من بركة البرامكة و ثمرات الشجرة الخبيثة التى غرسها عمر . [ 382 ] و قوله عليه السّلام ( أدّى إلى اللّه طاعته و اتّقاه بحقّه ) أراد به مواظبته على مراسم الطاعة و التقوى و سلوكه مسالك الزهد و العبادة ، و لقد كان مجدّا فيها ظاهرا لما نذكره من النكتة ، و أمّا في الباطن فلم يرفع يده كصاحبه عن الكفر و عبادة الصنم إلى أن مضى إلى سبيله . و يشهد به ما رواه في البحار من كتاب سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين في حديث طويل يذكر فيه شجاعته و نصرته لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و جبن الثلاثة و رعبهم عند الكريهة و القتال و ساق الحديث إلى أن قال : و لقد ناداه ابن عبد ود باسمه يوم الخندق فحاد عنه و لاذ بأصحابه حتّى تبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما رأى به من الرّعب ، و قال : أين حبيبي علىّ تقدّم يا حبيبي يا عليّ و لقد قال لأصحابه الأربعة أصحاب الكتاب : الرّأى و اللّه أن ندفع محمّدا برّمته و نسلم من ذلك حين جاء العدوّ من فوقنا و من تحتنا كما قال اللّه تعالى و زلزلوا زلزالاً شديداً ، و ظنّوا باللّه الظنّونا . و قال المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ما وعدنا اللّه و رسوله إلاّ غروراً فقال صاحبه لا و لكن نتّخذ صنما عظيما نعبده لأنّا لا نأمن أن يظفر ابن أبي كبشة فيكون هلاكنا ، و لكن يكون هذا الصّنم لنا ذخرا ، فان ظهرت قريش أظهرنا عبادة هذا الصنم و أعلمناهم أنّا لن نفارق ديننا ، و إن رجعت دولة ابن أبي كبشة كنا مقيمين على عبادة هذا الصنم و أعلمناهم أنا لن نفارق سرّا ، فنزل جبرئيل فأخبر النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك ، ثمّ خبّرنى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد عمرو بن عبد ود ، فدعاهما فقال : كم صنم عبدتما في الجاهلية ؟ فقالا : يا محمّد لا تعيّرنا بما مضى في الجاهليّة ، فقال : فكم صنم تعبدا وقتكما هذا ؟ فقالا : و الذى بعثك بالحقّ نبيّا ما نعبد إلاّ اللّه منذ أظهرنا لك من دينك ما أظهرنا ، فقال : يا عليّ خذ هذا السّيف فانطلق إلى موضع كذا و كذا فاستخرج الصنم الذي يعبدانه فاهشمه فان حال بينك و بينه أحد فاضرب عنقه ، فانكبّا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالا : استرنا سترك اللّه ، فقلت أنا لهما أضمنا للّه و لرسوله ألاّ تعبدا إلاّ اللّه و لا تشركا به شيئا ، فعاهدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على هذا ، [ 383 ] و انطلقت حتّى استخرجت الصنم من موضعه و كسرت وجهه و يديه و جزمت رجليه ثمّ انصرفت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، فو اللّه لقد عرفت ذلك في وجههما حتّى ماتا و يشعر بما قلناه ما رواه العياشى عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى الذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون انه قال فأعداء عليّ أمير المؤمنين هم الخالدون في النار و إن كانوا فى أديانهم على غاية الورع و الزّهد و العبادة . إلى غير هذه من الرّوايات التى لا نطيل بذكرها المفيدة لكون عبادة هذا الرّجل للّه و زهده و رياضته تزويرا و رياء و سمعة ، بل الدلالة على أنه أبطن الكفر و أظهر الاسلام وصلة بذلك إلى رياسة المسلمين و السلطنة عليهم و إلى ما أضمره فى قلبه من هدم أساس الدين و تخريب سوارى اليقين ضمنا بقدر الامكان و التمكن و إلى صرف الناس و اضلالهم عن الصراط المستقيم و المنهج القويم . فانه لو لم يسلك مسلك العبادة و الرّياضة و الزهد و القشف و الضيق على نفسه و التوسعة على غيره و ترك اللذات و الشهوات رأسا لم يتمكّن من ذلك كما لم يتمكّن عثمان منه لعدم سلوكه هذا المسلك . و قد صرّح نفسه بهذه النكتة و أظهر هذا السر إلى بطانته المشارك له فى الكفر و الالحاد اللعين بن اللعين معاوية بن أبى سفيان فى العهد الطويل الذى رواه أصحابنا فى مؤلفاتهم و هو العهد الذى أخرجه يزيد الملعون من خزانته و أبرزه لعبد اللّه بن عمر الملعونين لما جاء إلى الشام مستصرخا فى دم الحسين عليه السّلام و ثائرا فيه ، فسكّته بذلك العهد الذى كان بخطّ أبيه عمر فانه بعد ما كتب فيه إلى معاوية صريحا كفره و إلحاده و بقاءه على عبادة اللاّت و العزّى و تكذيبه للرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لما جاء به و نسبته له إلى السحر و أبرز عداوته المكنونة له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آله و شرح صرفه الخلافة بتدبيراته و حيله عن وصيّه كتب فيه ما عين لفظه : [ 384 ] فبطل سحره يعني سحر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خاب سعيه و علاها أبوبكر و علوتها بعده و أرجو أن تكونوا معاشر بني أميّة عيدان أطنابها ، فمن ذلك قد ولّيتك و قلّدتك اباحة ملكها ، و عرفتك فيها و خالفت قوله فيكم ، و ما ابالى من تعريف شعره و نثره أنّه قال يوحى إلىّ منزل من ربّي فى قوله : و الشّجرة الملعونة فى القرآن فزعم أنّها أنتم يا بنى اميّة فبيّن عداوته حيث ملك كما لم يزل هاشم و بنوه أعداء بنى عبد شمس و أنا مع تذكيري إباك يا معاوية و شرحى لك ما قد شرحته ناصح لك و مشفق عليك من ضيق عطنك و حرج صدرك و قلّة حلمك أن تعجل فيما وصيّتك به و مكّنتك منه من شريعة محمّد و أمّته أن تبدى لهم مطالبته بطعن أو شماتة بموت أو ردّا عليه فيما أتى به أو استصغارا لما أتى به فتكون من الهالكين ، فتخفض ما رفعت و تهدم ما بنيت ، و احذر كلّ الحذر حيث دخلت على محمّد مسجده و منبره و صدّق محمّدا فى كلّ ما أتى به و أورده ظاهرا ، و أظهر التحرّز و الواقعة فى رعيتك و أوسعهم حلما و أعمّهم بروايح العطايا ، و عليك باقامة الحدود فيهم و تصفيف الجناية منهم ، لسبا محمّد من مالك و رزقك و لا ترهم أنك تدع للّه حقّا و لا تنقص فرضا و لا تغيّر لمحمد سنّة فتفسد علينا الامّة بل خذهم من مأمنهم و اقتلهم بأيديهم و أيّدهم بسيوفهم و تطاولهم و لا تناجزهم ، و لن لهم و لا تبخس عليهم ، و افسح لهم فى مجلسك و شرّفهم فى مقعدك ، و توصّل إلى قتلهم برئيسهم و أظهر البشر و البشاشة ، بل اكظم غيظك ، و اعف عنهم يجبّوك و يطيعوك ، فما آمن علينا و عليك شورة علىّ و شبليه الحسن و الحسين ، فان أمكنك فى عدّة من الامة فبادر و لا تقنع بصغار الأمور ، و اقصد بعظيمها و احفظ وصيّتى اليك و عهدى و اخفه و لا تبده ، و امتثل أمرى و نهيى ، و انهض بطاعتي و إيّاك و الخلاف علىّ و اسلك طريق أسلافك ، و اطلب بثارك و اقتصّ آثارهم فقد أخرجت إليك بسرّى و جهرى ، و شفّعت هذا بقولي : معاوي إنّ القوم جلّت أمورهم بدعوة من عمّ البريّة بالوتر صبوت إلى دين لهم فأرابني فأبعد بدين قد قصمت من ظهرى [ 385 ] إلى أن قال : توسل إلى التخليط في الملّة التي أتانا به الماضي و المموّه بالسحر و طالب بأحقاد مضت لك مظهرا لعله دين عمّ كلّ بنى النفر فلست تنال الثار الابد منهم فتقتل بسيف القوم جند بنى عمر فقد تحصّل بما ذكرنا كلّه أنّ طاعة الرّجل و رياضته و تضييقه على نفسه و توفيره الفئ و الغنايم على غيره لم يكن إلاّ خديعة و مكيدة و إطفاء لنور اللّه و هدما لأساس الاسلام و إغواء للمسلمين . كالشيطان الذي أراد إضلال عابد بني إسرائيل و إغواءه فتقرّب إليه من جهة البرّ و العبادة لما يئس من ساير العبادات فانطلق إلى منزله فأقام حذاءه يصلّى و كان العابد ينام و الشّيطان لا ينام ، و هو يستريح و الشيطان لا يستريح ، فتحوّل إليه العابد و قد تقاصرت إليه نفسه و استصغر عمله ، فقال يا عبد اللّه بأيّ شي‏ء قويت على هذه الصّلاة ، فلم يجبه ، ثمّ عاد إليه فلم يجبه ، ثم عاد إليه فقال : إنّي أذنبت ذنبا و أنا تائب منه فاذا ذكرت الذّنب قويت عليها ، فاغترّ العابد المسكين بما أتى به من الصّلاة ، فلم يجبه ، ثمّ عاد إليه فلم يجبه ، ثم عاد إليه فقال : إنّي أذنبت ذنبا و أنا تائب منه فاذا ذكرت الذّنب قويت عليها ، فاغترّ العابد المسكين بما أتى به من الصّلاة على أن يأتي بفاحشة و يتوب منها فتوصّل بكثر صلاته إلى إضلاله . و هكذا كان حال الاعرابي الجلف فمثله كما قال اللّه تعالى و من النّاس من يقول آمنّا باللّه و باليوم الآخر و ما هم بمؤمنين . يخادعون اللّه و الّذين آمنوا و ما يخدعون إلاّ أنفسهم و ما يشعرون إلى قوله و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم انّما نحن مستهزؤن . اللّه يستهزء بهم و يمدّهم في طغيانهم يعمهون هذا . و قوله ( رحل و تركهم في طرق متشعّبة لا يهتدى فيها الضّال و لا يستيقن المهتدى ) قال الشارح البحراني : إنّ المراد رحيله إلى الآخرة تاركا للناس بعده في طرق متشعّبة من الجهات لا يهتدى فيها من ضلّ عن سبيل اللّه ، و لا يستيقن المهتدي في سبيل اللّه انّه على سبيله ، لاختلاف طرق الضّلال و كثرة المخالف له إليها . [ 386 ] أقول : هذا ظاهر معنى الكلام و أمّا باطنه فهو أنّ الأعرابي الجلف رحل عن الدّنيا و ترك النّاس حيارى و أوقعهم بما أبدعه من سننه و سيره و بدعاته و حيله و مكايده و تمويهاته في الفتنة و الضّلال و الخزى و النكال ، لا سيّما ما قرّره من الشّورى و جعلها بين السّتة أوجب تفرّق النّاس عن الصّراط المستقيم أيادى سبا و أيدى سبا . فمنهم من قد كان اشرب قلبه حبّ الشيخين و استحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر ربّه فضلّ عن السّبيل المقيم و هوى أسفل درك الجحيم . و منهم من كان طالبا للهداية إلاّ أنّه نظر إلى اختلاف طرق الضّلال و الهدى و كثرة السالكين إلى الأولى و قلّتها إلى الاخرى فبقى تائها متحيّرا بين السّبيلين فلم يتمكّن من تحصيل السّبيل و رفع الشك و التّحير من البين كما أشار إلى ذلك في الخطبة الخمسين بقوله : إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع و أحكام تبتدع يخالف فيها كتاب اللّه و يتولّى عليها رجال رجالا على غير دين اللّه ، فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين و لو أنّ الحقّ خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين ، و لكن يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه و ينجو الّذين سبقت لهم من اللّه الحسنى و الحاصل أنّ عمر بتلبيسه الحقّ بالباطل و الباطل بالحقّ و خلطه الصّالح بالسّي‏ء و ايقاعه الاشتباه بينهما أوقع النّاس في الشكّ و الضّلال خصوصا جعله أمير المؤمنين و باب علم النّبيين قرينا للخمسة الالواد ، و ترشيحه كلاّ منهم بأهليّة الخلافة ألقى التفرقة بين الامّة و شقّ عصا الجماعة و اختلف بذلك الآراء و تشتّت الأهواء و تشعّب الطّرق و تفرّقت السبل . و يدلّ على ذلك صريحا ما نقله العلامة الحلّي في كتاب نهج الحقّ من كتاب العقد لابن عبد ربّه أنّ معاوية قال لابن أبي الحصين : أخبرني ما الّذي شتّت أمر [ 387 ] المسلمين و جماعتهم و فرّق ملأهم و خالف بينهم ؟ فقال : قتل عثمان ، قال : ما صنعت شيئا قال : فسير عليّ عليه السّلام إليك قال ما صنعت شيئا قال : ما عندى غير هذا يا أمير المؤمنين فقال : فأنا اخبرك أنّه لم يشتّت بين المسلمين و لا فرّق أهواءهم الاّ الشّورى الّتي جعلها عمر في ستّة . ثمّ فسّر معاوية ذلك في آخر الحديث فقال : لم يكن من الستّة رجل إلاّ رجاها لنفسه و رجاها لقومه و تطلّعت إلى ذلك أنفسهم و لو أنّ عمر استخلف كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف ، انتهى . فقد تحصّل بما ذكرنا كلّه أنّ المراد بتركه لهم في طرق متشعّبة اثارته الفتنة العامة بين المسلمين و الضلالة العمياء التي لم ينج منها أحد الاّ المخلصين فانّ عباد اللّه المخلصين ليس له سلطان عليهم كأخيه الشيطان اللعين و إنما سلطانه على الذين يتولّونه و هم به مقتدون ، و هو الهادى و أنّهم المهتدون ، لعنه اللّه و من تبعه من الملعونين المردودين . تنبيهان الاول اعلم أنّ الشارح المعتزلي قد أطال الكلام في شرح هذا الكلام لأمير المؤمنين عليه السّلام و ذكر من مناقب عمر على زعمه و مثالبه و مطاعنه و الأخبار العامية الواردة في شأنه و من سيره و أخلاقه و كلماته فصلا طويلا أورث الاطناب المملّ للناظرين حتى صار شرح هذا الكلام مجلّدا منفردا من مجلّدات شرحه للنهج و هو المجلّد الثاني عشر منه . و لما رأيت أنّ نقل ما أتى به و جرحه و الاعتراض عليه حسبما جرت عليه عادتنا في الشرح يحتاج إلى مجلّد مستقلّ و بسط بسيط يشمئزّ منه الطباع و يملّ الأذهان طوينا عن التعرّض له كشحا و لكنّى أقول إجمالا : أما سير عمر و أخلاقه و أطواره فالعمر أعزّ و أنفس من أن يصرف إلى ذكرها و يضيع في بيان مثلها . [ 388 ] و أمّا مطاعنه و مثالبه فهى صحيحة لا ريب فيها و أجوبة قاضي القضاة عنها مندفعة