جستجو

و من خطبة له ع تسمى القاصعة و هي تتضمن ذم إبليس لعنه

متن ترجمه آیتی ترجمه شهیدی ترجمه معادیخواه تفسیر منهاج البرائه خویی تفسیر ابن ابی الحدید تفسیر ابن میثم

[ 127 ] 238 و من خطبة له ع و من الناس من يسمي هذه الخطبة بالقاصعة و هي تتضمن ذم إبليس لعنه الله على استكباره و تركه السجود لآدم ع و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية و تحذير الناس من سلوك طريقته : اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَبِسَ اَلْعِزَّ وَ اَلْكِبْرِيَاءَ وَ اِخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ وَ اِصْطَفَاهُمَا لِجَلاَلِهِ وَ جَعَلَ اَللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ ثُمَّ اِخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلاَئِكَتَهُ اَلْمُقَرَّبِينَ لِيَمِيزَ اَلْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ اَلْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ اَلْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ اَلْغُيُوبِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اِعْتَرَضَتْهُ اَلْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اَللَّهِ إِمَامُ اَلْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ اَلَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ اَلْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اَللَّهَ رِدَاءَ اَلْجَبَرِيَّةِ وَ اِدَّرَعَ لِبَاسَ اَلتَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ اَلتَّذَلُّلِ أَلاَ يَرَوْنَ تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اَللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي اَلدُّنْيَا مَدْحُوراً وَ أَعَدَّ لَهُ فِي اَلآْخِرَةِ سَعِيراً [ 128 ] يجوز أن تسمى هذه الخطبة القاصعة من قولهم قصعت الناقة بجرتها و هو أن تردها إلى جوفها أو تخرجها من جوفها فتملأ فاها فلما كانت الزواجر و المواعظ في هذه الخطبة مرددة من أولها إلى آخرها شبهها بالناقة التي تقصع الجرة و يجوز أن تسمى القاصعة لأنها كالقاتلة لإبليس و أتباعه من أهل العصبية من قولهم قصعت القملة إذا هشمتها و قتلتها و يجوز أن تسمى القاصعة لأن المستمع لها المعتبر بها يذهب كبره و نخوته فيكون من قولهم قصع الماء عطشه أي أذهبه و سكنه قال ذو الرمة بيتا في هذا المعنى فانصاعت الحقب لم تقصع صرائرها و قد تشح فلا ري و لا هيم الصرائر جمع صريرة و هي العطش و يجوز أن تسمى القاصعة لأنها تتضمن تحقير إبليس و أتباعه و تصغيرهم من قولهم قصعت الرجل إذا امتهنته و حقرته و غلام مقصوع أي قمي‏ء لا يشب و لا يزداد . و العصبية على قسمين عصبية في الله و هي محمودة و عصبية في الباطل و هي مذمومة و هي التي نهى أمير المؤمنين ع عنها و كذلك الحمية و جاء في الخبر العصبية في الله تورث الجنة و العصبية في الشيطان تورث النار . و جاء في الخبر العظمة إزاري و الكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته و هذا معنى قوله ع اختارهما لنفسه دون خلقه إلى آخر قوله من عباده . قال ع ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين مع علمه بمضمراتهم و ذلك لأن اختباره سبحانه ليس ليعلم بل ليعلم غيره من خلقه طاعة من يطيع و عصيان من يعصي و كذلك قوله سبحانه وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ [ 129 ] اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى‏ عَقِبَيْهِ النون في لنعلم نون الجمع لا نون العظمة أي لتصير أنت و غيرك من المكلفين عالمين لمن يطيع و من يعصي كما أنا عالم بذلك فتكونوا كلكم مشاركين لي في العلم بذلك . فإن قلت و ما فائدة وقوفهم على ذلك و علمهم به قلت ليس بممتنع أن يكون ظهور حال العاصي و المطيع و علم المكلفين أو أكثرهم أو بعضهم به يتضمن لطفا في التكليف . فإن قلت إن الملائكة لم تكن تعلم ما البشر و لا تتصور ماهيته فكيف قال لهم إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ قلت قد كان قال لهم إني خالق جسما من صفته كيت و كيت فلما حكاه اقتصر على الاسم و يجوز أن يكون عرفهم من قبل أن لفظة بشر على ما ذا تقع ثم قال لهم إني خالق هذا الجسم المخصوص الذي أعلمتكم أن لفظة بشر واقعة عليه من طين . قوله تعالى فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي إذا أكملت خلقه . فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أمرهم بالسجود له و قد اختلف في ذلك فقال قوم كان قبلة كما الكعبة اليوم قبلة و لا يجوز السجود إلا لله و قال آخرون بل كان السجود له تكرمة و محنة و السجود لغير الله غير قبيح في العقل إذا لم يكن عبادة و لم يكن فيه مفسدة . و قوله تعالى وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أي أحللت فيه الحياة و أجريت الروح إليه في عروقه و أضاف الروح إليه تبجيلا لها و سمى ذلك نفخا على وجه الاستعارة لأن العرب تتصور من الروح معنى الريح و النفخ يصدق على الريح فاستعار لفظة النفخ توسعا . [ 130 ] و قالت الحكماء هذا عبارة عن النفس الناطقة . فإن قلت هل كان إبليس من الملائكة أم لا قلت قد اختلف في ذلك فمن جعله منهم احتج بالاستثناء و من جعله من غيرهم احتج بقوله تعالى كانَ مِنَ اَلْجِنِّ و جعل الاستثناء منقطعا و بأن له نسلا و ذرية قال تعالى أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي و الملائكة لا نسل لهم و لا ذرية و بأن أصله نار و الملائكة أصلها نور و قد مر لنا كلام في هذا في أول الكتاب . قوله فافتخر على آدم بخلقه و تعصب عليه لأصله كانت خلقته أهون من خلقة آدم ع و كان أصله من نار و أصل آدم ع من طين . فإن قلت كيف حكم على إبليس بالكفر و لم يكن منه إلا مخالفة الأمر و معلوم أن تارك الأمر فاسق لا كافر قلت إنه اعتقد أن الله أمره بالقبيح و لم ير أمره بالسجود لآدم ع حكمة و امتنع من السجود تكبرا و رد على الله أمره و استخف بمن أوجب الله إجلاله و ظهر أن هذه المخالفة عن فساد عقيدة فكان كافرا . فإن قلت هل كان كافرا في الأصل أم كان مؤمنا ثم كفر قلت أما المرجئة فأكثرهم يقول كان في الأصل كافرا لأن المؤمن عندهم لا يجوز أن يكفر و أما أصحابنا فلما كان هذا الأصل عندهم باطلا توقفوا في حال إبليس و جوزوا كلا الأمرين . [ 131 ] قوله ع رداء الجبرية الباء مفتوحة يقال فيه جبرية و جبروة و جبروت و جبورة كفروجة أي كبر و أنشدوا فإنك إن عاديتني غضب الحصا عليك و ذو الجبورة المتغطرف و جعله مدحورا أي مطرودا مبعدا دحره الله دحورا أي أقصاه و طرده : وَ لَوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ اَلْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ اَلْعُقُولَ رُوَاؤُهُ وَ طِيبٍ يَأْخُذُ اَلْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ اَلْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً وَ لَخَفَّتِ اَلْبَلْوَى فِيهِ عَلَى اَلْمَلاَئِكَةِ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالاِخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلاِسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلاَءِ مِنْهُمْ فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اَللَّهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ اَلطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ اَلْجَهِيدَ وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اَللَّهَ سِتَّةَ آلاَفِ سَنَةٍ لاَ يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي اَلدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي اَلآْخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اَللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ كَلاَّ مَا كَانَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً إِنْ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ لَوَاحِدٌ وَ مَا بَيْنَ اَللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى اَلْعَالَمِينَ خطفت الشي‏ء بكسر الطاء أخطفه إذا أخذته بسرعة استلابا و فيه لغة أخرى [ 132 ] خطف بالفتح و يخطف بالفتح و يخطف بالكسر و هي لغة رديئة قليلة لا تكاد تعرف و قد قرأ بها يونس في قوله تعالى يَكادُ اَلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ . و الرواء بالهمزة و المد المنظر الحسن و العرف الريح الطيبة . و الخيلاء بضم الخاء و كسرها الكبر و كذلك الخال و المخيلة تقول اختال الرجل و خال أيضا أي تكبر . و أحبط عمله أبطل ثوابه و قد حبط العمل حبطا بالتسكين و حبوطا و المتكلمون يسمون إبطال الثواب إحباطا و إبطال العقاب تكفيرا . و جهده بفتح الجيم اجتهاده و جده و وصفه بقوله الجهيد أي المستقصى من قولهم مرعى جهيد أي قد جهده المال الراعي و استقصى رعية . و كلامه ع يدل على أنه كان يذهب إلى أن إبليس من الملائكة لقوله أخرج منها ملكا و الهوادة الموادعة و المصالحة يقول إن الله تعالى خلق آدم من طين و لو شاء أن يخلقه من النور الذي يخطف أو من الطيب الذي يعبق لفعل و لو فعل لهال الملائكة أمره و خضعوا له فصار الابتلاء و الامتحان و التكليف بالسجود له خفيفا عليهم لعظمته في نفوسهم فلم يستحقوا ثواب العمل الشاق و هذا يدل على أن الملائكة تشم الرائحة كما نشمها نحن و لكن الله تعالى يبتلي عباده بأمور يجهلون أصلها اختبارا لهم . فإن قلت ما معنى قوله ع تمييزا بالاختبار لهم قلت لأنه ميزهم عن غيرهم من مخلوقاته كالحيوانات العجم و أبانهم عنهم و فضلهم عليهم بالتكليف و الامتحان . [ 133 ] قال و نفيا للاستكبار عنهم لأن العبادات خضوع و خشوع و ذلة ففيها نفي الخيلاء و التكبر عن فاعليها فأمرهم بالاعتبار بحال إبليس الذي عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أ من سني الدنيا أم من سني الآخرة و هذا يدل على أنه قد سمع فيه نصا من رسول الله ص مجملا لم يفسره له أو فسره له خاصة و لم يفسره أمير المؤمنين ع للناس لما يعلمه في كتمانه عنهم من المصلحة . فإن قلت قوله لا يدرى على ما لم يسم فاعله يقتضي أنه هو لا يدري قلت إنه لا يقتضي ذلك و يكفي في صدق الخبر إذا ورد بهذه الصيغة أن يجهله الأكثرون . فأما القول في سني الآخرة كم هي فاعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز آيات مختلفات إحداهن قوله تَعْرُجُ اَلْمَلائِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ . و الأخرى قوله يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّماءِ إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ . و الثالثة قوله وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ . و أولى ما قيل فيها أن المراد بالآية الأولى مدة عمر الدنيا و سمي ذلك يوما و قال إن الملائكة لا تزال تعرج إليه بأعمال البشر طول هذه المدة حتى ينقضي التكليف و ينتقل الأمر إلى دار أخرى و أما الآيتان الأخيرتان فمضمونهما بيان كمية أيام الآخرة و هو أن كل يوم منها مثل ألف سنة من سني الدنيا . [ 134 ] فإن قلت فعلى هذا كم تكون مدة عبادة إبليس إذا كانت ستة آلاف سنة من سني الآخرة قلت يكون ما يرتفع من ضرب أحد المضروبين في الآخرة و هو ألفا ألف ألف ثلاث لفظات الأولى منهم مثناة و مائة ألف ألف لفظتان و ستون ألف ألف سنة لفظتان أيضا من سني الدنيا و لما رأى أمير المؤمنين ع هذا المبلغ عظيما جدا علم أن أذهان السامعين لا تحتمله فلذلك أبهم القول عليهم و قال لا يدرى أ من سني الدنيا أم من سني الآخرة . فإن قلت فإذا كنتم قد رجحتم قول من يقول إن عمر الدنيا خمسون ألف سنة فكم يكون عمرها إن كان الله تعالى أراد خمسين ألف سنة من سني الآخرة لأنه لا يؤمن أن يكون أراد ذلك إذا كانت السنة عنده عبارة عن مدة غير هذه المدة التي قد اصطلح عليها الناس قلت يكون ما يرتفع من ضرب خمسين ألفا في ثلاثمائة و ستين ألف من سني الدنيا و مبلغ ذلك ثمانية عشر ألف ألف ألف سنة من سني الدنيا ثلاث لفظات و هذا القول قريب من القول المحكي عن الهند . و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه روايات كثيرة بأسانيد أوردها عن جماعة من الصحابة أن إبليس كان إليه ملك السماء و ملك الأرض و كان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن و إنما سموا الجن لأنهم كانوا خزان الجنان و كان إبليس رئيسهم و مقدمهم و كان أصل خلقهم من نار السموم و كان اسمه الحارث قال و قد روي أن الجن كانت في الأرض و أنهم أفسدوا فيها فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم و طردهم إلى جزائر البحار ثم تكبر في نفسه و رأى أنه قد صنع شيئا عظيما لم يصنعه غيره قال و كان شديد الاجتهاد في العبادة . [ 135 ] و قيل كان اسمه عزازيل و أن الله تعالى جعله حكما و قاضيا بين سكان الأرض قبل خلق آدم فدخله الكبر و العجب لعبادته و اجتهاده و حكمه في سكان الأرض و قضائه بينهم فانطوى على المعصية حتى كان من أمره مع آدم ع ما كان قلت و لا ينبغي أن نصدق من هذه الأخبار و أمثالها إلا ما ورد في القرآن العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه أو في السنة أو نقل عمن يجب الرجوع إلى قوله و كل ما عدا ذلك فالكذب فيه أكثر من الصدق و الباب مفتوح فليقل كل أحد في أمثال هذه القصص ما شاء و اعلم أن كلام أمير المؤمنين في هذا الفصل يطابق مذهب أصحابنا في أن الجنة لا يدخلها ذو معصية أ لا تسمع قوله فمن بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته كلا ما كان الله ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا إن حكمه في أهل السماء و الأرض لواحد . فإن قلت أ ليس من قولكم إن صاحب الكبيرة إذا تاب دخل الجنة فهذا صاحب معصية و قد حكمتم له بالجنة قلت إن التوبة أحبطت معصيته فصار كأنه لم يعص . فإن قلت إن أمير المؤمنين ع إنما قال فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته و لم يقل بالمعصية المطلقة و المرجئة لا تخالف في أن من وافى القيامة بمثل معصية إبليس لم يكن من أهل الجنة قلت كل معصية كبيرة فهي مثل معصيته و لم يكن إخراجه من الجنة لأنه كافر بل لأنه عاص مخالف للأمر أ لا ترى أنه قال سبحانه قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فعلل إخراجه من الجنة بتكبره لا بكفره . فإن قلت هذا مناقض لما قدمت في شرح الفصل الأول [ 136 ] قلت كلا لأني في الفصل الأول عللت استحقاقه اسم الكفر بأمر زائد على المعصية المطلقة و هو فساد اعتقاده و لم أجعل ذلك علة في خروجه من الجنة و هاهنا عللت خروجه من الجنة بنفس المعصية فلا تناقض . فإن قلت ما معنى قول أمير المؤمنين ع ما كان الله ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا و هل يظن أحد أو يقول إن الله تعالى يدخل الجنة أحدا من البشر بالأمر الذي أخرج به هاهنا إبليس كلا هذا ما لا يقوله أحد و إنما الذي يقوله المرجئة إنه يدخل الجنة من قد عصى و خالف الأمر كما خالف الأمر إبليس برحمته و عفوه و كما يشاء لا أنه يدخله الجنة بالمعصية و كلام أمير المؤمنين ع يقتضي نفي دخول أحد الجنة بالمعصية لأن الباء للسببية قلت الباء هاهنا ليست للسببية كما يتوهمه هذا المعترض بل هي كالباء في قولهم خرج زيد بثيابه و دخل زيد بسلاحه أي خرج لابسا و دخل متسلحا أي يصحبه الثياب و يصحبه السلاح فكذلك قوله ع بأمر أخرج به منها ملكا معناه أن الله تعالى لا يدخل الجنة بشرا يصحبه أمر أخرج الله به ملكا منها : فَاحْذَرُوا عِبَادَ اَللَّهِ عَدُوَّ اَللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ وَ أَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ رَجْلِهِ فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ اَلْوَعِيدِ وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ اَلشَّدِيدِ وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فَقَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ [ 137 ] غَيْرِ مُصِيبٍ صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ اَلْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ اَلْعَصَبِيَّةِ وَ فُرْسَانُ اَلْكِبْرِ وَ اَلْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا اِنْقَادَتْ لَهُ اَلْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَ اِسْتَحْكَمَتِ اَلطَّمَاعِيَةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتِ فَنَجَمَتْ فِيهِ اَلْحَالُ مِنَ اَلسِّرِّ اَلْخَفِيِّ إِلَى اَلْأَمْرِ اَلْجَلِيِّ اِسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ اَلذُّلِّ وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ اَلْقَتْلِ وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ اَلْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ اَلْقَهْرِ إِلَى اَلنَّارِ اَلْمُعَدَّةِ لَكُمْ فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ اَلَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ فَلَعَمْرُ اَللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجْلِهِ سَبِيلَكُمْ يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ لاَ تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لاَ تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ حَلْقَةِ ضِيقٍ وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلاَءٍ فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ اَلْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ اَلْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ اَلْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي اَلْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ اَلشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ وَ اِعْتَمِدُوا وَضْعَ اَلتَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ وَ إِلْقَاءَ اَلتَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ وَ خَلْعَ اَلتَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَ اِتَّخِذُوا اَلتَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ وَ جُنُودِهِ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً وَ رَجِلاً رَجْلاً وَ فُرْسَاناً وَ لاَ تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى اِبْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اَللَّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ اَلْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ اَلْحَسَدِ اَلْحَسَبِ وَ قَدَحَتِ اَلْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ اَلْغَضَبِ وَ نَفَخَ اَلشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ اَلْكِبْرِ اَلَّذِي أَعْقَبَهُ اَللَّهُ بِهِ اَلنَّدَامَةَ وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ اَلْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ [ 138 ] موضع أن يعديكم نصب على البدل من عدو الله و قال الراوندي يجوز أن يكون مفعولا ثانيا و هذا ليس بصحيح لأن حذر لا يتعدى إلى المفعولين و العدوى ما يعدي من جرب أو غيره أعدى فلان فلانا من خلقه أو من علته و هو مجاوزته من صاحبه إلى غيره و في الحديث لا عدوى في الإسلام . فإن قلت فإذا كان النبي ص قد أبطل أمر العدوى فكيف قال أمير المؤمنين فاحذروه أن يعديكم قلت إن النبي ص أبطل ما كانت العرب تزعمه من عدوى الجرب في الإبل و غيرها و أمير المؤمنين ع حذر المكلفين من أن يتعلموا من إبليس الكبر و الحمية و شبه تعلمهم ذلك منه بالعدوى لاشتراك الأمرين في الانتقال من أحد الشخصين إلى الآخر . قوله ع يستفزكم أي يستخفكم و هو من ألفاظ القرآن وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أي أزعجه و استخفه و أطر قلبه و الخيل الخيالة و منه الحديث يا خيل الله اركبي . و الرجل اسم جمع لراجل كركب اسم جمع لراكب و صحب اسم جمع لصاحب و هذه أيضا من ألفاظ القرآن العزيز وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ و قرئ و رجلك بكسر الجيم على أن فعلا بالكسر بمعنى فاعل نحو تعب و تاعب [ 139 ] و معناه و قد تضم الجيم أيضا فيكون مثل قولك رجل حدث و حدث و ندس و ندس . فإن قلت فهل لإبليس خيل تركبها جنده قلت يجوز أن يكون ذلك و قد فسره قوم بهذا و الصحيح أنه كلام خرج مخرج المثل شبهت حاله في تسلطه على بني آدم بمن يغير على قوم بخيله فيستأصلهم و قيل بصوتك أي بدعائك إلى القبيح و خيله و رجله كل ماش و راكب من أهل الفساد من بني آدم قوله و فوقت السهم جعلت له فوقا و هو موضع الوتر و هذا كناية عن الاستعداد و لا يجوز أن يفسر قوله فقد فوق لكم سهم الوعيد بأنه وضع الفوق في الوتر ليرمي به لأن ذلك لا يقال فيه قد فوق بل يقال أفقت السهم و أوفقته أيضا و لا يقال أفوقته و هو من النوادر . و قوله و أغرق إليكم بالنزع أي استوفى مد القوس و بالغ في نزعها ليكون مرماه أبعد و وقع سهامه أشد . قوله و رماكم من مكان قريب لأنه كما جاء في الحديث يجري من ابن آدم مجرى الدم و يخالط القلب و لا شي‏ء أقرب من ذلك . و الباء في قوله بِما أَغْوَيْتَنِي متعلق بفعل محذوف تقديره أجازيك بما أغويتني تزييني لهم القبيح فما على هذا مصدرية أي أجازيك بإغوائك لي تزييني لهم القبيح فحذف المفعول و يجوز أن تكون الباء قسما كأنه أقسم بإغوائه إياه ليزينن لهم . فإن قلت و أي معنى في أن يقسم بإغوائه و هل هذا مما يقسم به قلت نعم لأنه ليس إغواء الله تعالى إياه خلق الغي و الضلال في قلبه بل تكليفه [ 140 ] إياه السجود الذي وقع الغي عنده من الشيطان لا من الله فصار حيث وقع عنده كأنه موجب عنه فنسب إلى الباري و التكليف تعريض للثواب و لذة الأبد فكان جديرا أن يقسم به و قد أقسم في موضع آخر فقال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فأقسم بالعزة و هاهنا أقسم بالأمر و التكليف و يجوز فيه وجه ثالث و هو ألا تكون الباء قسما و يقدر قسم محذوف و يكون المعنى بسبب ما كلفتني فأفضى إلى غوايتي أقسم لأفعلن بهم نحو ما فعلت بي و هو أن أزين لهم المعاصي التي تكون سبب هلاكهم . فإن قلت ليس هذا نحو ما فعله الباري به لأن الباري أمره بالحسن فأباه و عدل عنه إلى القبيح و الشيطان لا يأمرنا بالحسن فنكرهه و نعدل عنه إلى القبيح فكيف يكون ذلك نحو واقعته مع الباري قلت المشابهة بين الواقعتين في أن كل واحدة منهما تقع عندها المعصية لا على وجه الإجبار و القسر بل على قصد الاختيار لأن معصية إبليس كانت من نفسه و وقعت عند الأمر بالسجود اختيارا منه لا فعلا من الباري و معصيتنا نحن عند التزيين و الوسوسة تقع اختيارا منا لا اضطرارا يضطرنا إبليس إليه فلما تشابهت الصورتان في هذا المعنى حسن قوله بما فعلت بي كذا لأفعلن بهم نحوه . فإن قلت ما معنى قوله فِي اَلْأَرْضِ و من أين كان يعلم إبليس أن آدم سيصير له ذرية في الأرض قلت أما علمه بذلك فمن قول الله تعالى له و للملائكة إِنِّي جاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً و أما لفظة الأرض فالمراد بها هاهنا الدنيا التي هي دار التكليف كقوله تعالى [ 141 ] وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ ليس يريد به الأرض بعينها بل الدنيا و ما فيها من الملاذ و هوى الأنفس . قوله ع قذفا بغيب بعيد أي قال إبليس هذا القول قذفا بغيب بعيد و العرب تقول للشي‏ء المتوهم على بعد هذا قذف بغيب بعيد و القذف في الأصل رمي الحجر و أشباهه و الغيب الأمر الغائب و هذه اللفظة من الألفاظ القرآنية قال الله تعالى في كفار قريش وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي يقولون هذا سحر أو هذا من تعليم أهل الكتاب أو هذه كهانة و غير ذلك مما كانوا يرمونه ع به و انتصب قذفا على المصدر الواقع موقع الحال و كذلك رجما و قال الراوندي انتصبا لأنهما مفعول له و ليس بصحيح لأن المفعول له ما يكون عذرا و علة لوقوع الفعل و إبليس ما قال ذلك الكلام لأجل القذف و الرجم فلا يكون مفعولا له . فإن قلت كيف قال ع قذفا من مكان بعيد و رجما بظن غير مصيب و قد صح ما توهمه و أصاب في ظنه فإن إغواءه و تزيينه تم على الناس كلهم إلا على المخلصين قلت أما أولا فقد روي و رجما بظن مصيب بحذف غير و يؤكد هذه الرواية قوله تعالى وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً و أما ثانيا على الرواية التي هي أشهر فنقول أما قذفا من مكان بعيد فإنه قال ما قال على سبيل التوهم و الحسبان لأمر مستبعد لا يعلم صحته و لا يظنها و ليس وقوع ما وقع من المعاصي و صحة ما توهمه بمخرج لكون قوله الأول قذفا بغيب بعيد و أما رجما بظن غير مصيب [ 142 ] فيجب أن يحمل قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ على الغواية بمعنى الشرك أو الكفر و يكون الاستثناء و هو قوله إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ معناه إلا المعصومين من كل معصية و هذا ظن غير مصيب لأنه ما أغوى كل البشر الغواية التي هي الكفر و الشرك إلا المعصومين العصمة المطلقة بل أغوى بعضهم كذلك و بعضهم بأن زين له الفسق دون الكفر فيكون ظنه أنه قادر على إغواء البشر كافة بمعنى الضلال بالكفر ظنا غير مصيب . قوله صدقه به أبناء الحمية موضع صدقه جر لأنه صفة ظن و قد روي صدقه أبناء الحمية من غير ذكر الجار و المجرور و من رواه بالجار و المجرور كان معناه صدقه في ذلك الظن أبناء الحمية فأقام الباء مقام في . قوله حتى إذا انقادت له الجامحة منكم أي الأنفس الجامحة أو الأخلاق الجامحة . قوله فنجمت فيه الحال أي ظهرت و قد روي فنجمت الحال من السر الخفي من غير ذكر الجار و المجرور و من رواه بالجار و المجرور فالمعنى فنجمت الحال في هذا الشأن المذكور بينه و بينكم من الخفاء إلى الجلاء . و استفحل سلطانه قوي و اشتد و صار فحلا و استفحل جواب قوله حتى إذا . دلف بجنوده تقدم بهم . و الولجات جمع ولجة بالتحريك و هي موضع أو كهف يستتر فيه المارة من مطر أو غيره . و أقحموكم أدخلوكم و الورطة الهلكة . قوله و أوطئوكم إثخان الجراحة أي جعلوكم واطئين لذلك و الإثخان مصدر أثخن في القتل أي أكثر منه و بالغ حتى كثف شأنه و صار كالشي‏ء الثخين و معنى [ 143 ] إيطاء الشيطان ببني آدم ذلك إلقاؤه إياهم فيه و توريطهم و حمله لهم عليه فالإثخان على هذا منصوب لأنه مفعول ثان لا كما زعم الراوندي أنه انتصب بحذف حرف الخفض . قوله ع طعنا في عيونكم انتصب طعنا على المصدر و فعله محذوف أي فعلوا بكم هذه الأفعال فطعنوكم في عيونكم طعنا فأما من روى و أوطئوكم لإثخان الجراحة باللام فإنه يجعل طعنا منصوبا على أنه مفعول به أي أوطئوكم طعنا و حزا كقولك أوطأته نارا و أوطأته عشوة و يكون لإثخان الجراحة مفعولا له أي أوطئوكم الطعن ليثخنوا جراحكم و ينبغي أن يكون قصدا و سوقا خالصين للمصدرية لأنه يبعد أن يكون مفعولا به . و اعلم أنه لما ذكر الطعن نسبه إلى العيون و لما ذكر الحز و هو الذبح نسبه إلى الحلوق و لما ذكر الدق و هو الصدم الشديد أضافه إلى المناخر و هذا من صناعة الخطابة التي علمه الله إياها بلا تعليم و تعلمها الناس كلهم بعده منه . و الخزائم جمع خزامة و هي حلقة من شعر تجعل في وتره أنف البعير فيشد فيها الزمام . و تقول قد ورى الزند أي خرجت ناره و هذا الزند أورى من هذا أي أكثر إخراجا للنار يقول فأصبح الشيطان أضر عليكم و أفسد لحالكم من أعدائكم الذين أصبحتم مناصبين لهم أي معادين و عليهم متألبين أي مجتمعين . فإن قلت أما أعظم في الدين حرجا فمعلوم فأي معنى لقوله و أورى في دنياكم قدحا و هل يفسد إبليس أمر الدنيا كما يفسد أمر الدين قلت نعم لأن أكثر القبائح الدينية مرتبطة بالمصالح و المفاسد الدنيوية أ لا ترى أنه إذا أغرى السارق بالسرقة أفسد حال السارق من جهة الدين و حال المسروق منه من جهة الدنيا [ 144 ] و كذلك القول في الغصب و القتل و ما يحدث من مضار الشرور الدنيوية من اختلاط الأنساب و اشتباه النسل و ما يتولد من شرب الخمر و السكر الحاصل عنها من أمور يحدثها السكران خبطا بيده و قذفا بلسانه إلى غير ذلك من أمثال هذه الأمور و أشباهها . قوله ع فاجعلوا عليه حدكم أي شباتكم و بأسكم . و له جدكم من جددت في الأمر جدا أي اجتهدت فيه و بالغت . ثم ذكر أنه فخر على أصل بني آدم يعني أباهم آدم ع حيث امتنع من السجود له و قال أنا خير منه . و وقع في حسبكم أي عاب حسبكم و هو الطين فقال إن النار أفضل منه و دفع في نسبكم مثله و أجلب بخيله عليكم أي جمع خيالته و فرسانه و ألبها . و يقتنصونكم يتصيدونكم و البنان أطراف الأصابع و هو جمع واحدته بنانة و يجمع في القلة على بنانات و يقال بنان مخضب لأن كل جمع ليس بينه و بين واحدة إلا الهاء فإنه يذكر و يوحد . و الحومة معظم الماء و الحرب و غيرهما و موضع هذا الجار و المجرور نصب على الحال أي يقتنصونكم في حومة ذل . و الجولة الموضع الذي تجول فيه . و كمن في قلوبكم استتر و منه الكمين في الحرب . و نزغات الشيطان وساوسه التي يفسد بها و نفثاته مثله . قوله و اعتمدوا وضع التذلل على رءوسكم و إلقاء التعزز تحت أقدامكم كلام شريف جليل المحل و كذلك قوله ع و اتخذوا التواضع مسلحة بينكم و بين عدوكم إبليس و جنوده و المسلحة خيل معدة للحماية و الدفاع . [ 145 ] ثم نهاهم أن يكونوا كقابيل الذي حسد أخاه هابيل فقتله و هما أخوان لأب و أم و إنما قال ابن أمه فذكر الأم دون الأب لأن الأخوين من الأم أشد حنوا و محبة و التصاقا من الأخوين من الأب لأن الأم هي ذات الحضانة و التربية . و قوله من غير ما فضل ما هاهنا زائدة و تعطي معنى التأكيد نهاهم ع أن يحسدوا النعم و أن يبغوا و يفسدوا في الأرض فإن آدم لما أمر ولده بالقربان قرب قابيل شر ماله و كان كافرا و قرب هابيل خير ماله و كان مؤمنا فتقبل الله تعالى من هابيل و أهبط من السماء نارا فأكلته قالوا لأنه لم يكن في الأرض حينئذ فقير يصل القربان إليه فحسده قابيل و كان أكبر منه سنا فقال لأقتلنك قال هابيل إنما يتقبل الله من المتقين أي بذنبك و جرمك كان عدم قبول قربانك لانسلاخك من التقوى فقتله فأصبح نادما لا ندم التوبة بل ندم الحير و رقة الطبع البشري و لأنه تعب في حمله كما ورد في التنزيل أنه لم يفهم ما ذا يصنع به حتى بعث الله الغراب . قوله ع و ألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة لأنه كان ابتدأ بالقتل و من سن سنة شر كان عليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة كما أن من سن سنة خير كان له أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن الروايات اختلفت في هذه الواقعة فروى قوم أن الرجلين كانا من بني إسرائيل و ليسا من ولد آدم لصلبه و الأكثرون خالفوا في ذلك . ثم اختلف الأكثرون فروى قوم أن القربان من قابيل و هابيل كان ابتداء و الأكثرون قالوا بل أراد آدم ع أن يزوج هابيل أخت قابيل توأمته و يزوج [ 146 ] قابيل أخت هابيل توأمته فأبى قابيل لأن توأمته كانت أحسن فأمرهما أبوهما بالقربان فمن تقبل قربانه نكح الحسناء فتقبل قربان هابيل فقتله أخوه كما ورد في الكتاب العزيز . و روى الطبري مرفوعا أنه ص قال ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم ع الأول كفل منها و ذلك بأنه أول من سن القتل و هذا يشيد قول أمير المؤمنين ع : أَلاَ وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي اَلْبَغْيِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُصَارَحَةً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ وَ مُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ فَاللَّهَ اَللَّهَ فِي كِبْرِ اَلْحَمِيَّةِ وَ فَخْرِ اَلْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلاَقِحُ اَلشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ اَلشَّيْطَانِ اَلَّتِي خَدَعَ بِهَا اَلْأُمَمَ اَلْمَاضِيَةَ وَ اَلْقُرُونَ اَلْخَالِيَةَ حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِي ضَلاَلَتِهِ ذُلُلاً عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ أَمْراً تَشَابَهَتِ اَلْقُلُوبُ فِيهِ وَ تَتَابَعَتِ اَلْقُرُونُ عَلَيْهِ وَ كِبْراً تَضَايَقَتِ اَلصُّدُورُ بِهِ أَلاَ فَالْحَذَرَ اَلْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَ كُبَرَائِكُمْ اَلَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَ أَلْقَوُا اَلْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ وَ جَاحَدُوا اَللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَةً لآِلاَئِهِ فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ آسَاسِ اَلْعَصَبِيَّةِ وَ دَعَائِمُ أَرْكَانِ اَلْفِتْنَةِ وَ سُيُوفُ اِعْتِزَاءِ اَلْجَاهِلِيَّةِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ لاَ تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً وَ لاَ لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً [ 147 ] وَ لاَ تُطِيعُوا اَلْأَدْعِيَاءَ اَلَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ وَ هُمْ أَسَاسُ آسَاسُ اَلْفُسُوقِ وَ أَحْلاَسُ اَلْعُقُوقِ اِتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلاَلٍ وَ جُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى اَلنَّاسِ وَ تَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ اِسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَ دُخُولاً فِي عُيُونِكُمْ وَ نَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ يَدِهِ فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ اَلْأُمَمَ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اَللَّهِ وَ صَوْلاَتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلاَتِهِ وَ اِتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعُ جُنُوبِهِمْ وَ اِسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ اَلْكِبْرِ كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ اَلدَّهْرِ أمعنتم في البغي بالغتم فيه من أمعن في الأرض أي ذهب فيها بعيدا و مصارحة لله أي مكاشفة . و المناصبة المعاداة . و ملاقح الشنئان قال الراوندي الملاقح هي الفحول التي تلقح و ليس بصحيح نص الجوهري على أن الوجه لواقح كما جاء في القرآن وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّياحَ لَواقِحَ و قال هو من النوادر لأن الماضي رباعي و الصحيح أن ملاقح هاهنا جمع ملقح و هو المصدر من لقحت كضربت مضربا و شربت مشربا و يجوز فتح النون من الشنئان و تسكينها و هو البغض . و منافخ الشيطان جمع منفخ و هو مصدر أيضا من نفخ و نفخ الشيطان و نفثه [ 148 ] واحد و هو وسوسته و تسويله و يقال للمتطاول إلى ما ليس له قد نفخ الشيطان في أنفه . و في كلامه ع يقوله لطلحة و هو صريع و قد وقف عليه و أخذ سيفه سيف طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله ص و لكن الشيطان نفخ في أنفه . قوله و أعنقوا أصرعوا و فرس معناق و السير العنق قال الراجز يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا و الحنادس الظلم . و المهاوي جمع مهواة بالفتح و هي الهوة يتردى الصيد فيها و قد تهاوى الصيد في المهواة إذا سقط بعضه في أثر بعض . قوله ع ذللا عن سياقه انتصب على الحال جمع ذلول و هو السهل المقادة و هو حال من الضمير في أعنقوا أي أسرعوا منقادين لسوقه إياهم . و سلسا جمع سلس و هو السهل أيضا و إنما قسم ذللا و سلسا بين سياقه و قياده لأن المستعمل في كلامهم قدت الفرس فوجدته سلسا أو صعبا و لا يستحسنون سقته فوجدته سلسا أو صعبا و إنما المستحسن عندهم سقته فوجدته ذلولا أو شموسا . قوله ع أمرا منصوب بتقدير فعل أي اعتمدوا أمرا و كبرا معطوف عليه أو ينصب كبرا على المصدر بأن يكون اسما واقعا موقعه كالعطاء موضع الإعطاء . و قال الراوندي أمرا منصوب هاهنا لأنه مفعول به و ناصبه المصدر الذي هو سياقه و قياده تقول سقت و قدت قيادا و هذا غير صحيح لأن مفعول هذين المصدرين محذوف تقديره عن سياقه إياهم و قياده إياهم و هذا هو معنى الكلام و لو فرضنا مفعول [ 149 ] أحد هذين المصدرين أمرا لفسد معنى الكلام و قال الراوندي أيضا و يجوز أن يكون أمرا حالا و هذا أيضا ليس بشي‏ء لأن الحال وصف هيئة الفاعل أو المفعول و أمرا ليس كذلك . قوله ع تشابهت القلوب فيه أي أن الحمية و الفخر و الكبر و العصبية ما زالت القلوب متشابهة متماثلة فيها . و تتابعت القرون عليه جمع قرن بالفتح و هي الأمة من الناس . و كبرا تضايقت الصدور به أي كبر في الصدور حتى امتلأت به و ضاقت عنه لكثرته . ثم أمر بالحذر من طاعة الرؤساء أرباب الحمية و فيه إشارة إلى قوله تعالى إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ . و قد كان أمر في الفصل الأول بالتواضع لله و نهى هاهنا عن التواضع للرؤساء و قد جاء في الخبر المرفوع ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء و أحسن منه تكبر الفقراء على الأغنياء . الذين تكبروا عن حسبهم أي جهلوا أنفسهم و لم يفكروا في أصلهم من النطف المستقذرة من الطين المنتن قال الشاعر ما بال من أوله نطفة و جيفة آخره يفخر يصبح لا يملك تقديم ما يرجو و لا تأخير ما يحذر قوله ع و ألقوا الهجينة على ربهم روي الهجينة على فعيلة كالطبيعة و الخليقة و روي الهجنة على فعلة كالمضغة و اللقمة و المراد بهما الاستهجان من قولك هو يهجن كذا أي يقبحه و يستهجنه أي يستقبحه أي نسبوا ما في الأنساب [ 150 ] من القبح بزعمهم إلى ربهم مثل أن يقولوا للرجل أنت عجمي و نحن عرب فإن هذا ليس إلى الإنسان بل هو إلى الله تعالى فأي ذنب له فيه . قوله و جاحدوا الله أي كابروه و أنكروا صنعه إليهم . و آساس بالمد جمع أساس . و اعتزاء الجاهلية قولهم يا لفلان و سمع أبي بن كعب رجلا يقول يا لفلان فقال عضضت بهن أبيك فقيل له يا أبا المنذر ما كنت فحاشا قال سمعت رسول الله ص يقول من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه و لا تكنوا . قوله فلا تكونوا لنعمة الله أضدادا لأن البغي و الكبر يقتضيان زوال النعمة و تبدلها بالنقمة . قوله و لا تطيعوا الأدعياء مراده هاهنا بالأدعياء الذين ينتحلون الإسلام و يبطنون النفاق . ثم وصفهم فقال الذين شربتم بصفوكم كدرهم أي شربتم كدرهم مستبدلين ذلك بصفوكم و يروى الذين ضربتم أي مزجتم و يروى شريتم أي بعتم و استبدلتم . و الأحلاس جمع حلس و هو كساء رقيق يكون على ظهر البعير ملازما له فقيل لكل ملازم أمر هو حلس ذلك الأمر . و الترجمان بفتح التاء هو الذي يفسر لسانا بلسان غيره و قد تضم التاء و يروى و نثا في أسماعكم من نث الحديث أي أفشاه [ 151 ] فَلَوْ رَخَّصَ اَللَّهُ فِي اَلْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَ أَوْلِيَائِهِ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ اَلتَّكَابُرَ وَ رَضِيَ لَهُمُ اَلتَّوَاضُعَ فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ وَ عَفَّرُوا فِي اَلتُّرَابِ وُجُوهَهُمْ وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ كَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِينَ قَدِ اِخْتَبَرَهُمُ اَللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَ اِبْتَلاَهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ وَ اِمْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَخَضَهُمْ مَحَّصَهُمْ بِالْمَكَارِهِ فَلاَ تَعْتَبِرُوا اَلرِّضَا اَلرِّضَى وَ اَلسُّخْطَ بِالْمَالِ وَ اَلْوَلَدِ جَهْلاً بِمَوَاقِعِ اَلْفِتْنَةِ وَ اَلاِخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ اَلْغِنَى وَ اَلْإِقْتِدَارِ اَلْإِقْتَارِ فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ التكابر التعاظم و الغرض مقابلة لفظة التواضع لتكون الألفاظ مزدوجة . و عفر وجهه ألصقه بالعفر . و خفضوا أجنحتهم ألانوا جانبهم . و المخمصة الجوع و المجهدة المشقة و أمير المؤمنين ع كثير الاستعمال لمفعل و مفعلة بمعنى المصدر إذا تصفحت كلامه عرفت ذلك . و محصهم أي طهرهم و روي مخضهم بالخاء و الضاد المعجمة أي حركهم و زلزلهم . [ 152 ] ثم نهى أن يعتبر رضا الله و سخطه بما نراه من إعطائه الإنسان مالا و ولدا فإن ذلك جهل بمواقع الفتنة و الاختبار . و قوله تعالى أَ يَحْسَبُونَ الآية دليل على ما قاله ع و الأدلة العقلية أيضا دلت على أن كثيرا من الآلام و الغموم و البلوى إنما يفعله الله تعالى للألطاف و المصالح و ما الموصولة في الآية يعود إليها محذوف و مقدر لا بد منه و إلا كان الكلام غير منتظم و غير مرتبط بعضه ببعض و تقديره نسارع لهم في الخيرات : فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ع عَلَى فِرْعَوْنَ وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ اَلصُّوفِ وَ بِأَيْدِيهِمَا اَلْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَ دَوَامِ عِزِّهِ فَقَالَ أَ لاَ تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ اَلْعِزِّ وَ بَقَاءَ اَلْمُلْكِ وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ اَلْفَقْرِ وَ اَلذُّلِّ فَهَلاَّ أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ وَ اِحْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ وَ لَوْ أَرَادَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ اَلذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ اَلْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ اَلْجِنَانِ وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ اَلسَّمَاءِ وَ وُحُوشَ اَلْأَرَضِينَ لَفَعَلَ وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ اَلْبَلاَءُ وَ بَطَلَ اَلْجَزَاءُ وَ اِضْمَحَلَّتِ اَلْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ اَلْمُبْتَلَيْنَ وَ لاَ اِسْتَحَقَّ اَلْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ اَلْمُحْسِنِينَ وَ لاَ لَزِمَتِ اَلْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا وَ لَكِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَ ضَعَفَةً فِيمَا [ 153 ] تَرَى اَلْأَعْيُنُ مِنْ حَالاَتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ اَلْقُلُوبَ وَ اَلْعُيُونَ غِنًى وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَسْمَاعَ أَذًى مدارع الصوف جمع مدرعة بكسر الميم و هي كالكساء و تدرع الرجل و تمدرع إذا لبسها و العصي جمع عصا . و تقول هذا سوار المرأة و الجمع أسورة و جمع الجمع أساورة و قرئ فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ و قد يكون جمع أساور قال سبحانه يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ قال أبو عمرو بن العلاء أساور هاهنا جمع إسوار و هو السوار . و الذهبان بكسر الذال جمع ذهب كخرب لذكر الحبارى و خربان و العقيان الذهب أيضا قوله ع و اضمحلت الأنباء أي تلاشت و فنيت و الأنباء جمع نبأ و هو الخبر أي لسقط الوعد و الوعيد و بطلا . قوله ع و لا لزمت الأسماء معانيها أي من يسمى مؤمنا أو مسلما حينئذ فإن تسميته مجاز لا حقيقة لأنه ليس بمؤمن إيمانا من فعله و كسبه بل يكون ملجأ إلى الإيمان بما يشاهده من الآيات العظيمة . و المبتلين بفتح اللام جمع مبتلى كالمعطين و المرتضين جمع معطى و مرتضى . و الخصاصة الفقر . [ 154 ] و هذا الكلام هو ما يقوله أصحابنا بعينه في تعليل أفعال الباري سبحانه بالحكمة و المصلحة و أن الغرض بالتكليف هو التعريض للثواب و أنه يجب أن يكون خالصا من الإلجاء و من أن يفعل الواجب بوجه غير وجه وجوبه يرتدع عن القبيح لوجه غير وجه قبحه . و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ أن موسى قدم هو و أخوه هارون مصر على فرعون لما بعثهما الله تعالى إليه حتى وقفا على بابه يلتمسان الإذن عليه فمكثا سنين يغدوان على بابه و يروحان لا يعلم بهما و لا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما و قد كانا قالا لمن بالباب إنا رسولا رب العالمين إلى فرعون حتى دخل عليه بطال له يلاعبه و يضحكه فقال له أيها الملك إن على الباب رجلا يقول قولا عجيبا عظيما و يزعم أن له إلها غيرك قال ببابي قال نعم قال أدخلوه فدخل و بيده عصاه و معه هارون أخوه فقال أنا رسول رب العالمين إليك و ذكر تمام الخبر . فإن قلت أي خاصية في الصوف و لبسه و لم اختاره الصالحون على غيره قلت ورد في الخبر أن أول لباس لبسه آدم لما هبط إلى الأرض صوف كبش قيضه الله له و أمره أن يذبحه فيأكل لحمه و يلبس صوفه لأنه أهبط عريان من الجنة فذبحه و غزلت حواء صوفه فلبس آدم منه ثوبا و ألبس حواء ثوبا آخر فلذلك صار شعار الأولياء و انتسبت إليه الصوفية [ 155 ] وَ لَوْ كَانَتِ اَلْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لاَ تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لاَ تُضَامُ وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ اَلرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ اَلرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى اَلْخَلْقِ فِي اَلاِعْتِبَارِ وَ أَبْعَدَ لَهُمْ مِنَ فِي اَلاِسْتِكْبَارِ وَ لآَمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ فَكَانَتِ اَلنِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ اَلْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً وَ لَكِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ اَلاِتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَ اَلتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ اَلْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ وَ اَلاِسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ اَلاِسْتِسْلاَمُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لاَ تَشُوبُهَا يَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ تمد نحوه أعناق الرجال أي لعظمته أي يؤمله المؤملون و يرجوه الراجون و كل من أمل شيئا فقد طمح ببصره إليه معنى لا صورة فكنى عن ذلك بمد العنق . و تشد إليه عقد الرحال يسافر أرباب الرغبات إليه يقول لو كان الأنبياء ملوكا ذوي بأس و قهر لم يمكن إيمان الخلق و انقيادهم إليهم لأن الإيمان في نفسه واجب عقلا بل كان لرهبة لهم أو رغبة فيهم فكانت النيات مشتركة هذا فرض سؤال و جواب عنه كأنه قال لنفسه لم لا يجوز أن يكون إيمانهم على هذا التقدير لوجوبه و لخوف ذلك النبي أو لرجاء نفع ذلك النبي ص فقال لأن النيات تكون حينئذ مشتركة أي يكون المكلف قد فعل الإيمان لكلا الأمرين و كذلك تفسير قوله و الحسنات مقتسمة قال و لا يجوز أن تكون طاعة الله تعالى تعلو إلا لكونها طاعة له لا غير و لا يجوز أن يشوبها و يخالطها من غيرها شائبة . [ 156 ] فإن قلت ما معنى قوله لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار و أبعد لهم من الاستكبار قلت أي لو كان الأنبياء كالملوك في السطوة و البطش لكان المكلف لا يشق عليه الاعتبار و الانزجار عن القبائح مشقته عليه إذا تركه لقبحه لا لخوف السيف و كان بعد المكلفين عن الاستكبار و البغي لخوف السيف و التأديب أعظم من بعدهم عنهما إذا تركوهما لوجه قبحهما فكان يكون ثواب المكلف إما ساقطا و إما ناقصا : وَ كُلَّمَا كَانَتِ اَلْبَلْوَى وَ اَلاِخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ اَلْمَثُوبَةُ وَ اَلْجَزَاءُ أَجْزَلَ أَ لاَ تَرَوْنَ أَنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ اِخْتَبَرَ اَلْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ص إِلَى اَلآْخِرِينَ مِنْ هَذَا اَلْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لاَ تَضُرُّ وَ لاَ تَنْفَعُ وَ لاَ تُبْصِرُ وَ لاَ تَسْمَعُ فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ اَلْحَرَامَ اَلَّذِي جَعَلَهُ اَللَّهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ اَلْأَرْضِ حَجَراً وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ اَلدُّنْيَا مَدَراً وَ أَضْيَقِ بُطُونِ اَلْأَوْدِيَةِ قُطْراً بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَةٍ وَ عُيُونٍ وَشِلَةٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَةٍ لاَ يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لاَ حَافِرٌ وَ لاَ ظِلْفٌ ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ع وَ وَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ اَلْأَفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ وَ مَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلاً يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ يَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ قَدْ نَبَذُوا اَلسَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ اَلشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ اِبْتِلاَءً عَظِيماً وَ اِمْتِحَاناً شَدِيداً وَ اِخْتِبَاراً مُبِيناً وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً جَعَلَهُ اَللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ [ 157 ] وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ اَلْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ اَلْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ جَمَّ اَلْأَشْجَارِ دَانِيَ اَلثِّمَارِ مُلْتَفَّ اَلْبُنَى مُتَّصِلَ اَلْقُرَى بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَ أَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ وَ زُرُوعٍ رِيَاضٍ نَاضِرَةٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَةٍ لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ اَلْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ اَلْبَلاَءِ وَ لَوْ كَانَ اَلْأَسَاسُ اَلْإِسَاسُ اَلْمَحْمُولُ عَلَيْهَا وَ اَلْأَحْجَارُ اَلْمَرْفُوعُ بِهَا مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِيَاءٍ لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ اَلشَّكِّ فِي اَلصُّدُورِ وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ اَلْقُلُوبِ وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ اَلرَّيْبِ مِنَ اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ اَلشَّدَائِدِ وَ يَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ اَلْمَجَاهِدِ وَ يَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ اَلْمَكَارِهِ إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ وَ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ وَ أَسْبَاباً ذُلُلاً لِعَفْوِهِ كانت المثوبة أي الثواب . و أجزل أكثر و الجزيل العظيم و عطاء جزل و جزيل و الجمع جزال و قد أجزلت له من العطاء أي أكثرت . و جعله للناس قياما أي عمادا و فلان قيام أهله أي يقيم شئونهم و منه قوله تعالى وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللَّهُ لَكُمْ قِياماً . و أوعر بقاع الأرض حجرا أي أصعبها و مكان وعر بالتسكين صعب المسلك أو المقام . [ 158 ] و أقل نتائق الدنيا مدرا أصل هذه اللفظة من قولهم امرأة منتاق أي كثيرة الحبل و الولادة و يقال ضيعة منتاق أي كثيرة الريع فجعل ع الضياع ذوات المدر التي تثار للحرث نتائق و قال إن مكة أقلها صلاحا للزرع لأن أرضها حجرية . و القطر الجانب و رمال دمثة سهلة و كلما كان الرمل أسهل كان أبعد عن أن ينبت . و عيون وشلة أي قليلة الماء و الوشل بفتح الشين الماء القليل و يقال وشل الماء وشلانا أي قطر . قوله لا يزكو بها خف أي لا تزيد الإبل فيها أي لا تسمن و الخف هاهنا هو الإبل و الحافر الخيل و الحمير و الظلف الشاة أي ليس حولها مرعى يرعاه الغنم فتسمن . و أن يثنوا أعطافهم نحوه أي يقصدوه و يحجوه و عطفا الرجل جانباه . و صار مثابة أي يثاب إليه و يرجع نحوه مرة بعد أخرى و هذه من ألفاظ الكتاب العزيز . قوله ع لمنتجع أسفارهم أي لنجعتها و النجعة طلب الكلأ في الأصل ثم سمي كل من قصد أمرا يروم النفع منه منتجعا . قوله و غاية لملقى رحالهم أي صار البيت هو الغاية التي هي الغرض و المقصد و عنده تلقى الرحال أي تحط رحال الإبل عن ظهورها و يبطل السفر لأنهم قد انتهوا إلى الغاية المقصودة . [ 159 ] قوله تهوي إليه ثمار الأفئدة ثمرة الفؤاد هو سويداء القلب و منه قولهم للولد هو ثمرة الفؤاد و معنى تهوي إليه أي تتشوقه و تحن نحوه . و المفاوز هي جمع مفازة الفلاة سميت مفازة إما لأنها مهلكة من قولهم فوز الرجل أي هلك و أما تفاؤلا بالسلامة و الفوز و الرواية المشهورة من مفاوز قفار بالإضافة و قد روى قوم من مفاوز بفتح الزاء لأنه لا ينصرف و لم يضيفوا جعلوا قفار صفة . و السحيقة البعيدة . و المهاوي المساقط . و الفجاج جمع فج و هو الطريق بين الجبلين . قوله ع حتى يهزوا مناكبهم أي يحركهم الشوق نحوه إلى أن يسافروا إليه فكنى عن السفر بهز المناكب . و ذللا حال إما منهم و إما من المناكب و واحد المناكب منكب بكسر الكاف و هو مجمع عظم العضد و الكتف . قوله و يهللون يقولون لا إله إلا الله و روي يهلون لله أي يرفعون أصواتهم بالتلبية و نحوها . و يرملون الرمل السعي فوق المشي قليلا . شعثا غبرا لا يتعهدون شعورهم و لا ثيابهم و لا أبدانهم قد نبذوا السرابيل و رموا ثيابهم و قمصانهم المخيطة . و شوهوا بإعفاء الشعور أي غيروا و قبحوا محاسن صورهم بأن أعفوا شعورهم فلم يحلقوا ما فضل منها و سقط على الوجه و نبت في غيره من الأعضاء التي جرت العادة بإزالتها عنها . [ 160 ] و التمحيص التطهير من محصت الذهب بالنار إذا صفيته مما يشوبه و التمحيص أيضا الامتحان و الاختبار و المشاعر معالم النسك . قوله و سهل و قرار أي في مكان سهل يستقر فيه الناس و لا ينالهم من المقام به مشقة . و جم الأشجار كثيرها و داني الثمار قريبها . و ملتف البنى مشتبك العمارة . و البرة الواحدة من البر و هو الحنطة . و الأرياف جمع ريف و هو الخصب و المرعى في الأصل و هو هاهنا السواد و المزارع و محدقة محيطة و مغدقة غزيرة و الغدق الماء الكثير . و ناضرة ذات نضارة و رونق و حسن . قوله و لو كانت الإساس يقول لو كانت إساس البيت التي حمل البيت عليها و أحجاره التي رفع بها من زمردة و ياقوتة فالمحمول و المرفوع كلاهما مرفوعان لأنهما صفة اسم كان و الخبر من زمردة و روي بين زمردة و يجوز أن تحمل لفظتا المفعول و هما المحمول و المرفوع ضمير البيت فيكون قائما مقام اسم الفاعل و يكون موضع الجار و المجرور نصبا و يجوز ألا تحملهما ذلك الضمير و يجعل الجار و المجرور هو الساد مسد الفاعل فيكون موضعه رفعا . و روي مضارعة الشك بالضاد المعجمة و معناه مقارنة الشك و دنوه من النفس و أصله من مضارعة القدر إذا حان إدراكها و من مضارعة الشمس إذا دنت للمغيب . و قال الراوندي في تفسير هذه الكلمة من مضارعة الشك أي مماثلته و مشابهته و هذا بعيد لأنه لا معنى للمماثلة و المشابهة هاهنا و الرواية الصحيحة بالصاد المهملة . قوله ع و لنفى متعلج الريب أي اعتلاجه أي و لنفى اضطراب الشك في القلوب و روي يستعبدهم و يتعبدهم و الثانية أحسن . [ 161 ] و المجاهد جمع مجهدة و هي المشقة . و أبوابا فتحا أي مفتوحة و أسبابا ذللا أي سهلة . و اعلم أن محصول هذا الفصل أنه كلما كانت العبادة أشق كان الثواب عليها أعظم و لو أن الله تعالى جعل العبادات سهلة على المكلفين لما استحقوا عليها من الثواب إلا قدرا يسيرا بحسب ما يكون فيها من المشقة اليسيرة . فإن قلت فهل كان البيت الحرام موجودا أيام آدم ع ثم أمر آدم و ولده أن يثنوا أعطافهم نحوه قلت نعم هكذا روى أرباب السير و أصحاب التواريخ روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه عن ابن عباس أن الله تعالى أوحى إلى آدم لما أهبطه إلى الأرض أن لي حرما حيال عرشي فانطلق فابن لي بيتا فيه ثم طف به كما رأيت ملائكتي تحف بعرشي فهنالك أستجيب دعاءك و دعاء من يحف به من ذريتك فقال آدم إني لست أقوى على بنائه و لا أهتدي إليه فقيض الله تعالى له ملكا فانطلق به نحو مكة و كان آدم في طريقه كلما رأى روضة أو مكانا يعجبه سأل الملك أن ينزل به هناك ليبني فيه فيقول الملك إنه ليس هاهنا حتى أقدمه مكة فبنى البيت من خمسة جبال طور سيناء و طور زيتون و لبنان و الجودي و بنى قواعده من حراء فلما فرغ خرج به الملك إلى عرفات فأراه المناسك كلها التي يفعلها الناس اليوم ثم قدم به مكة و طاف بالبيت أسبوعا ثم رجع إلى أرض الهند فمات . و روى الطبري في التاريخ أن آدم حج من أرض الهند إلى الكعبة أربعين حجة على رجليه . [ 162 ] و قد روي أن الكعبة أنزلت من السماء و هي ياقوتة أو لؤلؤة على اختلاف الروايات و أنها بقيت على تلك الصورة إلى أن فسدت الأرض بالمعاصي أيام نوح و جاء الطوفان فرفع البيت و بنى إبراهيم هذه البنية على قواعده القديمة و روى أبو جعفر عن وهب بن منبه أن آدم دعا ربه فقال يا رب أ ما لأرضك هذه عامر يسبحك و يقدسك فيها غيري فقال الله إني سأجعل فيها من ولدك من يسبح بحمدي و يقدسني و سأجعل فيها بيوتا ترفع لذكري يسبحني فيها خلقي و يذكر فيها اسمي و سأجعل من تلك البيوت بيتا أختصه بكرامتي و أوثره باسمي فأسميه بيتي و عليه وضعت جلالتي و خصصته بعظمتي و أنا مع ذلك في كل شي‏ء أجعل ذلك البيت حرما آمنا يحرم بحرمته من حوله و من تحته و من فوقه فمن حرمه بحرمتي استوجب كرامتي و من أخاف أهله فقد أباح حرمتي و استحق سخطي و أجعله بيتا مباركا يأتيه بنوك شعثا غبرا على كل ضامر من كل فج عميق يرجون بالتلبية رجيجا و يعجون بالتكبير عجيجا من اعتمده لا يريد غيره و وفد إلي و زارني و استضاف بي أسعفته بحاجته و حق على الكريم أن يكرم وفده و أضيافه تعمره يا آدم ما دمت حيا ثم تعمره الأمم و القرون و الأنبياء من ولدك أمة بعد أمة و قرنا بعد قرن . قال ثم أمر آدم أن يأتي إلى البيت الحرام الذي أهبط له إلى الأرض فيطوف به كما كان يرى الملائكة تطوف حول العرش و كان البيت حينئذ من درة أو من ياقوتة فلما أغرق الله تعالى قوم نوح رفعه و بقي أساسه فبوأه الله لإبراهيم فبناه [ 163 ] فَاللَّهَ اَللَّهَ فِي عَاجِلِ اَلْبَغْيِ وَ آجِلِ وَخَامَةِ اَلظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ اَلْكِبْرِ فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ اَلْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ اَلْكُبْرَى اَلَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ اَلرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ اَلسُّمُومِ اَلْقَاتِلَةِ فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لاَ تُشْوِي أَحَداً لاَ عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لاَ مُقِلاًّ فِي طِمْرِهِ وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اَللَّهُ عِبَادَهُ اَلْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَ اَلزَّكَوَاتِ وَ مُجَاهَدَةِ اَلصِّيَامِ فِي اَلْأَيَّامِ اَلْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَ تَذْلِيلاً لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلاَءِ عَنْهُمْ وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ اَلْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَ اِلْتِصَاقِ كَرَائِمِ اَلْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَ لُحُوقِ اَلْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ اَلصِّيَامِ تَذَلُّلاً مَعَ مَا فِي اَلزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ اَلْأَرْضِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ اَلْمَسْكَنَةِ وَ اَلْفَقْرِ اُنْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ اَلْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ اَلْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ اَلْكِبْرِ بلدة وخمة و وخيمة بينة الوخامة أي وبيئة . مصيدة إبليس بسكون الصاد و فتح الياء آلته التي يصطاد بها . و تساور قلوب الرجال تواثبها و سار إليه يسور أي وثب و المصدر السور و مصدر تساور المساورة و يقال إن لغضبه سورة و هو سوار أي وثاب معربد . [ 164 ] و سورة الشراب وثوبه في الرأس و كذلك مساورة السموم التي ذكرها أمير المؤمنين ع . و ما تكدي ما ترد عن تأثيرها من قولك أكدى حافر الفرس إذا بلغ الكدية و هي الأرض الصلبة فلا يمكنه أن يحفر . و لا تشوي أحدا لا تخطئ المقتل و تصيب غيره و هو الشوى و الشوى الأطراف كاليد و الرجل . قال لا ترد مكيدته عن أحد لا عن عالم لأجل علمه و لا عن فقير لطمره و الطمر الثوب الخلق . و ما في قوله و عن ذلك ما حرس الله زائدة مؤكدة أي عن هذه المكايد التي هي البغي و الظلم و الكبر حرس الله عباده فعن متعلقة بحرس و قال الراوندي يجوز أن تكون مصدرية فيكون موضعها رفعا بالابتداء و خبر المبتدأ قوله لما في ذلك و قال أيضا يجوز أن تكون نافية أي لم يحرس الله عباده عن ذلك إلجاء و قهرا بل فعلوه اختيارا من أنفسهم و الوجه الأول باطل لأن عن على هذا التقدير تكون من صلة المصدر فلا يجوز تقديمها عليه و أيضا فإن لما في ذلك لو كان هو الخبر لتعلق لام الجر بمحذوف فيكون التقدير حراسة الله لعباده عن ذلك كائنة لما في ذلك من تعفير الوجوه بالتراب و هذا كلام غير مفيد و لا منتظم إلا على تأويل بعيد لا حاجة إلى تعسفه و الوجه الثاني باطل لأن سياقة الكلام تدل على فساده أ لا ترى قوله تسكينا و تخشيعا و قوله لما في ذلك من كذا و هذا كله تعليل الحاصل الثابت لا تعليل المنفي المعدوم . ثم بين ع الحكمة في العبادات فقال إنه تعالى حرس عباده بالصلوات [ 165 ] التي افترضها عليهم من تلك المكايد و كذلك بالزكاة و الصوم ليسكن أطرافهم و يخشع أبصارهم فجعل التسكين و التخشيع عذرا و علة للحراسة و نصب اللفظات على أنها مفعول له . ثم علل السكون و الخشوع الذي هو علة الحراسة لما في الصلاة من تعفير الوجه على التراب فصار ذلك علة العلة قال و ذلك لأن تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعا يوجب هضم النفس و كسرها و تذليلها . و عتاق الوجوه كرائمها . و إلصاق كرائم الجوارح بالأرض كاليدين و الساقين تصاغرا يوجب الخشوع و الاستسلام و الجوع في الصوم الذي يلحق البطن في المتن يقتضي زوال الأشر و البطر و يوجب مذلة النفس و قمعها عن الانهماك في الشهوات و ما في الزكاة من صرف فواضل المكاسب إلى أهل الفقر و المسكنة يوجب تطهير النفوس و الأموال و مواساة أرباب الحاجات بما تسمح به النفوس من الأموال و عاصم لهم من السرقات و ارتكاب المنكرات ففي ذلك كله دفع مكايد الشيطان . و تخفيض القلوب حطها عن الاعتلاء و التيه . و الخيلاء التكبر و المسكنة أشد الفقر في أظهر الرأيين . و القمع القهر . و النواجم جمع ناجمة و هي ما يظهر و يطلع من الكبر و غيره . و القدع بالدال المهملة الكف قدعت الفرس و كبحته باللجام أي كففته . و الطوالع كالنواجم [ 166 ] وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ اَلْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْ‏ءٍ مِنَ اَلْأَشْيَاءِ إِلاَّ عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ اَلْجُهَلاَءِ أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ اَلسُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لاَ عِلَّةٌ أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ وَ أَمَّا اَلْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ اَلْأُمَمِ فَتَعَصَّبُوا لآِثَارِ مَوَاقِعِ اَلنِّعَمِ فَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَ أَوْلاَداً وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنَ اَلْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ اَلْخِصَالِ وَ مَحَامِدِ اَلْأَفْعَالِ وَ مَحَاسِنِ اَلْأُمُورِ اَلَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا اَلْمُجَدَاءُ وَ اَلنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ اَلْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ اَلقَبَائِلِ بِالْأَخْلاَقِ اَلرَّغِيبَةِ وَ اَلْأَحْلاَمِ اَلْعَظِيمَةِ وَ اَلْأَخْطَارِ اَلْجَلِيلَةِ وَ اَلآْثَارِ اَلْمَحْمُودَةِ فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ اَلْحَمْدِ مِنَ اَلْحِفْظِ لِلْجِوَارِ وَ اَلْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ اَلطَّاعَةِ لِلْبِرِّ وَ اَلْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ اَلْأَخْذِ بِالْفَضْلِ وَ اَلْكَفِّ عَنِ اَلْبَغْيِ وَ اَلْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ وَ اَلْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ اَلْكَظْمِ لِلْغَيْظِ وَ اِجْتِنَابِ اَلْفَسَادِ فِي اَلْأَرْضِ قد روي تحتمل بالتاء و روي تحمل و المعنى واحد . و التمويه التلبيس من موهت النحاس إذا طليته بالذهب ليخفى . و لاط الشي‏ء بقلبي يلوط و يليط أي التصق . و المترف الذي أطغته النعمة . [ 167 ] و تفاضلت فيها أي تزايدت . و المجداء جمع ماجد و المجد الشرف في الآباء و الحسب و الكرم يكونان في الرجل و إن لم يكونا في آبائه هكذا قال ابن السكيت و قد اعترض عليه بأن المجيد من صفات الله تعالى قال سبحانه ذُو اَلْعَرْشِ اَلْمَجِيدُ على قراءة من رفع و الله سبحانه يتعالى عن الآباء و قد جاء في وصف القرآن المجيد قال سبحانه بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ . و النجداء الشجعان واحدهم نجيد و أما نجد و نجد بالكسر و الضم فجمعه أنجاد مثل يقظ و أيقاظ . و بيوتات العرب قبائلها و يعاسيب القبائل رؤساؤها و اليعسوب في الأصل ذكر النحل و أميرها . و الرغيبة الخصلة يرغب فيها . و الأحلام العقول و الأخطار الأقدار . ثم أمرهم بأن يتعصبوا لخلال الحمد و عددها و ينبغي أن يحمل قوله ع فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب و لا علة على أنه لا يعرف له سبب مناسب فكيف يمكن أن يتعصبوا لغير سبب أصلا . و قيل إن أصل هذه العصبية و هذه الخطبة أن أهل الكوفة كانوا قد فسدوا في آخر خلافة أمير المؤمنين و كانوا قبائل في الكوفة فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل قبيلة أخرى فينادي باسم قبيلته يا للنخع مثلا أو يا لكندة نداء عاليا يقصد به الفتنة و إثارة الشر فيتألب عليه فتيان القبيلة التي مر بها فينادون يا لتميم [ 168 ] و يا لربيعة و يقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه فيمضي إلى قبيلته فيستصرخها فتسل السيوف و تثور الفتن و لا يكون لها أصل في الحقيقة إلا تعرض الفتيان بعضهم ببعض : وَ اِحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ اَلْمَثُلاَتِ بِسُوءِ اَلْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ اَلْأَعْمَالِ فَتَذَكَّرُوا فِي