جستجو

و من خطبة له ع يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم و فيها ذكر الحج و تحتوي على حمد الله و خلق العالم و خلق الملائكة و اختيار الأنبياء و مبعث النبي و القرآن و الأحكام الشرعية

متن ترجمه آیتی ترجمه شهیدی ترجمه معادیخواه تفسیر منهاج البرائه خویی تفسیر ابن ابی الحدید تفسیر ابن میثم

1 : فمن خطبة له ع يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لاَ يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ اَلْقَائِلُونَ وَ لاَ يُحْصِي نَعْمَاءَهُ اَلْعَادُّونَ وَ لاَ يُؤَدِّي حَقَّهُ اَلْمُجْتَهِدُونَ [ اَلْجَاهِدُونَ ] اَلَّذِي لاَ يُدْرِكُهُ بُعْدُ اَلْهِمَمِ وَ لاَ يَنَالُهُ غَوْصُ اَلْفِطَنِ اَلَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَ لاَ نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لاَ وَقْتٌ مَعْدُودٌ وَ لاَ أَجْلٌ مَمْدُودٌ فَطَرَ اَلْخَلاَئِقَ بِقُدْرَتِهِ وَ نَشَرَ اَلرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ [ 58 ] الذي عليه أكثر الأدباء و المتكلمين أن الحمد و المدح أخوان لا فرق بينهما تقول حمدت زيدا على إنعامه و مدحته على إنعامه و حمدته على شجاعته و مدحته على شجاعته فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الإنسان و فيما ليس من فعله كما ذكرناه من المثالين فأما الشكر فأخص من المدح لأنه لا يكون إلا على النعمة خاصة و لا يكون إلا صادرا من منعم عليه فلا يجوز عندهم أن يقال شكر زيد عمرا لنعمة أنعمها عمرو على إنسان غير زيد . إن قيل الاستعمال خلاف ذلك لأنهم يقولون حضرنا عند فلان فوجدناه يشكر الأمير على معروفه عند زيد قيل ذلك إنما يصح إذا كان إنعام الأمير على زيد أوجب سرور فلان فيكون شكر إنعام الأمير على زيد شكرا على السرور الداخل على قلبه بالإنعام على زيد و تكون لفظة زيد التي استعيرت ظاهرا لاستناد الشكر إلى مسماها كناية لا حقيقة و يكون ذلك الشكر شكرا باعتبار السرور المذكور و مدحا باعتبار آخر و هو المناداة على ذلك الجميل و الثناء الواقع بجنسه . ثم إن هؤلاء المتكلمين الذين حكينا قولهم يزعمون أن الحمد و المدح و الشكر لا يكون إلا باللسان مع انطواء القلب على الثناء و التعظيم فإن استعمل شي‏ء من ذلك في الأفعال بالجوارح كان مجازا و بقي البحث عن اشتراطهم مطابقة القلب للسان فإن الاستعمال لا يساعدهم لأن أهل الاصطلاح يقولون لمن مدح غيره أو شكره رياء و سمعة إنه قد مدحه و شكره و إن كان منافقا عندهم و نظير هذا الموضع الإيمان فإن أكثر المتكلمين لا يطلقونه على مجرد النطق اللساني بل يشترطون فيه الاعتقاد القلبي فأما [ 59 ] أن يقصروا به عليه كما هو مذهب الأشعرية و الإمامية أو تؤخذ معه أمور أخرى و هي فعل الواجب و تجنب القبيح كما هو مذهب المعتزلة و لا يخالف جمهور المتكلمين في هذه المسألة إلا الكرامية فإن المنافق عندهم يسمى مؤمنا و نظروا إلى مجرد الظاهر فجعلوا النطق اللساني وحده إيمانا . و المدحة هيئة المدح كالركبة هيئة الركوب و الجلسة هيئة الجلوس و المعنى مطروق جدا و منه في الكتاب العزيز كثير كقوله تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لا تُحْصُوها و في الأثر النبوي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك و قال الكتاب من ذلك ما يطول ذكره فمن جيد ذلك قول بعضهم الحمد لله على نعمه التي منها إقدارنا على الاجتهاد في حمدها و إن عجزنا عن إحصائها و عدها و قالت الخنساء بنت عمرو بن الشريد فما بلغت كف امرئ متناول بها المجد إلا و الذي نلت أطول [ 60 ] و لا حبر المثنون في القول مدحة و إن أطنبوا إلا و ما فيك أفضل و من مستحسن ما وقفت عليه من تعظيم البارئ عز جلاله بلفظ الحمد قول بعض الفضلاء في خطبة أرجوزة علمية الحمد لله بقدر الله لا قدر وسع العبد ذي التناهي و الحمد لله الذي برهانه أن ليس شأن ليس فيه شانه و الحمد لله الذي من ينكره فإنما ينكر من يصوره و أما قوله الذي لا يدركه فيريد أن همم النظار و أصحاب الفكر و إن علت و بعدت فإنها لا تدركه تعالى و لا تحيط به و هذا حق لأن كل متصور فلا بد أن يكون محسوسا أو متخيلا أو موجودا من فطرة النفس و الاستقراء يشهد بذلك مثال المحسوس السواد و الحموضة مثال المتخيل إنسان يطير أو بحر من دم مثال الموجود من فطرة النفس تصور الألم و اللذة و لما كان البارئ سبحانه خارجا عن هذا أجمع لم يكن متصورا . فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود فإنه يعني بصفته هاهنا كنهه و حقيقته يقول ليس لكنهه حد فيعرف بذلك الحد قياسا على الأشياء المحدودة لأنه ليس بمركب و كل محدود مركب . ثم قال و لا نعت موجود أي و لا يدرك بالرسم كما تدرك الأشياء برسومها و هو أن تعرف بلازم من لوازمها و صفة من صفاتها ثم قال و لا وقت معدود و لا أجل ممدود فيه إشارة إلى الرد على من قال إنا [ 61 ] نعلم كنه البارئ سبحانه لا في هذه الدنيا بل في الآخرة فإن القائلين برؤيته في الآخرة يقولون إنا نعرف حينئذ كنهه فهو ع رد قولهم و قال إنه لا وقت أبدا على الإطلاق تعرف فيه حقيقته و كنهه لا الآن و لا بعد الآن و هو الحق لأنا لو رأيناه في الآخرة و عرفنا كنهه لتشخص تشخصا يمنع من حمله على كثيرين و لا يتصور أن يتشخص هذا التشخص إلا ما يشار إلى جهته و لا جهة له سبحانه و قد شرحت هذا الموضع في كتابي المعروف بزيادات النقضين و بينت أن الرؤية المنزهة عن الكيفية التي يزعمها أصحاب الأشعري لا بد فيها من إثبات الجهة و أنها لا تجري مجرى العلم لأن العلم لا يشخص المعلوم و الرؤية تشخص المرئي و التشخيص لا يمكن إلا مع كون المتشخص ذا جهة . و اعلم أن نفي الإحاطة مذكور في الكتاب العزيز في مواضع منها قوله تعالى وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً و منها قوله يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ اَلْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ و قال بعض الصحابة العجز عن درك الإدارك إدراك و قد غلا محمد بن هانئ فقال في ممدوحه المعز أبي تميم معد بن المنصور العلوي أتبعته فكري حتى إذا بلغت غاياتها بين تصويب و تصعيد رأيت موضع برهان يلوح و ما رأيت موضع تكييف و تحديد و هذا مدح يليق بالخالق تعالى و لا يليق بالمخلوق . فأما قوله فطر الخلائق إلى آخر الفصل فهو تقسيم مشتق من الكتاب العزيز فقوله فطر الخلائق بقدرته من قوله تعالى قالَ رَبُّ اَلسَّماواتِ [ 62 ] وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا و قوله و نشر الرياح برحمته من قوله يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته . و قوله و وتد بالصخور ميدان أرضه من قوله وَ اَلْجِبالَ أَوْتاداً و الميدان التحرك و التموج . فأما القطب الراوندي رحمه الله فإنه قال إنه ع أخبر عن نفسه بأول هذا الفصل أنه يحمد الله و ذلك من ظاهر كلامه ثم أمر غيره من فحوى كلامه أن يحمد الله و أخبر ع أنه ثابت على ذلك مدة حياته و أنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا و لو قال أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك ثم قال و الحمد أعم من الشكر و الله أخص من الإله قال فأما قوله الذي لا يبلغ مدحته القائلون فإنه أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده و المعنى أن الحمد كل الحمد ثابت للمعبود الذي حقت العبادة له في الأزل و استحقها حين خلق الخلق و أنعم بأصول النعم التي يستحق بها العبادة . و لقائل أن يقول إنه ليس في فحوى كلامه أنه أمر غيره أن يحمد الله و ليس يفهم من قول بعض رعية الملك لغيره منهم العظمة و الجلال لهذا الملك أنه قد أمرهم بتعظيمه و إجلاله و لا أيضا في الكلام ما يدل على أنه ثابت على ذلك مدة حياته و أنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا . و لا أعلم كيف قد وقع ذلك للراوندي فإن زعم أن العقل يقتضي ذلك فحق و لكن [ 63 ] ليس مستفادا من الكلام و هو أنه قال إن ذلك موجود في الكلام . فأما قوله لو كان قال أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك فإنه لا فرق في انتفاء دلالة أحمد الله على ذلك و دلالة الحمد لله و هما سواء في أنهما لا يدلان على شي‏ء من أحوال غير القائل فضلا عن دلالتهما على ثبوت ذلك و دوامه في حق غير القائل . و أما قوله الله أخص من الإله فإن أراد في أصل اللغة فلا فرق بل الله هو الإله و فخم بعد حذف الهمزة هذا قول كافة البصريين و إن أراد أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون على الأصنام لفظة الإلهة و لا يسمونها الله فحق و ذلك عائد إلى عرفهم و اصطلاحهم لا إلى أصل اللغة و الاشتقاق أ لا ترى أن الدابة في العرف لا تطلق على القملة و إن كانت في أصل اللغة دابة . فأما قوله قد أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده فكلام يقتضي أن المدح غير الحمد و نحن لا نعرف فرقا بينهما و أيضا فإن الكلام لا يقتضي العجز عن القيام بالواجب لا من الممادح و لا من المحامد و لا فيه تعرض لذكر الوجوب و إنما نفى أن يبلغ القائلون مدحته لم يقل غير ذلك . و أما قوله الذي حقت العبادة له في الأزل و استحقها حين خلق الخلق و أنعم بأصول النعم فكلام ظاهره متناقض لأنه إذا كان إنما استحقها حين خلق الخلق فكيف يقال إنه استحقها في الأزل و هل يكون في الأزل مخلوق ليستحق عليه العبادة . و اعلم أن المتكلمين لا يطلقون على البارئ سبحانه أنه معبود في الأزل أو مستحق للعبادة في الأزل إلا بالقوة لا بالفعل لأنه ليس في الأزل مكلف يعبده تعالى و لا أنعم على أحد في الأزل بنعمة يستحق بها العبادة حتى أنهم قالوا في الأثر الوارد يا قديم [ 64 ] الإحسان إن معناه أن إحسانه متقادم العهد لا أنه قديم حقيقة كما جاء في الكتاب العزيز حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ أي الذي قد توالت عليه الأزمنة المتطاولة . ثم قال الراوندي و الحمد و المدح يكونان بالقول و بالفعل و الألف و اللام في القائلون لتعريف الجنس كمثلهما في الحمد و البلوغ المشارفة يقال بلغت المكان إذا أشرفت عليه و إذا لم تشرف على حمده تعالى بالقول فكيف توصل إليه بالفعل و الإله مصدر بمعنى المألوه . و لقائل أن يقول الذي سمعناه أن التعظيم يكون بالقول و الفعل و بترك القول و الفعل قالوا فمن قال لغيره يا عالم فقد عظمه و من قام لغيره فقد عظمه و من ترك مد رجله بحضرة غيره فقد عظمه و من كف غرب لسانه عن غيره فقد عظمه و كذلك الاستخفاف و الإهانة تكون بالقول و الفعل و بتركهما حسب ما قدمنا ذكره في التعظيم . فأما الحمد و المدح فلا وجه لكونهما بالفعل و أما قوله إن اللام في القائلون لتعريف الجنس كما أنها في الحمد كذلك فعجيب لأنها للاستغراق في القائلون لا شبهة في ذلك كالمؤمنين و المشركين و لا يتم المعنى إلا به لأنه للمبالغة بل الحق المحض أنه لا يبلغ مدحته كل القائلين بأسرهم و جعل اللام للجنس ينقص عن هذا المعنى إن أراد بالجنس المعهود و إن أراد الجنسية العامة فلا نزاع بيننا و بينه إلا أن قوله كما أنها في الحمد كذلك يمنع من أن يحمل كلامه على المحمل الصحيح لأنها ليست في الحمد للاستغراق يبين ذلك أنها لو كانت للاستغراق لما جاز أن يحمد رسول الله ص و لا غيره من الناس و هذا باطل . [ 65 ] و أيضا فإنها لفظ واحد مفرد معرف بلام الجنس و الأصل في مثل ذلك أن يفيد الجنسية المطلقة و لا يفيد الاستغراق فإن جاء منه شي‏ء للاستغراق كقوله إِنَّ اَلْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ و أهلك الناس الدرهم و الدينار فمجاز و الحقيقة ما ذكرناه فأما قوله البلوغ المشارفة يقال بلغت المكان إذا أشرفت عليه فالأجود أن يقول قالوا بلغت المكان إذا شارفته و بين قولنا شارفته و أشرفت عليه فرق . و أما قوله و إذا لم يشرف على حمده بالقول فكيف يوصل إليه بالفعل فكلام مبني على أن الحمد قد يكون بالفعل و هو خلاف ما يقوله أرباب هذه الصناعة . و قوله و الإله مصدر بمعنى المألوه كلام طريف أما أولا فإنه ليس بمصدر بل هو اسم كوجار للضبع و سرار للشهر و هو اسم جنس كالرجل و الفرس يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا و السنة اسم لكل عام ثم غلب على عام القحط و أظنه رحمه الله لما رآه فعالا ظن أنه اسم مصدر كالحصاد و الجذاذ و غيرهما و أما ثانيا فلأن المألوه صيغة مفعول و ليست صيغة مصدر إلا في ألفاظ نادرة كقولهم ليس له معقول و لا مجلود و لم يسمع مألوه في اللغة لأنه قد جاء أله الرجل إذا دهش و تحير و هو فعل لازم لا يبنى منه مفعول . ثم قال الراوندي و في قول الله تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لا تُحْصُوها بلفظ الإفراد و قول أمير المؤمنين ع لا يحصي نعماءه العادون بلفظ الجمع سر عجيب لأنه تعالى أراد أن نعمة واحدة من نعمه لا يمكن العباد عد وجوه كونها نعمة و أراد أمير المؤمنين ع أن أصول نعمه لا تحصى لكثرتها فكيف تعد [ 66 ] وجوه فروع نعمائه و كذلك في كون الآية واردة بلفظة إن الشرطية و كلام أمير المؤمنين ع على صيغة الخبر تحته لطيفة عجيبة لأنه سبحانه يريد أنكم إن أردتم أن تعدوا نعمه لم تقدروا على حصرها و علي ع أخبر أنه قد أنعم النظر فعلم أن أحدا لا يمكنه حصر نعمه تعالى . و لقائل أن يقول الصحيح أن المفهوم من قوله وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ الجنس كما يقول القائل أنا لا أجحد إحسانك إلى و امتنانك علي و لا يقصد بذلك إحسانا واحدا بل جنس الإحسان . و ما ذكره من الفرق بين كلام البارئ و كلام أمير المؤمنين ع غير بين فإنه لو قال تعالى و إن تعدوا نعم الله و قال ع و لا يحصي نعمته العادون لكان كل واحد منهما سادا مسد الآخر . أما اللطيفة الثانية فغير ظاهرة أيضا و لا مليحة لأنه لو انعكس الأمر فكان القرآن بصيغة الخبر و كلام علي ع بصيغة الشرط لكان مناسبا أيضا حسب مناسبته و الحال بعكس ذلك اللهم إلا أن تكون قرينة السجعة من كلام علي ع تنبو عن لفظة الشرط و إلا فمتى حذفت