بما اعترض به المرتضى عليها في الشافي حسبما حكاه تفصيلا . و أمّا مناقشة الشّارح في بعض تلك الاعتراضات فقد رواها العلامة المجلسي « ره » في مجلّد الفتن من البحار و لا حاجة لنا إلى نقلها و من أراد الاطلاع عليها فليراجع إلى محالّه الّتي نبّهنا عليها . و أمّا الأحاديث الّتي رواها في فضل عمر موضوعة مجهولة مجعولة ، و آثار الوضع عليها ظاهرة واضحة و قد مرّ الاشارة إلى بعضها في شرح الكلام المأتين و التاسع نعم قد ذكر الشارح في تضاعيف كلامه في المقام أخبارا عاميّة صريحة في حقيّة خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام و بطلان خلافة غيره ، و اتبعها بكلام طويل جرى بينه و بين النّقيب أبي جعفر و هو كلام لطيف كاشف عن سوءآت عمر و فضايحه و عن كفره و نفاقه و كونه في مقام الاعتراض على ما يقوله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المعارضة له و عن أنّ عمدة نظره فيما أسّسه و أتى به إنّما كانت إلى حبّ السلطنة و الرّياسة لا الاشفاق على الاسلام و الامّة كما يزعمه العامّة ، فأحببت نقل هذا الكلام على طوله لأنّه من لسان من هواه مع عمر أثبت و أقوى و ألذّ و أحلى فأقول : قال الشّارح بعد ما ذكر طائفة من الأخبار الدّالة على خلافة أمير المؤمنين ما هذا لفظه : سألت النّقيب أبي « أباظ » جعفر يحيى بن محمّد بن أبي زيد و قد قرأت عليه هذه الأخبار فقلت له : ما أراها إلاّ تكاد تكون دالّة على النّص و لكنّي أستبعد أن يجتمع الصحابة على دفع نصّ رسول اللّه على شخص بعينه كما استبعدنا من الصحابة على ردّ نصّه على الكعبة و شهر رمضان و غيرهما من معالم الدّين . فقال : أبيت إلاّ ميلا إلى المعتزلة . ثمّ قال : إنّ القوم لم يكونوا يذهبون إلى أنّها من معالم الدّين و انّها جارية مجرى العبادات الشرعية كالصّلاة و الصّوم و لكنّهم كانوا يجرونها مجرى الامور [ 389 ] الدّنيويّة مثل تأمير الأمراء و تدبير الحروب و سياسة الرّعية و ما كانوا بهذا الأمر و أمثال هذا من مخالفة نصوصه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا رأوا المصلحة في غيرها ألا تراه كيف نصّ على إخراج أبي بكر و عمر في جيش اسامة و لم يخرجا لما رأيا أنّ في مقامهما مصلحة للّه و له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و للملّة و حفظا للبيضة و دفعا للفتنة . و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخالف و هو حىّ في أمثال ذلك فلا ينكره و لا يرى به بأسا . ألست تعلم أنّه نزل في غزوة بدر منزلا على أن يحارب قريشا فيه فخالفته الأنصار و قالت له : ليس الرأى في نزولك هذا المنزل فاتركه و أنزل في منزل كذا فرجع إلى آرائهم . و هو الّذي قال للأنصار عام قدم إلى المدينة : لا توبروا النّخل ، فعملوا على قوله فخاست نخلهم في تلك السّنة و لم تثمر حتّى قال لهم أنتم أعرف بأمر دنياكم و أنا أعرف بأمر دينكم و هو الذى أخذ الفداء من اسارى بدر فخالفه عمر فرجع إلى تصويب رأيه بعد أن فات الأمر و خلص الاسارى و رجعوا إلى مكّة . و هو الّذي أراد أن يصالح الأحزاب على ثلث تمر المدينة فرجعوا عنه فأتى سعد بن معاذ و سعد بن عبادة و خالفاه فرجع إلى قولهما . و قد كان قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأبي هريرة : اخرج فناد في الناس من قال لا إله إلاّ اللّه مخلصا بها قلبه دخل الجنّة ، فأخبر أبو هريرة عمر بذلك فدفعه في صدره حتى وقع على الأرض فقال : لا تقلها فانّك إن تقلها يتكلوا عليها و يدعوا العمل فأخبر أبو هريرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك فقال : لا تقلها و خلّهم يعملون فرجع إلى قول عمر . و قد أطبقت الصّحابة إطباقا واحدا على ترك كثير من النصوص لما رأوا المصلحة في ذلك كاسقاطهم سهم ذوى القربى و إسقاطهم سهم المؤلفة قلوبهم و هذان الأمران أدخل في باب الدّين منهما في باب الدّنيا . [ 390 ] و قد عملوا بآرائهم امورا لم يكن لها ذكر في السنّة ، كحدّ الخمر فانهم عملوه اجتهادا و لم يحدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاربى الخمر و قد شربها الجمّ الغفير في زمانه بعد نزول آية التحريم ، و لقد كان أوصاهم في مرضه أن اخرجوا نصارى نجران من جزيرة العرب فلم يخرجوهم حتّى مضى مدة من خلافة عمر و عملوا في أيام أبي بكر برأيهم في ذلك و استصلاحهم ، و هم الّذين هدموا المسجد بمدينة و حوّلوا المقام بمكّة و عملوا بمقتضى ما يغلب في ظنونهم من المصلحة و لم يقفوا مع موارد النّص حتى اقتدى بهم الفقهاء من بعد ، فرجّح كثير منهم القياس على النص حتى استحالت الشريعة و صار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة . قال النقيب : و اكثر ما كانوا يعملون بآرائهم فيما يجرى مجرى الولايات و التأمير و التدمير و تقرير قواعد الدّولة و ما كانوا يقفون مع نصوص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تدبيراته اذا رأوا المصلحة في خلافها ، كانهم يقيدون نصوصه المطلقة بقيد غير مذكور لفظا و لأنهم كانوا يفهمونه من قراين أحواله و تقدير ذلك القيد افعلوا كذا إن رأيتموه مصلحة . فأما مخالفتهم فيما هو محض الشرع و الدّين و ليس بمتعلق بامور الدّنيا ، فانه يقل جدّا نحو أن يقول : الوضوء شرط في الصلاة ، فيجمعوا على ردّ ذلك و يجيزوا الصلاة من غير وضوء ، أو يقول : صوم شهر رمضان واجب ، فيطبقوا على مخالفة ذلك و يجعلوه شوالا عوضا عنه ، فانه بعيد إذ لا غرض لهم فيه و لا يقدرون على اظهار مصلحة عثروا عليها خفيت عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم . و القوم الذين كانوا قد غلب على ظنونهم أنّ العرب لا تطيع عليا ، فبعضها للحسد ، و بعضها للوتر و الثار ، و بعضها لاستحداثهم سنه عليه السّلام ، و بعضها لاستطالته عليهم و رفعه عنهم ، و بعضها كراهية اجتماع النبوة و الخلافة في بيت واحد ، و بعضها للخوف من شدة وطئه و شدته في دين اللّه ، و بعضها لرجاء تداول قبايل العرب الخلافة اذا لم يقتصر بها على بيت مخصوص عليه فيكون رجاء كل حىّ لوصولهم إليها ثابتا [ 391 ] مستمرّا ، و بعضها يبغضه لبغضهم من قرابته لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هم المنافقون من النّاس و من في قلبه زيغ من أمر النّبوة . فأصفق الكلّ اصفاقا واحدا على صرف الأمر لغيره ، فقال