متن
ترجمه آیتی
ترجمه شهیدی
ترجمه معادیخواه
تفسیر منهاج البرائه خویی
تفسیر ابن ابی الحدید
تفسیر ابن میثم
[ 364 ]
و من كلام له عليه السّلام و هو المأة و التاسع و التسعون من المختار فى باب الخطب
و اللّه ما معاوية بأدهى منّي ، و لكنّه يغدر و يفجر ، و لو لا كراهيّة الغدر لكنت من أدهى النّاس ، و لكنّ كلّ غدرة فجرة ، و كلّ فجرة كفرة ، و لكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة ، و اللّه ما أستغفل بالمكيدة ، و لا أستغمز بالشّديدة .
اللغة
( الدّهي ) بسكون الهاء و الدّهاء الفكر و الارب و جودة الرّأي و ( غدر ) غدرا من باب ضرب و نصر نقض عهده و ( فجر ) يفجر من باب قتل و ( الغدرة ) و ( الفجرة ) و ( الكفرة ) كلّها في بعض النسخ بفتح الفاء و سكون العين وزان تمرة فالتّاء للمرّة ،
و في بعضها بتحريك الفاء و العين وزان مردة فيكون جمع غادر و فاجر و كافر ، و في بعضها بضمّ الفاء و فتح العين وزان همزة فالتّاء للمبالغة أى الكثير الغدر و الفجور و الكفر ، فان أسكنت العين فالبناء للمفعول تقول : رجل سخرة ، كهمزة يسخر من الناس ، و سخرة كغرفة من يسخر منه .
( و لا أستغمز ) بالزاء المعجمة من الغمز و هو العصر باليد يقال غمزه غمزا من باب ضرب ، و الغمز محرّكة الرّجل الضعيف قال الشارح البحراني : و روى بالرّاء المهملة أى لا استجهل بشدايد المكايد ، انتهى . و لعلّه من الغمر بالتحريك و هو من لم يجرّب الامور و الأوّل أصوب و أنسب .
[ 365 ]
الاعراب
الباء في قوله : بأدهى زايدة في الخبر جىء بها لتأكيد معني النّفي كما في قوله تعالى و ما اللَّه بغافل عمّا تعملون و قوله : بالشديدة ، صفة محذوفة الموصوف أى بالدّواهى الشديدة و نحو ذلك .
المعنى
اعلم أنّ الغرض من هذا الكلام دفع توهّم من كان معتقدا أنّ معاوية أجود رأيا و أكثر تدبيرا منه ، و تعرّض به على معاوية من أجل عدم تحرّزه في تدبير الامور عن الغدر و الفجور ، و صدّر الكلام بالقسم البارّ تأكيدا للمقصود فقال :
( و اللّه ما معاوية بأدهى منّي ) أي ليس بأجود رأيا و أحسن تدبيرا و أبعد غورا و أعمق فكرا و أشدّ دهاء منّي ، و إن فسّر الدّهاء بخصوص استعمال العقل و الرّأى فيما لا ينبغي فعله من الامور الدّنيويّة المعبّر عنه بالنّكراء فلا بدّ من جعل قوله عليه السّلام أدهى بمعنى أعرف بطرق الدّهاء و أبصر بها ، لعدم اتّصافه بالدّهاء بهذا المعنى فضلا عن كونه أدهى .
( و لكنّه يغدر و يفجر ) أى يستعمل الغدر في اموره السيّاسيّة فيزعم أهل الجهل أنّه أدهى .
و قوله : و يفجر ، إشارة إلى نتيجة الغدر يعني أنّه من أجل إقدامه على الغدر يكون فاجرا ، و ذلك لأنّ الغدر مقابل الوفاء ، و الوفاء فضيلة داخلة تحت العفّة ،
فيكون الغدر رذيلة داخلة تحت الفجور .
و أيضا الوفاء توأم الصّدق و الغدر توأم الكذب حسبما عرفت تفصيلا في الخطبة الحادية و الأربعين و شرحها ، و الكذب من أعظم الفجور .
و ايضاح هذه الفقرة ما تقدّم في الخطبة المذكورة حيث قال عليه السّلام هناك :
و لقد أصبحنا في زمان قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كيسا و نسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة ، ما لهم قاتلهم اللّه قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة و دونه
[ 366 ]
مانع من أمر اللّه و نهيه فيدعها رأى عن بعد القدرة عليها و ينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين .
و روى في الكافي في حديث مرفوع عن أبيعبد اللّه عليه السّلام قال : قلت له :
ما العقل ؟ قال : ما عبد به الرّحمن و اكتسب به الجنان ، قال : قلت : فالّذى كان في معاوية ؟ فقال : تلك النكراء تلك الشّيطنة ، و هي شبيهة بالعقل و ليست بالعقل .
و لمّا نبّه على أنّ اتّصاف معاوية بالدّهاء من جهة عدم مبالاته بالغدر و الفجور ، عقّبه بالتّنبيه على ما هو المانع من اتّصافه عليه السّلام به مع كونه أعرف و أغدر به منه فقال :
( و لو لا كراهيّة الغدر ) و المكر و استلزامه للكذب و الغشّ و الخيانة و الفجور المنافي لمرتبة العصمة ( لكنت من أدهي النّاس ) فيدلّ هذه الجملة بمقتضي مفاد لو لا الامتناعيّة على امتناع اتّصافه بالدّهاء الملازم للغدر .
و المراد بالكراهة هنا الحرمة لا معناها المعروف في مصطلح المتشرّعة كما صرّح به في عبارته الّتي نقلناها آنفا من الخطبة الحادية و الاربعين أعني قوله :
قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة و دونه مانع من أمر اللّه و نهيه فيدعها رأى عين بعد القدرة عليها .
