جستجو

و من خطبة له ع و فيها يعظ و يبين فضل القرآن و ينهى عن البدعة عظة الناس

متن ترجمه آیتی ترجمه شهیدی ترجمه معادیخواه تفسیر منهاج البرائه خویی تفسیر ابن ابی الحدید تفسیر ابن میثم

[ 16 ] 177 و من خطبة له ع اِنْتَفِعُوا بِبَيَانِ اَللَّهِ وَ اِتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اَللَّهِ وَ اِقْبَلُوا نَصِيحَةَ اَللَّهِ فَإِنَّ اَللَّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْكُمْ بِالْجَلِيَّةِ وَ أَخَذَ اِتَّخَذَ عَلَيْكُمُ اَلْحُجَّةَ وَ بَيَّنَ لَكُمْ مَحَابَّهُ مِنَ اَلْأَعْمَالِ وَ مَكَارِهَهُ مِنْهَا لِتَتَّبِعُوا هَذِهِ وَ تَجْتَنِبُوا هَذِهِ فَإِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ ص كَانَ يَقُولُ إِنَّ اَلْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ وَ إِنَّ اَلنَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اَللَّهِ شَيْ‏ءٌ إِلاَّ يَأْتِي فِي كُرْهٍ وَ مَا مِنْ مَعْصِيَةِ اَللَّهِ شَيْ‏ءٌ إِلاَّ يَأْتِي فِي شَهْوَةٍ فَرَحِمَ اَللَّهُ اِمْرَأً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ وَ قَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ فَإِنَّ هَذِهِ اَلنَّفْسَ أَبْعَدُ شَيْ‏ءٍ مَنْزِعاً وَ إِنَّهَا لاَ تَزَالُ تَنْزِعُ إِلَى مَعْصِيَةٍ فِي هَوًى وَ اِعْلَمُوا عِبَادَ اَللَّهِ أَنَّ اَلْمُؤْمِنَ لاَ يُمْسِي وَ لاَ يُصْبِحُ لاَ يُصْبِحُ وَ لاَ يُمْسِي إِلاَّ وَ نَفْسُهُ ظَنُونٌ عِنْدَهُ فَلاَ يَزَالُ زَارِياً عَلَيْهَا وَ مُسْتَزِيداً لَهَا فَكُونُوا كَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ وَ اَلْمَاضِينَ أَمَامَكُمْ قَوَّضُوا مِنَ اَلدُّنْيَا تَقْوِيضَ اَلرَّاحِلِ وَ طَوَوْهَا طَيَّ اَلْمَنَازِلِ أعذر إليكم أوضح عذره في عقابكم إذا خالفتم أوامره و الجلية اليقين و إنما أعذر إليهم بذلك لأنه مكنهم من العلم اليقيني بتوحيده و عدله و أوجب عليهم ذلك في [ 17 ] عقولهم فإذا تركوه ساغ في الحكمة تعذيبهم و عقوبتهم فكأنه قد أبان لهم عذره أن لو قالوا لم تعاقبنا . و محابه من الأعمال هي الطاعات التي يحبها و حبه لها إرادة وقوعها من المكلفين و مكارهه من الأعمال القبائح التي يكرهها منهم و هذا الكلام حجة لأصحابنا على المجبرة و الخبر الذي رواه ع مروي في كتب المحدثين و هو قول رسول الله ص حجبت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات و من المحدثين من يرويه حفت فيهما و ليس منهم من يرويه حجبت في النار و ذلك لأن لفظ الحجاب إنما يستعمل فيما يرام دخوله و ولوجه لمكان النفع فيه و يقال حجب زيد عن مأدبة الأمير و لا يقال حجب زيد عن الحبس . ثم ذكر ع أنه لا طاعة إلا في أمر تكرهه النفس و لا معصية إلا بمواقعة أمر تحبه النفس و هذا حق لأن الإنسان ما لم يكن متردد الدواعي لا يصح التكليف و إنما تتردد الدواعي إذا أمر بما فيه مشقة أو نهي عما فيه لذة و منفعة . فإن قلت أ ليس قد أمر الإنسان بالنكاح و هو لذة قلت ما فيه من ضرر الإنفاق و معالجة أخلاق النساء يربي على اللذة الحاصلة فيه مرارا . ثم قال ع رحم الله امرأ نزع عن شهوته أي أقلع . و قمع هوى نفسه أي قهره . ثم قال فإن هذه النفس أبعد شي‏ء منزعا أي مذهبا قال أبو ذؤيب و النفس راغبة إذا رغبتها و إذا ترد إلى قليل تقنع [ 18 ] و من الكلام المروي عنه ع و يروى أيضا عن غيره أيها الناس إن هذه النفوس طلعة فإلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية . و قال الشاعر و ما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن أطمعت تاقت و إلا تسلت ثم قال ع نفس المؤمن ظنون عنده الظنون البئر التي لا يدرى أ فيها ماء أم لا فالمؤمن لا يصبح و لا يمسي إلا و هو على حذر من نفسه معتقدا فيها التقصير و التضجيع في الطاعة غير قاطع على صلاحها و سلامة عاقبتها . و زاريا عليها عائبا زريت عليه عبت . ثم أمرهم بالتأسي بمن كان قبلهم و هم الذين قوضوا من الدنيا خيامهم أي نقضوها و طووا أيام العمر كما يطوي المسافر منازل طريقه : وَ اِعْلَمُوا أَنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ هُوَ اَلنَّاصِحُ اَلَّذِي لاَ يَغُشُّ وَ اَلْهَادِي اَلَّذِي لاَ يُضِلُّ وَ اَلْمُحَدِّثُ اَلَّذِي لاَ يَكْذِبُ وَ مَا جَالَسَ هَذَا اَلْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى وَ اِعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ اَلْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ وَ لاَ لِأَحَدٍ قَبْلَ اَلْقُرْآنِ مِنْ [ 19 ] غِنًى فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ وَ اِسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ اَلدَّاءِ وَ هُوَ اَلْكُفْرُ وَ اَلنِّفَاقُ وَ اَلْغَيُّ وَ اَلضَّلاَلُ فَاسْأَلُوا اَللَّهَ بِهِ وَ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ وَ لاَ تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ اَلْعِبَادُ إِلَى اَللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَ قَائِلٌ مُصَدَّقٌ وَ أَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ اَلْقُرْآنُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ وَ مَنْ مَحَلَ بِهِ اَلْقُرْآنُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِي حَرْثِهِ وَ عَاقِبَةِ عَمَلِهِ غَيْرَ حَرَثِةِ اَلْقُرْآنِ فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَ أَتْبَاعِهِ وَ اِسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ وَ اِسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَ اِتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ وَ اِسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ غشه يغشه بالضم غشا خلاف نصحه و اللأواء الشدة . و شفع له القرآن شفاعة بالفتح و هو مما يغلط فيه العامة فيكسرونه و كذلك تبعت كذا بكذا أتبعته مفتوح أيضا . و محل به إلى السلطان قال عنه ما يضره كأنه جعل القرآن يمحل يوم القيامة عند الله بقوم أي يقول عنهم شرا و يشفع عند الله لقوم أي يثني عليهم خيرا . و الحارث المكتسب و الحرث الكسب و حرثة القرآن المتاجرون به الله . و استنصحوه على أنفسكم أي إذا أشار عليكم بأمر و أشارت عليكم أنفسكم بأمر يخالفه . [ 20 ] فاقبلوا مشورة القرآن دون مشورة أنفسكم و كذلك معنى قوله و اتهموا عليه آراءكم و استغشوا فيه أهواءكم فصل في القرآن و ذكر الآثار التي وردت بفضله و اعلم أن هذا الفصل من أحسن ما ورد في تعظيم القرآن و إجلاله و قد قال الناس في هذا الباب فأكثروا . و من الكلام المروي عن أمير المؤمنين ع في ذكر القرآن أيضا ما رواه ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار عنه ع أيضا و هو مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب و طعمها طيب و مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب و لا ريح لها و مثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب و طعمها مر و مثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر و ريحها منتنة و قال الحسن رحمه الله قراء القرآن ثلاثة رجل اتخذه بضاعة فنقله من مصر إلى مصر يطلب به ما عند الناس و رجل حفظ حروفه و ضيع حدوده و استدر به الولاة و استطال به على أهل بلاده و قد كثر الله هذا الضرب من حملة القرآن لا كثرهم الله و رجل قرأ القرآن فبدأ بما يعلم من دواء القرآن فوضعه على داء قلبه فسهر ليله و انهملت عيناه و تسربل بالخشوع و ارتدى بالحزن فبذاك و أمثاله يسقى الناس الغيث و ينزل النصر و يدفع البلاء و الله لهذا الضرب من حملة القرآن أعز و أقل من الكبريت الأحمر [ 21 ] و في الحديث المرفوع إن من تعظيم جلال الله إكرام ذي الشيبة في الإسلام و إكرام الإمام العادل و إكرام حملة القرآن و في الخبر المرفوع أيضا لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو فإني أخاف أن يناله العدو . و كانت الصحابة تكره بيع المصاحف و تراه عظيما و كانوا يكرهون أن يأخذ المعلم على تعليم القرآن أجرا . و كان ابن عباس يقول إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن و قال ابن مسعود لكل شي‏ء ديباجة و ديباجة القرآن آل حم قيل لابن عباس أ يجوز أن يحلى المصحف بالذهب و الفضة فقال حليته في جوفه و قال النبي ص أصفر البيوت جوف صفر من كتاب الله و قال الشعبي إياكم و تفسير القرآن فإن الذي يفسره إنما يحدث عن الله . الحسن رحمه الله رحم الله امرأ عرض نفسه و عمله على كتاب الله فإن وافق حمد الله و سأله الزيادة و إن خالف أعتب و راجع من قريب . حفظ عمر بن الخطاب سورة البقرة فنحر و أطعم . وفد غالب بن صعصعة على علي ع و معه ابنه الفرزدق فقال له من أنت فقال غالب بن صعصعة المجاشعي قال ذو الإبل الكثيرة قال نعم قال ما فعلت إبلك قال أذهبتها النوائب و ذعذعتها الحقوق قال ذاك خير سبلها [ 22 ] ثم قال يا أبا الأخطل من هذا الغلام معك قال ابني و هو شاعر قال علمه القرآن فهو خير له من الشعر فكان ذلك في نفس الفرزدق حتى قيد نفسه و آلى ألا يحل قيده حتى يحفظ القرآن فما حله حتى حفظه و ذلك قوله و ما صب رجلي في حديد مجاشع مع القد إلا حاجة لي أريدها قلت تحت قوله ع يا أبا الأخطل قبل أن يعلم أن ذلك الغلام ولده و أنه شاعر سر غامض و يكاد يكون إخبارا عن غيب فليلمح . الفضيل بن عياض بلغني أن صاحب القرآن إذا وقف على معصية خرج القرآن من جوفه فاعتزل ناحية و قال أ لهذا حملتني . قلت و هذا القول على سبيل المثل و التخويف من مواقعة المعاصي لمن يحفظ القرآن . أنس قال قال لي رسول الله ص يا ابن أم سليم لا تغفل عن قراءة القرآن صباحا و مساء فإن القرآن يحيي القلب الميت و ينهى عن الفحشاء و المنكر . كان سفيان الثوري إذا دخل شهر رمضان ترك جميع العبادة و أقبل على قراءة القرآن من المصحف . كعب الأحبار قال الله تعالى لموسى ع مثل كتاب محمد في الكتب مثل سقاء فيه لبن كلما مخضته استخرجت منه زبدا . أسلم الخواص كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة فقلت لنفسي يا أسلم اقرأ القرآن كأنك تسمعه من رسول الله ص فجاءت حلاوة قليلة فقلت اقرأه كأنك تسمعه من جبرئيل ع فازدادت الحلاوة فقلت اقرأه كأنك تسمعه من الله عز و جل حين تكلم به فجاءت الحلاوة كلها . [ 23 ] بعض أرباب القلوب إن الناس يجمزون في قراءة القرآن ما خلا المحبين فإن لهم خان إشارات إذا مروا به نزلوا يريد آيات من القرآن يقفون عندها فيفكرون فيها . في الحديث المرفوع ما من شفيع من ملك و لا نبي و لا غيرهما أفضل من القرآن و في الحديث المرفوع أيضا من قرأ القرآن ثم رأى أن أحدا أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر عظمة الله و جاء في بعض الآثار إن الله تعالى خلق بعض القرآن قبل أن يخلق آدم و قرأه على الملائكة فقالوا طوبى لأمة ينزل عليها هذا و طوبى لأجواف تحمل هذا و طوبى لألسنة تنطق بهذا و قال النبي ص إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد قيل يا رسول الله و ما جلاؤها قال قراءة القرآن و ذكر الموت و عنه ع ما أذن الله لشي‏ء أذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن و عنه ع إن ربكم لأشد أذنا إلى قارئ القرآن من صاحب القينة إلى قينته و عنه ع أنت تقرأ القرآن ما نهاك فإذا لم ينهك فلست تقرؤه ابن مسعود رحمه الله ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون و بنهاره إذ الناس مفطرون و بحزنه إذ الناس يفرحون و ببكائه إذ الناس يضحكون و بخشوعه إذ الناس يختالون و ينبغي لحامل القرآن أن يكون سكيتا زميتا لينا و لا ينبغي أن يكون جافيا و لا مماريا و لا صياحا و لا حديدا و لا صخابا . [ 24 ] بعض السلف إن العبد ليفتتح سورة فتصلي عليه حتى يفرغ منها و إن العبد ليفتتح سورة فتلعنه حتى يفرغ منها قيل كيف ذاك قال إذا أحل حلالها و حرم حرامها صلت عليه و إلا لعنته . ابن مسعود أنزل الله عليهم القرآن ليعملوا به فاتخذوا دراسته عملا إن أحدهم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفا و قد أسقط العمل به ابن عباس لأن أقرأ البقرة و آل عمران أرتلهما و أتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله هذرمة . ثابت البناني كابدت في القرآن عشرين سنة و تنعمت به عشرين سنة : اَلْعَمَلَ اَلْعَمَلَ ثُمَّ اَلنِّهَايَةَ اَلنِّهَايَةَ وَ اَلاِسْتِقَامَةَ اَلاِسْتِقَامَةَ ثُمَّ اَلصَّبْرَ اَلصَّبْرَ وَ اَلْوَرَعَ اَلْوَرَعَ إِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ وَ إِنَّ لَكُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ وَ إِنَّ لِلْإِسْلاَمِ غَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى غَايَتِهِ وَ اُخْرُجُوا إِلَى اَللَّهِ مِمَّا اِفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّهِ وَ بَيَّنَ لَكُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ أَنَا شَاهِدٌ لَكُمْ وَ حَجِيجٌ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَنْكُمْ أَلاَ وَ إِنَّ اَلْقَدَرَ اَلسَّابِقَ قَدْ وَقَعَ وَ اَلْقَضَاءَ اَلْمَاضِيَ قَدْ تَوَرَّدَ وَ إِنِّي مُتَكَلِّمٌ بِعِدَةِ اَللَّهِ وَ حُجَّتِهِ قَالَ اَللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ تَعَالَى إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [ 25 ] اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ وَ قَدْ قُلْتُمْ رَبُّنَا اَللَّهُ فَاسْتَقِيمُوا عَلَى كِتَابِهِ وَ عَلَى مِنْهَاجِ أَمْرِهِ وَ عَلَى اَلطَّرِيقَةِ اَلصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادَتِهِ ثُمَّ لاَ تَمْرُقُوا مِنْهَا وَ لاَ تَبْتَدِعُوا فِيهَا وَ لاَ تُخَالِفُوا عَنْهَا فَإِنَّ أَهْلَ اَلْمُرُوقِ مُنْقَطَعٌ بِهِمْ عِنْدَ اَللَّهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ النصب على الإغراء و حقيقته فعل مقدر أي الزموا العمل و كرر الاسم لينوب أحد اللفظين عن الفعل المقدر و الأشبه أن يكون اللفظ الأول هو القائم مقام الفعل لأنه في رتبته أمرهم بلزوم العمل ثم أمرهم بمراعاة العاقبة و الخاتمة و عبر عنها بالنهاية