رؤساؤهم بانّا خفنا الفتنة و علمنا أنّ العرب لا تطيعه و تتركه و تأوّلوا عند أنفسهم النّص و قالوا إنّه النّص و لكن الحاضر يرى ما لا يرى الغايب و الغايب قد يترك لأجل المصلحة الكليّة . و أعانهم إلى ذلك مسارعة الأنصار إلى ادّعائهم الأمر و إخراجهم سعد بن عبادة من بيته و هو مريض لينصبوه خليفة فيما زعموا ، و اختلط النّاس و كثر الخبط و كادت الفتنة أن يضطرم نارها فوثب رؤساء المهاجرين و بايعوا أبابكر و كانت فلتة كما قال قائلهم و زعموا أنّهم أطفأوا نائرة الأنصار . فمن سكت من المسلمين و اغضى و لم يتعرض فقد كفاهم أمر نفسه ، و من قال سرّا أو جهرا أو فلانا قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذكره أو نصّ عليه أو أشار إليه أسكتوه في الجواب بأنّا بادرنا إلى عقد البيعة مخافة الفتنة . و اعتذروا عنده ببعض ما تقدّم ، إما أنّه حديث السّن ، أو تبغّضه للعرب لأنّه وترها و سفك دماءها ، أو لأنّه صاحب زهو و تيه ، أو كيف يجتمع الخلافة و النبوّة في غرس واحد . بل قد قالوا في العذر ما هو أقوى منها و آكد قالوا : أبو بكر أقوى على هذا الأمر منه لا سيّما و عمر يعضده و يساعده و العرب يحبّ أبابكر و يعجبها لينه و رفقه و هو شيخ مجرّب للأمور لا يحسده أحد و لا يحقد عليه أحد و لا يبغضه أحد ، و ليس بذى شرف فى النسب فيشمخ على النّاس بشرفه ، و لا ذى قربى من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيدلّ بقربه و دع ذا كلّه فانّه فضل مستغنى عنه . قالوا : لو نصبنا عليّا ارتدّ النّاس عن الاسلام و عادت الجاهليّة كما كانت فأيّما أصلح في الدّين الوقوف مع النّص المفضى إلى ارتداد الخلق و رجوعهم إلى الأصنام و الجاهلية ؟ أم العمل بمقتضى الأصلح و استبقاء الاسلام و استدامة العمل بالدّين و إن [ 392 ] كان فيه مخالفة النّص ؟ قال : و سكت النّاس عن الانكار لأنّهم كانوا متفرّقين . فمنهم من هو مبغض شاني‏ء لعليّ فالذى ثمّ من صرف الأمر عنه قرّة عينه و برد فؤاده . و منهم ذو الدّين و صحّة اليقين إلاّ أنّه لما رأى كبراء الصحابة قد اتّفقوا على صرف الأمر عنه ظنّ أنهم إنما فعلوا ذلك خلاف النصّ من رسول اللّه بنسخ ما قد كان سمعه من النصّ على أمير المؤمنين لا سيما ما رواه أبو بكر من قول النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الأئمة من قريش ، فانّ كثيرا من الناس توهموا أنه ما ينسخ النصّ الخاص و أنّ معنى الخبر أنكم مجازون في نصب إمام من قريش من أىّ بطون قريش كان فانه يكون إماما . و اكد أيضا في نفوسهم رفض النصّ الخاصّ ما سمعوه من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما رواه « رآه‏ظ » المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن ، و قوله : سألت اللّه أن لا يجمع امتي على ضلال فأعطانيها فأحسنوا الظنّ بعاقدى البيعة و قالوا : هؤلاء أعرف بأغراض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كلّ أحد فأمسكوا و كفّوا عن الانكار . و منهم فرقة اخرى و هم أكثرون الأعراب و جفاة طغام أتباع كلّ ناعق يميلون مع كل ريح ، فهؤلاء مقلّدون لا يسألون و لا ينكرون و لا يبحثون و هم مع امرائهم و ولاتهم لو أسقطوا عنهم الصّلاة الواجبة لتركوها . فلذلك محق النصّ و خفى و درس و قويت كلمة العاقدين لبيعة أبي بكر . و قواها زيادة على ذلك اشتغال عليّ و بني هاشم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اغلاق بابهم عليهم و تخليتهم الناس يعملون ما شاؤوا و أحبّوا من غير مشاركة لهم فيما هم فيه ، لكنهم أرادوا استدراك ذلك بعد ما فات ، و هيهات الفايت لا رجعة له . و أراد علىّ بعد ذلك نقض البيعة فلم يتم له ذلك ، و كانت العرب لا ترى الغدر و لا ينقض البيعة صوابا كانت أو خطاء ، و قد قالت له الأنصار و غيرها : أيها الرّجل لو دعوتنا [ 393 ] إلى نفسك قبل البيعة لما عدلنا بك أحدا و لكنا قد بايعنا فكيف السبيل إلى نقض البيعة بعد وقوعها . قال النّقيب : و ممّا جرء عمر على بيعة أبي بكر و العدول عن عليّ عليه السّلام مع ما كان يسمعه من الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أمره أنه أنكر مرارا على رسول اللّه أمورا اعتمدها فلم ينكر عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنكاره بل رجع في كثير منها إليه أشار عليه بأمور كثيرة نزل القرآن فيها بموافقته فأطمعه ذلك في الاقدام على اعتماد كثير من الامور التي كان يرى فيها المصلحة ممّا هى خلاف النّص . و ذلك نحو إنكاره الصّلاة على عبد اللّه بن ابيّ المنافق ، و إنكاره فداء اسارى بدر ، و إنكاره عليه تبرّج نسائه للنّاس ، و إنكاره قضية الحديبية ، و إنكاره أمان العباس لأبي سفيان بن حرب ، و إنكاره واقعة أبي حذيفة بن عتبة ، و إنكاره أمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالنداء من قال : لا إله إلا اللّه دخل الجنّة ، و إنكاره أمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذبح النّواضح ، و إنكاره على النساء هيبتهنّ له دون رسول اللّه إلى غير ذلك من أمور كثيرة تشتمل عليها كتب الحديث . و لو لم يكن إلاّ إنكاره قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مرضه : ائتوني بدواة و كتب أكتب لكم ما لا تضلّون بعدي ، و قوله ما قال و سكوت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنه و أعجب الأشياء أنّه قال ذلك اليوم : حسبنا كتاب اللّه ، فافترق الحاضرون من المسلمين في الدّار فبعضهم يقول : القول ما قال عمر ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد كثر اللغط و علت الأصوات : قوموا عنّى فما ينبغى لنبيّ أن يكون عنده هذا التّنازع . فهل بقى للنبوّة مزيّة أو فضل إذا كان الاختلاف قد وقع بين القولين و ميل المسلمين بينهما فرجّح قوم هذا و قوم هذا أفليس ذلك دالا على أنّ القوم سوّوا بينه و بين عمر و جعلوا القولين مسألة خلاف ذهب كلّ فريق منهم إلى نصرة واحد منهما كما يختلف اثنان من عرض المسلمين في بعض الأحكام فينصر قوم هذا و ينصر ذاك آخرون [ 394 ] فمن بلغت قوّته و همّته إلى هذا كيف ينكر منه أن يبايع أبا بكر لمصلحة رآها و يعدل عن النّص و من الّذي ينكر عليه ذلك و هو في القول الّذى قاله للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في وجهه غير خائف من