و أصرح منه ما رواه فى الكافى عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبى عمير عن هشام بن سالم رفعه قال : قال أمير المؤمنين عليه السّلام : لو لا أنّ المكر و الخديعة فى النّار لكنت أمكر النّاس .
و أصرح منهما قوله : ( و لكن كلّ غدرة فجرة و كلّ فجرة كفرة ) و قد روى نظير هذه العبارة عنه عليه السّلام فى الكافى باسناده عن الاصبغ بن نباته قال : قال أمير المؤمنين عليه السّلام ذات يوم و هو يخطب على المنبر بالكوفة : أيّها الناس لو لا كراهيّة الغدر كنت أدهى النّاس ألا إنّ لكلّ غدرة فجرة و لكلّ فجرة كفرة ، ألا و إنّ الغدر و الفجور و الخيانة فى النّار .
قال بعض شرّاح الكافى : الظاهر أنّ اللاّم فى لكلّ مفتوحة للمبالغة فى
[ 367 ]
التأكيد ، و قوله : الغدر و الخيانة فى النّار ، إمّا على حذف المضاف أى صاحبها ،
أو المصدر بمعنى الفاعل ، هذا .
فان قلت : استلزام الغدر للفجور المستفاد من قوله عليه السّلام : و لكن كلّ غدرة فجرة قد عرفنا وجهه سابقا ، و أمّا استلزام الفجور للكفر المستفاد من قوله :
و كلّ فجرة كفرة فما الوجه فيه ؟ ،
قلت : قال بعض الشّارحين : وجه لزوم الكفر هنا إنّ الغادر على وجه استباحة ذلك و استحلاله كما كان هو المشهور من حال عمرو بن العاص و معاوية في استباحة ما علم تحريمه بالضرورة من دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و جحده هو الكفر .
و قال الشارح البحراني : و يحتمل أن يريد كفر نعم اللّه و سترها باظهار معصية كما هو المفهوم اللغوى من لفظ الكفر ، انتهى .
و يتوجّه على الأوّل أوّلا أنّه أخصّ من المدّعى لأنّ المدّعى هو كفر كلّ غادر كما هو ظاهر المتن لا الغادر المستبيح المستحلّ للغدر فقط ، و ثانيا كون حرمة الغدر من ضروريّات الدّين غير معلوم .
و على الثّاني أنّه خلاف الظاهر .
و الأظهر أنّه داخل في القسم الرّابع من أقسام الكفر التي تقدّم تفصيلها في حديث الكافي في شرح الفصل الثامن عشر من الخطبة الاولى ، فقد روينا هناك عن الكلبي باسناده عن أبيعبد اللّه عليه السّلام قال : الكفر في كتاب اللّه عزّ و جلّ على خمسة أوجه « إلى أن قال » الوجه الرّابع من الكفر ترك ما أمر اللّه و هو قول اللّه تعالى و إذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمائكم و لا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم و أنتم تشهدون . ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم و تخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالاثم و العدوان و إن يأتوكم اسارى تفادوهم و هو محرّم عليكم إخراجهم أ فتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض فكفرهم بترك ما أمر اللّه و نسبهم إلى الايمان و لم يقبله منهم و لم ينفعهم فقال فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزى في الحيوة الدّنيا و يوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب .
[ 368 ]
و قوله ( و لكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة ) قال الشّارح المعتزلي : حديث صحيح مرويّ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أقول : و هو تنفير عن الغدر .
و نحوه ما رواه في الكافي عن علىّ بن إبراهيم عن أبيه عن النّوفلي عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : يجيء كلّ غادر يوم القيامة بامام مايل شدقه حتّى يدخل النّار ، و يجيء كلّ ناكث بيعة إمام أجذم حتّى يدخل النّار ، هذا .
و لمّا ذكر أنّ معاوية ليس بأدهى منه و نبّه على معرفته بطرق الدّهاء و خبرويّته بها أكّده بقوله :
( و اللّه ما استغفل بالمكيدة ) أى لا يطمع في اغفالي بالكيد عليّ ، لأنّي أحذر من الغراب و إن كان الطامع في الكيد أروغ من الثّعلب ، فانّ من كان أعرف بطرق الخداع و وجوه التّدابير و الحيل لا يتمكّن من إغفاله و لا يلحقه الغفلة عمّا يراد في حقّه من الكيد و الخديعة كما قال عليه السّلام في الكلام السّادس : و اللّه لا أكون كالضّبع تنام على طول اللّدم حتّى يصل إليها طالبها و يختلها راصدها .
( و لا استغمز بالشّديدة ) أى لا استضعف بالخطوب الشّديدة و الدّواهي العظيمة لأنّى البطل الأهيس و الحازم الأكيس و الشّجاع الأسوس .
فقد اتّضح كلّ الوضوح بما أتى به في هذا الكلام بطلان توهّم من زعم أنّ معاوية كان أدهى منه عليه السّلام و أصحّ تدبيرا .
و قد بسط الكلام فى هذا المرام أبو عثمان الجاحظ على أحسن تقرير و تبيان و فصّل الشارح المعتزلى تفصيلا عجيبا أحببت نقل ما قالا ، لأنه من لسانهما أحلى فأقول :
أما الجاحظ فقد قال في محكيّ كلامه :
و ربما رأيت بعض من بطن بنفسه العقل و التحصيل و الفهم و التمييز و هو من العامة و يظنّ أنه من الخاصة يزعم أنّ معاوية كان أبعد غورا و أصحّ فكرا و أجود
[ 369 ]
رويّة و أبعد غاية و أدقّ مسلكا ، و ليس الأمر كذلك و ساري إليك بجملة تعرف بها موضع غلطه و المكان الّذى دخل عليه الخطاء من قبله .