القرينة السجعية عن وهمك لم تجد فرقا و نحن نعوذ بالله من التعسف و التعجرف الداعي إلى ارتكاب هذه الدعاوي المنكرة . ثم قال الراوندي إنه لو قال أمير المؤمنين ع الذي لا يعد نعمه الحاسبون لم تحصل المبالغة التي أرادها بعبارته لأن اشتقاق الحساب من الحسبان و هو الظن قال و أما اشتقاق العدد فمن العد و هو الماء الذي له مادة و الإحصاء الإطاقة أحصيته أي أطقته فتقدير الكلام لا يطيق عد نعمائه العادون و معنى ذلك [ 67 ] أن مدائحه تعالى لا يشرف على ذكرها الأنبياء و المرسلون لأنها أكثر من أن تعدها الملائكة المقربون و الكرام الكاتبون . و لقائل أن يقول أما الحساب فليس مشتقا من الحسبان بمعنى الظن كما توهمه بل هو أصل برأسه أ لا ترى أن أحدهما حسبت أحسب و الآخر حسبت أحسب و أحسب بالفتح و الضم و هو من الألفاظ الأربعة التي جاءت شاذة و أيضا فإن حسبت بمعنى ظننت يتعدى إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما و حسبت من العدد يتعدى إلى مفعول واحد ثم يقال له و هب أن الحاسبين لو قالها مشتقة من الظن لم تحصل المبالغة بل المبالغة كادت تكون أكثر لأن النعم التي لا يحصرها الظان بظنونه أكثر من النعم التي لا يعدها العالم بعلومه و أما قوله العدد مشتق من العد و هو الماء الذي له مادة فليس كذلك بل هما أصلان و أيضا لو كان أحدهما مشتقا من الآخر لوجب أن يكون العد مشتقا من العدد لأن المصادر هي الأصول التي يقع الاشتقاق منها سواء أ كان المشتق فعلا أو اسما أ لا تراهم قالوا في كتب الاشتقاق أن الضرب الرجل الخفيف مشتق من الضرب أي السير في الأرض للابتغاء قال الله تعالى لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي اَلْأَرْضِ فجعل الاسم منقولا و مشتقا من المصدر . و أما الإحصاء فهو الحصر و العد و ليس هو الإطاقة كما ذكر لا يقال أحصيت الحجر أي أطقت حمله . و أما ما قال إنه معنى الكلمة فطريف لأنه ع لم يذكر الأنبياء و لا [ 68 ] الملائكة لا مطابقة و لا تضمنا و لا التزاما و أي حاجة إلى هذا التقدير الطريف الذي لا يشعر الكلام به و مراده ع و هو أن نعمه جلت لكثرتها أن يحصيها عاد ما هو نفي لمطلق العادين من غير تعرض لعاد مخصوص . قال الراوندي فأما قوله لا يدركه بعد الهمم فالإدراك هو الرؤية و النيل و الإصابة و معنى الكلام الحمد لله الذي ليس بجسم و لا عرض إذ لو كان أحدهما لرآه الراءون إذا أصابوه و إنما خص بعد الهمم بإسناد نفي الإدراك و غوص الفطن بإسناد نفي النيل لغرض صحيح و ذلك أن الثنوية يقولون بقدم النور و الظلمة و يثبتون النور جهة العلو و الظلمة جهة السفل و يقولون إن العالم ممتزج منهما فرد ع عليهم بما معناه أن النور و الظلمة جسمان و الأجسام محدثة و البارئ تعالى قديم . و لقائل أن يقول إنه لم يجر للرؤية ذكر في الكلام لأنه ع لم يقل الذي لا تدركه العيون و لا الحواس و إنما قال لا يدركه بعد الهمم و هذا يدل على أنه إنما أراد أن العقول لا تحيط بكنهه و حقيقته . و أيضا فلو سلمنا أنه إنما نفى الرؤية لكان لمحاج أن يحاجه فيقول له هب أن الأمر كما تزعم أ لست تريد بيان الأمر الذي لأجله خصص بعد الهمم بنفي الإدراك و خصص غوص الفطن بنفي النيل و قلت إنما قسم هذا التقسيم لغرض صحيح و ما رأيناك أوضحت هذا الغرض و إنما حكيت مذهب الثنوية و ليس يدل مذهبهم على وجوب تخصيص بعد الهمم بنفي الإدراك دون نفي النيل و لا يوجب تخصيص غوص الفطن [ 69 ] بنفي النيل دون نفي الإدراك و أكثر ما في حكاية مذهبهم أنهم يزعمون أن إلهي العالم النور و الظلمة و هما جسمان و أمير المؤمنين ع يقول لو كان صانع العالم جسما لرئي و حيث لم ير لم يكن جسما أي شي‏ء في هذا مما يدل على وجوب ذلك التقسيم و التخصيص الذي زعمت أنه إنما خصصه و قسمه لغرض صحيح . ثم قال الراوندي و يجوز أن يقال البعد و الغوص مصدران هاهنا بمعنى الفاعل كقولهم فلأن عدل أي عادل و قوله تعالى إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا فيكون المعنى لا يدركه العالم البعيد الهمم فكيف الجاهل و يكون المقصد بذلك الرد على من قال إن محمدا ص رأى ربه ليلة الإسراء و إن يونس ع رأى ربه ليلة هبوطه إلى قعر البحر . و لقائل أن يقول أن المصدر الذي جاء بمعنى الفاعل ألفاظ معدودة لا يجوز القياس عليها و لو جاز لما كان المصدر هاهنا بمعنى الفاعل لأنه مصدر مضاف و المصدر المضاف لا يكون بمعنى الفاعل و لو جاز أن يكون المصدر المضاف بمعنى الفاعل لم يجز أن يحمل كلامه ع على الرد على من أثبت أن البارئ سبحانه مرئي لأنه ليس في الكلام نفي الرؤية أصلا و إنما غرض الكلام نفي معقوليته سبحانه و أن الأفكار و الأنظار لا تحيط بكنهه و لا تتعقل خصوصية ذاته جلت عظمته . ثم قال الراوندي فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود و لا نعت موجود و لا وقت معدود و لا أجل ممدود فالوقت تحرك الفلك و دورانه على وجه و الأجل [ 70 ] مدة الشي‏ء و معنى الكلام أن شكري لله تعالى متجدد عند تجدد كل ساعة و لهذا أبدل هذه الجملة من الجملة التي قبلها و هي الثانية كما أبدل الثانية من الأولى . و لقائل أن يقول الوقت عند أهل النظر مقدار حركة الفلك لا نفس حركته و الأجل ليس مطلق الوقت أ لا تراهم يقولون جئتك وقت العصر و لا يقولون أجل العصر و الأجل عندهم هو الوقت الذي يعلم الله تعالى أن حياة الحيوان تبطل فيه مأخوذ من أجل الدين و هو الوقت الذي يحل قضاؤه فيه . فأما قوله و معنى الكلام أن شكري متجدد لله تعالى في كل وقت ففاسد و لا ذكر في هذه الألفاظ للشكر و لا أعلم من أين خطر هذا للراوندي و ظنه أن هذه الجمل من باب البدل غلط لأنها صفات كل واحدة منها صفة بعد أخرى كما تقول مررت بزيد العالم الظريف الشاعر . قال الراوندي فأما قوله الذي ليس لصفته حد فظاهره إثبات الصفة له سبحانه و أصحابنا لا يثبتون لله سبحانه صفة كما يثبتها الأشعرية لكنهم يجعلونه على حال أو يجعلونه متميزا بذاته فأمير المؤمنين ع بظاهر كلامه و إن أثبت له صفة إلا أن من له أنس بكلام العرب يعلم أنه ليس بإثبات على الحقيقة و قد سألني سائل فقال هاهنا كلمتان إحداهما كفر و الأخرى ليست بكفر و هما لله تعالى شريك غير بصير ليس شريك الله تعالى بصيرا فأيهما كلمة الكفر فقلت له القضية الثانية و هي ليس شريك الله تعالى بصيرا كفر لأنها تتضمن إثبات الشريك و أما الكلمة الأخرى فيكون معناها لله شريك غير بصير بهمزة الاستفهام المقدرة المحذوفة . [ 71 ] ثم أخذ في كلام طويل يبحث فيه عن الصفة و المعنى و يبطل مذهب الأشعرية بما يقوله المتكلمون من أصحابنا و أخذ في توحيد الصفة لم جاء و كيف يدل نفي الصفة الواحدة على نفي مطلق الصفات و انتقل من ذلك إلى الكلام في الصفة الخامسة التي أثبتها أبو هاشم ثم خرج إلى مذهب أبي الحسين و أطال جدا فيما لا حاجة إليه . و لقائل أن يقول الأمر أسهل مما تظن فإنا قد بينا أن مراده نفي الإحاطة بكنهه و أيضا يمكن أن يجعل الصفة هاهنا قول الواصف فيكون المعنى لا ينتهي الواصف إلى حد إلا و هو قاصر عن النعت لجلالته و عظمته جلت قدرته . فأما القضيتان اللتان سأله السائل عنهما فالصواب غير ما أجاب به فيهما و هو أن القضية الأولى كفر لأنها صريحة في إثبات الشريك و الثانية لا تقتضي ذلك لأنه قد ينفي قول الشريك بصيرا على أحد وجهين إما لأن هناك شريكا لكنه غير بصير أو لأن الشريك غير موجود و إذا لم يكن موجودا لم يكن بصيرا فإذا كان هذا الاعتبار الثاني مرادا لم يكن كفرا و صار كالأثر المنقول كان مجلس رسول الله ص لا تؤثر هفواته أي لم يكن فيه هفوات فتؤثر و تحكى و ليس أنه كان المراد في مجلسه هفوات إلا أنها لم تؤثر . قال الراوندي فإن قيل تركيب هذه الجملة يدل على أنه تعالى فطر الخليقة قبل خلق السموات و الأرض . [ 72 ] قلنا قد اختلف في ذلك فقيل أول ما يحسن منه تعالى خلقه ذاتا حية يخلق فيها شهوة لمدرك تدركه فتلتذ به و لهذا قيل تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان عبث و قبيح و قيل لا مانع من تقديم خلق الجماد إذا علم أن علم بعض المكلفين فيما بعد بخلقه قبله لطف له و لقائل أن يقول أما إلى حيث انتهى به الشرح فليس في الكلام تركيب يدل على أنه تعالى فطر خلقه قبل خلق السموات و الأرض و إنما قد يوهم تأمل كلامه ع فيما بعد شيئا من ذلك لما قال ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء على أنا إذا تأملنا لم نجد في كلامه ع ما يدل على تقديم خلق الحيوان لأنه قبل أن يذكر خلق السماء لم يذكر إلا أنه فطر الخلائق و تارة قال أنشأ الخلق و دل كلامه أيضا على أنه نشر الرياح و أنه خلق الأرض و هي مضطربة فأرساها بالجبال كل هذا يدل عليه كلامه و هو مقدم في كلامه على فتق الهواء و الفضاء و خلق السماء فأما تقديم خلق الحيوان أو تأخيره فلم يتعرض كلامه ع له فلا معنى لجواب الراوندي و ذكره ما يذكره المتكلمون من أنه هل يحسن تقديم خلق الجماد على الحيوان أم لا : أَوَّلُ اَلدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ اَلتَّصْدِيقُ بِهِ وَ كَمَالُ اَلتَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ اَلْإِخْلاَصُ لَهُ وَ كَمَالُ اَلْإِخْلاَصِ لَهُ نَفْيُ اَلصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ اَلْمَوْصُوفِ وَ شَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ اَلصِّفَةِ فَمَنْ وَصَفَ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ وَ مَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ وَ مَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ وَ مَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ [ 73 ] وَ مَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ وَ مَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ وَ مَنْ قَالَ عَلاَمَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ إنما قال ع أول الدين معرفته لأن التقليد باطل و أول الواجبات الدينية المعرفة و يمكن أن يقول قائل أ لستم تقولون في علم الكلام أول الواجبات النظر في طريق معرفة الله تعالى و تارة تقولون القصد إلى النظر فهل يمكن الجمع بين هذا و بين كلامه ع . و جوابه أن النظر و القصد إلى النظر إنما وجبا بالعرض لا بالذات لأنهما وصله إلى المعرفة و المعرفة هي المقصود بالوجوب و أمير المؤمنين ع أراد أول واجب مقصود بذاته من الدين معرفة البارئ سبحانه فلا تناقض بين كلامه و بين آراء المتكلمين . و أما قوله و كمال معرفته التصديق به فلأن معرفته قد تكون ناقصة و قد تكون غير ناقصة فالمعرفة الناقصة هي المعرفة بان للعالم صانعا غير العالم و ذلك باعتبار أن الممكن لا بد له من مؤثر فمن علم هذا فقط علم الله تعالى و لكن علما ناقصا و أما المعرفة التي ليست ناقصة فأن تعلم أن ذلك المؤثر خارج عن سلسلة الممكنات و الخارج عن كل الممكنات ليس بممكن و ما ليس بممكن فهو واجب الوجود فمن علم أن للعالم مؤثرا واجب الوجود فقد عرفه عرفانا أكمل من عرفان أن للعالم مؤثرا فقط و هذا الأمر الزائد هو المكني عنه بالتصديق به لأن أخص ما يمتاز به البارئ عن مخلوقاته هو وجوب الوجود . [ 74 ] و أما قوله ع و كمال التصديق به توحيده فلأن من علم أنه تعالى واجب الوجود مصدق بالبارئ سبحانه لكن ذلك التصديق قد يكون ناقصا و قد يكون غير ناقص فالتصديق الناقص أن يقتصر على أن يعلم أنه واجب الوجود فقط و التصديق الذي هو أكمل من ذلك و أتم هو العلم بتوحيده سبحانه باعتبار أن وجوب الوجود لا يمكن أن يكون لذاتين لأن فرض واجبي الوجود يفضي إلى عموم وجوب الوجود لهما و امتياز كل واحد منهما بأمر غير الوجوب المشترك و ذلك يفضي إلى تركيبهما و إخراجهما عن كونهما واجبي الوجود فمن علم البارئ سبحانه واحدا أي لا واجب الوجود إلا هو يكون أكمل تصديقا ممن لم يعلم ذلك و إنما اقتصر على أن صانع العالم واجب الوجود فقط . و أما قوله و كمال توحيده الإخلاص له فالمراد بالإخلاص له هاهنا هو نفي الجسمية و العرضية و لوازمهما عنه لأن الجسم مركب و كل مركب ممكن و واجب الوجود ليس بممكن و أيضا فكل عرض مفتقر و واجب الوجود غير مفتقر فواجب الوجود ليس بعرض و أيضا فكل جرم محدث و واجب الوجود ليس بمحدث فواجب الوجود ليس بجرم و لا عرض فلا يكون حاصلا في جهة فمن عرف وحدانية البارئ و لم يعرف هذه الأمور كان توحيده ناقصا و من عرف هذه الأمور بعد العلم بوحدانيته تعالى فهو المخلص في عرفانه جل اسمه و معرفته تكون أتم و أكمل . و أما قوله و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه فهو تصريح بالتوحيد الذي تذهب إليه المعتزلة و هو نفي المعاني القديمة التي تثبتها الأشعرية و غيرهم قال ع [ 75 ] لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف و شهادة كل موصوف أنه غير الصفة و هذا هو دليل المعتزلة بعينه قالوا لو كان عالما بمعنى قديم لكان ذلك المعنى إما هو أو غيره أو ليس هو و لا غيره و الأول باطل لأنا نعقل ذاته قبل أن نعقل أو نتصور له علما و المتصور مغاير لما ليس بمتصور و الثالث باطل أيضا لأن إثبات شيئين أحدهما ليس هو الآخر و لا غيره معلوم فساده ببديهة العقل فتعين القسم الثاني و هو محال أما أولا فبإجماع أهل الملة و أما ثانيا فلما سبق من أن وجوب الوجود لا يجوز أن يكون لشيئين فإذا عرفت هذا فاعرف أن الإخلاص له تعالى قد يكون ناقصا و قد لا يكون فالإخلاص الناقص هو العلم بوجوب وجوده و أنه واحد ليس بجسم و لا عرض و لا يصح عليه ما يصح على الأجسام و الأعراض و الإخلاص التام هو العلم بأنه لا تقوم به المعاني القديمة مضافا إلى تلك العلوم السابقة و حينئذ تتم المعرفة و تكمل . ثم أكد أمير المؤمنين ع هذه الإشارات الإلهية بقوله فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه و هذا حق لأن الموصوف يقارن الصفة و الصفة تقارنه . قال و من قرنه فقد ثناه و هذا حق لأنه قد أثبت قديمين و ذلك محض التثنية . قال و من ثناه فقد جزأه و هذا حق لأنه إذا أطلق لفظة الله تعالى على الذات و العلم القديم فقد