الأنصار و لا أنكر عليه رسول اللّه و لا غيره و هو أشدّ من مخالفة النّص في الخلافة و أفظع و أشنع . قال النّقيب : على أنّ الرّجل ما أهمل أمر نفسه بل أعدّ أعذارا و أجوبة . و ذلك لأنّه قال لقوم عرضوا له الحديث النّص أنّ رسول اللّه رجع عن ذلك باقامته أبابكر في الصّلاة مقامه و أوهمهم أنّ ذلك جار مجرى النّص عليه بالخلافة ، و قال يوم السّقيفة : أيّكم يطيب نفسا أن يتقدّم قدمين قدّمهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الصّلاة . ثمّ أكّد ذلك بأن قال لأبي بكر و قد عرض عليه البيعة : أنت صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المواطن كلّها شدّتها و رخاتها ، رضيك لديننا أفلا نرضاك لدنيانا . ثمّ عاب عليّا بخطبة بنت أبي جهل فأوهم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كرهه لذلك و وجد عليه و أرضاه عمرو بن العاص فروى حديثا افتعله و اختلقه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال : سمعته يقول : إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنّما وليّي اللّه و صالح المؤمنين فجعلوا ذلك كالناسخ لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كنت مولاه فهذا مولاه . قلت للنقيب : أيصحّ النّسخ في مثل هذا أليس هذا نسخا للشي‏ء قبل تقضّى وقته ؟ فقال : سبحان اللّه من أين تعرف العرب هذا و أنّى لها أن يتصوّره فضلا عن أن تحكم بعدم جوازه فهل يفهم حذاق الأصوليّين هذه المسألة فضلا عن حمقى العرب ؟ هؤلاء قوم ينخدعون بأدنى شبهة و يستمالون بأضعف سبب و يبنى الامور معهم على ظواهر النّصوص و أوائل الأدلّة و هم أصحاب جمل و تقليد لا أصحاب تفصيل و نظر . قال : ثمّ أكّد حسن ظنّ النّاس بهم أن خلعوا أنفسهم عن الأموال و زهدوا في [ 395 ] في متاع الدّنيا و زخرفها و سلكوا مسلك الرّفض لزينتها و الرّغبة و القناعة بالتّطفيف النّزر منها و أكلوا الخشن و لبسوا الكرابيس . و لمّا ألقت إليهم أفلا ذكبدها وفّروا الأمول على النّاس و قسّموها بينهم لم يتدنّسوا منها بقليل و لا كثير فمالت إليهم القلوب و أحبّتهم النّفوس ، و حسنت فيهم الظنّون و قال من كانت في نفسه شبهة منهم أو وقفة في أمرهم : لو كانت هؤلاء قد خالفوا النّص لهوى أنفسهم لكانوا أهل الدّنيا و بسط عليهم الميل إليها و الرغبة فيها و الاستيثار بها ، و كيف يجمعون على أنفسهم بين مخالفة النصّ و ترك لذّات الدنيا و مآربها ، فيخسروا الدّنيا و الآخرة ، و هذا لا يفعله عاقل و ذو لباب و آراء صحيحة . فلم يبق عند أحد شكّ في أمرهم و لا ارتياب لفعلهم و ثبت العقايد على ولائهم و تصويب أفعالهم و نسو الذّة الرّياسة و أن أصحاب الهمم العالية لا يلتفتون إلى الماكل و المشرب و المنكح و إنّما يريدون الحكم و الرياسة و نفوذ الأمر كما قال الشاعر : و قد رغبت عن لذّة المال أنفس و ما رغبت عن لذّة الأمر و النهى قال : و الفرق بين الرّجلين و بين الثالث ما اصيب الثالث و قتل تلك القتلة و خلعه النّاس و حصروه و ضيّقوا عليه بعد أن توالي إنكارهم أفعاله في وجهه و فسّقوه و ذلك لأنّه استأثر هو و أهله بالأموال و انغمسوا فيها و استبدّوا بها فكانت طريقته و طريقتهم مخالفة لطريقى الأوّلين ، فلم تصبر العرب على ذلك . و لو كان عثمان سلك مسلك عمر فى الزّهد و جمع النّاس ، و ردع الأمراء و الولاة عن الأهوال ، و تجنب استعمال أهل بيته ، و وفّر أعراض الدّنيا و ملاذها و شهواتها على الناس زاهدا فيها تاركا لها معرضا عنها لما ضرّه شي‏ء قطّ و لا أنكر عليه أحد قطّ و لو حوّل الصّلاة من الكعبة إلى بيت المقدس بل لو أسقط عن الناس إحدى الصلاة الخمس و اقتنع منهم بأربع . و ذلك لأنّ همم الناس مصروفة إلى الدّنيا و الأموال فاذا وجدوها سكتوا و إذا نفدوها هاجوا و اضطربوا . [ 396 ] ألست ترى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيف قسّم قسايم هو اذن على المنافقين و على أعدائه الّذين يتمنّون قتله و موته و زوال دولته فلمّا اعطوه أحبّوه إمّا كلّهم أو أكثرهم ، و من لم يحبّه منهم بقلبه جاهله و داره و كفّ عن إظهار عداوته و الاجلاب عليه . و لو أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام صانع أصحابه بالمال و إعطاء الوجوه و الرّؤساء لكان أمره إلى الانتظام أقرب ، و لكنّه رفض جانب التّدبير الذي بنوا و آثر لزوم الدّين و تمسّك بأحكام الشّريعة ، و الملك أمر آخر غير الدّين فاضطرب عليه أصحابه و هرب كثير منهم إلى عدوّه . قال الشّارح المعتزلي : و قد ذكرت في هذا الفصل خلاصة ما حفظته عن النقيب أبي جعفر و لم يكن إماميّ المذهب و لا كان يبرء من السّلف و لا يرتضى قول المسرفين من الشّيعة ، و لكنّه كلام أجراه على لسانه البحث و الجدل بيني و بينه على أنّ العلوى لو كان كراميّا لابدّ أن يكون عنده نوع من تعصّب و ميل على الصحابة و إن قلّ ، انتهى . و أقول : للّه درّ النقيب فلقد أجاد فيما أفاد و جانب العصبية و العناد و أبان عن مخّ ما يقوله الفرقة الحقّة الامامية و تذهب إليه و تدين به ببيان ليس فوقه بيان ، و قد اتّضح بما ذكره كلّ الوضوح أنّ عمر كان دائما في مقام المعارضة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الطعن و الازراء عليه و الرّد لأقواله و أفعاله في حياته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعد موته ، و أنه أنكر النصّ على خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام و أوّله بتأويلات سخيفة بأحاديثه المختلقة المجعولة و معاذيره الباطلة ، كما اتّضح أنّ نكتة زهده في الدّنيا إنما كانت حبّ الملك و الرّياسة و نفوذ الأمر لا الزّهد الحقيقي الذي أوهمه للناس و ظنه في حقّه الهمج الرّعاء ، فويل له ثمّ ويل له من ديّان يوم الدّين ، و لعنة اللّه على جميع الظالمين و الغاصبين لحقّ آل محمّد سلام اللّه عليهم أجمعين . [ 397 ] التنبيه الثانى قد ظهر لك بما حققناه و اتّضح لك كلّ الوضوح أن هذا الكلام الذي نحن في شرحه إن كان نظره عليه السّلام فيه إلى عمر فليس هو ثنإله كما توهّمه الشارح المعتزلي و غيره ، و إن كان إشارة إلى أبي بكر كما زعمه الشارح البحراني فلا يكون ثناء له أيضا . و أقول تأكيدا لهذا المعنى : كيف يمكن أن يمدحهما أمير المؤمنين مع ما صدر عنهما من الالحاد و الارتداد و الشّقاق و النّفاق