كان عليّ عليه السّلام لا يستعمل في حربه إلاّ ما وافق الكتاب و السنّة .
و كان معاوية يستعمل خلاف الكتاب و السّنّة كما يستعمل الكتاب و السنة ، و يستعمل جميع المكائد حلالها و حرامها و يسير في الحرب بسيرة ملك الهند إذا لاقي كسرى ، و خاقان إذا لاقي رتبيل .
و عليّ عليه السّلام يقول : لا تبدؤا بالقتال حتّى يبدؤكم ، و لا تتبعوا مدبرا ، و لا تجهزوا على جريح ، و لا تفتحوا بابا مغلقا ، و هذه سيرته في ذى الكلاع و في أبي أعور السلّمي ،
و في عمرو بن العاص ، و حبيب بن مسلمة و في جميع الرّؤساء كسيرته في الحاشية و الحشو و الأتباع و السّفلة .
و أصحاب الحروب إن قدروا على البيات تبيّتوا . و إن قدروا على رضخ الجميع بالجندل و هم نيام فعلوا و إن أمكن ذلك فى طرفة عين ، و لم يؤخّروا الحرق إلى وقت الغرق ، و إن أمكن الهدم لم يتكلّفوا الحصار ، و لم يدعوا أن ينصبوا المجانيق و العراوات و النّقب و الشريب و الدّبابات و الكمين ، و لم يدعوا دسّ السّموم و لا التضريب بين النّاس بالكذب و طرح الكتب في عساكرهم بالسّعايات و توهيم الامور و ايحاش بعضهم من بعض و قتلهم بكلّ آلة و حيلة كيف وقع القتل و كيف دارت بهم الحال .
فمن اقتصر من التدبير حفظك اللّه على ما في الكتاب و السنّة و كان قد منع نفسه الطويل العريض من التدّبير و ما لا يتناهي من المكايد ، و الكذب أكثر من الصّدق و الحرام أكثر عددا من الحلال ، و كذلك الايمان و الكفر و الطاعة و المعصية و الحقّ و الباطل ، و كذلك الصّحة و السّقم و الصّواب و الخطاء .
فعليّ عليه السّلام كان ملجما بالورع عن جميع القول إلاّ ما هو للّه عزّ و جلّ رضى ،
و ممنوع اليدين عن كلّ بطش إلاّ ما هو للّه رضى ، و لا يرى الرّضاء إلاّ فيما يرضاه اللّه و يحبّه ، و لا يرى الرّضاء إلاّ فيما دلّ عليه الكتاب و السنّة دون ما يقول عليه أصحاب الدّهاء و النّكراء و المكايد و الآراء .
[ 370 ]
فلمّا أبصرت العوام كثرة بوادر معاوية فى المكايد ، و كثرة غرايبه فى الخدع ،
و ما اتّفق له و تهيّأ على يده ، و لم يروا ذلك من علىّ ، ظنّوا بقصر عقولهم أنّ ذلك من رجحان عند معاوية و نقصان عند علىّ فقالوا لو لم ما يعدّ له من الخدع إلاّ رفع المصاحف .
ثمّ انظر هل خدع بها إلاّ من عصى رأى عليّ و خالف أمره ، فان زعمت أنّه قد نال ما أراد من الاختلاف فقد صدقت و ليس فى هذا اختلفنا ، و لا عن غرارة أصحاب علىّ عليه السّلام و عجلتهم و تسرّعهم و تنازعهم دفعنا ، و إنّما كان قولنا فى التميز بينهما فى الدّهاء و النكراء و صحّة الرّأى و العقل .
على أنّا لا نصف الصالحين بالدّهاء و النكراء ، و لا يقول أحد عنده شىء من الخير : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أدهى العرب و العجم و أنكر قريش و أنكر كنانة .
لأنّ هذه الكلمة إنّما وضعت فى مديح أصحاب الارب و من يتعمّق فى الرأى فى توكيد أمر الدّنيا و زبرجها و تشديد أركانها .
فأمّا أصحاب الآخرة الّذين يرون النّاس لا يصلحون على تدبير البشر و انّما يصلحون على تدبير خالق البشر لا يمدحون بالدّهاء و النكراء ، و لم يمنعوا إلاّ ليعطوا أفضل منه .
و أما الشارح المعتزلى فقد قال :
إنّ السّايس لا يتمكّن من السّياسة البالغة إلاّ إذا كان يعمل برأيه و بما يرى فيه صلاح ملكه و تمهيد أمره ، سواء وافق الشريعة أو لم يوافقها ، و متى لم يعمل فى السّياسة بمقتضى ما قلناه فبعيد أن ينتظم أمره أو يستوسق حاله .
و أمير المؤمنين عليه السّلام كان مقيّدا بقيود الشريعة ، مدفوعا إلى اتّباعها و رفض ما يصلح من آراء الحرب و الكيد و التدبير إذا لم يكن للشرع موافقا ، فلم يكن قاعدة فى خلافته قاعدة غيره ممّن لم يلتزم بذلك .
و لسنا زارين بهذا القول على عمر بن الخطّاب ، و لكنّه كان مجتهدا يعمل بالقياس و الاستحسان و المصالح المرسلة و يرى تخصيص عمومات النّصّ بالآراء و بالاستنباط من اصول يقتضى خلاف ما يقتضيه عموم النّصوص ، و يكيد خصمه و يأمر
[ 371 ]
أمراءه بالكيد و الحيلة ، و يؤدّب بالدّرّة و السّوط من يتغلّب على ظنّه أنّه يستوجب ذلك ، و يصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقّون به التّأديب كلّ ذلك بقوّة اجتهاده و ما يؤدّيه إليه نظره .