جعل مسمى هذا اللفظ و فائدته متجزئة كإطلاق لفظ الأسود على الذات التي حلها سواد . قال و من جزأه فقد جهله و هذا حق لأن الجهل هو اعتقاد الشي‏ء على خلاف ما هو به . قال و من أشار إليه فقد حده و هذا حق لأن كل مشار إليه فهو محدود [ 76 ] لأن المشار إليه لا بد أن يكون في جهة مخصوصة و كل ما هو في جهة فله حد و حدود أي أقطار و أطراف . قال و من حده فقد عده أي جعله من الأشياء المحدثة و هذا حق لأن كل محدود معدود في الذوات المحدثة . قال و من قال فيم فقد ضمنه و هذا حق لأن من تصور أنه في شي‏ء فقد جعله إما جسما مستترا في مكان أو عرضا ساريا في محل و المكان متضمن للتمكن و المحل متضمن للعرض . قال و من قال علام فقد أخلى منه و هذا حق لأن من تصور أنه تعالى على العرش أو على الكرسي فقد أخلى منه غير ذلك الموضع و أصحاب تلك المقالة يمتنعون من ذلك و مراده ع إظهار تناقض أقوالهم و إلا فلو قالوا هب أنا قد أخلينا منه غير ذلك الموضع أي محذور يلزمنا فإذا قيل لهم لو خلا منه موضع دون موضع لكان جسما و لزم حدوثه قالوا لزوم الحدوث و الجسمية إنما هو من حصوله في الجهة لا من خلو بعض الجهات عنه و أنتم إنما احتججتم علينا بمجرد خلو بعض الجهات منه فظهر أن توجيه الكلام عليهم إنما هو إلزام لهم لا استدلال على فساد قولهم فأما القطب الراوندي فإنه قال في معنى قوله نفي الصفات عنه أي صفات المخلوقين قال لأنه تعالى عالم قادر و له بذلك صفات فكيف يجوز أن يقال لا صفة له . و أيضا فإنه ع قد أثبت لله تعالى صفة أولا حيث قال الذي ليس لصفته حد محدود فوجب أن يحمل كلامه على ما يتنزه عن المناقضة . [ 77 ] و أيضا فإنه قد قال فيما بعد في صفة الملائكة أنهم لا يصفون الله تعالى بصفات المصنوعين فوجب أن يحمل قوله الآن و كمال توحيده نفي الصفات عنه على صفات المخلوقين حملا للمطلق على المقيد . و لقائل أن يقول لو أراد نفي صفات المخلوقين عنه لم يستدل على ذلك بدليل الغيرية و هو قوله لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف لأن هذا الاستدلال لا ينطبق على دعوى أنه غير موصوف بصفات المخلوقين بل كان ينبغي أن يستدل بان صفات المخلوقين من لوازم الجسمية و العرضية و البارئ ليس بجسم و لا عرض و نحن قد بينا أن مراده ع إبطال القول بالمعاني القديمة و هي المسماة بالصفات في الاصطلاح القديم و لهذا يسمى أصحاب المعاني بالصفاتية فأما كونه قادرا و عالما فأصحابها أصحاب الأحوال و قد بينا أن مراده ع بقوله ليس لصفته حد محدود أي لكنهه و حقيقته و أما كون الملائكة لا تصف البارئ بصفات المصنوعين فلا يقتضي أن يحمل كل موضوع فيه ذكر الصفات على صفات المصنوعين لأجل تقييد ذلك في ذكر الملائكة و أين هذا من باب حمل المطلق على المقيد لا سيما و قد ثبت أن التعليل و الاستدلال يقضي ألا يكون المراد صفات المخلوقين . و قد تكلف الراوندي لتطبيق تعليله ع نفي الصفات عنه بقوله لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف بكلام عجيب و أنا أحكي ألفاظه لتعلم قال معنى هذا التعليل أن الفعل في الشاهد لا يشابه الفاعل و الفاعل غير الفعل لأن ما يوصف به الغير إنما هو الفعل أو معنى الفعل كالضارب و الفهم فإن الفهم و الضرب كلاهما فعل و الموصوف بهما فاعل و الدليل لا يختلف شاهدا و غائبا فإذا كان تعالى قديما و هذه الأجسام محدثة كانت معدومة ثم وجدت يدل على أنها غير الموصوف بأنه خالقها و مدبرها . [ 78 ] انقضى كلامه و حكايته تغني عن الرد عليه . ثم قال الأول على وزن أفعل يستوي فيه المذكر و المؤنث إذا لم يكن فيه الألف و اللام فإذا كانا فيه قيل للمؤنث الأولى . و هذا غير صحيح لأنه يقال كلمت فضلاهن و ليس فيه ألف و لام و كان ينبغي أن يقول إذا كان منكرا مصحوبا بمن استوى المذكر و المؤنث في لفظ أفعل تقول زيد أفضل من عمرو و هند أحسن من دعد : كَائِنٌ لاَ عَنْ حَدَثٍ مَوْجُودٌ لاَ عَنْ عَدَمٍ مَعَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ لاَ بِمُقَارَنَةٍ وَ غَيْرُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ لاَ بِمُزَايَلَةٍ فَاعِلٌ لاَ بِمَعْنَى اَلْحَرَكَاتِ وَ اَلآْلَةِ بَصِيرٌ إِذْ لاَ مَنْظُورَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ مُتَوَحِّدٌ إِذْ لاَ سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِهِ وَ لاَ يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ أَنْشَأَ اَلْخَلْقَ إِنْشَاءً وَ اِبْتَدَأَهُ اِبْتِدَاءً بِلاَ رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا وَ لاَ تَجْرِبَةٍ اِسْتَفَادَهَا وَ لاَ حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا وَ لاَ هَمَامَةِ نَفْسٍ اِضْطَرَبَ فِيهَا أَحَالَ اَلْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَ لاَءَمَ لَأَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا وَ غَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَ أَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا عَالِماً بِهَا قَبْلَ اِبْتِدَائِهَا مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَ اِنْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَ أَحْنَائِهَا [ أَجْنَائِهَا ] قوله ع كائن و إن كان في الاصطلاح العرفي مقولا على ما ينزه البارئ عنه فمراده به المفهوم اللغوي و هو اسم فاعل من كان بمعنى وجد كأنه قال موجود غير محدث . [ 79 ] فان قيل فقد قال بعده موجود لا عن عدم فلا يبقى بين الكلمتين فرق . قيل بينهما فرق و مراده بالموجود لا عن عدم هاهنا وجوب وجوده و نفي إمكانه لأن من أثبت قديما ممكنا فإنه و إن نفى حدوثه الزماني فلم ينف حدوثه الذاتي و أمير المؤمنين ع نفى عن البارئ تعالى في الكلمة الأولى الحدوث الزماني و نفى عنه في الكلمة الثاني الذاتي و قولنا في الممكن أنه موجود من عدم صحيح عند التأمل لا بمعنى أن عدمه سابق له زمانا بل سابق لوجوده ذاتا لأن الممكن يستحق من ذاته أنه لا يستحق الوجود من ذاته . و أما قوله مع كل شي‏ء لا بمقارنة فمراده بذلك أنه يعلم الجزئيات و الكليات كما قال سبحانه ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى‏ ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ . و أما قوله و غير كل شي‏ء لا بمزايلة فحق لأن الغيرين في الشاهد هما ما زايل أحدهما الآخر و باينه بمكان أو زمان و البارئ سبحانه يباين الموجودات مباينة منزهة عن المكان و الزمان فصدق عليه أنه غير كل شي‏ء لا بمزايلة . و أما قوله فاعل لا بمعنى الحركات و الآلة فحق لأن فعله اختراع و الحكماء يقولون إبداع و معنى الكلمتين واحد و هو أنه يفعل لا بالحركة و الآلة كما يفعل الواحد منا و لا يوجد شيئا من شي‏ء . و أما قوله بصير إذ لا منظور إليه من خلقه فهو حقيقة مذهب أبي هاشم رحمه الله و أصحابه لأنهم يطلقون عليه في الأزل أنه سميع بصير و ليس هناك مسموع و لا مبصر و معنى ذلك كونه بحال يصح منه إدراك المسموعات و المبصرات إذا وجدت [ 80 ] و ذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به و لا يطلقون عليه أنه سامع مبصر في الأزل لأن السامع المبصر هو المدرك بالفعل لا بالقوة . و أما قوله متوحد إذ لا سكن يستأنس به و يستوحش لفقده فإذ هاهنا ظرف و معنى الكلام أن العادة و العرف إطلاق متوحد على من قد كان له من يستأنس بقربه و يستوحش ببعده فانفرد عنه و البارئ سبحانه يطلق عليه أنه متوحد في الأزل و لا موجود سواه و إذا صدق سلب الموجودات كلها في الأزل صدق سلب ما يؤنس أو يوحش فتوحده سبحانه بخلاف توحد غيره . و أما قوله ع أنشأ الخلق إنشاء و ابتدأه ابتداء فكلمتان مترادفتان على طريقة الفصحاء و البلغاء كقوله سبحانه لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ و قوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً . و قوله بلا روية أجالها فالروية الفكرة و أجالها رددها و من رواه أحالها بالحاء أراد صرفها و قوله و لا تجربة استفادها أي لم يكن قد خلق من قبل أجساما فحصلت له التجربة التي أعانته على خلق هذه الأجسام . و قوله و لا حركة أحدثها فيه رد على الكرامية الذين يقولون إنه إذا أراد أن يخلق شيئا مباينا عنه أحدث في ذاته حادثا يسمى الأحداث فوقع ذلك الشي‏ء المباين عن ذلك المعنى المتجدد المسمى أحداثا . و قوله و لا همامة نفس اضطرب فيها فيه رد على المجوس و الثنوية القائلين بالهمامة و لهم فيها خبط طويل يذكره أصحاب المقالات و هذا يدل على صحة ما يقال إن أمير المؤمنين ع كان يعرف آراء المتقدمين و المتأخرين و يعلم العلوم كلها و ليس ذلك ببعيد من فضائله و مناقبه ع . [ 81 ] و أما قوله أحال الأشياء لأوقاتها فمن رواها أحل الأشياء لأوقاتها فمعناه جعل محل كل شي‏ء و وقته كمحل الدين و من رواها أحال فهو من قولك حال في متن فرسه أي وثب و أحاله غيره أي أوثبه على متن الفرس عداه بالهمزة و كأنه لما أقر الأشياء في أحيانها و أوقاتها صار كمن أحال غيره على فرسه . و قوله و لاءم بين مختلفاتها أي جعل المختلفات ملتئمات كما قرن النفس الروحانية بالجسد الترابي جلت عظمته و قوله و غرز غرائزها المروي بالتشديد و الغريزة الطبيعة و جمعها غرائز و قوله غرزها أي جعلها غرائز كما قيل سبحان من ضوأ الأضواء و يجوز أن يكون من غرزت الإبرة بمعنى غرست و قد رأيناه في بعض النسخ بالتخفيف . و قوله و ألزمها أشباحها الضمير المنصوب في ألزمها عائد إلى الغرائز أي ألزم الغرائز أشباحها أي أشخاصها جمع شبح و هذا حق لأن كلا مطبوع على غريزة لازمة فالشجاع لا يكون جبانا و البخيل لا يكون جوادا و كذلك كل الغرائز لازمة لا تنتقل . و قوله عالما بها قبل ابتدائها إشارة إلى أنه عالم بالأشياء فيما لم يزل و قوله محيطا بحدودها و انتهائها أي بأطرافها و نهاياتها . و قوله عارفا بقرائنها و أحنائها القرائن جمع قرونة و هي النفس و الأحناء الجوانب جمع حنو يقول إنه سبحانه عارف بنفوس هذه الغرائز التي ألزمها أشباحها عارف بجهاتها و سائر أحوالها المتعلقة بها و الصادرة عنها . [ 82 ] فأما القطب الراوندي فإنه قال معنى قوله ع كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم أنه لم يزل موجودا و لا يزال موجودا فهو باق أبدا كما كان موجودا أولا و هذا ليس بجيد لأن اللفظ لا يدل على ذلك و لا فيه تعرض بالبقاء فيما لا يزال . و قال أيضا قوله ع لا يستوحش كلام مستأنف و لقائل أن يقول كيف يكون كلاما مستأنفا و الهاء في فقده ترجع إلى السكن المذكور أولا . و قال أيضا يقال ما له في الأمر همة و لا همامة أي لا يهم به و الهمامة التردد كالعزم و لقائل أن يقول العزم هو إرادة جازمة حصلت بعد التردد فبطل قوله أن الهمامة هي نفس التردد كالعزم و أيضا فقد بينا مراده ع بالهمامة حكى زرقان في كتاب المقالات و أبو عيسى الوراق و الحسن بن موسى و ذكره شيخنا أبو القاسم البلخي في كتابه في المقالات أيضا عن الثنوية أن النور الأعظم اضطربت عزائمه و إرادته في غزو الظلمة و الإغارة عليها فخرجت من ذاته قطعة و هي الهمامة المضطربة في نفسه فخالطت الظلمة غازية لها فاقتطعتها الظلمة عن النور الأعظم و حالت بينها و بينه و خرجت همامة الظلمة غازية للنور الأعظم فاقتطعها النور الأعظم عن الظلمة و مزجها بأجزائه و امتزجت همامة النور بأجزاء الظلمة أيضا ثم ما زالت الهمامتان تتقاربان [ 83 ] و تتدانيان و هما ممتزجتان بأجزاء هذا و هذا حتى انبنى منهما هذا العالم المحسوس و لهم في الهمامة كلام مشهور و هي لفظة اصطلحوا عليها و اللغة العربية ما عرفنا فيها استعمال الهمامة بمعنى الهمة و الذي عرفناه الهمة بالكسر و الفتح و المهمة و تقول لا همام لي بهذا الأمر مبني على الكسر كقطام و لكنها لفظة اصطلاحية مشهورة عند أهلها : ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ اَلْأَجْوَاءِ وَ شَقَّ اَلْأَرْجَاءِ وَ سَكَائِكَ اَلْهَوَاءِ فَأَجْرَى [ أَجَازَ ] فِيهَا مَاءً مُتَلاَطِماً تَيَّارُهُ مُتَرَاكِماً زَخَّارُهُ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ اَلرِّيحِ اَلْعَاصِفَةِ وَ اَلزَّعْزَعِ اَلْقَاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ وَ سَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ وَ قَرَنَهَا إِلَى حَدِّهِ اَلْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ وَ اَلْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اِعْتَقَمَ مَهَبَّهَا وَ أَدَامَ مُرَبَّهَا وَ أَعْصَفَ مَجْرَاهَا وَ أَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ اَلْمَاءِ اَلزَّخَّارِ وَ إِثَارَةِ مَوْجِ اَلْبِحَارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ اَلسِّقَاءِ وَ عَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى إِلَى آخِرِهِ وَ سَاجِيَهُ [ سَاكِنَهُ ] عَلَى إِلَى مَائِرِهِ حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ وَ رَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ فَرَفَعَهُ فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وَ جَوٍّ مُنْفَهِقٍ فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ جَعَلَ سُفْلاَهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً وَ عُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ سَمْكاً مَرْفُوعاً بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا وَ لاَ دِسَارٍ يَنْتَظِمُهَا يَنْظِمُهَا ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ اَلْكَوَاكِبِ وَ ضِيَاءِ اَلثَّوَاقِبِ وَ أَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وَ قَمَراً مُنِيراً فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وَ سَقْفٍ سَائِرٍ وَ رَقِيمٍ مَائِرٍ [ 84 ] لسائل أن يسأل فيقول ظاهر هذا الكلام أنه سبحانه خلق الفضاء و السموات بعد خلق كل شي‏ء لأنه قد قال قبل فطر الخلائق و نشر الرياح و وتد الأرض