و المحادّة للّه عزّ و جلّ و لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لأوليائه عليهم السّلام و اتيانه من الكبائر و الجرائر العظيمة الّتي لا يحصيها الألسنة و الأفواه و لا يحيط بها الدّفاتر و الأقلام و قد أفصح عنها أئمّتنا الأطهار في أخبارهم و صرّح بها علماؤنا الأبرار في زبرهم و آثارهم . و أوّل من أبدى سوآتهما بعد اللّه و بعد رسوله هو أمير المؤمنين عليه السّلام فاحتذى حذوه ذرّيته البررة و شيعته الطيّبة و سلكوا مسلكه و كلماته المتضمّنة للعنهما و الطّعن و القدح و الازراء عليهما و التّظلم و الشكوى منهما في النّهج و غيره كثيرة جدّا . و أكثرها احتواء لذلك دعاؤه المعروف بدعاء صنمى قريش الّذى كان يواظب عليه السّلام عليه في قنوته و ساير أوقاته ، و قد رواه غير واحد من أصحابنا قدّس اللّه أرواحهم في مؤلّفاتهم ، و أحببت نقله هنا لكونه أنقض لظهر النّاصبين و أرغم أنف المعاندين و أبطل لزعم من توهّم ثناء أمير المؤمنين لهذين الذين لا حريجة لهما في الدّين . فأقول و باللّه التوفيق : في كتاب البلد الأمين و جنّة الأمان الواقية المشتهر بالمصباح للشّيخ العالم الفاضل الكامل إبراهيم بن علي بن الحسن بن محمّد الكفعمى رضى اللّه عنه إنّ هذا الدّعاء رفيع الشّأن عظيم المنزلة ، و رواه عبد اللّه بن عبّاس عن عليّ عليه السّلام أنّه كان يقنت به و قال : إنّ الدّاعي به كالرّامي مع النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في بدر و احد و حنين بألف ألف سهم و هو : [ 398 ] اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد و العن صنمى قريش وجبتيها و طاغوتيها و افكيها و ابنتيها اللّذين خالفا أمرك ، و أنكرا وحيك و جحدا أنعامك ، و عصيا رسولك ، و قلّبا دينك ، و حرّفا كتابك ، و عطلا أحكامك ، و أبطلا فرائضك ، و ألحدا في آياتك و عاديا أولياءك ، و واليا أعداءك ، و خرّبا بلادك ، و أفسدا عبادك . اللّهمّ العنهما و اتباعهما و أولياءهما و أشياعهما و محبّيهما فقد أخربا بيت النبوّة و ردما بابه و نقضا سقفه ، و ألحقا سماءه بأرضه و عاليه بسافله ، و ظاهره بباطنه ، و استأصلا أهله ، و أبادا أنصاره ، و قتلا أطفاله ، و أخليا منبره من وصيّه ، و داريا علمه ، و جحدا إمامته ، و أشركا بربّهما ، فعظّم ذنبهما ، و خلّدهما في سقر ، و ما أدريك ما سقر لا تبقى و لا تذر . اللّهمّ العنهم بعدد كلّ منكر أتوه ، و حقّ أخفوه ، و منبر علوه ، و مؤمن ارجوه ، و منافق ولوه ، و ولىّ آذوه ، و طريد آووه ، و صادق طردوه ، و كافر نصروه و إمام قهروه ، و فرض غيّروه ، و أثر أنكروه ، و شرّ آثروه ، و دم أراقوه ، و خبر بدّلوه ، و كفر نصبوه ، و إرث غصبوه ، و فى‏ء اقتطعوه ، و سحت أكلوه ، و خمس استحلّوه ، و باطل أسّسوه ، و جور بسطوه ، و نفاق أسرّوه ، و غدر أضمروه ، و ظلم نشروه ، و وعد أخلفوه ، و أمان خانوه ، و عهد نقضوه ، و حلال حرّموه ، و حرام أحلّوه ، و بطن فتقوه ، و جنين أسقطوه ، و ضلع دّقوه ، و صكّ مزقوه ، و شمل بدّدوه و عزيز أذلّوه ، و ذليل أعزّوه ، و حقّ منعوه ، و كذب دلّسوه ، و حكم قلّبوه ، و إمام خالفوه . اللّهمّ العنهم بكلّ آية حرّفوها ، و فريضة تركوها ، و سنّة غيّروها ، و رسوم منعوها ، و أحكام عطّلوها ، و بيعة نكثوها ، و دعوى أبطلوها ، و بينة أنكروها ، و حيلة أحدثوها ، و خيانة أوردوها ، و عقبة ارتقوها ، و دباب دحرجوها ، و ازياف لزموها ، و شهادات كتموها ، و وصيّة ضيّعوها اللّهمّ العنهما في كمون السرّ و ظاهر العلانية لعنا كثيرا أبدا دائما دائبا [ 399 ] سرمدا لا انقطاع لأمده ، و لا نفاد لعدده ، لعنا يغدو أوّله و لا يروح آخره ، لهم و لأعوانهم و أنصارهم و محبّيهم و مواليهم و المسلمين لهم و المائلين إليهم و النّاهضين باحتجاجهم و المقتدين بكلامهم و المصدّقين بأحكامهم . ثمّ قل أربع مرّات : اللّهمّ عذّبهم عذابا يستغيث منه أهل النّار آمين ربّ العالمين . بيان قال الشّيخ عند نقله هذا الدّعاء من غوامض الأسرار و كرايم الأذكار و كان أمير المؤمنين عليه السّلام مواظبا عليه في ليله و نهاره و أوقات أسحاره . قال شارح هذا الدّعاء الشيخ العالم أبو السّعادات أسعد بن عبد القادر في كتابه رشح البلاء في شرح هذا الدّعاء : « الصّنمان » الملعونان هما الفحشاء و المنكر و إنّما شبّههما بالجبت و الطّاغوت لوجهين : إمّا لكون المنافقين يتبعونهما في الأوامر و النواهي الغير المشروعة كما اتّبع الكفّار هذين الصّنمين ، و إمّا لكون البراءة منهما واجبة لقوله تعالى : فمن يكفر بالطّاغوت و يؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى . و قوله « الّذين خالفا أمرك » إشارة إلى قوله تعالى يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه و أطيعوا الرّسول فخالفا اللّه و رسوله في وصيّه بعد ما سمعا من النّص عليه ما لا يحتمله هذا المكان ، و منعاه من حقّه فضلّوا و أضلّوا و هلكوا و أهلكوا و « إنكارهما الوحى » إشارة إلى قوله تعالى بلّغ ما أنزل إليك من ربّك و إن لم تفعل فما بلّغت رسالته و « جحودهما الانعام » إشارة إلى أنّه تعالى بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحمة للعالمين ليتّبعوا أوامره و يجتنبوا نواهيه ، فاذا أبوا أحكامه و ردّوا كلمته فقد جحدوا نعمته [ 400 ] و كانوا كما قال سبحانه كلّما جائهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذّبوا و فريقاً يقتلون . و أمّا « عصيانهما الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم » فلقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : يا عليّ من أطاعك فقد أطاعنى و من عصاك فقد عصاني ، و أمّا « قلبهما الدّين » فهو إشارة إلى ما غيّراه من دين اللّه كتحريم عمر المتعتين و غير ذلك ممّا لا يحتمله هذا المكان . و قوله « و حرّفا كتابك » يريد به حمل الكتاب على خلاف مراد الشّرع و ترك أوامره و نواهيه ، « و محبتهما الأعداء » إشارة إلى الشجرة الملعونة بني اميّة و محبّتهما لهم حتّى عهدا لهم أمر الخلافة من بعدهما ، و جحدهما الآلاء كجحدهما النّعماء و قد مرّ ذكره ، و « تعطيلهما الأحكام » يعلم ممّا تقدّم و يأتي و كذا إبطال الفرائض . و « الالحاد في الدّين » الميل عنه و « معاداتهما الأولياء » إشارة إلى قوله تعالى إنّما وليّكم اللّه و رسوله الآية ، و « تخريبهما البلاد و إفسادهما العباد » بما هدموا من قواعد الدّين و تغييرهم أحكام الشّريعة و أحكام القرآن و تقديم المفضول على الأفضل . و قوله « فقد أخربا بيت النّبوة » إشارة إلى ما فعله الأوّل و الثّاني مع عليّ و فاطمة من الايذاء و أرادا إحراق بيت عليّ بالنار و قادوه قهرا كالجمل المخشوش و ضغطا فاطمة في بابها حتّى اسقطت بمحسن و أمرت أن تدفن ليلا لئلاّ يحضر الأوّل و الثاني جنازتها و غير ذلك من المناكير . و عن الباقر عليه السّلام ما اهرقت محجمة دم إلاّ و كان وزرها في أعناقهما إلى يوم القيامة من غير أن ينتقص من وزر العالمين شي‏ء ، و سئل زيد بن عليّ بن الحسين و قد أصابه سهم في جبينه : من رماك به ؟ قال : هما رمياني هما ضلاني . و أمّا « المنكرات التي أتوها » فكثيرة جدّا و غير محصورة عدّا حتى روى [ 401 ] أنّ عمر قضى في الجدّة بسبعين قضيّة غير مشروعة ، و قد ذكر العلاّمة قدّس اللّه سرّه في كتاب كشف الحقّ و نهج الصّدق فمن أراد الاطلاع على جملة من مناكرهم و ما صدر من الموبقات من أوّلهم إلى آخرهم فعليه بالكتاب المذكور و كذا كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة ، و كذا كتاب مطالب العواصب في مثالب النّواصب ، و كتاب الفاضح و كتاب صراط المستقيم و غير ذلك ممّا لا يحتمل المكان ذكر الكتب فضلا عما فيها . و « الحقّ المخفي » إشارة إلى فضايل عليّ عليه السّلام و ما نصّ عليه النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الغدير و كحديث الطّاير و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأعطينّ الرّاية غدا الحديث و حديث السّطل و المنديل و هوى النّجم في داره و نزول هل أتى فيه و غير ذلك مما لا يتسع لذكره هذا الكتاب . و « ارجاؤهم المؤمن » إشارة إلى أصحاب عليّ عليه السّلام كسلمان و مقداد و عمّار و أبي ذر ، و الارجاء التأخير و منه قوله تعالى أرجه و أخاه مع أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقدم هؤلاء و أشباههم على غيرهم . و « توليتهم المنافق » إشارة إلى معاوية و عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة و الوليد بن عقبة و عبد اللّه بن أبي سرح و النعمان بن بشير ، و « ايذاؤهم الوليّ » يعني عليا عليه السّلام و « ايواؤهم الطريد » هو الحكم بن أبي العاص طرده النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلما تولّى عثمان آواه ، و « طردهم الصادق » إشارة إلى أبي ذر و طرده عثمان إلى الرّبذة و قد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حقه : ما أظلّت الخضراء و لا أقلّت الغبراء الحديث و « نصرهم الكافر » إشارة إلى كلّ من خذل عليا و حادّ اللّه سبحانه و رسوله و هو سبحانه يقول لا تجد قوما يؤمنون باللّه و اليوم الآخر يوادّون من حادّ اللّه و رسوله الآية و « الامام المقهور » منهم يعني نفسه عليه السّلام . قوله عليه السّلام : « و فرض غيّروه » تغييرهم الفرض اشارة إلي ما روى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه رأى ليلة الاسرى مكتوبا على ورقة من آس : أنى افترضت محبة علىّ على امتك فغيّروا فرضه و مهّدوا لمن بغّضه و سبّه حتى سبّوه على منابرهم ألف شهر . و « الاثر الذي أنكروه » إشارة إلى استيثار النبيّ عليّا من بين أفاضل أقاربه و جعله أخا و وصيا و قال له أنت منّي بمنزلة هارون من موسى أو غير ذلك ، ثمّ بعد [ 402 ] ذلك كلّه أنكروه . و « الشرّ الذي آثروه » هو ايثارهم الغير عليهم و هو ايثار شرّ مجهول متروك على خير مأخوذ و معلوم هذا مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : علىّ خير البشر من أبي فقد كفر . و « الدّم المهراق » هو جميع ما قتل من العلويّين لأنّهم أسّسوا ذلك كما ذكرنا من قبل من كلام الباقر عليه السّلام ما اهرقت محجمة دم آه حتّى قيل : اريتكم إنّ الحسين اصيب في يوم السّقيفة . و « الخبر المبدّل » منهم عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كثير كقولهم : أبو بكر و عمر سيّدا كهول أهل الجنّة و غير ذلك ممّا هو مذكور في مظانّه ، و « الكفر المنصوب » هو أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نصب عليا علما للناس و هاديا فنصبوا كافرا و فاجرا ، و « الارث المغصوب » هو فدك فاطمة و إرثها من أبيها ، و كذا « الفى‏ء المقتطع » هو فدك و « السّحت المأكول » هى التصرفات الفاسدة في بيت مال المسلمين ، و كذا ما حصلوه من ارتفاع فدك من التمر و الشعير فانها كانت سحتا محضا . و « الخمس المستحلّ » هو الذي جعله سبحانه لآل محمّد فمنعهم إياه و استحلّوه حتى اعطى عثمان مروان بن الحكم خمس افريقية و كان خمسمأة ألف دينار بغيا و جورا ، و « الباطل المؤسّس » هي الأحكام الباطلة التي أسّسوها و جعلوها قدوة لمن بعدهم و « الجور المبسوط » هو بعض جورهم الذي مرّ ذكره . و « النفاق الذي أسرّوه » هو قولهم في أنفسهم لما نصب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا علما للخلافة قالوا : و اللّه لا نرضى أن يكون النبوّة و الخلافة في بيت واحد ، فلما توفّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أظهروا ما أسّروه من النفاق ، و لهذا قال عليّ عليه السّلام : و الذى فلق الحبّة و برء النسمة ما أسلموا و لكن استسلموا أسرّوا الكفر فلما رأوا أعوانا عليه أظهروه . و أما « الغدر المضمر » فهو ما ذكرناه من اسرارهم النفاق ، و « الظلم المنشور » كثير أوّله أخذهم الخلافة منه عليه السّلام بعد فوت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم « و الوعد المخلف » هو ما وعدوا النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قبولهم ولاية عليّ و الايتمام به فنكثوه و « الأمان الذى خانوه » [ 403 ] هو ولاية عليّ في قوله تعالى : إنّا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض الآية ، و الانسان فيها هم لعنهم اللّه ، و « العهد المنقوض » هو ما عاهدهم به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم الغدير على محبة عليّ و ولايته فنقضوا ذلك و « الحلال المحرّم » كتحريم المتعتين ، و عكسه كتحليل الفقاع و غير ذلك . و « البطن المفتوق » بطن عمار بن ياسر ضربه عثمان على بطنه فأصابه الفتق و « الجنين المسقط » هو