و لم يكن أمير المؤمنين عليه السّلام يرى ذلك ، و كان يقف مع النصوص و الظواهر و لا يتعدّاها إلى الاجتهاد و الأقيسة ، و يطبّق امور الدّنيا على امور الدّين ، و يسوق الكلّ مساقا واحدا ، و لا يضع و لا يرفع إلاّ بالكتاب و النّصّ ، فاختلف طريقتاهما فى الخلافة و السّياسة .
و كان عمر مع ذلك شديد الغلظة ، و كان علىّ عليه السّلام كثير الحلم و الصّفح و التجاوز فازدادت خلافة ذلك قوّة ، و خلافة هذا لينا .
و لم يمن عمر بما منى عليّ به من فتنة عثمان الّتى أحوجته إلى مداراة أصحابه و جنده و مقاربتهم للاضطراب الواقع بطريق تلك الفتنة .
ثمّ تلى تلك الفتنة فتنة الجمل و فتنة صفّين ثمّ فتنة النّهروان و كلّ ذلك الامور مؤثرة فى اضطراب أمر الوالى و اغلال معاقد ملكه ، و لم يتّفق لعمر شىء من ذلك فشتّان بين الخلافتين فيما يعود إلى انتظام المملكة و صحّة تدبير الخلافة .
فان قلت : فما قولك فى سياسة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تدبيره أ ليس كان منتظما سديدا مع أنّه كان لا يعمل إلاّ بالنّصوص و التوقيف من الوحى ، فهلا كان تدبير عليّ عليه السّلام و سياسته كذلك ؟ .
قلت : أمّا سياسة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تدبيره فخارج عمّا نحن فيه ، لأنّه معصوم لا يتطرّق العلّة إلى أفعاله ، و ليس بواحد من هذين الرّجلين بواجب العصمة عندنا « إلى أن قال » :
و كان أبو جعفر بن أبى زيد الحسنى نقيب البصرة إذا حدّثناه فى هذا يقول :
إنّه لا فرق عند من قرء السير بين سيرة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سياسة أصحابه أيّام حياته ،
و بين سيرة أمير المؤمنين و سياسة أصحابه أيّام حياته ، فكما أنّ عليّا عليه السّلام لم يزل أمره مضطربا معهم بالمخالفة و العصيان و الهرب إلى أعدائه و كثرة اختلافه و الحروب
[ 372 ]
فكذلك كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممنوا بنفاق المنافقين و اذاهم و خلاف أصحابه عليه و هرب بعضهم إلى أعدائه و كثرة الحروب و الفتن .
و كان يقول : أ لست ترى القرآن العزيز مملوّا بذكر المنافقين و الشّكوى منهم و التّألّم من أذاهم له ، كما أنّ كلام عليّ مملوّ بالشكوى من منافقى أصحابه و التّألّم من أذاهم له .
ثمّ ذكر كثيرا من الآيات المتضمنّة لنفاق المنافقين و الشكوى منهم لا حاجة بنا إلى ذكرها ثمّ قال :
فمن تأمّل كتاب العزيز علم حاله صلوات اللّه عليه مع أصحابه كيف كانت و لم ينقله اللّه إلى جواره إلاّ و هو مع المنافقين له و المظهرين خلاف ما يضمرون من تصديقه في جهاد شديد ، حتّى لقد كاشفوه مرارا فقال لهم يوم الحديبيّة : احلقوا و انحروا ، فلم يحلقوا و لم ينحروا و لم يتحرّك أحد منهم عند قوله ، و قال له بعضهم و هو يقسم الغنائم : اعدل يا محمّد فانّك لم تعدل ، و قالت الأنصار له مواجهة يوم حنين أ تأخذ ما أفشاه اللّه علينا بسيوفنا فتدفعه إلى أقاربك من أهل مكة ، حتى أفضى إلى أن قال لهم في مرض موته : ايتونى بدواة و كتف أكتب لكم ما لا تضلّون بعده ، فعصوه و لم يأتوه بذلك وليتهم اقتصروا على عصيانه و لم يقولوا له ما قالوا و هو يسمع قال :
و كان أبو جعفر يقول من هذا ما يطول شرحه و القليل منه ينبىء عن الكثير و كان يقول :
إنّ الاسلام ما جلا عندهم و لا ثبت في قلوبهم إلاّ بعد موته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين فتح عليهم الفتوح و جائتهم الغنائم و الأموال و كثرت عليهم المكاسب و ذاقو الذّة الحياة و عرفوا لذّة الدّنيا و لبسوا الناعم و أكلوا الطيب و تمتّعوا بنساء الرّوم و ملكوا خزائن كسرى ، و تبدّلوا بذلك التقشّف و اللبس الخشن و أكل الضباب و القنافذ و اليرابيع و لبس الصّوف و الكرابيس أكل اللّوز ينجات و الفالوزجات و لبس الحرير و الدّيباج فاستدلّوا بما فتحه اللّه عليهم و أتاخه لهم على صحّة الدّعوة و صدق الرّسالة .
و قد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، وعدهم بأنّه سيفتح عليهم كنوز كسرى و قيصر ، فلما
[ 373 ]
وجدوا الأمر قد وقع بموجب ما قاله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عظّموه و أحبّوه و انقلبت تلك الشكوى و ذلك النفاق و ذلك الاستهزاء إيمانا و يقينا و إخلاصا ، و طاب لهم العيش ، و تمسّكوا بالدين لأنّهم رأوه طريقا إلى نيل الدّنيا ، فعظّموا ناموسه ، و بالغوا في إجلاله و إجلال الرسول الذى جاء به .