و هي آخر أحوال المكلف التي يفارق الدنيا عليها إما مؤمنا أو كافرا أو فاسقا و الفعل المقدر هاهنا راعوا و أحسنوا و أصلحوا و نحو ذلك . ثم أمرهم بالاستقامة و أن يلزموها و هي أداء الفرائض . ثم أمرهم بالصبر عليها و ملازمته و بملازمة الورع . ثم شرع بعد هذا الكلام المجمل في تفصيله فقال إن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم و هذا لفظ رسول الله ص أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم و إن لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم و المراد بالنهاية و الغاية أن يموت الإنسان على توبة من فعل القبيح و الإخلال بالواجب . ثم أمرهم بالاهتداء بالعلم المنصوب لهم و إنما يعني نفسه ع . ثم ذكر أن للإسلام غاية و أمرهم بالانتهاء إليها و هي أداء الواجبات و اجتناب المقبحات . ثم أوضح ذلك بقوله و اخرجوا إلى الله مما افترض عليكم من حقه و بين لكم [ 26 ] من وظائفه فكشف بهذا الكلام معنى الغاية التي أجملها أولا ثم ذكر أنه شاهد لهم و محاج يوم القيامة عنهم و هذا إشارة إلى قوله تعالى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ . و حجيج فعيل بمعنى فاعل و إنما سمى نفسه حجيجا عنهم و إن لم يكن ذلك الموقف موقف مخاصمة لأنه إذا شهد لهم فكأنه أثبت لهم الحجة فصار محاجا عنهم . قوله ع ألا و إن القدر السابق قد وقع يشير به إلى خلافته . و هذه الخطبة من أوائل الخطب التي خطب بها أيام بويع بعد قتل عثمان و في هذا إشارة إلى أن رسول الله ص قد أخبره أن الأمر سيفضى إليه منتهى عمره و عند انقضاء أجله . ثم أخبرهم أنه سيتكلم بوعد الله تعالى و محجته على عباده في قوله إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقامُوا . . . الآية و معنى الآية أن الله تعالى وعد الذين أقروا بالربوبية و لم يقتصروا على الإقرار بل عقبوا ذلك بالاستقامة أن ينزل عليهم الملائكة عند موتهم بالبشرى و لفظة ثم للتراخي و الاستقامة مفضلة على الإقرار باللسان لأن الشأن كله في الاستقامة و نحوها قوله تعالى إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أي ثم ثبتوا على الإقرار و مقتضياته و الاستقامة هاهنا هي الاستقامة الفعلية شافعة للاستقامة القولية و قد اختلف فيه قول أمير المؤمنين ع و أبي بكر فقال أمير المؤمنين ع أدوا الفرائض و قال أبو بكر استمروا على التوحيد . [ 27 ] و روي أن أبا بكر تلاها و قال ما تقولون فيها فقالوا لم يذنبوا فقال حملتم الأمر على أشده فقالوا قل قال لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان و رأي أبي بكر في هذا الموضع إن ثبت عنه يؤكد مذهب الإرجاء و قول أمير المؤمنين ع يؤكد مذهب أصحابنا . و روى سفيان بن عبد الله الثقفي قال قلت يا رسول الله أخبرني بأمر أعتصم به فقال قل لا إله إلا الله ثم استقم فقلت ما أخوف ما تخافه علي فقال هذا و أخذ بلسان نفسه ص و تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلائِكَةُ عند الموت أو في القبر أو عند النشور . و أَلاَّ تَخافُوا أن بمعنى أي أو تكون خفيفة من الثقيلة و أصله أنه لا تخافوا و الهاء ضمير الشأن . و قد فسر أمير المؤمنين الاستقامة المشترطة في الآية فقال قد أقررتم بأن الله ربكم فاستقيموا على كتابه و على منهاج أمره و على الطريقة الصالحة من عبادته . لا تمرقوا منها مرق السهم إذا خرج من الرمية مروقا . و لا تبتدعوا لا تحدثوا ما لم يأت به الكتاب و السنة . و لا تخالفوا عنها تقول خالفت عن الطريق أي عدلت عنها . قال فإن أهل المروق منقطع بهم بفتح الطاء انقطع بزيد بضم الهمزة فهو منقطع به إذا لم يجد بلاغا و وصولا إلى المقصد [ 28 ] ثُمَّ إِيَّاكُمْ وَ تَهْزِيعَ اَلْأَخْلاَقِ وَ تَصْرِيفَهَا وَ اِجْعَلُوا اَللِّسَانَ وَاحِداً وَ لْيَخْزُنِ اَلرَّجُلُ لِسَانَهُ فَإِنَّ هَذَا اَللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ وَ اَللَّهِ مَا أَرَى عَبْداً يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْتَزِنَ يَخْزُنَ لِسَانَهُ وَ إِنَّ لِسَانَ اَلْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ وَ إِنَّ قَلْبَ اَلْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ لِأَنَّ اَلْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلاَمٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ وَ إِنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ وَ إِنَّ اَلْمُنَافِقَ يَتَكَلَّمُ بِمَا أَتَى عَلَى لِسَانِهِ لاَ يَدْرِي مَا ذَا لَهُ وَ مَا ذَا عَلَيْهِ وَ لَقَدْ قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ ص لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَ لاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ فَمَنِ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ نَقِيُّ اَلرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ اَلْمُسْلِمِينَ وَ أَمْوَالِهِمْ سَلِيمُ اَللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ فَلْيَفْعَلْ تهزيع الأخلاق تغييرها و أصل الهزع الكسر أسد مهزع يكسر الأعناق و يرض العظام و لما كان المتصرف بخلقه الناقل له من حال قد أعدم سمته الأولى كما يعدم الكاسر صورة المكسور اشتركا في مسمى شامل لهما فاستعمل التهزيع في الخلق للتغيير و التبديل مجازا . قوله و اجعلوا اللسان واحدا نهى عن النفاق و استعمال الوجهين . قال و ليخزن الرجل لسانه أي ليحبسه فإن اللسان يجمح بصاحبه فيلقيه في الهلكة . [ 29 ] ثم ذكر أنه لا يرى التقوى نافعة إلا مع حبس اللسان قال فإن لسان المؤمن وراء قلبه و قلب الأحمق وراء لسانه و شرح ذلك و بينه . فإن قلت المسموع المعروف لسان العاقل من وراء قلبه و قلب الأحمق وراء لسانه كيف نقله إلى المؤمن و المنافق . قلت لأنه قل أن يكون المنافق إلا أحمق و قل أن يكون العاقل إلا مؤمنا فلأكثرية ذلك استعمل لفظ المؤمن و أراد العاقل و لفظ المنافق و أراد الأحمق . ثم روى الخبر المذكور عن النبي ص و هو مشهور . ثم أمرهم بالاجتهاد في أن يلقوا الله تعالى و كل منهم نقي الراحة من دماء المسلمين و أموالهم سليم اللسان من أعراضهم و قد قال النبي ص إنما المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده فسلامتهم من لسانه سلامة أعراضهم و سلامتهم من يده سلامة دمائهم و أموالهم و انتصاب تهزيع على التحذير و حقيقته تقدير فعل و صورته جنبوا أنفسكم تهزيع الأخلاق فإياكم قائم مقام أنفسكم و الواو عوض عن الفعل المقدر و أكثر ما يجي‏ء بالواو و قد جاء بغير واو في قول الشاعر إياك إياك المراء فإنه إلى الشر دعاء و للشر جالب و كان يقال ينبغي للعاقل أن يتمسك بست خصال فإنها من المروءة أن يحفظ دينه و يصون عرضه و يصل رحمه و يحمي جاره و يرعى حقوق إخوانه و يخزن عن البذاء لسانه و في الخبر المرفوع من كفي شر قبقبه و ذبذبه و لقلقه دخل الجنة . [ 30 ] فالقبقب البطن و الذبذب الفرج و اللقلق اللسان . و قال بعض الحكماء من علم أن لسانه جارحة من جوارحه أقل من اعتمالها و استقبح تحريكها كما يستقبح تحريك رأسه أو منكبه