اَلْخَيْرِ وَ اَلشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ وَ اِحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ اَلْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ حَالَهُمْ وَ زَاحَتِ اَلْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ وَ مُدَّتِ اَلْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَ اِنْقَادَتِ اَلنِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ اَلْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ اَلاِجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اَللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ وَ اَلتَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ اَلتَّوَاصِي بِهَا وَ اِجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاغُنِ اَلْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ اَلصُّدُورِ وَ تَدَابُرِ اَلنُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ اَلْأَيْدِي المثلات العقوبات . و ذميم الأفعال ما يذم منها . و تفاوت حاليهم اختلافهما و زاحت الأعداء بعدت و له أي لأجله . و التحاض عليها تفاعل يستدعي وقوع الحض و هو الحث من الجهتين أي يحث بعضهم بعضا . و الفقرة واحدة فقر الظهر و يقال لمن قد أصابته مصيبة شديدة قد كسرت فقرته . [ 169 ] و المنة القوة . و تضاغن القلوب و تشاحنها واحد و تخاذل الأيدي ألا ينصر الناس بعضهم بعضا : وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ اَلْمَاضِينَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ اَلتَّمْحِيصِ وَ اَلْبَلاَءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ اَلْخَلاَئِقِ أَعْبَاءً وَ أَجْهَدَ اَلْعِبَادِ بَلاَءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ اَلدُّنْيَا حَالاً اِتَّخَذَتْهُمُ اَلْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ اَلْعَذَابِ وَ جَرَّعُوهُمْ جُرَعَ اَلْمُرَارِ جَرَّعُوهُمُ اَلْمُرَارَ فَلَمْ تَبْرَحِ اَلْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ اَلْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ اَلْغَلَبَةِ لاَ يَجِدُونَ حِيلَةً فِي اِمْتِنَاعٍ وَ لاَ سَبِيلاً إِلَى دِفَاعٍ حَتَّى إِذَا رَأَى اَللَّهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ اَلصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى اَلْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ وَ اَلاِحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ اَلْبَلاَءِ فَرَجاً فَأَبْدَلَهُمُ اَلْعِزَّ مَكَانَ اَلذُّلِّ وَ اَلْأَمْنَ مَكَانَ اَلْخَوْفِ فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلاَماً وَ قَدْ بَلَغَتِ اَلْكَرَامَةُ مِنَ اَللَّهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ اَلآْمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ تدبروا أي تأملوا و التمحيص التطهير و التصفية . و الأعباء الأثقال واحدها عب‏ء . و أجهد العباد أتعبهم . و الفراعنة العتاة و كل عات فرعون . و ساموهم سوء العذاب ألزموهم إياه و هذا إشارة إلى قوله تعالى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ [ 170 ] اَلْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ . و المرار بضم الميم شجر مر في الأصل و استعير شرب المرار لكل من يلقى شديد المشقة . و رأى الله منهم جد الصبر أي أشده . و أئمة أعلاما أي يهتدى بهم كالعلم في الفلاة : فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ اَلْأَمْلاَءُ مُجْتَمِعَةً وَ اَلْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَ اَلْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَ اَلْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ اَلسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً وَ اَلْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ اَلْعَزَائِمُ وَاحِدَةً أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ اَلْأَرَضِينَ وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ اَلْعَالَمِينَ فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ اَلْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ اَلْأُلْفَةُ وَ اِخْتَلَفَتِ اَلْكَلِمَةُ وَ اَلْأَفْئِدَةُ وَ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ وَ قَدْ خَلَعَ اَللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنْكُمْ الأملاء الجماعات الواحد ملأ . [ 171 ] و مترادفة متعاونة البصائر نافذة يقال نفذت بصيرتي في هذا الخبر أي اجتمع همي عليه و لم يبق عندي تردد فيه لعلمي به و تحقيقي إياه . و أقطار الأرضين نواحيها و تشتتت تفرقت . و تشعبوا صاروا شعوبا و قبائل مختلفين . و تفرقوا متحزبين اختلفوا أحزابا و روي متحازبين . و غضارة النعمة الطيب اللين منها . و القصص الحديث . يقول انظروا في أخبار من قبلكم من الأمم كيف كانت حالهم في العز و الملك لما كانت كلمتهم واحدة و إلى ما ذا آلت حالهم حين اختلفت كلمتهم فاحذروا أن تكونوا مثلهم و أن يحل بكم إن اختلفتم مثل ما حل بهم : فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَ بَنِي إِسْحَاقَ وَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ع فَمَا أَشَدَّ اِعْتِدَالَ اَلْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اِشْتِبَاهَ اَلْأَمْثَالِ تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ اَلْأَكَاسِرَةُ وَ اَلْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ اَلآْفَاقِ وَ بَحْرِ اَلْعِرَاقِ وَ خُضْرَةِ اَلدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ اَلشِّيحِ وَ مَهَافِي اَلرِّيحِ وَ نَكَدِ اَلْمَعَاشِ فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ أَذَلَّ اَلْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً لاَ يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا وَ لاَ إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَ اَلْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ وَ اَلْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي بَلاَءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ [ 172 ] لقائل أن يقول ما نعرف أحدا من بني إسحاق و بني إسرائيل احتازتهم الأكاسرة و القياصرة عن ريف الآفاق إلى البادية و منابت الشيح إلا أن يقال يهود خيبر و النضير و بني قريظة و بني قينقاع و هؤلاء نفر قليل لا يعتد بهم و يعلم من فحوى الخطبة أنهم غير مرادين بالكلام و لأنه ع قال تركوهم إخوان دبر و وبر و هؤلاء لم يكونوا من أهل الوبر و الدبر بل من أهل المدر لأنهم كانوا ذوي حصون و آطام و الحاصل أن الذين احتازتهم الأكاسرة و القياصرة من الريف إلى البادية و صاروا أهل وبر ولد إسماعيل لا بنو إسحاق و بنو إسرائيل و الجواب أنه ع ذكر في هذه الكلمات و هي قوله فاعتبروا بحال ولد إسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل المقهورين و القاهرين جميعا أما المقهورون فبنو إسماعيل و أما القاهرون فبنو إسحاق و بنو إسرائيل لأن الأكاسرة من بني إسحاق ذكر كثير من أهل العلم أن فارس من ولد إسحاق و القياصرة من ولد إسحاق أيضا لأن الروم بنو العيص بن إسحاق و على هذا يكون الضمير في أمرهم و تشتتهم و تفرقهم يرجع إلى بني إسماعيل خاصة . فإن قلت فبنو إسرائيل أي مدخل لهم هاهنا قلت لأن بني إسرائيل لما كانوا ملوكا بالشام في أيام أجاب الملك و غيره حاربوا العرب من بني إسماعيل غير مرة و طردوهم عن الشام و ألجئوهم على المقام ببادية الحجاز و يصير تقدير الكلام فاعتبروا بحال ولد إسماعيل مع بني إسحاق و بني إسرائيل فجاء بهم في صدر الكلام على العموم ثم خصص فقال الأكاسرة و القياصرة و هم داخلون في عموم ولد إسحاق و إنما لم يخصص عموم بني إسرائيل لأن العرب لم تكن تعرف ملوك [ 173 ] ولد يعقوب فيذكر لهم أسماءهم في الخطبة بخلاف ولد إسحاق فإنهم كانوا يعرفون ملوكهم من بني ساسان و من بني الأصفر . قوله ع فما أشد اعتدال الأحوال أي ما أشبه الأشياء بعضها ببعض و إن حالكم لشبيهة بحال أولئك فاعتبروا بهم . قوله يحتازونهم عن الريف يبعدونهم عنه و الريف الأرض ذات الخصب و الزرع و الجمع أرياف و رافت الماشية أي رعت الريف و قد أرفنا أي صرنا إلى الريف و أرافت الأرض أي أخصبت و هي أرض ريفة بتشديد الياء . و بحر العراق دجلة و الفرات أما الأكاسرة فطردوهم عن بحر العراق و أما القياصرة فطردوهم عن ريف الآفاق أي عن الشام و ما فيه من المرعى و المنتجع . قوله ع أربابا لهم أي ملوكا و كانت العرب تسمى الأكاسرة أربابا و لما عظم أمر حذيفة بن بدر عندهم سموه رب معد . و منابت الشيح أرض العرب و الشيح نبت معروف . و مهافي الريح المواضع التي تهفو فيها أي تهب و هي الفيافي و الصحاري . و نكد المعاش ضيقه و قلته . و تركوهم عالة أي فقراء جمع عائل و العائل ذو العيلة و العيلة الفقر قال تعالى وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال الشاعر تعيرنا أننا عالة صعاليك نحن و أنتم ملوك [ 174 ] نظيره قائد و قادة و سائس و ساسة . و قوله إخوان دبر و وبر الدبر مصدر دبر البعير أي عقره القتب و الوبر للبعير بمنزلة الصوف للضأن و الشعر للمعز . قوله أذل الأمم دارا لعدم المعاقل و الحصون المنيعة فيها . و أجدبهم قرارا لعدم الزرع و الشجر و النخل بها و الجدب المحل . و لا يأوون لا يلتجئون و لا ينضمون . و الأزل الضيق و أطباق جهل جمع طبق أي جهل متراكم بعضه فوق بعض . و غارات مشنونة متفرقة و هي أصعب الغارات فصل في ذكر الأسباب التي دعت العرب إلى وأد البنات من بنات موءودة كان قوم من العرب يئدون البنات قيل إنهم بنو تميم خاصة و إنه استفاض منهم في جيرانهم و قيل بل كان ذلك في تميم و قيس و أسد و هذيل و بكر بن وائل قالوا و ذلك أن رسول الله ص دعا عليهم فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر و اجعل عليهم سنين كسني يوسف فأجدبوا سبع سنين حتى أكلوا الوبر بالدم و كانوا يسمونه العلهز فوأدوا البنات لإملاقهم و فقرهم و قد دل على ذلك بقوله وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ قال وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ . و قال قوم بل وأدوا البنات أنفة و زعموا أن تميما منعت النعمان الإتاوة سنة من [ 175 ] السنين فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر و جل من معه من بكر بن وائل فاستاق النعم و سبى الذراري و في ذلك يقول بعض بني يشكر لما رأوا راية النعمان مقبلة قالوا ألا ليت أدنى دارنا عدن يا ليت أم تميم لم تكن عرفت مرا و كانت كمن أودى به الزمن إن تقتلونا فأعيار مخدعة أو تنعموا فقديما منكم المنن منكم زهير و عتاب و محتضن و ابنا لقيط و أودى في الوغى قطن فوفدت بنو تميم إلى النعمان و استعطفوه فرق عليهم و أعاد عليهم السبي و قال كل امرأة اختارت أباها ردت إليه و إن اختارت صاحبها تركت عليه فكلهن اخترن آباءهن إلا ابنة قيس بن عاصم فإنها اختارت من سباها و هو عمرو بن المشمرخ اليشكري فنذر قيس بن عاصم المنقري التميمي ألا يولد له بنت إلا وأدها و الوأد أن يخنقها في التراب و يثقل وجهها به حتى تموت ثم اقتدى به كثير من بني تميم قال سبحانه وَ إِذَا اَلْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ أي على طريق التبكيت و التوبيخ لمن فعل ذلك أو أجازه كما قال سبحانه يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللَّهِ . و من جيد شعر الفرزدق قوله في هجاء جرير أ لم تر أنا بني دارم زرارة منا أبو معبد و منا الذي منع الوائدات و أحيا الوليد فلم يوأد أ لسنا بأصحاب يوم النسار و أصحاب ألوية المربد [ 176 ] أ لسنا الذين تميم بهم تسامى و تفخر في المشهد و ناجية الخير و الأقرعان و قبر بكاظمة المورد إذا ما أتى قبره عائذ أناخ على القبر بالأسعد أ يطلب مجد بني دارم عطية كالجعل الأسود قرنبى يحك قفا مقرف لئيم مآثره قعدد و مجد بني دارم فوقه مكان السماكين و الفرقد و في الحديث أن صعصعة بن ناجية بن عقال لما وفد على رسول الله ص قال يا رسول الله إني كنت أعمل في الجاهلية عملا صالحا فهل ينفعني ذلك اليوم قال ع و ما عملت قال ضللت ناقتين عشراوين فركبت جملا و مضيت في بغائهما فرفع لي بيت حريد فقصدته فإذا شيخ جالس بفنائه فسألته عن الناقتين فقال ما نارهما قلت ميسم بني دارم قال هما عندي و قد أحيا الله بهما قوما من أهلك من مضر فجلست معه ليخرجهما إلى فإذا عجوز قد خرجت من كسر البيت فقال لها ما وضعت إن كان سقبا شاركنا في أموالنا و إن كان حائلا وأدناها فقالت العجوز وضعت أنثى فقلت له أ تبيعها قال و هل تبيع العرب أولادها قلت إنما أشتري حياتها و لا أشتري رقها قال فبكم قلت احتكم قال بالناقتين و الجمل قلت أ ذاك لك على أن يبلغني الجمل و إياها قال بعتك فاستنقذتها [ 177 ] منه بالجمل و الناقتين و آمنت بك يا رسول الله و قد صارت لي سنة في العرب أن أشتري كل موءودة بناقتين عشراوين و جمل فعندي إلى هذه الغاية ثمانون و مائتا موءودة قد انقذتهن قال ع لا ينفعك ذاك لأنك لم تبتغ به وجه الله و أن تعمل في إسلامك عملا صالحا تثب عليه . و روى الزبير في الموفقيات أن أبا بكر قال في الجاهلية لقيس بن عاصم المنقري ما حملك على أن وأدت قال مخافة أن يخلف عليهن مثلك : فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ كَيْفَ نَشَرَتِ اَلنِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَ اِلْتَفَّتِ اَلْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ فَاكِهِينَ قَدْ تَرَبَّعَتِ اَلْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَ آوَتْهُمُ اَلْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وَ تَعَطَّفَتِ اَلْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى اَلْعَالَمِينَ وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ اَلْأَرَضِينَ يَمْلِكُونَ اَلْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَ يُمْضُونَ اَلْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ لاَ تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لاَ تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ لما ذكر ما كانت العرب عليه من الذل و الضيم و الجهل عاد فذكر ما أبدل الله [ 178 ] به حالهم حين بعث إليهم محمدا ص فعقد عليهم طاعتهم كالشي‏ء المنتشر المحلول فعقدها بملة محمد ص . و الجداول الأنهر . و التفت الملة بهم أي كانوا متفرقين فالتفت ملة محمد بهم أي جمعتهم و يقال التف الحبل بالحطب أي جمعه و التف الحطب بالحبل أي اجتمع به . و في في قوله في عوائد بركتها متعلقة بمحذوف و موضع الجار و المجرور نصب على الحال أي جمعتهم الملة كائنة في عوائد بركتها و العوائد جمع عائدة و هي المنفعة تقول هذا أعود عليك أي أنفع لك و روي و التقت الملة بالقاف أي اجتمعت بهم من اللقاء و الرواية الأولى أصح . و أصبحوا في نعمتها غرقين مبالغة في وصف ما هم فيه من النعمة . و فاكهين ناعمين و روي فكهين أي أشرين و قد قرئ بهما في قوله تعالى وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ و قال الأصمعي فاكهين مازحين و المفاكهة الممازحة و من أمثالهم لا تفاكه أمة و لا تبل على أكمة فأما قوله تعالى فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ فقيل تندمون و قيل تعجبون . و عن في قوله و عن خضرة عيشها متعلقة بمحذوف تقديره فأصبحوا فاكهين فكاهة صادرة عن خضرة عيشها أي خضرة عيش النعمة سبب لصدور الفكاهة و المزاح عنه . و تربعت الأمور بهم أي أقامت من قولك ربع بالمكان أي أقام به . [ 179 ] و آوتهم الحال بالمد أي ضمتهم و أنزلتهم قال تعالى آوى‏ إِلَيْهِ أَخاهُ أي ضمه إليه و أنزله و يجوز أوتهم بغير مد أفعلت في هذا المعنى و فعلت واحد عن أبي زيد . و الكنف الجانب و تعطفت الأمور عليهم كناية عن السيادة و الإقبال يقال قد تعطف الدهر على فلان أي أقبل حظه و سعادته بعد أن لم يكن كذلك . و في ذرا ملك بضم الذال أي في أعاليه جمع ذروة و يكنى عن العزيز الذي لا يضام فيقال لا يغمز له قناة أي هو صلب و القناة إذا لم تلن في يد الغامز كانت أبعد عن الحطم و الكسر . و لا تقرع لهم صفاة مثل يضرب لمن لا يطمع في جانبه لعزته و قوته : أَلاَ وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ اَلطَّاعَةِ وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اَللَّهِ اَلْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ اَلْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اِمْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ اَلْأُلْفَةِ اَلَّتِي يَتَقَلَّبُونَ يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ اَلْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ اَلْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وَ بَعْدَ اَلْمُوَالاَةِ أَحْزَاباً مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ اَلْإِسْلاَمِ إِلاَّ بِاسْمِهِ وَ لاَ تَعْرِفُونَ مِنَ اَلْإِيمَانِ إِلاَّ رَسْمَهُ تَقُولُونَ اَلنَّارَ وَ لاَ اَلْعَارَ كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا اَلْإِسْلاَمَ عَلَى وَجْهِهِ اِنْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ اَلَّذِي وَضَعَهُ اَللَّهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ اَلْكُفْرِ ثُمَّ لاَ جَبْرَائِيلَ جَبْرَائِيلُ [ 180 ] وَ لاَ مِيكَائِيلَ وَ لاَ مُهَاجِرِينَ وَ لاَ أَنْصَارَ مِيكَائِيلُ وَ لاَ مُهَاجِرُونَ وَ لاَ أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلاَّ اَلْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اَللَّهُ بَيْنَكُمْ وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ اَلْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اَللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ فَلاَ تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلاً بِأَخْذِهِ وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ اَلْقَرْنَ اَلْمَاضِيَ اَلْقُرُونَ اَلْمَاضِيَةَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلاَّ لِتَرْكِهِمُ اَلْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنَّهْيَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ فَلَعَنَ اَللَّهُ اَلسُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ اَلْمَعَاصِي وَ اَلْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ اَلتَّنَاهِي نفضتم أيديكم كلمة تقال في اطراح الشي‏ء و تركه و هي أبلغ من أن تقول تركتم حبل الطاعة لأن من يخلي الشي‏ء من يده ثم ينفض يده منه يكون أشد تخلية له ممن لا ينفضها بل يقتصر على تخليته فقط لأن نفضها إشعار و إيذان بشدة الاطراح و الإعراض . و الباء في قوله بأحكام الجاهلية متعلقة بثلمتم أي ثلمتم حصن الله بأحكام الجاهلية التي حكمتم بها في ملة الإسلام . و الباء في قوله بنعمة لا يعرف متعلقة بامتن و في من قوله فيما عقد متعلقة بمحذوف و موضعها نصب على الحال و هذا إشارة إلى قوله تعالى لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اَللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ و قوله فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً . و روي تتقلبون في ظلها . [ 181 ] قوله صرتم بعد الهجرة أعرابا الأعراب على عهد رسول الله ص من آمن به من أهل البادية و لم يهاجر إليه و هم ناقصو المرتبة عن المهاجرين لجفائهم و قسوتهم و توحشهم و نشئهم في بعد من مخالطة العلماء و سماع كلام الرسول ص و فيهم أنزل اَلْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ و ليست هذه الآية عامة في كل الأعراب بل خاصة ببعضهم و هم الذين كانوا حول المدينة و هم جهينة و أسلم و أشجع و غفار و إليهم أشار سبحانه بقوله وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ اَلْأَعْرابِ مُنافِقُونَ و كيف يكون كل الأعراب مذموما و قد قال تعالى وَ مِنَ اَلْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اَللَّهِ و صارت هذه الكلمة جارية مجرى المثل . و أنشد الحجاج على منبر الكوفة قد لفها الليل بعصلبي أروع خراج من الدوي مهاجر ليس بأعرابي و قال عثمان لأبي ذر أخشى أن تصير بعد الهجرة أعرابيا . و روي و لا يعقلون من الإيمان . و قولهم النار و لا العار منصوبتان بإضمار فعل أي ادخلوا النار و لا تلتزموا العار و هي كلمة جارية مجرى المثل أيضا يقولها أرباب الحمية و الإباء فإذا قيلت في حق كانت صوابا و إذا قيلت في باطل كانت خطأ . و أكفأت الإناء و كفأته لغتان أي كببته . [ 182 ] قوله ثم لا جبرائيل و لا ميكائيل و لا مهاجرين الرواية المشهورة هكذا بالنصب و هو جائز على التشبيه بالنكرة كقولهم معضلة و لا أبا حسن لها قال الراجز لا هيثم الليلة للمطي و قد روي بالرفع في الجميع . و المقارعة منصوبة على المصدر و قال الراوندي هي استثناء منقطع و الصواب ما ذكرناه و قد روي إلا المقارعة بالرفع تقديره و لا نصير لكم بوجه من الوجوه إلا المقارعة . و الأمثال التي أشار إليها أمير المؤمنين ع هي ما تضمنه القرآن من أيام الله و نقماته على أعدائه و قال تعالى وَ ضَرَبْنا لَكُمُ اَلْأَمْثالَ . و التناهي مصدر تناهى القوم عن كذا أي نهى بعضهم بعضا يقول لعن الله الماضين من قبلكم لأن سفهاءهم ارتكبوا المعصية و حلماءهم لم ينهوهم عنها و هذا من قوله تعالى كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ : أَلاَ وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ اَلْإِسْلاَمِ وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ أَلاَ وَ قَدْ أَمَرَنِيَ اَللَّهُ بِقِتَالِ أَهْلِ اَلْبَغْيِ وَ اَلنَّكْثِ وَ اَلْفَسَادِ فِي اَلْأَرْضِ فَأَمَّا اَلنَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ وَ أَمَّا اَلْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ وَ أَمَّا اَلْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ وَ أَمَّا شَيْطَانُ اَلرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَ رَجَّةُ صَدْرِهِ [ 183 ] وَ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْبَغْيِ وَ لَئِنْ أَذِنَ اَللَّهُ فِي اَلْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلاَّ مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ اَلْبِلاَدِ تَشَذُّراً قد ثبت عن النبي ص أنه قال له ع ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين فكان الناكثون أصحاب الجمل لأنهم نكثوا بيعته ع و كان القاسطون أهل الشام بصفين و كان المارقون الخوارج في النهروان و في الفرق الثلاث قال الله تعالى فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ و قال وَ أَمَّا اَلْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً و قال النبي ص يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر أحدكم في النصل فلا يجد شيئا فينظر في الفوق فلا يجد شيئا سبق الفرث و الدم و هذا الخبر من أعلام نبوته ص و من أخباره المفصلة بالغيوب . و أما شيطان الردهة فقد قال قوم إنه ذو الثدية صاحب النهروان و رووا في ذلك خبرا عن النبي ص و ممن ذكر ذلك و اختاره الجوهري صاحب الصحاح و هؤلاء يقولون إن ذا الثدية لم يقتل بسيف و لكن الله رماه يوم النهروان بصاعقة و إليها أشار ع بقوله فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة [ 184 ] قلبه و قال قوم شيطان الردهة أحد الأبالسة المردة من أعوان عدو الله إبليس و رووا في ذلك خبرا عن النبي ص و أنه كان يتعوذ منه و الردهة شبه نقرة في الجبل يجتمع فيها الماء و هذا مثل قوله ع هذا أزب العقبة أي شيطانها و لعل أزب العقبة هو شيطان الردهة بعينه فتارة يرد بهذا اللفظ و تارة يرد بذلك اللفظ و قال قوم شيطان الردهة مارد يتصور في صورة حية و يكون على الردهة و إنما أخذوا هذا من لفظة الشيطان لأن الشيطان الحية و منه قولهم شيطان الحماطة و الحماطة شجرة مخصوصة و يقال إنها كثيرة الحيات . قوله و يتشذر في أطراف الأرض يتمزق و يتبدد و منه قولهم ذهبوا شذر مذر . و البقية التي بقيت من أهل البغي معاوية و أصحابه لأنه ع لم يكن أتى عليهم بأجمعهم و إنما وقفت الحرب بينه و بينهم بمكيدة التحكيم . قوله ع و لئن أذن الله في الكرة عليهم أي إن مد لي في العمر لأديلن منهم أي لتكونن الدولة لي عليهم أدلت من فلان أي غلبته و قهرته و صرت ذا دولة عليه استدلال قاضي القضاة على إمامة أبي بكر و رد المرتضى عليه و اعلم أن أصحابنا قد استدلوا على صحة إمامة أبي بكر بقوله تعالى يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اَللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ [ 185 ] عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ثم قال قاضي القضاة في المعنى و هذا خبر من الله تعالى و لا بد أن يكون كائنا على ما أخبر به و الذين قاتلوا المرتدين هم أبو بكر و أصحابه فوجب أن يكونوا هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ و ذلك يوجب أن يكونوا على صواب . و اعترض المرتضى رحمه الله على هذا الاحتجاج في الشافي فقال من أين قلت إن الآية نزلت في أبي بكر و أصحابه فإن قال لأنهم الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله ص و لا أحد قاتلهم سواهم قيل له و من الذي سلم لك ذلك أ و ليس أمير المؤمنين ع قد قاتل الناكثين و القاسطين و المارقين بعد الرسول ص و هؤلاء عندنا مرتدون عن الدين و يشهد بصحة التأويل زائدا على احتمال القول له ما روي عن أمير المؤمنين ع من قوله يوم البصرة و الله ما قوتل أهل الآية حتى اليوم و تلاها و قد روي عن عمار و حذيفة و غيرهما مثل ذلك . فإن قال دليلي على أنها في أبي بكر و أصحابه قول أهل التفسير قيل له أ و كل أهل التفسير قال ذلك فإن قال نعم كابر لأنه قد روي عن جماعة التأويل الذي ذكرناه و لو لم يكن إلا ما روي عن أمير المؤمنين ع و وجوه أصحابه الذين ذكرناهم لكفى و إن قال حجتي قول بعض المفسرين قلنا و أي حجة في قول البعض و لم صار البعض الذي قال ما ذكرت أولى بالحق من البعض الذي قال ما ذكرنا . ثم يقال له قد وجدنا الله تعالى قد نعت المذكورين في الآية بنعوت يجب أن [ 186 ] تراعيها لنعلم أ في صاحبنا هي أم في صاحبك و قد جعله الرسول ص في خيبر حين فر من فر من القوم عن العدو صاحب هذه الأوصاف فقال لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله كرارا غير فرار فدفعها إلى أمير المؤمنين ع . ثم قوله تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكافِرِينَ يقتضي ما ذكرنا لأنه من المعلوم بلا خلاف حال أمير المؤمنين ع في التخاشع و التواضع و ذم نفسه و قمع غضبه و أنه ما رئي قط طائشا و لا متطيرا في حال من الأحوال و معلوم حال صاحبيكم في هذا الباب أما أحدهما فإنه اعترف طوعا بأن له شيطانا يعتريه عند غضبه و أما الآخر فكان معروفا بالجد و العجلة مشهورا بالفظاظة و الغلظة و أما العزة على الكافرين فإنما تكون بقتالهم و جهادهم و الانتقام منهم و هذه حال لم يسبق أمير المؤمنين ع إليها سابق و لا لحقه فيها لاحق . ثم قال تعالى يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ و هذا وصف أمير المؤمنين المستحق له بالإجماع و هو منتف عن أبي بكر و صاحبه إجماعا لأنه لا قتيل لهما في الإسلام و لا جهاد بين يدي الرسول ص و إذا كانت الأوصاف المراعاة في الآية حاصلة لأمير المؤمنين ع و غير حاصلة لمن ادعيتم لأنها فيهم على ضربين ضرب معلوم انتفاؤه كالجهاد و ضرب مختلف فيه كالأوصاف التي هي غير الجهاد و على من أثبتها لهم الدلالة على حصولها و لا بد أن يرجع في ذلك إلى غير ظاهر الآية لم يبق في يده من الآية دليل . هذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله و لقد كان يمكنه التخلص من الاحتجاج بالآية [ 187 ] على وجه ألطف و أحسن و أصح مما ذكره فيقول المراد بها من ارتد على عهد رسول الله ص في واقعة الأسود العنسي باليمن فإن كثيرا من المسلمين ضلوا به و ارتدوا عن الإسلام و ادعوا له النبوة و اعتقدوا صدقه و القوم الذين يحبهم الله و يحبونه القوم الذين كاتبهم رسول الله ص و أغراهم بقتله و الفتك به و هم فيروز الديلمي و أصحابه و القصة مشهورة و قد كان له أيضا أن يقول لم قلت إن الذين قاتلهم أبو بكر و أصحابه كانوا مرتدين فإن المرتد من ينكر دين الإسلام بعد أن كان قد تدين به و الذين منعوا الزكاة لم ينكروا أصل دين الإسلام و إنما تأولوا فأخطئوا لأنهم تأولوا قول الله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ فقالوا إنما ندفع زكاة أموالنا إلى من صلاته سكن لنا و لم يبق بعد وفاة النبي ص من هو بهذه الصفة فسقط عنا وجوب الزكاة ليس هذا من الردة في شي‏ء و إنما سماهم الصحابة أهل الردة على سبيل المجاز إعظاما لما قالوه و تأولوه . فإن قيل إنما الاعتماد على قتال أبي بكر و أصحابه لمسيلمة و طليحة اللذين ادعيا النبوة و ارتد بطريقهما كثير من العرب لا على قتال مانعي الزكاة قيل إن مسيلمة و طليحة جاهدهما رسول الله ص قبل موته بالكتب و الرسل و أنفذ لقتلهما جماعة من المسلمين و أمرهم أن يفتكوا بهما غيلة إن أمكنهم ذلك و استنفر عليهما قبائل من العرب و كل ذلك مفصل مذكور في كتب السيرة و التواريخ فلم لا يجوز أن يكون أولئك النفر الذين بعثهم رسول الله ص للفتك بهما هم المعنيون بقوله يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ إلى آخر الآية و لم يقل في الآية يجاهدون [ 188 ] فيقتلون و إنما ذكر الجهاد فقط و قد كان الجهاد من أولئك النفر حاصلا و إن لم يبلغوا الغرض كما كان الجهاد حاصلا عند حصار الطائف و إن لم يبلغ فيه الغرض . و قد كان له أيضا أن يقول سياق الآية لا يدل على ما ظنه المستدل بها من أنه من يرتدد عن الدين فإن الله يأتي بقوم يحبهم و يحبونه يحاربونه لأجل ردته و إنما الذي يدل عليه سياق الآية أنه من يرتد منكم عن دينه بترك الجهاد مع رسول الله ص و سماه ارتدادا على سبيل المجاز فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه يجاهدون في سبيل الله معه عوضا عنكم و كذلك كان كل من خذل النبي ص و قعد عن النهوض معه في حروبه أغناه الله تعالى عنه بطائفة أخرى من المسلمين جاهدوا بين يديه . و أما قول المرتضى رحمه الله إنها أنزلت في الناكثين و القاسطين و المارقين الذين حاربهم أمير المؤمنين ع فبعيد لأنهم لا يطلق عليهم لفظ الردة عندنا و لا عند المرتضى و أصحابه أما اللفظ فبالاتفاق و إن سموهم كفارا و أما المعنى فلأن في مذهبهم أن من ارتد و كان قد ولد على فطرة الإسلام بانت امرأته منه و قسم ماله بين ورثته و كان على زوجته عدة المتوفى عنها زوجها و معلوم أن أكثر محاربي أمير المؤمنين ع كانوا قد ولدوا في الإسلام و لم يحكم فيهم بهذه الأحكام . و قوله إن الصفات غير متحققة في صاحبكم فلعمري إن حظ أمير المؤمنين ع منها هو الحظ الأوفى و لكن الآية ما خصت الرئيس بالصفات المذكورة و إنما أطلقها على المجاهدين و هم الذين يباشرون الحرب فهب أن أبا بكر و عمر ما كانا بهذه الصفات لم لا يجوز أن يكون مدحا لمن جاهد بين أيديهما من المسلمين و باشر الحرب و هم شجعان المهاجرين و الأنصار الذين فتحوا الفتوح و نشروا الدعوة و ملكوا الأقاليم . [ 189 ] و قد استدل قاضي القضاة أيضا عن صحة إمامة أبي بكر و أسند هذا الاستدلال إلى شيخنا أبي علي بقوله تعالى سَيَقُولُ لَكَ اَلْمُخَلَّفُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ و قال تعالى فَإِنْ رَجَعَكَ اَللَّهُ إِلى‏ طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخالِفِينَ و قال تعالى سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ إِلى‏ مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اَللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اَللَّهُ مِنْ قَبْلُ يعني قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ثم قال سبحانه قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اَلْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اَللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً فبين أن الذي يدعو هؤلاء المخلفين من الأعراب إلى قتال قوم أولي بأس شديد غير النبي ص لأنه تعالى قد بين أنهم لا يخرجون معه و لا يقاتلون معه عدوا بآية متقدمة و لم يدعهم بعد النبي ص إلى قتال الكفار إلا أبو بكر و عمر و عثمان لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير وجهين من التأويل فقال بعضهم عنى بقوله سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ بني حنيفة و قال بعضهم عنى فارس و الروم و أبو بكر هو الذي دعا إلى قتال بني حنيفة و قتال آل فارس و الروم و دعاهم بعده إلى قتال فارس و الروم عمر فإذا كان الله تعالى قد بين أنهم بطاعتهم لهما يؤتهم أجرا حسنا و إن تولوا عن طاعتهما يعذبهم عذابا أليما صح أنهما على حق و أن طاعتهما طاعة لله تعالى و هذا يوجب صحة إمامتهما . [ 190 ] فإن قيل إنما أراد الله بذلك أهل الجمل و صفين قيل هذا فاسد من وجهين أحدهما قوله تعالى تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ و الذين