ثمّ انقرض الأسلاف و جاء الأخلاف على عقيدة ممهّدة و أمر أخذوه تقليدا من أسلافهم الذين دبّوا في حجورهم ، ثمّ انقرض ذلك القرن و جاء من بعدهم كذلك و هلم جرّا قال :
و لو لا الفتوح و النّصر و الظفر الذى منحهم اللّه تعالى إيّاه و الدولة الّتي ساقها إليهم لا نقرض دين الاسلام بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، و كان يذكر في التواريخ كما يذكر نبوّة خالد بن سنان العنسى حيث ظهر و دعا إلى الدّين و كان النّاس يعجبون من ذلك و يتذاكرونه كما يعجبون و يتذاكرون أخبار من نبغ من الرّؤساء و الملوك و الدّعاة الذين انقرض أمرهم و بقيت أخبارهم ، و كان يقول :
من تأمّل الرّجلين وجدهما متشابيهن في جميع امورهما أو في أكثرها .
و ذلك لأنّ حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع المشركين كانت سجالا انتصر يوم بدر و انتصر المشركون عليه يوم احد ، و كان يوم الخندق كفافا خرج هو و هم سواء لاله و لا عليه ، لأنّهم قتلوا رئيس الأوس و هو سعد بن معاذ و قتل منهم فارس قريش و هو عمرو بن عبدود و انصرفوا عنه بغير حرب بعد تلك السّاعة الّتي كانت ،
ثمّ حارب قريشا بعدها يوم الفتح فكان الظفر له .
و هكذا كانت حروب عليّ عليه السّلام انتصر يوم الجمل و خرج بينه و بين معاوية على سواء قتل من أصحابه رؤساء ، و من أصحابه رؤساء و انصرف كلّ واحد من الفريقين عن صاحبه بعد الحرب على مكانه ، ثمّ حارب بعد صفّين أهل النهروان فكان الظفر له قال :
و من العجب أنّ أوّل حروب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كانت بدرا و كان هو المنصور
[ 374 ]
فيها ، و أوّل حروب عليّ عليه السّلام الجمل و كان هو المنصور .
ثمّ كان من صحيفة الصلح و الحكومة يوم صفين نظير ما كان من صحيفة الصلح و الهدنة يوم الحديبيّة ثمّ دعا معاوية في آخر أيّام عليّ عليه السّلام إلى نفسه و تسمّى بالخلافة كما أنّ مسيلمة و الأسود العنسى دعوا إلى أنفسهما في آخر أيّام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تسمّيا بالنّبوة ، و اشتدّ على عليّ عليه السّلام ذلك كما اشتدّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر الأسود و مسيلمة ، و بطل أمرهما بعد وفاة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كذلك بطل أمر معاوية و بني امية بعد وفاة عليّ عليه السّلام .
و لم يحارب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحد من العرب إلاّ قريش ما عدا يوم حنين ، و لم يحارب عليّا عليه السّلام أحد من العرب إلاّ قريش ما عدا يوم النّهروان .
و مات علىّ عليه السّلام شهيدا بالسّيف ، و مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شهيدا بالسمّ .
و هذا لم يتزوّج على خديجة امّ أولاده حتّى ماتت ، و هذا لم يتزوّج على فاطمة أمّ أشرف أولاده حتّى ماتت .
مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ثلاث و ستّين سنة و مات عليّ عليه السّلام عن مثلها ، و كان يقول :
انظروا إلى أخلاقهما و خصايصهما :
هذا شجاع و هذا شجاع ، و هذا فصيح و هذا فصيح ، و هذا سخيّ جواد و هذا سخيّ جواد ،
و هذا عالم بالشرايع و الامور الالهية و هذا عالم بالفقه و الشريعة و الامور الدقيقة الغامضة و هذا زاهد في الدّنيا غيرنهم عليها و لا مستكثر منها و هذا زاهد في الدّنيا تارك لها غير متمتّع بلذّاتها ، و هذا مذيب نفسه في الصّلاة و العبادة و هذا مثله ، و هذا غير محبّ إليه شيء من الامور العاجلة إلاّ النساء و هذا مثله ، و هذا ابن ابن عبد المطلب بن هاشم وهذا في تعداده ، و أبوهما أخوان لأب واحد دون غيرهما من بني عبد المطلب و ربّى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجر والده هذا و هو أبو طالب فكان عنده جاريا مجرى أحد أولاده ، ثمّ لمّا شبّ و كبر استخلص من بني أبي طالب و هو غلام فربّاه في حجره مكافاة لصنيع أبيطالب به ، فامتزج الخلقان و تماثلت السّجيّتان ، و إذا كان القرين
[ 375 ]
مقتديا بالقرين فما ظنك بالتّربية و التثقيف الدّهر الطويل .
فوجب أن يكون أخلاق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كأخلاق أبيطالب ، و أن يكون أخلاق علىّ كأخلاق أبيطالب أبيه و أخلاق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مربّيه و أن يكون الكلّ شيمة واحدة وسوسا واحدا و طينة مشتركة و نفسا غير منقسمة و لا متجزيّة ، و أن لا يكون بين بعض هؤلاء و بعض فرق و لا فصل لو لا أنّ اللّه اختصّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله برسالته و اصطفاه لوحيه لما يعلمه من مصالح البرية في ذلك ، فامتاز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله : أخصّك بالنّبوة فلا نبوّة بعدى ، و تخصم النّاس بسبع و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له أيضا : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبىّ بعدي ، فأبان نفسه بالنّبوة و أثبت له ما عداها من جميع الفضايل و الخصايص مشتركا بينهما .