دائما : وَ اِعْلَمُوا عِبَادَ اَللَّهِ أَنَّ اَلْمُؤْمِنَ يَسْتَحِلُّ اَلْعَامَ مَا اِسْتَحَلَّ عَاماً أَوَّلَ وَ يُحَرِّمُ اَلْعَامَ مَا حَرَّمَ عَاماً أَوَّلَ وَ أَنَّ مَا أَحْدَثَ اَلنَّاسُ لاَ يُحِلُّ لَكُمْ شَيْئاً مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ لَكِنَّ اَلْحَلاَلَ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ وَ اَلْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ فَقَدْ جَرَّبْتُمُ اَلْأُمُورَ وَ ضَرَّسْتُمُوهَا وَ وُعِظْتُمْ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ ضُرِبَتِ اَلْأَمْثَالُ لَكُمْ وَ دُعِيتُمْ إِلَى اَلْأَمْرِ اَلْوَاضِحِ فَلاَ يَصَمُّ عَنْ ذَلِكَ إِلاَّ أَصَمُّ وَ لاَ يَعْمَى عَنْهُ إِلاَّ أَعْمَى وَ مَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ اَللَّهُ بِالْبَلاَءِ وَ اَلتَّجَارِبِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ اَلْعِظَةِ وَ أَتَاهُ اَلتَّقْصِيرُ مِنْ أَمَامِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مَا أَنْكَرَ وَ يُنْكِرَ مَا عَرَفَ فَإِنَّ اَلنَّاسَ وَ إِنَّمَا اَلنَّاسُ رَجُلاَنِ مُتَّبِعٌ شِرْعَةً وَ مُبْتَدِعٌ بِدْعَةً لَيْسَ مَعَهُ مِنَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ بُرْهَانُ سُنَّةٍ وَ لاَ ضِيَاءُ حُجَّةٍ يقول إن الأحكام الشرعية لا يجوز بعد ثبوت الأدلة عليها من طريق النص أن تنقض باجتهاد و قياس بل كل ما ورد به النص تتبع مورد النص فيه فما استحللته عاما أول فهو في هذا العام حلال لك و كذلك القول في التحريم و هذا هو مذهب أكثر أصحابنا أن النص مقدم على القياس و قد ذكرناه في كتبنا في أصول الفقه . و أول هاهنا لا ينصرف لأنه صفة على وزن أفعل . [ 31 ] و قال إن ما أحدث الناس لا يحل لكم شيئا مما حرم عليكم أي ما أحدثوه من القياس و الاجتهاد و ليس هذا بقادح في القياس و لكنه مانع من تقديمه على النص و هكذا يقول أصحابنا . قوله و ضرستموها بالتشديد أي أحكمتموها تجربة و ممارسة يقال قد ضرسته الحرب و رجل مضرس . قوله فلا يصم عن ذلك إلا أصم أي لا يصم عنه إلا من هو حقيق أن يقال عنه إنه أصم كما تقول ما يجهل هذا الأمر إلا جاهل أي بالغ في الجهل . ثم قال من لم ينفعه الله بالبلاء أي بالامتحان و التجربة لم تنفعه المواعظ و جاءه النقص من بين يديه حتى يتخيل فيما أنكره أنه قد عرفه و ينكر ما قد كان عارفا به و سمى اعتقاد العرفان و تخيله عرفانا على المجاز . ثم قسم الناس إلى رجلين إما متبع طريقة و منهاجا أو مبتدع ما لا يعرف و ليس بيده حجة فالأول المحق و الثاني المبطل . و الشرعة المنهاج و البرهان الحجة : فَإِنَّ وَ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ فَإِنَّهُ حَبْلُ اَللَّهِ اَلْمَتِينُ وَ سَبَبُهُ اَلْأَمِينُ وَ فِيهِ رَبِيعُ اَلْقَلْبِ وَ يَنَابِيعُ اَلْعِلْمِ وَ مَا لِلْقَلْبِ جَلاَءٌ غَيْرُهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ اَلْمُتَذَكِّرُونَ وَ بَقِيَ اَلنَّاسُونَ أَوِ اَلْمُتَنَاسُونَ فَإِذَا رَأَيْتُمْ خَيْراً فَأَعِينُوا عَلَيْهِ وَ إِذَا رَأَيْتُمْ شَرّاً فَاذْهَبُوا عَنْهُ فَإِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ ص كَانَ يَقُولُ يَا اِبْنَ آدَمَ اِعْمَلِ اَلْخَيْرَ وَ دَعِ اَلشَّرَّ فَإِذَا أَنْتَ جَوَادٌ قَاصِدٌ [ 32 ] إنما جعله حبل الله لأن الحبل ينجو من تعلق به من هوة و القرآن ينجو من الضلال من يتعلق به . و جعله متينا أي قويا لأنه لا انقطاع له أبدا و هذه غاية المتانة و القوة . و متن الشي‏ء بالضم أي صلب و قوي و سببه الأمين مثل حبله المتين و إنما خالف بين اللفظين على قاعدة الخطابة . و فيه ربيع القلب لأن القلب يحيا به كما تحيا الأنعام برعي الربيع . و ينابيع العلم لأن العلم منه يتفرع كما يخرج الماء من الينبوع و يتفرع إلى الجداول و الجلاء بالكسر مصدر جلوت السيف يقول لا جلاء لصدأ القلوب من الشبهات و الغفلات إلا القرآن . ثم قال إن المتذكرين قد ذهبوا و ماتوا و بقي الناسون الذين لا علوم لهم أو المتناسون الذين عندهم العلوم و يتكلفون إظهار الجهل لأغراض دنيوية تعرض لهم و روي و المتناسون بالواو . ثم قال أعينوا على الخير إذا رأيتموه بتحسينه عند فاعله و بدفع الأمور المانعة عنه و بتسهيل أسبابه و تسنية سبله و إذا رأيتم الشر فاذهبوا عنه و لا تقاربوه و لا تقيموا أنفسكم في مقام الراضي به الموافق على فعله ثم روى لهم الخبر . و الجواد القاصد السهل السير لا سريع يتعب بسرعته و لا بطي‏ء يفوت الغرض ببطئه [ 33 ] أَلاَ وَ إِنَّ اَلظُّلْمَ ثَلاَثَةٌ فَظُلْمٌ لاَ يُغْفَرُ وَ ظُلْمٌ لاَ يُتْرَكُ وَ ظُلْمٌ مَغْفُورٌ لاَ يُطْلَبُ فَأَمَّا اَلظُّلْمُ اَلَّذِي لاَ يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ قَالَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّ اَللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ أَمَّا اَلظُّلْمُ اَلَّذِي يُغْفَرُ فَظُلْمُ اَلْعَبْدِ نَفْسَهُ عِنْدَ بَعْضِ اَلْهَنَاتِ وَ أَمَّا اَلظُّلْمُ اَلَّذِي لاَ يُتْرَكُ فَظُلْمُ اَلْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً اَلْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَى وَ لاَ ضَرْباً بِالسِّيَاطِ وَ لَكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَهُ فَإِيَّاكُمْ وَ اَلتَّلَوُّنَ فِي دِينِ اَللَّهِ فَإِنَّ جَمَاعَةً فِيمَا تَكْرَهُونَ مِنَ اَلْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فِيمَا تُحِبُّونَ مِنَ اَلْبَاطِلِ وَ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَيْراً مِمَّنْ مَضَى وَ لاَ مِمَّنْ بَقِيَ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ اَلنَّاسِ وَ طُوبَى لِمَنْ لَزِمَ بَيْتَهُ وَ أَكَلَ قُوتَهُ وَ اِشْتَغَلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ وَ بَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ فَكَانَ مِنْ نَفْسِهِ فِي شُغُلٍ وَ اَلنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ قسم ع الظلم ثلاثة أقسام أحدها ظلم لا يغفر و هو الشرك بالله أي أن يموت الإنسان مصرا على الشرك و يجب عند أصحابنا أن يكون أراد الكبائر و إن لم يذكرها لأن حكمها حكم الشرك عندهم . [ 34 ] و ثانيها الهنات المغفورة و هي صغائر الذنوب هكذا يفسر أصحابنا كلامه ع . و ثالثها ما يتعلق بحقوق البشر بعضهم على بعض فإن ذلك لا يتركه الله هملا بل لا بد من عقاب فاعله و إنما أفرد هذا القسم مع دخوله في القسم الأول لتميزه بكونه متعلقا بحقوق بني آدم بعضهم على بعض و ليس الأول كذلك . فإن قلت لفظه ع مطابق للآية و هي قوله تعالى إِنَّ اَللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ و الآية و لفظه ع صريحان في مذهب المرجئة لأنكم إذا فسرتم قوله لمن يشاء بأن المراد به أرباب التوبة قيل لكم فالمشركون هكذا حالهم يقبل الله توبتهم و يسقط عقاب شركهم بها فلأي معنى خصص المشيئة