حاربوا أمير المؤمنين كانوا على الإسلام و لم يقاتلوا على الكفر و الوجه الثاني أنا لا نعرف من الذين عناهم الله تعالى بهذا من بقي إلى أيام أمير المؤمنين ع كما علمنا أنهم كانوا باقين في أيام أبي بكر . اعترض المرتضى رحمه الله على هذا الكلام من وجهين أحدهما أنه نازع في اقتضاء الآية داعيا يدعو هؤلاء المخلفين غير النبي ص و ذلك لأن قوله تعالى سَيَقُولُ لَكَ اَلْمُخَلَّفُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اَللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اَللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ اَلرَّسُولُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ إِلى‏ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ اَلسَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً . إنما أراد به سبحانه الذين تخلفوا عن الحديبية بشهادة جميع أهل النقل و إطباق المفسرين . ثم قال تعالى سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ إِلى‏ مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اَللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اَللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً و إنما التمس هؤلاء المخلفون أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى من ذلك و أمر نبيه أن يقول لهم لن تتبعونا إلى هذه الغزاة لأن الله تعالى كان حكم من قبل بأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية و أنه لا حظ لمن لم يشهدها و هذا هو معنى قوله تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اَللَّهِ و قوله كَذلِكُمْ قالَ اَللَّهُ مِنْ قَبْلُ ثم قال تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ [ 191 ] مِنَ اَلْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ و إنما أراد أن الرسول سيدعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولي بأس شديد و قد دعاهم النبي ص بعد ذلك إلى غزوات كثيرة إلى قوم أولي بأس شديد كمؤتة و حنين و تبوك و غيرهما فمن أين يجب أن يكون الداعي لهؤلاء غير النبي ص مع ما ذكرناه من الحروب التي كانت بعد خيبر . و قوله إن معنى قوله تعالى كَذلِكُمْ قالَ اَللَّهُ مِنْ قَبْلُ إنما أراد به ما بينه في قوله فَإِنْ رَجَعَكَ اَللَّهُ إِلى‏ طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا بتبوك سنة تسع و آية الفتح نزلت في سنة ست فكيف يكون قبلها . و ليس يجب أن يقال في القرآن بالإرادة و بما يحتمل من الوجوه في كل موضع دون الرجوع إلى تاريخ نزول الآي و الأسباب التي وردت عليها و تعلقت بها . و مما يبين لك أن هؤلاء المخلفين غير أولئك لو لم نرجع في ذلك إلى نقل و تاريخ قوله تعالى في هؤلاء فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اَللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً فلم يقطع منهم على طاعة و لا معصية بل ذكر الوعد و الوعيد على ما يفعلونه من طاعة أو معصية و حكم المذكورين في آية سورة التوبة بخلاف هذه لأنه تعالى بعد قوله إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخالِفِينَ وَ لا تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى‏ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اَللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي اَلدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ و اختلاف أحكامهم و صفاتهم يدل [ 192 ] على اختلافهم و أن المذكورين في آية سورة الفتح غير المذكورين في آية سورة التوبة . و أما قوله لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير وجهين من التأويل فذكرهما باطل لأن أهل التأويل قد ذكروا شيئا آخر لم يذكره لأن المسيب روى عن أبي روق عن الضحاك في قوله تعالى سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ الآية قال هم ثقيف و روى هشيم عن أبي يسر سعيد بن جبير قال هم هوازن يوم حنين . و روى الواقدي عن معمر عن قتادة قال هم هوازن و ثقيف فكيف ذكر من أقوال المفسرين ما يوافقه مع اختلاف الرواية عنهم على أنا لا نرجع في كل ما يحتمله تأويل القرآن إلى أقوال المفسرين فإنهم ربما تركوا مما يحتمله القول وجها صحيحا و كم استخرج جماعة من أهل العدل في متشابه القرآن من الوجوه الصحيحة التي ظاهر التنزيل بها أشبه و لها أشد احتمالا مما لم يسبق إليه المفسرون و لا دخل في جملة تفسيرهم و تأويلهم . و الوجه الثاني سلم فيه أن الداعي هؤلاء المخلفين غير النبي ص و قال لا يمتنع أن يعنى بهذا الداعي أمير المؤمنين ع لأنه قاتل بعده الناكثين و القاسطين و المارقين و بشره النبي ص بأنه يقاتلهم و قد كانوا أولي بأس شديد بلا شبهة . قال فأما تعلق صاحب الكتاب بقوله أَوْ يُسْلِمُونَ و أن الذين حاربهم أمير المؤمنين ع كانوا مسلمين فأول ما فيه أنهم غير مسلمين عنده و عند أصحابه لأن الكبائر تخرج من الإسلام عندهم كما تخرج عن الإيمان إذ كان الإيمان هو الإسلام [ 193 ] على مذهبهم ثم إن مذهبنا في محاربي أمير المؤمنين ع معروف لأنهم عندنا كانوا كفارا بمحاربته لوجوه الأول منها أن من حاربه كان مستحلا لقتاله مظهرا أنه في ارتكابه على حق و نحن نعلم أن من أظهر استحلال شرب جرعة خمر هو كافر بالإجماع و استحلال دماء المؤمنين فضلا عن أفاضلهم و أكابرهم أعظم من شرب الخمر و استحلاله فيجب أن يكونوا من هذا الوجه كفارا . الثاني أنه ع قال له بلا خلاف بين أهل النقل حربك يا علي حربي و سلمك سلمي و نحن نعلم أنه لم يرد إلا التشبيه بينهما في الأحكام و من أحكام محاربي النبي ص الكفر بلا خلاف . الثالث أن النبي ص قال له بلا خلاف أيضا اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله و قد ثبت عندنا أن العداوة من الله لا تكون إلا للكفار الذين يعادونه دون فساق أهل الملة . الرابع قوله إنا لا نعلم ببقاء هؤلاء المخلفين إلى أيام أمير المؤمنين ع فليس بشي‏ء لأنه إذا لم يكن ذلك معلوما و مقطوعا عليه فهو مجوز و غير معلوم خلافه و الجواز كاف لنا في هذا الموضع . و لو قيل له من أين علمت بقاء المخلفين المذكورين في الآية على سبيل القطع إلى أيام أبي بكر لكان يفزع إلى أن يقول حكم الآية يقتضي بقاءهم حتى يتم كونهم مدعوين إلى قتال أولي البأس الشديد على وجه يلزمهم فيه الطاعة و هذا بعينه يمكن أن يقال له و يعتمد في بقائهم إلى أيام أمير المؤمنين ع على ما يوجبه حكم الآية . فإن قيل كيف يكون أهل الجمل و صفين كفارا و لم يسر أمير المؤمنين ع [ 194 ] فيهم بسيرة الكفار لأنه ما سباهم و لا غنم أموالهم و لا تبع موليهم قلنا أحكام الكفر تختلف و إن شملهم اسم الكفر لأن في الكفار من يقتل و لا يستبقى و فيهم من يؤخذ منه الجزية و لا يحل قتله إلا بسبب طارئ غير الكفر و منهم من لا يجوز نكاحه على مذهب أكثر المسلمين فعلى هذا يجوز أن يكون أكثر هؤلاء القوم كفارا و إن لم يسر فيهم بجميع سيرة أهل الكفر لأنا قد بينا اختلاف أحكام الكفار و يرجع في أن حكمهم مخالف لأحكام الكفار إلى فعله ع و سيرته فيهم على أنا لا نجد في الفساق من حكمه أن يقتل مقبلا و لا يقتل موليا و لا يجهز على جريحه إلى غير ذلك من الأحكام التي سيرها في أهل البصرة و صفين . فإذا قيل في جواب ذلك أحكام الفسق مختلفة و فعل أمير المؤمنين هو الحجة في أن حكم أهل البصرة و صفين ما فعله قلنا مثل ذلك حرفا بحرف و يمكن مع تسليم أن الداعي لهؤلاء المخلفين أبو بكر أن يقال ليس في الآية دلالة على مدح الداعي و لا على إمامته لأنه قد يجوز أن يدعو إلى الحق و الصواب من ليس عليهما فيلزم ذلك الفعل من حيث كان واجبا في نفسه لا لدعاء الداعي إليه و أبو بكر إنما دعا إلى دفع أهل الردة عن الإسلام و هذا يجب على المسلمين بلا دعاء داع و الطاعة فيه طاعة لله تعالى فمن أين له أن الداعي كان على حق و صواب و ليس في كون ما دعا إليه طاعة ما يدل على ذلك . و يمكن أيضا أن يكون قوله تعالى سَتُدْعَوْنَ إنما أراد به دعاء الله تعالى لهم بإيجاب القتال عليهم لأنه إذا دلهم على وجوب قتال المرتدين و رفعهم عن بيضة الإسلام فقد دعاهم إلى القتال و وجبت عليهم الطاعة و وجب لهم الثواب إن أطاعوا و هذا أيضا تحتمله الآية . [ 195 ] فهذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله في هذا الموضع و أكثره جيد لا اعتراض عليه و قد كان يمكنه أن يقول لو سلمنا بكل هذا لكان ليس في قوله لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً الآية ما يدل على أن النبي ص لا يكون هو الداعي لهم إلى القوم أولي البأس الشديد لأنه ليس فيها إلا محض الإخبار عنهم بأنهم لا يخرجون معه و لا يقاتلون العدو معه و ليس في هذا ما ينفي كونه داعيا لهم كما أنه ع قال أبو لهب لا يؤمن بي لم يكن هذا القول نافيا لكونه يدعوه إلى الإسلام . و قوله فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخالِفِينَ ليس بأمر على الحقيقة و إنما هو تهديد كقوله اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ و لا بد للمرتضى و لقاضي القضاة جميعا من أن يحملا صيغة افعل على هذا المحمل لأنه ليس لأحدهما بمسوغ أن يحمل الأمر على حقيقته لأن الشارع لا يأمر بالقعود و ترك الجهاد مع القدرة عليه و كونه قد تعين وجوبه . فإن قلت لو قدرنا أن هذه الآية و هي قوله تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اَلْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أنزلت بعد غزوة تبوك و بعد نزول سورة براءة التي تتضمن قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً و قدرنا أن قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ليس إخبارا محضا كما تأولته أنت و حملت الآية عليه بل معناه لا أخرجكم معي و لا أشهدكم حرب العدو هل كان يتم الاستدلال قلت لا لأن للإمامية أن تقول يجوز أن يكون الداعي إلى حرب القوم أولي البأس الشديد مع تسليم هذه المقدمات كلها هو رسول الله ص لأنه دعاهم إلى حرب الروم في سرية أسامة بن زيد في صفر من سنة إحدى عشرة لما سيره إلى البلقاء و قال له سر إلى الروم مقتل أبيك فأوطئهم الخيول و حشد معه أكثر المسلمين فهذا الجيش قد دعي فيه المخلفون من الأعراب الذين قعدوا عن الجهاد [ 196 ] في غزاة تبوك إلى قوم أولي بأس شديد و لم يخرجوا مع رسول الله ص و لا حاربوا معه عدوا . فإن قلت إذا خرجوا مع أسامة فكأنما خرجوا مع رسول الله و إذا حاربوا مع أسامة العدو فكأنما حاربوا مع رسول الله ص و قد كان سبق أنهم لا يخرجون مع رسول الله ص و لا يحاربون معه عدوا قلت و إذا خرجوا مع خالد بن الوليد و غيره في أيام أبي بكر و مع أبي عبيدة و سعد في أيام عمر فكأنما خرجوا مع رسول الله ص و حاربوا العدو معه أيضا . فإن اعتذرت بأنه و إن شابه الخروج معه و الحرب معه إلا أنه على الحقيقة ليس معه و إنما هو مع امرئ من قبل خلفائه قيل لك و كذلك خروجهم مع أسامة و محاربة العدو معه و إن شابه الخروج مع النبي و محاربة العدو معه إلا أنه على الحقيقة ليس معه و إنما هو مع بعض أمرائه . و يمكن أن يعترض الاستدلال بالآية فيقال لا يجوز حملها على بني حنيفة لأنهم كانوا مسلمين و إنما منعوا الزكاة مع قولهم لا إله إلا الله محمد رسول الله ص و منع الزكاة لا يخرج به الإنسان عن الإسلام عند المرجئة و الإمامية مرجئة و لا يجوز حملها على فارس و الروم لأنه تعالى أخبر أنه لا واسطة بين قتالهم و إسلامهم كما تقول إما كذا و إما كذا فيقتضي ذلك نفي الواسطة و قتال فارس و الروم بينه و بين إسلامهم واسطة و هو دفع الجزية و إنما تنتفي هذه الواسطة في قتال العرب لأن مشركي العرب لا تؤخذ منهم الجزية فالآية إذن دالة على أن المخلفين سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد الحكم فيهم إما قتالهم و إما إسلامهم و هؤلاء هم مشركو العرب و لم يحارب مشركي العرب إلا رسول الله ص فالداعي لهم إذا هو رسول الله و بطل الاستدلال بالآية [ 197 ] أَنَا وَضَعْتُ فِي اَلصِّغَرِ بِكَلاَكِلِ اَلْعَرَبِ وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اَللَّهِ ص بِالْقَرَابَةِ اَلْقَرِيبَةِ وَ اَلْمَنْزِلَةِ اَلْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حَجْرِهِ حِجْرِهِ وَ أَنَا وَلَدٌ وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ وَ كَانَ يَمْضَغُ اَلشَّيْ‏ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لاَ خَطْلَةً فِي فِعْلٍ وَ لَقَدْ قَرَنَ اَللَّهُ بِهِ ص مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ اَلْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلاَقِ اَلْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اِتِّبَاعَ اَلْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلاَقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالاِقْتِدَاءِ بِهِ وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَ لاَ يَرَاهُ غَيْرِي وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي اَلْإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اَللَّهِ ص وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ اَلْوَحْيِ وَ اَلرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ اَلنُّبُوَّةِ وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ اَلشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ اَلْوَحْيُ عَلَيْهِ ص فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ مَا هَذِهِ اَلرَّنَّةُ فَقَالَ هَذَا اَلشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ الباء في قوله بكلاكل العرب زائدة و الكلاكل الصدور الواحد كلكل و المعنى أني أذللتهم و صرعتهم إلى الأرض . [ 198 ] و نواجم قرون ربيعة و مضر من نجم منهم و ظهر و علا قدره و طار صيته . فإن قلت أما قهره لمضر فمعلوم فما حال ربيعة و لم نعرف أنه قتل منهم أحدا قلت بلى قد قتل بيده و بجيشه كثيرا من رؤسائهم في صفين و الجمل فقد تقدم ذكر أسمائهم من قبل و هذه الخطبة خطب بها بعد انقضاء أمر النهروان . و العرف بالفتح الريح الطيبة و مضغ الشي‏ء يمضغه بفتح الضاد . و الخطلة في الفعل الخطأ فيه و إيقاعه على غير وجهه . و حراء اسم جبل بمكة معروف . و الرنة الصوت ذكر ما كان من صلة علي برسول الله في صغره و القرابة القريبة بينه و بين رسول الله ص دون غيره من الأعمام كونه رباه في حجره ثم حامى عنه و نصره عند إظهار الدعوة دون غيره من بني هاشم ثم ما كان بينهما من المصاهرة التي أفضت إلى النسل الأطهر دون غيره من الأصهار و نحن نذكر ما ذكره أرباب السير من معاني هذا الفصل . روى الطبري في تاريخه قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق قال حدثني عبد الله بن نجيح عن مجاهد قال كان من نعمة الله عز و جل على علي بن أبي طالب ع و ما صنع الله له و أراده به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة و كان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله ص للعباس و كان من أيسر بني هاشم يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال و قد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله آخذ من بيته واحدا و تأخذ واحدا [ 199 ] فنكفيهما عنه فقال العباس نعم فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما إن تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله ص عليا فضمه إليه و أخذ العباس جعفرا رضي الله عنه فضمه إليه فلم يزل علي بن أبي طالب ع مع رسول الله ص حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي ع فأقر به و صدقه و لم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم و استغنى عنه . قال الطبري و حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثنا محمد بن إسحاق قال كان رسول الله ص إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة و خرج معه علي بن أبي طالب ع مستخفيا من عمه أبي طالب و من جميع أعمامه و سائر قومه فيصليان الصلوات فيها فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا . ثم إن أبا طالب عثر عليهما و هما يصليان فقال لرسول الله ص يا ابن أخي ما هذا الذي أراك تدين به قال يا عم هذا دين الله و دين ملائكته و دين رسله و دين أبينا إبراهيم أو كما قال بعثني الله به رسولا إلى العباد و أنت يا عم أحق من بذلت له النصيحة و دعوته إلى الهدى و أحق من أجابني إليه و أعانني عليه أو كما قال فقال أبو طالب يا ابن أخي إني لا أستطيع أن أفارق ديني و دين آبائي و ما كانوا عليه و لكن و الله لا يخلص إليك شي‏ء تكرهه ما بقيت . قال الطبري و قد روى هؤلاء المذكورون أن أبا طالب قال لعلي ع يا بني ما هذا الذي أنت عليه فقال يا أبت إني آمنت بالله و برسوله و صدقته بما [ 200 ] جاء به و صليت لله معه قال فزعموا أنه قال له أما إنه لا يدعو إلا إلى خير فالزمه . و روى الطبري في تاريخه أيضا قال حدثنا أحمد بن الحسين الترمذي قال حدثنا عبد الله بن موسى قال أخبرنا العلاء عن المنهال بن عمر و عن عبد الله بن عبد الله قال سمعت عليا ع يقول أنا عبد الله و أخو رسوله و أنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر صليت قبل الناس بسبع سنين . و في غير رواية الطبري أنا الصديق الأكبر و أنا الفاروق الأول أسلمت قبل إسلام أبي بكر و صليت قبل صلاته بسبع سنين كأنه ع لم يرتض أن يذكر عمر و لا رآه أهلا للمقايسة بينه و بينه و ذلك لأن إسلام عمر كان متأخرا . و روى الفضل بن عباس رحمه الله قال سألت أبي عن ولد رسول الله ص الذكور أيهم كان رسول الله ص له أشد حبا فقال علي بن أبي طالب ع فقلت له سألتك عن بنيه فقال إنه كان أحب إليه من بنيه جميعا و أرأف ما رأيناه زايله يوما من الدهر منذ كان طفلا إلا أن يكون في سفر لخديجة و ما رأينا أبا أبر بابن منه لعلي و لا ابنا أطوع لأب من علي له . و روى الحسين بن زيد بن علي بن الحسين ع قال سمعت زيدا أبي ع يقول كان رسول الله يمضغ اللحمة و التمرة حتى تلين و يجعلهما في فم علي ع و هو صغير في حجره و كذلك كان أبي علي بن الحسين ع يفعل بي و لقد كان يأخذ الشي‏ء من الورك و هو شديد الحرارة فيبرده في الهواء أو ينفخ عليه حتى يبرد ثم يلقمنيه أ فيشفق علي من حرارة لقمة و لا يشفق علي من النار لو كان أخي إماما بالوصية كما يزعم هؤلاء لكان أبي أفضى بذلك إلي و وقاني من حر جهنم . [ 201 ] و روى جبير بن مطعم قال قال أبي مطعم بن عدي لنا و نحن صبيان بمكة أ لا ترون حب هذا الغلام يعني عليا لمحمد و اتباعه له دون أبيه و اللات و العزى لوددت أن ابني بفتيان بني نوفل جميعا . و روى سعيد بن جبير قال سألت أنس بن مالك فقلت أ رأيت قول عمر عن الستة إن رسول الله ص مات و هو عنهم راض أ لم يكن راضيا عن غيرهم من أصحابه فقال بلى مات رسول الله ص و هو راض عن كثير من المسلمين و لكن كان عن هؤلاء أكثر رضا فقلت له فأي الصحابة كان رسول الله ص له أحمد أو كما قال قال ما فيهم أحد إلا و قد سخط منه فعلا و أنكر عليه أمرا إلا اثنان علي بن أبي طالب و أبو بكر بن أبي قحافة فإنهما لم يقترفا منذ أتى الله بالإسلام أمرا أسخطا فيه رسول الله ص ذكر حال رسول الله في نشوئه و ينبغي أن نذكر الآن ما ورد في شأن رسول الله ص و عصمته بالملائكة ليكون ذلك تقريرا و إيضاحا لقوله ع و لقد قرن الله به من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته و أن نذكر حديث مجاورته ع بحراء و كون علي ع معه هناك و أن نذكر ما ورد في أنه لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله ص و عليا و خديجة و أن نذكر ما ورد في سماعه رنة الشيطان و أن نذكر ما ورد في كونه ع وزيرا للمصطفى ص أما المقام الأول فروى محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة النبوية و رواه أيضا محمد بن جرير الطبري في تاريخه قال كانت حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية [ 202 ] أم رسول الله ص التي أرضعته تحدث أنها خرجت من بلدها و معها زوجها و ابن لها ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن الرضاع بمكة في سنة شهباء لم تبق شيئا قالت فخرجت على أتان لنا قمراء عجفاء و معنا شارف لنا ما تبض بقطرة و لا ننام ليلنا أجمع من بكاء صبينا الذي معنا من الجوع ما في ثديي ما يغنيه و لا في شارفنا ما يغديه و لكنا نرجو الغيث و الفرج فخرجت على أتاني تلك و لقد أراثت بالركب ضعفا و عجفا حتى شق ذلك عليهم حتى قدمنا مكة نلتمس الرضاع فما منا امرأة إلا و قد عرض عليها محمد ص فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم و ذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم ما عسى أن تصنع أمه و جده فكنا نكرهه لذلك فما بقيت امرأة ذهبت معي إلا أخذت رضيعا غيري فلما اجتمعنا للانطلاق قلت لصاحبي و الله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي لم آخذ رضيعا و الله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه قال لا عليك أن تفعلي و عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة فذهبت إليه فأخذته و ما يحملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره قالت فلما أخذته رجعت إلى رحلي فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فرضع حتى روي و شرب معه أخوه حتى روي و ما كنا ننام قبل ذلك من بكاء صبينا جوعا فنام و قام زوجي إلى شارفنا تلك فنظر إليها فإذا أنها حافل فحلب منها ما شرب و شربت حتى انتهينا ريا و شبعا فبتنا بخير ليلة قالت يقول [ 203 ] صاحبي حين أصبحنا أ تعلمين و الله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة فقلت و الله إني لأرجو ذلك ثم خرجنا و ركبت أتاني تلك و حملته معي عليها فو الله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شي‏ء من حميرهم حتى إن صواحبي ليقلن لي ويحك يا بنت أبي ذؤيب اربعي علينا أ ليس هذه أتانك التي كنت خرجت عليها فأقول لهن بلى و الله إنها لهي فيقلن و الله إن لها لشأنا . قالت ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد و ما أعلم أرضا من أرض العرب أجدب منها فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعا ملأى لبنا فكنا نحتلب و نشرب و ما يحلب إنسان قطرة لبن و لا يجدها في ضرع حتى إن الحاضر من قومنا ليقولون لرعاتهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي ابنة أبي ذؤيب فيفعلون فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة و تروح غنمي شباعا لبنا فلم نزل نعرف من الله الزيادة و الخير به حتى مضت سنتاه و فصلته فكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا فقدمنا به على أمه آمنة بنت وهب و نحن أحرص شي‏ء على مكثه فينا لما كنا نرى من بركته فكلمنا أمه و قلنا لها لو تركته عندنا حتى يغلظ فإنا نخشى عليه وباء مكة فلم نزل بها حتى ردته معنا . فرجعنا به إلى بلاد بني سعد فو الله إنه لبعد ما قدمنا بأشهر مع أخيه في بهم لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتد فقال لي و لأبيه ها هو ذاك أخي القرشي قد جاءه [ 204 ] رجلان عليهما ثياب بياض فأضجعاه و شقا بطنه فهما يسوطانه قالت فخرجت أنا و أبوه نشتد نحوه فوجدناه قائما ممتقعا وجهه فالتزمته و التزمه أبوه و قلنا ما لك يا بني قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني ثم شقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو قالت فرجعنا به إلى خبائنا و قال لي أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قالت فاحتملته حتى قدمت به على أمه فقالت ما أقدمك به يا ظئر و قد كنت حريصة عليه و على مكثه عندك فقلت لها قد بلغ الله بابني و قضيت الذي علي و تخوفت عليه الأحداث و أديته إليك كما تحبين قالت أ تخوفت عليه الشيطان قلت نعم قالت كلا و الله ما للشيطان عليه من سبيل و إن لابني شأنا أ فلا أخبرك خبره قلت بلى قالت رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاءت له قصور بصرى من الشام ثم حملت به فو الله ما رأيت حملا قط كان أخف و لا أيسر منه ثم وقع حين ولدته و إنه لواضع يديه بالأرض و رافع رأسه إلى السماء دعيه عنك و انطلقي راشدة . قال و روى الطبري في تاريخه عن شداد بن أوس قال سمعت رسول الله ص يحدث عن نفسه و يذكر ما جرى له و هو طفل في أرض بني سعد بن بكر قال لما ولدت استرضعت في بني سعد فبينا أنا ذات يوم منتبذ من [ 205 ] أهلي في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان نتقاذف بالجلة إذا أتاني رهط ثلاثة معهم طشت من ذهب مملوءة ثلجا فأخذوني من بين أصحابي فخرج أصحابي هرابا حتى انتهوا إلى شفير الوادي ثم عادوا إلى الرهط فقالوا ما أربكم إلى هذا الغلام فإنه ليس منا هذا ابن سيد قريش و هو مسترضع فينا غلام يتيم ليس له أب فما ذا يرد عليكم قتله و ما ذا تصيبون من ذلك و لكن إن كنتم لا بد قاتليه فاختاروا منا أينا شئتم فاقتلوه مكانه و دعوا هذا الغلام فإنه يتيم . فلما رأى الصبيان أن القوم لا يحيرون لهم جوابا انطلقوا هرابا مسرعين إلى الحي يؤذنونهم و يستصرخونهم على القوم فعمد أحدهم فأضجعني إضجاعا لطيفا ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي و أنا أنظر إليه فلم أجد لذلك حسا ثم أخرج بطني فغسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها ثم أعادها مكانها ثم قام الثاني منهم فقال لصاحبه تنح فنحاه عني ثم أدخل يده في جوفي و أخرج قلبي و أنا أنظر إليه فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرماها ثم قال بيده يمنة منه و كأنه يتناول شيئا فإذا في يده خاتم من نور تحار أبصار الناظرين دونه فختم به قلبي ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرا ثم قال الثالث لصاحبه تنح عنه فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشق ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضا لطيفا و قال للأول الذي شق بطني زنه بعشرة من أمته فوزنني بهم فرجحتهم فقال دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم ثم ضموني إلى صدرهم و قبلوا رأسي و ما بين عيني و قالوا يا حبيب الله لا ترع إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك فبينا أنا كذلك إذا أنا بالحي قد جاءوا بحذافيرهم و إذا أمي و هي [ 206 ] ظئري أمام الحي تهتف بأعلى صوتها و تقول يا ضعيفاه فانكب علي أولئك الرهط فقبلوا رأسي و ما بين عيني و قالوا حبذا أنت من ضعيف ثم قالت ظئري يا وحيداه فانكبوا علي و ضموني إلى صدورهم و قبلوا رأسي و ما بين عيني ثم قالوا حبذا أنت من وحيد و ما أنت بوحيد إن الله و ملائكته معك و المؤمنين من أهل الأرض ثم قالت ظئري يا يتيماه استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك فانكبوا علي و ضموني إلى صدورهم و قبلوا رأسي و ما بين عيني و قالوا حبذا أنت من يتيم ما أكرمك على الله لو تعلم ما يراد بك من الخير قال فوصل الحي إلى شفير الوادي فلما بصرت بي أمي و هي ظئري نادت يا بني أ لا أراك حيا بعد فجاءت حتى انكبت علي و ضمتني إلى صدرها فو الذي نفسي بيده إني لفي حجرها قد ضمتني إليها و إن يدي لفي يد بعضهم فجعلت ألتفت إليهم و ظننت أن القوم يبصرونهم فإذا هم لا يبصرونهم فيقول بعض القوم إن هذا الغلام قد أصابه لمم أو طائف من الجن فانطلقوا به إلى كاهن بني فلان حتى ينظر إليه و يداويه فقلت ما بي شي‏ء مما يذكرون نفسي سليمة و إن فؤادي صحيح ليست بي قلبة فقال أبي و هو زوج ظئري أ لا ترون كلامه صحيحا إني لأرجو ألا يكون على ابني بأس . فاتفق القوم على أن يذهبوا إلى الكاهن بي فاحتملوني حتى ذهبوا بي إليه فقصوا عليه قصتي فقال اسكتوا حتى أسمع من الغلام فهو أعلم بأمره منكم فسألني فقصصت عليه أمري و أنا يومئذ ابن خمس سنين فلما سمع قولي وثب و قال يا للعرب اقتلوا هذا الغلام فهو و اللات و العزى لئن عاش ليبدلن دينكم و ليخالفن أمركم و ليأتينكم بما لم تسمعوا به قط فانتزعتني ظئري من حجره و قالت لو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به [ 207 ] ثم احتملوني فأصبحت و قد صار في جسدي أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي كأنه الشراك و روي أن بعض أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الباقر ع سأله عن قول الله عز و جل إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً فقال ع يوكل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم و يؤدون إليه تبليغهم الرسالة و وكل بمحمد ص ملكا عظيما منذ فصل عن الرضاع يرشده إلى الخيرات و مكارم الأخلاق و يصده عن الشر و مساوئ الأخلاق و هو الذي كان يناديه السلام عليك يا محمد يا رسول الله و هو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد فيظن أن ذلك من الحجر و الأرض فيتأمل فلا يرى شيئا و روى الطبري في التاريخ عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي ع قال سمعت رسول الله ص يقول ما هممت بشي‏ء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله تعالى بيني و بين ما أريد من ذلك ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب فخرجت أريد ذلك حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالدف و المزامير فقلت ما هذا قالوا هذا فلان تزوج ابنة فلان فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال ما فعلت فقلت ما صنعت شيئا ثم أخبرته الخبر ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك فقال أفعل فخرجت فسمعت حين دخلت مكة مثل ما سمعت حين دخلتها تلك الليلة فجلست [ 208 ] أنظر فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر ثم ما هممت بعدها بسوء حتى أكرمني الله برسالته و روى محمد بن حبيب في أماليه قال قال رسول الله ص أذكر و أنا غلام ابن سبع سنين و قد بنى ابن جدعان دارا له بمكة فجئت مع الغلمان نأخذ التراب و المدر في حجورنا فننقله فملأت حجري ترابا فانكشفت عورتي فسمعت نداء من فوق رأسي يا محمد أرخ إزارك فجعلت أرفع رأسي فلا أرى شيئا إلا أني أسمع الصوت فتماسكت و لم أرخه فكأن إنسانا ضربني على ظهري فخررت لوجهي و انحل إزاري فسترني و سقط التراب إلى الأرض فقمت إلى دار أبي طالب عمي و لم أعد . و أما حديث مجاورته ع بحراء فمشهور و قد ورد في الكتب الصحاح أنه كان يجاور في حراء من كل سنة شهرا و كان يطعم في ذلك الشهر من جاءه من المساكين فإذا قضى جواره من حراء كان أول ما يبدأ به إذا انصرف أن يأتي باب الكعبة قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك ثم يرجع إلى بيته حتى جاءت السنة التي أكرمه الله فيها بالرسالة فجاور في حراء شهر رمضان و معه أهله خديجة و علي بن أبي طالب و خادم لهم فجاءه جبريل بالرسالة و قال ع جاءني و أنا نائم بنمط فيه كتاب فقال اقرأ قلت ما أقرأ فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ إلى قوله عَلَّمَ اَلْإِنْسانَ [ 209 ] ما لَمْ يَعْلَمْ فقرأته ثم انصرف عني فانتبهت من نومي و كأنما كتب في قلبي كتاب و ذكر تمام الحديث . و أما حديث أن الإسلام لم يجتمع عليه بيت واحد يومئذ إلا النبي و هو ع و خديجة فخبر عفيف الكندي مشهور و قد ذكرناه من قبل و أن أبا طالب قال له أ تدري من هذا قال لا قال هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب و هذا ابني علي بن أبي طالب و هذه المرأة خلفهما خديجة بنت خويلد زوجة محمد ابن أخي و ايم الله ما أعلم على الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة . و أما رنة الشيطان فروى أبو عبد الله أحمد بن حنبل في مسنده عن علي بن أبي طالب ع قال كنت مع رسول الله ص صبيحة الليلة التي أسري به فيها و هو بالحجر يصلي فلما قضى صلاته و قضيت صلاتي سمعت رنة شديدة فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة قال أ لا تعلم هذه رنة الشيطان علم أني أسري بي الليلة إلى السماء فأيس من أن يعبد في هذه الأرض . و قد روي عن النبي ص ما يشابه هذا لما بايعه الأنصار السبعون ليلة العقبة سمع من العقبة صوت عال في جوف الليل يا أهل مكة هذا مذمم و الصباة معه قد أجمعوا على حربكم فقال رسول الله ص للأنصار أ لا تسمعون ما يقول هذا أزب العقبة يعني شيطانها و قد روي أزبب العقبة ثم التفت إليه فقال استمع يا عدو الله أما و الله لأفرغن لك [ 210 ] و روي عن جعفر بن محمد الصادق ع قال كان علي ع يرى مع رسول الله ص قبل الرسالة الضوء و يسمع الصوت و قال له ص لو لا أني خاتم الأنبياء لكنت شريكا في النبوة فإن لا تكن نبيا فإنك وصي نبي و وارثه بل أنت سيد الأوصياء و إمام الأتقياء و أما خبر الوزارة فقد ذكره الطبري في تاريخه عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب ع قال لما أنزلت هذه الآية وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ على رسول الله ص دعاني فقال يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين فضقت بذلك ذرعا و علمت أني متى أنادهم بهذا الأمر أر منهم ما أكره فصمت حتى جاءني جبريل ع فقال يا محمد إنك إن لم تفعل ما أمرت به يعذبك ربك فاصنع لنا صاعا من طعام و اجعل عليه رجل شاة و املأ لنا عسا من لبن ثم اجمع بني عبد المطلب حتى أكلمهم و أبلغهم ما أمرت به ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم و هم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه و فيهم أعمامه أبو طالب و حمزة و العباس و أبو لهب فلما اجتمعوا إليه دعا بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به فلما وضعته تناول رسول الله ص بضعة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال كلوا باسم الله فأكلوا حتى ما لهم إلى شي‏ء من حاجة و ايم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمته لجميعهم ثم قال اسق القوم يا علي فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعا و ايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله فلما أراد رسول الله ص أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال لشد ما سحركم صاحبكم فتفرق القوم و لم يكلمهم رسول الله ص فقال من الغد يا علي إن هذا الرجل قد سبقني [ 211 ] إلى ما سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم فعد لنا اليوم إلى مثل ما صنعت بالأمس ثم اجمعهم لي ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتى ما لهم بشي‏ء حاجة ثم قال اسقهم فجئتهم بذلك العس فشربوا منه جميعا حتى رووا ثم تكلم رسول الله ص فقال يا بني عبد المطلب إني و الله ما أعلم أن شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة و قد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيي و خليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعا و قلت أنا و إني لأحدثهم سنا و أرمصهم عينا و أعظمهم بطنا و أحمشهم ساقا أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه فأعاد القول فأمسكوا و أعدت ما قلت فأخذ برقبتي ثم قال لهم هذا أخي و وصيي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و أطيعوا فقام القوم يضحكون و يقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك و تطيع . و يدل على أنه وزير رسول الله ص من نص الكتاب و السنة قول الله تعالى وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي و قال النبي ص في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الإسلام أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي فأثبت له جميع مراتب هارون عن موسى فإذن هو وزير رسول الله ص و شاد أزره و لو لا أنه خاتم النبيين لكان شريكا في أمره . [ 212 ] و روى أبو جعفر الطبري أيضا في التاريخ أن رجلا قال لعلي ع يا أمير المؤمنين بم ورثت ابن عمك دون عمك فقال علي ع هاؤم ثلاث مرات حتى اشرأب الناس و نشروا آذانهم ثم قال جمع رسول الله ص بني عبد المطلب بمكة و هم رهطه كلهم يأكل الجذعة و يشرب الفرق فصنع مدا من طعام حتى أكلوا و شبعوا و بقي الطعام كما هو كأنه لم يمس ثم دعا بغمر فشربوا و رووا و بقي الشراب كأنه لم يشرب ثم قال يا بني عبد المطلب إني بعثت إليكم خاصة و إلى الناس عامة فأيكم يبايعني على أن يكون أخي و صاحبي و وارثي فلم يقم إليه أحد فقمت إليه و كنت من أصغر القوم فقال اجلس ثم قال ذلك ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول اجلس حتى كان في الثالثة فضرب بيده على يدي فعند ذلك ورثت ابن عمي دون عمي : وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ص لَمَّا أَتَاهُ اَلْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ اِدَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لاَ أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ أَرَيْتَنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ فَقَالَ ص وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا تَدْعُو لَنَا هَذِهِ اَلشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ ص إِنَّ اَللَّهَ عَلَى كُلِّ [ 213 ] شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ فَإِنْ فَعَلَ اَللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ وَ أَنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي اَلْقَلِيبِ وَ مَنْ يُحَزِّبُ اَلْأَحْزَابَ ثُمَّ قَالَ ص يَا أَيَّتُهَا اَلشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلآْخِرِ وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اَللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ اَلَّذِي فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لاَنْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ اَلطَّيْرِ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اَللَّهِ ص مُرَفْرِفَةً وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا اَلْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ ص وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ص فَلَمَّا نَظَرَ اَلْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اِسْتِكْبَاراً فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اَللَّهِ ص فَقَالُوا كُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا اَلنِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ فَأَمَرَهُ ص فَرَجَعَ فَقُلْتُ أَنَا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ اَلشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اَللَّهِ تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلاَلاً لِكَلِمَتِكَ فَقَالَ اَلْقَوْمُ كُلُّهُمْ بَلْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ عَجِيبُ اَلسِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلاَّ مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لاَ تَأْخُذُهُمْ فِي اَللَّهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ سِيمَاهُمْ سِيمَا اَلصِّدِّيقِينَ وَ كَلاَمُهُمْ كَلاَمُ اَلْأَبْرَارِ عُمَّارُ اَللَّيْلِ وَ مَنَارُ اَلنَّهَارِ مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ اَلْقُرْآنِ يُحْيُونَ سُنَنَ اَللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَ لاَ يَعْلُونَ وَ لاَ يَغُلُّونَ وَ لاَ يُفْسِدُونَ قُلُوبُهُمْ فِي اَلْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِي اَلْعَمَلِ [ 214 ] الملأ الجماعة و لا تفيئون لا ترجعون و من يطرح في القليب كعتبة و شيبة ابني ربيعة بن عبد شمس و عمرو بن هشام بن المغيرة المكنى أبا جهل و غيرهم طرحوا في قليب بدر بعد انقضاء الحرب و من يحزب الأحزاب أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية . و القصف و القصيف الصوت و سيماهم علامتهم و مثله سيمياء . و معنى قوله ع قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل أن قلوبهم ملتذة بمعرفة الله تعالى و أجسادهم نصبة بالعبادة . و أما أمر الشجرة التي دعاها رسول الله ص فالحديث الوارد فيها كثير مستفيض قد ذكره المحدثون في كتبهم و ذكره المتكلمون في معجزات الرسول ص و الأكثرون رووا الخبر فيها على الوضع الذي جاء في خطبة أمير المؤمنين و منهم من يروي ذلك مختصرا أنه دعا شجرة فأقبلت تخد إليه الأرض خدا . و قد ذكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة حديث الشجرة و رواه أيضا محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة و المغازي على وجه آخر قال محمد بن إسحاق كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف أشد قريش كلها فخلا يوما برسول الله ص في بعض شعاب مكة فقال له رسول الله ص يا ركانة أ لا تتقي الله و تقبل ما أدعوك إليه قال لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك قال أ فرأيت إن صرعتك أ تعلم أن ما أقول لك حق قال نعم قال فقم حتى أصارعك فقام ركانة فلما بطش به رسول الله ص أضجعه لا يملك من نفسه شيئا فقال عد يا محمد فعاد فصرعه فقال يا محمد إن هذا لعجب حين تصرعني فقال رسول الله ص و أعجب من ذلك إن شئت أريتكه إن اتقيت الله و اتبعت أمري [ 215 ] قال ما هو قال أدعو لك هذه الشجرة التي تراها فتأتي قال فادعها فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله ص ثم قال ارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها فرجع ركانة إلى قومه و قال يا بني عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فما رأيت أسحر منه قط ثم أخبرهم بالذي رأى و الذي صنع القول في إسلام أبي بكر و علي و خصائص كل منهما و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع ملخص ما ذكره الشيخ أبو عثمان الجاحظ في كتابه المعروف بكتاب العثمانية في تفضيل إسلام أبي بكر على إسلام علي ع لأن هذا الموضع يقتضيه لقوله ع حكاية عن قريش لما صدق رسول الله ص و هل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا لأنهم استصغروا سنه فاستحقروا أمر محمد رسول الله ص حيث لم يصدقه في دعواه إلا غلام صغير السن و شبهة العثمانية التي قررها الجاحظ من هذه الشبهة نشأت و من هذه الكلمة تفرعت لأن خلاصتها أن أبا بكر أسلم و هو ابن أربعين سنة و علي أسلم و لم يبلغ الحلم فكان إسلام أبي بكر أفضل . ثم نذكر ما اعترض به شيخنا أبو جعفر الإسكافي على الجاحظ في كتابه المعروف بنقض العثمانية و يتشعب الكلام بينهما حتى يخرج عن البحث في الإسلامين إلى البحث في أفضلية الرجلين و خصائصهما فإن ذلك لا يخلو عن فائدة جليلة و نكتة [ 216 ] لطيفة لا يليق أن يخلو كتابنا هذا عنها و لأن كلامهما بالرسائل و الخطابة أشبه و في الكتابة أقصد و أدخل و كتابنا هذا موضوع لذكر ذلك و أمثاله . قال أبو عثمان قالت العثمانية أفضل الأمة و أولاها بالإمامة أبو بكر بن أبي قحافة لإسلامه على الوجه الذي لم يسلم عليه أحد في عصره و ذلك أن الناس اختلفوا في أول الناس إسلاما فقال قوم أبو بكر و قال قوم زيد بن حارثة و قال قوم خباب بن الأرت . و إذا تفقدنا أخبارهم و أحصينا أحاديثهم و عددنا رجالهم و نظرنا في صحة أسانيدهم كان الخبر في تقدم إسلام أبي بكر أعم و رجاله أكثر و أسانيده أصح و هو بذاك أشهر و اللفظ فيه أظهر مع الأشعار الصحيحة و الأخبار المستفيضة في حياة رسول الله ص و بعد وفاته و ليس بين الأشعار و الأخبار فرق إذا امتنع في مجيئها و أصل مخرجها التباعد و الاتفاق و التواطؤ و لكن ندع هذا المذهب جانبا و نضرب عنه صفحا اقتدارا على الحجة و وثوقا بالفلج و القوة و نقتصر على أدنى نازل في أبي بكر و ننزل على حكم الخصم فنقول إنا وجدنا من يزعم أنه أسلم قبل زيد و خباب و وجدنا من يزعم أنهما أسلما قبله و أوسط الأمور أعدلها و أقربها من محبة الجميع و رضا المخالف أن نجعل إسلامهم كان معا إذ الأخبار متكافئة و الآثار متساوية على ما تزعمون و ليست إحدى القضيتين أولى في صحة العقل من الأخرى ثم نستدل على إمامه أبي بكر بما ورد فيه من الحديث و بما أبانه به الرسول ص من غيره . قالوا فمما روي من تقدم إسلامه ما حدث به أبو داود و ابن مهدي عن شعبة و ابن عيينة عن الجريري عن أبي هريرة قال أبو بكر أنا أحقكم بهذا الأمر يعني الخلافة أ لست أول من صلى . [ 217 ] روى عباد بن صهيب عن يحيى بن عمير عن محمد بن المنكدر أن رسول الله ص قال إن الله بعثني بالهدى و دين الحق إلى الناس كافة فقالوا كذبت و قال أبو بكر صدقت . و روى يعلى بن عبيد قال جاء رجل إلى ابن عباس فسأله من كان أول الناس إسلاما فقال أ ما سمعت قول حسان بن ثابت إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا الثاني التالي المحمود مشهده و أول الناس منهم صدق الرسلا و قال أبو محجن سبقت إلى الإسلام و الله شاهد و كنت حبيبا بالعريش المشهر و قال كعب بن مالك سبقت أخا تيم إلى دين أحمد و كنت لدى الغيران في الكهف صاحبا و روى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن إدريس و وكيع عن شعبة عن عمرو بن مرة قال قال النخعي أبو بكر أول من أسلم . و روى هيثم عن يعلى بن عطاء عن عمرو بن عنبسة قال أتيت النبي ص و هو بعكاظ فقلت من بايعك على هذا الأمر فقال بايعني حر و عبد فلقد رأيتني يومئذ و أنا رابع الإسلام . [ 218 ] قال بعض أصحاب الحديث يعني بالحر أبا بكر و بالعبد بلالا . و روى الليث بن سعد عن معاوية بن صالح عن سليم بن عامر عن أبي أمامه قال حدثني عمرو بن عنبسة أنه سأل النبي ص و هو بعكاظ فقال له من تبعك قال تبعني حر و عبد أبو بكر و بلال و روى عمرو بن إبراهيم الهاشمي عن عبد الملك بن عمير عن أسيد بن صفوان صاحب النبي ص قال لما قبض أبو بكر جاء علي بن أبي طالب ع فقال رحمك الله أبا بكر كنت أول الناس إسلاما . و روى عباد عن الحسن بن دينار عن بشر بن أبي زينب عن عكرمة مولى ابن عباس قال إذا لقيت الهاشميين قالوا علي بن أبي طالب أول من أسلم و إذا لقيت الذين يعلمون قالوا أبو بكر أول من أسلم . قال أبو عثمان الجاحظ قالت العثمانية فإن قال قائل فما بالكم لم تذكروا علي بن أبي طالب في هذه الطبقة و قد تعلمون كثرة مقدميه و الرواية فيه قلنا قد علمنا الرواية الصحيحة و الشهادة القائمة أنه أسلم و هو حدث غرير و طفل صغير فلم نكذب الناقلين و لم نستطع أن نلحق إسلامه بإسلام البالغين لأن المقلل زعم أنه أسلم و هو ابن خمس سنين و المكثر زعم أنه أسلم و هو ابن تسع سنين فالقياس أن يؤخذ بالأوسط بين الروايتين و بالأمر بين الأمرين و إنما يعرف حق ذلك من باطله بأن نحصي سنيه التي ولي فيها الخلافة و سني عمر و سني عثمان و سني أبي بكر و مقام النبي ص بالمدينة و مقامه بمكة عند إظهار الدعوة فإذا فعلنا ذلك صح أنه أسلم و هو ابن سبع سنين فالتاريخ المجمع عليه أنه قتل ع في شهر رمضان سنة أربعين . [ 219 ] قال شيخنا أبو جعفر الإسكافي لو لا ما غلب على الناس من الجهل و حب التقليد لم نحتج إلى نقض ما احتجت به العثمانية فقد علم الناس كافة أن الدولة و السلطان لأرباب مقالتهم و عرف كل أحد علو أقدار شيوخهم و علمائهم و أمرائهم و ظهور كلمتهم و قهر سلطانهم و ارتفاع التقية عنهم و الكرامة و الجائزة لمن روى الأخبار و الأحاديث في فضل أبي بكر و ما كان من تأكيد بني أمية لذلك و ما ولده المحدثون من الأحاديث طلبا لما في أيديهم فكانوا لا يألون جهدا في طول ما ملكوا أن يخملوا ذكر علي ع و ولده و يطفئوا نورهم و يكتموا فضائلهم و مناقبهم و سوابقهم و يحملوا على شتمهم و سبهم و لعنهم على المنابر فلم يزل السيف يقطر من دمائهم مع قلة عددهم و كثرة عدوهم فكانوا بين قتيل و أسير و شريد و هارب و مستخف ذليل و خائف مترقب حتى إن الفقيه و المحدث و القاضي و المتكلم ليتقدم إليه و يتوعد بغاية الإيعاد و أشد العقوبة ألا يذكروا شيئا من فضائلهم و لا يرخصوا لأحد أن يطيف بهم و حتى بلغ من تقية المحدث أنه إذا ذكر حديثا عن علي ع كنى عن ذكره فقال قال رجل من قريش و فعل رجل من قريش و لا يذكر عليا ع و لا يتفوه باسمه . ثم رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله و وجهوا الحيل و التأويلات نحوها من خارجي مارق و ناصب حنق و ثابت مستبهم و ناشئ معاند و منافق مكذب و عثماني حسود يعترض فيها و يطعن و معتزلي قد نقض في الكلام و أبصر علم الاختلاف [ 220 ] و عرف الشبه و مواضع الطعن و ضروب التأويل قد التمس الحيل في إبطال مناقبه و تأول مشهور فضائله فمرة يتأولها بما لا يحتمل و مرة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض و لا يزداد مع ذلك إلا قوة و رفعة و وضوحا و استنارة و قد علمت أن معاوية و يزيد و من كان بعدهما من بني مروان أيام ملكهم و ذلك نحو ثمانين سنة لم يدعوا جهدا في حمل الناس على شتمه و لعنه و إخفاء فضائله و ستر مناقبه و سوابقه روى خالد بن عبد الله الواسطي عن حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف عن عبد الله بن ظالم قال لما بويع لمعاوية أقام المغيرة بن شعبة خطباء يلعنون عليا ع فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أ لا ترون إلى هذا الرجل الظالم يأمر بلعن رجل من أهل الجنة . روى سليمان بن داود عن شعبة عن الحر بن الصباح قال سمعت عبد الرحمن بن الأخنس يقول شهدت المغيرة بن شعبة خطب فذكر عليا ع فنال منه . روى أبو كريب قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا صدقة بن المثنى النخعي عن رياح بن الحارث قال بينما المغيرة بن شعبة بالمسجد الأكبر و عنده ناس إذ جاءه رجل يقال له قيس بن علقمة فاستقبل المغيرة فسب عليا ع . روى محمد بن سعيد الأصفهاني عن شريك عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن علي بن الحسين عن أبيه علي بن الحسين ع قال قال لي مروان ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم قلت فما بالكم تسبونه على المنابر قال إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك . روى مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي عن ابن أبي سيف قال خطب مروان و الحسن ع جالس فنال من علي ع فقال الحسن ويلك يا مروان أ هذا الذي تشتم شر الناس قال لا و لكنه خير الناس . [ 221 ] و روى أبو غسان أيضا قال قال عمر بن عبد العزيز كان أبي يخطب فلا يزال مستمرا في خطبته حتى إذا صار إلى ذكر علي و سبه تقطع لسانه و اصفر وجهه و تغيرت حاله فقلت له في ذلك فقال أ و قد فطنت لذلك إن هؤلاء لو يعلمون من علي ما يعلمه أبوك ما تبعنا منهم رجل . و روى أبو عثمان قال حدثنا أبو اليقظان قال قام رجل من ولد عثمان إلى هشام بن عبد الملك يوم عرفة فقال إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب . و روى عمرو بن الفناد عن محمد بن فضيل عن أشعث بن سوار قال سب عدي بن أرطاة عليا ع على المنبر فبكى الحسن البصري و قال لقد سب هذا اليوم رجل إنه لأخو رسول الله ص في الدنيا و الآخرة . و روى عدي بن ثابت عن إسماعيل بن إبراهيم قال كنت أنا و إبراهيم بن يزيد جالسين في الجمعة مما يلي أبواب كندة فخرج المغيرة فخطب فحمد الله ثم ذكر ما شاء أن يذكر ثم وقع في علي ع فضرب إبراهيم على فخذي أو ركبتي ثم قال أقبل علي فحدثني فإنا لسنا في جمعة أ لا تسمع ما يقول هذا . و روى عبد الله بن عثمان الثقفي قال حدثنا ابن أبي سيف قال قال ابن لعامر بن عبد الله بن الزبير لولده لا تذكر يا بني عليا إلا بخير فإن بني أمية لعنوه على منابرهم ثمانين سنة فلم يزده الله بذلك إلا رفعة إن الدنيا لم تبن شيئا قط إلا رجعت على ما بنت فهدمته و إن الدين لم يبن شيئا قط و هدمه . و روى عثمان بن سعيد قال حدثنا مطلب بن زياد عن أبي بكر بن عبد الله الأصبهاني قال كان دعي لبني أمية يقال له خالد بن عبد الله لا يزال يشتم عليا ع [ 222 ] فلما كان يوم جمعة و هو يخطب الناس قال و الله إن كان رسول الله ليستعمله و إنه ليعلم ما هو و لكنه كان ختنه و قد نعس سعيد بن المسيب ففتح عينيه ثم قال ويحكم ما قال هذا الخبيث رأيت القبر انصدع و رسول الله ص يقول كذبت يا عدو الله . و روى القناد قال حدثنا أسباط بن نصر الهمداني عن السدي قال بينما أنا بالمدينة عند أحجار الزيت إذ أقبل راكب على بعير فوقف فسب عليا ع فخف به الناس ينظرون إليه فبينما هو كذلك إذ أقبل سعد بن أبي وقاص فقال اللهم إن كان سب عبدا لك صالحا فأر المسلمين خزيه فما لبث أن نفر به بعيره فسقط فاندقت عنقه . و روى عثمان بن أبي شيبة عن عبد الله بن موسى عن فطر بن خليفة عن أبي عبد الله الجدلي قال دخلت على أم سلمة رحمها الله فقالت لي أ يسب رسول الله ص فيكم و أنتم أحياء قلت و أنى يكون هذا قالت أ ليس يسب علي ع و من يحبه . و روى العباس بن بكار الضبي قال حدثني أبو بكر الهذلي عن الزهري قال قال ابن عباس لمعاوية أ لا تكف عن شتم هذا الرجل قال ما كنت لأفعل حتى يربو عليه الصغير و يهرم فيه الكبير فلما ولي عمر بن عبد العزيز كف عن شتمه فقال الناس ترك السنة . قال و قد روي عن ابن مسعود إما موقوفا عليه أو مرفوعا كيف أنتم إذا شملتكم فتنة يربو عليها الصغير و يهرم فيها الكبير يجري عليها الناس فيتخذونها سنة فإذا غير منها شي‏ء قيل غيرت السنة . [ 223 ] قال أبو جعفر و قد تعلمون أن بعض الملوك ربما أحدثوا قولا أو دينا لهوى فيحملون الناس على ذلك حتى لا يعرفوا غيره كنحو ما أخذ الناس الحجاج بن يوسف بقراءة عثمان و ترك قراءة ابن مسعود و أبي بن كعب و توعد على ذلك بدون ما صنع هو و جبابرة بني أمية و طغاة مروان بولد علي ع و شيعته و إنما كان سلطانه نحو عشرين سنة فما مات الحجاج حتى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان و نشأ أبناؤهم و لا يعرفون غيرها لإمساك الآباء عنها و كف المعلمين عن تعليمها حتى لو قرأت عليهم قراءة عبد الله و أبي ما عرفوها و لظنوا بتأليفها الاستكراه و الاستهجان لإلف العادة و طول الجهالة لأنه إذا استولت على الرعية الغلبة و طالت عليهم أيام التسلط و شاعت فيهم المخافة و شملتهم التقية اتفقوا على التخاذل و التساكت فلا تزال الأيام تأخذ من بصائرهم و تنقص من ضمائرهم و تنقض من مرائرهم حتى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنة التي كانوا يعرفونها و لقد كان الحجاج و من ولاه كعبد الملك و الوليد و من كان قبلهما و بعدهما من فراعنة بني أمية على إخفاء محاسن علي ع و فضائله و فضائل ولده و شيعته و إسقاط أقدارهم أحرص منهم على إسقاط قراءة عبد الله و أبي لأن تلك القراءات لا تكون سببا لزوال ملكهم و فساد أمرهم و انكشاف حالهم و في اشتهار فضل علي ع و ولده و إظهار محاسنهم بوارهم و تسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم فحرصوا و اجتهدوا في إخفاء فضائله و حملوا الناس على كتمانها و سترها و أبى الله أن يزيد أمره و أمر ولده إلا استنارة و إشراقا و حبهم إلا شغفا و شدة و ذكرهم إلا انتشارا و كثرة و حجتهم إلا وضوحا و قوة و فضلهم إلا ظهورا و شأنهم إلا علوا و أقدارهم إلا إعظاما حتى أصبحوا بإهانتهم إياهم أعزاء و بإماتتهم ذكرهم أحياء و ما أرادوا به و بهم من الشر تحول خيرا فانتهى إلينا من ذكر فضائله و خصائصه و مزاياه و سوابقه ما لم يتقدمه السابقون و لا ساواه فيه القاصدون و لا يلحقه الطالبون و لو لا أنها كانت [ 224 ] كالقبلة المنصوبة في الشهرة و كالسنن المحفوظة في الكثرة لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد إذا كان الأمر كما وصفناه . قال فأما ما احتج به الجاحظ بإمامة أبي بكر بكونه أول الناس إسلاما فلو كان هذا احتجاجا صحيحا لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة و ما رأيناه صنع ذلك لأنه أخذ بيد عمر و يد أبي عبيدة بن الجراح و قال للناس قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا منهما من شئتم و لو كان هذا احتجاجا صحيحا لما قال عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها و لو كان احتجاجا صحيحا لادعى واحد من الناس لأبي بكر الإمامة في عصره أو بعد عصره بكونه سبق إلى الإسلام و ما عرفنا أحدا ادعى له ذلك على أن جمهور المحدثين لم يذكروا أن أبا بكر أسلم إلا بعد عدة من الرجال منهم علي بن أبي طالب و جعفر أخوه و زيد بن حارثة و أبو ذر الغفاري و عمرو بن عنبسة السلمي و خالد بن سعيد بن العاص و خباب بن الأرت و إذا تأملنا الروايات الصحيحة و الأسانيد القوية و الوثيقة وجدناها كلها ناطقة بأن عليا ع أول من أسلم . فأما الرواية عن ابن عباس أن أبا بكر أولهم إسلاما فقد روي عن ابن عباس خلاف ذلك بأكثر مما رووا و أشهر فمن ذلك ما رواه يحيى بن حماد عن أبي عوانة و سعيد بن عيسى عن أبي داود الطيالسي عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس أنه قال أول من صلى من الرجال علي ع . و روى الحسن البصري قال حدثنا عيسى بن راشد عن أبي بصير عن عكرمة عن ابن عباس قال فرض الله تعالى الاستغفار لعلي ع في القرآن [ 225 ] على كل مسلم بقوله تعالى رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا اَلَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ فكل من أسلم بعد علي فهو يستغفر لعلي ع و روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال السباق ثلاثة سبق يوشع بن نون إلى موسى و سبق صاحب يس إلى عيسى و سبق علي بن أبي طالب إلى محمد عليه و عليهم السلام . فهذا قول ابن عباس في سبق علي ع إلى الإسلام و هو أثبت من حديث الشعبي و أشهر على أنه قد روي عن الشعبي خلاف ذلك من حديث أبي بكر الهذلي و داود بن أبي هند عن الشعبي قال قال رسول الله ص لعلي ع هذا أول من آمن بي و صدقني و صلى معي . قال فأما الأخبار الواردة بسبقه إلى الإسلام المذكورة في الكتب الصحاح و الأسانيد الموثوق بها فمنها ما روى شريك بن عبد الله عن سليمان بن المغيرة عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود أنه قال أول شي‏ء علمته من أمر رسول الله ص أني قدمت مكة مع عمومة لي و ناس من قومي و كان من أنفسنا شراء عطر فأرشدنا إلى العباس بن عبد المطلب فانتهينا إليه و هو جالس إلى زمزم فبينا نحن عنده جلوسا إذ أقبل رجل من باب الصفا و عليه ثوبان أبيضان و له وفرة إلى أنصاف أذنيه جعدة أشم أقنى أدعج العينين كث اللحية براق الثنايا أبيض تعلوه حمرة كأنه القمر ليلة البدر و على يمينه غلام مراهق أو محتلم حسن الوجه تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها حتى قصدوا نحو الحجر فاستلمه و استلمه الغلام ثم استلمته المرأة ثم طاف بالبيت سبعا و الغلام و المرأة يطوفان معه ثم استقبل الحجر [ 226 ] فقام و رفع يديه و كبر و قام الغلام إلى جانبه و قامت المرأة خلفها فرفعت يديها و كبرت فأطال القنوت ثم ركع و ركع الغلام و المرأة ثم رفع رأسه فأطال و رفع الغلام و المرأة معه يصنعان مثل ما يصنع فلما رأينا شيئا ننكره لا نعرفه بمكة أقبلنا على العباس فقلنا يا أبا الفضل إن هذا الدين ما كنا نعرفه فيكم قال أجل و الله قلنا فمن هذا قال هذا ابن أخي هذا محمد بن عبد الله و هذا الغلام ابن أخي أيضا هذا علي بن أبي طالب و هذه المرأة زوجة محمد هذه خديجة بنت خويلد و الله ما على وجه الأرض أحد يدين بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة و من حديث موسى بن داود عن خالد بن نافع عن عفيف بن قيس الكندي و قد رواه عن عفيف أيضا مالك بن إسماعيل النهدي و الحسن بن عنبسة الوراق و إبراهيم بن محمد بن ميمونة قالوا جميعا حدثنا سعيد بن جشم عن أسد بن عبد الله البجلي عن يحيى بن عفيف بن قيس عن أبيه قال كنت في الجاهلية عطارا فقدمت مكة فنزلت على العباس بن عبد المطلب فبينا أنا جالس عنده أنظر إلى الكعبة و قد تحلقت الشمس في السماء أقبل شاب كان في وجهه القمر حتى رمى ببصره إلى السماء فنظر إلى الشمس ساعة ثم أقبل حتى دنا من الكعبة فصف قدميه يصلي فخرج على أثره فتى كأن وجهه صفيحة يمانية فقام عن يمينه فجاءت امرأة متلففة في ثيابها فقامت خلفهما فأهوى الشاب راكعا فركعا معه ثم أهوى إلى الأرض ساجدا فسجدا معه فقلت للعباس يا أبا الفضل أمر عظيم فقال أمر و الله عظيم أ تدري من هذا الشاب قلت لا قال هذا ابن أخي هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أ تدري من هذا الفتى قلت لا قال هذا ابن أخي علي بن أبي طالب بن عبد المطلب أ تدري من المرأة قلت لا قال هذه ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى هذه خديجة زوج محمد هذا و إن محمدا هذا يذكر أن إلهه إله السماء و الأرض و أمره بهذا الدين فهو عليه كما ترى [ 227 ] و يزعم أنه نبي و قد صدقه على قوله علي ابن عمه هذا الفتى و زوجته خديجة هذه المرأة و الله ما أعلم على وجه الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة قال عفيف فقلت له فما تقولون أنتم قال ننتظر الشيخ ما يصنع يعني أبا طالب أخاه . و روى عبد الله بن موسى و الفضل بن دكين و الحسن بن عطية قالوا حدثنا خالد بن طهمان عن نافع بن أبي نافع عن معقل بن يسار قال كنت أوصى النبي ص فقال لي هل لك أن نعود فاطمة قلت نعم يا رسول الله فقام يمشي متوكئا علي و قال أما إنه سيحمل ثقلها غيرك و يكون أجرها لك قال فو الله كأنه لم يكن علي من ثقل النبي ص شي‏ء فدخلنا على فاطمة ع فقال لها ص كيف تجدينك قالت لقد طال أسفي و اشتد حزني و قال لي النساء زوجك أبوك فقيرا لا مال له فقال لها أ ما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما و أكثرهم علما و أفضلهم حلما قالت بلى رضيت يا رسول الله : و قد روى هذا الخبر يحيى بن عبد الحميد و عبد السلام بن صالح عن قيس بن الربيع عن أبي أيوب الأنصاري بألفاظه أو نحوها : . و روى عبد السلام بن صالح عن إسحاق الأزرق عن جعفر بن محمد عن آبائه أن رسول الله ص لما زوج فاطمة دخل النساء عليها فقلن يا بنت رسول الله خطبك فلان و فلان فردهم عنك و زوجك فقيرا لا مال له فلما دخل عليها أبوها ص رأى ذلك في وجهها فسألها فذكرت له ذلك فقال يا فاطمة إن الله أمرني فأنكحتك أقدمهم سلما و أكثرهم علما و أعظمهم حلما و ما زوجتك إلا بأمر من السماء أ ما علمت أنه أخي في الدنيا و الآخرة [ 228 ] و روى عثمان بن سعيد عن الحكم بن ظهير عن السدي أن أبا بكر و عمر خطبا فاطمة ع فردهما رسول الله ص و قال لم أومر بذلك فخطبها علي ع فزوجه إياها و قال لها زوجتك أقدم الأمة إسلاما و ذكر تمام الحديث قال و قد روى هذا الخبر جماعة من الصحابة منهم أسماء بنت عميس و أم أيمن و ابن عباس و جابر بن عبد الله . قال و قد روى محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أبي رافع قال أتيت أبا ذر بالربذة أودعه فلما أردت الانصراف قال لي و لأناس معي ستكون فتنة فاتقوا الله و عليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه فإني سمعت رسول الله ص يقول له أنت أول من آمن بي و أول من يصافحني يوم القيامة و أنت الصديق الأكبر و أنت الفاروق الذي يفرق بين الحق و الباطل و أنت يعسوب المؤمنين و المال يعسوب الكافرين و أنت أخي و وزيري و خير من أترك بعدي تقضي ديني و تنجز موعدي قال و قد روى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير عن العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي قال سمعت علي بن أبي طالب يقول أنا عبد الله و أخو رسوله و أنا الصديق الأكبر لا يقولها غيري إلا كذاب و لقد صليت قبل الناس سبع سنين . و روت معاذة بنت عبد الله العدوية قالت سمعت عليا ع يخطب على منبر البصرة و يقول أنا الصديق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر و أسلمت قبل أن يسلم . و روى حبة بن جوين العرني أنه سمع عليا ع يقول أنا أول رجل أسلم [ 229 ] مع رسول الله ص رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن حبة بن جوين و روى عثمان بن سعيد الخراز عن علي بن حرار عن علي بن عامر عن أبي الحجاف عن حكيم مولى زاذان قال سمعت عليا ع يقول صليت قبل الناس سبع سنين و كنا نسجد و لا نركع و أول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر فقلت يا رسول الله ما هذا قال أمرت به و روى إسماعيل بن عمرو عن قيس بن الربيع عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله قال صلى رسول الله ص يوم الإثنين و صلى علي يوم الثلاثاء بعده و في الرواية الأخرى عن أنس بن مالك استنبئ النبي ص يوم الإثنين و أسلم علي يوم الثلاثاء بعده و روى أبو رافع أن رسول الله ص صلى أول صلاة صلاها غداة الإثنين و صلت خديجة آخر نهار يومها ذلك و صلى علي ع يوم الثلاثاء غدا ذلك اليوم . قال و قد روي بروايات مختلفة كثيرة متعددة عن زيد بن أرقم و سلمان الفارسي و جابر بن عبد الله و أنس بن مالك أن عليا ع أول من أسلم و ذكر الروايات و الرجال بأسمائهم و روى سلمة بن كهيل عن رجاله الذين ذكرهم أبو جعفر في الكتاب أن رسول الله ص قال أولكم ورودا علي الحوض أولكم إسلاما علي بن أبي طالب و روى ياسين بن محمد بن أيمن عن أبي حازم مولى ابن عباس عن ابن عباس [ 230 ] قال سمعت عمر بن الخطاب و هو يقول كفوا عن علي بن أبي طالب فإني سمعت من رسول الله ص يقول فيه خصالا لو أن خصلة منها في جميع آل الخطاب كان أحب لي مما طلعت عليه الشمس كنت ذات يوم و أبو بكر و عثمان و عبد الرحمن بن عوف و أبو عبيدة مع نفر من أصحاب رسول الله ص نطلبه فانتهينا إلى باب أم سلمة فوجدنا عليا متكئا على نجاف الباب فقلنا أردنا رسول الله ص فقال هو في البيت رويدكم فخرج رسول الله ص فسرنا حوله فاتكأ على علي ع و ضرب بيده على منكبه فقال أبشر يا علي بن أبي طالب إنك مخاصم و إنك تخصم الناس بسبع لا يجاريك أحد في واحدة منهن أنت أول الناس إسلاما و أعلمهم بأيام الله و ذكر الحديث . قال و قد روى أبو سعيد الخدري عن النبي ص مثل هذا الحديث . قال روى أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله ص أنه قال لقد صلت الملائكة علي و على علي ع سبع سنين و ذلك أنه لم يصل معي رجل فيها غيره . قال أبو جعفر فأما ما رواه الجاحظ من قوله ص إنما تبعني حر و عبد فإنه لم يسم في هذا الحديث أبا بكر و بلالا و كيف و أبو بكر لم يشتر بلالا إلا بعد ظهور الإسلام بمكة فلما أظهر بلال إسلامه عذبه أمية بن خلف و لم يكن ذلك حال إخفاء رسول الله ص الدعوة و لا في ابتداء أمر الإسلام . [ 231 ] و قد قيل إنه ع إنما عنى بالحر علي بن أبي طالب و بالعبد زيد بن حارثة . و روى ذلك محمد بن إسحاق قال و قد روى إسماعيل بن نصر الصفار عن محمد بن ذكوان عن الشعبي قال قال الحجاج للحسن و عنده جماعة من التابعين و ذكر علي بن أبي طالب ما تقول أنت يا حسن فقال ما أقول هو أول من صلى إلى القبلة و أجاب دعوة رسول الله ص و إن لعلي منزلة من ربه و قرابة من رسوله و قد سبقت له سوابق لا يستطيع ردها أحد فغضب الحجاج غضبا شديدا و قام عن سريره فدخل بعض البيوت و أمر بصرفنا . قال الشعبي و كنا جماعة ما منا إلا من نال من علي ع مقاربة للحجاج غير الحسن بن أبي الحسن رحمه الله . و روى محرز بن هشام عن إبراهيم بن سلمة عن محمد بن عبيد الله قال قال رجل للحسن ما لنا لا نراك تثني على علي و تقرظه قال كيف و سيف الحجاج يقطر دما إنه لأول من أسلم و حسبكم بذلك . قال فهذه الأخبار . و أما الأشعار المروية فمعروفة كثيرة منتشرة فمنها قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مجيبا للوليد بن عقبة بن أبي معيط و إن ولي الأمر بعد محمد علي و في كل المواطن صاحبه وصي رسول الله حقا و صنوه و أول من صلى و من لان جانبه و قال خزيمة بن ثابت في هذا وصي رسول الله من دون أهله و فارسه مذ كان في سالف الزمن و أول من صلى من الناس كلهم سوى خيرة النسوان و الله ذو منن [ 232 ] و قال أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس حين بويع أبو بكر ما كنت أحسب أن الأمر منصرف عن هاشم ثم منها عن أبي حسن أ ليس أول من صلى لقبلتهم و أعلم الناس بالأحكام و السنن و قال أبو الأسود الدؤلي يهدد طلحة و الزبير و إن عليا لكم مصحر يماثله الأسد الأسود أما إنه أول العابدين بمكة و الله لا يعبد و قال سعيد بن قيس الهمداني يرتجز بصفين هذا علي و ابن عم المصطفى أول من أجابه فيما روى هو الإمام لا يبالي من غوى و قال زفر بن يزيد بن حذيفة الأسدي فحوطوا عليا و انصروه فإنه وصي و في الإسلام أول أول و إن تخذلوه و الحوادث جمة فليس لكم عن أرضكم متحول قال و الأشعار كالأخبار إذا امتنع في مجي‏ء القبيلين التواطؤ و الاتفاق كان ورودهما حجة فأما قول الجاحظ فأوسط الأمور أن نجعل إسلامهما معا فقد أبطل بهذا ما احتج به لإمامة أبي بكر لأنه احتج بالسبق و قد عدل الآن عنه . قال أبو جعفر و يقال لهم لسنا نحتاج من ذكر سبق علي ع إلا مجامعتكم إيانا على أنه أسلم قبل الناس و دعواكم أنه أسلم و هو طفل دعوى غير مقبولة لا بحجة . فإن قلتم و دعوتكم أنه أسلم و هو بالغ دعوى غير مقبولة إلا بحجة [ 233 ] قلنا قد ثبت إسلامه بحكم إقراركم و لو كان طفلا لكان في الحقيقة غير مسلم لأن اسم الإيمان و الإسلام و الكفر و الطاعة و المعصية إنما يقع على البالغين دون الأطفال و المجانين و إذا أطلقتم و أطلقنا اسم الإسلام فالأصل في الإطلاق الحقيقة كيف و قد قال النبي ص أنت أول من آمن بي و أنت أول من صدقني و قال لفاطمة زوجتك أقدمهم سلما أو قال إسلاما فإن قالوا إنما دعاه النبي ص إلى الإسلام على جهة العرض لا التكليف . قلنا قد وافقتمونا على الدعاء و حكم الدعاء حكم الأمر و التكليف ثم ادعيتم أن ذلك كان على وجه العرض و ليس لكم أن تقبلوا معنى الدعاء عن وجهه إلا لحجة . فإن قالوا لعله كان على وجه التأديب و التعليم كما يعتمد مثل ذلك مع الأطفال قلنا إن ذلك إنما يكون إذا تمكن الإسلام بأهله أو عند النشوء عليه و الولادة فيه فأما في دار الشرك فلا يقع مثل ذلك لا سيما إذا كان الإسلام غير معروف و لا معتاد بينهم على أنه ليس من سنة النبي ص دعاء أطفال المشركين إلى الإسلام و التفريق بينهم و بين آبائهم قبل أن يبلغوا الحلم . و أيضا فمن شأن الطفل اتباع أهله و تقليد أبيه و المضي على منشئه و مولده و قد كانت منزلة النبي ص حينئذ منزلة ضيق و شدة و وحدة و هذه منازل لا ينتقل إليها إلا من ثبت الإسلام عنده بحجة و دخل اليقين قلبه بعلم و معرفة . فإن قالوا إن عليا ع كان يألف النبي ص فوافقه على طريق المساعدة له قلنا إنه و إن كان يألفه أكثر من أبويه و إخوته و عمومته و أهل بيته و لم يكن الإلف ليخرجه عما نشأ عليه و لم يكن الإسلام مما غذي به و كرر على سمعه [ 234 ] لأن الإسلام هو خلع الأنداد و البراءة ممن أشرك بالله و هذا لا يجتمع في اعتقاد طفل . و من العجب قول العباس لعفيف بن قيس ننتظر الشيخ و ما يصنع فإذا كان العباس و حمزة ينتظران أبا طالب و يصدران عن رأيه فكيف يخالفه ابنه و يؤثر القلة على الكثرة و يفارق المحبوب إلى المكروه و العز إلى الذل و الأمن إلى الخوف عن غير معرفة و لا علم بما فيه . فأما قوله إن المقلل يزعم أنه أسلم و هو ابن خمس سنين و المكثر يزعم أنه أسلم و هو ابن تسع سنين فأول ما يقال في ذلك إن الأخبار جاءت في سنه ع يوم أسلم على خمسة أقسام فجعلناه في قسمين القسم الأول الذين قالوا أسلم و هو ابن خمس عشرة سنة حدثنا بذلك أحمد بن سعيد الأسدي عن إسحاق بن بشر القرشي عن الأوزاعي عن حمزة بن حبيب عن شداد بن أوس قال سألت خباب بن الأرت عن إسلام علي فقال أسلم و هو ابن خمس عشرة سنة و لقد رأيته يصلي قبل الناس مع النبي ص و هو يومئذ بالغ مستحكم البلوغ و روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن أن أول من أسلم علي بن أبي طالب و هو ابن خمس عشرة سنة . القسم الثاني الذين قالوا إنه أسلم و هو ابن أربع عشرة سنة رواه أبو قتادة الحراني عن أبي حازم الأعرج عن حذيفة بن اليمان قال كنا نعبد الحجارة و نشرب الخمر و علي من أبناء أربع عشرة سنة قائم يصلي مع النبي ص ليلا و نهارا و قريش يومئذ تسافه رسول الله ص ما يذب عنه إلا علي [ 235 ] ع و روى ابن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد قال أسلم علي و هو ابن أربع عشرة سنة . القسم الثالث الذين قالوا أسلم و هو ابن إحدى عشرة سنة رواه إسماعيل بن عبد الله الرقي عن محمد بن عمر عن عبد الله بن سمعان عن جعفر بن محمد ع عن أبيه عن محمد بن علي ع أن عليا حين أسلم كان ابن إحدى عشرة سنة و روى عبد الله بن زياد المدني عن محمد بن علي الباقر ع قال أول من آمن بالله علي بن أبي طالب و هو ابن إحدى عشرة سنة و هاجر إلى المدينة و هو ابن أربعة و عشرين سنة . القسم الرابع الذين قالوا إنه أسلم و هو ابن عشر سنين رواه نوح بن دراج عن محمد بن إسحاق قال أول ذكر آمن و صدق بالنبوة علي بن أبي طالب ع و هو ابن عشر سنين ثم أسلم زيد بن حارثة ثم أسلم أبو بكر و هو ابن ست و ثلاثين سنة فيما بلغنا . القسم الخامس الذين قالوا إنه أسلم و هو ابن تسع سنين رواه الحسن بن عنبسة الوراق عن سليم مولى الشعبي عن الشعبي قال أول من أسلم من الرجال علي بن أبي طالب و هو ابن تسع سنين و كان له يوم قبض رسول الله ص تسع و عشرون سنة . قال شيخنا أبو جعفر فهذه الأخبار كما تراها فإما أن يكون الجاحظ جهلها أو قصد العناد . فأما قوله فالقياس أن نأخذ بأوسط الأمرين من الروايتين فنقول إنه أسلم و هو ابن سبع سنين فإن هذا تحكم منه و يلزمه مثله في رجل ادعى قبل رجل عشرة [ 236 ] دراهم فأنكر ذلك و قال إنما يستحق قبلي أربعة دراهم فينبغي أن نأخذ الأمر المتوسط و يلزمه سبعة دراهم و يلزمه في أبي بكر حيث قال قوم كان كافرا و قال قوم كان إماما عادلا أن نقول أعدل الأقاويل أوسطها و هو منزلة بين المنزلتين فنقول كان فاسقا ظالما و كذلك في جميع الأمور المختلف فيها . فأما قوله و إنما يعرف حق ذلك من باطله بأن نحصي سني ولاية عثمان و عمر و أبي بكر و سني الهجرة و مقام النبي ص بمكة بعد الرسالة إلى أن هاجر فيقال له لو كانت الروايات متفقة على هذه التاريخات لكان لهذا القول مساغ و لكن الناس قد اختلفوا في ذلك فقيل إن رسول الله ص أقام بمكة بعد الرسالة خمس عشرة سنة رواه ابن عباس و قيل ثلاث عشرة سنة و روي عن ابن عباس أيضا و أكثر الناس يرونه و قيل عشر سنين رواه عرة بن الزبير و هو قول الحسن البصري و سعيد بن المسيب و اختلفوا في سن رسول الله ص فقال قوم كان ابن خمس و ستين و قيل كان ابن ثلاث و ستين و قيل كان ابن ستين و اختلفوا في سن علي ع فقيل كان ابن سبع و ستين و قيل كان ابن خمس و ستين و قيل ابن ثلاث و ستين و قيل ابن ستين و قيل ابن تسع و خمسين . فكيف يمكن مع هذه الاختلافات تحقيق هذه الحال و إنما الواجب أن يرجع إلى إطلاق قولهم أسلم علي فإن هذا الاسم لا يكون مطلقا إلا على البالغ كما لا يطلق اسم الكافر إلا على البالغ على أن ابن إحدى عشرة سنة يكون بالغا و يولد له الأولاد فقد روت الرواة أن عمرو بن العاص لم يكن أسن من ابنه عبد الله [ 237 ] إلا باثنتي عشرة سنة و هذا يوجب أنه احتلم و بلغ في أقل من إحدى عشرة سنة . و روي أيضا أن محمد بن عبد الله بن العباس كان أصغر من أبيه علي بن عبد الله بن العباس بإحدى عشرة سنة فيلزم الجاحظ أن يكون عبد الله بن العباس حين مات رسول الله ص غير مسلم على الحقيقة و لا مثاب و لا مطيع بالإسلام لأنه كان 0 يومئذ ابن عشر سنين رواه هشيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال توفي رسول الله ص و أنا ابن عشر سنين . قال الجاحظ فإن قالوا فلعله و هو ابن سبع سنين أو ثماني سنين قد بلغ من فطنته و ذكائه و صحة لبه و صدق حدسه و انكشاف العواقب له و إن لم يكن جرب الأمور و لا فاتح الرجال و لا نازع الخصوم ما يعرف به جميع ما يحب على البالغ معرفته و الإقرار به قيل لهم إنما نتكلم على ظواهر الأحوال و ما شاهدنا عليه طبائع الأطفال فإنا وجدنا حكم ابن سبع سنين أو ثمان ما لم يعلم باطن أمره و خاصة طبعه حكم الأطفال و ليس لنا أن نزيل ظاهر حكمه و الذي نعرف من حال أفناء جنسه بلعل و عسى لأنا و إن كنا لا ندري لعله قد كان ذا فضيلة في الفطنة فلعله قد كان ذا نقص فيها . هذا على تجويز أن يكون علي ع في الغيب قد أسلم و هو ابن سبع أو ثمان إسلام البالغ غير أن الحكم على مجرى أمثاله و أشكاله الذين أسلموا و هم في مثل سنه إذ كان إسلام هؤلاء عن تربية الحاضن و تلقين القيم و رياضة السائس . فأما عند التحقيق فإنه لا تجويز لمثل ذلك لأنه لو كان أسلم و هو ابن سبع [ 238 ] أو ثمان و عرف فضل ما بين الأنبياء و الكهنة و فرق ما بين الرسل و السحرة و فرق ما بين خبر النبي و المنجم و حتى عرف كيد الأريب و موضع الحجة و بعد غور المتنبئ كيف يلبس على العقلاء و تستمال عقول الدهماء و عرف الممكن في الطبع من الممتنع و ما يحدث بالاتفاق مما يحدث بالأسباب و عرف قدر القوى و غاية الحيلة و منتهى التمويه و الخديعة و ما لا يحتمل أن يحدثه إلا الخالق سبحانه و ما يجوز على الله في حكمته مما لا يجوز و كيف التحفظ من الهوى و الاحتراس من الخداع لكان كونه على هذه الحال و هذه مع فرط الصبا و الحداثة و قلة التجارب و الممارسة خروجا من العادة و من المعروف مما عليه تركيب هذه الخلقة و ليس يصل أحد إلى معرفة نبي و كذب متنبئ حتى يجتمع فيه هذه المعارف التي ذكرناها و الأسباب التي وصفناها و فصلناها و لو كان علي ع على هذه الصفة و معه هذه الخاصية لكان حجة على العامة و آية تدل على النبوة و لم يكن الله عز و جل ليخصه بمثل هذه الأعجوبة إلا و هو يريد أن يحتج بها و يجعلها قاطعة لعذر الشاهد و حجة على الغائب و لو لا أن الله أخبر عن يحيى بن زكريا أنه آتاه الحكم صبيا و أنه أنطق عيسى في المهد ما كانا في الحكم و لا في المغيب إلا كسائر الرسل و ما عليه جميع البشر فإذا لم ينطق لعلي ع بذلك قرآن و لا جاء الخبر به مجي‏ء الحجة القاطعة و المشاهدة القائمة فالمعلوم عندنا في الحكم أن طباعه كطباع عميه حمزة و العباس و هما أمس بمعدن جماع الخير منه أو كطباع جعفر و عقيل من رجال قومه و سادة رهطه و لو أن إنسانا ادعى مثل ذلك لأخيه جعفر أو لعميه حمزة و العباس ما كان عندنا في أمره إلا مثل ما عندنا فيه أجاب شيخنا أبو جعفر رحمه الله فقال هذا كله مبني على أنه أسلم و هو ابن سبع أو ثمان و نحن قد بينا أنه أسلم بالغا ابن خمس عشرة سنة أو ابن أربع عشرة سنة على [ 239 ] أنا لو نزلنا على حكم الخصوم و قلنا ما هو الأشهر و الأكثر من الرواية و هو أنه أسلم و هو ابن عشر لم يلزم ما قاله الجاحظ لأن ابن عشر قد يستجمع عقله و يعلم من مبادئ المعارف ما يستخرج به كثيرا من الأمور المعقولة و متى كان الصبي عاقلا مميزا كان مكلفا بالعقليات و إن كان تكليفه بالشرعيات موقوفا على حد آخر و غاية أخرى فليس بمنكر أن يكون علي ع و هو ابن عشر قد عقل المعجزة فلزمه الإقرار بالنبوة و أسلم إسلام عالم عارف لا إسلام مقلد تابع و إن كان ما نسقه الجاحظ و عدده من معرفة السحر و النجوم و الفصل بينهما و بين النبوة و معرفة ما يجوز في الحكمة مما لا يجوز و ما لا يحدثه إلا الخالق و الفرق بينه و بين ما يقدر عليه القادرون بالقدرة و معرفة التمويه و الخديعة و التلبيس و المماكرة شرطا في صحة الإسلام لما صح إسلام أبي بكر و لا عمر و لا غيرهما من العرب و إنما التكليف لهؤلاء بالجمل و مبادئ المعارف لا بدقائقها و الغامض منها و ليس يفتقر الإسلام إلى أن يكون المسلم قد فاتح الرجال و جرب الأمور و نازع الخصوم و إنما يفتقر إلى صحة الغريزة و كمال العقل و سلامة الفطرة أ لا ترى أن طفلا لو نشأ في دار لم يعاشر الناس بها و لا فاتح الرجال و لا نازع الخصوم ثم كمل عقله و حصلت العلوم البديهية عنده لكان مكلفا بالعقليات . فأما توهمه أن عليا ع أسلم عن تربية الحاضن و تلقين القيم و رياضة السائس فلعمري إن محمدا ص كان حاضنه و قيمه و سائسه و لكن لم يكن منقطعا عن أبيه أبي طالب و لا عن إخوته طالب و عقيل و جعفر و لا عن عمومته و أهل بيته و ما زال مخالطا لهم ممتزجا بهم مع خدمته لمحمد ص فما باله لم يمل إلى الشرك و عبادة الأصنام لمخالطته إخوته و أباه و عمومته و أهله و هم كثير و محمد ص واحد و أنت تعلم أن الصبي إذا كان له أهل ذوو كثرة و فيهم واحد [ 240 ] يذهب إلى رأي مفرد لا يوافقه عليه غيره منهم فإنه إلى ذوي الكثرة أميل و عن ذي الرأي الشاذ المنفرد أبعد و على أن عليا ع لم يولد في دار الإسلام و إنما ولد في دار الشرك و ربي بين المشركين و شاهد الأصنام و عاين بعينه أهله و رهطه يعبدونها فلو كان في دار الإسلام لكان في القول مجال و لقيل إنه ولد بين المسلمين فإسلامه عن تلقين الظئر و عن سماع كلمة الإسلام و مشاهدة شعاره لأنه لم يسمع غيره و لا خطر بباله سواه فلما لم يكن ولد كذلك ثبت أن إسلامه إسلام المميز العارف بما دخل عليه و لو لا أنه كذلك لما مدحه رسول الله ص بذلك و لا أرضى ابنته فاطمة لما وجدت من تزويجه بقوله لها زوجتك أقدمهم سلما و لا قرن إلى قوله و أكثرهم علما و أعظمهم حلما و الحلم العقل و هذان الأمران غاية الفضل فلو لا أنه أسلم إسلام عارف عالم مميز لما ضم إسلامه إلى العلم و الحلم اللذين وصفه بهما و كيف يجوز أن يمدحه بأمر لم يكن مثابا عليه و لا معاقبا به لو تركه و لو كان إسلامه عن تلقين و تربية لما افتخر هو ع به على رءوس الأشهاد و لا خطب على المنبر و هو بين عدو و محارب و خاذل منافق فقال أنا عبد الله و أخو رسوله و أنا الصديق الأكبر و الفاروق الأعظم صليت قبل الناس سبع سنين و أسلمت قبل إسلام أبي بكر و آمنت قبل إيمانه فهل بلغكم أن أحدا من أهل ذلك العصر أنكر ذلك أو عابه أو ادعاه لغيره أو قال له إنما كنت طفلا أسلمت على تربية محمد ص ذلك و تلقينه إياك كما يعلم الطفل الفارسية و التركية منذ يكون رضيعا فلا فخر له في تعلم ذلك و خصوصا في عصر قد حارب فيه أهل البصرة و الشام و النهروان و قد اعتورته الأعداء و هجته الشعراء فقال فيه النعمان بن بشير [ 241 ] لقد طلب الخلافة من بعيد و سارع في الضلال أبو تراب معاوية الإمام و أنت منها على وتح بمنقطع السراب و قال فيه أيضا بعض الخوارج دسسنا له تحت الظلام ابن ملجم جزاء إذا ما جاء نفسا كتابها أبا حسن خذها على الرأس ضربة بكف كريم بعد موت ثوابها و قال عمران بن حطان يمدح قاتله يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره حينا فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا فلو وجد هؤلاء سبيلا إلى دحض حجة فيما كان يفخر به من تقدم إسلامه لبدءوا بذلك و تركوا ما لا معنى له . و قد أوردنا ما مدحه الشعراء به من سبقه إلى الإسلام فكيف لم يرد على هؤلاء الذين مدحوه بالسبق شاعر واحد من أهل حربه و لقد قال في أمهات الأولاد قولا خالف فيه عمر فذكروه بذلك و عابوه فكيف تركوا أن يعيبوه بما كان يفتخر به مما لا فخر فيه عندهم و عابوه بقوله في أمهات الأولاد . ثم يقال له خبرنا عن عبد الله بن عمر و قد أجازه النبي ص يوم الخندق و لم يجزه يوم أحد هل كان يميز ما ذكرته و هل كان يعلم فرق ما بين النبي و المتنبئ و يفصل بين السحر و المعجزة إلى غيره مما عددت و فصلت . فإن قال نعم و تجاسر على ذلك قيل له فعلي ع بذلك أولى من ابن عمر لأنه أذكى و أفطن بلا خلاف بين العقلاء و أنى يشك في ذلك و قد رويتم أنه [ 242 ] لم يميز بين الميزان و العود بعد طول السن و كثرة التجارب و لم يميز أيضا بين إمام الرشد و إمام الغي فإنه امتنع من بيعة علي ع و طرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام زعم لأنه روي عن النبي ص أنه قال من مات و لا إمام له مات ميتة جاهلية و حتى بلغ من احتقار الحجاج له و استرذاله حاله أن أخرج رجله من الفراش فقال أصفق بيدك عليها فذلك تمييزه بين الميزان و العود و هذا اختياره في الأئمة و حال علي ع في ذكائه و فطنته و توقد حسه و صدق حدسه معلومة مشهورة فإذا جاز أن يصح إسلام ابن عمر و يقال عنه إنه عرف تلك الأمور التي سردها الجاحظ و نسقها و أظهر فصاحته و تشدقه فيها فعلي بمعرفة ذلك أحق و بصحة إسلامه أولى . و إن قال لم يكن ابن عمر يعلم و يعرف ذلك فقد أبطل إسلامه و طعن في رسول الله ص حيث حكم بصحة إسلامه و أجازه يوم الخندق لأنه ع كان قال لا أجيز إلا البالغ العاقل و لذلك لم يجزه يوم أحد . ثم يقال له إن ما نقوله في بلوغ علي ع الحد الذي يحسن فيه التكليف العقلي بل يجب و هو ابن عشر سنين ليس بأعجب من مجي‏ء الولد لستة أشهر و قد صحح ذلك أهل العلم و استنبطوه من الكتاب و إن كان خارجا من التعارف و التجارب و العادة و كذلك مجي‏ء الولد لسنتين خارج أيضا عن التعارف و العادة و قد صححه الفقهاء و الناس . و يروى أن معاذا لما نهى عمر عن رجم الحامل تركها حتى ولدت غلاما قد نبتت ثنيتاه فقال أبوه ابني و رب الكعبة فثبت ذلك سنة يعمل بها الفقهاء و قد وجدنا العادة تقضي بأن الجارية تحيض لاثنتي عشرة سنة و أنه أقل سن تحيض فيه المرأة و قد [ 243 ] يكون في الأقل نساء يحضن لعشر و لتسع و قد ذكر ذلك الفقهاء و قد قال الشافعي في اللعان لو جاءت المرأة بحمل و زوجها صبي له دون عشر سنين لم يكن ولدا له لأن من لم يبلغ عشر سنين من الصبيان لا يولد له و إن كان له عشر سنين جاز أن يكون الولد له و كان بينهما لعان إذا لم يقر به . و قال الفقهاء أيضا إن نساء تهامة يحضن لتسع سنين لشدة الحر ببلادهن . قال الجاحظ و لو لم يعرف باطل هذه الدعوى من آثر التقوى و تحفظ من الهوى إلا بترك علي ع ذكر ذلك لنفسه و الاحتجاج به على خصمه و قد نازع الرجال و ناوى الأكفاء و جامع أهل الشورى لكان كافيا و متى لم تصح لعلي ع هذه الدعوى في أيامه و لم يذكرها أهل عصره فهي عن ولده أعجز و منهم أضعف . و لم ينقل أن عليا ع احتج بذلك في موقف و لا ذكره في مجلس و لا قام به خطيبا و لا أدلى به واثقا لا سيما و قد رضيه الرسول ص عندكم مفزعا و معلما و جعله للناس إماما و لا ادعى له أحد ذلك في عصره كما لم يدعه لنفسه حتى يقول إنسان واحد الدليل على إمامته أن النبي ص دعاه إلى الإسلام أو كلفه التصديق قبل بلوغه ليكون ذلك آية للناس في عصره و حجة له و لولده من بعده فهذا كان أشد على طلحة و الزبير و عائشة من كل ما ادعاه من فضائله و سوابقه و ذكر قرابته . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله إن مثل الجاحظ مع فضله و علمه لا يخفى عليه كذب [ 244 ] هذه الدعوى و فسادها و لكنه يقول ما يقوله تعصبا و عنادا و قد روى الناس كافة افتخار علي ع بالسبق إلى الإسلام و أن النبي ص استنبئ يوم الإثنين و أسلم علي يوم الثلاثاء و أنه كان يقول صليت قبل الناس سبع سنين و أنه ما زال يقول أنا أول من أسلم و يفتخر بذلك و يفتخر له به أولياؤه و مادحوه و شيعته في عصره و بعد وفاته و الأمر في ذلك أشهر من كل شهير و قد قدمنا منه طرفا و ما علمنا أحدا من الناس فيما خلا استخف بإسلام علي ع و لا تهاون به و لا زعم أنه أسلم إسلام حدث غرير و طفل صغير و من العجب أن يكون مثل العباس و حمزة ينتظران أبا طالب و فعله ليصدرا عن رأيه ثم يخالفه علي ابنه لغير رغبة و لا رهبة يؤثر القلة على الكثرة و الذل على العزة من غير علم و لا معرفة بالعاقبة و كيف ينكر الجاحظ و العثمانية أن رسول الله ص دعاه إلى الإسلام و كلفه التصديق . و قد روي في الخبر الصحيح أنه كلفه في مبدإ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام و انتشارها بمكة أن يصنع له طعاما و أن يدعو له بني عبد المطلب فصنع له الطعام و دعاهم له فخرجوا ذلك اليوم و لم ينذرهم ص لكلمة قالها عمه أبو لهب فكلفه في اليوم الثاني أن يصنع مثل ذلك الطعام و أن يدعوهم ثانية فصنعه و دعاهم فأكلوا ثم كلمهم ص فدعاهم إلى الدين و دعاه معهم لأنه من بني عبد المطلب ثم ضمن لمن يوازره منهم و ينصره على قوله أن يجعله أخاه في الدين و وصيه بعد موته و خليفته من بعده فأمسكوا كلهم و أجابه هو وحده و قال أنا أنصرك على ما جئت به و أوازرك و أبايعك فقال لهم لما رأى منهم الخذلان و منه النصر و شاهد منهم المعصية و منه الطاعة و عاين منهم الإباء و منه الإجابة هذا أخي و وصيي و خليفتي من بعدي فقاموا يسخرون و يضحكون و يقولون لأبي طالب أطع ابنك فقد أمره عليك فهل يكلف عمل [ 245 ] الطعام و دعاء القوم صغير مميز و غر غير عاقل و هل يؤتمن على سر النبوة طفل ابن خمس سنين أو ابن سبع و هل يدعى في جملة الشيوخ و الكهول إلا عاقل لبيب و هل يضع رسول الله ص يده في يده و يعطيه صفقة يمينه بالأخوة و الوصية و الخلافة إلا و هو أهل لذلك بالغ حد التكليف محتمل لولاية الله و عداوة أعدائه و ما بال هذا الطفل لم يأنس بأقرانه و لم يلصق بأشكاله و لم ير مع الصبيان في ملاعبهم بعد إسلامه و هو كأحدهم في طبقته كبعضهم في معرفته . و كيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته فيقال دعاه داعي الصبا و خاطر من خواطر الدنيا و حملته الغرة و الحداثة على حضور لهوهم و الدخول في حالهم بل ما رأيناه إلا ماضيا على إسلامه مصمما في أمره محققا لقوله بفعله قد صدق إسلامه بعفافه و زهده و لصق برسول الله ص من بين جميع من بحضرته فهو أمينه و أليفه في دنياه و آخرته و قد قهر شهوته و جاذب خواطره صابرا على ذلك نفسه لما يرجو من فوز العاقبة و ثواب الآخرة و قد ذكر هو ع في كلامه و خطبه بدء حاله و افتتاح أمره حيث أسلم لما دعا رسول الله ص الشجرة فأقبلت تخد الأرض فقالت قريش ساحر خفيف السحر فقال علي ع يا رسول الله أنا أول من يؤمن بك آمنت بالله و رسوله و صدقتك فيما جئت به و أنا أشهد أن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تصديقا لنبوتك و برهانا على صحة دعوتك فهل يكون إيمان قط أصح من هذا الإيمان و أوثق عقدة و أحكم مرة و لكن حنق العثمانية و غيظهم و عصبية الجاحظ و انحرافه مما لا حيلة فيه ثم لينظر المنصف و ليدع الهوى جانبا ليعلم نعمة الله على علي ع بالإسلام حيث أسلم على الوضع الذي أسلم عليه فإنه لو لا الألطاف التي خص بها و الهداية التي منحها لما كان إلا كبعض أقارب محمد ص و أهله فقد كان ممازجا له كممازجته و مخالطا له كمخالطة كثير من أهله و رهطه و لم يستجب منهم [ 246 ] أحد له إلا بعد حين و منهم من لم يستجب له أصلا فإن جعفرا ع كان ملتصقا به و لم يسلم حينئذ و كان عتبة بن أبي لهب ابن عمه و صهره زوج ابنته و لم يصدقه بل كان شديدا عليه و كان لخديجة بنون من غيره و لم يسلموا حينئذ و هم ربائبه و معه في دار واحدة و كان أبو طالب أباه في الحقيقة و كافله و ناصره و المحامي عنه و من لولاه لم تقم له قائمة و مع ذلك لم يسلم في أغلب الروايات و كان العباس عمه و صنو أبيه و كالقرين له في الولادة و المنشإ و التربية و لم يستجب له إلا بعد حين طويل و كان أبو لهب عمه و كدمه و لحمه و لم يسلم و كان شديدا عليه فكيف ينسب إسلام علي ع إلى الإلف و التربية و القرابة و اللحمة و التلقين و الحضانة و الدار الجامعة و طول العشرة و الأنس و الخلوة و قد كان كل ذلك حاصلا لهؤلاء أو لكثير منهم و لم يهتد أحد منهم إذ ذاك بل كانوا بين من جحد و كفر و مات على كفره و من أبطأ و تأخر و سبق بالإسلام و جاء سكيتا و قد فاز بالمنزلة غيره . و هل يدل تأمل حال علي ع مع الإنصاف إلا على أنه أسلم لأنه شاهد الأعلام و رأى المعجزات و شم ريح النبوة و رأى نور الرسالة و ثبت اليقين في قلبه بمعرفة و علم و نظر صحيح لا بتقليد و لا حمية و لا رغبة و لا رهبة إلا فيما يتعلق بأمور الآخرة . قال الجاحظ فلو أن عليا ع كان بالغا حيث أسلم لكان إسلام أبي بكر و زيد بن حارثة و خباب بن الأرت أفضل من إسلامه لأن إسلام المقتضب الذي لم يعتد به و لم يعوده و لم يمرن عليه أفضل من إسلام الناشئ الذي ربي فيه و نشأ و حبب [ 247 ] إليه و ذلك لأن صاحب التربية يبلغ حيث يبلغ و قد أسقط إلفه عنه مؤنة الروية و الخاطر و كفاه علاج القلب و اضطراب النفس و زيد و خباب و أبو بكر يعانون من كلفة النظر و مؤنة التأمل و مشقة الانتقال من الدين الذي قد طال إلفهم له ما هو غير خاف و لو كان علي حيث أسلم بالغا مقتضبا كغيره ممن عددنا كان إسلامهم أفضل من إسلامه لأن من أسلم و هو يعلم أن له ظهرا كأبي طالب و ردءا كبني هاشم و موضعا في بني عبد المطلب ليس كالحليف و المولى و التابع و العسيف و كالرجل من عرض قريش أ و لست تعلم أن قريشا خاصة و أهل مكة عامة لم يقدروا على أذى النبي ص ما كان أبو طالب حيا و أيضا فإن أولئك اجتمع عليهم مع فراق الإلف مشقة الخواطر و علي ع كان بحضرة رسول الله ص يشاهد الأعلام في كل وقت و يحضر منزل الوحي فالبراهين له أشد انكشافا و الخواطر على قلبه أقل اعتلاجا و على قدر الكلفة و المشقة يعظم الفضل و يكثر الأجر . قال أبو جعفر رحمه الله ينبغي أن ينظر أهل الإنصاف هذا الفصل و يقفوا على قول الجاحظ و الأصم في نصرة العثمانية و اجتهادهما في القصد إلى فضائل هذا الرجل و تهجينها فمرة يبطلان معناها و مرة يتوصلان إلى حط قدرها فلينظر في كل باب اعترضا فيه أين بلغت حيلتهما و ما صنعا في احتيالهما في قصصهما و سجعهما أ ليس إذا تأملتها علمت أنها ألفاظ ملفقة بلا معنى و أنها عليها شجى و بلاء و إلا فما عسى أن تبلغ حيلة الحاسد و يغني كيد الكائد الشانئ لمن قد جل قدره عن النقص و أضاءت فضائله إضاءة الشمس و أين قول الجاحظ من دلائل السماء و براهين الأنبياء و قد علم [ 248 ] الصغير و الكبير و العالم و الجاهل ممن بلغه ذكر علي ع و علم مبعث النبي ص أن عليا ع لم يولد في دار الإسلام و لا غذي في حجر الإيمان و إنما استضافه رسول الله ص إلى نفسه سنة القحط و المجاعة و عمره يومئذ ثماني سنين فمكث معه سبع سنين حتى أتاه جبرئيل بالرسالة فدعاه و هو بالغ كامل العقل إلى الإسلام فأسلم بعد مشاهدة المعجزة و بعد إعمال النظر و الفكرة و إن كان قد ورد في كلامه أنه صلى سبع سنين قبل الناس كلهم فإنما يعني ما بين الثمان و الخمس عشرة و لم يكن حينئذ دعوة و لا رسالة و لا ادعاء نبوة و إنما كان رسول الله ص يتعبد على ملة إبراهيم و دين الحنيفية و يتحنث و يجانب الناس و يعتزل و يطلب الخلوة و ينقطع في جبل حراء و كان علي ع معه كالتابع و التلميذ فلما بلغ الحلم و جاءت النبي ص الملائكة و بشرته بالرسالة دعاه فأجابه عن نظر و معرفة بالأعلام المعجزة فكيف يقول الجاحظ إن إسلامه لم يكن مقتضبا . و إن كان إسلامه ينقص عن إسلام غيره في الفضيلة لما كان يمرن عليه من التعبد مع رسول الله ص قبل الدعوة لتكونن طاعة كثير من المكلفين أفضل من طاعة رسول الله ص و أمثاله من المعصومين لأن العصمة عند أهل العدل لطف يمنع من اختص به من ارتكاب القبيح فمن اختص بذلك اللطف كانت الطاعة عليه أسهل فوجب أن يكون ثوابه أنقص من ثواب من أطاع مع تلك الألطاف . و كيف يقول الجاحظ إن إسلامه ناقص عن إسلام غيره و قد جاء في الخبر أنه أسلم يوم الثلاثاء و استنبئ النبي ص يوم الإثنين فمن هذه حاله لم تكثر حجج الرسالة على سمعه و لا تواترت أعلام النبوة على مشاهدته و لا تطاول الوقت عليه لتخف محنته و يسقط ثقل تكليفه بل بان فضله و ظهر حسن اختياره لنفسه إذ أسلم في حال بلوغه و عانى نوازع طبعه و لم يؤخر ذلك بعد سماعه . [ 249 ] و قد غمر الجاحظ في كتابه هذا أن أبا بكر كان قبل إسلامه مذكورا و رئيسا معروفا يجتمع إليه كثير من أهل مكة فينشدون الأشعار و يتذاكرون الأخبار و يشربون الخمر و قد كان سمع دلائل النبوة و حجج الرسل و سافر إلى البلدان و وصلت إليه الأخبار و عرف دعوى الكهنة و حيل السحرة و من كان كذلك كان انكشاف الأمور له أظهر و الإسلام عليه أسهل و الخواطر على قلبه أقل اعتلاجا و كل ذلك عون لأبي بكر على الإسلام و مسهل إليه سبيله و لذلك لما قال النبي ص أتيت بيت المقدس سأله أبو بكر عن المسجد و مواضعه فصدقه و بان له أمره و خفت مئونته لما تقدم من معرفته بالبيت فخرج إذا إسلام أبي بكر على قول الجاحظ من معنى المقتضب و في ذلك رويتم عنه ص أنه قال ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا و كان له تردد و نبوة إلا ما كان من أبي بكر فإنه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين إلى المعرفة و الإسلام فأين هذا و إسلام من خلي و عقله و ألجئ إلى نظره مع صغر سنه و اعتلاج الخواطر على قلبه و نشأته في ضد ما دخل فيه و الغالب على أمثاله و أقرانه حب اللعب و اللهو فلجأ إلى ما ظهر له من دلائل الدعوة و لم يتأخر إسلامه فيلزمه التقصير بالمعصية فقهر شهوته و غالب خواطره و خرج من عادته و ما كان غذي به لصحة نظره و لطافة فكره و غامض فهمه فعظم استنباطه و رجح فضله و شرف قدر إسلامه و لم يأخذ من الدنيا بنصيب و لا تنعم فيها بنعيم حدثا و لا كبيرا و حمى نفسه عن الهوى و كسر شرة حداثته بالتقوى و اشتغل بهم الدين عن نعيم الدنيا و أشغل هم الآخرة قلبه و وجه إليه رغبته فإسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه أحد غيره و ما سبيله في ذلك إلا كسبيل الأنبياء ليعلم أن منزلته من النبي ص كمنزلة هارون من موسى و أنه و إن لم يكن نبيا فقد كان في سبيل الأنبياء سالكا و لمنهاجهم متبعا و كانت حاله كحال إبراهيم ع فإن [ 250 ] أهل العلم ذكروا أنه لما كان صغيرا جعلته أمه في سرب لم يطلع عليه أحد فلما نشأ و درج و عقل قال لأمه من ربي قالت أبوك قال فمن رب أبي فزبرته و نهرته إلى أن طلع من شق السرب فرأى كوكبا فقال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بري‏ء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين و في ذلك يقول الله جل ثناؤه وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ و على هذا كان إسلام الصديق الأكبر ع لسنا نقول إنه كان مساويا له في الفضيلة و لكن كان مقتديا بطريقه على ما قال الله تعالى إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللَّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ و أما اعتلال الجاحظ بأن له ظهرا كأبي طالب و ردءا كبني هاشم فإنه يوجب عليه أن تكون محنة أبي بكر و بلال و ثوابهما و فضل إسلامهما أعظم مما لرسول الله ص لأن أبا طالب ظهره و بني هاشم ردؤه و حسبك جهلا من معاند لم يستطع حط قدر علي ع إلا بحطه من قدر رسول الله ص و لم يكن أحد أشد على رسول الله ص من قراباته الأدنى منهم فالأدنى كأبي لهب عمه و امرأة أبي لهب و هي أم جميل بنت حرب بن أمية و إحدى أولاد عبد مناف ثم ما كان من عقبة بن أبي معيط و هو ابن عمه و ما كان من النضر بن الحارث و هو من بني عبد الدار بن قصي و هو ابن عمه أيضا و غير هؤلاء ممن يطول تعداده و كلهم كان يطرح الأذى في طريقه و ينقل أخباره و يرميه بالحجارة و يرمي الكرش [ 251 ] و الفرث عليه و كانوا يؤذون عليا ع كأذاه و يجتهدون في غمه و يستهزءون به و ما كان لأبي بكر قرابة تؤذيه كقرابة علي و لما كان بين علي و بين النبي ص من الاتحاد و الإلف و الاتفاق أحجم المنافقون بالمدينة عن أذى رسول الله ص خوفا من سيفه و لأنه صاحب الدار و الجيش و أمره مطاع و قوله نافذ فخافوا على دمائهم منه فاتقوه و أمسكوا عن إظهار بغضه و أظهروا بغض علي ع و شنآنه فقال رسول الله ص في حقه في الخبر الذي روي في جميع الصحاح لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق و قال كثير من أعلام الصحابة كما روي في الخبر المشهور بين المحدثين ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغض علي بن أبي طالب و أين كان ظهر أبي طالب عن جعفر و قد أزعجه الأذى عن وطنه حتى هاجر إلى بلاد الحبشة و ركب البحر أ يتوهم الجاحظ أن أبا طالب نصر عليا و خذل جعفرا . قال الجاحظ و لأبي بكر فضيلة في إسلامه أنه كان قبل إسلامه كثير الصديق عريض الجاه ذا يسار و غنى يعظم لماله و يستفاد من رأيه فخرج من عز الغنى و كثرة الصديق إلى ذل الفاقة و عجز الوحدة و هذا غير إسلام من لا حراك به و لا عز له تابع غير متبوع لأن من أشد ما يبتلى الكريم به السب بعد التحية و الضرب بعد الهيبة و العسر بعد اليسر ثم كان أبو بكر دعية من دعاة الرسول و كان يتلوه في جميع أحواله فكان الخوف إليه أشد و المكروه نحوه أسرع و كان ممن تحسن مطالبته و لا يستحيا من إدراك الثأر عنده لنباهته و بعد ذكره و الحدث الصغير يزدرى و يحتقر لصغر سنه و خمول ذكره . [ 252 ] قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما ما ذكر من كثرة المال و الصديق و استفاضة الذكر و بعد الصيت و كبر السن فكله عليه لا له و ذلك لأنه قد علم أن من سيرة العرب و أخلاقها حفظ الصديق و الوفاء بالذمام و التهيب لذي الثروة و احترام ذي السن العالية و في كل هذا ظهر شديد و سند و ثقة يعتمد عليها عند المحن و لذلك كان المرء منهم إذا تمكن من صديقه أبقى عليه و استحيا منه و كان ذلك سببا لنجاته و العفو عنه على أن علي بن أبي طالب ع إن لم يكن شهره سنه فقد شهره نسبه و موضعه من بني هاشم و إن لم يستفض ذكره بلقاء الرجال و كثرة الأسفار استفاض بأبي طالب فأنتم تعلمون أنه ليس تيم في بعد الصيت كهاشم و لا أبو قحافة كأبي طالب و على حسب ذلك يعلو ذكر الفتى على ذي السن و يبعد صيت الحدث على الشيخ و معلوم أيضا أن عليا على أعناق المشركين أثقل إذ كان هاشميا و إن كان أبوه حامى رسول الله ص و المانع لحوزته و علي هو الذي فتح على العرب باب الخلاف و استهان بهم بما أظهر من الإسلام و الصلاة و خالف رهطه و عشيرته و أطاع ابن عمه فيما لم يعرف من قبل و لا عهد له نظير كما قال تعالى لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ثم كان بعد صاحب رسول الله ص و مشتكى حزنه و أنيسه في خلوته و جليسه و أليفه في أيامه كلها و كل هذا يوجب التحريض عليه و معاداة العرب له ثم أنتم معاشر العثمانية تثبتون لأبي بكر فضيلة بصحبة الرسول ص من مكة إلى يثرب و دخوله معه في الغار فقلتم مرتبة شريفة و حالة جليلة إذ كان شريكه في الهجرة و أنيسه في الوحشة فأين هذه من صحبة علي ع له في خلوته و حيث لا يجد أنيسا غيره ليله و نهاره أيام مقامه بمكة يعبد الله [ 253 ] معه سرا و يتكلف له الحاجة جهرا و يخدمه كالعبد يخدم مولاه و يشفق عليه و يحوطه و كالولد يبر والده و يعطف عليه و لما سئلت عائشة من كان أحب الناس إلى رسول الله ص قالت أما من الرجال فعلي و أما من النساء ففاطمة . قال الجاحظ و كان أبو بكر من المفتونين المعذبين بمكة قبل الهجرة فضربه نوفل بن خويلد المعروف بابن العدوية مرتين حتى أدماه و شده مع طلحة بن عبيد الله في قرن و جعلهما في الهاجرة عمير بن عثمان بن مرة بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة و لذلك كانا يدعيان القرينين و لو لم يكن له غير ذلك لكان لحاقه عسيرا و بلوغ منزلته شديدا و لو كان يوما واحدا لكان عظيما و علي بن أبي طالب رافه وادع ليس بمطلوب و لا طالب و ليس أنه لم يكن في طبعه الشهامة و النجدة و في غريزته البسالة في الشجاعة لكنه لم يكن قد تمت أداته و لا استكملت آلته و رجال الطلب و أصحاب الثأر يغمصون ذا الحداثة و يزدرون بذي الصبا و الغرارة إلى أن يلحق بالرجال و يخرج من طبع الأطفال . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما القول فممكن و الدعوى سهلة سيما على مثل الجاحظ فإنه ليس على لسانه من دينه و عقله رقيب و هو من دعوى الباطل غير بعيد فمعناه نزر و قوله لغو و مطلبه سجع و كلامه لعب و لهو يقول الشي‏ء و خلافه و يحسن القول و ضده ليس له من نفسه واعظ و لا لدعواه حد قائم و إلا فكيف تجاسر على القول بأن عليا حينئذ لم يكن مطلوبا و لا طالبا و قد بينا بالأخبار الصحيحة و الحديث المرفوع المسند أنه كان يوم أسلم بالغا كاملا منابذا بلسانه و قلبه لمشركي قريش [ 254 ] ثقيلا على قلوبهم و هو المخصوص دون أبي بكر بالحصار في الشعب و صاحب الخلوات برسول الله ص في تلك الظلمات المتجرع لغصص المرار من أبي لهب و أبي جهل و غيرهما و المصطلي لكل مكروه و الشريك لنبيه في كل أذى قد نهض بالحمل الثقيل و بان بالأمر الجليل و من الذي كان يخرج ليلا من الشعب على هيئة السارق و يخفي نفسه و يضائل شخصه حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبو طالب من كبراء قريش كمطعم بن عدي و غيره فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق و القمح و هو على أشد خوف من أعدائهم كأبي جهل و غيره لو ظفروا به لأراقوا دمه أ علي كان يفعل ذلك أيام الحصار في الشعب أم أبو بكر و قد ذكر هو ع حاله يومئذ فقال في خطبة له مشهورة فتعاقدوا ألا يعاملونا و لا يناكحونا و أوقدت الحرب علينا نيرانها و اضطرونا إلى جبل وعر مؤمننا يرجو الثواب و كافرنا يحامي عن الأصل و لقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم و قطعوا عنهم المارة و الميرة فكانوا يتوقعون الموت جوعا صباحا و مساء لا يرون وجها و لا فرجا قد اضمحل عزمهم و انقطع رجاؤهم فمن الذي خلص إليه مكروه تلك المحن بعد محمد ص إلا علي ع وحده و ما عسى أن يقول الواصف و المطنب في هذه الفضيلة من تقصي معانيها و بلوغ غاية كنهها و فضيلة الصابر عندها و دامت هذه المحنة عليهم ثلاث سنين حتى انفرجت عنهم بقصة الصحيفة و القصة مشهورة . و كيف يستحسن الجاحظ لنفسه أن يقول في علي ع إنه قبل الهجرة كان وادعا رافها لم يكن مطلوبا و لا طالبا و هو صاحب الفراش الذي فدى رسول الله ص بنفسه و وقاه بمهجته و احتمل السيوف و رضح الحجارة دونه و هل ينتهي الواصف و إن أطنب و المادح و إن أسهب إلى الإبانة عن مقدار هذه الفضيلة و الإيضاح بمزية هذه الخصيصة . [ 255 ] فأما قوله إن أبا بكر عذب بمكة فإنا لا نعلم أن العذاب كان واقعا إلا بعبد أو عسيف أو لمن لا عشيرة له تمنعه فأنتم في أبي بكر بين أمرين تارة تجعلونه دخيلا ساقطا و هجينا رذيلا مستضعفا ذليلا و تارة تجعلونه رئيسا متبعا و كبيرا مطاعا فاعتمدوا على أحد القولين لنكلمكم بحسب ما تختارونه لأنفسكم و لو كان الفضل في الفتنة و العذاب لكان عمار و خباب و بلال و كل معذب بمكة أفضل من أبي بكر لأنهم كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه و نزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه كقوله تعالى وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا فِي اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا قالوا نزلت في خباب و بلال و نزل في عمار قوله إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ و كان رسول الله ص يمر على عمار و أبيه و أمه و هم يعذبون يعذبهم بنو مخزوم لأنهم كانوا حلفاءهم فيقول صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة و كان بلال يقلب على الرمضاء و هو يقول أحد أحد و ما سمعنا لأبي بكر في شي‏ء من ذلك ذكرا و لقد كان لعلي ع عنده يد غراء إن صح ما رويتموه في تعذيبه لأنه قتل نوفل بن خويلد و عمير بن عثمان يوم بدر ضرب نوفلا فقطع ساقه فقال أذكرك الله و الرحم فقال قد قطع الله كل رحم و صهر إلا من كان تابعا لمحمد ثم ضربه أخرى ففاضت نفسه و صمد لعمير بن عثمان التميمي فوجده يروم الهرب و قد ارتج عليه المسلك فضربه على شراسيف صدره فصار نصفه الأعلى بين رجليه و ليس أن أبا بكر لم يطلب بثأره منهما و يجتهد لكنه لم يقدر على أن يفعل فعل علي ع فبان علي ع بفعله دونه قال الجاحظ و لأبي بكر مراتب لا يشركه فيها علي و لا غيره و ذلك قبل الهجرة [ 256 ] فقد علم الناس أن عليا ع إنما ظهر فضله و انتشر صيته و امتحن و لقي المشاق منذ يوم بدر و أنه إنما قاتل في الزمان الذي استوفى فيه أهل الإسلام و أهل الشرك و طمعوا في أن يكون الحرب بينهم سجالا و أعلمهم الله تعالى أن العاقبة للمتقين و أبو بكر كان قبل الهجرة معذبا و مطرودا مشردا في الزمان الذي ليس بالإسلام و أهله نهوض و لا حركة و لذلك قال أبو بكر في خلافته طوبى لمن مات في فأفأة الإسلام يقول في ضعفه . قال أبو جعفر رحمه الله لا أشك أن الباطل خان أبا عثمان و الخطأ أقعده و الخذلان أصاره إلى الحيرة فما علم و عرف حتى قال ما قال فزعم أن عليا ع قبل الهجرة لم يمتحن و لم يكابد المشاق و أنه إنما قاسى مشاق التكليف و محن الابتلاء منذ يوم بدر و نسي الحصار في الشعب و ما مني به منه و أبو بكر وادع رافه يأكل ما يريد و يجلس مع من يحب مخلى سربه طيبة نفسه ساكنا قلبه و علي يقاسي الغمرات و يكابد الأهوال و يجوع و يظمأ و يتوقع القتل صباحا و مساء لأنه كان هو المتوصل المحتال في إحضار قوت زهيد من شيوخ قريش و عقلائها سرا ليقيم به رمق رسول الله ص و بني هاشم و هم في الحصار و لا يأمن في كل وقت مفاجأة أعداء رسول الله ص له بالقتل كأبي جهل بن هشام و عقبة بن أبي معيط و الوليد بن المغيرة و عتبة بن ربيعة و غيرهم من فراعنة قريش و جبابرتها و لقد كان يجيع نفسه و يطعم رسول الله ص زاده و يظمئ نفسه و يسقيه ماءه و هو كان المعلل له إذا مرض و المؤنس له إذا استوحش و أبو بكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم ألم و لم يلحقه مما يلحقهم مشقة و لا يعلم بشي‏ء من أخبارهم و أحوالهم إلا على سبيل الإجمال دون التفصيل ثلاث سنين محرمة معاملتهم و مناكحتهم و مجالستهم محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج [ 257 ] و التصرف في أنفسهم فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة و نسي هذه الخصيصة و لا نظير لها و لكن لا يبالي الجاحظ بعد أن يسوغ له لفظه و تنسق له خطابته ما ضيع من المعنى و رجع عليه من الخطأ . فأما قوله و اعلموا أن العاقبة للمتقين ففيه إشارة إلى معنى غامض قصده الجاحظ يعني أن لا فضيلة لعلي ع في الجهاد لأن الرسول كان أعلمه أنه منصور و أن العاقبة له و هذا من دسائس الجاحظ و همزاته و لمزاته و ليس بحق ما قاله لأن رسول الله ص أعلم أصحابه جملة أن العاقبة لهم و لم يعلم واحدا منهم بعينه أنه لا يقتل لا عليا و لا غيره و إن صح أنه كان أعلمه أنه لا يقتل فلم يعلمه أنه لا يقطع عضو من أعضائه و لم يعلمه أنه لا يمسه ألم جراح في جسده و لم يعلمه أنه لا يناله الضرب الشديد . و على أن رسول الله ص قد أعلم أصحابه قبل يوم بدر و هو يومئذ بمكة أن العاقبة لهم كما أعلم أصحابه بعد الهجرة ذلك فإن لم يكن لعلي و المجاهدين فضيلة في الجهاد بعد الهجرة لإعلامه إياهم ذلك فلا فضيلة لأبي بكر و غيره في احتمال المشاق قبل الهجرة لإعلامه إياهم بذلك فقد جاء في الخبر أنه وعد أبا بكر قبل الهجرة بالنصر و أنه قال له أرسلت إلى هؤلاء بالذبح و إن الله تعالى سيغنمنا أموالهم و يملكنا ديارهم فالقول في الموضعين متساو و متفق . قال الجاحظ و إن بين المحنة في الدهر الذي صار فيه أصحاب النبي ص مقرنين لأهل مكة و مشركي قريش و معهم أهل يثرب أصحاب النخيل و الآطام و الشجاعة و الصبر و المواساة و الإيثار و المحاماة و العدد الدثر و الفعل الجزل و بين الدهر الذي كانوا فيه بمكة يفتنون و يشتمون و يضربون و يشردون و يجوعون و يعطشون [ 258 ] مقهورين لا حراك بهم و أذلاء لا عز لهم و فقراء لا مال عندهم و مستخفين لا يمكنهم إظهار دعوتهم لفرقا واضحا و لقد كانوا في حال أحوجت لوطا و هو نبي إلى أن قال لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ و قال النبي ص عجبت من أخي لوط كيف قال أَوْ آوِي إِلى‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ و هو يأوي إلى الله تعالى ثم لم يكن ذلك يوما و لا يومين و لا شهرا و لا شهرين و لا عاما و لا عامين و لكن السنين بعد السنين و كان أغلظ القوم و أشدهم محنة بعد رسول الله ص أبو بكر لأنه أقام بمكة ما أقام رسول الله ص ثلاث عشرة سنة و هو أوسط ما قالوا في مقام النبي ص . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما نرى الجاحظ احتج لكون أبي بكر أغلظهم و أشدهم محنة إلا بقوله لأنه أقام بمكة مدة مقام الرسول ص بها و هذه الحجة لا تخص أبا بكر وحده لأن عليا ع أقام معه هذه المدة و كذلك طلحة و زيد و عبد الرحمن و بلال و خباب و غيرهم و قد كان الواجب عليه أن يخص أبا بكر وحده بحجة تدل على أنه كان أغلظ الجماعة و أشدهم محنة بعد رسول الله ص فالاحتجاج في نفسه فاسد . ثم يقال له ما بالك أهملت أمر مبيت علي ع على الفراش بمكة ليلة الهجرة هل نسيته أم تناسيته فإنها المحنة العظيمة و الفضيلة الشريفة التي متى امتحنها الناظر و أجال فكره فيها رأى تحتها فضائل متفرقة و مناقب متغايرة و ذلك أنه لما استقر الخبر عند المشركين أن رسول الله ص مجمع على الخروج من بينهم للهجرة [ 259 ] إلى غيرهم قصدوا إلى معاجلته و تعاقدوا على أن يبيتوه في فراشه و أن يضربوه بأسياف كثيرة بيد كل صاحب قبيلة من قريش سيف منها ليضيع دمه بين الشعوب و يتفرق بين القبائل و لا يطلب بنو هاشم بدمه قبيلة واحدة بعينها من بطون قريش و تحالفوا على تلك الليلة و اجتمعوا عليها فلما علم رسول ص ذلك من أمرهم دعا أوثق الناس عنده و أمثلهم في نفسه و أبذلهم في ذات الإله لمهجته و أسرعهم إجابة إلى طاعته فقال له إن قريشا قد تحالفت على أن تبيتني هذه الليلة فامض إلى فراشي و نم في مضجعي و التف في بردي الحضرمي ليروا أني لم أخرج و إني خارج إن شاء الله فمنعه أولا من التحرز و إعمال الحيلة و صده عن الاستظهار لنفسه بنوع من أنواع المكايد و الجهات التي يحتاط بها الناس لنفوسهم و ألجأه إلى أن يعرض نفسه لظبات السيوف الشحيذة من أيدي أرباب الحنق و الغيظة فأجاب إلى ذلك سامعا مطيعا طيبة بها نفسه و نام على فراشه صابرا محتسبا واقيا له بمهجته ينتظر القتل و لا نعلم فوق بذل النفس درجة يلتمسها صابر و لا يبلغها طالب و الجود بالنفس أقصى غاية الجود و لو لا أن رسول الله ص علم أنه أهل لذلك لما أهله و لو كان عنده نقص في صبره أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه و اختير لذلك لكان من اختاره ص منقوضا في رأيه مضرا في اختياره و لا يجوز أن يقول هذا أحد من أهل الإسلام و كلهم مجمعون على أن الرسول ص عمل الصواب و أحسن في الاختيار . ثم في ذلك إذا تأمله المتأمل وجوه من الفضل منها أنه و إن كان عنده في موضع الثقة فإنه غير مأمون عليه ألا يضبط السر فيفسد التدبير بإفشائه تلك الليلة إلى من يلقيه إلى الأعداء . و منها أنه و إن كان ضابطا للسر و ثقة عند من اختاره فغير مأمون عليه الجبن عند [ 260 ] مفاجأة المكروه و مباشرة الأهوال فيفر من الفراش فيفطن لموضع الحيلة و يطلب رسول الله ص فيظفر به . و منها أنه و إن كان ضابطا للسر شجاعا نجدا فلعله غير محتمل للمبيت على الفراش لأن هذا أمر خارج عن الشجاعة إن كان قد قامه مقام المكتوف الممنوع بل هو أشد مشقة من المكتوف الممنوع لأن المكتوف الممنوع يعلم من نفسه أنه لا سبيل له إلى الهرب و هذا يجد السبيل إلى الهرب و إلى الدفع عن نفسه و لا يهرب و لا يدافع . و منها أنه و إن كان ثقة عنده ضابطا للسر شجاعا محتملا للمبيت على الفراش فإنه غير مأمون أن يذهب صبره عند العقوبة الواقعة و العذاب النازل بساحته حتى يبوح بما عنده و يصير إلى الإقرار بما يعلمه و هو أنه أخذ طريق كذا فيطلب فيؤخذ فلهذا قال علماء المسلمين إن فضيلة علي ع تلك الليلة لا نعلم أحدا من البشر نال مثلها إلا ما كان من إسحاق و إبراهيم عند استسلامه للذبح و لو لا أن الأنبياء لا يفضلهم غيرهم لقلنا إن محنة علي أعظم لأنه قد روي أن إسحاق تلكأ لما أمره أن يضطجع و بكى على نفسه و قد كان أبوه يعلم أن عنده في ذلك وقفة و لذلك قال له فَانْظُرْ ما ذا تَرى‏ و حال علي ع بخلاف ذلك لأنه ما تلكأ و لا تتعتع و لا تغير لونه و لا اضطربت أعضاؤه و لقد كان أصحاب النبي ص يشيرون عليه بالرأي المخالف لما كان أمر به و تقدم فيه فيتركه و يعمل بما أشاروا به كما جرى يوم الخندق في مصانعة الأحزاب بثلث تمر المدينة فإنهم أشاروا عليه بترك ذلك فتركه و هذه كانت قاعدته معهم و عادته بينهم و قد كان لعلي ع أن يعتل بعلة و أن يقف و يقول يا رسول الله أكون معك أحميك من العدو و أذب بسيفي عنك فلست [ 261 ] مستغنيا في خروجك عن مثلي و نجعل عبدا من عبيدنا في فراشك قائما مقامك يتوهم القوم برؤيته نائما في بردك أنك لم تخرج و لم تفارق مركزك فلم يقل ذلك و لا تحبس و لا توقف و لا تلعثم و ذلك لعلم كل واحد منهما ص أن أحدا لا يصبر على ثقل هذه المحنة و لا يتورط هذه الهلكة إلا من خصه الله تعالى بالصبر على مشقتها و الفوز بفضيلتها و له من جنس ذلك أفعال كثيرة كيوم دعا عمرو بن عبد ود المسلمين إلى المبارزة فأحجم الناس كلهم عنه لما علموا من بأسه و شدته ثم كرر النداء فقام علي ع فقال أنا أبرز إليه فقال له رسول الله ص إنه عمرو قال نعم و أنا علي فأمره بالخروج إليه فلما خرج قال ص برز الإيمان كله إلى الشرك كله و كيوم أحد حيث حمى رسول الله ص من أبطال قريش و هم يقصدون قتله فقتلهم دونه حتى قال جبرئيل ع يا محمد إن هذه هي المواساة فقال إنه مني و أنا منه فقال جبريل و أنا منكما و لو عددنا أيامه و مقاماته التي شرى فيها نفسه لله تعالى لأطلنا و أسهبنا قال الجاحظ فإن احتج محتج لعلي ع بالمبيت على الفراش فبين الغار و الفراش فرق واضح لأن الغار و صحبة أبي بكر للنبي ص قد نطق به القرآن فصار كالصلاة و الزكاة و غيرهما مما نطق به الكتاب و أمر علي ع و نومه على الفراش و إن كان ثابتا صحيحا إلا أنه لم يذكر في القرآن و إنما جاء مجي‏ء الروايات و السير و هذا لا يوازن هذا و لا يكايله . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا فرق غير مؤثر لأنه قد ثبت بالتواتر حديث [ 262 ] الفراش فلا فرق بينه و بين ما ذكر في نص الكتاب و لا يجحده إلا مجنون أو غير مخالط لأهل الملة أ رأيت كون الصلوات خمسا و كون زكاة الذهب ربع العشر و كون خروج الريح ناقضا للطهارة و أمثال ذلك مما هو معلوم بالتواتر حكمه هل هو مخالف لما نص في الكتاب عليه من الأحكام هذا مما لا يقوله رشيد و لا عاقل على أن الله تعالى لم يذكر اسم أبي بكر في الكتاب و إنما قال إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ و إنما علمنا أنه أبو بكر بالخبر و ما ورد في السيرة و قد قال أهل التفسير إن قوله تعالى وَ يَمْكُرُ اَللَّهُ وَ اَللَّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ كناية عن علي ع لأنه مكر بهم و أول الآية وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللَّهُ وَ اَللَّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ أنزلت في ليلة الهجرة و مكرهم كان توزيع السيوف على بطون قريش و مكر الله تعالى هو منام علي ع على الفراش فلا فرق بين الموضعين في أنهما مذكوران كناية لا تصريحا و قد روى المفسرون كلهم أن قول الله تعالى وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللَّهِ أنزلت في علي ع ليلة المبيت على الفراش فهذه مثل قوله تعالى إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا فرق بينهما . قال الجاحظ و فرق آخر و هو أنه لو كان مبيت علي ع على الفراش جاء مجي‏ء كون أبي بكر في الغار لم يكن له في ذلك كبير طاعة لأن الناقلين نقلوا أنه ص قال له نم فلن يخلص إليك شي‏ء تكرهه و لم ينقل ناقل أنه [ 263 ] قال لأبي بكر في صحبته إياه و كونه معه في الغار مثل ذلك و لا قال له أنفق و أعتق فإنك لن تفتقر و لن يصل إليك مكروه . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا هو الكذب الصراح و التحريف و الإدخال في الرواية ما ليس منها و المعروف المنقول أنه ص قال له اذهب فاضطجع في مضجعي و تغش ببردي الحضرمي فإن القوم سيفقدونني و لا يشهدون مضجعي فلعلهم إذا رأوك يسكنهم ذلك حتى يصبحوا فإذا أصبحت فاغد في أداء أمانتي و لم ينقل ما ذكره الجاحظ و إنما ولده أبو بكر الأصم و أخذه الجاحظ و لا أصل له و لو كان هذا صحيحا لم يصل إليه منهم مكروه و قد وقع الاتفاق على أنه ضرب و رمي بالحجارة قبل أن يعلموا من هو حتى تضور و أنهم قالوا له رأينا تضورك فإنا كنا نرمي محمدا و لا يتضور و لأن لفظة المكروه إن كان قالها إنما يراد بها القتل فهب أنه أمن القتل كيف يأمن من الضرب و الهوان و من أن ينقطع بعض أعضائه و بأن سلمت نفسه أ ليس الله تعالى قال لنبيه بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ و مع ذلك فقد كسرت رباعيته و شج وجهه و أدميت ساقه و ذلك لأنها عصمة من القتل خاصة و كذلك المكروه الذي أومن علي ع منه و إن كان صح ذلك في الحديث إنما هو مكروه القتل . ثم يقال له و أبو بكر لا فضيلة له أيضا في كونه في الغار لأن النبي ص قال له لا تَحْزَنْ إِنَّ اَللَّهَ مَعَنا و من يكن الله معه فهو آمن لا محالة من كل سوء فكيف قلت و لم ينقل ناقل أنه قال لأبي بكر في الغار مثل ذلك فكل ما يجيب به عن هذا فهو جوابنا عما أورده فنقول له هذا ينقلب عليك في النبي ص [ 264 ] لأن الله تعالى وعده بظهور دينه و عاقبة أمره فيجب على قولك ألا يكون مثابا عند الله تعالى على ما يحتمله من المكروه و لا ما يصيبه من الأذى إذ كان قد أيقن بالسلامة و الفتح في عدته . قال الجاحظ و من جحد كون أبي بكر صاحب رسول الله ص فقد كفر لأنه جحد نص الكتاب ثم انظر إلى قوله تعالى إِنَّ اَللَّهَ مَعَنا من الفضيلة لأبي بكر لأنه شريك رسول الله ص في كون الله تعالى معه و إنزال السكينة قال كثير من الناس إنه في الآية مخصوص بأبي بكر لأنه كان محتاجا إلى السكينة لما تداخله من رقة الطبع البشري و النبي ص كان غير محتاج إليها لأنه يعلم أنه محروس من الله تعالى فلا معنى لنزول السكينة عليه و هذه فضيلة ثالثة لأبي بكر . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله إن أبا عثمان يجر على نفسه ما لا طاقة له به من مطاعن الشيعة و لقد كان في غنية عن التعلق بما تعلق به لأن الشيعة تزعم أن هذه الآية بأن تكون طعنا و عيبا على أبي بكر أولى من أن تكون فضيلة و منقبة له لأنه لما قال له لا تَحْزَنْ دل على أنه قد كان حزن و قنط و أشفق على نفسه و ليس هذا من صفات المؤمنين الصابرين و لا يجوز أن يكون حزنه طاعة لأن الله تعالى لا ينهى عن الطاعة فلو لم يكن ذنبا لم ينه عنه و قوله إِنَّ اَللَّهَ مَعَنا أي إن الله عالم بحالنا و ما نضمره من اليقين أو الشك كما يقول الرجل لصاحبه لا تضمرن سوءا و لا تنوين قبيحا فإن الله تعالى يعلم ما نسره و ما نعلنه و هذا مثل قوله تعالى وَ لا أَدْنى‏ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا أي هو عالم بهم و أما السكينة [ 265 ] فكيف يقول إنها ليست راجعة إلى النبي ص و بعدها قوله وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أ ترى المؤيد بالجنود كان أبا بكر أم رسول الله ص . و قوله إنه مستغن عنها ليس بصحيح و لا يستغني أحد عن ألطاف الله و توفيقه و تأييده و تثبيت قلبه و قد قال الله تعالى في قصة حنين وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اَللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ ص . و أما الصحبة فلا تدل إلا على المرافقة و الاصطحاب لا غير و قد يكون حيث لا إيمان كما قال تعالى قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ و نحن و إن كنا نعتقد إخلاص أبي بكر و إيمانه الصحيح السليم و فضيلته التامة إلا أنا لا نحتج له بمثل ما احتج به الجاحظ من الحجج الواهية و لا نتعلق بما يجر علينا دواهي الشيعة و مطاعنها . قال الجاحظ و إن كان المبيت على الفراش فضيلة فأين هي من فضائل أبي بكر أيام مكة من عتق المعذبين و إنفاق المال و كثرة المستجيبين مع فرق ما بين الطاعتين لأن طاعة الشاب الغرير و الحدث الصغير الذي في عز صاحبه عزه ليست كطاعة الحليم الكبير الذي لا يرجع تسويد صاحبه إلى رهطه و عشيرته . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما كثرة المستجيبين فالفضل فيها راجع إلى المجيب [ 266 ] لا إلى المجاب على أنا قد علمنا أن من استجاب لموسى ع أكثر ممن استجاب لنوح ع و ثواب نوح أكثر لصبره على الأعداء و مقاساة خلافهم و عنتهم و أما إنفاق المال فأين محنة الغني من محنة الفقير و أين يعتدل إسلام من أسلم و هو غني إن جاع أكل و إن أعيا ركب و إن عري لبس قد وثق بيساره و استغنى بماله و استعان على نوائب الدنيا بثروته ممن لا يجد قوت يومه و إن وجد لم يستأثر به فكان الفقر شعاره و في ذلك قيل الفقر شعار المؤمن و قال الله تعالى لموسى يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين و في الحديث أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام و كان النبي ص يقول اللهم احشرني في زمرة الفقراء و لذلك أرسل الله محمدا ص فقيرا و كان بالفقر سعيدا فقاسى محنة الفقر و مكابدة الجوع حتى شد الحجر على بطنه و حسبك بالفقر فضيلة في دين الله لمن صبر عليه فإنك لا تجد صاحب الدنيا يتمناه لأنه مناف لحال الدنيا و أهلها و إنما هو شعار أهل الآخرة . و أما طاعة علي ع و كون الجاحظ زعم أنها كانت لأن في عز محمد عزه و عز رهطه بخلاف طاعة أبي بكر فهذا يفتح عليه أن يكون جهاد حمزة كذلك و جهاد عبيدة بن الحارث و هجرة جعفر إلى الحبشة بل لعل محاماة المهاجرين من قريش على رسول الله ص كانت لأن في دولته دولتهم و في نصرته استجداد ملك لهم و هذا يجر إلى الإلحاد و يفتح باب الزندقة و يفضي إلى الطعن في الإسلام و النبوة . قال الجاحظ و على أنا لو نزلنا إلى ما يريدونه جعلنا الفراش كالغار و خلصت فضائل أبي بكر في غير ذلك عن معارض . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله قد بينا فضيلة المبيت على الفراش على فضيلة الصحبة [ 267 ] في الغار بما هو واضح لمن أنصف و نزيد هاهنا تأكيدا بما لم نذكره فيما تقدم فنقول إن فضيلة المبيت على الفراش على الصحبة في الغار لوجهين أحدهما أن عليا ع قد كان أنس بالنبي ص و حصل له بمصاحبته قديما أنس عظيم و إلف شديد فلما فارقه عدم ذلك الأنس و حصل به أبو بكر فكان ما يجده علي ع من الوحشة و ألم الفرقة موجبا زيادة ثوابه لأن الثواب على قدر المشقة . و ثانيهما أن أبا بكر كان يؤثر الخروج من مكة و قد كان خرج من قبل فردا فازداد كراهية للمقام فلما خرج مع رسول الله ص وافق ذلك هوى قلبه و محبوب نفسه فلم يكن له من الفضيلة ما يوازي فضيلة من احتمل المشقة العظيمة و عرض نفسه لوقع السيوف و رأسه لرضخ الحجارة لأنه على قدر سهولة العبادة يكون نقصان الثواب قال الجاحظ ثم الذي لقي أبو بكر في مسجده الذي بناه على بابه في بني جمح فقد كان بنى مسجدا يصلي فيه و يدعو الناس إلى الإسلام و كان له صوت رقيق و وجه عتيق و كان إذا قرأ بكى فيقف عليه المارة من الرجال و النساء و الصبيان و العبيد فلما أوذي في الله و منع من ذلك المسجد استأذن رسول الله ص في الهجرة فأذن له فأقبل يريد المدينة فتلقاه الكناني فعقد له جوارا و قال و الله لا أدع مثلك يخرج من مكة فرجع إليها و عاد لصنيعه في المسجد فمشت قريش إلى جاره الكناني و أجلبوا عليه فقال له دع المسجد و ادخل بيتك و اصنع فيه ما بدا لك . [ 268 ] قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله كيف كانت بنو جمح تؤذي عثمان بن مظعون و تضربه و هو فيهم ذو سطوة و قدر و تترك أبا بكر يبني مسجدا يفعل فيه ما ذكرتم و أنتم الذين رويتم عن ابن مسعود أنه قال ما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر بن الخطاب و الذي تذكرونه من بناء المسجد كان قبل إسلام عمر فكيف هذا . و أما ما ذكرتم من رقة صوته و عتاق وجهه فكيف يكون ذلك و قد روى الواقدي و غيره أن عائشة رأت رجلا من العرب خفيف العارضين معروق الخدين غائر العينين أجنأ لا يمسك إزاره فقالت ما رأيت أشبه بأبي بكر من هذا فلا نراها دلت على شي‏ء من الجمال في صفته . قال الجاحظ و حيث رد أبو بكر جوار الكناني و قال لا أريد جارا سوى الله لقي من الأذى و الذل و الاستخفاف و الضرب ما بلغكم و هذا موجود في جميع السير و كان آخر ما لقي هو و أهله في أمر الغار و قد طلبته قريش و جعلت فيه مائة بعير كما جعلت في النبي ص فلقي أبو جهل أسماء بنت بكر فسألها فكتمته فلطمها حتى رمت قرطا كان في أذنها . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا الكلام و هجر السكران سواء في تقارب المخرج و اضطراب المعنى و ذلك أن قريشا لم تقدر على أذى النبي ص و أبو طالب حي يمنعه فلما مات طلبته لتقتله فخرج تارة إلى بني عامر و تارة إلى ثقيف و تارة إلى بني شيبان و لم يكن يتجاسر على المقام بمكة إلا مستترا حتى أجاره مطعم بن عدي ثم خرج إلى المدينة فبذلت فيه مائة بعير لشدة حنقها عليه حين فاتها فلم تقدر عليه فما بالها بذلت في أبي بكر مائة بعير أخرى و قد كان رد الجوار و بقي بينهم فردا لا ناصر له [ 269 ] و لا دافع عنده يصنعون به ما يريدون إما أن يكونوا أجهل البرية كلها أو يكون العثمانية أكذب جيل في الأرض و أوقحه وجها فهذا مما لم يذكر في سيرة و لا روي في أثر و لا سمع به بشر و لا سبق الجاحظ به أحد . قال الجاحظ ثم الذي كان من دعائه إلى الإسلام و حسن احتجاجه حتى أسلم على يديه طلحة و الزبير و سعد و عثمان و عبد الرحمن لأنه ساعة أسلم دعا إلى الله و إلى رسوله . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما أعجب هذا القول إذ تدعي العثمانية لأبي بكر الرفق في الدعاء و حسن الاحتجاج و قد أسلم و معه في منزله ابنه عبد الرحمن فما قدر أن يدخله في الإسلام طوعا برفقه و لطف احتجاجه و لا كرها بقطع النفقة عنه و إدخال المكروه عليه و لا كان لأبي بكر عند ابنه عبد الرحمن من القدر ما يطيعه فيما يأمره به و يدعوه إليه كما روي أن أبا طالب فقد النبي ص يوما و كان يخاف عليه من قريش أن يغتالوه فخرج و معه ابنه جعفر يطلبان النبي ص فوجده قائما في بعض شعاب مكة يصلي و علي ع معه عن يمينه فلما رآهما أبو طالب قال لجعفر تقدم و صل جناح ابن عمك فقام جعفر عن يسار محمد ص فلما صاروا ثلاثة تقدم رسول الله ص و تأخر الأخوان فبكى أبو طالب و قال إن عليا و جعفرا ثقتي عند ملم الخطوب و النوب لا تخذلا و انصرا ابن عمكما أخي لأمي من بينهم و أبي و الله لا أخذل النبي و لا يخذله من بني ذو حسب [ 270 ] فتذكر الرواة أن جعفرا أسلم منذ ذلك اليوم لأن أباه أمره بذلك و أطاع أمره و أبو بكر لم يقدر على إدخال ابنه عبد الرحمن في الإسلام حتى أقام بمكة على كفره ثلاث عشرة سنة و خرج يوم أحد في عسكر المشركين ينادي أنا عبد الرحمن بن عتيق هل من مبارز ثم مكث بعد ذلك على كفره حتى أسلم عام الفتح و هو اليوم الذي دخلت فيه قريش في الإسلام طوعا و كرها و لم يجد أحد منها إلى ترك ذلك سبيلا و أين كان رفق أبي بكر و حسن احتجاجه عند أبيه أبي قحافة و هما في دار واحدة هلا رفق به و دعاه إلى الإسلام فأسلم و قد علمتم أنه بقي على الكفر إلى يوم الفتح فأحضره ابنه عند النبي ص و هو شيخ كبير رأسه كالثغامة فنفر رسول الله ص منه و قال غيروا هذا فخضبوه ثم جاءوا به مرة أخرى فأسلم و كان أبو قحافة فقيرا مدقعا سيئ الحال و أبو بكر عندهم كان مثريا فائض المال فلم يمكنه استمالته إلى الإسلام بالنفقة و الإحسان و قد كانت امرأة أبي بكر أم عبد الله ابنه و اسمها نملة بنت عبد العزى بن أسعد بن عبد بن ود العامرية لم تسلم و أقامت على شركها بمكة و هاجر أبو بكر و هي كافرة فلما نزل قوله تعالى وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ فطلقها أبو بكر فمن عجز عن ابنه و أبيه و امرأته فهو عن غيرهم من الغرماء أعجز و من لم يقبل منه أبوه و ابنه و امرأته لا برفق و احتجاج و لا خوفا من قطع النفقة عنهم و إدخال المكروه عليهم فغيرهم أقل قبولا منه و أكثر خلافا عليه . قال الجاحظ و قالت أسماء بنت أبي بكر ما عرفت أبي إلا و هو يدين بالدين و لقد رجع إلينا يوم أسلم فدعانا إلى الإسلام فما رمنا حتى أسلمنا و أسلم أكثر جلسائه و لذلك قالوا من أسلم بدعاء أبي بكر أكثر ممن أسلم بالسيف و لم يذهبوا في ذلك إلى العدد بل عنوا الكثرة في القدر لأنه أسلم على يديه خمسة من أهل الشورى [ 271 ] كلهم يصلح للخلافة و هم أكفاء علي ع و منازعوه الرئاسة و الإمامة فهؤلاء أكثر من جميع الناس . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أخبرونا من هذا الذي أسلم ذلك اليوم من أهل بيت أبي بكر إذا كانت امرأته لم تسلم و ابنه عبد الرحمن لم يسلم و أبو قحافة لم يسلم و أخته أم فروة لم تسلم و عائشة لم تكن قد ولدت في ذلك الوقت لأنها ولدت بعد مبعث النبي ص بخمس سنين و محمد بن أبي بكر ولد بعد مبعث رسول الله ص بثلاث و عشرين سنة لأنه ولد في حجة الوداع و أسماء بنت أبي بكر التي قد روى الجاحظ هذا الخبر عنها كانت يوم بعث رسول الله ص بنت أربع سنين و في رواية من يقول بنت سنتين فمن الذي أسلم من أهل بيته يوم أسلم نعوذ بالله من الجهل و الكذب و المكابرة و كيف أسلم سعد و الزبير و عبد الرحمن بدعاء أبي بكر و ليسوا من رهطه و لا من أترابه و لا من جلسائه و لا كانت بينهم قبل ذلك صداقة متقدمة و لا أنس وكيد و كيف ترك أبو بكر عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة لم يدخلهما في الإسلام برفقه و حسن دعائه و قد زعمتم أنهما كانا يجلسان إليه لعلمه و طريف حديثه و ما باله لم يدخل جبير بن مطعم في الإسلام و قد ذكرتم أنه أدبه و خرجه و منه أخذ جبير العلم بأنساب قريش و مآثرها فكيف عجز عن هؤلاء الذين عددناهم و هم منه بالحال التي وصفنا و دعا من لم يكن بينه و بينه أنس و لا معرفة إلا معرفة عيان و كيف لم يقبل منه عمر بن الخطاب و قد كان شكله و أقرب الناس شبها به في أغلب أخلاقه و لئن رجعتم إلى الإنصاف لتعلمن أن هؤلاء لم يكن إسلامهم إلا بدعاء الرسول ص لهم و على يديه أسلموا و لو فكرتم في حسن التأتي في الدعاء ليصحن لأبي طالب في ذلك [ 272 ] على شركه أضعاف ما ذكرتموه لأبي بكر لأنكم رويتم أن أبا طالب قال لعلي ع يا بني الزمه فإنه لن يدعوك إلا إلى خير و قال لجعفر صل جناح ابن عمك فأسلم بقوله و لأجله أصفق بنو عبد مناف على نصرة رسول الله ص بمكة من بني مخزوم و بني سهم و بني جمح و لأجله صبر بنو هاشم على الحصار في الشعب و بدعائه و إقباله على محمد ص أسلمت امرأته فاطمة بنت أسد فهو أحسن رفقا و أيمن نقيبة من أبي بكر و غيره و إنما منعه عن الإسلام أن ثبت أنه لم يسلم إلا تقية و أبو بكر لم يكن له إلا ابن واحد و هو عبد الرحمن فلم يمكنه أن يدخله في الإسلام و لا أمكنه إذ لم يقبل منه الإسلام أن يجعله كبعض مشركي قريش في قلة الأذى لرسول الله ص و فيه أنزل وَ اَلَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ اَلْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اَللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ و إنما يعرف حسن رفق الرجل و تأتيه بأن يصلح أولا أمر بيته و أهله ثم يدعو الأقرب فالأقرب فإن رسول الله ص لما بعث كان أول من دعا زوجته خديجة ثم مكفوله و ابن عمه عليا ع ثم مولاه زيدا ثم أم أيمن خادمته فهل رأيتم أحدا ممن كان يأوي إلى رسول الله ص لم يسارع و هل التاث عليه أحد من هؤلاء فهكذا يكون حسن التأتي و الرفق في الدعاء هذا و رسول الله مقل و هو من جملة عيال خديجة حين بعثه الله تعالى و أبو بكر عندكم كان موسرا و كان أبوه مقترا و كذلك ابنه و امرأته أم عبد الله و الموسر في فطرة العقول أولى أن يتبع من المقتر و إنما حسن التأتي و الرفق في الدعاء ما صنعه مصعب بن عمير لسعد بن معاذ لما دعاه و ما صنع سعد بن معاذ ببني عبد الأشهل لما دعاهم و ما صنع بريدة بن الحصيب بأسلم لما دعاهم قالوا أسلم بدعائه ثمانون بيتا من قومه [ 273 ] و أسلم بنو عبد الأشهل بدعاء سعد في يوم واحد و أما من لم يسلم ابنه و لا امرأته و لا أبوه و لا أخته بدعائه فهيهات أن يوصف و يذكر بالرفق في الدعاء و حسن التأتي و الأناة قال الجاحظ ثم أعتق أبو بكر بعد ذلك جماعة من المعذبين في الله و هم ست رقاب منهم بلال و عامر بن فهيرة و زنيرة النهدية و ابنتها و مر بجارية يعذبها عمر بن الخطاب فابتاعها منه و أعتقها و أعتق أبا عيسى فأنزل الله فيه فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اِتَّقى‏ وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‏ إلى آخر السورة . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما بلال و عامر بن فهيرة فإنما أعتقهما رسول الله ص روى ذلك الواقدي و ابن إسحاق و غيرهما و أما باقي مواليهم الأربعة فإن سامحناكم في دعواكم لم يبلغ ثمنهم في تلك الحال لشدة بغض مواليهم لهم إلا مائة درهم أو نحوها فأي فخر في هذا و أما الآية فإن ابن عباس قال في تفسيرها فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اِتَّقى‏ وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‏ أي لأن يعود . و قال غيره نزلت في مصعب بن عمير قال الجاحظ و قد علمتم ما صنع أبو بكر في ماله و كان ماله أربعين ألف درهم فأنفقه في نوائب الإسلام و حقوقه و لم يكن خفيف الظهر قليل العيال و النسل فيكون فاقد جميع اليسارين بل كان ذا بنين و بنات و زوجة و خدم و حشم و يعول والديه و ما ولدا و لم يكن النبي ص قبل ذلك عنده مشهورا فيخاف العار في ترك مواساته فكان إنفاقه على الوجه الذي لا نجد في غاية الفضل مثله و لقد قال النبي ص ما نفعني مال كما نفعني مال أبي بكر . [ 274 ] قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أخبرونا على أي نوائب الإسلام أنفق هذا المال و في أي وجه وضعه فإنه ليس بجائز أن يخفى ذلك و يدرس حتى يفوت حفظه و ينسى ذكره و أنتم فلم تقفوا على شي‏ء أكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب لعلها لا يبلغ ثمنها في ذلك العصر مائة درهم و كيف يدعي له الإنفاق الجليل و قد باع من رسول الله ص بعيرين عند خروجه إلى يثرب و أخذ منه الثمن في مثل تلك الحال و روى ذلك جميع المحدثين و قد رويتم أيضا أنه كان حيث كان بالمدينة غنيا موسرا و رويتم عن عائشة أنها قالت هاجر أبو بكر و عنده عشرة آلاف درهم و قلتم إن الله تعالى أنزل فيه وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا اَلْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي اَلْقُرْبى‏ قلتم هي في أبي بكر و مسطح بن أثاثة فأين الفقر الذي زعمتم أنه أنفق حتى تخلل بالعباءة و رويتم أن لله تعالى في سمائه ملائكة قد تخللوا بالعباءة و أن النبي ص رآهم ليلة الإسراء فسأل جبرائيل عنهم فقال هؤلاء ملائكة تأسوا بأبي بكر بن أبي قحافة صديقك في الأرض فإنه سينفق عليك ماله حتى يخلل عباءه في عنقه و أنتم أيضا رويتم أن الله تعالى لما أنزل آية النجوى فقال يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ الآية لم يعمل بها إلا علي بن أبي طالب وحده مع إقراركم بفقره و قلة ذات يده و أبو بكر في الحال التي ذكرنا من السعة أمسك عن مناجاته فعاتب الله المؤمنين في ذلك فقال أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اَللَّهُ عَلَيْكُمْ فجعله سبحانه ذنبا يتوب عليهم منه و هو إمساكهم عن تقديم الصدقة فكيف سخت نفسه بإنفاق أربعين ألفا و أمسك عن مناجاة الرسول و إنما كان يحتاج فيها إلى إخراج درهمين . و أما ما ذكر من كثرة عياله و نفقته عليهم فليس في ذلك دليل على تفضيله لأن [ 275 ] نفقته على عياله واجبة مع أن أرباب السيرة ذكروا أنه لم يكن ينفق على أبيه شيئا و أنه كان أجيرا لابن جدعان على مائدته يطرد عنها الذبان . قال الجاحظ و قد تعلمون ما كان يلقى أصحاب النبي ص ببطن مكة من المشركين و حسن صنيع كثير منهم كصنيع حمزة حين ضرب أبا جهل بقوسه ففلق هامته و أبو جهل يومئذ سيد البطحاء و رئيس الكفر و أمنع أهل مكة و قد عرفتم أن الزبير سل سيفه و استقبل به المشركين لما أرجف أن محمدا ص قد قتل و أن عمر بن الخطاب قال حين أسلم لا يعبد الله سرا بعد اليوم و أن سعدا ضرب بعض المشركين بلحي جمل فأراق دمه فكل هذه الفضائل لم يكن لعلي بن أبي طالب فيها ناقة و لا جمل و قد قال الله تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ اَلْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ اَلَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا فإذا كان الله تعالى قد فضل من أنفق قبل الفتح لأنه لا هجرة بعد الفتح على من أنفق بعد الفتح فما ظنكم بمن أنفق من قبل الهجرة و من لدن مبعث النبي ص إلى الهجرة و إلى بعد الهجرة . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله إننا لا ننكر فضل الصحابة و سوابقهم و لسنا كالإمامية الذين يحملهم الهوى على جحد الأمور المعلومة و لكننا ننكر تفضيل أحد من الصحابة على علي بن أبي طالب و لسنا ننكر غير ذلك و ننكر تعصب الجاحظ للعثمانية و قصده إلى فضائل هذا الرجل و مناقبه بالرد و الإبطال و أما حمزة فهو عندنا ذو فضل عظيم و مقام جليل و هو سيد الشهداء الذين استشهدوا على عهد رسول الله [ 276 ] ص و أما فضل عمر فغير منكر و كذلك الزبير و سعد و ليس فيما ذكر ما يقتضي كون علي ع مفضولا لهم أو لغيرهم إلا قوله و كل هذه الفضائل لم يكن لعلي ع فيها ناقة و لا جمل فإن هذا من التعصب البارد و الحيف الفاحش و قد قدمنا من آثار علي ع قبل الهجرة و ما له إذ ذاك من المناقب و الخصائص ما هو أفضل و أعظم و أشرف من جميع ما ذكر لهؤلاء على أن أرباب السيرة يقولون إن الشجة التي شجها سعد و إن السيف الذي سله الزبير هو الذي جلب الحصار في الشعب على النبي ص و بني هاشم و هو الذي سير جعفرا و أصحابه إلى الحبشة و سل السيف في الوقت الذي لم يؤمر المسلمون فيه بسل السيف غير جائز قال تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ اَلنَّاسَ كَخَشْيَةِ اَللَّهِ فتبين أن التكليف له أوقات فمنها وقت لا يصلح فيه سل السيف و منها وقت يصلح فيه و يجب فأما قوله تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ فقد ذكرنا ما عندنا من دعواهم لأبي بكر إنفاق المال و أيضا فإن الله تعالى لم يذكر إنفاق المال مفردا و إنما قرن به القتال و لم يكن أبو بكر صاحب قتال و حرب فلا تشمله الآية و كان علي ع صاحب قتال و إنفاق قبل الفتح أما قتاله فمعلوم بالضرورة و أما إنفاقه فقد كان على حسب حاله و فقره و هو الذي أطعم الطعام على حبه مسكينا و يتيما و أسيرا و أنزلت فيه و في زوجته و ابنيه سورة كاملة من القرآن و هو الذي ملك أربعة دراهم فأخرج منها درهما سرا و درهما علانية ليلا ثم أخرج منها في النهار درهما سرا و درهما علانية فأنزل فيه قوله تعالى اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً و هو الذي قدم بين يدي نجواه صدقة [ 277 ] دون المسلمين كافة و هو الذي تصدق بخاتمه و هو راكع فأنزل الله فيه إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ . قال الجاحظ و الحجة العظمى للقائلين بتفضيل علي ع قتله الأقران و خوضه الحرب و ليس له في ذلك كبير فضيلة لأن كثرة القتل و المشي بالسيف إلى الأقران لو كان من أشد المحن و أعظم الفضائل و كان دليلا على الرئاسة و التقدم لوجب أن يكون للزبير و أبي دجانة و محمد بن مسلمة و ابن عفراء و البراء بن مالك من الفضل ما ليس لرسول الله ص لأنه لم يقتل بيده إلا رجلا واحدا و لم يحضر الحرب يوم بدر و لا خالط الصفوف و إنما كان معتزلا عنهم في العريش و معه أبو بكر و أنت ترى الرجل الشجاع قد يقتل الأقران و يجندل الأبطال و فوقه من العسكر من لا يقتل و لا يبارز و هو الرئيس أو ذوي الرأي و المستشير في الحرب لأن للرؤساء من الاكتراث و الاهتمام و شغل البال و العناية و التفقد ما ليس لغيرهم و لأن الرئيس هو المخصوص بالمطالبة و عليه مدار الأمور و به يستبصر المقاتل و يستنصر و باسمه ينهزم العدو و لو لم يكن له إلا أن الجيش لو ثبت و فر هو لم يغن ثبوت الجيش كله و كانت الدبرة عليه و لو ضيع القوم جميعا و حفظ هو لانتصر و كانت الدولة له و لهذا لا يضاف النصر و الهزيمة إلا إليه ففضل أبي بكر بمقامه في العريش مع رسول الله يوم بدر أعظم من جهاد علي ع ذلك اليوم و قتله أبطال قريش . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله لقد أعطي أبو عثمان مقولا و حرم معقولا إن كان [ 278 ] يقول هذا على اعتقاد و جد و لم يذهب به مذهب اللعب و الهزل أو على طريق التفاصح و التشادق و إظهار القوة و السلاطة و ذلاقة اللسان و حدة الخاطر و القوة على جدال الخصوم أ لم يعلم أبو عثمان أن رسول الله ص كان أشجع البشر و أنه خاض الحروب و ثبت في المواقف التي طاشت فيها الألباب و بلغت القلوب الحناجر فمنها يوم أحد و وقوفه بعد أن فر المسلمون بأجمعهم و لم يبق معه إلا أربعة علي و الزبير و طلحة و أبو دجانة فقاتل و رمى بالنبل حتى فنيت نبله و انكسرت سية قوسه و انقطع وتره فأمر عكاشة بن محصن أن يوترها فقال يا رسول الله لا يبلغ الوتر فقال أوتر ما بلغ قال عكاشة فو الذي بعثه بالحق لقد أوترت حتى بلغ و طويت منه شبرا على سية القوس ثم أخذها فما زال يرميهم حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت و بارز أبي بن خلف فقال له أصحابه إن شئت عطف عليه بعضنا فأبى و تناول الحربة من الحارث بن الصمة ثم انتقض بأصحابه كما ينتقض البعير قالوا فتطايرنا عنه تطاير الشعارير فطعنه بالحربة فجعل يخور كما يخور الثور و لو لم يدل على ثباته حين انهزم أصحابه و تركوه إلا قوله تعالى إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى‏ أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فكونه ع في أخراهم و هم يصعدون و لا يلوون هاربين دليل على أنه ثبت و لم يفر و ثبت يوم حنين في تسعة من أهله و رهطه الأدنين و قد فر المسلمون كلهم و النفر التسعة محدقون به العباس آخذ بحكمة بغلته و علي بين يديه مصلت سيفه و الباقون حول بغلة رسول الله ص يمنة و يسرة و قد انهزم المهاجرون و الأنصار و كلما فروا أقدم هو ص يمنة و يسرة و قد انهزم المهاجرون و الأنصار و كلما فرو أقدم هو ص و صمم مستقدما يلقى السيوف و النبال بنحره و صدره ثم أخذ كفا من [ 279 ] البطحاء و حصب المشركين و قال شاهت الوجوه و الخبر المشهور عن علي ع و هو أشجع البشر كنا إذا اشتد البأس و حمي الوطيس اتقينا برسول الله ص و لذنا به فكيف يقول الجاحظ إنه ما خاض الحرب و لا خالط الصفوف و أي فرية أعظم من فرية من نسب رسول الله ص إلى الإحجام و اعتزال الحرب ثم أي مناسبة بين أبي بكر و رسول الله ص في هذا المعنى ليقيسه و ينسبه إلى رسول الله ص صاحب الجيش و الدعوة و رئيس الإسلام و الملة و الملحوظ بين أصحابه و أعدائه بالسيادة و إليه الإيماء و الإشارة و هو الذي أحنق قريشا و العرب و ورى أكبادهم بالبراءة من آلهتهم و عيب دينهم و تضليل أسلافهم ثم وترهم فيما بعد بقتل رؤسائهم و أكابرهم و حق لمثله إذا تنحى عن الحرب و اعتزلها أن يتنحى و يعتزل لأن ذلك شأن الملوك و الرؤساء إذا كان الجيش منوطا بهم و ببقائهم فمتى هلك الملك هلك الجيش و متى سلم الملك أمكن أن يبقى عليه ملكه و إن عطب جيشه فإنه يستجد جيشا آخر و لذلك نهى الحكماء أن يباشر الملك الحرب بنفسه و خطئوا الإسكندر لما بارز قوسرا ملك الهند و نسبوه إلى مجانبة الحكمة و مفارقة الصواب و الحزم فليقل لنا الجاحظ أي مدخل لأبي بكر في هذا المعنى و من الذي كان يعرفه من أعداء الإسلام ليقصده بالقتل و هل هو إلا واحد من عرض المهاجرين حكمه حكم عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان و غيرهما بل كان عثمان أكثر منه صيتا و أشرف منه مركبا و العيون إليه أطمح و العدو إليه أحنق و أكلب و لو قتل أبو بكر في بعض تلك المعارك هل كان يؤثر قتله في الإسلام ضعفا أو يحدث فيه وهنا أو يخاف على الملة لو قتل أبو بكر في بعض تلك الحروب أن تندرس و تعفى آثارها و ينطمس منارها ليقول الجاحظ إن أبا بكر كان حكمه حكم رسول الله ص في مجانبة الحروب و اعتزالها نعوذ بالله من الخذلان و قد علم العقلاء كلهم ممن له [ 280 ] بالسير معرفة و بالآثار و الأخبار ممارسة حال حروب رسول الله ص كيف كانت و حاله ع فيها كيف كان و وقوفه حيث وقف و حربه حيث حارب و جلوسه في العريش يوم جلس و إن وقوفه ص وقوف رئاسة و تدبير و وقوف ظهر و سند يتعرف أمور أصحابه و يحرس صغيرهم و كبيرهم بوقوفه من ورائهم و تخلفه عن التقدم في أوائلهم لأنهم متى علموا أنه في أخراهم اطمأنت قلوبهم و لم تتعلق بأمره نفوسهم فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم و لا يكون لهم فئة يلجئون إليها و ظهر يرجعون إليه و يعلمون أنه متى كان خلفهم تفقد أمورهم و علم مواقفهم و آوى كل إنسان مكانه في الحماية و النكاية و عند المنازلة في الكر و الحملة فكان وقوفه حيث وقف أصلح لأمرهم و أحمى و أحرس لبيضتهم و لأنه المطلوب من بينهم إذ هو مدبر أمورهم و والي جماعتهم أ لا ترون أن موقف صاحب اللواء موقف شريف و أن صلاح الحرب في وقوفه و أن فضيلته في ترك التقدم في أكثر حالاته فللرئيس حالات الأولى حالة يتخلف و يقف آخرا ليكون سندا و قوة و ردءا و عدة و ليتولى تدبير الحرب و يعرف مواضع الخلل . و الحالة الثانية يتقدم فيها في وسط الصف ليقوي الضعيف و يشجع الناكص . و حالة ثالثة و هي إذا اصطدم الفيلقان و تكافح السيفان اعتمد ما تقتضيه الحال من الوقوف حيث يستصلح أو من مباشرة الحرب بنفسه فإنها آخر المنازل و فيها تظهر شجاعة الشجاع النجد و فسالة الجبان المموه . فأين مقام الرئاسة العظمى لرسول الله ص و أين منزلة أبي بكر ليسوي بين المنزلتين و يناسب بين الحالتين . و لو كان أبو بكر شريكا لرسول الله ص في الرسالة و ممنوحا من الله [ 281 ] بفضيلة النبوة و كانت قريش و العرب تطلبه كما تطلب محمدا ص و كان يدبر من أمر الإسلام و تسريب العساكر و تجهيز السرايا و قتل الأعداء ما يدبره محمد ص لكان للجاحظ أن يقول ذلك فأما و حاله حاله و هو أضعف المسلمين جنانا و أقلهم عند العرب ترة لم يرم قط بسهم و لا سل سيفا و لا أراق دما و هو أحد الأتباع غير مشهور و لا معروف و لا طالب و لا مطلوب فكيف يجوز أن يجعل مقامه و منزلته مقام رسول الله ص و منزلته و لقد خرج ابنه عبد الرحمن مع المشركين يوم أحد فرآه أبو بكر فقام مغيظا عليه فسل من السيف مقدار إصبع يريد البروز إليه فقال له رسول الله ص يا أبا بكر شم سيفك و أمتعنا بنفسك و لم يقل له و أمتعنا بنفسك إلا لعلمه بأنه ليس أهلا للحرب و ملاقاة الرجال و أنه لو بارز لقتل . و كيف يقول الجاحظ لا فضيلة لمباشرة الحرب و لقاء الأقران و قتل أبطال الشرك و هل قامت عمد الإسلام إلا على ذلك و هل ثبت الدين و استقر إلا بذلك أ تراه لم يسمع قول الله تعالى إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ و المحبة من الله تعالى هي إرادة الثواب فكل من كان أشد ثبوتا في هذا الصف و أعظم قتالا كان أحب إلى الله و معنى الأفضل هو الأكثر ثوابا فعلي ع إذا هو أحب المسلمين إلى الله لأنه أثبتهم قدما في الصف المرصوص لم يفر قط بإجماع الأمة و لا بارزه قرن إلا قتله . أ تراه لم يسمع قول الله تعالى وَ فَضَّلَ اَللَّهُ اَلْمُجاهِدِينَ عَلَى اَلْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً و قوله إِنَّ اَللَّهَ اِشْتَرى‏ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ [ 282 ] فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ وَ اَلْقُرْآنِ ثم قال سبحانه مؤكدا لهذا البيع و الشراء وَ مَنْ أَوْفى‏ بِعَهْدِهِ مِنَ اَللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ اَلَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ و قال الله تعالى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ اَلْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ . فمواقف الناس في الجهاد على أحوال و بعضهم في ذلك أفضل من بعض فمن دلف إلى الأقران و استقبل السيوف و الأسنة كان أثقل على أكتاف الأعداء لشدة نكايته فيهم ممن وقف في المعركة و أعان و لم يقدم و كذلك من وقف في المعركة و أعان و لم يقدم إلا أنه بحيث تناله السهام و النبل أعظم غناء و أفضل ممن وقف حيث لا يناله ذلك و لو كان الضعيف و الجبان يستحقان الرئاسة بقلة بسط الكف و ترك الحرب و أن ذلك يشاكل فعل النبي ص لكان أوفر الناس حظا في الرئاسة و أشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت و إن بطل فضل علي ع في الجهاد لأن النبي ص كان أقلهم قتالا كما زعم الجاحظ ليبطلن على هذا القياس فضل أبي بكر في الإنفاق لأن رسول الله ص كان أقلهم مالا . و أنت إذا تأملت أمر العرب و قريش و نظرت السير و قرأت الأخبار عرفت أنها كانت تطلب محمدا ص و تقصد قصده و تروم قتله فإن أعجزها و فاتها طلبت عليا ع و أرادت قتله لأنه كان أشبههم بالرسول حالا و أقربهم منه قربا و أشدهم عنه دفعا و أنهم متى قصدوا عليا فقتلوه أضعفوا أمر محمد ص و كسروا شوكته إذ كان أعلى من ينصره في البأس و القوة و الشجاعة [ 283 ] و النجدة و الإقدام و البسالة أ لا ترى إلى قول عتبة بن ربيعة يوم بدر و قد خرج هو و أخوه شيبة و ابنه الوليد بن عتبة فأخرج إليه الرسول نفرا من الأنصار فاستنسبوهم فانتسبوا لهم فقالوا ارجعوا إلى قومكم ثم نادوا يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال النبي ص لأهله الأدنين قوموا يا بني هاشم فانصروا حقكم الذي آتاكم الله على باطل هؤلاء قم يا علي قم يا حمزة قم يا عبيدة أ لا ترى ما جعلت هند بنت عتبة لمن قتله يوم أحد لأنه اشترك هو و حمزة في قتل أبيها يوم بدر أ لم تسمع قول هند ترثي أهلها ما كان عن عتبة لي من صبر أبي و عمي و شقيق صدري أخي الذي كان كضوء البدر بهم كسرت يا علي ظهري و ذلك لأنه قتل أخاها الوليد بن عتبة و شرك في قتل أبيها عتبة و أما عمها شيبة فإن حمزة تفرد بقتله . و قال جبير بن مطعم لوحشي مولاه يوم أحد إن قتلت محمدا فأنت حر و إن قتلت عليا فأنت حر و إن قتلت حمزة فأنت حر فقال أما محمد فسيمنعه أصحابه و أما علي فرجل حذر كثير الالتفات في الحرب و لكني سأقتل حمزة فقعد له و زرقه بالحربة فقتله . و لما قلنا من مقاربة حال علي ع في هذا الباب لحال رسول الله ص و مناسبتها إياها ما وجدناه في السير و الأخبار من إشفاق رسول الله ص و حذره عليه و دعائه له بالحفظ و السلامة قال ص يوم الخندق و قد برز علي إلى عمرو و رفع يديه إلى السماء بمحضر من أصحابه اللهم إنك أخذت مني [ 284 ] حمزة يوم أحد و عبيدة يوم بدر فاحفظ اليوم علي عليا رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوارِثِينَ و لذلك ضن به عن مبارزة عمرو حين دعا عمرو الناس إلى نفسه مرارا في كلها يحجمون و يقدم علي فيسأل الإذن له في البراز حتى قال له رسول الله ص إنه عمرو فقال و أنا علي فأدناه و قبله و عممه بعمامته و خرج معه خطوات كالمودع له القلق لحاله المنتظر لما يكون منه ثم لم يزل ص رافعا يديه إلى السماء مستقبلا لها بوجهه و المسلمون صموت حوله كأنما على رءوسهم الطير حتى ثارت الغبرة و سمعوا التكبير من تحتها فعلموا أن عليا قتل عمرا فكبر رسول الله ص و كبر المسلمون تكبيرة سمعها من وراء الخندق من عساكر المشركين و لذلك قال حذيفة بن اليمان لو قسمت فضيلة علي ع بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين بأجمعهم لوسعتهم و قال ابن عباس في قوله تعالى وَ كَفَى اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتالَ قال بعلي بن أبي طالب . قال الجاحظ على أن مشي الشجاع بالسيف إلى الأقران ليس على ما توهمه من لا يعلم باطن الأمر لأن معه في حال مشيه إلى الأقران بالسيف أمورا أخرى لا يبصرها الناس و إنما يقضون على ظاهر ما يرون من إقدامه و شجاعته فربما كان سبب ذلك الهوج و ربما كان الغرارة و الحداثة و ربما كان الإحراج و الحمية و ربما كان لمحبة النفخ و الأحدوثة و ربما كان طباعا كطباع القاسي و الرحيم و السخي و البخيل [ 285 ] قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله فيقال للجاحظ فعلى أيها كان مشي علي بن أبي طالب إلى الأقران بالسيف فأيما قلت من ذلك بانت عداوتك لله تعالى و لرسوله و إن كان مشيه ليس على وجه مما ذكرت و إنما كان على وجه النصرة و القصد إلى المسابقة إلى ثواب الآخرة و الجهاد في سبيل الله و إعزاز الدين كنت بجميع ما قلت معاندا و عن سبيل الإنصاف خارجا و في إمام المسلمين طاعنا و إن تطرق مثل هذا الوهم على علي ع ليتطرقن مثله على أعيان المهاجرين و الأنصار أرباب الجهاد و القتال الذين نصروا رسول الله ص بأنفسهم و وقوه بمهجهم و فدوه بأبنائهم و آبائهم فلعل ذلك كان لعلة من العلل المذكورة و في ذلك الطعن في الدين و في جماعة المسلمين . و لو جاز أن يتوهم هذا في علي ع و في غيره لما قال رسول الله ص حكاية عن الله تعالى لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم و لا قال لعلي ع برز الإيمان كله إلى الشرك كله و لا قال أوجب طلحة . و قد علمنا ضرورة من دين الرسول ص تعظيمه لعلي ع تعظيما دينيا لأجل جهاده و نصرته فالطاعن فيه طاعن في رسول الله ص إذ زعم أنه قد يمكن أن يكون جهاده لا لوجه الله تعالى بل لأمر آخر من الأمور التي عددها و بعثه على التفوه بها إغواء الشيطان و كيده و الإفراط في عداوة من أمر الله بمحبته و نهى عن بغضه و عداوته . [ 286 ] أ ترى رسول الله ص خفي عليه من أمر علي ع ما لاح للجاحظ و العثمانية فمدحه و هو غير مستحق للمدح . قال الجاحظ فصاحب النفس المختارة المعتدلة يكون قتاله طاعة و فراره معصية لأن نفسه معتدلة كالميزان في استقامة لسانه و كفتيه فإذا لم يكن كذلك كان إقدامه طباعا و فراره طباعا . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله فيقال له فلعل إنفاق أبي بكر على ما تزعم أربعين ألف درهم لا ثواب له لأن نفسه ربما تكون غير معتدلة لأنه يكون مطبوعا على الجود و السخاء و لعل خروجه مع النبي ص يوم الهجرة إلى الغار لا ثواب له فيه لأن أسبابه كانت له مهيجة و دواعيه غالبة محبة الخروج و بغض المقام و لعل رسول الله ص في دعائه إلى الإسلام و إكبابه على الصلوات الخمس في جوف الليل و تدبيره أمر الأمة لا ثواب له فيه لأنه قد تكون نفسه غير معتدلة بل يكون في طباعه الرئاسة و حبها و العبادة و الالتذاذ بها و لقد كنا نعجب من مذهب أبي عثمان أن المعارف ضرورة و أنها تقع طباعا و في قوله بالتولد و حركة الحجر بالطبع حتى رأينا من قوله ما هو أعجب منه فزعم أنه ربما يكون جهاد علي ع و قتله المشركين لا ثواب له فيه لأنه فعله طبعا و هذا أطرف من قوله في المعرفة و في التولد . قال الجاحظ و وجه آخر أن عليا لو كان كما يزعم شيعته ما كان له بقتل الأقران كبير فضيلة و لا عظيم طاعة لأنه قد روي عن النبي ص أنه قال له [ 287 ] ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين فإذا كان قد وعده بالبقاء بعده فقد وثق بالسلامة من الأقران و علم أنه منصور عليهم و قاتلهم فعلى هذا يكون جهاد طلحة و الزبير أعظم طاعة منه . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا راجع على الجاحظ في النبي ص لأن الله تعالى قال له وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ فلم يكن له في جهاده كبير طاعة و كثير طاعة و كثير من الناس يروي عنه ص اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمر فوجب أن يبطل جهادهما و قد قال للزبير ستقاتل عليا و أنت ظالم له فأشعره بذلك أنه لا يموت في حياة رسول الله ص و قال في الكتاب العزيز لطلحة وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ قالوا نزلت في طلحة فأعلمه بذلك أنه يبقى بعده فوجب ألا يكون لهما كبير ثواب في الجهاد و الذي صح عندنا من الخبر و هو قوله ستقاتل بعدي الناكثين أنه قال لما وضعت الحرب أوزارها و دخل الناس في دين الله أفواجا و وضعت الجزية و دانت العرب قاطبة . قال الجاحظ ثم قصد الناصرون لعلي و القائلون بتفضيله إلى الأقران الذين قتلهم فأطروهم و غلوا فيهم و ليسوا هناك فمنهم عمرو بن عبد ود تركتموه أشجع من عامر بن الطفيل و عتبة بن الحارث و بسطام بن قيس و قد سمعنا بأحاديث حروب الفجار و ما كان بين قريش و دوس و حلف الفضول فما سمعت لعمرو بن عبد ود ذكرا في ذلك . [ 288 ] قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أمر عمرو بن عبد ود أشهر و أكثر من أن يحتج له فلنتلمح كتب المغازي و السير و لينظر ما رثته به شعراء قريش لما قتل فمن ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في مغازيه قال و قال مسافع بن عبد مناف بن زهرة بن حذافة بن جمح يبكي عمرو بن عبد الله بن عبد ود حين قتله علي بن أبي طالب ع مبارزة لما جزع المذاد أي قطع الخندق عمرو بن عبد كان أول فارس جزع المذاد و كان فارس مليل سمح الخلائق ماجد ذو مرة يبغي القتال بشكة لم ينكل و لقد علمتم حين ولوا عنكم أن ابن عبد منهم لم يعجل حتى تكفنه الكماة و كلهم يبغي القتال له و ليس بمؤتل و لقد تكنفت الفوارس فارسا بجنوب سلع غير نكس أميل سال النزال هناك فارس غالب بجنوب سلع ليته لم ينزل فاذهب علي ما ظفرت بمثلها فخرا و لو لاقيت مثل المعضل نفسي الفداء لفارس من غالب لاقى حمام الموت لم يتحلحل أعني الذي جزع المذاد و لم يكن فشلا و ليس لدى الحروب بزمل و قال هبيرة بن أبي وهب المخزومي يعتذر من فراره عن علي بن أبي طالب و تركه عمرا يوم الخندق و يبكيه [ 289 ] لعمرك ما وليت ظهري محمدا و أصحابه جبنا و لا خيفة القتل و لكنني قلبت أمري فلم أجد لسيفي غناء إن وقفت و لا نبلي وقفت فلما لم أجد لي مقدما صدرت كضرغام هزبر إلى شبل ثنى عطفه عن قرنه حين لم يجد مجالا و كان الحزم و الرأي من فعلي فلا تبعدن يا عمرو حيا و هالكا فقد مت محمود الثنا ماجد الفعل و لا تبعدن يا عمرو حيا و هالكا فقد كنت في حرب العدا مرهف النصل فمن لطراد الخيل تقدع بالقنا و للبذل يوما عند قرقرة البزل هنالك لو كان ابن عمرو لزارها و فرجها عنهم فتى غير ما وغل كفتك علي لن ترى مثل موقف وقفت على شلو المقدم كالفحل فما ظفرت كفاك يوما بمثلها أمنت بها ما عشت من زلة النعل و قال هبيرة بن أبي وهب أيضا يرثي عمرا و يبكيه لقد علمت عليا لؤي بن غالب لفارسها عمرو إذا ناب نائب و فارسها عمرو إذا ما يسوقه علي و إن الموت لا شك طالب عشية يدعوه علي و إنه لفارسها إذ خام عنه الكتائب [ 290 ] فيا لهف نفسي إن عمرا لكائن بيثرب لا زالت هناك المصائب لقد أحرز العليا علي بقتله و للخير يوما لا محالة جالب و قال حسان بن ثابت الأنصاري يذكر عمرا أمسى الفتى عمرو بن عبد ناظرا كيف العبور و ليته لم ينظر و لقد وجدت سيوفنا مشهورة و لقد وجدت جيادنا لم تقصر و لقد لقيت غداة بدر عصبة ضربوك ضربا غير ضرب الحسر أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة يا عمرو أو لجسيم أمر منكر و قال حسان أيضا لقد شقيت بنو جمح بن عمرو و مخزوم و تيم ما نقيل و عمرو كالحسام فتى قريش كأن جبينه سيف صقيل فتى من نسل عامر أريحي تطاوله الأسنة و النصول دعاه الفارس المقدام لما تكشفت المقانب و الخيول أبو حسن فقنعه حساما جرازا لا أفل و لا نكول فغادره مكبا مسلحبا على عفراء لا بعد القتيل فهذه الأشعار فيه بل بعض ما قيل فيه . و أما الآثار و الأخبار فموجودة في كتب السير و أيام الفرسان و وقائعهم و ليس [ 291 ] أحد من أرباب هذا العلم يذكر عمرا إلا قال كان فارس قريش و شجاعها و إنما قال له حسان و لقد لقيت غداة بدر عصبة لأنه شهد مع المشركين بدرا و قتل قوما من المسلمين ثم فر مع من فر و لحق بمكة و هو الذي كان قال و عاهد الله عند الكعبة ألا يدعوه أحد إلى واحدة من ثلاث إلا أجابه و آثاره في أيام الفجار مشهورة تنطق بها كتب الأيام و الوقائع و لكنه لم يذكر مع الفرسان الثلاثة و هم عتبة و بسطام و عامر لأنهم كانوا أصحاب غارات و نهب و أهل بادية و قريش أهل مدينة و ساكنو مدر و حجر لا يرون الغارات و لا ينهبون غيرهم من العرب و هم مقتصرون على المقام ببلدتهم و حماية حرمهم فلذلك لم يشتهر اسمه كاشتهار هؤلاء . و يقال له إذا كان عمرو كما تذكر ليس هناك فما باله لما جزع الخندق في ستة فرسان هو أحدهم فصار مع أصحاب النبي ص على أرض واحدة و هم ثلاثة آلاف و دعاهم إلى البراز مرارا لم ينتدب أحد منهم للخروج إليه و لا سمح منهم أحد بنفسه حتى وبخهم و قرعهم و ناداهم أ لستم تزعمون أنه من قتل منا فإلى النار و من قتل منكم فإلى الجنة أ فلا يشتاق أحدكم إلى أن يذهب إلى الجنة أو يقدم عدوه إلى النار فجبنوا كلهم و نكلوا و ملكهم الرعب و الوهل فإما أن يكون هذا أشجع الناس كما قيل عنه أو يكون المسلمون كلهم أجبن العرب و أذلهم و أفشلهم و قد روى الناس كلهم الشعر الذي أنشده لما نكل القوم بجمعهم عنه و أنه جال بفرسه و استدار و ذهب يمنة ثم ذهب يسرة ثم وقف تجاه القوم فقال و لقد بححت من النداء بجمعهم هل من مبارز [ 292 ] و وقفت إذ جبن المشيع وقفة القرن المناجز و كذاك أني لم أزل متسرعا نحو الهزاهز إن الشجاعة في الفتى و الجود من خير الغرائز فلما برز إليه علي أجابه فقال له لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز ذو نية و بصيرة يرجو الغداة نجاة فائز إني لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز من ضربة تفنى و يبقى ذكرها عند الهزاهز و لعمري لقد سبق الجاحظ بما قاله بعض جهال الأنصار لما رجع رسول الله من بدر و قال فتى من الأنصار شهد معه بدرا إن قتلنا إلا عجائز صلعا فقال له النبي ص لا تقل ذلك يا ابن أخ أولئك الملأ . قال الجاحظ و قد أكثروا في الوليد بن عتبة بن ربيعة قتيله يوم بدر و ما علمنا الوليد حضر حربا قط قبلها و لا ذكر فيها . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله كل من دون أخبار قريش و آثار رجالها وصف الوليد بالشجاعة و البسالة و كان مع شجاعته أنه يصارع الفتيان فيصرعهم و ليس لأنه لم يشهد حربا قبلها ما يجب أن يكون بطلا شجاعا فإن عليا ع لم يشهد قبل بدر حربا و قد رأى الناس آثاره فيها . [ 293 ] قال الجاحظ و قد ثبت أبو بكر مع النبي ص يوم أحد كما ثبت علي فلا فخر لأحدهما على صاحبه في ذلك اليوم . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما ثباته يوم أحد فأكثر المؤرخين و أرباب السير ينكرونه و جمهورهم يروي أنه لم يبق مع النبي ص إلا علي و طلحة و الزبير و أبو دجانة و قد روي عن ابن عباس أنه قال و لهم خامس و هو عبد الله بن مسعود و منهم من أثبت سادسا و هو المقداد بن عمرو و روى يحيى بن سلمة بن كهيل قال قلت لأبي كم ثبت مع رسول الله ص يوم أحد فقال اثنان قلت من هما قال علي و أبو دجانة . و هب أن أبا بكر ثبت يوم أحد كما يدعيه الجاحظ أ يجوز له أن يقول ثبت كما ثبت علي فلا فخر لأحدهما على الآخر و هو يعلم آثار علي ع ذلك اليوم و أنه قتل أصحاب الألوية من بني عبد الدار منهم طلحة بن أبي طلحة الذي رأى رسول الله ص في منامه أنه مردف كبشا فأوله و قال كبش الكتيبة نقتله فلما قتله علي ع مبارزة و هو أول قتيل قتل من المشركين ذلك اليوم كبر رسول الله ص و قال هذا كبش الكتيبة . و ما كان منه من المحاماة عن رسول الله ص و قد فر الناس و أسلموه فتصمد له كتيبة من قريش فيقول يا علي اكفني هذه فيحمل عليها فيهزمها و يقتل عميدها حتى سمع المسلمون و المشركون صوتا من قبل السماء لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي و حتى قال النبي ص عن جبرائيل ما قال . أ تكون هذه آثاره و أفعاله ثم يقول الجاحظ لا فخر لأحدهما على صاحبه . [ 294 ] رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفاتِحِينَ . قال الجاحظ و لأبي بكر في ذلك اليوم مقام مشهور خرج ابنه عبد الرحمن فارسا مكفرا في الحديد يسأل المبارزة و يقول أنا عبد الرحمن بن عتيق فنهض إليه أبو بكر يسعى بسيفه فقال له النبي ص شم سيفك و ارجع إلى مكانك و متعنا بنفسك . قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما كان أغناك يا أبا عثمان عن ذكر هذا المقام المشهور لأبي بكر فإنه لو تسمعه الإمامية لأضافته إلى ما عندها من المثالب لأن قول النبي ص ارجع دليل على أنه لا يحتمل مبارزة أحد لأنه إذا لم يحتمل مبارزة ابنه و أنت تعلم حنو الابن علي الأب و تبجيله له و إشفاقه عليه و كفه عنه لم يحتمل مبارزة الغريب الأجنبي . و قوله له و متعنا بنفسك إيذان له بأنه كان يقتل لو خرج و رسول الله كان أعرف به من الجاحظ فأين حال هذا الرجل من حال الرجل الذي صلى بالحرب و مشى إلى السيف بالسيف فقتل السادة و القادة و الفرسان و الرجالة . قال الجاحظ على أن أبا بكر و إن لم تكن آثاره في الحرب كآثار غيره فقد بذل الجهد و فعل ما يستطيعه و تبلغه قوته و إذا بذل المجهود فلا حال أشرف من حاله . [ 295 ] قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما قوله إنه بذل الجهد فقد صدق و أما قوله لا حال أشرف من حاله فخطأ لأن حال من بلغت قوته فأعملها في قتل المشركين أشرف من حال من نقصت قوته عن بلوغ الغاية أ لا ترى أن حال الرجل أشرف في الجهاد من حال المرأة و حال البالغ الأيد أشرف من حال الصبي الضعيف . فهذه جملة ما ذكره الشيخ أبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي رحمه الله في نقض العثمانية اقتصرنا عليها هاهنا و سنعود فيما بعد إلى ذكر جملة أخرى من كلامه إذا اقتضت الحال ذكره