قال الشّارح المعتزلي :
و كان النّقيب أبو جعفر غزير العلم صحيح العقل منصفا بالجدل غير متعصّب للمذهب و إن كان علويا و كان يعترف بفضايل الصّحابة و يثنى على الشّيخين و يقول : إنهما مهّدا دين الاسلام و أرسيا قواعده و لقد كان شديد الاضطراب في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّما مهّداه بما تيسّر للعرب من الفتوح و الغنايم في دولتهما و كان يقول في عثمان : إنّ الدولة فى أيّامه كانت على إقبالها و علوّ جدّها بل كانت الفتوح في أيّامه أكثر و الغنايم أعظم لو لا أنّه لم يراع ناموس الشيخين و لم يستطع أن يسلك مسلكهما و كان مضعفا في أصل القاعدة مغلوبا عليه و كثير الحبّ لأهله و اتيح له من مروان وزير سوء ما أفسد القلوب عليه و حمل النّاس على خلعه و قتله .
قال الشّارح : و كان أبو جعفر لا يجحد الفاضل فضله و الحديث ذو شجون قلت له مرّة :
ما سبب حبّ النّاس لعلىّ بن أبيطالب عليه السّلام و عشقهم له و تهالكهم في هواه ؟
و دعنى في الجواب من حديث الشّجاعة و العلم و الفصاحة و غير ذلك من الخصايص التي رزقه اللّه سبحانه الكثير الطيّب منها .
[ 376 ]
فضحك و قال لى : لم تجمع حرا ميزك عليّ ؟ ثمّ قال : ههنا مقدّمة ينبغى أن تعلم و هى :
إنّ أكثر النّاس موتورون من الدنيا أمّا المستحقّون فلا ريب في أنّ أكثرهم محرومون .
نحو عالم يرى أنّه لا حظّ له من الدّنيا ، و يرى جاهلا غيره مرزوقا موسّعا عليه .
بضروراته ، و يرى غيره و هو جبان فشل ينفر من ظلّه مالكا بقطر عظيم من الدّنيا و قطعة وافرة من المال و الرزق .
و عاقل سديد الرّأى صحيح العقل قد قدر عليه رزقه و هو يرى غيره أحمق مايقا تدرّ عليه الخيرات له أخلاف الرّزق و ذى دين قويم و عبادة حسنة و اخلاص و توحيد و هو محروم ضيق الرزق و يرى غيره يهوديّا أو نصرانيا أو زنديقا كثير المال حسن الحال حتّى أنّ هذه الطبقات المستحقّة يحتاجون في أكثر الوقت إلى الطبقات الّتي لا استحقاق لها ،
و تدعوهم الضّرورة إلى الذلّ لهم و الخضوع بين أيديهم إمّا لدفع ضرر أو لاستجلاب نفع .
و دون هذه الطبقات من ذوى الاستحقاق أيضا ما يشاهد عيانا من تجّار حاذق أو بنّاء عالم أو نقاش بارع أو مصوّر لطيف على غاية ما يكون من ضيق رزقهم و قلّة الحيلة بهم ، و يرى غيرهم ممّن ليس يجرى مجراهم و لا يلحق طبقتهم مرزوقا مرغوبا كثير المكسب طيب العيش واسع الرّزق .
فهذا حال ذوى الاستحقاق و الاستعداد .
و أما الذين ليسوا من أهل الفضايل كحثو العامّة فانّهم أيضا لا يخلون من الحقد على الدّنيا و الذمّ لها و الحنق و الغيظ منها لما يلحقهم من حسد أمثالهم و جيرانهم و لا ترى أحدا منهم قانعا بعيشه و لا راضيا بحاله يتزيّد و يطلب حالا فوق حاله قال :
[ 377 ]
فاذا عرفت هذه المقدّمة فمعلوم أنّ عليّا عليه السّلام كان مستحقا محروما بل هو أمير المستحقّين المحرومين و سيّدهم و كبيرهم ، و معلوم أنّ الّذين يلحقهم النّزلة و ينالهم الضّيم يتعصّب بعضهم لبعض و يكونون البا و يدا واحدة على المرزوقين الّذين ظفروا بالدّنيا لاشتراكهم في الأمر الذى ألمهم و ساءهم و عضّهم و مضّهم ، و اشتراكهم في الأنفة و الحمية و الغضب و المنافسة لمن عليهم و قهر عليهم و بلغ من الدّنيا ما لم يبلغوه .
فاذا كان هؤلاء أعني المحرومين متساوين في المنزلة و المرتبة و تعصّب بعضهم لبعض فما ظنّك بما إذا كان رجل عظيم القدر جليل الخطر كامل الشرف جامع للفضايل محتو على الخصايص و المناقب و هو مع ذلك محروم محدود قد جرّعته الدّنيا علاقمها ، و علته عللا بعد نهل من صابها و صبرها ، و لقى منها برحا بارحا و جهدا جهيدا و علا عليه من هو دونه و حكم فيه و في بيته و أهله و رهطه من لم يكن ما ناله من الامرة و السّلطان في حسابه ، و لا دائرا في خلده ، و لا خاطرا بباله ، و لا كان أحد من الناس يرتقب ذلك له و لا يراء له ، ثم كان في آخر الامر أن قتل هذا الرجل الجليل في محرابه و قتل بنوه بعده و سبى حريمه و نساؤه و تتّبع أهله و بنو عمّه بالطرد و القتل و الشّريد و السّجون مع فضلهم و زهدهم و عبادتهم و سخائهم و انتفاع الخلق بهم .
فهل يمكن أن لا يتعصّب البشر كلّهم مع هذا الشّخص و هل تستطيع أن لا تحبّه و تهواه و تذوب فيه و تفنى في عشقه انتصارا له و حميّة من أجله و آنفة ممّا ناله و امتعاضا ممّا جرى عليه .