محسن و « الضلع المدقوق و الصكّ الممزوق » إشارة إلى ما فعلاه مع فاطمة عليهما السّلام من مزق صكّها و دقّ ضلعها ، و « الشمل المبدّد » هو تشتيت شمل أهل البيت و كذا شتتوا بين التأويل و التنزيل و بين الثقلين الأكبر و الأصغر . و « إعزاز الذّليل » و عكسه معاوية و كذا الحقّ الممنوع قد تقدّم ما يدلّ عليه و « الكذب المدلّس » مرّ معناه في قوله : و خبر بدّلوه و « الحكم المقلّب » مرّ معناه في أوّل الدّعاء في قوله عليه السّلام و قلّبا دينك . و « الآية المحرّفة » مرّ معناه في قوله : و حرّفا كتابك « و الفريضة المتروكة » هي موالاة أهل البيت لقوله تعالى : قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى و « السنّة المغيرة » كثيرة لا تحصى و « الرّسوم الممنوعة » هي الفى‏ء و الخمس و نحو ذلك و « تعطيل الأحكام » يعلم ممّا تقدّم ، و « البيعة المنكوثة » هى نكثهم بيعته كما فعل طلحة و الزّبير و « الدّعوى المبطلة » إشارة إلى دعوى الخلافة و فدك ، و « البينة المنكرة » هي شهادة عليّ و الحسنين عليهم السّلام و أمّ أيمن لفاطمة فلم يقبلوها . و « الحيلة المحدثة » هي اتّفاقهم أن يشهدوا على عليّ بكبيرة توجب الحدّ إن لم يبايع . قوله « و خيانة أوردوها » إشارة إلى يوم السّقيفة لما احتجّ الأنصار على أبي بكر بفضايل ، عليّ عليه السّلام و أنّه أولى بالخلافة فقال أبو بكر : صدقتم ذلك [ 404 ] و لكنّه نسخ بغيره لأنّي سمعت النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول : إنّا أهل بيت أكرمنا اللّه بالنبوّة و لم يرض لنا الدّنيا و إنّ اللّه تعالى لا يجمع لنا بين النبوّة و الخلافة و صدّقه عمر و أبو عبيدة و سالم مولى حذيفة على ذلك و زعموا أنّهم سمعوا هذا الحديث من النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كذبا و زورا فشبهوا على الأنصار و الامّة و النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال : من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّء مقعده من النّار . و قوله « و عقبة ارتقوها » إشارة إلى أصحاب العقبة و هم أبو بكر و عمر و عثمان و طلحة و الزّبير و أبو سفيان و عتبة بن أبي سفيان و أبو الأعور السّلمي و المغيرة بن شعبة و سعد بن أبي وقاص و أبو قتادة و عمرو بن العاص و أبو موسى الأشعري لعنهم اللّه جميعا اجتمعوا في غزوة تبوك على كؤد لا يمكن أن يجتاز عليها إلاّ فرد رجل أو فرد جمل ، و كان تحتها هوّة على مقدار ألف رمح من تعدّى عن المجرى هلك من وقوعه فيها ، و تلك الغزوة كانت في أيام الصّيف و العسكر تقطع المسافة ليلا فرارا من الحرّ فلمّا وصلوا إلى تلك العقبة أخذوا دبابا كانوا هيّئوها من جلد حمار و وضعوا فيها حصى و طرحوها بين يدى ناقة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لينفروها به فتلقاه في تلك الهوّة فيهلك فنزل جبرئيل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذه الآية : يحلفون باللّه ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم و همّوا بما لم ينالوا ، الآية و أخبره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمكيدة القوم فأظهر اللّه تعالى برقا مستطيلا دائما حتى نظر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى القوم فعرفهم . و إلى هذه الدّباب التي ذكرناها أشار بقوله « و دباب دحرجوها » و سبب فعلهم هذا مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كثرة نصّه على عليّ عليه السّلام بالولاية و الامامة و الخلافة و كانوا من قبل نصّه أيضا يسبونه لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سلّطه على كلّ من عصاه من طوايف العرب فقتل مقاتليهم و سبى ذراريهم فما من بيت إلاّ و في قلبه 1 فانتهزوا في هذه الغزوة الفرصة و قالوا إذا هلك محمّد رجعنا إلى المدينة و نرى رأينا في هذا الأمر من بعده ، و كتبوا بينهم كتابا فعصم اللّه نبيّه منهم و كان من فضيحتهم ما ذكرناه . ----------- ( 1 ) الظاهر سقوط شى‏ء من هنا . المصحح . [ 405 ] و قوله « و أزياف لزموها » الأزياف جمع زيف و هو الدّرهم الردىّ غير المسكوك الّذي لا ينتفع به أحد شبّه أفعالهم الردّية بالدّرهم الزيف الذى لا يظهر في البقاع و لا يشترى به متاع فلأفعالهم الفظيعة و أقوالهم الشّنيعة ذكرهم اللّه تعالى في قوله و الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ، الآية و « الشهادات المكتومة » هي ما كتموا من فضايله و مناقبه الذى ذكره النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هي كثيرة جدّا و غير محصورة عدّا و « الوصيّة المضيعة » هى قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : أوصيكم بأهل بيتى خيرا و أمرهم بالتمسك بالثقلين و أنهما لن يفترقا حتى يردا علىّ الحوض ، و أمثال ذلك ، انتهى كلامه رفع اللّه مقامه . اقول : و قد كان الشارح ذكر شرح فقرات الدّعاء بلا مراعاة الترتيب بينها فأوردته على ترتيب تسهيلا للأمر بلا تغيير و تبديل فيما أتاه ، هذا . و قال المحدّث العلاّمة المجلسي في قوله : و أزياف لزموها ، في بعض النسخ بالراء المهملة جمع ريف بالكسر و هى أرض فيها زرع و خصب و السعة في المأكل و المشرب و ما قارب الماء من أرض العرب أو حيث الماء و الخضر و الزّرع و لا يخفى مناسبة الكلّ . الترجمة از جمله كلام بلاغت نظام آن حضرتست مى‏فرمايد : خدا راست شهرهاى فلان شخص بقول بعض شارحين مراد از اين عمر بن الخطاب است ، و بقول بعضى غير اوست پس بتحقيق كه راست گردانيد كجى را و مداوا نمود مرض را ، و برپا داشت سنّت را ، و باز پس انداخت فتنه را ، رفت بزير خاك در حالتى كه پاك لباس بود و كم عيب ، رسيد بخير خلافت ، و سبقت نمود بشرّ خلافت ، ادا كرد بسوى خداى تعالى طاعت و عبادت او را ، و پرهيز كرد از او با [ 406 ] أدا كردن حقّ او ، و رحلت نمود از دنيا و واگذاشت مردمان را در طرق مختلفه و راههاى متفرّقه كه هدايت نمى‏يابد در آنها شخص گمراه ، و يقين تحصيل نميتواند بكند شخص طالب هدايت . شارح گويد : اگر نظر إمام عليه السّلام در اين كلام بعمر باشد و لفظ فلان كنايه از او باشد چنانچه بعض شرّاح همچنين فهميده‏اند بايد بتورية حمل نمود چنانچه عادت أئمه عليهم السّلام در كلماتيكه در حقّ خلفاى جور وارد شده بر اين جاريست .