بالجبال ثم عاد فقال أنشأ الخلق إنشاء و ابتدأه ابتداء و هو الآن يقول ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء و لفظة ثم للتراخي . فالجواب أن قوله ثم هو تعقيب و تراخ لا في مخلوقات البارئ سبحانه بل في كلامه ع كأنه يقول ثم أقول الآن بعد قولي المتقدم إنه تعالى أنشأ فتق الأجواء و يمكن أن يقال إن لفظة ثم هاهنا تعطي معنى الجمع المطلق كالواو و مثل ذلك قوله تعالى وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى‏ . و اعلم أن كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل يشتمل على مباحث منها أن ظاهر لفظه أن الفضاء الذي هو الفراغ الذي يحصل فيه الأجسام خلقه الله تعالى و لم يكن من قبل و هذا يقتضي كون الفضاء شيئا لأن المخلوق لا يكون عدما محضا و ليس ذلك ببعيد فقد ذهب إليه قوم من أهل النظر و جعلوه جسما لطيفا خارجا عن مشابهة هذه الأجسام و منهم من جعله مجردا . فإن قيل هذا الكلام يشعر بأن خلق الأجسام في العدم المحض قبل خلق الفضاء ليس بممكن و هذا ينافي العقل . قيل بل هذا هو محض مذهب الحكماء فإنهم يقولون إنه لا يمكن وجود جسم [ 85 ] و لا حركة جسم خارج الفلك الأقصى و ليس ذلك إلا لاستحالة وجود الأجسام و حركتها إلا في الفضاء . و منها أن البارئ سبحانه خلق في الفضاء الذي أوجده ماء جعله على متن الريح فاستقل عليها و ثبت و صارت مكانا له ثم خلق فوق ذلك الماء ريحا أخرى سلطها عليه فموجته تمويجا شديدا حتى ارتفع فخلق منه السموات و هذا أيضا قد قاله قوم من الحكماء و من جملتهم تاليس الإسكندراني و زعم أن الماء أصل كل العناصر لأنه إذا انجمد صار أرضا و إذا لطف صار هواء و الهواء يستحيل نارا لأن النار صفوة الهواء . و يقال إن في التوراة في أول السفر الأول كلاما يناسب هذا و هو أن الله تعالى خلق جوهرا فنظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء ثم ارتفع من ذلك الماء بخار كالدخان فخلق منه السموات و ظهر على وجه ذلك الماء زبد فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال . و منها أن السماء الدنيا موج مكفوف بخلاف السموات الفوقانية و هذا أيضا قول قد ذهب إليه قوم و استدلوا عليه بما نشاهده من حركة الكواكب المتحيرة و ارتعادها في مرأى العين و اضطرابها قالوا لأن المتحيرة متحركة في أفلاكها و نحن نشاهدها بالحس البصري و بيننا و بينها أجرام الأفلاك الشفافة و نشاهدها مرتعدة حسب ارتعاد الجسم السائر في الماء و ما ذاك إلا لأن السماء الدنيا ماء متموج فارتعاد الكواكب [ 86 ] المشاهدة حسا إنما هو بحسب ارتعاد أجزاء الفلك الأدنى قالوا فأما الكواكب الثابتة فإنا لم نشاهدها كذلك لأنها ليست بمتحركة و أما القمر و إن كان في السماء الدنيا إلا أن فلك تدويره من جنس الأجرام الفوقانية و ليس بماء متموج كالفلك الممثل التحتاني و كذلك القول في الشمس . و منها أن الكواكب في قوله ثم زينها بزينة الكواكب أين هي فإن اللفظ محتمل و ينبغي أن يتقدم على ذلك بحث في أصل قوله تعالى إِنَّا زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا بِزِينَةٍ اَلْكَواكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ . فنقول إن ظاهر هذا اللفظ أن الكواكب في السماء الدنيا و أنها جعلت فيها حراسة للشياطين من استراق السمع فمن دنا منهم لذلك رجم بشهاب و هذا هو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ و مذهب الحكماء أن السماء الدنيا ليس فيها إلا القمر وحده و عندهم أن الشهب المنقضة هي آثار تظهر في الفلك الأثيري الناري الذي تحت فلك القمر و الكواكب لا ينقض منها شي‏ء و الواجب التصديق بما في ظاهر لفظ الكتاب العزيز و أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع على مطابقته فيكون الضمير في قوله زينها راجعا إلى سفلاهن التي قال إنها موج مكفوف و يكون الضمير في قوله و أجرى فيها راجعا إلى جملة السموات إذا وافقنا الحكماء في أن الشمس في السماء الرابعة . و منها أن ظاهر الكلام يقتضي أن خلق السموات بعد خلق الأرض أ لا تراه كيف لم يتعرض فيه لكيفية خلق الأرض أصلا و هذا قول قد ذهب إليه جماعة من أهل الملة [ 87 ] و استدلوا عليه بقوله تعالى قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ اَلْعالَمِينَ ثم قال ثُمَّ اِسْتَوى‏ إِلَى اَلسَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ . و منها أن الهاء في قوله فرفعه في هواء منفتق و الهاء في قوله فسوى منه سبع سموات إلى ما ذا ترجع فإن آخر المذكورات قبلها الزبد و هل يجوز أن تكون السموات مخلوقة من زبد الماء الحق أن الضمائر ترجع إلى الماء الذي عب عبابه لا إلى الزبد فإن أحدا لم يذهب إلى أن السماء مخلوقة من زبد الماء و إنما قالوا إنها مخلوقة من بخاره . و منها أن يقال إن البارئ سبحانه قادر على خلق الأشياء إبداعا و اختراعا فما الذي اقتضى أنه خلق المخلوقات على هذا الترتيب و هلا أوجدها إيجاد الماء الذي ابتدعه أولا من غير شي‏ء . فيقال في جواب ذلك على طريق أصحابنا لعل إخباره للمكلفين بذلك على هذا الترتيب يكون لطفا بهم و لا يجوز الإخبار منه تعالى إلا و المخبر عنه مطابق للإخبار . فهذا حظ المباحث المعنوية من هذا الفصل . ثم نشرع في تفسير ألفاظه أما الأجواء فجمع جو و الجو هنا الفضاء العالي بين السماء و الأرض و الأرجاء [ 88 ] الجوانب واحدها رجا مثل عصا و السكائك جمع سكاكة و هي أعلى الفضاء كما قالوا ذؤابة و ذوائب و التيار الموج و المتراكم الذي بعضه فوق بعض و الزخار الذي يزخر أي يمتد و يرتفع و الريح الزعزع الشديدة الهبوب و كذلك القاصفة كأنها تهلك الناس بشدة هبوبها و معنى قوله فأمرها برده أي بمنعه عن الهبوط لأن الماء ثقيل و من شأن الثقيل الهوي و معنى قوله و سلطها على شدة أي على وثاقة كأنه سبحانه لما سلط البريح على منعه من الهبوط فكأنه قد شده بها و أوثقه و منعه من الحركة و معنى قوله و قرنها إلى حده أي جعلها مكانا له أي جعل حد الماء المذكور و هو سطحه الأسفل مما ساطح الريح التي تحمله و تقله و الفتيق المفتوق المنبسط و الدفيق المدفوق و اعتقم مهبها أي جعل هبوبها عقيما و الريح العقيم التي لا تلقح سحابا و لا شجرا و كذلك كانت تلك الريح المشار إليها لأنه سبحانه إنما خلقها لتمويج الماء فقط و أدام مربها أي ملازمتها أرب بالمكان مثل ألب به أي لازمه . و معنى قوله و عصفت به عصفها بالفضاء فيه معنى لطيف يقول إن الريح إذا عصفت بالفضاء الذي لا أجسام فيه كان عصفها شديدا لعدم المانع و هذه الريح عصفت بذلك الماء العظيم عصفا شديدا كأنها تعصف في فضاء لا ممانع لها فيه من الأجسام . و الساجي الساكن و المائر الذي يذهب و يجي‏ء و عب عبابه أي ارتفع أعلاه و ركامه ثبجه و هضبه و الجو المنفهق المفتوح الواسع و الموج المكفوف الممنوع من السيلان و عمد يدعمها يكون لها دعامة و الدسار واحد الدسر و هي المسامير . و الثواقب النيرة المشرقة و سراجا مستطيرا أي منتشر الضوء يقال قد استطار [ 89 ] الفجر أي انتشر ضوءه و رقيم مائر أي لوح متحرك سمي الفلك رقيما تشبيها باللوح لأنه مسطح فأما القطب الراوندي فقال إنه ع ذكر قبل هذه الكلمات أنه أنشأ حيوانا له أعضاء و أحناء ثم ذكر هاهنا أنه فتق السماء و ميز بعضها عن بعض ثم ذكر أن بين كل سماء و سماء مسيرة خمسمائة عام و هي سبع سموات و كذلك بين كل أرض و أرض و هي سبع أيضا و روى حديث البقرة التي تحمل الملك الحامل للعرش و الصخرة التي تحمل البقرة و الحوت الذي يحمل الصخرة . و لقائل أن يقول إنه ع لم يذكر فيما تقدم أن الله تعالى خلق حيوانا ذا أعضاء و لا قوله الآن ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء هو معنى قوله تعالى أَنَّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما أ لا تراه كيف صرح ع بأن البارئ سبحانه خلق الهواء الذي هو الفضاء و عبر عن ذلك بقوله ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء و ليس فتق الأجواء هو فتق السماء . فإن قلت فكيف يمكن التطبيق بين كلامه ع و بين الآية . قلت إنه تعالى لما سلط الريح على الماء فعصفت به حتى جعلته بخارا و زبدا و خلق من أحدهما السماء و من الآخر الأرض كان فاتقا لهما من شي‏ء واحد و هو الماء . فأما حديث البعد بين السموات و كونه مسيرة خمسمائة عام بين كل سماء و سماء فقد ورد ورودا لم يوثق به و أكثر الناس على خلاف ذلك و كون الأرض سبعا أيضا [ 90 ] خلاف ما يقوله جمهور العقلاء و ليس في القرآن العزيز ما يدل على تعدد الأرض إلا قوله تعالى وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ و قد أولوه على الأقاليم السبعة و حديث الصخرة و الحوت و البقرة من الخرافات في غالب الظن و الصحيح أن الله تعالى يمسك الكل بغير واسطة جسم آخر . ثم قال الراوندي السكائك جمع سكاك و هذا غير جائز لأن فعالا لا يجمع على فعائل و إنما هو جمع سكاكة ذكر ذلك الجوهري . ثم قال و سلطها على شده الشد العدو و لا يجوز حمل الشد هاهنا على العدو لأنه لا معنى له و الصحيح ما ذكرناه . و قال في تفسير قوله ع جعل سفلاهن موجا مكفوفا أراد تشبيهها بالموج لصفائها و اعتلائها فيقال له إن الموج ليس بعال ليشبه به الجسم العالي و أما صفاؤه فإن كل السموات صافية فلما ذا خص سفلاهن بذلك . ثم قال و يمكن أن تكون السماء السفلى قد كانت أول ما وجدت موجا ثم عقدها يقال له و السموات الأخر كذلك كانت فلما ذا خص السفلى بذلك . ثم قال الريح الأولى غير الريح الثانية لأن إحداهما معرفة و الأخرى نكرة و هذا مثل قوله صم اليوم صم يوما فإنه يقتضي يومين . يقال له ليست المغايرة بينهما مستفادة من مجرد التعريف و التنكير لأنه لو كان قال [ 91 ] ع و حمله على متن ريح عاصفة و زعزع قاصفة لكانت الريحان الأولى و الثانية منكرتين معا و هما متغايرتان و إنما علمنا تغايرهما لأن إحداهما تحت الماء و الأخرى فوقه و الجسم الواحد لا يكون في جهتين : ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ اَلسَّمَوَاتِ اَلْعُلاَ فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ مِنْهُمْ سُجُودٌ لاَ يَرْكَعُونَ وَ رُكُوعٌ لاَ يَنْتَصِبُونَ وَ صَافُّونَ لاَ يَتَزَايَلُونَ وَ مُسَبِّحُونَ لاَ يَسْأَمُونَ لاَ يَغْشَاهُمْ نَوْمُ اَلْعُيُونِ وَ لاَ سَهْوُ اَلْعُقُولِ وَ لاَ فَتْرَةُ اَلْأَبْدَانِ وَ لاَ غَفْلَةُ اَلنِّسْيَانِ وَ مِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ وَ أَلْسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ وَ مُخْتَلِفُونَ [ مُتَرَدِّدُونَ ] بِقَضَائِهِ وَ أَمْرِهِ وَ مِنْهُمُ اَلْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَ اَلسَّدَنَةُ [ اَلسَّنَدَةُ ] لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ وَ مِنْهُمُ اَلثَّابِتَةُ فِي اَلْأَرَضِينَ اَلسُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ وَ اَلْمَارِقَةُ مِنَ اَلسَّمَاءِ اَلْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ وَ اَلْخَارِجَةُ مِنَ اَلْأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ وَ اَلْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ اَلْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ اَلْعِزَّةِ وَ أَسْتَارُ اَلْقُدْرَةِ لاَ يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ وَ لاَ يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ اَلْمَصْنُوعِينَ [ اَلْمَخْلُوقِينَ ] وَ لاَ يَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاكِنِ وَ لاَ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ القول في إالملائكة و أقسامهم الملك عند المعتزلة حيوان نوري فمنه شفاف عادم اللون كالهواء و منه ملون بلون الشمس و الملائكة عندهم قادرون عالمون أحياء بعلوم و قدر و حياة كالواحد منا و مكلفون كالواحد منا إلا أنهم معصومون و لهم في كيفية تكليفهم كلام لأن التكليف [ 92 ] مبني على الشهوة . و في كيفية خلق الشهوة فيهم نظر و ليس هذا الكتاب موضوعا للبحث في ذلك و قد جعلهم ع في هذا الفصل أربعة أقسام القسم الأول أرباب العبادة فمنهم من هو ساجد أبدا لم يقم من سجوده ليركع و منهم من هو راكع أبدا لم ينتصب قط و منهم الصافون في الصلاة بين يدي خالقهم لا يتزايلون و منهم المسبحون الذين لا يملون التسبيح و التحميد له سبحانه . و القسم الثاني السفراء بينه تعالى و بين المكلفين من البشر بتحمل الوحي الإلهي إلى الرسل و المختلفون بقضائه و أمره إلى أهل الأرض . و القسم الثالث ضربان أحدهما حفظة العباد كالكرام الكاتبين و كالملائكة الذين يحفظون البشر من المهالك و الورطات و لو لا ذلك لكان العطب أكثر من السلامة و ثانيهما سدنة الجنان . القسم الرابع حملة العرش . و يجب أن يكون الضمير في دونه و هو الهاء راجعا إلى العرش لا إلى البارئ سبحانه و كذلك الهاء في قوله تحته و يجب أن تكون الإشارة بقوله و بين من دونهم إلى الملائكة الذين دون هؤلاء في الرتبة . فأما ألفاظ الفصل فكلها غنية عن التفسير إلا يسيرا كالسدنة جمع سادن و هو الخادم و المارق الخارج و تلفعت بالثوب أي التحفت به . و أما القطب الراوندي فجعل الأمناء على الوحي و حفظة العباد و سدنة الجنان [ 93 ] قسما واحدا فأعاد الأقسام الأربعة إلى ثلاثة و ليس بجيد لأنه قال و منهم الحفظة فلفظة و منهم تقتضي كون الأقسام أربعة لأنه بها فصل بين الأقسام . و قال أيضا معنى قوله ع لا يغشاهم نوم العيون يقتضي أن لهم نوما قليلا لا يغفلهم عن ذكر الله سبحانه فأما البارئ سبحانه فإنه لا تأخذه سنة و لا نوم أصلا مع أنه حي و هذه هي المدحة العظمى . و لقائل أن يقول لو ناموا قليلا لكانوا زمان ذلك النوم و إن قل غافلين عن ذكر الله سبحانه لأن الجمع بين النوم و بين الذكر مستحيل . و الصحيح أن الملك لا يجوز عليه النوم كما لا يجوز عليه الأكل و الشرب لأن النوم من توابع المزاج و الملك لا مزاج له و أما مدح البارئ بأنه لا تأخذه سنة و لا