و هذا أمر مركوز في الطّبايع مخلوق في الغرائز كما يشاهد النّاس على الجرف إنسانا قد وقع في الماء العميق و هو لا يحسن السّباحة فانّهم بالطّبع البشرى يرقّون عليه رقّة شديدة .
و قد بلغني أنّه رمى قوم منهم أنفسهم في الماء نحوه يطلبون تخليصه و لا يتوقّعون على ذلك مجازاة منه بمال أو شكر و لا ثواب في الآخرة فقد يكون منهم من لا يعتقد أمر الآخرة ، و لكنّها رقّة بشريّة و كان الواحد منهم يتخيّل في نفسه أنّه ذلك الغريق
[ 378 ]
فكما يطلب خلاص نفسه لو كان هذا الغريق كذلك يطلب تخليص من هو في تلك الحال الصّعبة للمشاركة الجنسيّة .
و كذلك لو أنّ ملكا ظلم أهل بلد من بلاده ظلما عنيفا لكان أهل ذلك البلد يتعصّب بعضهم لبعض في الانتصار من ذلك الملك و الاستعداء عليه .
فلو كان من جملتهم رجل عظيم القدر جليل الشّأن قد ظلمه الملك أكثر من ظلمه إيّاهم و أخذ أمواله و ضياعه و قتل أولاده و أهله كان لياذهم به و انضوائهم إليه و اجتماعهم و التفافهم به أعظم و أعظم ، لأنّ الطّبيعة البشريّة تدعو إلى ذلك على سبيل الايجاب و الاضطرار و لا يستطيع الانسان منه امتناعا .
قال الشّارح : هذا محصول قول النقيب أبي جعفر قد حكيته و الألفاظ لي و المعنى له ، و كان لا يعتقد في الصّحابة ما يعتقده أكثر الاماميّة فيهم و يسفّه رأى من يذهب فيهم إلى النّفاق و التّكفير ، و كان يقول : حكمهم حكم مسلم مؤمن عصى في بعض الافعال فحكمه إلى اللّه إن شاء أخذه و إن شاء غفر له قلت له مرّة : أ فتقول إنّهما من أهل الجنّة ؟
فقال : إى و اللّه أعتقد ذلك لأنّهما إمّا أن يعفو اللّه عنهما ابتداء أو بشفاعة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو بشفاعة علىّ أو يؤاخذهم بعقاب أو عتاب ثمّ ينقلهما إلى الجنة لا استريب في ذلك أصلا و لا أشكّ في ايمانهما برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صحّة عقيدتهما فقلت له : فعثمان ؟
قال : و كذلك عثمان ثمّ قال : رحم اللّه عثمان و هل كان إلاّ واحدا منّا و غصنا من شجرة عبد مناف ، و لكن أهله كدروه علينا و أوقعوا العداوة و البغضاء بينه و بيننا قلت له : فيلزم ذلك على ما تراه في أمر هؤلاء أن يجوز دخول معاوية الجنّة لأنه لم تكن منه إلاّ المخالفة و ترك امتثال أمر النبويّ .
فقال : كلاّ إنّ معاوية من أهل النار لا لمخالفته عليا و لا بمحاربته ايّاه ،
و لكن عقيدته لم تكن صحيحة و لا ايمانه حقا كان من رؤوس المنافقين هو و أبوه ،
و لم يسلم قلبه قطّ و إنما أسلم لسانه ، و كان يذكر من حديث معاوية و من فلتات
[ 379 ]
قوله و ما حفظ من كلام يقتضي فساد العقيدة شيئا كثيرا ليس هنا موضع ذكره فأذكره و قال لي مرّة : حاش للّه أن يثبت معاوية في جريدة الشيخين الفاضلين أبي بكر و عمر و اللّه ما هما إلاّ كالذّهب الابريز و لا معاوية إلاّ كالدّرهم الزايف أو قال كالدّرهم القمي .
ثمّ قال لى : فما يقول أصحابكم فيهما ؟
قلت : أما الذى استقرّ عليه رأى المعتزلة بعد اختلاف كثير بين قدمائهم فى التفضيل و غيره إنّ عليا عليه السّلام أفضل الجماعة و إنّهم تركوا الأفضل لمصلحة رأوها و إنه لم يكن هناك نصّ قاطع العذر و إنما كانت إشارة و ايماء لا يتضمّن شيء منها صريح النصّ و إنّ عليا نازع ثمّ بايع ، و جمح ثمّ اسحب ، و لو قام على الامتناع لم نقل بصحّة البيعة له و لا بلزومها ، و لو جرّد السيف كما جرّده في آخر الأمر لقلنا بفسق كلّ من خالفه على الاطلاق إنه فاسق كافر و لكن رضي بالبيعة أخيرا و دخل فى الطاعة ، و بالجملة أصحابنا يقولون : إنّ الأمر كان له و كان هو المستحقّ و المتعيّن فان شاء أخذه بنفسه و إن شاء ولاّه غيره فلما رأيناه قد وافق على ولاية غيره اتبعناه و رضيناه .
فقال : قد بقي بيني و بينكم قليل أنا أذهب إلى النصّ و أنتم لا تذهبون إليه ؟
فقلت : إنه لم يثبت النصّ عندنا بطريق يوجب العلم ، و ما تذكرونه أنتم صريحا فانتم تنفردون بنقله ، و ما عدا ذلك من الأخبار التي نشارككم فيها فلها تأويلات معلومة .