بالقسم الثاني و هو ما دون الشرك و هل هذا إلا تصريح بأن الشرك لا يغفر لمن مات عليه و ما دونه من المعاصي إذا مات الإنسان عليه لا يقطع له بالعقاب و لا لغيره بل أمره إلى الله . قلت الأصوب في هذا الموضع ألا يجعل قوله لمن يشاء معنيا به التائبون بل نقول المراد أن الله لا يستر في موقف القيامة من مات مشركا بل يفضحه على رءوس الأشهاد كما قال تعالى وَ يَقُولُ اَلْأَشْهادُ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلى‏ رَبِّهِمْ . و أما من مات على كبيرة من أهل الإسلام فإن الله تعالى يستره في الموقف و لا يفضحه بين الخلائق و إن كان من أهل النار و يكون معنى المغفرة في هذه الآية الستر و تغطية حال العاصي في موقف الحشر و قد يكون من أهل الكبائر ممن يقر بالإسلام [ 35 ] لعظيم كبائره جدا فيفضحه الله تعالى في الموقف كما يفضح المشرك فهذا معنى قوله وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ . فأما الكلام المطول في تأويلات هذه الآية فمذكور في كتبنا الكلامية . و اعلم أنه لا تعلق للمرجئة و لا جدوى عليهم من عموم لفظ الآية لأنهم قد وافقونا على أن الفلسفي غير مغفور له و ليس بمشرك فإذا أراد بقوله تعالى إِنَّ اَللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ و من جرى مجرى المشركين قيل لهم و نحن نقول إن الزاني و القاتل يجريان مجرى المشركين كما أجريتم الفلاسفة مجرى المشركين فلا تنكروا علينا ما لم تنكروه على أنفسكم . ثم ذكر ع أن القصاص في الآخرة شديد ليس كما يعهده الناس من عقاب الدنيا الذي هو ضرب السوط و غايته أن يذوق الإنسان طعم الحديد و هو معنى قوله جرحا بالمدى جمع مدية و هي السكين بل هو شي‏ء آخر عظيم لا يعبر النطق عن كنهه و شدة نكاله و ألمه فصل في الآثار الواردة في شديد عذاب جهنم قال الأوزاعي في مواعظه للمنصور روي لي عن رسول الله ص لو أن ثوبا من ثياب أهل النار علق بين السماء و الأرض لأحرق أهل الأرض قاطبة فكيف بمن يتقمصه و لو أن ذنوبا من حميم جهنم صب على ماء الأرض كله لأجنه حتى لا يستطيع مخلوق شربه فكيف بمن يتجرعه و لو أن حلقة من سلاسل النار وضعت على جبل لذاب كما يذوب الرصاص فكيف بمن يسلك فيها و يرد فضلها على عاتقه و روى أبو هريرة عن النبي ص لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون و أخرج إليهم رجل من النار فتنفس و أصابهم نفسه لأحرق المسجد و من فيه [ 36 ] و روي أن رسول الله ص قال لجبريل ما لي لا أرى ميكائيل ضاحكا قال إن ميكائيل لم يضحك منذ خلقت النار و رآها و عنه ص لما أسري بي سمعت هدة فسألت جبريل عنها فقال حجر أرسله الله من شفير جهنم فهو يهوي منذ سبعين خريفا حتى بلغ الآن فيه و روي عن النبي ص في قوله تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ قال تتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه و تسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته و روى عبيد بن عمير الليثي عنه ع لتزفرن جهنم زفرة لا يبقى ملك و لا نبي إلا خر مرتعدة فرائصه حتى إن إبراهيم الخليل ليجثو على ركبتيه فيقول يا رب إني لا أسألك إلا نفسي أبو سعيد الخدري مرفوعا لو ضربت جبال الدنيا بمقمع من تلك المقامع الحديد لصارت غبارا . الحسن البصري قال الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار لأنهم أعجزوا الرب و لكن إذا أصابهم اللهب أرسبتهم في النار ثم خر الحسن صعقا و قال و دموعه تتحادر يا ابن آدم نفسك نفسك فإنما هي نفس واحدة إن نجت نجوت و إن هلكت لم ينفعك من نجا . طاوس أيها الناس إن النار لما خلقت طارت أفئدة الملائكة فلما خلقتم سكنت . [ 37 ] مطرف بن الشخير إنكم لتذكرون الجنة و إن ذكر النار قد حال بيني و بين أن أسأل الله الجنة . منصور بن عمار يا من البعوضة تقلقه و البقة تسهره أ مثلك يقوى على وهج السعير أو تطيق صفحة خده لفح سمومها و رقة أحشائه خشونة ضريعها و رطوبة كبده تجرع غساقها . قيل لعطاء السلمي أ يسرك أن يقال لك قع في جهنم فتحرق فتذهب فلا تبعث أبدا لا إليها و لا إلى غيرها فقال و الله الذي لا إله إلا هو لو سمعت أن يقال لي لظننت أني أموت فرحا قبل أن يقال لي ذلك . الحسن و الله ما يقدر العباد قدر حرها روينا لو أن رجلا كان بالمشرق و جهنم بالمغرب ثم كشف عن غطاء واحد منها لغلت جمجمته و لو أن دلوا من صديدها صب في الأرض ما بقي على وجهها شي‏ء فيه روح إلا مات . كان الأحنف يصلي صلاة الليل و يضع المصباح قريبا منه فيضع إصبعه عليه و يقول يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا حتى يصبح فصل في العزلة و الاجتماع و ما قيل فيهما ثم نهاهم ع عن التفرق في دين الله و هو الاختلاف و الفرقة ثم أمرهم باجتماع الكلمة و قال إن الجماعة في الحق المكروه إليكم خير لكم من الفرقة في الباطل المحبوب عندكم فإن الله لم يعط أحدا خيرا بالفرقة لا ممن مضى و لا ممن بقي . [ 38 ] و قد تقدم ذكر ما ورد عن النبي ص في الأمر بلزوم الجماعة و النهي عن الاختلاف و الفرقة . ثم أمر ع بالعزلة و لزوم البيت و الاشتغال بالعبادة و مجانبة الناس و متاركتهم و اشتغال الإنسان بعيب نفسه عن عيوبهم . و قد ورد في العزلة أخبار و آثار كثيرة و اختلف الناس قديما و حديثا فيها ففضلها قوم على المخالطة و فضل قوم المخالطة عليها . فممن فضل العزلة سفيان الثوري و إبراهيم بن أدهم و داود الطائي و الفضيل بن عياض و سليمان الخواص و يوسف بن أسباط و بشر الحافي و حذيفة المرعشي و جمع كثير من الصوفية و هو مذهب أكثر العارفين و قول المتألهين من الفلاسفة . و ممن فضل المخالطة على العزلة ابن المسيب و الشعبي و ابن أبي ليلى و هشام بن عروة و ابن شبرمة و القاضي شريح و شريك بن عبد الله و ابن عيينة و ابن المبارك . فأما كلام أمير المؤمنين ع فيقتضي عند إمعان النظر فيه أن العزلة خير لقوم و أن المخالطة خير لقوم آخرين على حسب أحوال الناس و اختلافهم . و قد احتج أرباب المخالطة يقول الله تعالى فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً و بقوله وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اِخْتَلَفُوا و هذا ضعيف لأن المراد بالآية تفرق الآراء و اختلاف المذاهب في أصول الدين و المراد [ 39 ] بتأليف القلوب و بالأخوة عدم الإحن و الأحقاد بينهم بعد استعار نارها في الجاهلية و هذا أمر خارج عن حديث العزلة . و احتجوا بقول النبي ص المؤمن إلف مألوف و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف و هذا أيضا ضعيف لأن المراد منه ذم سوء الخلق و الأمر بالرفق و البشر فلا يدخل تحته الإنسان الحسن الخلق الذي لو خولط لألف و ألف و إنما يمنعه من المخالطة طلب السلامة من الناس . و احتجوا بقوله من شق عصا المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه و هذا ضعيف أيضا لأنه مختص بالبغاة و المارقين عن طاعة الإمام فلا يتناول أهل العزلة الذين هم أهل طاعة للأئمة إلا أنهم لا يخالطون الناس . و احتجوا بنهيه ص عن هجر الإنسان أخاه فوق ثلاث و هذا ضعيف لأن المراد منه النهي عن الغضب و اللجاج و قطع الكلام و السلام لثوران الغيظ فهذا أمر خارج عن