نوم فخارج عن هذا الباب لأنه تعالى يستحيل عليه النوم استحالة ذاتية لا يجوز تبدلها و الملك يجوز أن يخرج عن كونه ملكا بأن يخلق في أجزاء جسمه رطوبة و يبوسة و حرارة و برودة يحصل من اجتماعها مزاج و يتبع ذلك المزاج النوم فاستحالة النوم عليه إنما هي ما دام ملكا فهو كقولك الماء بارد أي ما دام ماء لأنه يمكن أن يستحيل هواء ثم نارا فلا يكون باردا لأنه ليس حينئذ ماء و البارئ جلت عظمته يستحيل على ذاته أن يتغير فاستحال عليه النوم استحالة مطلقة مع أنه حي و من هذا إنشاء التمدح و روى أبو هريرة عن النبي ص أن الله خلق الخلق أربعة أصناف الملائكة و الشياطين و الجن و الإنس ثم جعل الأصناف الأربعة عشرة أجزاء فتسعة منها الملائكة و جزء واحد الشياطين و الجن و الإنس ثم جعل هؤلاء الثلاثة عشرة أجزاء فتسعة منها الشياطين و جزء واحد الجن و الإنس ثم جعل الجن و الإنس عشرة أجزاء فتسعة منها الجن و جزء واحد الإنس [ 94 ] و في الحديث الصحيح أن الملائكة كانت تصافح عمران بن الحصين و تزوره ثم افتقدها فقال يا رسول الله إن رجالا كانوا يأتونني لم أر أحسن وجوها و لا أطيب أرواحا منهم ثم انقطعوا فقال ع أصابك جرح فكنت تكتمه فقال أجل قال ثم أظهرته قال أجل قال أما لو أقمت على كتمانه لزارتك الملائكة إلى أن تموت و كان هذا الجرح أصابه في سبيل الله . و قال سعيد بن المسيب و غيره الملائكة ليسوا بذكور و لا إناث و لا يتوالدون و لا يأكلون و لا يشربون و الجن يتوالدون و فيهم ذكور و إناث و يموتون و الشياطين ذكور و إناث و يتوالدون و لا يموتون حتى يموت إبليس . و قال النبي ص في رواية أبي ذر إني أرى ما لا ترون و أسمع ما لا تسمعون أطت السماء و حق لها أن تئط فما فيها موضع شبر إلا و فيه ملك قائم أو راكع أو ساجد واضع جبهته لله و الله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا و ما تلذذتم بالنساء على الفرش و لخرجتم إلى الفلوات تجأرون إلى الله و الله لوددت أني كنت شجرة تعضد قلت و يوشك هذه الكلمة الأخيرة أن تكون قول أبي ذر . و اتفق أهل الكتب على أن رؤساء الملائكة و أعيانهم أربعة جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل و هو ملك الموت و قالوا إن إسرافيل صاحب الصور و إليه النفخة و إن ميكائيل صاحب النبات و المطر و إن عزرائيل على أرواح الحيوانات و إن جبرائيل على جنود السموات و الأرض كلها و إليه تدبير الرياح و هو ينزل إليهم كلهم بما يؤمرون به . [ 95 ] و روى أنس بن مالك أنه قيل لرسول الله ص ما هؤلاء الذين استثني بهم في قوله تعالى فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اَللَّهُ فقال جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل فيقول الله عز و جل لعزرائيل يا ملك الموت من بقي و هو سبحانه أعلم فيقول سبحانك ربي ذا الجلال و الإكرام بقي جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت فيقول يا ملك الموت خذ نفس إسرافيل فيقع في صورته التي خلق عليها كأعظم ما يكون من الأطواد ثم يقول و هو أعلم من بقي يا ملك الموت فيقول سبحانك ربي يا ذا الجلال و الإكرام جبرائيل و ميكائيل و ملك الموت فيقول خذ نفس ميكائيل فيقع في صورته التي خلق عليها و هي أعظم ما يكون من خلق إسرافيل بأضعاف مضاعفة ثم يقول سبحانه يا ملك الموت من بقي فيقول سبحانك ربي ذا الجلال و الإكرام جبرائيل و ملك الموت فيقول تعالى يا ملك الموت مت فيموت و يبقى جبرائيل و هو من الله تعالى بالمكان الذي ذكر لكم فيقول الله يا جبرائيل إنه لا بد من أن يموت أحدنا فيقع جبرائيل ساجدا يخفق بجناحيه يقول سبحانك ربي و بحمدك أنت الدائم القائم الذي لا يموت و جبرائيل الهالك الميت الفاني فيقبض الله روحه فيقع على ميكائيل و إسرافيل و أن فضل خلقه على خلقهما كفضل الطود العظيم على الظرب من الظراب و في الأحاديث الصحيحة أن جبرائيل كان يأتي رسول الله ص على صورة دحية الكلبي و أنه كان يوم بدر على فرس اسمه حيزوم و أنه سمع ذلك اليوم صوته أقدم حيزوم . [ 96 ] و الكروبيون عند أهل الملة سادة الملائكة كجبرائيل و ميكائيل و عند الفلاسفة أن سادة الملائكة هم الروحانيون يعنون العقول الفعالة و هي المفارقة للعالم الجسماني المسلوبة التعلق به لا بالحول و لا بالتدبير و أما الكروبيون فدون الروحانيين في المرتبة و هي أنفس الأفلاك المدبرة لها الجارية منها مجرى نفوسنا مع أجسامنا . ثم هي على قسمين قسم أشرف و أعلى من القسم الآخر فالقسم الأشرف ما كان نفسا ناطقة غير حالة في جرم الفلك كأنفسنا بالنسبة إلى أبداننا و القسم الثاني ما كان حالا في جرم الفلك و يجري ذلك مجرى القوى التي في أبداننا كالحس المشترك و القوة الباصرة : مِنْهَا فِي صِفَةِ خَلْقِ آدَمَ ع ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ اَلْأَرْضِ وَ سَهْلِهَا وَ عَذْبِهَا وَ سَبَخِهَا تُرْبَةً سَنَّهَا [ سَنَاهَا ] بِالْمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ وَ لاَطَهَا بِالْبِلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاءٍ وَ وُصُولٍ وَ أَعْضَاءٍ وَ فُصُولٍ أَجْمَدَهَا حَتَّى اِسْتَمْسَكَتْ وَ أَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَ أَمَدٍ [ أَجَلٍ ] أَجَلٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ فَتَمَثَّلَتْ فَمَثُلَتْ [ فَتَمَثَّلَتْ ] إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ يُجِيلُهَا وَ فِكَرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا وَ جَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا وَ أَدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا وَ مَعْرِفَةٍ يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ اَلْحَقِّ وَ اَلْبَاطِلِ وَ اَلْأَذْوَاقِ وَ اَلْمَشَامِّ وَ اَلْأَلْوَانِ وَ اَلْأَجْنَاسِ مَعْجُوناً بِطِينَةِ اَلْأَلْوَانِ اَلْمُخْتَلِفَةِ [ 97 ] وَ اَلْأَشْبَاهِ اَلْمُؤْتَلِفَةِ [ اَلْمُتَّفِقَةِ ] وَ اَلْأَضْدَادِ اَلْمُتَعَادِيَةِ وَ اَلْأَخْلاَطِ اَلْمُتَبَايِنَةِ مِنَ اَلْحَرِّ وَ اَلْبَرْدِ وَ اَلْبِلَّةِ وَ اَلْجُمُودِ وَ اَلْمَسَاءَةِ وَ اَلسُّرُورِ وَ اِسْتَأْدَى اَللَّهُ سُبْحَانَهُ اَلْمَلاَئِكَةَ وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ وَ عَهْدَ وَصِيَّتِهِ إِلَيْهِمْ فِي اَلْإِذْعَانِ بِالسُّجُودِ لَهُ وَ اَلْخُنُوعِ [ وَ اَلْخُشُوعِ ] لِتَكْرِمَتِهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ لَهُمْ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ وَ قَبيلَهُ اِعْتَرَتْهُمُ اِعْتَرَتْهُ اَلْحَمِيَّةُ وَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ عَلَيْهِ اَلشِّقْوَةُ وَ تَعَزَّزُوا تَعَزَّزَ بِخِلْقَةِ اَلنَّارِ وَ اِسْتَوْهَنُوا اِسْتَوْهَنَ خَلْقَ اَلصَّلْصَالِ فَأَعْطَاهُ اَللَّهُ اَلنَّظِرَةَ اِسْتِحْقَاقاً لِلسَّخْطَةِ وَ اِسْتِتْمَاماً لِلْبَلِيَّةِ وَ إِنْجَازاً لِلْعِدَةِ فَقَالَ فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلى‏ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ الحزن ما غلظ من الأرض و سبخها ما ملح منها و سنها بالماء أي ملسها قال ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء تمشي في مرمر مسنون أي مملس و لاطها من قولهم لطت الحوض بالطين أي ملطته و طينته به و البلة بفتح الباء من البلل و لزبت بفتح الزاي أي التصقت و ثبتت فجبل منها أي خلق و الأحناء الجوانب جمع حنو و أصلدها جعلها صلدا أي صلبا متينا و صلصلت يبست و هو الصلصال و يختدمها يجعلها في مآربه و أوطاره كالخدم الذين تستعملهم و تستخدمهم و استأدى الملائكة وديعته طلب منهم أداءها و الخنوع الخضوع و الشقوة بكسر الشين و في الكتاب العزيز رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا [ 98 ] شِقْوَتُنا و استوهنوا عدوه واهنا ضعيفا و النظرة بفتح النون و كسر الظاء الإمهال و التأخير . فأما معاني الفصل فظاهرة و فيه مع ذلك مباحث . منها أن يقال اللام في قوله لوقت معدود بما ذا تتعلق . و الجواب أنها تتعلق بمحذوف تقديره حتى صلصلت كائنة لوقت فيكون الجار و المجرور في موضع الحال و يكون معنى الكلام أنه أصلدها حتى يبست و جفت معدة لوقت معلوم فنفخ حينئذ روحه فيها و يمكن أن تكون اللام متعلقة بقوله فجبل أي جبل و خلق من الأرض هذه الجثة لوقت أي لأجل وقت معلوم و هو يوم القيامة . و منها أن يقال لما ذا قال من حزن الأرض و سهلها و عذبها و سبخها . و الجواب أن المراد من ذلك أن يكون الإنسان مركبا من طباع مختلفة و فيه استعداد للخير و الشر و الحسن و القبح . و منها أن يقال لما ذا أخر نفخ الروح في جثة آدم مدة طويلة فقد قيل إنه بقي طينا تشاهده الملائكة أربعين سنة و لا يعلمون ما المراد به . و الجواب يجوز أن يكون في ذلك لطف للملائكة لأنهم تذهب ظنونهم في ذلك كل مذهب فصار كإنزال المتشابهات الذي تحصل به رياضة الأذهان و تخريجها و في ضمن ذلك يكون اللطف و يجوز أن يكون في أخبار ذرية آدم بذلك فيما بعد لطف بهم و لا يجوز إخبارهم بذلك إلا إذا كان المخبر عنه حقا [ 99 ] و منها أن يقال ما المعني بقوله ثم نفخ فيها من روحه . الجواب أن النفس لما كانت جوهرا مجردا لا متحيزة و لا حالة في المتحيز حسن لذلك نسبتها إلى البارئ لأنها أقرب إلى الانتساب إليه من الجثمانيات و يمكن أيضا أن تكون لشرفها مضافة إليه كما يقال بيت الله للكعبة و أما النفخ فعبارة عن إفاضة النفس على الجسد و لما نفخ الريح في الوعاء عبارة عن إدخال الريح إلى جوفه و كان الإحياء عبارة عن إفاضة النفس على الجسد و يستلزم ذلك حلول القوى و الأرواح في الجثة باطنا و ظاهرا سمي ذلك نفخا مجازا . و منها أن يقال ما معنى قوله معجونا بطينة الألوان المختلفة . الجواب أنه ع قد فسر ذلك بقوله من الحر و البرد و البلة و الجمود يعني الرطوبة و اليبوسة و مراده بذلك المزاج الذي هو كيفية واحدة حاصلة من كيفيات مختلفة قد انكسر بعضها ببعض و قوله معجونا صفة إنسانا و الألوان المختلفة يعنى الضروب و الفنون كما تقول في الدار ألوان من الفاكهة . و منها أن يقال ما المعني بقوله و استأدى الملائكة وديعته لديهم و كيف كان هذا العهد و الوصية بينه و بينهم . الجواب أن العهد و الوصية هو قوله تعالى لهم إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ . [ 100 ] و منها أن يقال كيف كانت شبهة إبليس و أصحابه في التعزز بخلقة النار . الجواب لما كانت النار مشرقة بالذات و الأرض مظلمة و كانت النار أشبه بالنور و النور أشبه بالمجردات جعل إبليس ذلك حجة احتج بها في شرف عنصره على عنصر آدم ع و لأن النار أقرب إلى الفلك من الأرض و كل شي‏ء كان أقرب إلى الفلك من غيره كان أشرف و البارئ تعالى لم يعتبر ذلك و فعل سبحانه ما يعلم أنه المصلحة و الصواب . و منها أن يقال كيف يجوز السجود لغير الله تعالى . و الجواب أنه قيل إن السجود لم يكن إلا لله تعالى و إنما كان آدم ع قبلة و يمكن أن يقال إن السجود لله على وجه العبادة و لغيره على وجه التكرمة كما سجد أبو يوسف و إخوته له و يجوز أن تختلف الأحوال و الأوقات في حسن ذلك و قبحه . و منها أن يقال كيف جاز على ما تعتقدونه من حكمة البارئ أن يسلط إبليس على المكلفين أ ليس هذا هو الاستفساد الذي تأبونه و تمنعونه . و الجواب أما الشيخ أبو علي رحمه الله فيقول حد المفسدة ما وقع عند الفساد و لولاه لم يقع مع تمكن المكلف من الفعل في الحالين و من فسد بدعاء إبليس لم يتحقق فيه هذا الحد لأن الله تعالى علم أن كل من فسد عند دعائه فإنه يفسد و لو لم يدعه . و أما أبو هاشم رحمه الله فيحد المفسدة بهذا الحد أيضا و يقول إن في الإتيان بالطاعة مع دعاء إبليس إلى القبيح مشقة زائدة على مشقة الإتيان بها لو لم يدع إبليس إلى [ 101 ] القبيح فصار الإتيان بها مع اعتبار دعاء إبليس إلى خلافها خارجا عن الحد المذكور و داخلا في حيز التمكن الذي لو فرضنا ارتفاعه لما صح من المكلف الإتيان بالفعل و نحن قلنا في الحد مع تمكن المكلف من الإتيان بالفعل في الحالين . و منها أن يقال كيف جاز للحكيم سبحانه أن يقول لإبليس إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إلى يوم القيامة و هذا إغراء بالقبيح و أنتم تمنعون أن يقول الحكيم لزيد أنت لا تموت إلى سنة بل إلى شهر أو يوم واحد لما فيه من الإغراء بالقبيح و العزم على التوبة قبل انقضاء الأمد . و الجواب أن أصحابنا قالوا إن البارئ تعالى لم يقل لإبليس إني منظرك إلى يوم القيامة و إنما قال إِلى‏ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ و هو عبارة عن وقت موته و اخترامه و كل مكلف من الإنس و الجن منظر إلى يوم الوقت المعلوم على هذا التفسير و إذا كان كذلك لم يكن إبليس عالما أنه يبقى لا محالة فلم يكن في ذلك إغراء له بالقبيح . فإن قلت فما معنى قوله ع و إنجازا للعدة أ ليس معنى ذلك أنه قد كان وعده أن يبقيه إلى يوم القيامة . قلت إنما وعده الإنظار و يمكن أن يكون إلى يوم القيامة و إلى غيره من الأوقات و لم يبين له فهو تعالى أنجز له وعده في الإنظار المطلق و ما من وقت إلا و يجوز فيه أن يخترم إبليس فلا يحصل الإغراء بالقبيح و هذا الكلام عندنا ضعيف و لنا فيه نظر مذكور في كتبنا الكلامية [ 102 ] ثُمَّ أَسْكَنَ آدَمَ دَاراً أَرْغَدَ فِيهَا عِيشَتَهُ عَيْشَهُ وَ آمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَهُ وَ حَذَّرَهُ إِبْلِيسَ وَ عَدَاوَتَهُ فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفَاسَةً عَلَيْهِ بِدَارِ اَلْمُقَامِ وَ مُرَافَقَةِ اَلْأَبْرَارِ فَبَاعَ اَلْيَقِينَ بِشَكِّهِ وَ اَلْعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ وَ اِسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلاً وَ بِالاِعْتِزَازِ بِالاِغْتِرَارِ نَدَماً ثُمَّ بَسَطَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي تَوْبَتِهِ وَ لَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ وَ وَعَدَهُ اَلْمَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ فَأَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ اَلْبَلِيَّةِ وَ تَنَاسُلِ اَلذُّرِّيَّةِ أما الألفاظ فظاهرة و المعاني أظهر و فيها ما يسأل عنه . فمنها أن يقال الفاء في قوله ع فأهبطه تقتضي أن تكون التوبة على آدم قبل هبوطه من الجنة . و الجواب أن ذلك أحد قولي المفسرين و يعضده قوله تعالى وَ عَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‏ ثُمَّ اِجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى‏ قالَ اِهْبِطا مِنْها فجعل الهبوط بعد قبول التوبة . و منها أن يقال إذا كان تعالى قد طرد إبليس من الجنة لما أبى السجود فكيف توصل إلى آدم و هو في الجنة حتى استنزله عنها بتحسين أكل الشجرة له . الجواب أنه يجوز أن يكون إنما منع من دخول الجنة على وجه التقريب و الإكرام [ 103 ] كدخول الملائكة و لم يمنع من دخولها على غير ذلك الوجه و قيل إنه دخل في جوف الحية كما ورد في التفسير . و منها أن يقال كيف اشتبه على آدم الحال في الشجرة المنهي عنها فخالف النهي . الجواب أنه قيل له لا تقربا هذه الشجرة و أريد بذلك نوع الشجرة فحمل آدم النهي على الشخص و أكل من شجرة أخرى من نوعها . و منها أن يقال هذا الكلام من أمير المؤمنين ع تصريح بوقوع المعصية من آدم ع و هو قوله فباع اليقين بشكه و العزيمة بوهنه فما قولكم في ذلك . الجواب أما أصحابنا فإنهم لا يمتنعون من إطلاق العصيان عليه و يقولون إنها كانت صغيرة و عندهم أن الصغائر جائزة على الأنبياء ع و أما الإمامية فيقولون إن النهي كان نهي تنزيه لا نهي تحريم لأنهم لا يجيزون على الأنبياء الغلط و الخطأ لا كبيرا و لا صغيرا و ظواهر هذه الألفاظ تشهد بخلاف قولهم اختلاف الأقوال في ابتداء خلق البشر و اعلم أن الناس اختلفوا في ابتداء خلق البشر كيف كان فذهب أهل الملل من المسلمين و اليهود و النصارى إلى أن مبدأ البشر هو آدم الأب الأول ع و أكثر ما في القرآن العزيز من قصة آدم مطابق لما في التوراة . و ذهب طوائف من الناس إلى غير ذلك أما الفلاسفة فإنهم زعموا أنه لا أول لنوع البشر و لا لغيرهم من الأنواع . و أما الهند فمن كان منهم على رأي الفلاسفة فقوله ما ذكرناه و من لم يكن منهم [ 104 ] على رأي الفلاسفة و يقول بحدوث الأجسام لا يثبت آدم و يقول إن الله تعالى خلق الأفلاك و خلق فيها طباعا محركة لها بذاتها فلما تحركت و حشوها أجسام لاستحالة الخلاء كانت تلك الأجسام على طبيعة واحدة فاختلفت طباؤعها بالحركة الفلكية فكان القريب من الفلك المتحرك أسخن و ألطف و البعيد أبرد و أكثف ثم اختلطت العناصر و تكونت منها المركبات و منها تكون نوع البشر كما يتكون الدود في الفاكهة و اللحم و البق في البطائح و المواضع العفنة ثم تكون بعض البشر من بعض بالتوالد و صار ذلك قانونا مستمرا و نسي التخليق الأول الذي كان بالتولد و من الممكن أن يكون بعض البشر في بعض الأراضي القاصية مخلوقا بالتولد و إنما انقطع التولد لأن الطبيعة إذا وجدت للتكون طريقا استغنت به عن طريق ثان . و أما المجوس فلا يعرفون آدم و لا نوحا و لا ساما و لا حاما و لا يافث و أول متكون عندهم من البشر البشري المسمى كيومرث و لقبه كوشاه أي ملك الجبل لأن كو هو الجبل بالفهلوية و كان هذا البشر في الجبال و منهم من يسميه كلشاه أي ملك الطين و كل اسم الطين لأنه لم يكن حينئذ بشر ليملكهم . و قيل تفسير كيومرث حي ناطق ميت قالوا و كان قد رزق من الحسن ما لا يقع عليه بصر حيوان إلا و بهت و أغمي عليه و يزعمون أن مبدأ تكونه و حدوثه أن يزدان و هو الصانع الأول عندهم أفكر في أمر أهرمن و هو الشيطان عندهم فكرة أوجبت أن عرق جبينه فمسح العرق و رمى به فصار منه كيومرث و لهم خبط طويل في كيفية تكون أهرمن من فكرة يزدان أو من إعجابه بنفسه أو من توحشه و بينهم خلاف في قدم أهرمن و حدوثه لا يليق شرحه بهذا الموضع [ 105 ] ثم اختلفوا في مدة بقاء كيومرث في الوجود فقال الأكثرون ثلاثون سنة و قال الأقلون أربعون سنة و قال قوم منهم إن كيومرث مكث في الجنة التي في السماء ثلاثة آلاف سنة و هي ألف الحمل و ألف الثور و ألف الجوزاء ثم أهبط إلى الأرض فكان بها آمنا مطمئنا ثلاثة آلاف سنة أخرى و هي ألف السرطان و ألف الأسد و ألف السنبلة . ثم مكث بعد ذلك ثلاثين أو أربعين سنة في حرب و خصام بينه و بين أهرمن حتى هلك . و اختلفوا في كيفية هلاكه مع اتفاقهم على أنه هلك قتلا فالأكثرون قالوا إنه قتل ابنا لأهرمن يسمى خزورة فاستغاث أهرمن منه إلى يزدان فلم يجد بدا من أن يقاصه به حفظا للعهود التي بينه و بين أهرمن فقتله بابن أهرمن و قال قوم بل قتله أهرمن في صراع كان بينهما قهره فيه أهرمن و علاه و أكله . و ذكروا في كيفية ذلك الصراع أن كيومرث كان هو القاهر لأهرمن في بادئ الحال و أنه ركبه و جعل يطوف به في العالم إلى أن سأله أهرمن أي الأشياء أخوف له و أهولها عنده فقال له باب جهنم فلما بلغ به أهرمن إليها جمح به حتى سقط من فوقه و لم يستمسك فعلاه و سأله عن أي الجهات يبتدئ به في الأكل فقال من جهة الرجل لأكون ناظرا إلى حسن العالم مدة ما فابتدأه أهرمن فأكله من عند رأسه فبلغ إلى موضع الخصي و أوعية المني من الصلب فقطر من كيومرث قطرتا نطفة على الأرض فنبت منها ريباستان في جبل بإصطخر يعرف بجبل دام داذ ثم ظهرت على تينك الريباستين الأعضاء البشرية في أول الشهر التاسع و تمت في آخره فتصور منهما بشران ذكر و أنثى و هما ميشى و ميشانه و هما بمنزلة آدم و حواء عند المليين و يقال لهما أيضا ملهى و ملهيانه و يسميهما مجوس خوارزم مرد و مردانه [ 106 ] و زعموا أنهما مكثا خمسين سنة مستغنين عن الطعام و الشراب متنعمين غير متأذيين بشي‏ء إلى أن ظهر لهما أهرمن في صورة شيخ كبير فحملهما على التناول من فواكه الأشجار و أكل منها و هما يبصرانه شيخا فعاد شابا فأكلا منها حينئذ فوقعا في البلايا و الشرور و ظهر فيهما الحرص حتى تزاوجا و ولد لهما ولد فأكلاه حرصا ثم ألقى الله تعالى في قلوبهما رأفة فولد لهما بعد ذلك ستة أبطن كل بطن ذكر و أنثى و أسماؤهم في كتاب أپستا و هو الكتاب الذي جاء به زرادشت معروفة ثم كان في البطن السابع سيامك و فرواك فتزاوجا فولد لهما الملك المشهور الذي لم يعرف قبله ملك و هو أوشهنج و هو الذي خلف جده كيومرث و عقد له التاج و جلس على السرير و بنى مدينتي بابل و السوس . فهذا ما يذكره المجوس في مبدأ الخلق تصويب الزنادقة إبليس لامتناعه عن السجود لآدم و كان في المسلمين ممن يرمى بالزندقة من يذهب إلى تصويب إبليس في الامتناع من السجود و يفضله على آدم و هو بشار بن برد المرعث و من الشعر المنسوب إليه النار مشرقة و الأرض مظلمة و النار معبودة مذ كانت النار [ 107 ] و كان أبو الفتوح أحمد بن محمد الغزالي الواعظ أخو أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الفقيه الشافعي قاصا لطيفا و واعظا مفوها و هو من خراسان من مدينة طوس و قدم إلى بغداد و وعظ بها و سلك في وعظه مسلكا منكرا لأنه كان يتعصب لإبليس و يقول إنه سيد الموحدين و قال يوما على المنبر من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق أمر أن يسجد لغير سيده فأبى و لست بضارع إلا إليكم و أما غيركم حاشا و كلا و قال مرة أخرى لما قال له موسى أرني فقال لن قال هذا شغلك تصطفي آدم ثم تسود وجهه و تخرجه من الجنة و تدعوني إلى الطور ثم تشمت بي الأعداء هذا عملك بالأحباب فكيف تصنع بالأعداء . و قال مرة أخرى و قد ذكر إبليس على المنبر لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت و أن قسي القدر إذا رمت أصمت ثم قال لسان حال آدم ينشد في قصته و قصة إبليس و كنت و ليلى في صعود من الهوى فلما توافينا ثبت و زلت و قال مرة أخرى التقى موسى و إبليس عند عقبة الطور فقال موسى يا إبليس لم لم تسجد لآدم فقال كلا ما كنت لأسجد لبشر كيف أوحده ثم ألتفت إلى غيره و لكنك أنت يا موسى سألت رؤيته ثم نظرت إلى الجبل فأنا أصدق منك في التوحيد . [ 108 ] و كان هذا النمط في كلامه ينفق على أهل بغداد و صار له بينهم صيت مشهور و اسم كبير و حكى عنه أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ أنه قال على المنبر معاشر الناس إني كنت دائما أدعوكم إلى الله و أنا اليوم أحذركم منه و الله ما شدت الزنانير إلا في حبه و لا أديت الجزية إلا في عشقه . و قال أيضا إن رجلا يهوديا أدخل عليه ليسلم على يده فقال له لا تسلم فقال له الناس كيف تمنعه من الإسلام فقال احملوه إلى أبي حامد يعني أخاه ليعلمه لا لا المنافقين ثم قال ويحكم أ تظنون أن قوله لا إله إلا الله منشور ولايته ذا منشور عزله و هذا نوع تعرفه الصوفية بالغلو و الشطح . و يروى عن أبي يزيد البسطامي منه كثير . و مما يتعلق بما نحن فيه ما رووه عنه من قوله فمن آدم في البين و من إبليس لولاكا فتنت الكل و الكل مع الفتنة يهواكا و يقال أول من قاس إبليس فأخطأ في القياس و هلك بخطئه و يقال إن أول حمية و عصبية ظهرت عصبية إبليس و حميته اختلاف الأقوال في خلق الجنة و النار فإن قيل فما قول شيوخكم في الجنة و النار فإن المشهور عنهم أنهما لم يخلقا و سيخلقان [ 109 ] عند قيام الأجسام و قد دل القرآن العزيز و نطق كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل بأن آدم كان في الجنة و أخرج منها . قيل قد اختلف شيوخنا رحمهم الله في هذه المسألة فمن ذهب منهم إلى أنهما غير مخلوقتين الآن يقول قد ثبت بدليل السمع أن سائر الأجسام تعدم و لا يبقى في الوجود إلا ذات الله تعالى بدليل قوله كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ و قوله هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ فلما كان أولا بمعنى أنه لا جسم في الوجود معه في الأزل وجب أن يكون آخرا بمعنى أنه لا يبقى في الوجود جسم من الأجسام معه فيما لا يزال و بآيات كثيرة أخرى و إذا كان لا بد من عدم سائر الأجسام لم يكن في خلق الجنة و النار قبل أوقات الجزاء فائدة لأنه لا بد أن يفنيهما مع الأجسام التي تفنى يوم القيامة فلا يبقى مع خلقهما من قبل معنى و يحملون الآيات التي دلت على كون آدم ع كان في الجنة و أخرج منها على بستان من بساتين الدنيا قالوا و الهبوط لا يدل على كونهما في السماء لجواز أن يكون في الأرض إلا أنهما في موضع مرتفع عن سائر الأرض . و أما غير هؤلاء من شيوخنا فقالوا إنهما مخلوقتان الآن و اعترفوا بأن آدم كان في جنة الجزاء و الثواب و قالوا لا يبعد أن يكون في إخبار المكلفين بوجود الجنة و النار لطف لهم في التكليف و إنما يحسن الإخبار بذلك إذا كان صدقا و إنما يكون صدقا إذا كان خبره على ما هو عليه القول في آدم و الملائكة أيهما أفضل فإن قيل فما الذي يقوله شيوخكم في آدم و الملائكة أيهما أفضل . قيل لا خلاف بين شيوخنا رحمهم الله أن الملائكة أفضل من آدم و من جميع الأنبياء [ 110 ] ع و لو لم يدل على ذلك إلا قوله تعالى في هذه القصة إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ اَلْخالِدِينَ لكفى . و قد احتج أصحابنا أيضا بقوله تعالى لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ و هذا كما تقول لا يستنكف الوزير أن يعظمني و يرفع من منزلتي و لا الملك أيضا فإن هذا يقتضي كون الملك أرفع منزلة من الوزير و كذلك قوله وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ يقتضي كونهم أرفع منزلة من عيسى . و مما احتجوا به قولهم إنه تعالى لما ذكر جبريل و محمدا ع في معرض المدح مدح جبريل ع بأعظم مما مدح به محمدا ع فقال إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي اَلْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ اَلْمُبِينِ وَ ما هُوَ عَلَى اَلْغَيْبِ بِضَنِينٍ فالمديح الأول لجبريل و الثاني لمحمد ع و لا يخفى تفاوت ما بين المدحين . فإن قيل فهل كان إبليس من الملائكة أم من نوع آخر قيل قد اختلف في ذلك فمن قال إنه من الملائكة احتج بالاستثناء في قوله فَسَجَدَ اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ و قال إن الاستثناء من غير الجنس خلاف الأصل و من قال إنه لم يكن منهم احتج بقوله تعالى إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . و أجاب الأولون عن هذا فقالوا إن الملائكة يطلق عليهم لفظ الجن لاجتنانهم و استتارهم عن الأعين و قالوا قد ورد ذلك في القرآن أيضا في قوله تعالى وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ [ 111 ] وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً و الجنة هاهنا هم الملائكة لأنهم قالوا إن الملائكة بنات الله بدليل قوله أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اِتَّخَذَ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ إِناثاً و كتب التفسير تشتمل من هذا على ما لا نرى الإطالة بذكره . فأما القطب الراوندي فقال في هذين الفصلين في تفسير ألفاظهما اللغوية العذب من الأرض ما ينبت و السبخ ما لا ينبت و هذا غير صحيح لأن السبخ ينبت النخل فيلزم أن يكون عذبا على تفسيره . و قال فجبل منها صورة أي خلق خلقا عظيما و لفظة جبل في اللغة تدل على خلق سواء كان المخلوق عظيما أو غير عظيم . و قال الوصول جمع وصل و هو العضو و كل شي‏ء اتصل بشي‏ء فما بينهما وصلة و الفصول جمع فصل و هو الشي‏ء المنفصل و ما عرفنا في كتب اللغة أن الوصل هو العضو و لا قيل هذا . و قوله بعد ذلك و كل شي‏ء اتصل بشي‏ء فما بينهما وصلة لا معنى لذكره بعد ذلك التفسير و الصحيح أن مراده ع أظهر من أن يتكلف له هذا التكلف و مراده ع أن تلك الصورة ذات أعضاء متصلة كعظم الساق أو عظم الساعد و ذات أعضاء منفصلة في الحقيقة و إن كانت متصلة بروابط خارجة عن ذواتها كاتصال الساعد بالمرفق و اتصال الساق بالفخذ . ثم قال يقال استخدمته لنفسي و لغيري و اختدمته لنفسي خاصة و هذا مما لم أعرفه و لعله نقله من كتاب . [ 112 ] ثم قال و الإذعان الانقياد و الخنوع الخضوع و إنما كرر الخنوع بعد الإذعان لأن الأول يفيد أنهم أمروا بالخضوع له في السجود و الثاني يفيد ثباتهم على الخضوع لتكرمته أبدا . و لقائل أن يقول إنه لم يكرر لفظة الخنوع و إنما ذكر أولا الإذعان و هو الانقياد و الطاعة و معناه أنهم سجدوا ثم ذكر الخنوع الذي معناه الخضوع و هو يعطي معنى غير المعنى الأول لأنه ليس كل ساجد خاضعا بقلبه فقد يكون ساجدا بظاهره دون باطنه و قول الراوندي أفاد بالثاني ثباتهم على الخضوع له لتكرمته أبدا تفسير لا يدل عليه اللفظ و لا معنى الكلام . ثم قال قبيل إبليس نسله قال تعالى إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ و كل جيل من الإنس و الجن قبيل و الصحيح أن قبيله نوعه كما أن البشر قبيل كل بشري سواء كانوا من ولده أو لم يكونوا و قد قيل أيضا كل جماعة قبيل و إن اختلفوا نحو أن يكون بعضهم روما و بعضهم زنجا و بعضهم عربا و قوله تعالى إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ لا يدل على أنهم نسله . و قوله بعد و كل جيل من الإنس و الجن قبيل ينقض دعواه أن قبيله لا يكون إلا نسله . ثم تكلم في المعاني فقال إن القياس الذي قاسه إبليس كان باطلا لأنه ادعى أن النار أشرف من الأرض و الأمر بالعكس لأن كل ما يدخل إلى النار ينقص و كل ما يدخل التراب يزيد و هذا عجيب فإنا نرى الحيوانات الميتة إذا دفنت في الأرض تنقص أجسامها و كذلك الأشجار المدفونة في الأرض على أن التحقيق أن المحترق بالنار و البالي بالتراب لم تعدم أجزاؤه و لا بعضها و إنما استحالت إلى صور أخرى . [ 113 ] ثم قال و لما علمنا أن تقديم المفضول على الفاضل قبيح علمنا أن آدم كان أفضل من الملائكة في ذلك الوقت و فيما بعده . و لقائل أن يقول أ ليس قد سجد يعقوب ليوسف ع أ فيدل ذلك على أن يوسف أفضل من يعقوب و لا يقال إن قوله تعالى وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً لا يدل على سجود الوالدين فلعل الضمير يرجع إلى الإخوة خاصة لأنا نقول هذا الاحتمال مدفوع بقوله وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ و هو كناية عن الوالدين . و أيضا قد بينا أن السجود إنما كان لله سبحانه و أن آدم كان قبلة و القبلة لا تكون أفضل من الساجد إليها أ لا ترى أن الكعبة ليست أفضل من النبي ع : وَ اِصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ أَخَذَ عَلَى اَلْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ وَ عَلَى تَبْلِيغِ اَلرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ [ إِيمَانَهُمْ ] لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اَللَّهِ إِلَيْهِمْ فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَ اِتَّخَذُوا اَلْأَنْدَادَ مَعَهُ وَ اِجْتَالَتْهُمُ اَلشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَ اِقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ اَلْعُقُولِ وَ يُرُوهُمْ آيَاتِ اَلْمَقْدِرَةِ مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ وَ مِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ وَ مَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ وَ آجَالٍ تُفْنِيهِمْ وَ أَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ وَ أَحْدَاثٍ تَتَتَابَعُ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ وَ لَمْ يُخْلِ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لاَزِمَةٍ [ 114 ] أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ رُسُلٌ لاَ تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ وَ لاَ كَثْرَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ اجتالتهم الشياطين أدارتهم تقول اجتال فلان فلانا و اجتاله عن كذا و على كذا أي أداره عليه كأنه يصرفه تارة هكذا و تارة هكذا يحسن له فعله و يغريه به . و قال الراوندي اجتالتهم عدلت بهم و ليس بشي‏ء . و قوله ع واتر إليهم أنبياءه أي بعثهم و بين كل نبيين فترة و هذا مما تغلط فيه العامة فتظنه كما ظن الراوندي أن المراد به المرادفة و المتابعة و الأوصاب الأمراض و الغابر الباقي . و يسأل في هذا الفصل عن أشياء منها عن قوله ع أخذ على الوحي ميثاقهم . و الجواب أن المراد أخذ على أداء الوحي ميثاقهم و ذلك أن كل رسول أرسل فمأخوذ عليه أداء الرسالة كقوله تعالى يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ . و منها أن يقال ما معنى قوله ع ليستأدوهم ميثاق فطرته هل هذا [ 115 ] إشارة إلى ما يقوله أهل الحديث في تفسير قوله تعالى وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ . و الجواب أنه لا حاجة في تفسير هذه اللفظة إلى تصحيح ذلك الخبر و مراده ع بهذا اللفظ أنه لما كانت المعرفة به تعالى و أدلة التوحيد و العدل مركوزة في العقول أرسل سبحانه الأنبياء أو بعضهم ليؤكدوا ذلك المركوز في العقول و هذه هي الفطرة المشار إليها بقوله ع كل مولود يولد على الفطرة . و منها أن يقال إلى ما ذا يشير بقوله أو حجة لازمة هل هو إشارة إلى ما يقوله الإمامية من أنه لا بد في كل زمان من وجود إمام معصوم . الجواب أنهم يفسرون هذه اللفظة بذلك و يمكن أن يكون المراد بها حجة العقل . و أما القطب الراوندي فقال في قوله ع و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء الولد يقال على الواحد و الجمع لأنه مصدر في الأصل و ليس بصحيح لأن الماضي فعل بالفتح و المفتوح لا يأتي مصدره بالفتح و لكن فعلا مصدر فعل بالكسر كقولك ولهت عليه ولها و وحمت المرأة وحما . ثم قال إن الله تعالى بعث يونس قبل نوح و هذا خلاف إجماع المفسرين و أصحاب السير . ثم قال و كل واحد من الرسل و الأئمة كان يقوم بالأمر و لا يردعه عن ذلك قلة عدد أوليائه و لا كثرة عدد أعدائه فيقال له هذا خلاف قولك في الأئمة المعصومين فإنك تجيز عليهم التقية و ترك القيام بالأمر إذا كثرت أعداؤهم . و قال في تفسير قوله ع من سابق سمي له من بعده أو غابر عرفه [ 116 ] من قبله كان من ألطاف الأنبياء المتقدمين و أوصيائهم أن يعرفوا الأنبياء المتأخرين و أوصياءهم فعرفهم الله تعالى ذلك و كان من اللطف بالمتأخرين و أوصيائهم أن يعرفوا أحوال المتقدمين من الأنبياء و الأوصياء فعرفهم الله تعالى ذلك أيضا فتم اللطف لجميعهم . و لقائل أن يقول لو كان ع قال أو غابر عرف من قبله لكان هذا التفسير مطابقا و لكنه ع لم يقل ذلك و إنما قال عرفه من قبله و ليس هذا التفسير مطابقا لقوله عرفه و الصحيح أن المراد به من نبي سابق عرف من يأتي بعده من الأنبياء أي عرفه الله تعالى ذلك أو نبي غابر نص عليه من قبله و بشر به كبشارة الأنبياء بمحمد ع : عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ [ ذَهَبَتِ ] اَلْقُرُونُ وَ مَضَتِ اَلدُّهُورُ وَ سَلَفَتِ اَلآْبَاءُ وَ خَلَفَتِ اَلْأَبْنَاءُ إِلَى أَنْ بَعَثَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً ص رَسُولَ اَللَّهِ ص لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَ إِتْمَامِ نُبُوَّتِهِ مَأْخُوذاً عَلَى اَلنَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ كَرِيماً مِيلاَدُهُ وَ أَهْلُ اَلْأَرْضِ [ اَلْأَرَضِينَ ] يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وَ طَرَائِقُ [ طَوَائِفُ ] مُتَشَتِّتَةٌ بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِي اِسْمِهِ أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ اَلضَّلاَلَةِ وَ أَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ اَلْجَهَالَةِ ثُمَّ اِخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ ص لِقَاءَهُ وَ رَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَ أَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ اَلدُّنْيَا وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ [ مُقَارَنَةِ مَقَارِّ ] اَلْبَلْوَى فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً ص وَ خَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ اَلْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلاً بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ [ 117 ] وَ لاَ عَلَمٍ قَائِمٍ كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّناً حَلاَلَهُ وَ حَرَامَهُ وَ فَرَائِضَهُ وَ فَضَائِلَهُ وَ نَاسِخَهُ وَ مَنْسُوخَهُ وَ رُخَصَهُ وَ عَزَائِمَهُ وَ خَاصَّهُ وَ عَامَّهُ وَ عِبَرَهُ وَ أَمْثَالَهُ وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ وَ مُحْكَمَهُ وَ مُتَشَابِهَهُ [ مُتَسَابِقَهُ ] مُفَسِّراً جُمَلَهُ مُجْمَلَهُ [ جُمَلَهُ ] وَ مُبَيِّناً غَوَامِضَهُ بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ وَ مُوَسَّعٍ عَلَى اَلْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ فِي اَلْكِتَابِ فَرْضُهُ وَ مَعْلُومٍ فِي اَلسُّنَّةِ نَسْخُهُ وَ وَاجِبٍ فِي اَلسُّنَّةِ أَخْذُهُ وَ مُرَخَّصٍ فِي اَلْكِتَابِ تَرْكُهُ وَ بَيْنَ وَاجِبٍ لِوَقْتِهِ بِوَقْتِهِ وَ زَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ وَ مُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ وَ مُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاهُ قوله ع نسلت القرون ولدت و الهاء في قوله لإنجاز عدته راجعة إلى البارئ سبحانه و الهاء في قوله و إتمام نبوته راجعة إلى محمد ص و قوله مأخوذ على النبيين ميثاقه قيل لم يكن نبي قط إلا و بشر بمبعث محمد ص و أخذ عليه تعظيمه و إن كان بعد لم يوجد . فأما قوله و أهل الأرض يومئذ ملل متفرقة فإن العلماء يذكرون أن النبي ص بعث و الناس أصناف شتى في أديانهم يهود و نصارى و مجوس و صائبون و عبده أصنام و فلاسفة و زنادقة . القول في أديان العرب في الجاهلية فأما الأمة التي بعث محمد ص فيها فهم العرب و كانوا أصنافا شتى [ 118 ] فمنهم معطلة و منهم غير معطلة فأما المعطلة منهم فبعضهم أنكر الخالق و البعث و الإعادة و قالوا ما قال القرآن العزيز عنهم ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ اَلدَّهْرُ فجعلوا الجامع لهم الطبع و المهلك لهم الدهر و بعضهم اعترف بالخالق سبحانه و أنكر البعث و هم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله قالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ و منهم من أقر بالخالق و نوع من الإعادة و أنكروا الرسل و عبدوا الأصنام و زعموا أنها شفعاء عند الله في الآخرة و حجوا لها و نحروا لها الهدي و قربوا لها القربان و حللوا و حرموا و هم جمهور العرب و هم الذين قال الله تعالى عنهم وَ قالُوا ما لِهذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْواقِ . فممن نطق شعره بإنكار البعث بعضهم يرثي قتلى بدر فما ذا بالقليب قليب بدر من الفتيان و القوم الكرام و ما ذا بالقليب قليب بدر من الشيزى تكلل بالسنام أ يخبرنا ابن كبشة أن سنحيا و كيف حياة أصداء وهام إذا ما الرأس زال بمنكبيه فقد شبع الأنيس من الطعام أ يقتلني إذا ما كنت حيا و يحييني إذ رمت عظامي [ 119 ] و كان من العرب من يعتقد التناسخ و تنقل الأرواح في الأجساد و من هؤلاء أرباب الهامة التي قال ع عنهم لا عدوى و لا هامة و لا صفر و قال ذو الإصبع يا عمرو إلا تدع شتمي و منقصتي أضربك حيث تقول الهامة اسقوني و قالوا إن ليلى الأخيلية لما سلمت على قبر توبة بن الحمير خرج إليها هامة من القبر صائحة أفزعت ناقتها فوقصت بها فماتت و كان ذلك تصديق قوله و لو أن ليلى الأخيلية سلمت علي و دوني جندل و صفائح لسلمت تسليم البشاشة أو زقا إليها صدى من جانب القبر صائح و كان توبة و ليلى في أيام بني أمية . و كانوا في عبادة الأصنام مختلفين فمنهم من يجعلها مشاركة للبارئ تعالى و يطلق عليها لفظة الشريك و من ذلك قولهم في التلبية لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك و منهم من لا يطلق عليها لفظ الشريك و يجعلها وسائل و ذرائع إلى الخالق سبحانه و هم الذين قالوا ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اَللَّهِ زُلْفى‏ . و كان في العرب مشبهة و مجسمة منهم أمية بن أبي الصلت و هو القائل من فوق عرش جالس قد حط رجليه إلى كرسيه المنصوب و كان جمهورهم عبدة الأصنام فكان ود لكلب بدومة الجندل و سواع لهذيل [ 120 ] و نسر لحمير و يغوث لهمدان و اللات لثقيف بالطائف و العزى لكنانة و قريش و بعض بني سليم و مناة لغسان و الأوس و الخزرج و كان هبل لقريش خاصة على ظهر الكعبة و أساف و نائلة على الصفا و المروة و كان في العرب من يميل إلى اليهودية منهم جماعة من التبابعة و ملوك اليمن و منهم نصارى كبني تغلب و العباديين رهط عدي بن زيد و نصارى نجران و منهم من كان يميل إلى الصابئة و يقول بالنجوم و الأنواء . فأما الذين ليسوا بمعطلة من العرب فالقليل منهم و هم المتألهون أصحاب الورع و التحرج عن القبائح كعبد الله و عبد المطلب و ابنه أبي طالب و زيد بن عمرو بن نفيل و قس بن ساعدة الإيادي و عامر بن الظرب العدواني و جماعة غير هؤلاء . و غرضنا من هذا الفصل بيان قوله ع بين مشبه لله بخلقه أو ملحد في اسمه إلى غير ذلك و قد ظهر بما شرحناه . ثم ذكر ع أن محمدا ص خلف في الأمة بعده كتاب الله تعالى طريقا واضحا و علما قائما و العلم المنار يهتدى به . ثم قسم ما بينه ع في الكتاب أقساما فمنها حلاله و حرامه فالحلال كالنكاح و الحرام كالزنا . و منها فضائله و فرائضه فالفضائل النوافل أي هي فضلة غير واجبة كركعتي الصبح و غيرهما و الفرائض كفريضة الصبح . و قال الراوندي الفضائل هاهنا جمع فضيلة و هي الدرجة الرفيعة و ليس بصحيح أ لا تراه كيف جعل الفرائض في مقابلتها و قسيما لها فدل ذلك على أنه أراد النوافل . [ 121 ] و منها ناسخه و منسوخه فالناسخ كقوله فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ و المنسوخ كقوله لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ . و منها رخصه و عزائمه فالرخص كقوله تعالى فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ و العزائم كقوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَللَّهُ . و منها خاصه و عامه فالخاص كقوله تعالى وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ و العام كالألفاظ الدالة على الأحكام العامة لسائر المكلفين كقوله وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ و يمكن أن يراد بالخاص العمومات التي يراد بها الخصوص كقوله وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ و بالعام ما ليس مخصوصا بل هو على عمومه كقوله تعالى وَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ . و منها عبره و أمثاله فالعبر كقصة أصحاب الفيل و كالآيات التي تتضمن النكال و العذاب النازل بأمم الأنبياء من قبل و الأمثال كقوله كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ ناراً . و منها مرسله و محدوده و هو عبارة عن المطلق و المقيد و سمي المقيد محدودا و هي لفظة فصيحة جدا كقوله تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ و قال في موضع آخر وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ و منها محكمه و متشابهه فمحكمه كقوله تعالى قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ و المتشابه كقوله إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ . ثم قسم ع الكتاب قسمة ثانية فقال إن منه ما لا يسع أحدا جهله [ 122 ] و منه ما يسع الناس جهله مثال الأول قوله اَللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ و مثال الثاني كهيعص حم عسق . ثم قال و منه ما حكمه مذكور في الكتاب منسوخ بالسنة و ما حكمه مذكور في السنة منسوخ بالكتاب مثال الأول قوله تعالى فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ اَلْمَوْتُ نسخ بما سنه ع من رجم الزاني المحصن و مثال الثاني صوم يوم عاشوراء كان واجبا بالسنة ثم نسخه صوم شهر رمضان الواجب بنص الكتاب . ثم قال و بين واجب بوقته و زائل في مستقبله يريد الواجبات الموقتة كصلاة الجمعة فإنها تجب في وقت مخصوص و يسقط وجوبها في مستقبل ذلك الوقت . ثم قال ع و مباين بين محارمه الواجب أن يكون و مباين بالرفع لا بالجر فإنه ليس معطوفا على ما قبله أ لا ترى أن جميع ما قبله يستدعي الشي‏ء و ضده أو الشي‏ء و نقيضه و قوله و مباين بين محارمه لا نقيض و لا ضد له لأنه ليس القرآن العزيز على قسمين أحدهما مباين بين محارمه و الآخر غير مباين فإن ذلك لا يجوز فوجب رفع مباين و أن يكون خبر مبتدأ محذوف ثم فسر ما معنى المباينة بين محارمه فقال إن محارمه تنقسم إلى كبيرة و صغيرة فالكبيرة أوعد سبحانه عليها بالعقاب و الصغيرة مغفورة و هذا نص مذهب المعتزلة في الوعيد . ثم عدل ع عن تقسيم المحارم المتباينة و رجع إلى تقسيم الكتاب فقال و بين مقبول في أدناه و موسع في أقصاه كقوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ . فإن القليل من القرآن مقبول و الكثير منه موسع مرخص في تركه [ 123 ] وَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ اَلْحَرَامِ اَلَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنَامِ يَرِدُونَهُ وُرُودَ اَلْأَنْعَامِ وَ يَوْلَهُونَ يَأْلَهُونَ إِلَيْهِ وَلَهَ وُلُوهَ اَلْحَمَامِ وَ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلاَمَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ وَ إِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ وَ اِخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ وَ صَدَّقُوا كَلِمَتَهُ وَ وَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ وَ تَشَبَّهُوا بِمَلاَئِكَتِهِ اَلْمُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ يُحْرِزُونَ اَلْأَرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ وَ يَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لِلْإِسْلاَمِ عَلَماً وَ لِلْعَائِذِينَ حَرَماً وَ فَرَضَ حَقَّهُ وَ أَوْجَبَ حَجَّهُ وَ كَتَبَ عَلَيْهِ عَلَيْكُمْ وِفَادَتَهُ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لِلَّهِ عَلَى اَلنَّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ الوله شدة الوجد حتى يكاد العقل يذهب وله الرجل يوله ولها و من روى يألهون إليه ولوه الحمام فسره بشي‏ء آخر و هو يعكفون عليه عكوف الحمام و أصل أله عبد و منه الإله أي المعبود و لما كان العكوف على الشي‏ء كالعبادة له لملازمته و الانقطاع إليه قيل أله فلان إلى كذا أي عكف عليه كأنه يعبده و لا يجوز أن يقال يألهون إليه في هذا الموضع بمعنى يولهون و أن أصل الهمزة الواو كما فسره الراوندي لأن فعولا لا يجوز أن يكون مصدرا من فعلت بالكسر و لو كان يألهون هو يولهون كان أصله أله بالكسر فلم يجز أن يقول ولوه الحمام و أما على ما فسرناه نحن فلا يمتنع أن يكون الولوه مصدرا لأن أله مفتوح فصار كقولك دخل دخولا و باقي الفصل غني عن التفسير [ 124 ] فصل في فضل البيت و الكعبة جاء في الخبر الصحيح أن في السماء بيتا يطوف به الملائكة طواف البشر بهذا البيت اسمه الضراح و أن هذا البيت تحته على خط مستقيم و أنه المراد بقوله تعالى وَ اَلْبَيْتِ اَلْمَعْمُورِ أقسم سبحانه به لشرفه و منزلته عنده و في الحديث أن آدم لما قضى مناسكه و طاف بالبيت لقيته الملائكة فقالت يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام قال مجاهد إن الحاج إذا قدموا مكة استقبلتهم الملائكة فسلموا على ركبان الإبل و صافحوا ركبان الحمير و اعتنقوا المشاة اعتناقا . من سنة السلف أن يستقبلوا الحاج و يقبلوا بين أعينهم و يسألوهم الدعاء لهم و يبادروا ذلك قبل أن يتدنسوا بالذنوب و الآثام . و في الحديث أن الله تعالى قد وعد هذا البيت أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف فإن نقصوا أتمهم الله بالملائكة و أن الكعبة تحشر كالعروس المزفوفة و كل من حجها متعلق بأستارها يسعون حولها حتى تدخل الجنة فيدخلون معها و في الحديث أن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الوقوف بعرفة و فيه أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة فظن أن الله لا يغفر له . عمر بن ذر الهمداني لما قضى مناسكه أسند ظهره إلى الكعبة و قال مودعا للبيت ما زلنا نحل إليك عروة و نشد إليك أخرى و نصعد لك أكمة و نهبط أخرى و تخفضنا أرض و ترفعنا أخرى حتى أتيناك فليت شعري بم يكون منصرفنا أ بذنب مغفور فأعظم بها من نعمة أم بعمل مردود فأعظم بها من مصيبة فيا من له خرجنا و إليه [ 125 ] قصدنا و بحرمه أنخنا ارحم يا معطي الوفد بفنائك فقد أتيناك بها معراة جلودها ذابلة أسنمتها نقبة أخفافها و إن أعظم الرزية أن نرجع و قد اكتنفتنا الخيبة اللهم و إن للزائرين حقا فاجعل حقنا عليك غفران ذنوبنا فإنك جواد كريم ماجد لا ينقصك نائل و لا يبخلك سائل . ابن جريج ما ظننت أن الله ينفع أحدا بشعر عمر بن أبي ربيعة حتى كنت باليمن فسمعت منشدا ينشد قوله بالله قولا له في غير معتبة ما ذا أردت بطول المكث في اليمن إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها فما أخذت بترك الحج من ثمن فحركني ذلك على ترك اليمن و الخروج إلى مكة فخرجت فحججت . سمع أبو حازم امرأة حاجة ترفث في كلامها فقال يا أمة الله أ لست حاجة أ لا تتقين الله فسفرت عن وجه صبيح ثم قالت له أنا من اللواتي قال فيهن العرجي أماطت كساء الخز عن حر وجهها و ردت على الخدين بردا مهلهلا من اللاء لم يحججن يبغين حسبة و لكن ليقتلن البري‏ء المغفلا فقال أبو حازم فأنا أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال رحم الله أبا حازم لو كان من عباد العراق لقال لها اعزبي يا عدوة الله و لكنه ظرف نساك الحجاز [ 126 ] فصل في الكلام على السجع و اعلم أن قوما من أرباب علم البيان عابوا السجع و أدخلوا خطب أمير المؤمنين ع في جملة ما عابوه لأنه يقصد فيها السجع و قالوا إن الخطب الخالية من السجع و القرائن و الفواصل هي خطب العرب و هي المستحسنة الخالية من التكلف كخطبة النبي ص في حجة الوداع و هي الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نتوب إليه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له و من يضلل الله فلا هادي له و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أوصيكم عباد الله بتقوى الله و أحثكم على العمل بطاعته و أستفتح الله بالذي هو خير أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا أيها الناس إن دماءكم و أموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا أ هل بلغت اللهم اشهد من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها و إن ربا الجاهلية موضوع و أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب و إن دماء الجاهلية موضوعة و أول دم أبدأ به دم آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب و إن مآثر الجاهلية موضوعة غير [ 127 ] السدانة و السقاية و العمد قود و شبه العمد ما قتل بالعصا و الحجر فيه مائة بعير فمن ازداد فهو من الجاهلية أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه و لكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك فيما تحتقرون من أعمالكم أيها الناس إنما النسي‏ء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه عاما و إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض و إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات و الأرض منها أربعة حرم ثلاثة متواليات و واحد فرد ذو القعدة و ذو الحجة و محرم و رجب الذي بين جمادى و شعبان ألا هل بلغت أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقا و لكم عليهن حقا فعليهن ألا يوطئن فرشكم غيركم و لا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه إلا بإذنكم و لا يأتين بفاحشة فإن فعلن فقد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع و تضربوهن فإن انتهين و أطعنكم فعليكم كسوتهن و رزقهن بالمعروف فإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا أخذتموهن بأمانة الله و استحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء و استوصوا بهن خيرا [ 128 ] أيها الناس إنما المؤمنون إخوة و لا يحل لامرئ مال أخيه إلا على طيب نفس ألا هل بلغت اللهم اشهد ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا كتاب الله ربكم ألا هل بلغت اللهم اشهد أيها الناس إن ربكم واحد و إن أباكم واحد كلكم لآدم و آدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم و ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ألا فليبلغ الشاهد الغائب أيها الناس إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث و لا تجوز وصية في أكثر من الثلث و الولد للفراش و للعاهر الحجر من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فهو ملعون لا يقبل الله منه صرفا و لا عدلا و السلام عليكم و رحمة الله عليكم . و اعلم أن السجع لو كان عيبا لكان كلام الله سبحانه معيبا لأنه مسجوع كله ذو فواصل و قرائن و يكفي هذا القدر وحده مبطلا لمذهب هؤلاء فأما خطبة رسول الله ص هذه فإنها و إن لم تكن ذات سجع فإن أكثر خطبه مسجوع كقوله إن مع العز ذلا و إن مع الحياة موتا و إن مع الدنيا آخرة و إن لكل شي‏ء حسابا و لكل حسنة ثوابا و لكل سيئة عقابا و إن على كل شي‏ء رقيبا و إنه لا بد لك من قرين يدفن معك هو حي و أنت ميت فإن كان كريما أكرمك و إن كان لئيما أسلمك ثم لا يحشر إلا معك و لا تبعث إلا معه و لا تسأل إلا عنه فلا تجعله إلا صالحا فإنه إن صلح أنست به و إن فسد لم تستوحش إلا منه و هو عملك . فأكثر هذا الكلام مسجوع كما تراه و كذلك خطبه الطوال كلها و أما كلامه [ 129 ] القصير فإنه غير مسجوع لأنه لا يحتمل السجع و كذلك القصير من كلام أمير المؤمنين ع . فأما قولهم إن السجع يدل على التكلف فإن المذموم هو التكلف الذي تظهر سماجته و ثقله للسامعين فأما التكلف المستحسن فأي عيب فيه أ لا ترى أن الشعر نفسه لا بد فيه من تكلف إقامة الوزن و ليس لطاعن أن يطعن فيه بذلك . و احتج عائبو السجع بقوله ع لبعضهم منكرا عليه أ سجعا كسجع الكهان و لو لا أن السجع منكر لما أنكر ع سجع الكهان و أمثاله فيقال لهم إنما أنكر ع السجع الذي يسجع الكهان أمثاله لا السجع على الإطلاق و صورة الواقعة أنه ع أمر في الجنين بغرة فقال قائل أ أدي من لا شرب و لا أكل و لا نطق و لا استهل و مثل هذا يطل فأنكر ع ذلك لأن الكهان كانوا يحكمون في الجاهلية بألفاظ مسجوعة كقولهم حبة بر في إحليل مهر و قولهم عبد المسيح على جمل مشيح لرؤيا الموبذان و ارتجاس الإيوان و نحو ذلك من كلامهم و كان ع قد أبطل الكهانة و التنجيم و السحر و نهى عنها فلما سمع كلام ذلك القائل أعاد الإنكار و مراده به تأكيد تحريم العمل على أقوال الكهنة و لو كان ع قد أنكر السجع لما قاله و قد بينا أن كثيرا من كلامه مسجوع و ذكرنا خطبته . و من كلامه ع المسجوع خبر ابن مسعود رحمه الله تعالى قال قال رسول الله ص استحيوا من الله حق الحياء فقلنا إنا لنستحيي يا رسول الله من الله تعالى فقال ليس ذلك ما أمرتكم به و إنما الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس [ 130 ] و ما وعى و البطن و ما حوى و تذكر الموت و البلى و من أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا . و من ذلك كلامه المشهور لما قدم المدينة ع أول قدومه إليها أيها الناس أفشوا السلام و أطعموا الطعام و صلوا الأرحام و صلوا بالليل و الناس نيام تدخلوا الجنة بسلام و عوذ الحسن ع فقال أعيذك من الهامة و السامة و كل عين لامة و إنما أراد ملمة فقال لامة لأجل السجع . و كذلك قوله ارجعن مأزورات غير مأجورات و إنما هو موزورات بالواو