فقال و هو ضجر : يا فلان لو فتحنا باب التأويلات لجاز أن نتأوّل قولنا لا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه ، دعني من التأويلات الباردة التى تعلم القلوب و النفوس أنها غير مرادة و أنّ المتكلّمين تكلّفوها و تعسّفوها ، فانما أنا و أنت فى الدّار و لا ثالث لنا فيستحيى أحدنا من صاحبه أو يخافه .
قال الشارح : فلما بلغنا إلى هذا الموضع دخل قوم ممن كان يخشاه ، فتركنا ذلك الاسلوب من الحديث و خضنا في غيره ، انتهى .
[ 380 ]
قال الشارح المحتاج إلى رحمة ربّ العالمين المتمسّك بحبل اللّه المتين ولاية أمير المؤمنين :
للّه در الشارح المعتزلي و النّقيب أبي جعفر الحسني ، فلقد أجاد كلّ منهما فيما أفاد ، و أسفرا النّقاب عن وجه المراد ، و حقّقا ما هو الحقّ الأحقّ بالاتباع ،
و أفصحا عن صريح مذهب الشّيعة الاماميّة رضي اللّه عنهم لو لا إنكار الأوّل للنّص الجلي و تعصّب الثّاني في حقّ الشيخين و قوله : بأنّهما من أهل الجنّة بشفاعة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله أو بشفاعة عليّ عليه السّلام و بعبارة اخرى عدم تبرّيه من الشّيخين مع تولّيه لأمير المؤمنين فان كان ما قالاه مقتضى التّقيّة الّتي هي شعار الاماميّة أى يكون ما أضمراه خلاف ما أظهراه ، فطوبى لهم و حسن مآب و جنّات خلد مفتّحة الأبواب .
و إن كان سريرتهما وفق علانيتهما فويل لهما من ديّان الدّين يوم حشر الأوّلين و الآخرين .
و ما أدرى ما ذا يعتذران به إذا لاقيا أمير المؤمنين في موقف حساب ربّ العالمين و كيف يمكن إنكار النصّ مع وجود النّصوص القاطعة المتواترة العامية و الخاصيّة حسبما عرفت في تضاعيف الشرح و تعرف أيضا في المواقع اللايقة ، أم كيف يمكن اجتماع ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام و محبّته في القلب مع محبّة الشيخين و ما جعل اللّه لرجل في جوفه من قلبين و لنعم ما قال مجنون العامرى :
و لو كان لي قلب يذوب بحبّها . و قلب باخرى إنّها لقلوب
و قد تقدّم في شرح الخطبة المأة و السابعة و الأربعين أخبار كثيرة فى عدم اجتماع محبّته عليه السّلام مع محبّة غيره فليتذكّر ، هذا .
مضافا إلى النصّ الذى هو مسلّم النقيب كما أنه مثبت لخلافة أمير المؤمنين ناف لخلافة المنتحلين المبطلين ، و بالجملة لازمة الولاية الحقّة الثبات في عداوة الثلاثة .
و هنا لطيفة مناسبة للمقام يعجبني ذكرها و هو :
إنّ الشيخ صالح بن حسن سأل عن الشيخ الأجلّ بهاء الملّة و الدّين قدّس اللّه
[ 381 ]
روحه و قال : ما قول سيدى و سندى في هذه الأبيات لبعض النواصب فالمأمول أن تشرفوا بجواب منظوم يكسر سورته :
أهوى عليا أمير المؤمنين و لا أرضى بسبّ أبي بكر و لا عمرا و لا أقول إذا لم يعطيا فدكا بنت النبيّ رسول اللّه قد كفرا اللّه يعلم ما ذا يأتيان به يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا
فأجابه الشيخ قدّس سرّه العزيز : التمست أيها الأخ الأفضل الصفيّ الوفيّ أطال اللّه بقاك و أدام فى معارج العزّ ارتقاك الاجابة عما هذر به هذا المخذول فقابلت التماسك بالقبول و طفقت أقول :
يا أيها المدّعي حبّ الوصيّ و لم تسمح بسبّ أبي بكر و لا عمرا كذبت و اللّه فى دعوى محبّته تبّت يداك ستصلى في غد سقرا فكيف تهوى أمير المؤمنين و قد أراك فى سبّ من عاداه مفتكرا فان تكن صادقا فيما نطقت به فابرء إلى اللّه ممّن خان أو غدرا و أنكر النصّ في خمّ و بيعته و قال إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد هجرا أتيت تبغي قيام العذر فى فدك أ نحسب الأمر فى التمويه مستترا إن كان فى غصب حقّ الطهر فاطمة سيقبل العذر ممّن جاء معتذرا فكلّ ذنب له عذر غداة غد و كلّ ظلم ترى فى الحشر مغتفرا فلا تقولوا لمن أيّامه صرفت فى سبّ شيخيكم قد ضلّ أو كفرا بل سامحوه و قولوا لا نؤاخذه عسى يكون له عذر إذا اعتذرا فكيف و العذر مثل الشمس اذ بزغت و الأمر متّضح كالصّبح إذ ظهرا لكنّ إبليس أغواكم و صيّركم عميا و صمّا فلا سمعا و لا بصرا
الترجمة
مىفرمايد قسم بخدا نيست معاويه زيركتر از من در تدبير امورات دنيويّه ،
[ 382 ]
و لكن آن ملعون مكر و حيله ميكند و مرتكب فسق و فجور مىشود ، و اگر حيله كردن حرام نمىشد هر آينه مىبودم من از زيركترين خلق و لكن هر حيله كننده فاسق و فاجر است ، و هر فاسق و فاجر كافر ، و هر صاحب حيله را علمى است شناخته مىشود با او در روز قيامت ، بخدا سوگند طلب نمىشود غفلت از من بجهت كيد و حيله و طمع نمىشود در ضعف من بجهت شدايد و سختيهاى روزگار .