الباب الذي نحن فيه . و احتجوا بأن رجلا أتى جبلا يعبد فيه فجاء أهله إلى رسول الله ص فنهاه و قال له إن صبر المسلم في بعض مواطن الجهاد يوما واحدا خير له من عبادة أربعين سنة . و هذا ضعيف لأنه إنما كان ذلك في ابتداء الإسلام و الحث على جهاد المشركين . و احتجوا بما روي عنه ص أنه قال الشيطان ذئب و الناس كالغنم يأخذ القاصية و الشاذة إياكم و الشعاب و عليكم بالعامة و الجماعة و المساجد و هذا ضعيف لأن المراد به من اعتزل الجماعة و خالفها . [ 40 ] و احتج من رجح العزلة و آثرها على المخالطة بالآثار الكثيرة الواردة في ذلك نحو قول عمر خذوا بحظكم من العزلة . و قول ابن سيرين العزلة عبادة . و قول الفضيل كفى بالله محبوبا و بالقرآن مؤنسا و بالموت واعظا اتخذ الله صاحبا و دع الناس جانبا . و قال ابن الربيع الزاهد لداود الطائي عظني فقال صم عن الدنيا و اجعل فطرك للآخرة و فر من الناس فرارك من الأسد . و قال الحسن كلمات أحفظهن من التوراة قنع ابن آدم فاستغنى و اعتزل الناس فسلم ترك الشهوات فصار حرا ترك الحسد فظهرت مروءته صبر قليلا فتمتع طويلا . و قال وهب بن الورد بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها الصمت و العاشر في العزلة عن الناس . و قال يوسف بن مسلم لعلي بن بكار ما أصبرك على الوحدة و كان قد لزم البيت فقال كنت و أنا شاب أصبر على أشد من هذا كنت أجالس الناس و لا أكلمهم . و قال الثوري هذا وقت السكوت و ملازمة البيوت . و قال بعضهم كنت في سفينة و معنا شاب علوي فمكث معنا سبعا لا نسمع له كلاما فقلنا له قد جمعنا الله و إياك منذ سبع و لا نراك تخالطنا و لا تكلمنا فأنشد قليل الهم لا ولد يموت و ليس بخائف أمرا يفوت قضى وطر الصبا و أفاد علما فغايته التفرد و السكوت [ 41 ] و أكبر همه مما عليه تناجز من ترى خلق و قوت قال النخعي لصاحب له تفقه ثم اعتزل . و كان مالك بن أنس الفقيه يشهد الجنائز و يعود المرضى و يعطي الإخوان حقوقهم ثم ترك واحدا واحدا من ذلك إلى أن ترك الجميع و قال ليس يتهيأ للإنسان أن يخبر بكل عذر له . و قيل لعمر بن عبد العزيز لو تفرغت لنا فقال ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله تعالى . و قال الفضيل بن عياض إني لأجد للرجل عندي يدا إذا لقيني ألا يسلم علي و إذا مرضت ألا يعودني . و قال الداراني بينا ابن خثيم جالس على باب داره إذ جاء حجر فصك وجهه فسجد و جعل يمسح الدم و يقول لقد وعظت يا ربيع ثم قام فدخل الدار فما جلس بعد ذلك على بابه حتى مات . و كان سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد قد لزما بيوتهما بالعقيق فلم يكونا يأتيان المدينة لا لحاجة لهما و لا لغيرهما حتى ماتا بالعقيق . قال بشر أقلل من معرفة الناس فإنك لا تدري ما تكون يوم القيامة فإن تكن فضيحة كان من يعرفك أقل . و أحضر بعض الأمراء حاتما الأصم فكلمه ثم قال له أ لك حاجة قال نعم ألا تراني و لا أراك . و قيل للفضيل إن ابنك يقول لوددت أني في مكان أرى الناس و لا يرونني فبكى الفضيل و قال يا ويح علي أ لا أتمها فقال و لا أراهم . [ 42 ] و من كلام الفضيل أيضا من سخافة عقل الرجل كثرة معارفه . و قد جاء في الأحاديث المرفوعة ذكر العزلة و فضلها نحو قوله ع لعبد الله بن عامر الجهني لما سأله عن طريق النجاة فقال له ليسعك بيتك أمسك عليك دينك و ابك على خطيئتك و قيل له ص أي الناس أفضل فقال رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه و يدع الناس من شره و قال ع إن الله يحب التقي النقي الخفي ذكر فوائد العزلة و في العزلة فوائد منها الفراغ للعبادة و الذكر و الاستئناس بمناجاة الله عن مناجاة الخلق فيتفرغ لاستكشاف أسرار الله تعالى في أمر الدنيا و الآخرة و ملكوت السماوات و الأرض لأن ذلك لا يمكن إلا بفراغ و لا فراغ مع المخالطة و لذلك كان رسول الله ص في ابتداء أمره يتبتل في جبل حراء و يعتزل فيه حتى أتته النبوة . و قيل لبعض الحكماء ما الذي أرادوا بالخلوة و العزلة فقال دوام الفكر و ثبات العلوم في قلوبهم ليحيوا حياة طيبة و يموتوا موتا طيبا . و قيل لبعضهم ما أصبرك على الوحدة فقال لست وحدي أنا جليس ربي إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه و إذا شئت أن أناجيه صليت . و قال سفيان بن عيينة لقيت إبراهيم بن أدهم في بلاد الشام فقلت له يا إبراهيم [ 43 ] تركت خراسان فقال ما تهنأت بالعيش إلا هاهنا أفر بديني من شاهق إلى شاهق فمن رآني قال موسوس أو حمال . و قيل للحسن يا أبا سعيد هاهنا رجل لم نره قط جالسا إلا وحده خلف سارية فقال الحسن إذا رأيتموه فأخبروني فنظروا إليه ذات يوم فقالوا للحسن و أشاروا إليه فمضى نحوه و قال له يا عبد الله لقد حببت إليك العزلة فما يمنعك من مجالسة الناس قال أمر شغلني عنهم قال فما يمنعك أن تأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن فتجلس إليه قال أمر شغلني عن الناس و عن الحسن قال و ما ذلك الشغل يرحمك الله قال إني أمسي و أصبح بين نعمة و ذنب فأشغل نفسي بشكر الله على نعمه و الاستغفار من الذنب فقال الحسن أنت أفقه عندي يا عبد الله من الحسن فالزم ما أنت عليه . و جاء هرم بن حيان إلى أويس فقال له ما حاجتك قال جئت لآنس بك قال ما كنت أعرف أحدا يعرف ربه فيأنس بغيره . و قال الفضيل إذا رأيت الليل مقبلا فرحت به و قلت أخلو بربي و إذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس و أن يجي‏ء إلي من يشغلني عن ربي . و قال مالك بن دينار من لم يأنس بمحادثة الله عن محادثة المخلوقين فقد قل علمه و عمي قلبه و ضاع عمره . و قال بعض الصالحين بينا أنا أسير في بعض بلاد الشام إذا أنا بعابد خارج من بعض تلك الجبال فلما نظر إلي تنحى إلى أصل شجرة و تستر بها فقلت سبحان الله أ تبخل علي بالنظر إليك فقال يا هذا إني أقمت في هذا الجبل دهرا طويلا أعالج قلبي في الصبر عن الدنيا و أهلها فطال في ذلك تعبي و فني عمري ثم سألت الله تعالى [ 44 ] ألا يجعل حظي من أيامي في مجاهدة قلبي فقط فسكنه الله عن الاضطراب و آلفه الوحدة و الانفراد فلما نظرت إليك و تريدني خفت أن أقع في الأمر الأول فأعود إلى ألف المخلوقين فإليك عني فإني أعوذ من شرك برب العارفين و حبيب التائبين ثم صاح وا غماه من طول المكث في الدنيا ثم حول وجهه عني ثم نفض يده و قال إليك عني يا دنيا لغيري فتزيني و أهلك فغري ثم قال سبحان من أذاق العارفين من لذة الخدمة و حلاوة الانقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان و الحور الحسان فإني في الخلوة آنس بذكر الله و أستلذ بالانقطاع إلى الله ثم أنشد و إني لأستغشي و ما بي نعسة لعل خيالا منك يلقى خياليا و أخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا و قال بعض العلماء إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلو ذاته عن الفضيلة فيتكثر حينئذ بملاقاة الناس و يطرد الوحشة عن نفسه بهم فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة ليستعين بها على الفكرة و يستخرج العلم و الحكمة و كان يقال الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس . و منها التخلص بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالبا بالمخالطة و هي الغيبة و الرياء و ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و سرقة الطبع بعض الأخلاق الرديئة و الأعمال الخبيثة من الغير . أما الغيبة فإن التحرز منها مع مخالطة الناس صعب شديد لا ينجو من ذلك إلا الصديقون فإن عادة أكثر الناس التمضمض بأعراض من يعرفونه و التنقل بلذة [ 45 ] ذلك فهي أنسهم الذي يستريحون إليه في الجلوة و المفاوضة فإن خالطتهم و وافقت أثمت و إن سكت كنت شريكا فالمستمع أحد المغتابين و إن أنكرت تركوا ذلك المغتاب و اغتابوك فازدادوا إثما على إثمهم . فأما الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فإن من خالط الناس لا يخلو عن مشاهدة المنكرات فإن سكت عصى الله و إن أنكر تعرض بأنواع من الضرر و في العزلة خلاص عن ذلك و في الأمر بالمعروف إثارة للخصام و تحريك لكوامن ما في الصدور و قال الشاعر و كم سقت في آثاركم من نصيحة و قد يستفيد الظنة المتنصح و من تجرد للأمر بالمعروف ندم عليه في الأكثر كجدار مائل يريد الإنسان أن يقيمه وحده فيوشك أن يقع عليه فإذا سقط قال يا ليتني تركته مائلا نعم لو وجد الأعوان حتى يحكم ذلك الحائط و يدعمه استقام و لكنك لا تجد القوم أعوانا على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فدع الناس و انج بنفسك . و أما الرياء فلا شبهة أن من خالط الناس داراهم و من داراهم راءاهم و من راءاهم كان منافقا و أنت تعلم أنك إذا خالطت متعاديين و لم تلق كل واحد منهما بوجه يوافقه صرت بغيضا إليهما جميعا و إن جاملتهما كنت من شرار الناس و صرت ذا وجهين و أقل ما يجب في مخالطة الناس إظهار الشوق و المبالغة فيه و ليس يخلو ذلك عن كذب إما في الأصل و إما في الزيادة بإظهار الشفقة بالسؤال عن الأحوال فقولك كيف أنت و كيف أهلك و أنت في الباطن فارغ القلب عن همومه نفاق محض . قال السري السقطي لو دخل علي أخ فسويت لحيتي بيدي لدخوله خشيت أن أكتب في جريدة المنافقين . [ 46 ] كان الفضيل جالسا وحده في المسجد فجاء إليه أخ له فقال ما جاء بك قال المؤانسة قال هي و الله بالمواحشة أشبه هل تريد إلا أن تتزين لي و أتزين لك و تكذب لي و أكذب لك إما أن تقوم عني و إما أن أقوم عنك . و قال بعض العلماء ما أحب الله عبدا إلا أحب ألا يشعر به خلقه . و دخل طاوس على هشام بن عبد الملك فقال كيف أنت يا هشام فغضب و قال لم لم تخاطبني بإمرة المؤمنين قال لأن جميع الناس ما اتفقوا على خلافتك فخشيت أن أكون كاذبا . فمن أمكنه أن يحترز هذا الاحتراز فليخالط الناس و إلا فليرض بإثبات اسمه في جريدة المنافقين إن خالطهم و لا نجاة من ذلك إلا بالعزلة . و أما سرقة الطبع من الغير فالتجربة تشهد بذلك لأن من خالط الأشرار اكتسب من شرهم و كلما طالت صحبة الإنسان لأصحاب الكبائر هانت الكبائر عنده و في المثل فإن القرين بالمقارن يقتدي . و منها الخلاص من الفتن و الحروب بين الملوك و الأمراء على الدنيا . روى أبو سعيد الخدري عن النبي ص أنه قال يوشك أن يكون خير مال المسلم غنيمات يتبع بها شعاف الجبال و مواضع القطر يفر بدينه من الفتن و روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ص ذكر الفتن فقال إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم و خفت أمانتهم و كانوا هكذا و شبك [ 47 ] بأصابعه فقلت ما تأمرني فقال الزم بيتك و املك عليك لسانك و خذ ما تعرف و دع ما تنكر و عليك بأمر الخاصة و دع عنك أمر العامة و روى ابن مسعود عنه ص أنه قال سيأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر من قرية إلى قرية و من شاهق إلى شاهق كالثعلب الرواغ قيل و متى ذلك يا رسول الله قال إذا لم تنل المعيشة إلا بمعاصي الله سبحانه فإذا كان ذلك الزمان كان هلاك الرجل على يد أبويه فإن لم يكن له أبوان فعلى يد زوجته و ولده و إن لم يكن فعلى يد قرابته قالوا كيف ذلك يا رسول الله قال يعيرونه بالفقر و ضيق اليد فيكلفونه ما لا يطيقه حتى يورده ذلك موارد الهلكة و روى ابن مسعود أيضا أنه ص ذكر الفتنة فقال الهرج فقلت و ما الهرج يا رسول الله قال حين لا يأمن المرء جليسه قلت فبم تأمرني يا رسول الله إن أدركت ذلك الزمان قال كف نفسك و يدك و ادخل دارك قلت أ رأيت إن دخل علي داري قال ادخل بيتك قلت إن دخل علي البيت قال ادخل مسجدك و اصنع هكذا و قبض على الكوع و قل ربي الله حتى تموت . و منها الخلاص من شر الناس فإنهم يؤذونك تارة بالغيبة و تارة بسوء الظن و التهمة و تارة بالاقتراحات و الأطماع الكاذبة التي يعسر الوفاء بها و تارة بالنميمة و الكذب مما يرونه منك من الأعمال و الأقوال مما لا تبلغ عقولهم كنهه فيدخرون ذلك في نفوسهم عدة لوقت ينتهزون فيه فرصة الشر و من يعتزلهم يستغن عن التحفظ لذلك . و قال بعض الحكماء لصاحبه أعلمك شعرا هو خير لك من عشرة آلاف درهم و هو [ 48 ] اخفض الصوت إن نطقت بليل و التفت بالنار قبل المقال ليس للقول رجعة حين يبدو بقبيح يكون أو بجمال و من خالط الناس لا ينفك من حاسد و طاعن و من جرب ذلك عرف . و من الكلام المأثور عن علي ع اخبر تقله قال الشاعر من حمد الناس و لم يبلهم ثم بلاهم ذم من يحمد و صار بالوحدة مستأنسا يوحشه الأقرب و الأبعد و قيل لسعد بن أبي وقاص أ لا تأتي المدينة قال ما بقي فيها إلا حاسد نعمة أو فرح بنقمة . و قال ابن السماك كتب إلينا صاحب لنا أما بعد فإن الناس كانوا دواء يتداوى به فصاروا داء لا دواء لهم ففر منهم فرارك من الأسد . و كان بعض الأعراب يلازم شجرة و يقول هذه نديمي و هو نديم فيه ثلاث خصال إن سمع لم ينم علي و إن تفلت في وجهه احتمل و إن عربدت عليه لم يغضب فسمع الرشيد هذا الخبر فقال قد زهدني سماعه في الندماء . و كان بعضهم يلازم الدفاتر و المقابر فقيل له في ذلك قال لم أر أسلم من الوحدة و لا أوعظ من قبر و لا أمتع من دفتر . و قال الحسن مرة إني أريد الحج فجاء إلي ثابت البناني و قال بلغني أنك تريد الحج فأحببت أن نصطحب فقال الحسن دعنا نتعاشر بستر الله إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه . و قال بعض الصالحين كان الناس ورقا لا شوك فيه فالناس اليوم شوك لا ورق فيه . و قال سفيان بن عيينة قال لي سفيان الثوري في اليقظة في حياته و في المنام بعد [ 49 ] وفاته أقلل معرفة الناس فإن التخلص منهم شديد و لا أحسبني رأيت ما أكره إلا ممن عرفت . و قال بعضهم جئت إلى مالك بن دينار و هو قاعد وحده و عنده كلب رابض قريبا منه فذهبت أطرده فقال دعه فإنه لا يضر و لا يؤذي و هو خير من الجليس السوء . و قال أبو الدرداء اتقوا الله و احذروا الناس فإنهم ما ركبوا ظهر بعير إلا أدبروه و لا ظهر جواد إلا عقروه و لا قلب مؤمن إلا أخربوه . و قال بعضهم أقلل المعارف فإنه أسلم لدينك و قلبك و أخف لظهرك و أدعى إلى سقوط الحقوق عنك لأنه كلما كثرت المعارف كثرت الحقوق و عسر القيام بالجميع . و قال بعضهم إذا أردت النجاة فأنكر من تعرف و لا تتعرف إلى من لا تعرف . و منها أن في العزلة بقاء الستر على المروءة و الخلق و الفقر و سائر العورات و قد مدح الله تعالى المستترين فقال يَحْسَبُهُمُ اَلْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ اَلتَّعَفُّفِ . و قال الشاعر و لا عار أن زالت عن الحر نعمة و لكن عارا أن يزول التجمل و ليس يخلو الإنسان في دينه و دنياه و أفعاله عن عورات يتقين و يجب سترها و لا تبقى السلامة مع انكشافها و لا سبيل إلى ذلك إلا بترك المخالطة . و منها أن ينقطع طمع الناس عنك و ينقطع طمعك عن الناس أما انقطاع طمع الناس عنك ففيه نفع عظيم فإن رضا الخلق غاية لا تدرك لأن أهون حقوق الناس [ 50 ] و أيسرها حضور الجنازة و عيادة المريض و حضور الولائم و الإملاكات و في ذلك تضييع الأوقات و التعرض للآفات ثم يعوق عن بعضها العوائق و تستثقل فيها المعاذير و لا يمكن إظهار كل الأعذار فيقول لك قائل إنك قمت بحق فلان و قصرت في حقي و يصير ذلك سبب عداوة فقد قيل إن من لم يعد مريضا في وقت العيادة يشتهي موته خيفة من تخجيله إياه إذا برأ من تقصيره فأما من يعم الناس كلهم بالحرمان فإنهم يرضون كلهم عنه و متى خصص وقع الاستيحاش و العتاب و تعميمهم بالقيام بجميع الحقوق مما لا قدرة عليه للمتجرد ليله و نهاره فكيف من له مهم يشغله ديني أو دنيوي . و من كلام بعضهم كثرة الأصدقاء زيادة الغرماء . و قال الشاعر عدوك من صديقك مستفاد فلا تستكثرن من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب و أما انقطاع طمعك عنهم ففيه أيضا فائدة جزيلة فإن من نظر إلى زهرة الدنيا و زخرفها تحرك حرصه و انبعث بقوة الحرص طمعه و أكثر الأطماع يتعقبها الخيبة فيتأذى الإنسان بذلك و إذا اعتزل لم يشاهد و إذا لم يشاهد لم يشته و لم يطمع و لذلك قال الله تعالى لنبيه ص وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و قال ع انظروا إلى من دونكم و لا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم . [ 51 ] و قال عون بن عبد الله كنت أجالس الأغنياء فلا أزال مغموما أرى ثوبا أحسن من ثوبي و دابة أفره من دابتي فجالست الفقراء فاسترحت . و خرج المزني صاحب الشافعي من باب جامع الفسطاط بمصر و كان فقيرا مقلا فصادف ابن عبد الحكم قد أقبل في موكبه فبهره ما رأى من حاله و حسن هيأته فتلا قوله تعالى وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ ثم قال نعم أصبر و أرضى . فالمعتزل عن الناس في بيته لا يبتلى بمثل هذه الفتن فإن من شاهد زينة الدنيا إما أن يقوى دينه و يقينه فيصبر فيحتاج إلى أن يتجرع مرارة الصبر و هو أمر من الصبر أو تنبعث رغبته فيحتال في طلب الدنيا فيهلك دنيا و آخرة أما في الدنيا فبالطمع الذي في أكثر الأوقات يتضمن الذل المعجل و أما في الآخرة فلإيثاره متاع الدنيا على ذكر الله و التقرب إليه و لذلك قال الشاعر إذا كان باب الذل من جانب الغنى سموت إلى العلياء من جانب الفقر أشار إلى أن الطمع يوجب في الحال ذلا . و منها الخلاص من مشاهدة الثقلاء و الحمقى و معاناة أخلاقهم فإن رؤية الثقيل هي العمى الأصغر قيل للأعمش بم عمشت عيناك قال بالنظر إلى الثقلاء . و دخل على أبي حنيفة رحمه الله فقال له روينا في الخبر أن من سلب كريمتيه عوضه الله ما هو خير منهما فما الذي عوضك قال كفاني رؤية ثقيل مثلك يمازحه . و قال الشافعي رحمه الله ما جالست ثقيلا إلا وجدت الجانب الذي يليه من بدني كأنه أثقل علي من الجانب الآخر . و هذه المقاصد و إن كان بعضها دنيويا إلا أنها تضرب في الدين بنصيب و ذلك لأن [ 52 ] من تأذى برؤية ثقيل لم يلبث أن يغتابه و يثلبه و ذلك فساد في الدين و في العزلة السلامة عن جميع ذلك . و اعلم أن كلام أمير المؤمنين ع تختلف مناهجه فقد رجح العزلة في هذا الفصل على المخالطة و نهى عن العزلة في موضع آخر سيأتي ذكره في الفصل الذي أوله أنه دخل على العلاء بن زياد الحارثي عائدا و يجب أن يحمل ذلك على أن من الناس من العزلة خير له من المخالطة و منهم من هو بالضد من ذلك و قد قال الشافعي قريبا من ذلك قال ليونس بن عبد الأعلى صاحبه يا يونس الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة و الانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء فكن بين المنقبض و المنبسط . فإذا أردت العزلة فينبغي للمعتزل أن ينوي بعزلته كف شره عن الناس أولا ثم طلب السلامة من شر الأشرار ثانيا ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين ثالثا ثم التجرد بكنه الهمة بعبادة الله تعالى رابعا فهذه آداب نيته ثم ليكن في خلوته مواظبا على العلم و العمل و الذكر و الفكر ليجتني ثمرة العزلة و يجب أن يمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه و زيارته فيتشوش وقته و أن يكف نفسه عن السؤال عن أخبارهم و أحوالهم و عن الإصغاء إلى أراجيف الناس و ما الناس مشغولون به فإن كل ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث على الخاطر و البال وقت الصلاة و وقت الحاجة إلى إحضار القلب فإن وقوع الأخبار في السمع كوقوع البذر في الأرض لا بد أن ينبت و تتفرع عروقه و أغصانه و إحدى مهمات المعتزل قطع الوساوس الصارفة عن ذكر الله و لا ريب أن الأخبار ينابيع الوساوس و أصولها . و يجب أن يقنع باليسير من المعيشة و إلا اضطره التوسع إلى الناس و احتاج إلى مخالطتهم . [ 53 ] و ليكن صبورا على ما يلقاه من أذى الجيران إذ يسد سمعه عن الإصغاء إلى ما يقول فيه من أثنى عليه بالعزلة و قدح فيه بترك المخالطة فإن ذلك لا بد أن يؤثر في القلب و لو مدة يسيرة و حال اشتغال القلب به لا بد أن يكون واقفا عن سيره في طريق الآخرة فإن السير فيها إما يكون بالمواظبة على ورد أو ذكر مع حضور قلب و إما بالفكر في جلال الله و صفاته و أفعاله و ملكوت سماواته و إما بالتأمل في دقائق الأعمال و مفسدات القلب و طلب طرق التخلص منها و كل ذلك يستدعي الفراغ و لا ريب أن الإصغاء إلى ما ذكرناه يشوش القلب . و يجب أن يكون للمعتزل أهل صالح أو جليس صالح لتستريح نفسه إليه ساعة عن كد المواظبة ففي ذلك عون له على بقية الساعات و ليس يتم للإنسان الصبر على العزلة إلا بقطع الطمع عن الدنيا و ما الناس منهمكون فيه و لا ينقطع طمعه إلا بقصر الأمل و ألا يقدر لنفسه عمرا طويلا بل يصبح على أنه لا يمسي و يمسي على أنه لا يصبح فيسهل عليه صبر يوم و لا يسهل عليه العزم على صبر عشرين سنة لو قدر تراخي أجله و ليكن كثير الذكر للموت و وحدة القبر مهما ضاق قلبه من الوحدة و ليتحقق أن من لم يحصل في قلبه من ذكر الله و معرفته ما يأنس به فإنه لا يطيق وحشة الوحدة بعد الموت و أن من أنس بذكر الله و معرفته فإن الموت لا يزيل أنسه لأن الموت ليس يهدم محل الأنس و المعرفة بل يبقى حيا بمعرفته و أنسه فرحا بفضل الله عليه قال سبحانه وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اَللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ . و كل من يجرد نفسه في ذات الله فهو شهيد مهما أدركه الموت فالمجاهد من [ 54 ] جاهد نفسه و هواه كما صرح به ع و قال لأصحابه رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر فالجهاد الأصغر محاربة المشركين و الجهاد الأكبر جهاد النفس . و هذا الفصل في العزلة نقلناه على طوله من كلام أبي حامد الغزالي في إحياء علوم الدين و هذبنا منه ما اقتضت الحال تهذيبه